[القسم الثاني: القسم المحقق]
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أدب من اختاره بأدبه (1)،ووفق للحسنى من أراد سعادته في عادته ودأبه, وشرح صدر من انقاد لأوامره بموسى الحكمة، وميز من تخلق بطاعته بالإجلال بين أفذاذ الأمة، وأشهد أن لا اله إلا الله الواحد في ذاته، المنزه عن الشبيه والنظير في أسمائه وصفاته وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، المنزل عليه قرآن في أعلى درجات الفصاحة، المعجز من تحدى بآية منه لذوي البلاغة والرجاحة، المبين لنا من الشريعة رمزا أو سرا، القائل: ((إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا)) (2)، أفصح من نطق بالضاد (3)، وأصدق من تكلم لإرشاد العباد، (- صلى الله عليه وسلم -) وشرف وكرم، ما لهجت العرب بكذا وكيت، وما فاهت بقصيدة أو بيت، وعلى آله وأصحابه الذين فازوا من الفصاحة بالقدح المعلى (4)، وحازوا من مكارم الأخلاق ما هو الأجدى والأولى، أما بعد:
صفحة ٨٦
فيقول أضعف أفراد الإنسان، وأحوجهم إلى لطف الكريم المنان، الفقير سليمان ابن الأكرم الأمجد عبدا لله بك ابن المرحوم شاوي بك العبيدي الحميري: لما كانت القصيدة الموسومة بلامية العرب للشنفرى خالد بن ثابت الأزدي (5) من غرر القصائد (1و) على الاطلاق، وأهداها إلى طريقة الكرماء بالاتفاق، وكيف لا؟! وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: "علموا أولادكم لامية العرب فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق (6) لهج بها أهل الأدب، وجنح إلى حفظها من له محبة بآثار العرب. وقد كانت محتاجة إلى شرح يبين مغازيها ويوضح معانيها، ويبين رموز فوائدها، ويكشف عن وجوه خرا ئدها (7)،ويرفع عنها حجب الدقة والإغلاق، ويفتح لطالبيها من معاقل مبانيها الأبواب والأغلاق، وقد كان يخطر بالبال الفاتر، ويجول في الفكر القاصر، أني أشرحها شرحا يذلل صعابها، ويفتح للطالبين أبوابها، ثم أحجم عن ذلك لعلمي أن بضاعتي مزجاة (1) كاسدة، وأن صناعتي لا تقوم بأعباء هذه الفائدة، حتى اجتمعت ذات يوم من أيام البطالة مع شيخي الكبير الشهير، العالم العلامة النحرير، شيح العراق بالاتفاق، وملجأ أهل الخلاف والوفاق، الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبدالله الشهير بالسويدي (2)، فتحاسينا معه كؤؤس الأدب (3)،حتى انجر معه البحث إلى لامية العرب، فأمرني بشرحها، وأمره واجب الامتثال، ولاسيما وقد (4) وافق ما كان يتردد بين فكري والخيال، فجاء بعون الله شرحا لم ينسج على منواله، ولم يستطع المتحدي أن يحذو على مثاله (1ظ) مع انه أول ما سبكته في بيادق (5) التأليف، وأفرغته في قوالب الترصيف، وسميته:"سكب الأدب على لامية العرب". والله أسأل أن يروي بريه قوما عطاشا لورد زلاله، ويزيد أرواحهم انتعاشا بمطالعة مثاله، وهانا أشرع بالمقصود، مستعينا بالرب المعبود، فأقول: قال الشنفرى: [من الطويل]
1 - أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
اللغة:
أقيموا: مأخوذ من الإقامة ضد الاعوجاج كما هو ظاهر البيت.
صدور: جمع صدر، وهو أعلى مقدم كل شيء، وكل ما واجهك (و) من السهم والقناة من وسطه إلى مستدقه لأنه المقدم إذا رمي به (6).وهو مذكر (7) أما تأنيثه في ما ورد في بيت الأعشى (8): [من الطويل] كما شرقت صدر القناة من الدم (9)
،فانه لإضافته إلى المؤنث، وأظن لا تخفى عليك هذه القاعدة.
صفحة ٨٧
المطي: بفتح الميم والطاء المهملة جمع مطية، الدابة، سميت بذلك لأنها تمطو في سيرها، أي تمد، ويجوز تذكيرها وتأنيثها (1).
القوم: كرهط لا واحد له من لفظه، وقد قيل: انه موضوع للنساء والرجال، والأصح أنه للرجال فقط (2) بدليل قوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم ... } إلى آخر الآية (3)،وقول الشاعر (4): [من الطويل] أقوم آل حصن أم نساء (5).
وسوى: كغير، وفيها لغات: سوى كرضى، وسوى كهدى، وسواء كبناء (6).
أميل: (2و) قيل: أفعل بمعنى فاعل أي عادل، إذ الميل بمعنى العدول (7)،ويجوز أن يكون باقيا على بابه (8).
الإعراب:
أقيموا: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو ضمير الفاعل.
وبني: منادى حذف منه حرف النداء، وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع التصحيح وحذفت نونه لأنه مضاف، ويجوز نصبه على الاختصاص، وهو عندنا كما قال ابن مالك (9): [من الرجز]
الاختصاص كنداء دون يا ... كأيها الفتى بإثر ارجونيا (10)
مضاف إلى أمي، وهي مضافة إلى الياء ، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل الياء لأن الياء تستدعي انكسار ما قبلها، فقدرت كسرة الإعراب لئلا يلزم اجتماع كسرتين.
صفحة ٨٨
صدور: مفعوله، مضاف إلى مطي الذي هو مضاف إلى ضمير المخاطبين الذي هو الكاف، وهو كمطلق الضمير من الوضع للموضع له الخاص، والقرينة فيه الخطاب.
فاني: الفاء للتعليل، وان من الحروف الناسخة لحكم المبتدأ والخبر، تنصب (الأول) على أنه اسمها، وترفع الثاني على أنه خبرها.
إلى قوم: جار ومجرور متعلق بخبر إن الآتي.
سواكم: بدل من قوم، ويصح جعله أن يكون صفة (1)،ولا يضر إضافتها إلى ضمير المخاطبين لأن هذه الإضافة لا تفيدها تعريفا كغير، لشدة إبهامها، ما لم تقع بين معرفتين متضادتين، كقولك: عجبت من الحركة غير السكون. وهي عند سيبويه (2) ظرف لا يتصرف (3)،والأصح في خلافه، حيث ورد (2ظ) في كلام العرب، كقول الشاعر (4): [من الكامل]
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري (5)
لأميل: هذه اللام تسمى اللام المزحلقة (6) بالقاف والفاء، زحلقت من إن إلى خبرها، خشية اجتماع أداتي تأكيد، لأن (إن) للتأكيد واللام أيضا، وتسمى المؤكدة، وأميل خبر إن.
المعنى:
صفحة ٨٩
بادروا باذوي الأرحام إلى الرحيل والسفر، وكونوا بعد اليوم من الأعداء على حذر، فانه لا يطمئن لكم بعدي بال، ولا تدرك لكم الآمال، وقد كنت بينكم، سيفكم القاطع، والدرع المانع، حميت لكم الذمار، وأكسبتكم الافتخار، وأظن حين نأت بيني وبينكم الدار، وتسمع أعداؤكم ماكان من بعد المزار، يقلبون إليكم أحداق الأخذ والانتهاب ويعظم لفقدي عندكم المصاب، وأما أنا فلست بعد اليوم معكم بالمقيم، واخترت التوحش عنكم وإني به عن الحادثات سليم، ورغبت في الميل إلى غيركم من الأقوام، ولذ لي التغرب في الوغال والآجام، لما شاهدت من عدم مراعاة صلة الرحم وانغماسكم في الجفوة والغلظة والهظم، وما هذا شان يرتاح له اللبيب، وصدوره مني لهو العجب العجيب (1)،واني كما قال بشار بن برد (2): [من المتقارب]
إذا ما قلتني بلدة أو قليتها ... خرجت مع البازي علي سواد (3) ... (3و)
مع أنها مع ذوي القربى أحق بالفراق ، وموجبة لبعد التلاق، قال ابن مقرب (4):
[من الطويل]
خليلي عن دار الهوان فقوضا ... خيامي وزما لارتحال النجائب (5)
وله أيضا: (6) ... [من الطويل]
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
شعرا (7): [من البسيط]
شرق وغرب تجد من غادر بدلا فالأرض من تربة والناس من رجل
قال أبو الطيب (8): [من المنسرح]
صفحة ٩٠
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل (9) تتمة:
إنما حذف صلة أفعل التفضيل، لدرج البيت، أي أميل من غيري (1)،ويحتمل أن يكون لتعميم أصناف المفضل عليه بحيث لا يختص بصنف دون آخر، أو لتذهب نفس السامع
إلى أي معنى أرادت (2). وأقيموا: أما كناية (3) عن الارتحال كما تقدم، وأما للتحريض على القتال (4)،كما قال الشاعر (5): [من الطويل]
أقيموا صدور الخيل للبيض والقنا ... بيوم يشيب الطفل وهو رضيع
واختصاص الإقامة بالصدر، لأن قوة سير الدابة بصدرها (6)،فان قلت: في البيت تكرار الإضافات، وهو مخل بالفصاحة كم صرح به بعضهم (7)،قلت: الأصح خلاف ذلك لأنه ورد في الكتاب العزيز الذي أفحم ببلاغته العرب العرباء من مضاغة الشيح والقيصوم (8)،كقوله تعالى {مثل دأب قوم نوح ... } (9) قال: (3ظ):
2 - فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل
اللغة:
حمت: قدرت.
والحاجات: جمع حاجة كالحوجاء، وتحوج: طلبها، جمعه: حاج وحاجات وحوائج غير قياسي أو مولد، كأنهم جمعوا حائجة، وما في صدري حوجاء ولا لوجاء ولا حويجاء ولا لويجاء أي لا حاجة (10).
صفحة ٩١
والليل: والليلة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق أو الشمس، جمع ليال، وليلة ليلاء شديدة الطول (1)،وهي التي يقول في حقها الشاعر (2): [من الكامل]
وتذكري أجياد وردي في الضحى ... وتهجدي في الليلة الليلاء
مقمر: مأخوذ من أقمر ليلنا إذا أضاء، والليل مقمر أي مضيء، إذا كان فيه القمر (3).
والقمر اسم لكوكب نير انفرد في السماء الدنيا، ولذا سميت فلك القمر، وقد يغلب على الشمس فيقال: القمران (4)،ويراد به الشمس والقمر، فان قلت: لم لا يجوز العكس؟ قلت: جواز الأول لشرفية المذكر على المؤنث، بخلاف الثاني.
وشدت: بضم الشين المعجمة من الشد أي قويت وأوثقت، وبالفتح الحملة في الحرب (5).
الطيات: جمع طية بكسر الطاء النية. قال الخليل (6):الطية تكون منزلا ومنتوى، تقول: طية بعيدة أي شاسعة، ومضى لطيته أي لنيته التي انتواها (7)،ويستقيم هاهنا كلا المعنيين (8)،ويجوز كون الطية للنوع من قولهم: طوى الحديث إذا كتمته، وجعل الطية بمعنى الحاجة لاتصافها بالكتمان (9) كما ذكره الجلال (4و) السيوطي (10) مأخوذ مما ذكرنا.
المطايا: وقد تقدم تفسيره في البيت السابق.
صفحة ٩٢
وفيما يحكى عن ابن المطرز الشاعر (1) أنه مر وفي رجله نعل بالية بالشريف المرتضى (2) وأمر بإحضاره، وقال له: أنشدنا أبياتك البائية المشهورة، فانشده إياها، فلما انتهى إلى قوله: [من الطويل]
فان لم تبلغني إليك ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا (3)
أشار إلى نعليه، وقال: هذه كانت ركائبك؟ فأطرق (ابن المطرز ساعة (4)) ثم قال: لما عادت هبات (5) سيدنا إلى مثل قوله: [من الخفيف]
وخذا النوم من عيوني فاني ... قد خلعت الكرى على العشاق (6)
عادت ركائبي إلى مثل ما ترى، لأنك خلعت ما لم تملك على من لم يقبل، فخجل الشريف، وأكرمه لذلك بما يليق به (7).
الأرحل: بفتح الهمزة وسكون الراء وضم الحاء المهملتين جمع رحل: ما يستصحب من الأثاث، والرحل أيضا رحل البعير، وهو أصغر من القتب، والمعنيان جائزان فيما نحن فيه.
صفحة ٩٣
الإعراب:
الفاء علة لما تضمنه البيت السابق من مصارمة قومه والعزلة عنهم، وقد (1):حرف تحقيق، ويكون اسما بمعنى حسب وكاف كقولك: قد زيد درهم، وتأتي اسم فعل بمعنى يكفي، كقول الشاعر: (2) [من الرجز]
قدني من نصر الخبيبين قدي (3)
وقد يحذف الفعل بعدها كقول الشاعر (4): [من الكامل]
لما تزل برحالنا وكأن قد (5)
حمت: فعل ماض مبني للمجهول، وتاؤه للتأنيث، وكسرت لالتقاء الساكنين.
والحاجات: نائب فاعل.
والواو: حرف عطف، والجملة الاسمية معطوفة على الفعلية قبلها، وتخالف الجملتين لا ضرر فيه (6).
والليل: مبتدأ، وخبره [4ظ] مقمر، ويجوز أن يكون الواو للحال (7)،وقد ادعى السويدي _رحمه الله تعالى _أن الفضل للمتقدم (8)،وليس كذلك، إذ توافق الجملتين في العطف أولى من التخالف، وما أوله غير مراد، فتأمل .
صفحة ٩٤
وشدت: معطوفة على حمت.
لطيات: متعلق بها، ونائب فاعل هو المطايا.
وأرحل: معطوف على المطايا، وما بين سيبويه والخليل خلاف مشهور في تعليل المطايا كالخطايا (1).
المعنى: مراده تحصيل الإياس لقومه من الإقامة، وتولعهم بالتأسف والندامة، وتحريض نفسه على الأسفار، والوقف على الطلول، متمثلا بقول الشاعر (2): [من البسيط]
يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال ... عذيب يوما ويوما بالخليصاء (3)
وما ذاك إلا أن ما يحتاج إليه المسافر تم وتيسر، والليل مضيء يتأنس به ولا يتعسر، ويهدي لمعالم الطريق، ولا يحتاج في ارائه إلى رفيق، وبأن المطايا في الأسفار قد زملت اقتابها (4)،وشدت أحلاسها (5) وأكوارها (6)،وما يستصحبه المسافر من الأرحل قد حضرت، ولا ثمة مانع للإعتذار، فلعمري لقد صدق بما قال، وعن الصواب ما حال، فإنه إذا كان الأمر كما ذكر ففيم الإقامة في نادي قوم لا يراعون ذمامه، ولا يرعون له ذمة، ولا يعبأون ويشاهدون له حرمة، ولا يرتضي المكث بدار الهوان، فتى عرضه عن الذل يصان [5و] وقال ابن مقرب (7): ... [من الرمل]
خلياني من وطاء أو وساد ... لا أرى النوم على الشوك القتاد
وارحلا من قبل أن لا ترحلا ... فالبلايا كل وقت في ازدياد
واتركاني من أباطيل المنى ... فهو بحر ليس يروى منه صادي
صفحة ٩٥
وابذلا في العز مجهودكما ... لا يلام المرء بعد الاجتهاد إنما تدرك غايات المنى ... بمسير أو طعان أو جلاد
تتمة (1):
جاء بطيات بصيغة الجمع تنبيها على أنه لا يعييه التنقل، بل كلما ناله ما يريبه تركه إلى ما سواه، ولا يحصل له مقر إلا بمكان يظفر به العز، كما قال أبو فراس الحمداني (2)
: [من الطويل]
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا بالمعالي نفوسنا ... ومن يطلب الحسناء لا يغله المهر (3)
وقول أبي تمام (4): [من البسيط]
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد (5)
تكملة:
ليس مراد الشاعر ذم عشيرته وأنه لا عز فيهم، لكن شكا من جفوتهم له مع كونه من أركانهم التي شدت بها أبنية مجدهم، كقول ابن قلاقس الشاعر (6): [من الطويل]
صفحة ٩٦
ولست ترى في محكم الذكر سورة ... تقوم مقام الحمد والكل قرآن (7) وهذا ذهب إلى قول أئمتنا (1) إن الفاتحة لا بد منها في كل ركعة مستدلين بقوله -عليه الصلاة والسلام-:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وفي لفظ:" لمن لم يقرأ الفاتحة " (2)،فان قلت: لم سميت بالسبع المثاني؟ قلت: لأنها تثنى في كل صلاة (3)،وأما أبو حنيفة (4) -رحمه الله تعالى - فاستدل على عدم فرضية الفاتحة بقوله تعالى: {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} (5)،فعلى هذا لا يحسن ما تقدم من معنى البيت، فتدبر.
وقد قال في مضمون ذلك أبو الغنائم محمد بن المعلم شعرا (6): ... [من الكامل]
سر طالبا غاياتهاإما ترى ... فوق الثريا أو ترى تحت الثرى
لا تخلدن إلى المقام فإنما ... سير الهلال قضى له أن يقمرا
لا تبك دارا فالفتى من إن دعا ... دمعا عصاه، وإن دعاه دما جرى (7)
وفي ما ذكرنا إشعار بان الله -تعالى -لم يجمع منافع الدنيا في أرض، بل فرقها وأحوج بعضها إلى بعض. وقد قيل: إن المسافر يجمع العجائب، ويكسب التجارب، ويجلب المكاسب. والأسفار مما تزيد علما بقدرة الله تعالى وحكمته، وتدعو إلى شكر نعمته، وليس بينك وبين بلد نسب، فخير البلاد ما حملك (8).
3 - ... وفي الأرض منأى للكريم عن الإذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
اللغة:
المنأى: بفتح الميم مصدر ميمي، وعليه اقتصر ابن هشام في شرحه بانت سعاد (9)،ويجوز أن يكون اسم مكان من: نأيته، ونأيت عنه أي: بعدت، ((والمنتأى الموضع البعيد)) (10).
صفحة ٩٧
الكريم: مأخوذ من الكرم، وهو محركة ضد اللؤم، كرم كرامة وكرما وكرمة محركتين، فهو كريم وكريمة وكرمة بالكسر، ومكرم ومكرمة، وكرام كغراب ورمان ورمانة، يجمع على كرماء وكرام وكرائم، ويا مكرمان للكريم الواسع الخلق، وكارمه [فكرمه] يكرمه كنصره غلبه فيه، وأكرمه وكرمه عظمه ونزهه، والكريم الصفوح، ورجل مكرام مكرم للناس، وله علي كرامة أي: عزازة (1).
الأذى: بفتح الهمزة مقصورا المكروه، يقال: آذاه يؤذيه أذى، خافه يخافه خوفا، وهو ضد الأمن وضد الشجاعة، إنما هو الجبن.
القلى: بالكسر البغض، وأما بالفتح فبالمد، يقال: فلان يقليه قلى وقلاء، ويقلاه لغة طييء (2)،قال شاعرهم (3): [من الهزج]
أيا من لست أقلاه ... ولا في البعد أنساه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
ويجوز أن يكون مصدر المعلوم والمجهول (4).
متحول: مصدر على صيغة اسم المفعول، ((وهو التنقل من موضع إلى موضع، والاسم الحول)) (5)،ومنه قوله تعالى: {لا يبغون عنها حولا} (6) وصيغة المصدر والزمان والمكان واسم المفعول من المزيد واحد، كذا قيل، فتأمل (7).
وقد رأيت في شرح السويدي (8) منقولا عن السيوطي لشرحه لبانت [6ظ] سعاد:"متعزل " مكان "متحول " وهو قريب منه من جهة المعنى.
صفحة ٩٨
الإعراب:
الواو عاطفة، والأظهر أن تكون للاستئناف، وفي الأرض: متعلق بمحذوف وجوبا خبر مقدم.
ومنأى: مبتدأ مؤخر.
للكريم: متعلق به، ومثله من الأذى.
وفيها: الواو عاطفة، خبر مقدم.
لمن: اسم موصول.
وخاف: صلته.
القلى: مفعول. والجار والمجرور متعلق بمتحول الذي هو المبتدأ.
المعنى:
إن الكريم بعيد عن الهوان والقلى، إذ الأرض عريضة الأرجاء، واسعة الفلا، وفيها تحول وتنقل لمن خشي أن يبغض أحدا، وتنزه عن أن يبغضه أحد، تالله لقد أصاب وحقق، وبالصدق توشح وتمنطق، حيث إن الأرض تقوم مقام غيرها وبها يرتاح، وربما يقع بجيران مكان جيرانه ويحصل له بقربهم الفلاح، والعاقل لا يسعه المكث بين ظهراني قوم لا يراعون ذمامه (1)،ويرتاح للهوان والأذى ويطلب الإقامة. وبعد هناء العيش والعز يمل ويبغض، بل شأنه التشبث بأذيال الهجرة والارتحال، وليس عن ترك الأوطان مجال، لكرامة نفسه ولذكاء غرسه (2)،ولذا عبر بالكريم عن المرء، قال أبو فراس (3): [من البسيط]
من كان مثلي فالدنيا له وطن ... وكل قوم غدا فيهم عشائره (4)
وقال ابن مقرب (5): [من البسيط]
آليت أنفك عن حل ومرتحل ... أو أن تقول لي الأيام خذ ودع
لا صاحبتني نفس لا تبلغني ... مراتب العز لو في ناظر السبع
صفحة ٩٩
لأركبن من الأهوال أعظمها ... هولا وما يحفظ الرحمن لم يضع أأقبل النقص (1) وألآباء منجبة ... والبيت في المجد ذو مرأى ومستمع
وقال مصعب الصقلي (2): [من الطويل]
إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي، وكل العالمين أقاربي (3)
وقال المتلمس (4): [من البسيط]
إن الهوان حمار الدار يألفه ... والحر ينكره والفيل والأسد
وقال أبو تمام (5): ... [من البسيط]
لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أرضا بأرض وجيرانا بجيران
وقال أبو الطيب (6): [من الخفيف]
صفحة ١٠٠
فآطلب العز في لظى وذر الذل ... ولو كان في جنان الخلود تتمة:
من أمثال العرب:"رهبوت خير من رحموت " (1)،معناه أن ترهب خير من أن ترحم، وهذا من دأب الكرماء قديما وحديثا، وأما اللئيم الدنى، فهو عبد بطنه، يطلب الأكلة ولو صفع وزجر ودفع، فما أحقه بقول الشاعر (2): [من البسيط]
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... وآقعد فانك أنت الطاعم (7ظ) الكاسي (3)
وقول الطغرائي (4): [من البسيط]
ودع غمار العلى للمقدمين على ... ركوبها وآقتنع منهن بالبلل (5)
تكملة:
أجواد الجاهلية الذين انتهى إليهم الجود ثلاثة نفر: حاتم بن عبدالله الطائي، وهرم بن سنان المري، وكعب [بن مامة] الايادي. ولكن المضروب به المثل: حاتم وحده، ومن خصاله إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد نارا في يفاع الأرض، لينظر إليها من ضل عن الطريق ليلا فيبادر إليها، وكان ينشد لغلامه (6): [من الرجز]
أوقد فان الليل ليل قر ... والريح يا موقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
وأما هرم بن سنان، فهو صاحب زهير، الذي يقول في حقه (7): [من الطويل]
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
صفحة ١٠١
فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله وأما كعب بن مامة الأيادي، فلم يأت عنه إلا ما ذكر عنه من إيثاره رفيقه السعدي (1) بالماء على نفسه، حتى مات عطشا، وأحيا السعدي، وناهيك بهذا الكرم الذي ما سبق إليه.
وأما أجواد الإسلام فأحد عشر رجلا في عصر واحد بعضهم قريب من بعض. أما أجواد الحجاز فثلاثة (2):عبيدا لله (3) بن (8و) العباس -رضي الله عنهما -،وعبدالله بن جعفر (4)،وسعيد بن العاص (5) -رضي الله عنهم -.وأجواد أهل البصرة خمسة متعاصرون أيضا: عبدا لله بن عامر (6)،وعبيدالله بن أبي بكرة (- رضي الله عنه -) -مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،ومسلم بن زيادة (7)،وعبيدالله بن معمر القرشي (8)،وطلحة الطلحات، وهو ابن عبدالله بن خلف الخزاعي (9).وأجواد أهل الكوفة ثلاثة متعاصرون: عتاب بن ورقاء الرياحي (11)، وابن خارجة (11)، وعكرمة الفياض (12).ووددنا أن نذكر بعض خصالهم، لكن تركنا ذلك خشية الإطالة.
صفحة ١٠٢
4 - ... لعمرك ما بالأرض ضيق على أمرئ ... سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
اللغة:
لعمرك: بالفتح وبالضم وبالضمتين: الحياة، إلا أنه في القسم لا يكون إلا مفتوحا كما هنا (1).
والضيق: مفتوحا ومكسورا مصدر ضاق الشيء يضيق، نقيض السعة، والضيق بالفتح جمع ضيقة، وهي: الفقر وسوء الحال (2)،وأضاقه وضيقه فهو ضيق وضيق وضائق، والضيق وهو: الشك في القلب، ويكسر، وما ضاق عنه صدرك، والمضيق: ما ضاق من الأماكن والأمور، ومنزل للقمر، وطريق بين الطائف وحنين، وعين قرب عيذاب، وضاق يضيق: بخل، وأضاق: ذهب ماله، وضايقه: عاسره، وخرق طبيب (3) تستضيق به المرأة (4).والأولان جائزان في هذه المقامة.
والامرؤ: الإنسان أو الرجل، فان جئت بهمزة (8ظ) وصل كما هنا كان فيه ثلاث لغات: فتح الراء على كل حال كما حكاه الفراء (5) (6)،وضمها على كل حال، وموافقة حركة الآخر على كل حال، أما تبعا لآخره كما يقول البصريون، واستقلالا كما يقول الكوفيون، تقول: هذا امرؤ، ورأيت امرأ، ومررت بامرئ (7)،ولاجمع له من لفظه، وهذه امرأة بالفتح لا غير.
سرى: بفتح السين من السرى بضمها مقصورا، وهو سير عامة الليل (8).
صفحة ١٠٣
راغبا: نعت إما من رغبت في الشيء إذا أردته، أو من رغبت عنه إذا لم ترده (1)،وكلا المعنيين محتمل في هذه اللفظة.
راهبا: نعت من رهب بالكسر، يرهب رهبا، ورهبا بالضم، ورهبا بالتحريك إذا خاف (2)،والاسم الرهبى ويضم، وترهبه توعده، والمرهوب: الأسد، والراهب: الناقة المهزولة، والجمل العالي، والرهبة: الرهبانية، قد يكون واحدا، جمع رهبانين ورهابنة ورهبانون، (ولا رهبانية في الإسلام )، هي الاختصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحوها (3).
صفحة ١٠٤
يعقل: بالفتح من العقل، وهو كما قال المجد اللغوي (4):العلم بصفات الأشياء من حيث الحسن والقبح والكمال والنقصان أو من حيث الإطلاع على خير الخيرين، وشر الشرين، أو مطلق لامور، أو اسم لقوة بها يكون التمييز بين الأولين (5). والحق أنه نور روحاني به تدرك النفوس العلوم الضرورية أو النظرية، وابتداء وجوده عند اختناس الولد (6)، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ، وجمعه عقول، عقل يعقل عقلا ومعقولا وعقل، فهو عاقل، وقد عقل كفرح، وتعاقلوا دم فلان عقلوه بينهم، ودمه (7) معقلة بالضم على قوم [غرم] (8) عليهم، والمعقلة الدية نفسها، واعتقل رمحه: جعله بين ركابه وساقه، والشاة وضع رجليها بين ساقه وفخذه فحلبها، والعقال: زكاة عام (1) من الإبل والغنم، ومنه قول أبي بكر-رضي الله عنه-: (لو منعوني عقالا) (2).
الإعراب:
لعمرك: اللام موطئة للقسم، وعمرك: مبتدأ مضاف إلى كاف الخطاب، وخبره محذوف وجوبا تقديره: قسمي، وهذا أحد المواطن التي يحذف فيها الخبر وجوبا، وقد أشار إليها ابن مالك بقوله (3): [من الرجز]
وبعد لولا غالبا حذف الخبر ... حتم، وفي نص يمين ذا استقر
وبعد واو عينت مفهوم مع ... كمثل كل صانع وما صنع
وقبل حال لا يكون خبرا ... عن الذي خبره قد أضمرا
ما: نافية.
في الأرض: متعلق بمحذوف وجوبا، خبر مقدم.
وضيق: مبتدأ مؤخر، وسوغ الإبتداء به مع كونه نكرة (4) تقديم الخبر عليه، ووقوعه بعد النفي، وعمله في محل على امرئ، لأن الجار والمجرور متعلق به.
سرى: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرىء، والجملة نعت له، إذ الجمل لها حالان: إن وقعت بعد معرفة يكون محلها نصبا على أنها حال، وإن وقعت بعد نكرة تكون نعتا لما قبلها، وإنما لم يعكس لاشتراط تعريف صاحب (9ظ) الحال، مع أن احتياج النكرة إلى الوصف أشد من احتياجها إلى الحال.
صفحة ١٠٥