أما رحلة المساء فقد بدأت قصتها في صباح ذلك اليوم نفسه حين فتح صحيفة الصباح فصدمه نعي صديقه «م» ... ذلك الشاب المرح الفياض بالحياة والبهجة، والذي كانت حياته أبعد ما تكون عن السكون والموت؛ إن «م» لم يمرض، ولم يشك ... كان معه بالأمس إلى الساعة الثامنة مساء، وغادره ليذهب للقاء بعض أصدقائه، ولمشاهدة إحدى روايات السينما ... وحينما أمسك بالتليفون ليستفسر عما حدث أجابته زوجته الغارقة في المصاب، بأنه ذهب إلى السينما بعد أن تعشى، ولكنه أحس بألم فنقلوه من السينما، وصعدت روحه إلى الله في حين كان جسده يهبط درج السلم ... تعشى كالأحياء، وتخلت معدته عن عملية الهضم لدود القبر، ما أفظع ذلك!
ولعل ذلك كان سببا لا يدريه هو في أن يؤثر طبق الخرشوف المسلوق على أطباق أخته الدسمة ... ليست السينما أمرا ضروريا لكي يموت الإنسان إثر أكلة.
ومع ذلك فقد حزن على «م» وجره الحزن عليه إلى تخيل الموت لا حقيقة واقعة فحسب، وإنما حقيقة سهلة ... وإذا كان الناس لا ينتقلون من دار إلى دار في الحياة الدنيا، دون أن يعاينوا الدار الجديدة، ويتبينوا ما سوف يحسونه بين جدرانها من راحة وأمن، فمن العقل والمنطق أن يعاين هو الدار التي سيسكنها بعد عمر، من الصعب الحكم على مدى طوله بعد اختراع السكتة القلبية، المرض الذي لا يحمل أي مخترع من مخترعات جيلنا السعيد طابع السرعة مثله.
إنه ليس خيرا من «م» وفرص الأكلات الدسمة أمامه أوسع؛ لذلك تخيل أنه تغدى عند أخته ... ثم شرب بضع كئوس مع سعدية، ثم وافته المنية فانتقل في تلك الليلة الباردة إلى الدار الآخرة، فذهب إلى ما يشبه الدار الآخرة ... الصحراء في جوف الليل البارد، والهواء يعصف، والكائنات رمل وحصى، وأشباح تصنعها دوامات الهواء، والأصوات همهمة أرواح عابرة في الجو، هل تكون الدار التي ستضم جسده غير هذه؟
وعاد مطمئن النفس قرير العين، وخط بيده في مذكراته إقرارا بأنه لا يخشى الموت، ونام ملء جفنه يحلم بالحياة، واستيقظ في الصباح ليعاود سخافاته من جديد ...
ولكن سخافة هذا اليوم فاقت في غرابتها كل ما صنع منذ سنين ... حتى لتقرب أن تكون تصرف عقلاء ...
فاجأه جرس التليفون، وهو يزدرد طعام إفطاره المتواضع كسرات الخبز المحمص في كوب اللبن، وفنجان القهوة الكبير.
ورفع السماعة، وسمع صوت سعدية تسأله ما سوف يفعل في يومه، وفي صوتها مظهر الاضطراب والاهتمام ... ومنذ بضعة شهور عرف سعدية، وعرف معها حاجتها الدائمة إلى المال، ووسائلها الطريفة للحصول عليه ... وليس الشوق الذي يدفعها لمحادثته في الصباح الباكر، ولن ينقذه من يومه إلا الاعتذار بالغياب عن البيت والقاهرة بأكملها إن استطاع.
وأجاب سعدية على الفور أنه مسافر بعد ساعة ... وقالت سعدية: إلى أين؟
وأوشك أن يقول متأثرا بالليلة الماضية: إلى الدار الآخرة، لولا أن قالت سعدية مستدركة: رايح العزبة؟
صفحة غير معروفة