وقبل هذا البيان بسنة واحدة نشر اليهود في باريس دعوة للاجتماع بها، والاتفاق مع الحكومة الفرنسية على رد الصهيونية إلى وطنها، وذكروا أن ذلك الوطن يشمل الوجه البحري من القطر المصري، مضافا إليه إقليم يحده خط من عكا إلى البحر الميت، وخط من جنوب البحر الميت إلى البحر الأحمر، وأنهم باستيلائهم على هذه المملكة يسيطرون على تجارة الهند وبلاد العرب وإفريقية الشرقية وإفريقية الجنوبية، وأن مجاورة هذه المملكة لحلب ودمشق تيسر لهم سبل التجارة مع البلاد الفارسية، وتفتح لهم من طريق البحر الأبيض المتوسط أسواق إسبانيا وفرنسا وسائر أنحاء القارة الأوروبية، وتصبح هذه المملكة من مركزها في وسط العالم مستودع المحاصيل العالمية فتمنح فرنسا - في مقابلة المعونة على رد اليهود إلى وطنهم وحمايتهم فيه - جزاء ماليا وافيا، وحصة كبيرة من التجارة وأرباحها.
وجاء في الدعوة اليهودية أن المقترحات التي عرضت في الوقت نفسه على الدولة العثمانية ستظل في طي الكتمان، وأن المعول فيها على حكمة المجلس المشرف على هذه الدعوة، وعلى حسن النية من جانب الأمة الفرنسية.
هذه الدعوة نشرت بنصها في كتاب سوكولوف
Sokolow
عن تاريخ الصهيونية من سنة 1600 إلى سنة 1918، ونشر فيه كذلك بيان نابليون وبعض التعليقات التي تكشف القناع عن دخائل المناورة وحواشيها.
وواضح من خطة نابليون أنه لم يكن يريد المعونة العسكرية من الصهيونيين، وأن الفرق المزعومة التي قال إنها تهدد مدينة «حلب» لم يكن لها وجود، وإنما أراد بها معونة الأيدي الخفية في مراكز السياسة العليا، كما أراد معونة المال إذا ضنت بها خزانة الدولة.
هذا مثل من الأمثلة على أساليب الصهيونية في علاقتها بالسياسة الشرقية، وأخصها سياسة فلسطين والديار المصرية.
تستطلع الأسرار، وتحس بوادر الخطط الخفية قبل تنفيذها، وتحاول أن تساوم عليها، فلا تعدم من يقبل هذه المساومة مخلصا أو غير مخلص في مقصده، وتجعل المصلحة المتبادلة ضمانا بعد ذلك لدوام المنعة بين الطرفين.
فقبل حملة نابليون بسنة كانت الصهيونية على علم بموعدها، وكان سفراؤها في باريس يساومون عليها، ولا ينسون السفارة عند السلطان العثماني، متكتمين طبيعة تلك المساومة، ولكنها ظاهرة من قرائنها، ولا بد فيها من عنصر الرشوة وعنصر الحريم.
وبعد قرن على التقريب، بدأت طلائع الحملة الإنجليزية، وعملت فيها الصهيونية عملها الظاهر والخفي على نحو من هذه الأساليب.
صفحة غير معروفة