فأجابها سانين: «كلا! بالبداهة. إني أعيش في هذه الدنيا وحدي.»
الفصل السادس والعشرون
في اليوم التالي ذهبت دونيكا تعدو إلى سانين ورأسها عار وكذلك قدماها، وكان في الحديقة، وصاحت به وفي عينيها آيات الفزع: «فلاديمير بتروفتش! قد جاء الضباط وهم يطلبون أن يحادثوك!» ورددت هذه الكلمات كأنما كانت درسا حفظته عن ظهر قلب.
فلم يعجب سانين إذ كان يتوقع ذلك من سارودين وسألها بلهجة المغتبط المازح: «هل يشتاقون جدا أن يقابلوني؟»
ولا بد أن تكون دونيكا توقعت شيئا مزعجا ذلك أنها لم تخف وجهها بل طفقت تحدق في وجه سانين وترنو إليه رنو العطف والذهول.
فأسند سانين فأسه إلى شجرة وشد حزامه ومضى إلى البيت في تؤدة على عادته، وكان يقول لنفسه: «ما أسخفهم وأشد غباءهم!» وهو يفكر في سارودين ورسوليه ولم يكن يقصد بهذا إلى الطعن فيهم بل إلى مجرد الإعراب عن رأيه الصريح المخلص في سلوكهم.
ولقي في طريقه ليدا خارجة من غرفتها فوقفت على العتبة ووجهها باهت ممتقع وعيناها قلقتان محزونتان وشفتاها تختلجان دون أن ينبثا، وكانت في هذه اللحظة تحس أنها أشقى النساء في العالم وأعظمهن جرما.
ورأى ماريا إيفانوفنا جالسة على كرسي ذي ذراعين أشد ما تكون فزعا ويأسا وعلى رأسها قبعتها مائلة إلى أحد خديها، فألقت إلى سانين نظرة فزعة وخانها الكلام فابتسم لها وهم بأن يقف معها هنيهة ولكنه آثر أن يمضي لشأنه.
وكان تاناروف وفون دايتز جالسين في غرفة الانتظار جلسة صلبة، ورأس كل منهما إلى زميله كأنما كانت تضايقهما ثيابهما المشدودة، فلما دخل سانين وقفا في بطء وتردد كأنهما في شك مما يجب عليهما نحوه. فقال سانين بصوت عال: «عما صباحا.» ومد إليهما كفه فتردد فون دايتز وانحنى تاناروف وبالغ في الانحناء حتى لاستطاع سانين أن يرى قفاه وعاد سانين فقال: «أي خدمة أستطيع أن أقدمها لكما؟» ولم تفته مبالغة تاناروف في التأديب وعجب له كيف وسعه أن يقوم بدوره السخيف بهذا الاطمئنان.
فاعتدل فون دايتز وأراد أن يكسب وجهه الممطوط كوجه الحصان هيئة الجد والوقار إلا أنه لم يفلح في هذا الذي عالجه لفرط اضطرابه. ومن الغريب أن تاناروف - وهو في العادة سخيف حيي - هو الذي خاطب سانين بلهجة حاسمة متزنة فقال: «إن صديقنا فيكتور سارودين قد أولانا شرفا بأن طلب إلينا أن نمثله في أمر معين بعينكما.» ألقى هذه الجملة بإحكام الآلة وضبطها.
صفحة غير معروفة