ولشد ما كان يحزن جدي كلما سقطت في امتحان، ولم يعد يسخر مني في مزاح، ولعل طعنه في العمر رده شديد الإشفاق على مستقبلنا، فكان يقول لي: لماذا تخفق هكذا يا كامل؟ أكل عام بعامين؟ .. ألا ترى أني أتلهف على رؤيتك موظفا قبل أن أموت؟
وكان كلامه يقع من نفسي موقعا محزنا، ثم أقول له: ما ألوت أن ذاكرت حتى منتصف الليل.
وتبادر أمي إلى تأييدي في قولي، فيهز رأسه الأبيض ويتمتم: الأمر لله.
ولذلك كنت أتوقع موسم الامتحان بقلق وخوف تتخللهما الأحلام المزعجة، ولذلك أيضا كان يغريني الحياء والغرور بتصنع التعب والتوعك في الأشهر السابقة للامتحان لأعتل بهما على إخفاقي المتوقع. وكانت أمي من ناحيتها تزور أم هاشم وتنذر النذور، وتشد حول عنقي التعاويذ. ولا أنسى مرة - وكنت قريبا من امتحان الكفاءة - جاءتني بامرأة ممن يقرأن الغيب مستعيذة بقدرتها على إنجاحي، فحرقت المرأة بين يدي البخور، وركزت في المدفأة عصا قصيرة وأمرتني أن أقفز فوقها ثلاث مرات، وفعلت ما أمرت به، فقالت لي بيقين: «ستنجح بإذن الرحمن.» ولما سقطت في الامتحان قلت لأمي متعجبا: كيف أسقط وقد قفزت المرات الثلاث؟!
وعلى رغم هذا كله واصلت الدراسة، وطويت عهد الثانوي وحصلت على البكالوريا وقد ناهزت الخامسة والعشرين!
15
وداخلني على إخفاقي المتواصل شعور بالزهو والرجولة. إن كثيرين من موظفي الحكومة لا يحملون إلا البكالوريا، فأنا رجل ذو شأن! ولست أطمع من ورائها انخراطا في سلك الحكومة؛ ولكني أرجو أن أخرج بها من البيت .. أعني أن أتحرر بها من ربقته التي تشدني شدا يكاد يمزق ضلوعي. أجل لقد ملكني شعور جامح هفا بفؤادي إلى التجدد والانطلاق. لم أعد غلاما يقاد من أنفه، وها هي الحياة تستفزني للتمرد والثورة. ولكن أي تمرد وأية ثورة؟ على ماذا أو لماذا؟ لم أجد جوابا واضحا، والحق أني لم أكن أفكر، ولم يكن هياجي فكريا، ولكن ثورة شعورية تنبعث من أعماق نفسي، تروم الانطلاق والتغيير وتشوف إلى المجهول. لم أستبن هدفا على وجه التحديد، وعانيت حنينا مؤلما غامضا كلما تحرك بصدري شملني بكآبة ووحشة. وكنت كلما استبدت بي تلك الأحاسيس وقعت فريسة ليد الغضب الحمراء، فثار بي الغضب لأتفه الأسباب.
وفي تلك الأثناء كان جدي يهدف إلى الثمانين، وكانت أمي تقطع الخطوات الأولى بعد الخمسين.
انقلب جدي شيخا نحيلا؛ ولكنه حافظ على صحته ونجا من شر الأمراض، وتمتع بما وهبه الله من نشاط يحسد عليه، ولم تزايله روحه اللطيفة ودعابته الهادئة. أجل اضطر إلى تبديل نظام معيشته لأنه لم يعد يحتمل السهر الطويل المتواصل، فكان يذهب إلى مقهى «لونا بارك» صباحا ليجتمع بقلة من صحابه، ويمضي في النادي مساء ساعتين، ثم يعود إلى البيت في العاشرة، وكان يمشي مشيته العسكرية في قوة ووقار دون أن ينحني له جذع. أما أمي فقد سارع إليها الكبر بنسبة أكبر منه إذا عدت بالقياس إلى عمرها؛ جف عودها، واشتعل مفرق شعرها وسوالفها شيبا، إلا أنها تمتعت بصحة جيدة، كما حافظ وجهها على جماله وبهائه. وكانت ربما استسلمت في أحايين للإهمال فلا تعنى عنايتها المعهودة بهندامها. ولشد ما كان يتولاني الحزن والاستياء لذلك، حتى قلت لها مرة: «لاقيني بالهيئة التي تلقين بها الضيوف»، ولم تخيب لي رجائي ذاك، فكانت تبدو لي وهي على أحسن حال، وطابت نفسي ورضيت.
وظن جدي أن الفرصة تهيأت ليحقق الأمل الذي طالما حلم به، ألا وهو أن أصير ضابطا، ولكني كنت جاوزت السن المقررة للالتحاق بالمدرسة الحربية، وحسب أن الشفاعة تستطيع أن تذلل تلك الصعوبة التي بددت حلمي، فسعى إلى كثيرين من كبار الضباط، ولكنه أفهم أن القانون لا يتسامح في ذلك. وحزن جدي حزنا شديدا، وقال لي آسفا: لو دخلت الحربية لضمنت لك مستقبلا حسنا، ولاطمأن قلبي عليك وعلى أمك.
صفحة غير معروفة