[كتاب الصلاة للامام احمد]
رسالة الصلاة
للإمام المبجل : أحمد بن حنبل
قدم لها ووضع حواشيها الفقير إلى عفو مولاه :
أحمد بن صالح الزهراني
مقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنه واهتدى بهديه ، أما بعد :
فقد كان من عادة الأئمة السائرة ، توجيه النصح للناس ، ودعوتهم إلى الخير بكل وسيلة ممكنة ، بالدروس العلمية وبالمواعظ والخطب ، وكذلك بالرسائل العامة والخاصة ، التي يبينون فيها الأحكام الشرعية ، والأصول العلمية مبنية على أدلتها من الكتاب والسنة .
ورسالة الصلاة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى من تلك الرسائل العامة التي وجهها رحمه الله نصحا للناس في أهم شعيرة من شعائر الدين وأعظم فريضة من فرائض الإسلام ، ألا وهي الصلاة .
وقفت عليها أثناء قراءتي في كتاب ( طبقات الحنابلة ) لابن أبي يعلى ، وقد لفت نظري كثرة مسائلها وعظاتها ونصائحها ، وتنويع الإمام لأسلوبه في عرض فكرته ، فتارة بالترغيب وتارة بالترهيب ، وتارة بذكر الأحكام الفقهية .
ولما انتهيت من قراءتها ووجدت الإمام يدعو بالرحمة لمن بثها ونشرها في المسلمين ، عزمت على العناية بها قدر الإمكان بتعليق بعض الحواشي وعزو ما استطيع من الأحاديث والآثار ، وبيان بعض المسائل التي تعرض لها الشيخ الإمام في رسالته ، سائلا ربي تعالى أن يقبل في دعوته وأن يتقبل مني ما احتسبته من خدمة هذه الرسالة وهو جهد المقل ، ما كان فيها من صواب فهو من الله وحده رحمة وهداية وتوفيقا ، وإلا فهو كيد الشيطان وضعف نفسي ، واستغفر الله في الأولى والأخرى ..
...............وكتب
............أحمد بن صالح الزهراني
............ 1 / 5 / 1420ه
ص . ب : 106963 جدة 21341
صفحة ١
[ تعريف بمؤلف الرسالة ] لا أحب أن أزيد في تعريف الإمام أحمد أكثر من أنه الإمام أحمد ، ومن ذا الذي لا يعرف الإمام أحمد ؟! الرجل الذي اقترنت الإمامة باسمه ، فلا يكاد يذكر اسمه إلا مقرونا بها ، إمام أهل السنة والجماعة ، حتى أصبح ينسب إليه كل متسنن سلفي ، ولو كان شافعيا أو حنفيا أو مالكيا في الفروع ، وأصبح السلفيون يطلق عليهم لفترات طويلة : الحنابلة .
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، تعبت النساء أن يلدن مثله ، جمع الله له من الفضائل والشمائل ما يعجز الواصفون عن بلوغ قدره ، وليس بمعصوم ولكن { قد جعل الله لكل شيء قدرا } .
ولن أنبذ عن هذا الإمام بطريقة تقليدية ، فالمعلومات الأولية عنه معروفة للقاصي والداني ، وباختصار : فهو قد ولد سنة 164ه وملأ الدنيا علما ثم مات سنة 241 ه .
وكلما قرأت سيرة هذا الرجل أراني أتقاصر حتى إني أتلفت هل يراني من أحد ؟؟ وحق لي ذلك وأنا أرى ما بيننا وبينه أبعد ما بين المشرق والمغرب سواء في ذلك العلم والسلوك .
وإذا كان كل قارىء لسيرة رجل من الأعلام تستوقفه نقاط معينة في الترجمة ، فقد جالت برأسي خواطر أثناء قراءتي لترجمة ابن حنبل رحمه الله أحببت البوح بها لإخواني لعل في ذلك تربية لنفسي أولا ثم لمن يطلع على مقدمتي هذه .
- - - - -
إمامة ابن حنبل ؟
يحسب كثير منا أن الإمامة اكتساب ، وأنها فقط نتيجة الجد والعمل والمهارة العلمية وصفات النسك والتقوى .
ومع أن هذه الصفات لازمة لمن يكون إماما للناس إلا أنها لا تكفي لأن يكون الرجل إماما دون أن يجعله الله كذلك ، وحتى تتضح الصورة أعرض خمس آيات في كتاب الله تحدثت عن الإمامة في الدين :
1 . قوله تعالى: { إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة :124] .
صفحة ٢
استجاب الله تعالى لإبراهيم فجعله إماما للمؤمنين ومن ذريته أئمة للمؤمنين كذلك ، والإمامة بمعنى القدوة أي الذي يأتسي ويقتدي بأفعاله واقواله غيره ، فإن كان في الخير فهو إمام هدى وإن كان في الشر فهو إمام ضلالة .
وعليه فإن لفظ الإمامة أوسع من النبوة ، فكل نبي إمام وليس كل إمام نبي .
وفي الآية أن الإمامة اصطفاء فلا يكون إماما من لم يجعله الله كذلك ، وإنما يكون ذلك بالهداية لفعل الخير واكتساب العلم ونيل الرضا عليه ، فكم من عالم صالح ليس بإمام ،والله أعلم بخفايا القلوب غير أن الأئمة قليل .
وفي الآية إشارة إلى استجابة دعائه في ذريته لأنه استثنى الظالمين ، فإنهم لا ينالهم عهد الله ووعده لإبراهيم بأن يصطفي من ذريته أئمة .
2 . قال تعالى : { إن إبراهيم كان أمة } [النحل :120] .
الأمة : هو الجامع لخصال الخير ، وقد اختلفت عبارات السلف في تفسير هذه اللفظة ، وتجتمع أقوالهم في أن الأمة هو الإمام المقتدى به في الخير ، ولا يكون كذلك مالم يكن معلما لهم بالقول والفعل .
وفي وصف إبراهيم بالأمة معنى أشار إليه مجاهد بقوله : أمة على حدة، أي لوحده .
صفحة ٣
ففيه أن القدوة قد تتجزأ ، فقد يكون الرجل قدوة في العلم لا في العبادة ، أو العكس ، وقد يكون قدوة في الحرب دون العلم ، لكن ذلك لا يوصف بالإمامة المطلقة ، فلا يكون العبد أمة حتى يجمع خصال الخير فيكون شبيها بإبراهيم ، جامعا لخصال الخير معلما لها ، فيكون كأمة فيها من الرجال من يتصف بخصال من الخير لا تجتمع في واحد منهم لكنها بمجموعها موجودة في الأمة ، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يصف معاذا رضي الله عنه بأنه أمة ،وأنت إذا تمعنت في الموصوفين بالإمامة في تاريخنا الإسلامي تجدهم بهذه المثابة ، فقد جمعوا رحمهم الله البروز في عامة نواحي الخير وكانوا معلمين لها وطرح الله لهم القبول في الأرض فأصبحوا هم القدوات لعامة المنتسبين للإسلام كالخلفاء الأربعة والأئمة الأربعة وغيرهم ممن شابههم وسار على دربهم .
وبالجمع بين هاتين الآيتين تعرف جانبا مهما في الإمامة المطلقة ، وأنه من الخطأ إطلاق اسم الإمامة على من اشتهر قصورهم في نواحي مهمة في الاعتقاد أو السلوك أو غير ذلك .
3 . قال تعالى : { واجعلنا للمتقين إماما } [ الفرقان :74 ]
قال ابن جرير : ( معناه : واجعلنا للمتقين إماما يأتمون بنا في الخيرات) .
وقد استدل بها بعض المفسرين على استحباب طلب الرياسة في الدين ، وهذا منهم استدلال رائق ، غير أنهم لا يعنون أن يحارب الرجل ليفرض إمامته على الناس ، ويتسمى بها دون أن يسميه أحد بذلك ، كما لا يعنون أن يلجأ أتباع كل مدع أو عالم أو داعية إلى الغلو في صاحبهم وتفخيمه بوصفه بالإمامة المطلقة ، مع ما قد يتصف به من الخزايا التي لا تليق بمؤمن عادي فكيف بإمام؟.
صفحة ٤
بل هو دعاء ضمني بأن يتقبل الله منهم أعمالهم وأن يسددها ويصلحها وأن تكون صوابا على وفق ما يحبه ويرضاه فإنهم إذا كانوا كذلك كانوا جديرين بأن يمن الله تعالى عليهم فيضع لهم القبول في الأرض ويكونوا بذلك أئمة يقتدى بهم .
قال القرطبي : ( كان القشيري يقول : الإمامة بالدعاء لا بالدعوى ، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه ، وقال إبراهيم النخعي : لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين ، وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هدى ) .
4 . قال تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين . وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } [ الأنبياء :72 73] .
في الآية بيان لاستجابة الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام ، إذ جعل من ذريته المباشرة ائمة يهدون .
قال الزمخشري : ( فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله ، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها ، وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل ) .
وفيها أيضا :بيان سبب استحقاقهم للإمامة ، وهو أنه تعالى أوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأنهم امتثلوا هذه الأوامر فكانوا عبادا له فاستحقوا أن يكونوا أئمة يقتدى بهم في الخير ، فأساس الاصطفاء للإمامة هو التوفيق للهدى والصلاح ، وبما أن السبب يحتاج إلى إذن الله تعالى ورضاه فكذلك نتيجته .
وفيها توضيح أن الإمامة لا تكون إلا بركنيها : العلم والعمل ، فلا يكون الجاهل إماما قط كما لا يكون الفاسق إماما قط .
وفي الآية أنه أمرهم بذلك فقال : { يهدون بأمرنا } وقال : { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } .
صفحة ٥
5 . قال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل . وجعلنا منهم أئمة لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة :23 25 ] .
فيها أن الله تعالى أثابهم على صبرهم ويقينهم بأن جعل منهم أئمة : أي يقتدى بهم في الخير ، ففيه تنبيه على أن الإمامة لا تنال إلا بالعلم والعمل .
وأنها لا تكون إلا بالدعوة إلى الخير ، ولذلك قال : { يهدون بأمرنا } ، قال القرطبي : ( أي أمرناهم بذلك ، وقيل : بأمرنا أي لأمرنا أي يهدون الناس لديننا ، ثم قيل : المراد الأنبياء عليهم السلام ، وقيل : المراد الفقهاء والعلماء ) .
وكونهم العلماء والفقهاء أقرب للصواب لأن الأنبياء عليهم السلام قدوات ينالون شرف النبوة دون ابتلاء متقدم ، بل يهيؤون من الله تعالى لذلك ، وأما الآية فأشارت إلى أن نيلهم الإمامة كان بعد صبر ، قال القرطبي : ( وهذا الصبر صبر على الدين وعلى البلاء ) ، والأنبياء ينالون النبوة قبل أن يعرفوا الدين ويبتلوا به والله تعالى أعلم .(1)1)
وإذا تمعنا في الآيات السابقة فإن الإمامة فيها جميعها كانت جعلا من الله لا اكتسابا ، وأنا لا أتحدث عن صفات الإمام وإنما عن وسمه بسمة الإمامة .
ففي الإمام أحمد رحمه الله تعالى يتجلى لك المعنى الذي أريد ، فإنه رحمه الله كان شديد البعد عن الشهرة ، كارها لها ، ولم يجمع حوله من التلاميذ من ينشر قوله ، ولم يؤلف كتابا فقهيا جامعا ، ومع ذلك أبى الله تعالى إلا أن يكون إماما بل أبت الإمامة إلا أن تكون حنبلية ، لم ؟
صفحة ٦
لأن هذا السيد جمع الله له من صفات الإمامة ما قد لا يجتمع لغيره ، فهو إمام في العلم والعمل والدعوة إلى الخير ، برز ورأس في ذلك كله ، حتى اقتدت به ملايين من المؤمنين على مر السنين ونسبت نفسها إليه ، فإذا نظرت إلى بعده وبغضه للإمامة وما وصل إليه حال الناس في الاقتداء به عرفت أن الإمامة اصطفاء من الله لا فرق بينها وبين النبوة ، إلا أنها تكون نتيجة لكسب العبد من العلم والعمل ، وهذه رسالة لكل من جعل من نفسه أو غيره إماما دون أن يتلمح هذه المعاني ، فكم من رجل موصوف بالإمامة على الألسنة لكنه في الواقع والحقيقة مهمل من الاقتداء به ، ولا يلتفت إليه في أسوة ولا مشورة .
وخلاصة هذه النقطة أن الإمامة تحتاج إلى تسبب وهذا صحيح لكن مع ذلك قد يترأس الرجل في العلم والعمل ولا يكون إماما وهذا منظور ومشاهد ، أليس في تراجم العلماء السابقين رجال كثيرون موصوفون بالعلم والعمل ، فهل كان كلهم أئمة ؟
ثم في عصر الإمام أحمد مثلا كان ابن المديني وابن معين وابن راهوية وغيرهم من العلماء الجهابذة فهل كان كلهم في الإمامة مثل ابن حنبل ؟
الجواب : لا ، لأن جميعهم لم يكن لهم من الكمالات ما لأحمد رحمه الله ، على أنه لا يخلو أحدهم من أن يكون إماما في شيء معين ، غير أن كلامي في الإمامة المطلقة .
- - - - -
من وراء بروز الإمام ؟
لاشك أن الله تعالى تكفل لهذه الدين بالحفظ ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ، ولكن الله تعالى لا ينزل أنبياء مصطفين ، إذ ختمت النبوة بمبعث النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يهيىء الله تعالى أسبابا لظهور إمام أو أئمة يحملون هم الدعوة ، ويجددون ما اندرس من أحكام الملة ، ومن هؤلاء الأئمة المجددين : الإمام أحمد بن حنبل .
صفحة ٧
ولم يغفل التاريخ شخصية كان لها دور بارز وإن لم يدرك بعضنا ذلك في صياغة شخصية الإمام : إنها أمه : صفية بنت ميمونة بنت عبدالملك الشيباني من بني عامر .
لم تحدثنا المصادر كثيرا عنها ، إلا أنه من الثابت أنها هي التي كفلته بعد وفاة أبيه ، قال صالح ابنه : ( جيء بأبي حمل من مرو، فمات أبوه شابا فوليته أمه )(1).
وقال هو عن نفسه : ( ثقبت أمي أذني فكانت تصير فيهما لؤلؤتين ، فلما ترعرعت نزعتهما فكانت عندها ، ثم دفعتهما إلي فبعتهما بنحو ثلاثين درهما )(2).
كما يتبين مما نقل أنها كانت تحثه على طلب العلم ، بل وتشرف على ذلك منذ صغره ، اسمع إليه يقول : ( ربما أردت البكور في الحديث ، فتأخذ أمي بثوبي وتقول : حتى يؤذن المؤذن)(3)، أي أذان الفجر ، فكان من حرصه يريد الخروج قبل الفجر إلى حلقة المحدث ليكون قريبا منه فيستطيع السماع بوضوح ، ولكنها كانت تتابعه فتمنعه من الخروج حتى يؤذن الفجر ، إذ حينها يكثر خروج الناس للصلاة فتأمن عليه وهو صغير في الذهاب بمفرده للتعلم ، ونلاحظ هنا ملاحظتين : أولاهما : أنها كانت تشرف مباشرة على تربية ولدها ، لم تتركه لغيرها من أقاربه فضلا عن أن تتركه لخادمة كافرة أو فاسقة لاهية ، كما تفعل بعض أمهات هذا الزمان.
والثانية : أن خوفها ومحبتها الفطرية لولدها لم تجعل منها عائقا له من العلم والارتقاء ، وإنما استطاعت الموازنة بينهما ، وبعض الصالحين في هذه الأيام للأسف الشديد من الآباء فضلا عن الأمهات يتملكه الخوف على أولاده ويعاملهم بحنان زائد حتى يفضي بهم ذلك إلى الميوعة والركود ، مع كونهم على درجة من الصلاح ، ولكن ما يجدي أن يكون صالحا خاملا ؟ أليس حري بالصالحين أن يربوا أبناءهم على الطموح والجد منذ صغرهم ؟ .
صفحة ٨
ومن العجب العجاب أن البعض لا يأمن على ولده حتى عندما يشب أن يتصرف بمفرده فهو مع السائق غاديا ورائحا ، ويقيده من الخروج والسفر في طلب علم أو جهاد أو غير ذلك من معالي الأمور ، لا لشيء إلا خوفه عليه من أن يخدش أو يلقى مشقة ، ولا مبرر لذلك كله ، لأن المشقة تصنع الرجال .
ومن عجيب ما يروى من حال هذه المرأة : أنها حثته على الرحلة في طلب الحديث ولم يجاوز السادسة عشرة سنة بعد ، وكانت في صغره تبعث به إلى الكتاب ، ولاشك أنه رافق هذه العناية في تعليمه عناية في سائر شؤونه حتى نشأ ابنها سليما من الأمراض النفسية ، ومن أثر العوائق الاجتماعية التي كان يمكن أن تؤثر على طفل مثله نشأ يتيما في حجر أمه، التي كفلته ولم تتزوج بعد أبيه رعاية له ، فحق أن تشارك ولدها في كل أجر يناله على تعليمه ، لأنها بذلت في ذلك مالها ووقتها وجهدها رحمها الله .
ونحن إذ نركز على إبراز دور أم الإمام أحمد إنما نضع أمام أعيننا نموذجا للمرأة التي تخاف الله في ذريتها ، وأن يكون ذلك حافزا لنا على إيجاد المحضن التربوي الذي يكفل لنا ظهور مثل الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، أما كيف يكون ذلك فهذا له موضع آخر لا تحتمله هذه المقدمة(1).
- - - - -
شغله وكلفه بطلب العلم
كان يقول : ( أخذنا هذا العلم بالذل فلا ندفعه إلا بالذل )(2)، والذل في كل شيء مذموم إلا في طلب العلم ، وليس هو ذلا في الحقيقة بل هو عز ، ولما فيه من سؤال الغير عدوه ذلا فهو الذل الوحيد الذي يرفع صاحبه ويكون عاقبة أمره إلى عز ورفعة .
صفحة ٩
وكان من شأن العلماء في السابق التعزز على طلبة العلم في بذله لا لكبر وإنما ليشعر الطالب بقيمة هذا العلم فيحفظه ، ومن جهة أخرى حتى يميز الشيخ من هو حريص على العلم والصبر في تحصيله ممن يريد به عزا بين الناس ومكانة ، فإن الصادق في طلب العلم لا يأنف من ترفع العالم عليه وتعززه في ذلك ، وأما من يريد به دنيا فلا يستطيع ، فهو إذن نوع من التصفية .
وهذا الأسلوب من علماء السلف ينتهجه بعض أهل العلم وليس كلهم في وقتنا هذا ، فتجدهم يسيئون معاملة الطلاب، ولا يسمح أحدهم بدرس لطلاب العلم ويقسو عليهم في الدرس إن درس ، وهو يظن أنه بذلك ينتهج منهج السلف ، ولكنه في الحقيقة مخطىء ، لأن السلف كانوا يفعلون هذا في وقت كان في طلاب العلم والمقبلين عليه كثرة ، فكان يطيب لهم هذا التعامل ليميز الله الخبيث من الطيب ، ولا أدل على ذلك أن الإمام أحمد مثلا كان يجلس إليه في حلقته زهاء خمسة آلاف شخص ، هذا في درس تحديث(1)فهبني اليوم درسا راتبا لعالم يحضره خمس هذا العدد بل عشره .
وعليه فالمطلوب من أهل العلم وهم أعلم بذلك الإقبال على طلاب العلم واحتضانهم وتشجيعهم والإنفاق عليهم والصبر على سوء أدبهم إن أساءوا ، إذ هم في عصر اختلطت فيه الفتن وتشابكت ، فكون الشاب ينصرف عن هذه الدنيا التي جملها أهلها وزينها ليطلب العلم فهو خير عظيم إذ سلم نفسه لأهل العلم ليصوغوه ويوجهوه ، فإن وجد من يصده فالذنب على من صده .
صفحة ١٠
وليعلم الموجه أن هؤلاء الفتية من الطلبة لم ينشئوا في بيئات أهل العلم والدعوة حتى يستفزه أدنى إساءة من أحدهم ، بل كثير منهم حديث عهد بتوبة ، فمداراتهم والصبر عليهم فيه أجر جزيل .
- - - - -
زواجه
لاشك أن النكاح هو سنته - صلى الله عليه وسلم - ، وأن النكاح للمستطيع مستحب ، لكن لابد من الإشارة إلى أن النكاح وغيره من الأعمال الدنيوية والأخروية ، قد تتزاحم ، وأن الناس تتفاوت هممهم وقدراتهم في الحياة ، من أجل ذلك فإن بعض العلماء ترك النكاح وبعضهم أجله ، فممن ترك النكاح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقد مات ولم يتزوج لانشغاله بالعلم والدعوة ، وممن أجله لحين شعر أنه لم يعد يعوقه عن ما هو أهم : إمامنا ابن حنبل فقد ثبت عنه قوله : ( تزوجت وأنا ابن أربعين سنة )(1)، وليس فيما ذكرنا ما ينكر ، وليس فيه معارضة لحثه - صلى الله عليه وسلم - على النكاح ، وإنكاره على من تركه ، لأن إنكاره ذاك كان على من ترك النكاح ظنا منه أنه يعارض العبادة والخوف من الله والتقوى ، ففيه مشابهة للنصارى ، وفيه تنزه عما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فلهذا غضب وأنكر عليهم ، وأما من تركه لشغله عنه أو لمعرفته أن النكاح يعيقه عما هو أهم فليس في ذلك محذور ، ومن الناس من رزقه الله من المال والقوة النفسية ما يجعله يتحمل مؤنة النكاح ولا يشغله ذلك كثيرا عن العلم والدعوة ، ومنهم من لم يرزقه الله ذلك ، فنكاحه سيأخذ من وقته في طلب الرزق ورعاية الزوجة والأبناء شيئا كثيرا يضن به في غير علم أو دعوة ، فلذلك يترك النكاح أو يؤجله لحين يقدر الله تعالى ذلك .
- - - - -
صفحة ١١
إخلاصه الإخلاص من أعمال القلوب التي لا يطلع على حقيقتها إلا الله ، لكن ما في القلب يظهره الله على الجوارح واللسان ، وقد ظهر من هذا الإمام قرائن وأمارات الإخلاص ، ولن أذكر هنا قصص إخلاصه وإنما أريد الإشارة إلى أن الإخلاص وغيره من أعمال القلوب يستحب للعبد إخفاؤها والحرص على ذلك ، وهذا دأب الأئمة ومنهم الإمام أحمد ، قال المروذي تلميذه : ( رأيت أبا عبدالله إذا كان في البيت عامة جلوسه متربعا خاشعا ، فإذا كان برا لم يتبين منه شدة خشوع )(1).
وقال أبو حاتم الرازي : ( كان أحمد إذا رأيته تعلم أنه لا يظهر النسك ، رأيت عليه نعلا لا يشبه نعال القراء ، .. أي لم يكن بزي القراء )(2)، بمعنى أنه كان يخفي قدره في العلم والديانة ، ولا يفعل كما نفعل نحن ، ما إن يحس الواحد منا بشيء من الإيمان في قلبه والعلم في فؤاده حتى يضع على بدنه من الثياب والطيب ما ينفق على أسرة سنة كاملة ، ثم خرج يختال في مشيته مزهوا بنفسه محتقرا لغيره وكأن الله حاز له العلوم بين جنبيه ، ولو أن شخصا ناداه باسمه مجردا من المشيخة لعدها من سوء أدب هذا المنادي ، وعدم تقديره لأهل العلم ، وهذا من أمراض العصر سببها غياب التربية الحقيقية ، وعدم التأدب بأدب العلماء الصالحين المتواضعين .
صفحة ١٢
قال المروذي : ( ذكر لأحمد رجل يريد لقاءه فقال : أليس قد كره بعضهم اللقاء ، يتزين لي وأتزين له )(1)، ومراده رحمه الله بالتزين : لقاءات الشهرة وإظهار الفتوة ، وكثير من مجالسنا للأسف هي من ذلك النوع الذي كرهه أبو عبدالله ، يلتقي طلاب العلم إلا من رحم الله يتزين كل واحد منهم للآخر فيظهر ما يحسن من العلم لا رغبة في الفائدة وإنما هو استعراض للعلم فقط ، بل يخرج بنا الحال أحيانا إلى التكلف وإظهار خلاف ما نبطن ، نسأل الله أن يهبنا الإخلاص والصدق في معاملته .
أدبه وعقله
قال أبو عبدالله البوشنجي : ( ما رأيت أجمع في كل شيء من أحمد بن حنبل ، ولا أعقل منه )(2).
وقال أحدهم : ( اختلفت إلى أبي عبدالله ثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده فما كتبت عنه حديثا واحدا ، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه )(3).
ومن جميل أدبه حتى في وقت شدته ، أنه لما أحضر في مجلس المعتصم للمناظرة لم يتكلم حتى قال : ( أتأذن لي في الكلام )(4) ففيه أن الشدة لم تنسه الأدب في الحديث ، وأنه لابد من استئذان صاحب المجلس لمن أراد أن يتكلم ، كما أن فيه توقير السلطان والأدب في كلامه ، مع أنه رحمه الله من أشد الناس مباعدة له ومباينة لطريقته المحدثة ، ولم يتخذ ذلك حجة وذريعة لإسقاط هيبته في أعين الناس والكلام فيه بغير ضابط أمام العامة والخاصة .
ولم يكن في مجلس السلطان ضعيفا مع ما كان فيه من الشدة ، بل حكى عن نفسه أنه كان إذا جادلهم يعلو صوته على أصواتهم(5) ، نعم أنطقه الحق ورفع صوته .
صفحة ١٣
ومن عقله رحمه الله تعالى تقديره للناس وعدم اتخاذ منكراتهم حجة في الإساءة إليهم في بيوتهم أو تخريب ممتلكاتهم ، قال المروزي : ( قلت لأبي عبدالله : الرجل يدعى فيرى سترا عليه تصاوير ؟ قال : لا ينظر إليه ، قلت : قد نظرت إليه كيف اصنع ؟ أهتكه ؟ قال : تخرق شيء الناس ؟! ولكن إن أمكنك خلعه خلعته)(1).
صفحة ١٤
ومن عجيب ذلك ما رواه محمد بن يحيى الكسائي قال : دخلت على خلف بن هشام البزار(2) وقد خرج من عنده أحمد بن حنبل وزهير بن حرب أبو خيثمة ويحيى بن معين ، فقال لي : من رأيته خرج من عندي ؟ قلت : فلان وفلان وفلان ، فقال : إنه كان قدامي قنينة فيها نبيذ فلما رأتهم الجارية جاءت تشيلها(3) فقلت : لم هذا ؟ فقالت : يا مولاي جاء هؤلاء الصالحون فيرون هذا عندك ؟ فقلت : أضيفي إليها أخرى ، يرى الله عز وجل شيئا فأكتمه عن الناس ؟ وأردت أن أنظر إلى عقل هذا الفتى يعني أحمد بن حنبل فحول ظهره إليها ، وأقبل علي يسألني عما يريده ، فقلت له لما أراد الانصراف : أي شيء تقول في هذا يا أبا عبدالله؟فقال : ليس ذاك إلي ، ذاك إليك ، فقلت : كيف ؟ قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )(4)، والرجل راع في منزله ومسؤول عما فيه ، وليس للخارج أن يغير على الداخل شيئا ، فلما خرج سكبت خابيتين ، وعاهدت الله على أن لا أذوقه حتى أعرض على الله )(5) وفيها فوائد :
أولها : أسلوب الإنكار على أهل البيت ، وثانيها : غض الطرف وعدم إظهار اكتشاف المنكر ، وثالثها : أسلوب الإنكار فيما فيه خلاف ولو كان الخلاف ضعيفا .
فهذا النبيذ الذي كان يشربه خلف متأولا هو مما أباحه أهل الكوفة ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أن ( ما أسكر كثيره فقليله حرام )(1)، ولكنهم يتأولون ، ومع هذا كان أحمد عاقلا في تعامله مع خلف حتى إنه تأثرا بذلك تاب من شرب النبيذ .
وقال الدوري : إنهم ذكروا خلف البزار عند أحمد ، فقالوا : يا أبا عبدالله ، إنه يشرب ؟ قال : قد انتهى إلينا علم هذا عنه ، ولكن هو والله الثقة الأمين شرب أو لم يشرب )(2).
وهذا أيضا أدب ينقصنا بشدة ، فالذي نراه أننا ننتقص كثيرا من العلماء بسبب عملهم برأي ما ، مما فيه خلاف لا يصح في وجه النصوص ، ومثاله حلق اللحية أو تخفيفها ، فقد ربينا أنفسنا بطريقة عجيبة على تنقص من يحلق لحيته واطراحه ، ولو اتصف بصفات العلماء لكنه زل في إباحته حلقها ، ولا نأبه لرأيه ولا لقوله ، والذي نعرفه من أنفسنا الآن أنا رأينا بعض الذين يحلقون لحاهم من أهل العلم أو يخففونها جدا ، رأينا بعضهم في مستويات رفيعة من التقوى والعلم والفقه ، كما يوجد ممن يعفون لحاهم من هو في واد والعلم والتقوى والأمانة في واد ليس من الأول بقريب .
صفحة ١٥
وأنا هنا لا أقلل من أهمية هذه السنة ووجوبها ، كيف وهي سنته - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها في أكثر من نص وجعلها من شعار المسلم الذي يتميز به عن الكافر ، هذا لا مماراة فيه .
لكن من جهة أخرى يجب أن نعرف لأهل العلم مقدارهم وإن زل أحدهم في جانب ، ولا نجعل ذلك ذريعة لعزله والابتعاد عنه حتى يحوطه أهل البدع فيجندوه للطعن في السنة وأهلها الذين هم في عينه أولئك الذين يجرحونه وينتقصونه لا لسبب سوى أنه لم يك كاملا ، فقل لي بالله من ذا الذي كملت شمائله ؟
ونحن نتعلم من ابي عبدالله تعديله لخلف البزار مع ما بلغه عنه من شربه النبيذ ومجاهرته به أمامه ومع ذلك أقسم بأنه ثقة أمين ، وتغاضى عن هذا النقص في جانب الكمالات الأخرى التي يتمتع بها الرجل .
وطالب العلم لا يحرم نفسه من الفائدة لنقص يراه في شيخ متضلع من علم ما ، بل يأخذ عنه الخير ويعذره فيما زل فيه والله يدرأ بالحسنة السيئة.
- - - - -
صفحة ١٦
قوته في الحق ووقوفه في وجه أهل البدع إنما حصل له ذلك لقيامه بشريعة الإنكار والتغيير للمنكر ، ولاشك أن من أشد المنكرات ، المنكرات الفكرية ، أعني الإسقاطات العلمية التي يلجأ إليها أهل البدع ، وهو نوع من التحريف ، الذي يسمونه تأويلا ، وهو اعتداء صارخ على مرجعية الكتاب والسنة ، ولهذا لم يكن الإمام رحمه الله تعالى يسكت عن قمع التعديات على السنة ، فكان ينكرها ويأمر بهجر أصحابها ويتحمل في سبيل ذلك الأذى ، وقد كان في عصره من هو في العلم على قدر كبير ربما يقاربه ولكن لم يكن لديه الجرأة والاحتساب الذين كانا للإمام رحمه الله ، ولذلك لما قيل لبشر الحافي(1):(لو أنك خرجت فقلت : إني على قول أحمد ، قال : تريدون أن أقوم مقام الأنبياء )(2)، هذه هي ، لقد قام الإمام رحمه الله تعالى مقام الأنبياء ، ولهذا استحق قول قتيبة(3) : ( إذا رأيت رجلا يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة)(4)وقوله : ( لولا أحمد لأحدثوا في الدين )(5)، وقيل لأبي مسهر الغساني(6): تعرف من يحفظ على الأمة أمر دينها ؟ قال : شاب في ناحية المشرق يعني : أحمد )(7) ، وقال إسحاق بن راهوية (1): ( لولا أحمد وبذل نفسه لذهب الإسلام )(2) ، وقال علي بن المديني(3): ( أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة )(4).
وقال ابن معين (5): ( أرادوا أن أكون مثل أحمد ، والله لا أكون مثله أبدا )(6).
صفحة ١٨
وبطبيعة الحال فإن هؤلاء الذين قالوا ما قالوا : لم يكن ينقصهم العلم ولا التقوى ليقوموا مقام أحمد ، لكن كما قلنا لم يكن لهم من القوة والصرامة والتمسك العقدي ما كان لأحمد رحمه الله تعالى كما قال أبو خيثمة (1): ( ما رأيت مثل أحمد ولا أشد منه قلبا )(2) ، بل قال صاحب شرطة المأمون : ( ما رأيت أحدا لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك كان أثبت قلبا من أحمد يومئذ ، ما نحن في عينيه إلا كأمثال الذباب )(3)ومع ذلك لم يكن جبارا لايحس بألم ولا يبالي بوجع ، بل يحكي هو عن نفسه أنه قال أيام المحنة : ( إنما أخاف فتنة السوط )(4)، لكنه يفعل ذلك احتسابا لوجه الله وتحملا للأذى في سبيل الدعوة فهو حقا مقام الأنبياء عليهم السلام .
صفحة ١٩
ومن وجه آخر فهو لم يتخذ ما يعلمه من النصوص حجة له في التخاذل والقعود عن نصرة الدين ، كان يمكنه الاتكاء على نصوص الاستطاعة والتقية كما نتكىء نحن في هذا العصر ونتخذ من تلك النصوص ذريعة في تركنا ما لابد لنا من الإنكار والتوجيه ، قال البوشنجي : ( جعلوا يذاكرون أبا عبدالله بالرقة في التقية وما روي فيها (1) فقال : كيف تصنعون بحديث خباب " إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار لا يصده ذلك عن دينه " فأيسنا منه )(2) ، وكان حجته في هذا قوله : ( إذا سكت أنت وسكت أنا متى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم ) ، وصدق رحمه الله ، فإذا سكت كل طالب علم بحجة التقية وعدم الاستطاعة فمتى يعرف الحق ؟ ثم اين نذهب بنصوص التضحية والجهاد وبذل النفس والعرض والمال في سبيل الله ، فليس المقصود من ذلك فقط في ساحة المعركة ، بل في أي وقت وزمان ومكان يكون فيه الصدع بالحق ثمنه نفس الصادع أو ماله .
فالتقية إن صلحت لعامة الناس ، لم تصلح للعلماء ، وإن صلحت في موقف لم تصلح في آخر يكون في السكوت مزلة للأمة وغش لها .
- - - - -
رقة طبعه وشفقته
لم يكن رحمه الله جبارا قاسيا ، بل كان له طبع رقيق ، ونفس شفافة ، حتى في معاملة أعدائه ، لم يكن تمسكه بالسنة وغيرته عليها يعميه عن أصله الإنساني الإيماني ، فإن المؤمن رحمة لكل الناس ، ولا يأخذ البريء بذنب الجاني .
صفحة ٢٠
وهذا أقوله لأني أجد من بعض المتسننة غلوا في معاملة المخالف ، ويستحل بعضهم إيذاء المبتدع بأي نوع من أنواع الأذى ، ولهؤلاء نقول : رويدكم ، فإن المخالف أولا إنسان له كرامة الآدمية ، فيجب أن يكون تعاملنا معه من منظار الشفقة ، ثم بعد ذلك لا يغيب عن أذهاننا أن أذانا له يجب أن لا يكون على حساب آدميته وحقوقه الإنسانية ، ولا يتعدى كذلك على خصوصياته من مال أو عرض إلا ما يكون حكما شرعيا قضائيا ، فهذا أمر آخر .
قال المروذي (1): ( سألت أبا عبدالله عن قوم من أهل البدع يتعرضون ويكفرون ؟ قال : لا تتعرضوا لهم ، قلت : وأي شيء تكره أن يحبسوا ؟ قال : لهم والدات وأخوات )(2)، أرأيت العالم الذي ينظر بعين الشفقة لا الانتقام ؟ وذلك أمر له في السنة أصل أصيل ، فقد هم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق على المتخلفين عن صلاة الجماعة بيوتهم ، وبغض النظر عن كونهم من المنافقين أولا فإنه امتنع من ذلك فما السبب ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لولا ما في البيوت من النساء والذرية )(3).
صفحة ٢١