ومن عجيب ذلك ما رواه محمد بن يحيى الكسائي قال : دخلت على خلف بن هشام البزار(2) وقد خرج من عنده أحمد بن حنبل وزهير بن حرب أبو خيثمة ويحيى بن معين ، فقال لي : من رأيته خرج من عندي ؟ قلت : فلان وفلان وفلان ، فقال : إنه كان قدامي قنينة فيها نبيذ فلما رأتهم الجارية جاءت تشيلها(3) فقلت : لم هذا ؟ فقالت : يا مولاي جاء هؤلاء الصالحون فيرون هذا عندك ؟ فقلت : أضيفي إليها أخرى ، يرى الله عز وجل شيئا فأكتمه عن الناس ؟ وأردت أن أنظر إلى عقل هذا الفتى يعني أحمد بن حنبل فحول ظهره إليها ، وأقبل علي يسألني عما يريده ، فقلت له لما أراد الانصراف : أي شيء تقول في هذا يا أبا عبدالله؟فقال : ليس ذاك إلي ، ذاك إليك ، فقلت : كيف ؟ قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )(4)، والرجل راع في منزله ومسؤول عما فيه ، وليس للخارج أن يغير على الداخل شيئا ، فلما خرج سكبت خابيتين ، وعاهدت الله على أن لا أذوقه حتى أعرض على الله )(5) وفيها فوائد :
أولها : أسلوب الإنكار على أهل البيت ، وثانيها : غض الطرف وعدم إظهار اكتشاف المنكر ، وثالثها : أسلوب الإنكار فيما فيه خلاف ولو كان الخلاف ضعيفا .
فهذا النبيذ الذي كان يشربه خلف متأولا هو مما أباحه أهل الكوفة ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أن ( ما أسكر كثيره فقليله حرام )(1)، ولكنهم يتأولون ، ومع هذا كان أحمد عاقلا في تعامله مع خلف حتى إنه تأثرا بذلك تاب من شرب النبيذ .
وقال الدوري : إنهم ذكروا خلف البزار عند أحمد ، فقالوا : يا أبا عبدالله ، إنه يشرب ؟ قال : قد انتهى إلينا علم هذا عنه ، ولكن هو والله الثقة الأمين شرب أو لم يشرب )(2).
وهذا أيضا أدب ينقصنا بشدة ، فالذي نراه أننا ننتقص كثيرا من العلماء بسبب عملهم برأي ما ، مما فيه خلاف لا يصح في وجه النصوص ، ومثاله حلق اللحية أو تخفيفها ، فقد ربينا أنفسنا بطريقة عجيبة على تنقص من يحلق لحيته واطراحه ، ولو اتصف بصفات العلماء لكنه زل في إباحته حلقها ، ولا نأبه لرأيه ولا لقوله ، والذي نعرفه من أنفسنا الآن أنا رأينا بعض الذين يحلقون لحاهم من أهل العلم أو يخففونها جدا ، رأينا بعضهم في مستويات رفيعة من التقوى والعلم والفقه ، كما يوجد ممن يعفون لحاهم من هو في واد والعلم والتقوى والأمانة في واد ليس من الأول بقريب .
صفحة ١٥