وهز رأسه في سخط، ثم سألني: علام نويت؟!
فنظرت إليه في حيرة، ولم أحر جوابا، فعاد يسألني: ألا تفضل مهنة بعينها؟
واشتدت حيرتي لأن نفسي لم تنزع بي إلى مهنة غير الحربية؛ وذلك بتأثير جدي نفسه وإيمانه، فلم أدر بماذا أجيب، وقلت: كنت أمني نفسي بدخول الحربية، أما الآن فالمهن كلها بالنسبة إلي سواء. - إني أختار لك الحقوق فهي خير ما بقي لنا؟ ولا أوصيك بالاجتهاد لأنه من العار أن يخفق الإنسان في الجامعة، وربنا يعيننا على مصروفاتها!
أسفت على ضياع المدرسة الحربية من يدي، ولكني لم أدرك فداحة خسارتي إلا حين أيقنت أنني سأواصل الدراسة أربعة أعوام أخرى على الأقل، أو ثمانية أعوام إذا سرت بالمعدل الذي لازمني في المدرستين الابتدائية والثانوية. وكنت بطبعي أكره الدراسة والمدرسة فنظرت إلى المستقبل بامتعاض غير قليل. ولم أكن أدري عن الجامعة شيئا، ولكن رجحت ألا تكون بغيضة كالمدرسة، وقلت لنفسي: إن طلابها في سن الرجال فلا يمكن أن يمثلوا بي كإخوان لهم من قبل خلفوا في نفسي آثارا لا تزول. كذلك استبعدت أن يكون العقاب مما يجوز أن يعامل به رجال أو من هم في حكم الرجال. ودأبت على تحبيب الدراسة المنتظرة إلى نفسي، ولم آل عن تهوين خطبها؛ حتى أستطيع أن أزدردها في صبر وأناة. وفي صيف ذلك العام قيدت طالبا بكلية الحقوق.
16
وفي صباح السبت من منتصف أكتوبر غادرت البيت مزودا بالدعاء قاصدا الجامعة المصرية. ووقفت على طوار المحطة أنتظر الترام، وهو نفس الترام الذي كان يحملني إلى المدرسة السعيدية، ولم أخل ذلك الصباح - على امتعاضي - من شعور بالزهو. وإني لفي انتظاري إذ طرق مسمعي صفقة مصراع نافذة فتحت بعنف فلطمت الجدار، فارتفع بصري إلى الدور الثاني من عمارة برتقالية اللون تقع أمام المحطة مباشرة، حيث كانت توجد لافتة عيادة طبيب حتى قبل شهر تقريبا، فوقع بصري على فتاة في الشرفة واقفة تحتسي شايا. أدركت لتوي أن أسرة سكنت الشقة بعد أن أخلاها الطبيب، وثبتت عيناي على الفتاة، وجعلت أتابعها وهي ترفع القدح إلى شفتيها فترشف رشفة، ثم تنفخ السائل الساخن بفم مزموم، وتبدأ وتعيد لاهية بلذة الشراب. وبدا لي منها قامة طويلة وقد نحيف رشيق وبشرة قمحية، في سترة وتايير رمادي، وكأنها وشيكة الذهاب إلى المدرسة في احتشام الطالبات. وكانت توليني جانب وجهها، فلما اعتدل رأسها رأيت وجها مستديرا، توحي هيئته بتنسيق جميل وإن لم أستطع تبين معالمه من موقفي، تعلوه هالة من شعر كستنائي، فبعثت في نفسي أثرا بهيجا. ولم تبق هدفا لناظري إلا قليلا، ثم دارت على عقبيها ومرقت إلى الداخل. واحتفظت بصورتها في حب استطلاع ريثما جاء الترام، ثم ركبت متخففا بالأثر البهيج الذي بعثته في من كآبة اليوم الذي تبدأ فيه الدراسة. على أني وجدت في الكلية مزايا خليقة بأن تذهب مخاوفي وإن لم تقلل من أسباب نفوري العام من الدراسة. من ذلك أن وقت الدراسة مقصور على أربع ساعات في اليوم تنتهي عادة في الساعة الواحدة، ومنه تمتع الطلبة بحرية الحضور أو الغياب بلا رقيب، ومنه وهو الأهم انعدام فكرة العقاب، بل لمست في روح الطلبة أن ما يتهدد أساتذتهم أخطر مما يتهددهم هم. سررت بذلك كله ومنيت نفسي بأن تنتهي هذه الدراسة على مرها كما انتهت الدراسات السابقة، ولم يكن جديدا علي أن أتجرع دراسة على كره ونفور حتى الثمالة. وعندما عدت ذلك اليوم إلى المنيل شعرت بسرور مفاجئ هيأ لي أني رجل خطير، ونصف أستاذ وربع وكيل نيابة! •••
وفي صباح اليوم التالي ذكرت الشرفة وأنا أشارف المحطة، فرفعت عيني مدفوعا بتطلع هادئ طبيعي ولكني وجدتها خالية، وتسلل بصري إلى الداخل فرأيت مرآة في الجدار المواجه، وإلى اليسار عمود سرير فضيا لامعا ومصباحا كهربائيا يتدلى من السقف ذا قبعة زرقاء كبيرة، ثم بدا في وسط الحجرة رجل في الخمسين ذو نظارة ذهبية يزرر حمالة بنطلونه، فخفضت بصري ورحت أقطع الطوار جيئة وذهوبا. ولاحت مني التفاتة إلى المحطة المقابلة للترام الذاهب إلى العتبة، فرأيت الفتاة واقفة - وقد عرفتها بقامتها وزيها - وبيدها كتاب. كانت في وقار بدا حلوا بالقياس إلى عمرها الذي لا يجاوز العشرين، ولم يكن بصرها يعلق بأحد ممن يحتشد حولها أو يمر بها، فأثر تحفظها في نفسي أثرا جميلا ملأني احتراما وإعجابا، ثم شعرت نحوها بانجذاب وحنان. ولم يكن تأثير المرأة في بالأمر الجديد على نفسي، فإني أرى الحسان في الطريق أو في الترام، وأتبعهن عادة نظرة رجل عابر أمضه الحرمان والوحدة والرغبة، وأرجع منهن بالنشوة البديعة والهزة الموجعة. أما هذه الفتاة فلها شأن آخر، فلن يكون موقفي منها موقف العابر، ولكن موقف المقيم ومن هو في حكم الجار، فإني أراها اليوم، وأراها غدا، وإلى ما شاء الله، فضاعف ذاك من اهتمامي بها وحرك في قلبي آمالا وهمية، ومناني بسرور متجدد، فكأنه نوع من التعارف ولون من الأمل الغامض، وملهاة سرور سلبي لا يطمع في أكثر منه شخص خجول هياب مثلي. ثم ذهبت إلى الكلية طيب الشعور، متسائلا: هل يمكن يا ترى أن تنتبه إلي؟! .. وقد ذكرتها في أعماق الليل، في وحدتي النفسية، وهذيان الأحلام الجنسية يعبث بخيالي، فوجدت من نفسي اعتراضا وتمردا وإباء شديدا، فأبعدتها عن أتون عادتي الذميمة، قانعا هنا بالحيوانات القذرة التي تلهب أحط الإحساسات من جسدي. •••
وفي صباح اليوم الثالث انطلقت إلى المحطة وكأني من التطلع على موعد، وأرسلت ناظري إلى المحطة المقابلة، فرأيتها بموقف الأمس بقامتها الفارعة ووجهها البدري ووقارها الجذاب. وسرى في جوانحي الارتياح. ثم حدثتني نفسي بأن أجد سبيلا إلى الاقتراب منها وهي لا تدري بي لأروي ظمأي إلى معرفة وجهها عن كثب، وحثني الإشفاق من مجيء الترام الذي تنتظره إلى تنفيذ ما تطمح إليه نفسي دون تردد، فاتجهت صوب المحطة الأخرى بقدمين قلقتين وقلب يغوص في صدري فرقا، ومررت بها مسترقا النظر، فرأيت في عجلة المذعور عينين عسليتين صافيتين تقطران ملاحة، وأنفا صغيرا دقيقا وشفتين رقيقتين، ولعلها أحست حرارة بصري فرفعت عينيها عرضا فالتقت عينانا، وسرعان ما استرددت بصري لأنه أيسر علي أن أحملق في قرص الشمس إبان اعتدالها من أن أحتمل وقع نظرة عين، ومضيت إلى طرف الطوار ولبثت حائرا لا أدري كيف أعود إلى المحطة الأخرى. وخيل إلي أني ارتكبت شططا جنونيا فأوقعت نفسي في ورطة عسيرة المخرج، هكذا كانت تتراءى لي أتفه الأمور. ولبثت متسمرا حتى استقلت الفتاة الترام وخلا الطوار من المنتظرين، فعدت إلى مكاني لاهثا، وجعلت أحدث نفسي: أجمل بها من ملاحة ورشاقة واحتشام! وعشت مع خيالها يومي فلم أكد أنتبه إلى ما يلقى علي من محاضرات. وعلى قدر ما نازعتني النفس إلى تملي عواطفي على قدر ما ازددت كرها للمحاضرة التي تعترض سبيل أخيلتي، ففاض بي شعور بالتمرد على تلك الحياة الدراسية التي تعذب عقلي وتتجاهل قلبي وشعوري، وكأني أنتبه إلى قلبي لأول مرة، فأحس به عضوا حيا مثل بقية الأعضاء، يجوع جوع المعدة، ويرق رقة النفس، ويتشوف تشوف الروح، فتمنيت أن أكرس حياتي لسعادته، وأن أستسلم لحنان المتعة التي تنفجر عنها ينابيعه.
تنهدت من الأعماق وأنا جالس في نهاية قاعة المحاضرات بجسم حاضر وعقل غائب. وحدثتني نفسي بأن وراء هذه الحياة الجافة الضيقة المكبلة بالأغلال حياة ناعمة واسعة حرة، فهفت نفسي إليها في جزع ولهفة. وعدت إلى الفتاة، ولم يقنع خيالي هذه المرة بالرؤية؛ فخلق ما شاء له هواه، فرأيتني ألفت نظرها إلي، واقتربت منها كما فعلت في الصباح، ولكني لم أرتبك كما ارتبكت فأومأت إليها في جسارة نادرة، ويغلبها ابتسام المودة فتبسم إلي، وأهمس لها بما أحب وتهمس لي كذلك ، ونركب الترام معا، وفي مكان ما على شاطئ النيل أقول لها: أحبك، فتقول لي بوجه مضرج بالدم: وأنا، فأهوي إلى خدها ألثمه في إعجاب واحترام وحب يسمو عن الشهوات، أجل لا يحب خيالي أن يصورها لي إلا في ردائها الطويل تحوط بها هالة الوقار والاحتشام. •••
وبكرت في الذهاب إلى المحطة في صباح اليوم الرابع فوجدت الشرفة خالية، ونقلت بصري إلى نافذة على يسار الشرفة، فرأيت الفتاة من جانب وجهها، وكانت تقف وقفة العناية والاهتمام التي يقفها الشخص حيال صورته على وجه المرآة، ومضت تسوي شعرها وتمنحه اللمسات الختامية التي تشبه لمسات التدليل والمداعبة، فانشرح صدري وتتبعت يدها بجوارحي حتى خلتني أجد مس الشعر الناعم وأشم عرفه الطيب. ثم رأيتها تتحول عن المرآة وتطل من وراء زجاج النافذة على الطريق، فقدرت من اتجاه وجهها أن عينيها على طوار المحطة، ونزعت بخجلي الفطري إلى خفض عيني، بيد أنني تشجعت ببعد المسافة بيني وبينها وثبت عيني بجهد قليل. ترى هل وقع بصرها علي؟ وهل ذكرت فتى الأمس الذي التقت عيناه بعينيها لحظة بديعة؟ كلا إنها لا تحس لي وجودا، ولن تحس بهذا الوجود. لبثت قليلا، ثم تراجعت إلى الداخل وغابت عن ناظري، وقطعت طوار المحطة ذهابا وجيئة، ثم عدت إلى موقفي، وجاء ترام إثر ترام ثان وأنا بمكاني كالمنتظر. وفي أثناء ذلك ظهرت في الشرفة فتاة في العاشرة في مريلة زرقاء أدركت لتوي أنها أختها. ثم رأيت فتاة تبرز من العمارة وتتجه صوب المحطة المقابلة. رأيتها تسير لأول مرة، فتحدث مشية هادئة متزنة توافق وقارها الجميل، وتناسب قدها الرشيق وقامتها الطويلة. وتحرك في أعماقي الإعجاب والاحترام. وأرسلت بناظري حتى جاء الترام وصعدت إليه. استوفيت جزاء الانتظار سرورا وارتياحا، وركبت الترام مزودا بأطيب أزاهر الأحلام، ولم يخف عني اهتمامي بها وسروري باحتشامها ووقارها، فلم أشك في أن التطلع لذاك البيت سيكون من الآن فصاعدا هوايتي، وقلت لنفسي: ما أحوجني إلى رفيقة لحياتي في مثل كمالها! وضاعف من حسرتي أنني عشت حياتي بلا رفيق. على أنني شعرت بقلق من جراء إفصاحي عن هذه الرغبة، كما شعرت بحياء شديد، ولم تكن تلك أول مرة أفصح بها عن الرغبة في الرفيق، ولكنه كان إفصاحا عابرا وتشوفا عاما ورغبة بلا هدف معين وشوقا غامضا، أما هذه فإفصاح خطير حرك حيائي وخوفي، وتشوف خاص، ورغبة يغرر بها أمل، وشوق يستمد الوقود كل صباح. وأعجب ما في شعوري أنه كان شعورا بيتيا إن صح هذا التعبير، فانصب من بادئ الأمر على الفتاة وبيتها، وما ذكرتها قط إلا وتحضرني صورة البيت، فامتزجت الصورتان في مخيلتي، ونالتا من اهتمامي وأحلامي نصيبا واحدا! وسرعان ما تمثلت فيها زوجتي! ولا عجب فإني امرؤ إذا وقعت عيناه على فتاة في الترام نشطت أحلامه الشاردة فتصور أنه خطبها وعقد عليها وزف إليها، والترام لا يزال في منتصف المسافة ما بين جسر الملك الصالح وجسر عباس! فكيف لا أتمثل فتاة الصباح زوجة؟! وملكني الإعجاب والاحترام، وقدسية الإحساس البيتي، وحنان العاطفة الزوجية، وانتظم هذه الأحاسيس خيط موصول من الميل الصادق، لعله الحب الذي لم يعرفه قلبي.
صفحة غير معروفة