1 - الصهيونية قبل الميلاد
2 - الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
3 - الصهيونية منذ وعد بلفور
4 - الصهيونية العالمية
5 - الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم
6 - الصهيونية العالمية دعوى الاضطهاد
7 - الصهيونية العالمية والنبوغ
8 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين السياسة والاقتصاد
9 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين الثقافة
10 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في المجالس النيابية
صفحة غير معروفة
11 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في السياسة الشرقية
12 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (1)
13 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (2)
14 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (3)
15 - عصبية الصهيونية في ميدان الثقافة والسياسة
16 - مصير الصهيونية العالمية والأسباب الدولية
17 - مصير الصهيونية العالمية ونفوذها المهدد
18 - مصير الصهيونية العالمية وبنيتها المتناقضة
19 - الصهيونية العالمية مصيرهم في أعينهم
20 - مصير الصهيونية العالمية في أعين أصدقائهم
صفحة غير معروفة
21 - مصير الصهيونية العالمية ومقاطعة العرب
22 - الاستعمار الصهيوني
23 - الصهيونية والمستقبل
24 - الصهيونية العالمية في الختام
1 - الصهيونية قبل الميلاد
2 - الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
3 - الصهيونية منذ وعد بلفور
4 - الصهيونية العالمية
5 - الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم
6 - الصهيونية العالمية دعوى الاضطهاد
صفحة غير معروفة
7 - الصهيونية العالمية والنبوغ
8 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين السياسة والاقتصاد
9 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين الثقافة
10 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في المجالس النيابية
11 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في السياسة الشرقية
12 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (1)
13 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (2)
14 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (3)
15 - عصبية الصهيونية في ميدان الثقافة والسياسة
16 - مصير الصهيونية العالمية والأسباب الدولية
صفحة غير معروفة
17 - مصير الصهيونية العالمية ونفوذها المهدد
18 - مصير الصهيونية العالمية وبنيتها المتناقضة
19 - الصهيونية العالمية مصيرهم في أعينهم
20 - مصير الصهيونية العالمية في أعين أصدقائهم
21 - مصير الصهيونية العالمية ومقاطعة العرب
22 - الاستعمار الصهيوني
23 - الصهيونية والمستقبل
24 - الصهيونية العالمية في الختام
الصهيونية العالمية
الصهيونية العالمية
صفحة غير معروفة
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
الصهيونية قبل الميلاد
يغلب على ظن الكثيرين أن الصهيونية حركة دينية قديمة، وأنها مرتبطة بما ورد من الوعود للخليل إبراهيم - عليه السلام.
والواقع أنها ليست بالحركة الدينية، وليست بالحركة القديمة في بني إسرائيل أنفسهم، ولكنها حركة سياسية تابعة لقيام الدولة وسقوطها في بيت داود.
فغاية ما بلغه إبراهيم - عليه السلام - تحت قمة صهيون أنه اشترى قبرا هناك بالمال، كما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين في العهد القديم.
ومضت القرون بعد إبراهيم إلى عهد موسى - عليه السلام، ثم مضت القرون بعد موسى والحال على ما كانت عليه، وبقيت مدينة بيت المقدس في أيدي اليبوسيين، وجاء في سفر القضاة من العهد القديم أن بني بنيامين كانوا يسكنون مع اليبوسيين، ولا يدعون معهم حقا في المدينة، ثم أغار بنو يهودا عليها فدمروها وأحرقوها، ولم يخطر لهم أن يتخذوا فيها مقاما ذا قداسة عندهم أو غير ذي قداسة. وعاد إليها اليبوسيون فجددوها وأقاموا فيها إلى أن تولاها داود، وخلفه سليمان فبنى فيها الهيكل المشهور. ولم يتفق اليهود أنفسهم على قداستها بعد قيام الهيكل فيها، فإن الملك «يهواش» ملك إسرائيل أغار عليها، واستباح هيكلها، وغنم ما فيه من التحف والآنية، ثم قفل إلى السامرة، وجاء في العهد القديم خبر وفاته على الصيغة المرضية فقيل عنه إنه اضطجع مع آبائه، أي قضى على الأقل غير مغضوب عليه.
وإذا رجعنا إلى كلمة «صهيون» نفسها لم نجد لها أصلا متفقا عليه في اللغة العبرية، وأكثر الشراح يرجحون أنها عربية الأصل لها نظير في اللغة الحبشية، وأنها من مادة الصون والتحصين، وكانت فعلا من حصون الروابي العالية. والمقصود بالعربية هنا لغة الأصلاء من أبناء الجزيرة الذين سكنوا أرض فلسطين قبل هجرة العبرانيين بمئات السنين، وهم الذين أطلقوا على الأرض اسم أرض كنعان بمعنى الأرض الواطئة، ولا تزال مادة كنع وقنع وخنع بهذا المعنى في لغتنا العربية الحاضرة.
والكلمة تكتب في العبرية تارة بالسين وتارة بالزاي، ولم يحرص عليها اليهود بعد دخولها في حوزتهم، بل جاء في سفر صمويل الثاني أن داود غير اسمها باسم بيت داود ولم يشأ أن ينقل تابوت الرب إليه بل مال به إلى بيت عوبية. كذلك كان شأن صهيون قبل سبي بابل، فلما حمل اليهود إلى الأسر أصبح الحنين إلى صهيون رمزا للحنين إلى عودة المملكة الغابرة. وتحولت الوعود الإلهية في كتبهم تحولا جديدا مع مصالح السياسة، فانحصرت في ذرية داود - عليه السلام - ليخرج منها غير ذي الذرية من اليهود.
صفحة غير معروفة
وليس هذا بالتحول الأول عندهم في هذه الوعود على حسب المصالح السياسية؛ فقد كان الوعد لإبراهيم فحولوه إلى إسحاق ليخرجوا منه أبناء إسماعيل، ثم حولوه إلى يعقوب ليحصروه في سلالة إسرائيل، ثم حولوه إلى ذرية داود لينحصر في مملكة الجنوب دون مملكة الشمال. وهكذا كان وعد صهيون (وعدا سياسيا) تابعا لمآرب الدولة ومآرب الهيكل الذي يقام في جوارها، فلا شأن له بالعقيدة الدينية التي تشمل جميع سلالة إبراهيم.
وفي الأسر البابلي تعلم اليهود بقايا الديانة القديمة، وما احتوته من البشائر عن عودة (مروخ) إلى الأرض، وعودة رسول النور كل ألف سنة إليها لإصلاح فسادها، فتعلقت آمالهم بعودة المملكة على يد بطل من أبطال الغيب، ولم يكن هذا البطل مقصورا عندهم على ذرية داود، بل زعموا مرة أنه هو «كورش» الفارسي الذي سمي بالمسيح في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا. ولبثوا دهرا يتخيلون المسيح الموعود ملكا صاحب عرش وتاج، يفتتح بيت المقدس بالسيف، ويعيد فيها الدولة الدائلة. ثم يئسوا مع الزمن من تجدد المملكة بقوة السلاح فعلقوا الرجاء بالرسول المختار من عالم الروح، وقيل في وصفه كما جاء في سفر زكريا «أنه عادل ومنصور ووديع يركب على حمار ابن أتان».
ولما بعث المسيح - عليه السلام - أنكر كهان الهيكل بعثته وآمن به بعض اليهود وبعض أنباء الأمم المقيمين في فلسطين، واحتج القوم عليه بوعد إبراهيم، فقال لهم: إن أبناء إبراهيم بالروح هم الموعودون بالخلاص، فكل من آمن بدينه فهو من أبنائه، ولا فرق بين اليهودي واليوناني، لأن ربا واحدا للجميع. كما جاء في الرسالة إلى رومية.
وقد حدث في عصر السيد المسيح أن اليهود تفرقوا في أنحاء الدولة الرومانية، واتخذوا لهم وطنا في كل قطر من أقطارها الواسعة، فكتب فيلون فيلسوف الإسكندرية اليهودي يقول في تحديد موقفهم من الدولة: «إن اليهود - لكثرة عددهم - لا تحتويهم بقعة واحدة، ويتفرقون لطلب الرزق في أغنى البلاد من أوروبا وآسيا، على أنهم ينظرون إلى أورشليم مقر هيكل الله المقدس كأنها حاضرتهم الكبرى، ويحسبون وطنا لهم كل أرض عاشوا فيها وعاش فيها آباؤهم وأجدادهم من قبلهم.»
والكلمة التي عبر بها فيلون عن الحاضرة هي الكلمة اليونانية «متروبوليس
Metropolis » أي أم المدن من كلمة «متري» بمعنى أم وبوليس بمعنى مدينة، وتطلق على كل مركز مهم من مراكز المعابد أو الدواوين.
فالصهيونية في الزمن القديم لم تكن عقيدة دينية، بل كانت نزعة سياسية، ثم ذهب الأمل في نجاحها السياسي، فانقطعت العلاقة بينها وبين معناها الجغرافي، وأطلقت في بعض التعبيرات على معنى آخر بعيد كل البعد من المعاني الجغرافية، وذاك حيث يقول صاحب الرسالة إلى العبرانيين من الإنجيل «إنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار ... بل أتيتم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية ... وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلى الله ديان الجميع.»
وواضح من تعبير هذه الرسالة أن الصهيونية قد تحولت إلى فكرة لا تتعلق بمكان معين، ولا تتطلب العودة إلى فلسطين، ولذلك ناهضها المتدينون من اليهود عند ظهور الدعوة إليها، واعتبروا هذه الدعوة تجديفا وإنكارا للمسيح المنتظر في عالم الروح، فتلاقت عقيدة المسيحيين المؤمنين بالمسيح - عليه السلام - وعقيدة اليهود الذين ينتظرونه في آخر الزمان، فاتفقتا على شيء واحد، وهو الفصل بين الصهيونية السياسية والفكرة الدينية.
والواقع أن الصهيونية كأختها القديمة: كلتاهما وليدة السياسة والسياسيين، أيا كان السبب الذي تستند إليه.
وجملة أسبابها - كما يذكرها المؤرخون لها - هي الاضطهاد وظهور الفكرة القومية ومطامع الاستعمار.
صفحة غير معروفة
لهذا نشأت أول الأمر في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، حيث بلغ الضغط على اليهود أشده في القرن التاسع عشر، ثم نشأت مع المسألة الشرقية واستخدمها الساسة لتحقيق مطامعهم في بلاد «الرجل المريض» ... أي الدولة العثمانية كما سماها رواد الاستعمار.
فلما اتجهت أوروبا كلها إلى طرق المواصلات بين الشرق والغرب خلال الدولة العثمانية، أراد نابليون أن يستخدم اليهود للسيطرة على التجارة في هذه البقاع، فنشر بالصحيفة الرسمية إعلانا دعا فيه يهود إفريقية وآسيا إلى موافاة جيشه بمصر، ليدخلوا معه إلى أورشليم، وراجت في باريس سنة 1798 دعوة يهودية إلى اغتنام الفرصة، للاستعانة بفرنسا على تنظيم أعمالهم التجارية بين الوجه البحري في مصر وعكا والبحر الميت وشواطئ البحر الأحمر.
ولم تكد هذه الدعوة تحبط بحبوط حملة نابليون حتى تصدى الإيرل أوف شافتسبري الإنجليزي سنة 1842 لتبنيها واحتضانها، منعا لتنفيذها على يد دولة أخرى، وعلى الخصوص الدولة الروسية، فوضع مشروعا سماه مشروع «الأرض بغير شعب للشعب بغير أرض»؛ ويعني بالأرض مكانا خاليا يصلح للاستعمار الزراعي في أنحاء فلسطين، ثم انعقد مؤتمر برلين وهذه الفكرة الشائعة فيه بين الأروقة يزجيها رجال المال من وراء الستار.
ولما فوتح السلطان عبد الحميد الثاني في هذه المسألة أراد بدهائه المعروف أن يسخرها لغرضين من أغراضه: وهما الحصول على القروض بأيسر الشروط، واستخدام اليهود في رد حملات التشهير التي كانت تنهال عليه باسم المذابح الأرمنية. وسنرى فيما يلي من الكلام عن أطوار هذه المسألة أنها كانت - ولا تزال - ألعوبة من ألاعيب السياسة التي تتوارى خلف ستار من الدين، ولكننا - قبل أن ننتقل إلى الصهيونية بعد العصر القديم - نود أن نميط الستار عن حقبة أخرى ترتبط بتاريخ الصهيونية، ويتجاهلها الذين تذرعوا باسم الإنسانية لتعليل هذه الحركة الجهنمية.
فهم يقولون - ولا يملون تكرار القول - إن الاضطهاد هو علة الصهيونية الأولى، وإن قيام الصهيونية يقضي على هذه العلة أو يمنع تجديدها.
والحقيقة التي نريد أن نقررها هي أن الاضطهاد نتيجة لداء مزمن في اليهود سيبقى معهم في دولتهم الجديدة كما كان معهم في دولتهم القديمة.
فمن الذي اضطهد اليهود في مملكة سليمان حتى انقسمت على أهلها ثم انقسم كل شطر من شطريها على أهله؟
ومن الذي اضطهدهم يوم تمردوا على كل نبي من أنبيائهم، وكل قائد من قادتهم، وهم بعيدون من سلطان غيرهم؟
إن القرآن الكريم قد وصفهم حقا حيث قال عنهم:
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى . ولم يصفهم القرآن الكريم إلا بما وصفتهم به كتبهم ورسلهم من أقدم عصورهم إلى ما بعد عصر المسيحية.
صفحة غير معروفة
ففي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية يقال لهم بلسان الرب: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
وفي الإصحاح التاسع من سفر نحميا أنهم «أعطوا كتفا معاندة، وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا».
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر أرميا أنهم «قسوا أعناقهم لئلا يسمعوا ولئلا يعقلوا».
وفي أعمال الرسل أنهم غلاظ الرقاب. وفي غير هذه الكتب إجماع على غلظ رقابهم، وشكاستهم، وامتناع الوفاق بينهم. وهذه هي الآفة التي لا تفارقهم في دولتهم الجديدة، وما فارقتهم قط في دولتهم الغابرة، حتى قضوا عليها قبل أن يقضي عليها أعداؤها. وقد جروا على أنفسهم الاضطهاد في كل بقعة وفي كل عصر. وبين كل قبيل، فليس من المعقول أن تكون العلة في غيرهم، وليس للأمم من حيلة معهم إلا أن تخضعهم آخر الأمر أو تخضع لهم برمتها، وإنه لهو المستحيل بعينه على كل فرض من الفروض، وإنما آفة القوم الكمينة فيهم أنهم كائن ممسوخ من الوجهة الاجتماعية؛ لأنهم جماعة مقتضبة لم تصبح أمة، ولم ترجع إلى نظام القبيلة البدوية، واشتبكت مع العالم وهي في مرحلة غير نامية وغير صالحة للنمو على حدة، فكل علاج لها ميئوس من جدواه، ما لم يغلبها العالم على طبيعتها ويدمجها اضطرارا في طوية أممه، وسوف يكون ذلك لا محالة؛ لأن غيره لن يكون.
الفصل الثاني
الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
منذ القرن الأول للميلاد لم يطرأ على «الصهيونية» شيء جديد قبل القرن التاسع عشر، فكل ما عرفه اليهود عن الصهيونية في عصر السيد المسيح بقي كما في القرون الوسطى وفيما تلاها من قرون النهضة والإصلاح إلى أوائل القرن التاسع عشر؛ أي إلى القرن الذي يصح أن يسمى في وقت واحد بعصر الثورة، وعصر الاستعمار، وعصر الصناعة الكبرى، ولكل صفة من هذه الصفات علاقة باليهودية لا تخفى على النظرة العاجلة، ولكنها تستحكم وتتغلغل في جميع الجوانب بعد إنعام النظر إليها.
كان اليهود يعيشون في أرجاء الدولة الرومانية بين أناس يخالفونهم في العقيدة، وكانوا يعزلون أنفسهم عن المجتمع باختيارهم، وينشئون في أنحاء الدولة مراكز متفرقة للمعاملات التجارية، وشئون الصيرفة، ومبادلة السلع والنقود، ولكنها متفقة فيما بينها على قصد وعلى غير قصد لانعزالها في كل بقعة على حدة، فإذا سافر اليهودي من الإسكندرية إلى روما علم قبل سفره أن هناك بيئة مماثلة لبيئته، يذهب إليها ليستعين بها على عمله، ويشترك معها وبإرشادها في استغلال من حوله. وكان هذا الاستغلال بطبيعته سببا لنقمة الفقراء والأغنياء في وقت واحد، فكان اليهود عرضة لغضب المعوزين كما كانوا عرضة لغضب المدينين وأصحاب المحصولات الزراعية من الضياع الواسعة، وبخاصة في إبان الأزمات والحروب الخارجية والأهلية، وقد كانت تتعاقب على كثرة من قبيل انهيار الدولة الرومانية.
وكلما كثرت الحروب وضح لأبناء الأمم المختلفة أن هذا الشعب المسمى «اليهود» متفق عليهم، متفاهم فيما بين أبنائه على ابتزازهم واستباحة أموالهم وأرزاقهم؛ لأنه يعتزلهم كافة بمجتمعه في كل بقعة، ثم يرتبط بالمعاملة بينه وبين أبنائه في المعسكرات المتقاتلة، ولا ينظر اليهودي إلى زميله نظرة العداء والمقاطعة، وإن قطعت الحروب والفتن بين البلدين.
ودانت أمم الغرب بالمسيحية شيئا فشيئا فلم تتغير هذه الحالة، بل جد عليها سبب مفهوم، للتقاطع بين اليهود والمسيحيين، وهو عداء اليهود للسيد المسيح، فعاش اليهود في عزلتهم، وتعرضوا من جراء هذه العزلة لتهم كثيرة وشبهات أكثر، حتى شاع عنهم في أيام الوباء أنهم هم الذين يسممون الماء والطعام.
صفحة غير معروفة
وضاعف الاشتباه فيهم أنهم كانوا ينفردون بمطاعمهم في المدن، وقلما يؤاكلون أحدا في الريف.
وحدث غير مرة أن اليهود كانوا ينصرون كل مغير على البلد الذي يقيمون فيه، وحدث غير مرة أنهم كانوا يصاحبون الجيشين المتقاتلين لشراء الأسرى، وبيع المؤنة، وبذل القروض، ثم يتقابلون على تفاهم عند «تصفية الأعمال» والمساومة، فوقر في أخلاد الأمم أنهم شعب غريب.
وكان شعورهم نحو بيت المقدس خلال هذه القرون لا يتجاوز شعور الحنين إلى مجد قديم، وانتظار الوقت الموعود في الزمن الذي يختاره الله، ولا شأن لهم بتقديمه أو تأخيره مع المشيئة الإلهية، وأصبحت الصلوات التي يعيدونها كل يوم أو كل أسبوع طلبا للرضوان الإلهي، ألفاظا تعاد على الأكثر بغير معنى، كأنها الدعوات التي يرددها الجهلاء من أتباع كل نحلة، وهم لا يفقهون معناها.
ويسجل التاريخ الأوروبي على اليهود أنهم كانت لهم مشاركة في كل فتنة وكل إغارة، ولكن المؤرخين يختلفون في تعليل هذه المشاركات المتواترة؛ فيعزوها بعضهم إلى المصادفة لوجود اليهود في كل بيئة، ويعزوها بعضهم إلى شعور النقمة الطبيعي على كل سلطان غاشم يخضع له المحكومون على رغم واضطرار، ويعزوها بعضهم إلى التدبير المتعمد لهدم المجتمع المسيحي من داخله وتقويض دعائم الدولة والكنيسة في وقت واحد، ومما قيل وأصر القائلون عليه أنهم أسسوا جماعة البنائين الذين اشتهروا باسم الماسون، وقرنوا بين التعاهد على بناء الهيكل وبين هذه التسمية وما يتصل بها من المصطلحات والشعائر، وقيل غير ذلك كثير مما تتشعب فيه الظنون ولا حاجة إلى استقصائه لأن الظواهر تغني فيه عن الأسرار.
وكان يتفق في بعض السنين أن يتجه اليهود والمسيحيون معا إلى بيت المقدس، على أثر الإشاعات «الفلكية» التي يزعمها أناس من المنجمين موعدا لعودة المسيح - عليه السلام - فتكثر الهجرة إلى المشرق على اعتقاد المهاجرين جميعا أن الدنيا تنتهي بهذه العودة الموعودة، وليست فكرة الوطن القومي مما يدخل في هذا الاعتقاد، بل كان من المسيحيين من يرى أن ارتداد اليهود عن كفرهم بالديانة المسيحية شرط لقيام الساعة، فلا أمل لهم قبل ذلك في اليوم الموعود.
أما فكرة «الوطن القومي» فلم تنشأ قبل عصر النهضات الوطنية، ولم يسمع فيه صوت لليهود إلا لأن هذا العصر كان كذلك عصر الصناعة الكبرى وعصر الاستعمار.
فلا يخفى أن الاستعمار قد بدأ بالتجارة، وأن طريق الهند كان أهم الطرق التجارية في العالم القديم، ومن ثم كثر الاهتمام بفلسطين ومصر، وارتفع في المجامع الدولية صوت اليهود لاتصالهم في وقت واحد بالتجارة وبهذه البلاد، واشتبكت مسألة القروض بمطامع المستعمرين في أقطار الدولة العثمانية، فلم ينظر الأوروبيون إلى مطالب اليهود كأنها مطالب منفصلة تعنيهم وحدهم ويغارون عليهم من أجلهم، ولكنهم جعلوها من الوسائل المعول عليها في خدمة السياسة والاستعمار.
وأثار القرن التاسع عشر مسألتين لا مسألة واحدة فيما يرجع إلى موقف اليهود من العصر الجديد.
أثار مسألة القومية اليهودية؛ لأن القومية كانت على كل لسان في البلاد التي يكثر فيها اليهود خاصة كبولونيا ورومانيا وإسبانيا وهولندة، فخطر لليهود أن يطالبوا بقومية مستقلة، وأن يطالبوا لهذه القومية بوطن تساعدهم الدول على احتلاله.
وأثار القرن التاسع عشر مسألة المساواة في الحقوق العامة، فاعترف بعض الأمم لليهود بالمساواة بينهم وبين غيرهم من أبنائها.
صفحة غير معروفة
واعترضت أمم أخرى على اعتبار اليهود من الوطنيين: لأن الوطنية لا تقبل الولاء لوطنين اثنين، وكان اليهود قد أخذوا في ذلك الوقت ينادون بالوطن القومي على اختلاف بينهم على موقعه: أين يكون وكيف يكون؟
وفي هذه المرحلة صدر كتاب موريتس هيس
Moritz Hess
بعنوان رومة أورشليم، ومداره كله على ضرورة الاعتراف بوطنين للشعب اليهودي، وعلى اعتبار أورشليم مركزا لليهودية كما تعتبر رومة مركزا للكنيسة المسيحية الكبرى.
ومما يؤيد تلفيق الدعوى الدينية في مسألة الصهيونية الحديثة، أن إمام هذه الصهيونية الأكبر تيودور هرزل لم يفكر فيها إلا بعد سنوات من صيحته الأولى في سبيل «خلاص اليهود»، وإنما كانت فكرته الأولى تحويل اليهود إلى المسيحية، وإنشاء مدرسة في فيينا لابتداء هذه المحاولة، وإقناع الجاليات اليهودية بين الأمم الأخرى بمحاكاتها، ثم نظر اليهود فوجدوا لهم «لزوما» في دسائس الاستعمار ومساعيه الخفية الظاهرة، ووجدوا لهم «لزوما» في عصر الصناعة والطرق التجارية خلال بلاد الدولة العثمانية، ووجدوا لهم «لزوما» في عصر المسألة الشرقية وتفاهم الدول المستعمرة على تقسيم تركة الرجل المريض ومنها فلسطين، فجاءت الصهيونية بعد ذلك كله «وليدة» السياسة كما كانت وليدة لها في أقدم عهودها.
وقبل أن تشتبك الصهيونية والمطامع الدولية خطر لليهود أن يصححوا مراكزهم ويلائموا بينهم وبين العصر الحديث بوسائل متعددة. لم تعرض لهم فكرة «الوطن القومي» إلا في نهاية المطاف.
فأنشئوا جماعة هكسالا أو «شكل» في ألمانيا لتجديد العقيدة والتوفيق بين التربية الدينية والتربية العصرية، وأنشئوا جماعة «حلوقة» على غرار الجماعة القديمة التي كانت تجمع التبرعات من أنحاء الأرض، لإيواء الشيوخ والعجزة في أورشليم وصفد وطبرية وغيرها من مواقع فلسطين التي يكثر فيها اليهود، وطمع بعضهم بقيادة موسى مونتفيور في شراء البقاع الواسعة في فلسطين من محمد علي الكبير لتعميرها بالزراع من المهاجرين، وتألفت في الآستانة جماعة اليهود الروس المعروفين باسم «بيت يعقوب» لتشجيع الهجرة بعد استئذان السلطان.
فلما شعر اليهود بسهولة الطمع في «الوطن القومي» رفضوا هذه المحاولات جميعا، واندفعوا إلى فكرة «الدولة اليهودية» ولم يقنعوا بالوطن القومي لمجرد السكنى والتعمير.
ولكنهم - حتى في هذه المرحلة - لبثوا مترددين في اختيار الموقع بين أوغندة في إفريقية، وإقليم من الأقاليم الخالية في الولايات المتحدة، وبقعة من البقاع على البحر الأسود بين روسيا والبلقان، وكانت طائفة من أقوى جماعاتهم الدولية وأكبرها - وهي طائفة عقودة إسرائيل - تعارض فكرة الوطن القومي إلى أيام الحرب العالمية الأولى، ولم تعدل عن معارضتها إلا بعد إعلان وعد بلفور.
وظلت فكرة الوطن القومي، أو فكرة الدولة اليهودية، كالسحاب الذي يتشكل على حسب أوهام الناظرين إليه، حتى أوشك القرن التاسع عشر أن ينتهي دون أن تستقر على وضع محدود، ثم تبلورت على شكل ثابت في مؤتمر بال بسويسرة سنة 1897، وتم تشكيلها على الوضع الأخير بوعد بلفور بعد عشرين سنة.
صفحة غير معروفة
أما مؤتمر بال المسمى بالمؤتمر الصهيوني، فقد أصدر في اليوم الثاني من أيام انعقاده قرارا يقول فيه تعريفا للصهيونية إنها حركة ترمي إلى إنشاء وطن للشعب اليهودي شرعي معترف به في أرض فلسطين، ويرى المؤتمر أن الوسائل الآتية صالحة لتحقيق هذا الغرض وهي: (1)
ترقية اليهود المقيمين بفلسطين في أعمالهم الزراعية والصناعية والتجارية. (2)
تأليف اليهود في جميع البلدان جماعات محلية، أو جماعات عامة على حسب القوانين المرعية في تلك البلدان. (3)
تقوية الوعي اليهودي حيث كان. (4)
اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على السند الضروري من الحكومات.
ثم نشبت الحرب العالمية، فاتصل الصهيونيون بالمعسكرين وساعدتهم ألمانيا والنمسا عند الباب العالي لتحقيق هذا المطمع في فلسطين، وعلم جمال باشا أنهم يمهدون لانتصار دول الغرب على دول أوروبا الوسطى فاشتد في مقاومة مشروع التعمير، واتفق في أثناء ذلك أن أستاذا كيمائيا في جامعة مانشستر كشف طريقة لاستخراج المواد اللازمة للمفرقعات من بعض الحبوب، فطلبت الجامعة مكافأته، وأبى هو أن يطلب شيئا لنفسه، قانعا بوعد من الحكومة البريطانية أن تصغي إلى مطالب قومه.
هذا الأستاذ هو الدكتور حاييم وايزمان الذي اشتهر بعد ذلك في زعامة الحركة الصهيونية، وشفاعته هذه كانت المقدمة «المرغوب فيها» لإعلان وعد بلفور، ولكنه لم يعلن يومئذ في البلاد العربية، بل حظرت الإشارة إليه في الشرق العربي كله إلى ما بعد الهدنة بشهور، وما كانت شفاعة الدكتور وايزمان إلا تعلة لإصدار هذا الوعد الذي كان جزءا من السياسة البريطانية العامة ومعدا قبل إعلانه لتنفيذه في الوقت المناسب، وقد كان في طريق التنفيذ بغير هذه الشفاعة، وإنما أصدرته الحكومة البريطانية ليكون ثمن الدعاية الصهيونية في الولايات المتحدة كي تحصل بريطانيا على المساعدات الأمريكية التي كانت في حاجة ملحة إليها للمضي في الحرب العالمية الأولى.
الفصل الثالث
الصهيونية منذ وعد بلفور
دخلت الصهيونية في دور العمل السياسي النافذ بعد وعد بلفور، وانتداب بريطانيا العظمى لإدارة فلسطين.
صفحة غير معروفة
وترجمة هذا الوعد «أن حكومة جلالته تنظر مع الموافقة إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي بفلسطين، وستبذل أفضل مساعيها لتيسير الوصول إلى هذا المطلب، مع العلم بأنه لن يعمل شيء يمس الحقوق المدنية أو الدينية للطوائف التي تسكن فلسطين الآن من غير اليهود، أو يمس الوضع السياسي المخول لليهود في أي بلد آخر».
ويخيل إلى بعضهم من اليهود ومن العرب أن هذا الوعد منتزع أو مغصوب بحكم الضرورات الحربية، ولكنه في الواقع جزء من سياسة عامة تتناول الشرق الأدنى برمته ومنه فلسطين وسائر البلاد العربية، فهذا الوعد هو الجزء المقابل لوعود أخرى بذلت للأمراء في بلاد العرب التي خرجت من حكم الدولة العثمانية. ومن سخرية القدر أن نرجع اليوم إلى أقوال زعماء اليهود بعد استقرار الانتداب البريطاني على فلسطين نحو عشر سنين، فقد كان اللورد ملشت الصهيوني الإنجليزي يقول في سنة 1936: «إن إقامة ثلاثة ملايين من اليهود في فلسطين سوف يقضي إلى الأبد على احتمال نجاح الثورة التي تهب على دولة الانتداب ...» وكان بن غريون رئيس الوكالة اليهودية يقول: «من خان بريطانيا العظمى فقد خان الصهيونية.»
وكان غيره يصرحون بأمثال هذه التصريحات ولا يقتصدون فيها. ولو اطلع أحد على الغيب في تلك الآونة لقال مع أبي العلاء: «وتقدرون فتضحك الأقدار ...»
ومن الواجب على الدوام تذكر المناورات السياسية التي أدت إلى قيام الوطن القومي في فلسطين، فكل ما كان وليدا لهذه المناورات قد يموت بها في يوم من الأيام، ولا سيما وليد التلفيق، أو وليد المفاجآت.
إن الواقع المحقق في مسألة الصهيونية أن اليهود يستغلون الدول، والدول تستغلهم، وهذا الواقع المحقق وحده هو الذي يقرر لنا أن العامل المهم في بقاء الصهيونية بفلسطين يتوقف على إرادة الأمم العربية في نهاية المطاف، فلن تدوم الصهيونية في الشرق الأدنى إذا عملت أمم العرب على أن تموت ولا تدوم.
وقد تكون الشعوب بمأمن من تقلبات السياسة لو أنها نشأت نشأة طبيعية على أساس قويم، أما أن تكون تقلبات السياسة هي مادة وجودها ومادة بقائها، فهي حالة لم تعرف لها سابقة في التاريخ.
عالجت بريطانيا مشكلة الانتداب فلم يسلس مقادها في يديها بعد عشرين سنة من وعد بلفور، فقسمت فلسطين شطرين بينهما شقة مستقلة في الناصرة وبيت المقدس، وأبى العرب واليهود هذا التقسيم، فاقترح العرب حكومة وطنية تراعى فيها مصالح الأقلية، واقترح اليهود حكومة يهودية تعيش فيها الأكثرية عالة على اليهود مع فتح أبواب الهجرة لهؤلاء بغير قيود ولا حدود، ثم مضت سنتان وأعلنت دولة الانتداب قيام الحكومة اليهودية على أن تصبح فلسطين بعد عشر سنين حكومة اتحادية، وسمحت بدخول خمسة وسبعين ألفا من المهاجرين اليهود خلال السنوات الخمس الأولى بعد سنة 1939، فكانت لجنة الوصاية بعصبة الأمم أول المعترضين على هذا الحل، واضطرمت نيران الحرب العالمية الثانية دون أن ينقض أو يوقف عن التنفيذ.
ثم تأسست الجامعة العربية في أعقاب الحرب العالمية، وتكرر العدوان في أواخر تلك الحرب من عصابات الإرهاب الصهيونية، وأشهرها عصابة أرجون وعصابة شتيرن، وعرضت حكومة العمال الإنجليزية مسألة فلسطين ومسألة الانتداب على هيئة الأمم المتحدة سنة 1947، فأحيلت هذه المسألة كلها إلى لجنة من لجان الهيئة، وعادت اللجنة إلى خطة التقسيم مقترحة أن تقسم البلاد إلى حكومتين مستقلتين في غير الشئون الاقتصادية، وأن يوضع بيت المقدس تحت الوصاية الدولية.
وماذا كان هذا الاستقلال في غير الشئون الاقتصادية يعني بالنسبة إلى العرب وإلى الصهيونية؟
إن ربع قرن مضى في تشجيع اليهود على الهجرة والاستعمار وتنظيم الشركات لم يبق للعرب بقية من الاستقلال في شئون الاقتصاد، فإذا استقل العرب وسلموا زمام الاقتصاد إلى الحكومة العامة فمعنى ذلك أنهم يسكنون في حجرات بيت خلا من حجرة الطعام، وسلم مفتاحها ومطبخها إلى الساكن الآخر يعطي منه ما يعطي ويمنع ما يمنع كما يشاء.
صفحة غير معروفة
وقبل الصهيونيون هذا الحل ببعض التحفظ إلى حين، واحتج العرب عليه، واستعصى الأمر على الدولة المنتدبة، فنظر مجلس الأمن فيه، وقرر بجلسة الثاني من أبريل سنة 1948 إحالته إلى هيئة الأمم لإعادة النظر في التقسيم وبحث مسألة الانتداب على احتمال إسناد الوصاية الموقوتة إلى هيئة الأمم، فتركت الهيئة مشروع التقسيم كما كان، وقررت أن توفد إلى فلسطين رسولا يصلح بين الفريقين ويبسط للهيئة حلا يرضيانه أو ترضاه وتفرضه على الموافقين والمخالفين.
وكانت بريطانيا العظمى قد أعلنت عزمها على الجلاء عن فلسطين والتخلي عن مهمة الانتداب، وعينت للجلاء موعدا في الرابع عشر من شهر مايو سنة 1948، فكأنما كان هذا اليوم موعدا لقيام دولة إسرائيل واعتراف الولايات المتحدة بها قبل انقضاء ساعة من لحظة الإعلان.
ودخلت الجيوش العربية فلسطين، واجتاحت أمامها عصابات اليهود، ولأول مرة من تاريخ مجلس الأمن تعمل المادة التاسعة والثلاثون من ميثاق الأمم المتحدة عملها الناجز في وقف القتال حرصا على سلام العالم ... فكانت الهدنة فرصة لتزويد الدولة اليهودية بالسلاح والعتاد، وتهديد كل دولة عربية على انفراد للكف عن القتال، مع الحرمان من كل مدد تستطيع أن تحصل عليه.
وقد تجددت في هذه المرحلة مناورات السياسة من الدول الكبرى التي تسيطر على سياسة العالم، فاعتقدت كل دولة منها أنها آمنة من مساعدة الصهيونية؛ لأن الصهيونية في حاجة إليها، فالولايات المتحدة تعطي القروض وتأوي في بلادها خمسة ملايين من اليهود، وبريطانيا العظمى صاحبة النفوذ الأكبر في الشرق الأدنى وعلى مقربة من حدود إسرائيل، وروسيا يسكنها ملايين من اليهود وتدين بالمذهب الذي نشره اليهودي كارل ماركس وتابعه عليه الكثيرون من أبناء جلدته في جميع البلدان.
ثم كان ما هو مذكور من وقف القتال في السابع عشر من شهر يونيو سنة 1949 وطغيان اليهود على بلاد فلسطين جميعا إلى أقصى الجنوب، وذهب أبناء البلاد مشردين بالعراء، محرومين من المأوى والمرتزق في مواطن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين، وشذاذ الآفاق ينعمون بخيرات تلك المواطن ويتدفقون عليها بغير حائل ولا مانع، حتى بلغ سكان إسرائيل أكثر من مليون وستمائة ألف عند نهاية سنة 1952.
لقد رأينا كيف يتدرج الصهيونيون من طمع إلى طمع كلما أنسوا التشجيع أو الإغضاء من دول الاستعمار. كانوا يقنعون بالسكن حتى وجدوا من يطمعهم في الوطن القومي، فطلبوه وزادوا عليه إقامة الدولة في ذلك الوطن المغصوب، وكانوا يقنعون بالقسمة فهم لا يقنعون اليوم بما دون السيطرة الكاملة على جميع البلاد. ووضح من تسمية الدولة الناشئة باسم إسرائيل أنهم يتطلعون إلى مملكة يهوذا في الجنوب، ووضح من دعوتهم ودعواهم على ألسنة المتهوسين منهم أنهم يطمعون في الدولة التي رسمت حدودها في سفر التكوين «من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ...» والتي رسمت حدودها في كلام يشوع «من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات ... وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس».
وليست دعوة المتهوسين بين هؤلاء القوم غير دعوة العقلاء والحكماء كلما سنحت الفرصة وواتاها من الأقوياء تشجيع وإغراء. وحسب صهيون من تشجيعهم وإغرائهم حتى الساعة أنها لم تحاسب قط على مخالفة، ولم تحفل قط بقرار يتفق عليه الأقوياء أو يختلفون. وتنقضي الأيام على مصرع رسول الأمم، وعلى اقتحام بيت المقدس، وعلى اختراق الحدود، وإهدار دماء الأبرياء، وترويع المشردين فوق ما أصابهم من ترويع وتشريد، فلا تدان صهيون بجريمة من هذه الجرائم، بل تتجنى على غيرها وتشكوه. فتنفتح الآذان والصدور لاستماع شكواها، ثم لا يقال لها أقل ما ينبغي أن يقال في هذا المجال: اذهبي فأطيعي الهيئة التي ترزئينها ثم تستمدين العون منها. ولعلها ستعان ثم تعان قبل أن تؤمر يوما بأن تسمع وتطيع.
وفي وسع الدول الكبرى أن تصنع كثيرا لإسرائيل، إلا شيئا واحدا لا تستطيعه، لأنه لا يستطاع.
ليس في وسعها أن تقيمها على قدميها وأن تغنيها عن معونتها، وهي لا تفتأ تستعين بها على نفقات الدفاع، ونفقات الإيواء والتعمير، وسداد الديون، وإن طال صبرها على معونتها فليس في وسعها أن تضمن لها دوام «التقلبات السياسية» في مصلحتها، ولا أن تقتلع من طباع أبنائها جذور ذلك الداء الذي شكاه أنبياؤها قديما، وسيشكونه لا محالة أصبر الساسة من الأقوياء والضعفاء: داء الرقبة الغليظة، وليس له دواء.
أما الأمم العربية فهي في الحق ضعيفة أمام أنصار إسرائيل، ولكنها تحبط ما يعملون بعمل واحد: وهو الإعراض عنها والكف عن معاملتها. وإن دولا أقوى من إسرائيل وأسلم منها بناء في موطنها لتنخذل مع الزمن إذا طالت المسافة بين من تعاملهم ويعاملونها، ونضبت مواردها عن تعويض منافعها من أقرب الناس إلى مصانعها وأسواقها، وليس للأمم العربية من خيار إلا هذه المقاطعة، أو سيطرة إسرائيل عليها بما تأخذه من خيراتها وتستفيده من جهودها.
صفحة غير معروفة
ومن خيرته الحوادث بين هذين فقد وضح الطريق أمام عينيه.
الفصل الرابع
الصهيونية العالمية
الصهيونية العالمية حقيقة واقعة.
هي قوة موجودة بأعمالها وآثارها، موجودة بدعايتها وأخبارها، موجودة بمقاصدها وغاياتها، ولا حاجة بها إلى وجود في صورة أخرى ما دامت موجودة بالأعمال والدعاية والغايات.
ظهرت في القرن الماضي مجموعة من الوثائق السرية سميت بمحاضر مشيخة إسرائيل، وانتشرت من روسيا حيث ظهرت أولا إلى فرنسا وإنجلترا ثم سائر الأقطار الأوروبية، وخلاصتها أنها تجمع المحاضر التي تسجل قرارات المشيخة الصهيونية، وأن هذه المشيخة تلتقي من حين إلى آخر للنظر في شئون العالم، واتخاذ الخطط المرسومة لتوجيه السياسة الدولية وإثارة الفتن والقلاقل في أمم الحضارة ، سعيا وراء غاية واحدة: وهي تخريب العالم وهدم دعائم الأخلاق والأديان والقضاء على كل سيادة روحية أو دنيوية فيه، لتمكين الصهيونية من السيطرة عليه، وتسليمه للصيارفة والسماسرة وأشباههم من خدام المال المستترين وراء كل شبكة مالية واسعة النطاق، ومعظمهم من الصهيونيين.
والملاحظ على هذه الوثائق أنها لا تظهر في لغة من اللغات إلا اختفت على أثر ذلك، وأنها تختفي كلما عادت إلى الظهور مترجمة أو مطبوعة من جديد، وهذه هي الشبهة القوية التي أقنعت بعض المشتغلين بالنشر والصحافة الكبرى بصحة الوثائق، واهتمام الصهيونيين بإخفائها ومنع تداولها.
ونحن على بغضنا للصهيونية لا نريد أن نعطي هذه الوثائق فوق حقها، فنحن لا نجزم بنفيها ولكننا كذلك لا نجزم بصحتها، ولا نرى أن الدلائل التاريخية كافية لإثباتها والتعويل عليها.
بل نحن نميل إلى الشك فيها كثيرا؛ لأننا نستكثر على الصهيونية أن يكون لهم خلق الطاعة والولاء، وأن يتعودوا الإخلاص في خدمة هيئة علنية أو سرية. فلم يعرف في تاريخ هؤلاء القوم قط أنهم يخلصون في طاعة هيئة دنيوية أو دينية، وليس في تاريخهم كله عشر سنوات متواليات خلت من الفتنة والعصيان والتمرد على الرئاسة من أبناء جلدتهم ومن غير أبناء جلدتهم، ولا فرق بين رئاسة دينية أو دنيوية في هذه العاهة المزمنة بين هؤلاء القوم.
بل هم لم يخلصوا في طاعة نبي قط من عهد إبراهيم الخليل إلى عهد موسى، إلى ما بعد انقضاء عهد النبوات الإسرائيلية وظهور السيد المسيح، وقد وصفهم القرآن الكريم أصدق وصف في قوله تعالى:
صفحة غير معروفة
بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
وهذا وصف إلهي صادق عليهم في جميع العصور، ولكننا لا نحب أن ندينهم بكتاب لا يؤمن به أنصارهم من الغربيين، وفي كتبهم المعتمدة كفاية وفوق الكفاية لتوكيد هذا الحق الذي نسميه عاهة مزمنة فيهم، ما زالت ولن تزال.
ففي التوراة من سفر الخروج «قال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة.»
وفي السفر نفسه بلسان الإله: «أني لا أصعد في وسطك، لأنك شعب صلب الرقبة لئلا أفنيك في الطريق.»
وفي سفر التثنية يقول لهم موسى - عليه السلام: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
وفي سفر التثنية أيضا يقول لهم: «ليس لأجل برك يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها، لأنك شعب غليظ الرقبة.»
وليس في العهد القديم سفر واحد خلا من وصف كهذا الوصف بمعناه أو بما هو أشد من معناه، ولم تتغير طبائعهم بمضي الزمن إلى أيام السيد المسيح. فإن السيد المسيح هو الذي يخاطب أورشليم قائلا: «يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها، ولم تريدي.»
وبعد السيد المسيح كان بولس الرسول يقول لهم: «يا قساة الرقاب، يا غير المطهرين بالقلوب والآذان، أنتم تقاومون الروح في كل حين.»
فالصهيونيون لم يعرفوا في تاريخهم شيئا يسمى الولاء والإخلاص في الطاعة لمن يتولى شئونهم، وكل ما عرفوه وعرفوا به في تاريخهم الطويل طبيعة التمرد والشكاسة والالتواء والعصيان، وليس هؤلاء بالذين يخلصون في طاعة هيئة خفية أو ظاهرة، ولكنهم لا يحتاجون إلى ذلك لتحقيق مآرب الصهيونية العالمية، فإنهم في غنى عن هذه الهيئة بما لديهم من الوسائل الأخرى، وهي كثيرة غير قليلة في العصر الحاضر.
فهم موجودون في أوطان متعددة، ولهم - باصطلاح العصر الحديث - طابور خامس في كل دولة، ولهم وسائلهم التي لا تتورع عن شيء من ضروب الرشوة وإرضاء الأهواء والشهوات.
صفحة غير معروفة
وهم متعصبون متحزبون في كل مكان، لا يجمعهم حب بعضهم لبعض، ولكن تجمعهم كراهية الآخرين كما يجمعهم الحقد على العالم، لأنهم استثاروه في كل بلد وفي كل زمن، واستثاروا في نفوس أبنائه سوء الظن بهم وشدة النفور منهم، فهم بغضاء إليه يعلمون أنهم مبغضون، وحسبهم هذا ليعملوا مع متعصبين متحزبين.
وقد قيل إن عشرة متفقين أقوى من ألف متفرقين؛ لأنهم في هذه الحالة عشرة أمام واحد، ويتكرر هذا الموقف في كل بيئة على تباعد الديار بينهم، فتجتمع منهم حلقة مفرغة، تحيط بكل من يحاربون أو يطمعون منه في معونة، فتتوافر لهم بذلك قوة متآمرة مستمرة، لا حاجة بها إلى رئاسة خفية تسيطر عليها في جوانب الكرة الأرضية.
ومع هذا كله لا نعتقد أن قوتهم هذه كافية - وحدها - لبلوغ ما بلغوه في فلسطين.
إن نفاذ الصهيونية إلى فلسطين يرجع، ولا شك، إلى قوة الصهيونية العالمية، ولكن هذه الصهيونية العالمية لا تعمل وحدها في هذا الميدان، بل تعمل معها قوتان أخريان أكبر منها، وهما: قوة المصالح الاستعمارية، والتعصب الشديد على الإسلام.
إن الغربيين الذين يساعدون الصهيونية العالمية لا يساعدونها حبا لها، فما في الناس أحد يحب الصهيونية، والصهيونيون أنفسهم لا يحب بعضهم بعضا حتى في فلسطين، وإنما المسألة هنا خدمة للمصالح الاستعمارية وعداوة للإسلام وليست محبة للصهيونية.
إن الحالة الواحدة لتطرأ على إسرائيل وتطرأ على بلد من بلاد الإسلام، فينظرون إليها في المغرب بعينين مختلفتين.
كل من الباكستان وإسرائيل دولة قامت على أساس العقيدة الدينية، وكل منهما تأخر وضع الدستور فيه لاختلاف الآراء على التوفيق بين الأحكام الدستورية والأحكام الدينية. ولكنك تقرأ في كلام الغربيين أن أمة الباكستان أمة متأخرة لأنها قائمة على أساس دينها، ومتأخرة لأنها لم تتم بعد دستورها، ولا تقرأ شيئا من هذا القبيل بتة عن الصهيونيين ودولة إسرائيل، بل تقرأ عنهم كل ما شاءوا من أوصاف التقدم والحضارة.
هي إذن ثلاث قوى تعمل في قضية فلسطين: قوة الصهيونية العالمية، وقوة المصالح الاستعمارية، وقوة التعصب على الإسلام، ولهذا نقول: إن الصهيونية العالمية لا حاجة بها إلى مشيخة إسرائيل، فحسبها الطابور الخامس المنتشر في كل مكان، ومعه الطوابير الأخرى التي تجتمع على البغضاء وإن لم تجتمع على المودة والولاء.
الفصل الخامس
الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم
صفحة غير معروفة
الصهيونية منسوبة إلى صهيون في بيت المقدس.
ولكننا حين نتكلم عن الصهيونية العالمية، نعني بها شيئا أقدم من هذه النسبة، وأقدم من وصول العبريين إلى أرض فلسطين منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
نعني بها ذلك الخلق الذميم الذي تأصل في طائفة من العبريين منذ أقدم العصور، وجعلهم بغضاء منبوذين في كل مكان أقاموا فيه أو دخلوه.
نعني به خلق العدوان والادعاء والأنانية، وهو داء قديم في هؤلاء القوم، لم يفارقهم قط في عهد من عهودهم التاريخية، ولا شك أنه كان ملازما لهم زمنا طويلا قبل ظهورهم على مسرح التاريخ.
هذه الصهيونية بغيضة إلى كل الناس، بغيضة من كل بلد، بغيضة في كل زمن، بغيضة في الزمن الحديث، لا يحبها ولا يعطف عليها أحد بلا استثناء لأنصارها المستعمرين والمتعصبين.
ولقد كان الصهيونيون يعرفون أنهم مبغضون ولا يستغربون، وكان خصومهم يعرفون أنهم يبغضونهم ولا يستغربون: كان هؤلاء وهؤلاء لا يستغربون بغض الصهيونية؛ لأنهم يعرفون أسبابه في زمانهم، وإن اختلفوا فيمن هو على حق وفيمن هو على باطل.
أما العصور الحديثة فقد اختلط فيها الأمر على بعض الباحثين فخلطوا بينه وبين التعصب الديني على اليهود، وهما شيئان منفصلان.
وأرادوا أن يطلقوا على بغض الصهيونية اسما جديدا فسموه كراهية الساميين
Anti-Semitism
لظنها أنها من عداوة الأجناس.
صفحة غير معروفة
ثم ظهرت مباحث علم النفس الحديث - ولا يخفى أن الكثيرين من دعاته يهود - فراح الباحثون في علل الظواهر الاجتماعية يبحثون عن علة نفسانية لكراهية الساميين، وحاول بعضهم أن يجعلها علة دخيلة تصيب الأمم والجماعات كما تصيب المخبولين من آحاد الناس، فخبطوا في ذلك خبطا ذريعا، وجانبوا الصواب في كل ما زعموه، لأن المحاولة من أولها قائمة على ضلال، أو على غرض يسوق إلى الضلال.
قال بعضهم: إن كراهية الساميين مرض اجتماعي يظهر في الأمم التي تصاب بمركب النقص وتشعر بأنها محتقرة بين الشعوب، أو متخلفة عنها.
وقال بعضهم: إن كراهة الساميين مرض يصيب الأمم التي يتسلط عليها الخوف، فتتهم من تستطيع اتهامه، وتجد اليهود بينهم منعزلين متميزين، فتخصهم بذلك الاتهام.
وقال بعضهم: إن كراهة الساميين داء تبتلى به الأمم المتكبرة التي توالت عليها الهزائم، فهي تتشفى وتنتقم ممن تقدر عليه، كما فعل النازيون.
وقال آخرون: إن الأمم الفقيرة تصاب بداء الحسد، وتنتقم من الأجانب والغرباء عنها إذا اعتقدت فيهم الثراء والنجاح.
وكل هذا لغو وخرافة؛ لأن الأمم كلها لا تصاب بالأدواء النفسية ويسلم منها الصهيونيون دون سواهم، وإذا كان الصهيونيون مكروهين من قديم الزمن فالبحث العلمي المنزه عن الغرض يتجه إليهم أولا قبل أن يتجه إلى الآخرين.
والواقع أن الصهيونيين لم يألفوا أحدا ولم يألفهم أحد منذ عرف اسم العبريين في التاريخ.
إن هؤلاء القوم من سلالة سامية نشأت في جزيرة العرب مهد الشعوب السامية، على أرجح الآراء.
فشجر النزاع بينهم وبين جيرانهم وهاجروا إلى العراق في الجنوب، ثم هاجروا من جنوبي العراق إلى شماليه في عصر يقارب عصر إبراهيم الخليل، ثم هاجروا من العراق الشمالي إلى الصحراء السورية فدخلوا أرض كنعان، وهناك كان يسكن الأدرميون والمؤابيون والعمالقة وعشائر مختلفة من الآراميين والكنعانيين، وبدأ التاريخ يسمع بأبناء القتال بين هؤلاء جميعا بعد دخول العبريين إلى أرضهم، وبدأ التاريخ يسمع النزاع بين أتباع إبراهيم الخليل أنفسهم فانقسموا إلى شطرين.
ومنذ تلك الحقبة لا يعرف التاريخ لهؤلاء القوم فترة واحدة جمعتهم على ألفة ووئام مع جيرانهم، فدخلوا مصر ونفر منهم المصريون، وعادوا إلى كنعان ونفر منهم الكنعانيون، وقامت لهم دولة في عهد النبي داود فشغلتهم بالإغارة على جيرانهم واتقاء الغارة من أولئك الجيران، ثم جاء سليمان الحكيم فبنى لهم الهيكل فثاروا عليه؛ لأنه فرض عليهم الإتاوات لبنائه وبناء قصره، ثم انقسموا بعده قسمين: إلى الشمال وإلى الجنوب، وحفظت كتبهم ما قاله الشماليون في الجنوبيين، وما قاله الجنوبيون في الشماليين، فإذا هو أشد وأشنع مما قاله أعداء الساميين فيهم أجمعين، من أقدمين ومحدثين.
صفحة غير معروفة
ثم سباهم البابليون وحملوهم إلى أرض بابل، فلم تنعقد الألفة بينهم وبين جيرانهم هناك، وسرحهم «كورش» عاهل الفرس بعد حين؛ نفيا في حقيقة الأمر، وعفوا عنهم في ظاهر الأمر كما قالوا وكما قال.
وجملة تاريخهم بعد العودة من السبي تكرار لهذا التاريخ، ولما تفرقوا في البلاد بعد هدم الهيكل حدث لهم في كل بلد ما حدث في البلد الآخر: نفور وقتال وكراهية للساميين بالتعبير الحديث.
ولا حاجة إلى بيان ما حدث لهم بعد ذلك، فإنه ماثل في جميع الأذهان، وهو من المواضيع التي لا تنقطع الكتابة عنها والكلام فيها بين الغربيين والشرقيين، وبخاصة بعد اقتحامهم لأرض فلسطين متواطئين مع ساداتهم المستعمرين ونصرائهم من المتعصبين.
أفكل العالم مريض والصهيونيون دون سواهم هم المبرءون من العلل والأمراض؟!
إن ذلك لهو اللغو بعينه كما أسلفنا في هذا الحديث، وكفى أن تبرئة الصهيونيين من الإثم والملامة تلقي التهمة على أمم العالم جمعاء ... كفى ذلك لنعلم أنه اتهام باطل ينطوي على الغرض كما ينطوي على الضلال ...
لكن الواقع أن أعراض المرض النفساني ظاهرة محققة في الصهيونيين على نحو لا يقبل المراء.
إنهم مصابون بالبارانويا
بكل عرض من أعراضها التي يحصيها الأطباء النفسانيون.
إن أعراض البارانويا هي غرور الأنانية والانفصام عن الوسط الذي يعيش فيه المريض، والوهم المتسلط والشعور بالاضطهاد، والتوجس الدائم من الأعداء.
أي عرض من هذه الأعراض لا يظهر جليا واضحا في هؤلاء الصهيونيين؟
صفحة غير معروفة