342

صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر

تصانيف

مولده ونشأته

فقيد الجد والإقدام الإيغومانس تادرس مينا «رئيس دير مارمينا بفم الخليج سابقا».

ولد هذا المجاهد الكبير في 20 هاتور سنة 1564 قبطية الموافق لعيد الأمير تادريس فأسماه والده باسمه، وهو من عائلة جبلت على الطهر والقداسة، فوالده القمص إبراهيم بن القمص يسطس بن القمص منقريوس بن القمص جرجس بن القمص مكرم الله أي: العائلة التي والت رياسة خدماتها المتوالية لدير مار مينا مدة 200 سنة أجل الخدم، وكانت حياة أفرادها ملأى بجلائل الأعمال والمآثر الطيبة، فرباه المرحوم والده على سنن الفضيلة والصلاح، فنشأ نشأة صالحة تليق بأبناء رجال الدين، وأدخله مدرسة حارة السقايين القبطية فتعلم فيها اللغتين العربية والقبطية ، ثم تخرج منها واشتغل في بعض الدواير ثم تعين بمصلحة السكة الحديد الأميرية، ورقي بها إلى أن صار رئيسا لقلم قضاياها، ولما انتقل المرحوم والده القمص مينا إلى رحمة مولاه أرغم أن يكون قسا لدير مار مينا بدلا من المرحوم والده وفعلا تم ذلك؛ ونظرا لما كان عليه من الذكاء والنباهة والجد عين وكيلا للدار البطريركية، وذلك في عهد الأنبا مرقس مطران الإسكندرية لما كان الكرسي البطربركي خاليا، ولما انتخب ورسم غبطة الأنبا كيرلس الحالي بطريركا استقال الفقيد من أشغال البطريركية.

هذا ولما جلس غبطة الأب البطريرك على الكرسي المرقسي، وعلم بمقدرة الفقيد وجده وإقدامه استدعاه وعينه وكيلا للدار البطريريكية، ومنحه أيضا رتبة الأيغومانوسية فأظهر الكفاءة التامة في جميع أعماله، واشتهر بإخلاصه لغبطة البطريرك فكان أول المقربين إليه وأول المحبين له، وفي آخر أيامه اعتزل أعمال البطريكخانة، وبقي مشتغلا في أعمال الوقف الذي تحت نظارته، فأحدث به عمارات كثيرة وإصلاحات جمة دلت على حسن إدارته وقد عاجلته المنية عقب اجتيازه خمسا وثلاثين سنة في الكهنوت، فاحتفل بيوبيله الفضي وكانت وفاته فجأة، إذ بينما كان في وزارة الأشغال العمومية يقابل بعض ذوي الحل بخصوص قطعة أرض كائنة أمام الدير قد علاها تل من الأتربة، أراد أن يثبت ملكيتها للدير وعاد من تلك الوزارة ظهرا، وباشر الأعمال الجارية بالوقف وتناول الغداء إذ بدقات شديدة انتابت القلب، وما كاد يحضر الطبيب لفحصه حتى فاضت روحه الكريمة إلى خالقها، وكانت وفاته في يوم الأحد الموافق 25 فبراير سنة 1906 وله من العمر ثمان وخمسون سنة، فاحتفل بجنازته احتفالا عظيما يليق بمثله من الرجال العاملين المجدين، وقد كان الفقيد مشهورا بحل كل مشكلة من المشاكل الشرعية التي تعرض عليه مما يعجز بعض رجال القانون والتشريع في حله، كما كان جريئا لدرجة لم تكن في الحسبان ومقداما في كل أعماله.

أعماله الجليلة بالدير

عندما عين الفقيد رئيسا لدير مار مينا اتصل به أن أراضيه البالغ مساحتها نحو الخمسة عشرة فدانا مشهورة بوقف الشيخ الأنصاري، فخامره شك عظيم في أمر هذه الوقفية، وأخذ يبحث بحثا حثيثا حتى بحسن مسعاه، وبتداخل فقيد الأمة القبطية النابه العظيم المرحوم بطرس باشا غالي، الذي كان وزيرا في ذاك العهد أثبت للحكومة بالحجج الدامغة والأدلة القاطعة فساد هذه الملكية، وأنها ملك شرعي للدير، وإن انتساب هذا القدر لوقف الشيخ الأنصاري محض خطأ، فاضطرت الحكومة والحالة هذه أن تسلم هذا القدر للدير مع منحه مبلغا قدره ثلاثة آلاف جنيه على سبيل التعويض، فاستلم الفقيد هذا المبلغ وورده لخزينة البطريكخانة، كما أنه أضاف تلك الأطيان إلى وقف مار مينا.

وقام من وقته وساعته إلى تقسيم الأراضي المذكورة أقساما، جعل منها قسما خاصا ببناء منازل الحكر، وقسما خاصا للزراعة فحضر الكثيرون من تلك الجهة من غير الأقباط، واستأجروا بعضا من تلك الأراضي الزراعية المحدودة، كما أقبل البعض الآخر للسكن بمنازل الحكر البالغ مساحتها ثلاثة أفدنة، ثم قام بتشييد منازل جديدة أخرى لانتفاع الدير بريعها، وأصلح جميع الأراضي الأخرى الواقعة بجهات الدير.

وقد وجد بين دفاتره الخصوصية من بعد وفاته أنه أنفق على هاته الإصلاحات الهامة، والأبنية الكثيرة من ماله الخاص مبلغا يربو عن الخمسة آلاف جنيه، فلم تشأ عائلة الفقيد مطالبة البطريكخانة برده، بل سمحت مكارمها عن طيب خاطر لأن يدخل في حساب البطريكخانة، والاكتفاء بما تركه الفقيد الراحل من أثر خالد وعمل محمود عند الله والناس يجزى عنهما ثوابا عظيما، ولما كانت الوارثة الوحيدة لهذا الفقيد هي السيدة البارة التقية حرم حضرة الفاضل المحترم عطية أفندي مشرقي المقاول الشهير بمصر، فبلسان المروءة والإنسانية نقدم لها وافر الشكر وعاطر الثناء على منحتها الخيرية الخالدة، وأن الأمة المصرية عامة والأقباط خاصة لتفخر بمثيلاتها المحسنات - ولما كان الفقيد الراحل لم يترك عقبا ذكرا، فقد اختص ابن شقيقته ألا وهو رجل الجد والنشاط والإصلاح القمص مينا يعقوب كابن له، فقام بتربيته وتثقيف مداركه وهو الذي حل محله في رئاسة الدير بعد وفاته وسيأتي تاريخه بعد.

صفاته وأخلاقه

كان رحمه الله كاهنا بكل معاني الكلمة غيورا على الدين، قوي الحجة في الدفاع، صلبا في الحق جريئا مقداما في القول، حلالا للمعضلات عالي الهمة، دمث الأخلاق ذكي الفؤاد واسع الإطلاع.

صفحة غير معروفة