الأكشاك الخشبية
وتحركت السفينة في هدوء
صفحات من مذكراته
حساب بين الخيرين
قفص الدجاج
كعكة في يد اليتيم
طريق الصخور
عنوان الفقيد
الجواد الذي خسر
الشعرات البيضاء
سبعة في صورة
أقوى من الشرف
جاء الخريف
الأكشاك الخشبية
وتحركت السفينة في هدوء
صفحات من مذكراته
حساب بين الخيرين
قفص الدجاج
كعكة في يد اليتيم
طريق الصخور
عنوان الفقيد
الجواد الذي خسر
الشعرات البيضاء
سبعة في صورة
أقوى من الشرف
جاء الخريف
صفحات مطوية
صفحات مطوية
تأليف
صلاح الدين ذهني
تقديم
بقلم سليمان نجيب
يقول المثل القديم العاقل: «خذ الرفيق قبل الطريق»، وحينما تقودك العناية الإلهية إلى طريق ممهد ورفيق وديع هادئ صادق مستقيم بعيد النظر، فتلك هي نهاية الرضاء وعظيم الرعاية.
هكذا أريد أن أبدأ مقدمتي لتلك المجموعة من قصص الكاتب الفذ الرصين القوي اللين، صديقي وأخي الصغير المرحوم صلاح ذهني ...
فقد كان طريقي لمدة خمسة عشر عاما هو دار الأوبرا، ورفيقي في هذه الرحلة كلها صلاح، كانت نعمة من نعم الله على أن يرضى صلاح بالعمل معي ومعاونتي ...
كنا متجاورين ... مكتبه في غرفة خارج غرفتي التي لم أغلق بابها بيني وبينه يوما من الأيام، وكنت أحادثه بصوت عال، وحينما أريد أن أنزه عيني أناديه، لأتمم ما بدأته من قصة وحديث.
وحينما تعاشر صلاحا - رحمه الله - تتذكر توا المثل العربي الدارج الصادق الذي يقول: «قال: ما لك مربي؟ قال: من عند ربي.»
إنك تحس بنبوغه، وسرعة إدراكه وبديهته، وبعد نظره ولباقته بعد دقائق معدودات من معاشرتك له.
وبمناسبة المثل الذي ذكرت، أؤكد لك أن «صلاح» لو عاش وطال عمره لشاهدنا نبوغه فذا في نوعه، فقد كان - ككاتب - يسير بسرعة إلى المرتبة العليا كما كان كروائي، سليم الحبكة سليم العبارة، قوي الحوار، متين الفكرة.
أما صلاح - كناقد - فقد كان نظيفا من ألفه إلى يائه، دقيقا في انتقاده، دقيقا في تقديراته، ملهما في عباراته.
عاشرته هذه السنين الطوال، فكانت تعليقاته كلها مما يذكرني بتعليقات صديقي المرحوم الشيخ عبد العزيز البشرى في متين بنائها نرويها ضاحكين مبتسمين.
ثم رأيته كأب مثالي يجود بنفسه وحياته ليتنعم بالعلم والتربية محمود وأمينة وفاطمة، فقد كان لهم أبا مثاليا وصديقا وفيا.
وكان موظفا أمينا لبقا، أما ككاتب، فإنك بعد أن تطالع هذه الصفحات سنلتقي أنا وأنت على هذه الجملة «طيب الله ثراك يا صلاح.»
الأكشاك الخشبية
كان يجب أن يملأ نفسي شعور الاشمئزاز، ولكن القدر أراد غير ما أردت ... ***
أريد أن أذكر بالضبط ما حدث في ذلك اليوم من أيام شهر يوليو سنة 1935 المكان الذي بدأت فيه القصة، وكيف بدأت؟ إن الذاكرة لا تسعفني، فبداية القصة غامضة، والمكان نفسه قد غيرته الأيام، ولو ملكت عصا ساحر فمحوت ذلك الصف الأنيق من أكشاك الاستحمام النظيفة ذات النظام الدقيق، والتي تمتد على شاطئ البحر الآن، ولو استطعت أن أحل مكانها تلك الأكشاك التي كان يقيمها الأهالي إذ ذاك كل حسب هواه، وغناه ... بعضها حقير تآكل خشبه، والبعض الآخر كبير زاهي الألوان كثير النقوش.
كان شاطئ البحر إذ ذاك كأنه معرض للطبقات، وكانت أزياء الناس نفسها كأزياء المهرجان، وإني ليتملكني الضحك الآن، وأنا أتخيل نفسي بلباس البحر الذي اشتريته إذ ذاك، وكنت أزهو به، كان مخططا باللونين الأبيض والأحمر، وكأنني أحد نزلاء السجون الأمريكية ... بل حين أتخيلها هي أيضا بلباس البحر العجيب من القطن الرخيص ... كان هذا اللباس أهم قطعة في أثاث الكابين الذي كان يملكه صديقنا عبد السلام، كان لباسا للطوارئ ... ما أكثر الطوارئ على شاطئ البحر في حياة عزب يملك كشكا خشبيا للاستحمام.
ولأعد للقصة ...
القصة حيث أذكر لا حيث بدأت، ففي عصر أحد الأيام أقبلت سامية، وكنا أربعة نجلس أمام الكابين، فحيت الثلاثة الآخرين بأسمائهم ... وحيتني أنا بالتحية نفسها، وإن لم تعرف الاسم، وارتاحت نفسي لبساطتها، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وعلى حين فجأة نهضت سامية تقول: ما حدش منكم ناوي ينزل البحر؟
وصمت الثلاثة، وأدرت رأسي في وجوههم، فوجدتهم يرفضون جميعا فتحرك لساني، وقلت: أنا ... إذا لم يكن لديك مانع ...
وضحكت ضحكة ساحرة، وقالت: أنا ... وأي مانع ... تفضل ...
وتفضلت فدخلت الكابين، وخلعت ملابسي، وارتديت لباس البحر المخطط، وخرجت لكي أتلقى تعليقات الأصدقاء الثلاثة المضحكة، وما لبثت أن دخلت هي أيضا إلى الكابين، وخرجت بعد دقائق ترتدي المايوه المتهدل كأنه غضون في جسد عجوز جاوزت المائة، وجرت إلى الماء، وسرت أنا في وقار الخجل حتى لحقت بها، وأخذنا نضرب في الماء صامتين، وقالت سامية، وهي تجمع خصلات شعرها خلف رأسها: إن الماء لذيذ جدا في ساعة الغروب.
وأجبت، وأنا أنظر إلى جسدها البديع: لقد شرب كل حرارة الشمس في النهار، ولم يفقدها بعد، قالت: إني أحب دائما حمام الصباح الباكر، وساعة الغروب ... إن البحر يكون هادئا ودافئا ... أما ساعة الضحى والظهر فإنه يكون كحلقة السمك ...
ولفت نظري تعبيرها الأخير فقلت: أنت من الإسكندرية؟ - لي فيها الآن أربع سنوات ... أنت من الإسكندرية؟
وأجبت: أبدا ... سأعود بعد أسبوع واحد إلى القاهرة ...
وقضينا نصف ساعة في الماء وخرجنا، فهرولت هي إلى داخل الكابين، وجلست أنا على مقعد خشبي حتى ارتدت ملابسها وعادت، فدخلت بدوري ... وكنت أصلح رباط رقبتي أمام المرآة حين دخل عبد السلام ليقول لي: سنترك لك مفتاح الكابين؛ لأننا ذاهبون إلى سيدي بشر.
ووجدتني أجيب: وسامية؟
وأسرع عبد السلام يجيب ضاحكا: متخافش يا عم ... سنتركها لك ... حلال عليك ... إن لدينا موعدا مع ثلاثة أقمار. - تتركها لي ... لكنني ... - لكنك ماذا؟ تصرف يا أستاذ.
ودعوني الآن أقص عليكم كيف تصرفت ذلك المساء ... جلست أنا وسامية أمام الكابين نصف ساعة حتى أوشكت الشمس على المغيب، وظل عقلي يبحث عن الطريقة المثلى لقضاء ليلة ممتعة، وأعترف هنا أن ليالي الممتعة ... إلى تلك الليلة، لم تكن تتعدى سهرة على شاطئ النيل مع فتاة أحببتها ... سهرة تمتد حتى الساعة العاشرة والنصف، نئوب بعدها إلى منازلنا، حتى برمت الفتاة بسهراتي وملتها، فهجرتني برسالة وداع رقيقة معتذرة أن أهلها اكتشفوا السر وعرفت بعد ذلك أنها هي التي اكتشفت السر... أن حبي لها لن يستطيع أن يجلب إلى أذنيها وجيدها تلك الحلى التي رأيتها تتحلى بها بعد ذلك بشهور في صحبة شاب وارث يؤمن بالجدران الأربعة أكثر من إيماني أنا بشاطئ النيل السعيد، وللمصادفة المحضة أن النيل لا يصل إلى الإسكندرية، وأن سامية لم تقع في نفسي موقع فتاتي الأولى التي كان يخيل إلي كلما جلست معها، أني في حلم سعيد ...
ولذلك قلت: هل تمانعين في أن نذهب إلى السينما؟ - لا أمانع لكن لاحظ شيئا ... أريد أن أكون في منزلي قبل منتصف الليل ...
وذهبت إلى السينما، واخترت بخبرتي في خلوة العشاق البريئة مقعدين يتيمين في أقصى الصالة يقعان بين المدخل، وبين عمود ضخم من البناء ...
وأطفئت الأنوار، وبدأت قصة الشاشة، واستمرت قصتنا في فصلها الثاني، ومددت يدي فطوقت سامية في حذر ورقة ... وأعترف أن أهدافي إذ ذاك لم تكن تعدو الإحساس بخصر دافئ يشاركني في السهرة، وبأنني لست وحيدا، وإنما أجلس إلى فتاة ... ولكنني لم أكد ألف يدي حولها حتى سحبت نفسها في فزع قائلة: لا لا ... هنا لا ... يمسكونا بعدين، خلينا أما نخرج من السينما، عندنا وقت لنصف الليل.
وحددت هذه الجملة في حديثها خطوط الفصل الثالث من قصة تلك الليلة، فحينما انتهى العرض خرجنا وركبنا الترام إلى حيث أقيم أنا في الفندق المتواضع ... وصعدت سامية معي درج الفندق دون أي تردد أو خوف، ودخلت معي إلى حجرتي في شجاعة، كأنها تأتي أمرا عاديا من أمور حياتها العادية ... وكان يجب أن يملأ رأسي شعور الاشمئزاز، فقد عرفت بالضبط ما هو موضع سامية في المجتمع، ومن هي بالنسبة لأصدقائها ... ومن هي بالنسبة إلي ... صيد ساعة لا أكثر ولا أقل ... وكان يجب إذا لم يملأني الاشمئزاز أن يكف عقلي عن التفكير فيها، وأن أترك لحواسي أن تتمتع بذلك الغذاء الجسدي الناضج ... كان يجب هذا أو ذاك ... ولكن القدر أراد غير ما أردت، وأصر على أن يصنع من القصة القصيرة ذات الفصل الواحد الستار الذي ينزل قبل الختام حرصا على آذان الناس، وأذواقهم النظيفة ...
أصر القدر على أن يصنع من هذه القصة المتداولة الحدوث قصة طويلة ذات عدة فصول ... وتكون النتيجة ... هي ما يحدث دائما حين يحاول المرء أن يجعل القصة القصيرة ذات الموضوع التافه قصة طويلة ذات أربعة فصول ... أن تتغير فصول القصة، وأن يتلف موضوعها، وأن تنتهي نهاية سخيفة ... لقد وقع القدر في الخطأ نفسه، أطال القصة فتعثرت في الطريق ... بل تعثر بطلها نفسه الذي هو أنا، وبدأ في الكثير من أجزائها أحمق غاية الحمق ... وجلست سامية على مقعد، وجلست أمامها أتأمل وجهها الوسيم، وقد خلا من كل مسحة شر أو إثم ... لم تكن سامية قد أوغلت بعد في عامها العشرين، ومع ذلك فها هي ذي أمامي امرأة ... وسألتها وأنا أشعل سيجارتي: هل أنت متزوجة؟
وأجابت دون تردد: أبدا ... لم أتزوج ...
ومرة أخرى رفض عقلي أن يشمئز ... بل لعله زاد تسلطا على حواسي ... - أهلك في الإسكندرية؟
وأجابت: آه ... ولا ...
وأصر عقلي على أن يضيع الوقت في سماع القصة ... وفي توسيع فصولها. - لا أفهم ... هل تعنين أنهم ماتوا؟
وفتحت بهذا السؤال ستار القصة عن مشهد مؤثر، فقد انهمرت دموع سامية ... وعلا نشيجها ... وطار من جو الغرفة آخر ظل للبهجة ... وقمت بدور الرجل النبيل فخففت عنها، وأخذت أواسيها حتى جفت آخر دمعة، ونطقت أول حرف من مأساة حياتها الدامية، مأساة حياتها الدامية! أليس هذا تعبيرا جميلا يهز المشاعر؟ ثم، ألم أصبح أنا - بفضل سلطان عقلي على حواسي - ممثلا تراجيديا يجيد أن يبكي، ويبكي الجماهير أيضا؟ ألم أصبح شيئا آخر غير هذا الشاب الذي صعد درج الفندق قافزا لينعم بغذاء شهي لجسده الجائع؟ شيئا نبيلا يسمع قصة دامية، فتعجبه فيصر على أن يضع لها نهاية سعيدة؟
وتملكني كبرياء الخالق الذي يصنع القصص، وأنا أسمع ختام رواية سامية، وقال عقلي لنفسي: «إن القصة لم تنته، ولا يمكن أبدا أن تنتهي قصة على هذا الشكل السخيف ... فتاة يغرر بها شاب فيجعلها تترك أهلها، وتندفع في هواه حتى لا تفرق بين جسدها وقلبها، فإذا بالنذل (رأيي أنا في صديق سامية الأول) ... فإذا بالنذل يمضغها لحما، ثم يلفظها عظما، وتملكني الزهو، وأنا أتأمل عقلي، وهو يلقي هذا السؤال في تحد وبراعة ... وكانت نفسي أسلمت آخر رغبة لها في قوام سامية وجسدها ... أسلمتها في يأس؛ لأنها كانت شديدة الإيمان بعقلي إذ ذاك ... وقلت لسامية بنفسي وعقلي ولساني معا: لا يا سامية! لا تسخطي هكذا على الحياة البشرية، ليس كل الناس وحوشا كصديقك محيي، لقد كنت صغيرة، وغرر بك ... أنا معك أنك لن لا تستطيعي العودة إلى أهلك ... ولكنك أيضا لا يجب أن تستمري في هذه الحياة. - وكيف أعيش؟
وما زلت أذكر إلى الآن أروع جملة نطقت بها على مسرح الحياة، حين أجبت سامية في حزم وعزم وتؤدة: ستعيشين، كما كان يجب أن تعيشي قبل أن يغرر بك النذل محيي.
وطويت ستار هذا الفصل بيدي، وأنا أطفئ نور حجرتي بعد أن أوصلت سامية إلى منزلها، وعدت إلى حجرتي لأنام هادئا مطمئن الضمير قرير العين، ورفع الستار عن الفصل قبل الأخير، وأنا أؤكد أنه قبل الأخير لكي أطمئنكم على أن الرواية لن تطول حتى يعلو تثاؤبكم، وتتحرك أجسادكم في قلق كأنها تدعوني لأختصر القصة ... إني لن أختصر القصة؛ لأنها من تلقاء نفسها أوشكت على النهاية ...
إن ستار هذا الفصل يفتح في شقة صغيرة بشارع ضيق من شوارع القاهرة التي يسميها الناس، امتهانا لأصحابها، حواري وأزقة، إنه ليس زقاقا ضيقا، وليس حارة حقيرة، وإنما هو شارع متواضع، والشقة نفسها ثلاث حجرات، والأثاث هو الأثاث نفسه الذي كان عندي قبل بداية القصة، لم يزد عليه غير بضعة أوان وأدوات الزينة لامرأة ترضى من زينتها بالقليل، وأنا وسامية وخادمة صغيرة في هذه الشقة ... أنا وسامية زوجان، دخلت هي بيت الزوجية لتمحو آثامها، وتتطهر من ماضيها، ودخلت أنا بيت الزوجية لأضيف إلى كتاب حياتي صفحة بيضاء أتقرب بها إلى الله، وما أجمل أن يصنع الإنسان الخير! وما أجمل أن يكون الزواج حسنة من الحسنات، ومنة على الزوجة! أليس ذلك فارقا كبيرا بيني وبين الكثيرين؟ أن أعيش من زوجة تشعر في الصباح وفي المساء أنني لست زوجا فحسب، وإنما ملاك رحمة يأسو الجراح؟
واستمر هذا الفصل - بمنظره نفسه الذي سردته لكم - عاما كاملا، ويجب أن أعترف أن كل ما جد على سامية هو حياة الشرف.
إن مواردي لم تكن لتسمح بأن تبدو سامية خيرا مما كانت من قبل، ولا أن تأكل خيرا مما كانت تأكل ... كنا نذهب كل أسبوع مرة إلى السينما، ونتنزه بقية الأيام على شاطئ النيل السعيد حيث أخرج لساني لذكرى الفتاة التي أحببتها ذات يوم، وأنا أقول: هربت مني لتنعمي بحياة الرذيلة ... وها هي ذي امرأة قد هربت من حياة الرذيلة لتحيا حياتي المتواضعة، يا قصيرة النظر، إنها قد وجدت من يئويها ... أما أنت فهل ستجدين يوما من يئويك؟
وكان قلبي يفيض بالفرح والسرور، وأنا لا أسمع جوابا على هذا السؤال ... وأحس بالرثاء للهاربة المسكينة، وفي خلال العام لم يحدث بيني وبين سامية أي خلاف، وإن كنت ألحظ أحيانا وجومها وشرودها، وألحظ أحيانا أخرى نزعة كآبة تجعلها تقضي ساعات نزهتنا على شاطئ النيل ساكنة لا تتكلم ... وكنت أعلل ذلك دائما بأنه قلق السعيد على سعادته خوفا من أن تفلت يوما من بين يديه، أو ندم الخاطئ على خطئه الماضي يشتد وطأة كلما ازداد نقاء وطهارة ... ظل هذا تعليلي طوال الأيام الأخيرة من عام زواجنا الأول حتى كان يوم عيد زواجنا فأردت أن أزيدها عطفا، وقررت أن أحتفل بهذا اليوم ... قررت فيما بيني وبين نفسي، ولم أقل شيئا ... وأخذت أفكر كيف أحتفل بعيد الزواج فخطر لي أول الأمر أن أقيم وليمة صغيرة، وأدعو أصحابي ليروا بعيونهم ما فعلت من مجد ... ولكني استبعدت الخاطر لعدة أسباب، فأعز أصدقائي بينهم عبد السلام، وقد حل بيننا جفاء خفيف اصطنعته بنفسي لكي أبعد عن حياتي الجديدة ظلال الماضي المعتمة في حياة سامية ... أما بقية الأصدقاء فقد أطالوا لسانهم في زواجي، واستهجنوا تصرفي، ولن يقنعهم الطعام الجديد، ولا السهرة اللطيفة بأنهم كانوا خاطئين ... إنما الذي يقنعهم فعلا هو أن تمر على هذا الزواج سنوات يبدو فيها كأنه حصن متين، وانتهيت إلى رأي، ثوب جديد، وسهرة رائعة، هذا هو خير احتفال بزواجنا، وأحسن هدية أقدمها لسامية.
وأحضرت الثوب، وأخفيته حتى قبل الغروب ... ودعوت سامية من المطبخ حيث كانت تعد العشاء، وقلت بلهجة الآمر: اخلعي ثوبك هذا، وارتدي هذا الثوب الجديد، واستعدي للخروج بعد عشر دقائق ...
وخرجنا إلى الطريق، وأخذنا نتصفح الإعلانات، وقلت: ما رأيك في فيلم مصري؟
وقالت سامية بلهفة: لا مانع ... أنت تعرف أني لا أحب الأفلام الإفرنجية التي ترغمني عليها كل أسبوع.
وسارعت بالضحك، فأضاعت سحابة الضيق التي كانت توشك أن تجثم على صدري، فقد كنت أظنها إلى اليوم سعيدة بسهرتنا الأسبوعية ... وابتعت تذاكر السينما، ودخلت أنا وسامية حتى وصلنا إلى الباب، وإذا بضوضاء شديدة وتصفيق وهتاف ... ووجدت عامل الباب يسحب يده دون أن يأخذ التذاكر من يدي، ثم يشير إلينا أن نفسح الطريق ... وصلنا أنا وسامية إلى أحد الجانبين، وإذا بصفين من الشبان يفسحون الطريق للقادم العظيم ... وقلت لسامية قبل أن يتقدم موكب القادم: إنه، بلا شك، وزير خطير، أو ... ولكني لم أتم، فقد بدا أمامنا الوزير الخطير بطلعته البهية، ولم يكن وزيرا، وإنما حسناء، حسناء رائعة القوام تخطر في معطف من الفراء الأبيض الناصع، أخذت تخطر حتى أصبحت أمامنا، ورأتها عيناي في وضوح، واستطعت خلال هالة الأناقة، وبرغم شعرها المصفف كأنه سبائك الذهب أن أتبين الوجه، وتنطلق من فمي صيحة تقابلها صيحة أخرى من سامية ... وقلت لسامية، وأنا لا أملك دهشتني بعد أن ابتعد موكب الحسناء: تعرفي دي مين؟
وأجابت سامية بانفعال وبلهجة لعلي لم أسمعها منها من قبل ذلك اليوم: مين؟ خديجة المفعوصة ... اللي كانت ...
ووصفتها بأوصاف تتشابه مع أوصافها هي - حين عرفتها - وأخذت تذكر زمالتها لها فترة من حياتها، حياتها الماضية التي طوتها، وطهرتها في بيت الزوجية ... وكنت أنا أتوقع أن تجيب على سؤالي بأنها لا تعرفها، فأقص عليها قصة حبي القديم مع هذه الحسناء حين كانت فتاة فيها كل جمال البراءة والصبا، تقنع بالنزهة على شاطئ النيل السعيد، لكنني آثرت أن أسكت، وأنا أدفن حديثي في أعماق نفسي.
وسرت مع سامية حتى مقاعدنا التي وصلنا إليها بمشقة لانهماك الناس في استقبال القادمة الحسناء بطلة الفيلم ... وصديقة المليونير الذي يتربع على عرش من عروش الصناعة والمال، ولم أصفق أنا مع الجمهور، ولم تصفق سامية، وكانت لدينا أسبابنا القوية لهذا الإعراض عن تحية النجمة الفاتنة، أما أنا فقد كنت مؤمنا أشد الإيمان بأن هذه النجمة اللامعة ... كانت أعلى مكانا، وهي تجلس إلى جانبي على شاطئ النيل ... وأما سامية ... فلم أدرك ساعتها حقيقة مشاعرها ... وإنما أدركتها بعد ذلك بأيام، أدركتها حين عدت إلى المسكن ظهر أحد الأيام، ولم يكن قد مضى شهر على عيد زواجنا فوجدت غدائي معدا، وسامية قد غادرت المنزل بعد أن تركت لي رسالة قصيرة تطلب مني فيها الطلاق لأنها لم تعد تطيق هذه الحياة.
إنكم تتحركون كأن القصة قد انتهت، ولكنها لم تنته بعد، فهذا هو الفصل قبل الأخير، وهو أطول فصول القصة؛ إذ إنه استغرق عاما.
أما الفصل الأخير فهو قصير جدا، إنه أقصر مما تتصورون، ولست أنا الذي أرفع عنه الستار، إن ذلك ليس عجيبا في القصص القصيرة حين ندعي القدرة فنمد فصولها ونوسعها لنخلق منها قصة طويلة، فكثيرا ما يحصل أن نرتبك، ونقف قبل النهاية حائرين حيرة أبطال القصة لا يدرون ماذا يفعلون ... إن القدر نفسه يرفع الستار عن الفصل الأخير، ويحظى وحده بإعجاب الجماهير، أو سخطهم على حد سواء ... ويرفعه ذات مساء من هذا الصيف ... أي بعد أربعة عشر عاما من بداية القصة، وفي أحد الأكشاك الخشبية، ليس على شاطئ البحر، فقد أحالت يد الأيام أكشاكه الحقيرة المتناثرة إلى صف أنيق ... إن الفصل الأخير في كشك خشبي حقير في الناحية الأخرى من الشاطئ عند الأنفوشي ليس كشك استحمام ... وإنما مسرح متواضع يؤمه الأطفال والرجال ليقزقزوا اللب، ويتفرجوا على راقصة بدينة، ورواية مضحكة، ورواية محزنة أيضا يموت فيها كل الممثلين ... وفي هاتين الروايتين تظهر سامية في دور صغير.
وسكت عبد الرءوف ... ونهضنا لنستنشق الهواء ... ولاحت لنا من شرفة الشقة في البناية المرتفعة في ستانلي حيث يقيم عبد الرءوف وأسرته، لاحت لنا سلسلة الأضواء الممتدة على الكورنيش حتى الناحية الأخرى من الشاطئ، وقال عبد الرءوف، وهو يشير إلى هناك: آه! هناك يا أستاذ، سامية، لقد عادت إلى الكشك الخشبي الحقير، ما أعجب ما ينهي القدر بعض الأقاصيص.
وتحركت السفينة في هدوء
كان زواجي بك سيكون مغامرة ... أدمر فيها بيتا، ولا أربح شيئا. ***
الفصول تمر بسرعة ... فيها كل أحداث القصة الغرامية ... من النظرة الأولى إلى اللقاء الأخير ... كل ما ينقص القصة أن يقف البطل مادا يديه إلى الهواء في حرارة ليقول: الوداع يا حبيبتي ... الوداع إلى الأبد ...
ثم ينزل الستار ويصفق الجمهور ... أو تشير البطلة إلى الباب، وتصيح بالبطل الغادر في صوت تشوبه غضبة العفاف الجريح قائلة: أخرج عليك اللعنة، فيخرج البطل مطأطئا رأسه مشيعا من النظارة بلعنات تفوق لعنات البطلة ... ولا يكاد ينفلت من الباب حتى تدوي القاعة بالتصفيق، وصيحات الاعجاب.
ولكن هنا لا البطل يتحرك للوداع ... ولا البطلة تتأهب لتشيعه باللعنة نحو الباب، إن ما يحدث في قصتنا هذه كذلك الذي يحدث في السينما حين تتوقف آلة العرض فجأة فتسكن حركة الكائنات على الشاشة، وكأنها صعقت ... صعقت قبل الختام مباشرة، واتخذ كل منها وضعا ثابتا لا معنى فيه ولا روح ... أجل لقد توقفت آلة العرض فجأة قبل ختام القصة ... توقفت خمس سنوات كاملة، وفي خمس سنوات كان يستعيد بين الحين والحين القصة من فصلها الأول إلى ما قبيل الختام، فإذا ما انتهى إلى المنظر الأخير حار عقله، وحاول أن يرسم في خياله صورة للختام كما يجب أن يكون ...
هل يودع البطل البطلة إلى الأبد؛ لأنها خانت عهد هواه؟ أو تشيع البطلة حبيبها الغادر باللعنة بعد أن نكث العهد؟ لا هذا ولا ذاك، إن القصة لم تصل إلى الختام ...
كان المنظر الأخير كما لا يزال يذكر، في حجرة الطعام ... وكانوا خمسة يتناولون العشاء هو أحدهم، وخرج وخرجوا بعد العشاء على أن تحادثه في الغد بالتليفون، فلم تتحدث في الغد، ولا بعد الغد ... بل لم تكن في القاهرة كلها طوال الشهر ... وحينما عادت لم يعلم بعودتها إلا حين لقيها في الطريق مصادفة، ومع أنها كانت وحيدة، وكان الطريق خاليا فلم تحاول أن تهدئ من سرعة سيارتها، بل أومأت إليه إيماءة خفيفة، وسارت وكأنه مجرد وجه تعرفه، وفي ذلك المساء حدثها بالتليفون، بدأ حديثه بالعتاب ... عتاب الحبيب الذي يكون آخر من يعلم بسفر الحبيبة وعودتها من السفر ... وجرى حديثها سؤالا عن الصحة ووصفا لجمال الإسكندرية في الشتاء، وسردا لمشروعاتها المقبلة، ومشروعاتها المقبلة كانت ترك السفر إلى أوروبا، وإنشاء شركة تجارية، و... و... مشروعات لم يكن فيها له أي دور ... حتى ولا دور المتفرج، كانت مشروعاتها إلى قبيل المنظر الأخير تقوم عليه وحده ... هو مدارها وهو لبها وهو هدفها.
وأغلق التليفون، وعرف أن شيئا قد حدث ...
وظل ينتظر أياما، ينتظر المنظر الأخير حيث يفترق العاشقان إلى غير لقاء ... وطالت الأيام شهورا ... ورآها خلال هذه الشهور أكثر من مرة ... لقيها مرة وجها لوجه، وكانت تسير على قدميها فوقف أمامها، ووقفت ... وقفت وقد أحس أنها كانت سوف تسير في طريقها دون أن تحييه ... وبادلها السلام، وتحامل على كرامته وضغط على يدها بحرارة، وقالت وهي تسحب يدها في ابتسامة لا روح فيها: كيف أحوالك؟ صحتك زي البمب كما أرى.
ونظرت في ساعتها وقالت - وهي تنقلب وكأنها تهرب: أنا مسرورة لرؤيتك.
وابتلع إجابته؛ لأنها كانت قد مضت مسرعة ... لقيها بعد ذلك عشرات المرات ... في المرات الأولى حيته بإيماءة ... وفي المرات التالية اكتفت بأن لمعت في عينيها ابتسامة، وتكاسلت عن الإيماء ... وبعد ذلك عرف كيف يجنب نفسه ويجنبها عناء الابتسام المتكلف ... كان يشيح برأسه كأن لم ير شيئا، وعلى ذلك مرت الأعوام، وألف كلاهما أن يرى صاحبه، وكأنه لا يعرفه ... أما هو فكان يحسها، وكأنها عطر قوي كلما مرت به أو عبر بها ... كان يحسها أحيانا قبل أن يراها ...
دخل مرة إحدى دور السينما ... كان أمامه رهط من الناس قد تجمع عند سلم السينما يوشك أن يصعد، وفي وسط هذا الجمع أحسها تسير ... لم ير وجهها ، ولا حتى خصلات شعرها ... ومع ذلك فقد أحس وهو يخترق الجمع أنها فيه ... وكانت فعلا توشك أن تصعد درج السلم، وكانت بينه وبينها مسافة، سرعان ما قصرت حتى وجد نفسه يسير حذاءها جنبا إلى جنب تماما كإحدى الصور التي يذكرها من قصتهما التي لم تتم ... لقد دخل معها ذات يوم إحدى دور السينما في حفلة العرض الأولى ... دخل معها جنبا إلى جنب ... وجلس معها جنبا إلى جنب ... وكانت مغامرة لا يقدم عليها زوج لم يمض على زواجه عامان ... كانت مغامرة بالنسبة لأي رجل يظهر معها في مكان عام ... هي بعينها، وما يعرفه عنها المجتمع ... رآها في تلك الليلة شقيقه الأصغر وشقيقته.
وضحك شقيقه بعد ذلك بيومين حينما احتدت شقيقته في عتابه قائلة: مالك ومال هذه المرأة، أتريد أن تلوث اسمك؟ ما الذي يحدث حينما يراك الناس معها؟
ضحك شقيقه، وقال ساخرا: وما أمر سخريته - أما أنك مسرفة في التشاؤم فذلك حق ... لقد دعاها للسينما، وقضى سهرة حمراء ... ثم انتهى كل شيء ... هل تظنينه سيصاحبها إلى الأبد؟ أي إنسان يطيق «...» أكثر من ليلة؟ هوني عليك يا أخت، فالزوج ما زال بخير، وإن شطح أحيانا ...
لو عرف أخوه إلى أي مدى كانت قصته معها قد وصلت ... لو عرف أن السهرة الحمراء لم تكن في قصته ... ترى كيف كان يضحك ... وبمن كان يسخر؟
وانتهت درجات السلم، ومرت بخاطره شتى الصور ... أما هي فاتجهت يمينا إلى مكانها دون أن تراه، وأما هو فقد رأى الرواية تلك الليلة، وقد اختلطت مناظرها بمناظر قصته معها ... طالما رفع نظارته ومسح زجاجها ليرى ما على الشاشة في وضوح ناسيا أن الضباب كان على عينيه، وليس على زجاج منظاره ... في تلك الليلة بالذات عادت إليه حيرته، فلم يأو إلى فراشه، وإنما لجأ إلى حجرة مكتبه، وجلس يستعيد القصة إلى ما قبيل الختام، يستعيدها منذ رفع الستار ...
المنظر: مكتب الأستاذ وصفي عبد الحميد حيث كان يتمرن منذ أتم دراسة الحقوق ... يدخل الخادم معلنا قدوم سيدة تطلب لقاء الأستاذ وصفي في إلحاح ...
هو :
ولم تسألني أنا يا أبله؟ ماذا قال لك الأستاذ؟
الخادم :
قال لي إنه أنكر وجوده على الزبائن جميعا ... وهددني بالفصل إن دخلت أنا أو أحد الزبائن عليه في مكتبه قبل الساعة التاسعة.
هو :
إذن تصرف ...
وتصرف الخادم ... ووجد نفسه وجها لوجه أمامها، أمام ماجدة عبد الرءوف، ماجدة التي رأى صورتها اليوم فقط في حفلة جمعية رعاية اليتامى تتوسط رهطا من العظماء، وهي تبيعهم الزهور بالجنيهات لصالح اليتامى ... ماجدة التي ارتبط اسمها بعشرات القصص خلال الأعوام القليلة الماضية ... قصص المغامرات المثيرة مع كبراء ونجوم المجتمع ... آخر هذه القصص كان حديث الناس منذ أسابيع، قصة هيام عبد اللطيف باشا سعد بها، وكيف استعانت زوجته بالبوليس لتستخلصه من أنياب ماجدة، وتخرجه من شقتها الأنيقة بعد منتصف الليل ... فضيحة لم تنشرها الصحف لمركز عبد اللطيف باشا الخطير، ونشرتها ألسنة الناس لنفس السبب ... وجها لوجه أمام فتاة الغلاف لصفحة الإشاعات في كتاب المجتمع.
وغلبه الارتباك، وتمتم بألفاظ التحية المعتادة في اضطراب، وتحركت يداه تشيران إلى المقعد، ولكنها سألته في عجلة: الأستاذ وصفي ليس موجودا الآن، قال لي ذلك الخادم، وإن كانت سيارته تقف أمام باب العمارة، لا يهمني ذلك، وإنما أريد أن أكلفه بعمل، أنت تعرف أنه محام.
ولم يكن يعلم، ولكنه أجاب: أعرف ذلك ...
قالت: أريد أن يبعث إنذارا لصاحب العمارة التي أقطن بها ... هل من الضروري أن أقابل الأستاذ لذلك؟ ... أظنك تستطيع أن تقوم لي بهذا العمل ...
ولم تنتظر إجابته، وإنما أخذت تشرح له ما تريد ... وكتب لها صورة الإنذار الذي تطلبه، وأمر الخادم فحمله إلى الكاتب ليكتبه على الآلة الكاتبة ...
حدث كل ذلك في أقل من نصف ساعة ... ونهضت ماجدة وحيته شاكرة وانصرفت، وبقي هو وحيدا ... وحيدا مع بقايا عطرها القوي يملأ رئتيه، وصوتها العذب يملأ أذنيه ... أما عقله فقد كان غارقا في عشرات الأفكار الغامضة، كان هذا أول منظر ... نستطيع أن نسميه النظرة الأولى ... النظرة الشاردة لا تحمل معنى من معاني الحب كما يفهمه الشعراء أو الكتاب ... هو نفسه لم يكن يجرؤ أن يقول إنه أحبها ... بل لعله ضحك لفكرة من أفكاره الغامضة ... فكرة قضاء ساعة مرحة مع ماجدة في نزهة بالسيارة، إن المنظر الثاني يحدث بعد ذلك بأيام ... من المدهش أن يكون هذا المنظر هو فكرته الغامضة نفسها التي ضحك منها.
أبواق السيارات ترسل أصواتها القوية من شارع قصر النيل، وكأنها في مباراة للإزعاج ... وهو يسير وحده يتأمل واجهات المتاجر ... وقف عند إحداها يطيل النظر، راقه رباط رقبة بديع فوقف يفكر في المغامرة؛ مغامرة شرائه وحمله إلى المنزل، وصوت زوجته وهي تقول في عتاب: «كرافتات ثاني ... ألا تشبع كرافتات؟» ويهم بالدخول.
ويرتفع صوت بوق سيارة يعلو على بقية الأصوات ويدوي بلا انقطاع، وكأنه ينادي أحدا ... يدير رأسه فيراها هي ... ماجدة تضحك، وقد وضعت يدها على عجلة القيادة، وكفت عن إطلاق البوق، وتصيح به وهي تضحك: ماذا؟ أذنك ثقيلة إلى هذا الحد؟
ويقترب منها محييا، ولعله اضطرب للمفاجأة، فهي التي تكلمت ثانيا: ماذا تفعل في هذا الشارع؟ - لا شيء ... أقطع الوقت ...
وأنا أيضا ... أقطع الوقت ... تعال ...
وتردد قائلا: قد تكونين ... - أكون ماذا؟ ليس لدي عمل، بل لعلي لا أعرف ماذا أفعل بليلتي كلها ... تفضل يا أستاذ ... ربما وصلنا معا إلى فكرة ...
فكرة ... ماذا لو جرؤ فعرض فكرته التي ضحك منها منذ أيام؟ ... نزهة في طريق الصحراء. - فكرة رائعة ... وستقص علي في الطريق تاريخ حياتك ... لا أدري لم أحب أن أعرف شيئا عنك ... إن هدوءك يثيرني ...
هدوء؟ وفي رأسه عشرات الأفكار تصطرع وتتسابق، كل منها تحاول أن تصل إلى نطاق التنفيذ ... هدوءه؟ وقلبه يكاد يخر تحت ضربات الفرح والانفعال الثائرة ... حمدا لله الذي لم يجعل العقل والقلب من أطراف الجسم الظاهرة كاليد والعينين ... وإلا لرأت في عقله عشرات الأفكار البيضاء والسوداء على حد سواء ... بعضها يزين له أن يحيط خصرها بذراعيه إذا ما أوغلت السيارة في طريق الأهرام، ثم يلثم خدها في رفق وأدب وحنان، وبعضها يهمس له ساخرا بقبلة الخد قائلا إنها أبعد طريق إلى قلب المرأة، ماذا لو لثم شفتيها ... لو بدا طفلا وتجاهل النار؟ وأفكار أخرى سوداء ... تلك الفكرة التي طردها في عنف والسيارة قد شارفت نهاية شارع الهرم، وأوشكت أن تنحرف إلى الصحراء ... هل يفعل ذلك؟ ينظر إليها في خبث، ويقول وقد أومأ برأسه: «ما لنا وللصحراء! ... دوري بالسيارة إلى المدينة، إلى شقتك الأنيقة نحتسي كأسا أولا.»
هو لا يشرب الخمر، وثانيا هي سوف لا تقبل ... سوف تنظر إليه في احتقار ... وسوف تدور بسيارتها فعلا، وتنهب الطريق إلى المدينة، وستقف حيث لقيته، وستقذف به في نظرة ازدراء قاسية دون أن تتكلم، هذا الاعتراض الثاني لو أنه تهدم لجرف في سبيله الاعتراض الأول ... لشرب حتى ثمل ... يا لها من فكرة ... فكرة سوداء ... تهوم فوق صورتها في خياله ... ثم تستقر على عقله لحظة ... فيطردها في عنف فتهوم من جديد، ثم تعود ليطردها من جديد، وتضنيه مطاردتها فيستقر لحظة ... يخيل له فيها أنها دارت بسيارتها، ووقفت السيارة أمام دارها ... وهبطت وهي تدعوه في دلال، ويدخلان سويا ... وتقدم له كأسا ... ويشرب الكأس، ويلثم الشفاه القانية، و... الثمن ... ثمن ساعة مرحة مع ماجدة ... وتفزع أفكاره جميعا، وكأنها طيور صغيرة هبطت فوقها كف طير جارح، ويطرق أذنية صوتها وهي تسأله: تعرف تسوق السيارة؟
ويجيب، وقد استراح من أفكاره، وهو يضحك: لا أبدا ... أعرف ركوبها فقط ... - مع أنها سهلة جدا ... - سهلة صحيح ... لكن لا بد من سيارة ليقودها الإنسان، هذا هو الصعب في الموضوع.
تقف السيارة ... ويقف المحرك، وتمد يدها بعلبة السجائر، وتقول وهي تشعل له: حدثني عن نفسك.
وتنطفئ الولاعة مرتين قبل أن تشعل سيجارته ... كانت يده تضطرب، وأنفاسه تلهث ... وكأنها كانت تطارد أفكاره، ويقول لها وقد ملك عنان نفسه: أنا ... محام تحت التمرين ... أعمل بمكتب الأستاذ وصفي منذ عامين، وأنال منه مكافأة شهرية قدرها عشرون جنيها ... عمري ...
وتقاطعه قائلة في تهكم: محضر تحقيق! عمرك ومرتبك، هذه معلومات تقدمها للخاطبة، أنا أسألك عن حياتك ... تفكيرك ... ماذا تقرأ، وماذا تحب؟
جالت بخاطره إذ ذاك مغامراته الصغيرة من قبل ... كان يكفي أن تأتي كلمة الحب على لسان فتاة لكي يهمس في أذنها باعتراف صغير، ويتلقى الجواب من شفتيها، هل يقول لماجدة أحبك أنت، ثم ... ثم ماذا؟ هل هي إحدى فتيات صباه اللائي تستهويهن قبلة، فتضرم نار الهوى وتحرق الحياء ... كم من القبل تذوقت شفتا ماجدة؟
وأنقذه من ذلك التيه الذي شردت فيه خواطره مرة أخرى صوتها الناعم. هل قرأت ديوان «م» الأخير؟
وأجاب دون تردد: لقد قرأت بعض قصائده ... لقد خرج في هذا الديوان عن بعض تزمته، وبدا إنسانا رقيق الإحساس ... قصيدته «الموعد» مثلا ذكرتني بشعر شللي ... هل قرأت هذه القصيدة؟
قالت: وأعرف متى كتبها ...
قصة حبه المعروفة، إني أشك كثيرا فيما يشاع عنها، لا شك في أنه أحب ... ولكنني أشك في أنه أحب «س» بالذات إنها لا توحي بشيء ... وأسرعت قائلة: لك أنت ربما ... لكن له، لقد كانت في وقت ما كل وحيه، غريبة أليس كذلك؟ أنت وأمثالك من السذج لا يصدقون أن تكون مثل هذه المخلوقة التافهة مصدر وحي لشاعر ممتاز، لكن من قال إن ملهمات العباقرة كن دائما ذوات خطر ... إننا لم نر إحداهن إلا في الثوب الذي خلعه عليها صاحبها.
ووجد نفسه يقول: لو كنت ملهمته أنت مثلا، ترى ماذا كان يضع في الشعر؟ - ربما كان لا يكتب قصيدة واحدة ... - أنت لا تلهمين ... أي مجنون قال هذا ...
وكان متحمسا إلى حد أضحكها ... أضحكها فترة عادت بعدها تقول: هل تنظم الشعر أنت؟ ... وتنقصك الملهمة؟
ومن هنا يدخل هو وماجدة إلى أحداث القصة، كان كل ما مضى مقدمات لكي تبدأ ... ما أكثر ما ضحك تلك الليلة من نفسه! وما أشد ما خجل من خواطره وأفكاره البيضاء والسوداء على حد سواء! عادا من طريق الصحراء عند منتصف الليل ... لم يطوق خصرها بذراعيه، ولم يحتس معها كأسا في شقتها الأنيقة، كل حصاده من متاع الأجساد قبلة حارة طبعها على يدها ... ومع ذلك فما أحس بأنه يقبل يدا، وإنما يلثم أطراف محراب، وتتوالى مناظر القصة كلها على نمط واحد.
يلقى ماجدة في المساء، ويحدثها في الصباح بالتليفون، يلقاها في شقتها، فيقضيان الساعات يقرأان الكتب، ويسمعان الموسيقى ... كانت تجلس إلى أريكة وثيرة، وقد استرخت كأنها تحلم، في حين جلس هو إلى مقعد بجوارها يقرأ لها شعر الحب لعشرات الشعراء، كانت تقول له: إلقاؤك يكسبه روحا ومعنى... من المؤكد أنك ستنظم شعرا عذبا يوما ما.
وكان يضحك قائلا: ربما ... هذا يتوقف عليك ... أنت إلهامي ذات يوم إن كتبت شيئا ...
وكان يحس، وهو يقرأ لها شعر النجوى والضراعة أنه لا يلقي نظم غيره ... كان يخيل له أنه يتحدث عن نفسه ... يتكلم بألفاظه هو، وكان ينتبه إلى نفسه كلما انتهى من تلاوة الشعر فيجدها تحملق فيه، أو تحدق في الفضاء ... حتى هي كان يخيل لها أنه يخاطبها ... وأنه يبث نجواه هو إليها، لا نجوى الشاعر لحبيبته، وكانا يخرجان أحيانا إلى الصحراء فتقف السيارة، وينطلقان في الخلاء، تخب أقدامهما في كثبان الرمال، وتخوض أفكارهما في خضم العواطف، وتلوك ألسنتهما شتى الأحاديث، يتحدثان عن القدر، وعن الناس، وعن الحب ... تقص عليه طرفا من حياتها، وما لقيت فيها من هناء وشقاء، كل يوم كان يمزق قناعا من نفسها الغارقة في عشرات الأقنعة ... بدت له نفسها آخر الأمر نفس فتاة تنطوي على إحساس بالخير والشر، والهناء والشقاء، والحب والكراهية، وخيل له ذات يوم أنها ... ماجدة ... فتاة، وليست كائنا من جنس غير البشر ... لها شفاه تلثم فتحس حرارة الحب ... وعينان تدمعان للأسى، وتلمعان للفرح ... وعندئذ فقط، وجد نفسه يتخلى عن دواوين الشعر ... ليناجيها بلغته وكلماته، وقد صب عليها قلبه من حرارته ما كساها روعة الشعر.
وقالت له يوما، وهي تحدق في الفضاء كأنها تسمع شعرا: هل تحبني حقا إلى هذا الحد؟
وأجابها في صدق: أجل يا ماجدة، أحبك من لقائنا الأول، كل ما في الأمر أنني كنت أحسبك تمثالا جميلا من المعدن فلم أبح لك بالحب، حتى تبينت لي إنسانا يسعد ويشقى وله قلب ... أنا أعرف أن حبي لك عبء يجب أن أحتمله وحدي ... أعرف أنه ليس في حياتك فراغ أملؤه ... لكنني مع ذلك أحبك.
وأطرقت ماجدة لحظة، وقالت بعدها، وفي صوتها إحساس وعاطفة: أنت تعلم أني أرتاح إليك، وأحب أن أكون معك، ليس حبك لي عبئا ... إنه على العكس يبعث في الأمل.
وتصل القصة إلى قمتها، ذات يوم كانا يستمعان إلى أغنية في الراديو ... لحن جميل نظمه شاعر يصف حبه، ويشكو فيه، لا هجر المحبوب ولا وصاله، وإنما خلو هذا الحب من الهجر والوصل معا.
حتى ليتمنى على المحبوبة أن تقسو عليه، ومدت ماجدة يدها وخفضت من صوت الراديو، وقالت في امتعاض: لا أحب هذا اللون من العلاقة ... إنه كالماء الراكد، أوثر عذاب الهجر على صقيع الركود ... أفضل ألف مرة أن أحب إنسانا فلا يحبني ويهجرني، على أن أظل معلقة بخيط الشك أو الغموض ... أنت ما رأيك؟
وابتسم ابتسامة فهمتها، وهو يقول: أنا من رأيك ... لكن أنت، ألا تحسين أنك تتركين إنسانا معلقا بهذا الخيط ... لو أن هذا الإنسان أدرك مصيره؟
وأمسكت بيده، وأخذت تربت عليها في رقة، ورفع يدها إلى فمه ولثمها، ثم سار بها حثيثا حتى استلقت على كتفه، وأحسها تلمس عنقه، وأحس بأنفاسها تتردد دافئة فتحسس طريقه إلى فمها، وغاب في قبلة طويلة، قبلة رسم خلالها خطوط مستقبل جديد، كانت قد استرخت على المقعد، وكأنما شربت في القبلة نفس الخمر فثملت ... أما هو فقد بعثت فيه مع النشوة نشاطا دب إلى خياله ... وقال وفي صوته عزم: هل تتزوجينني يا ماجدة؟ أو؟ ...
وأجابت وما زالت سكرى: أو ماذا؟ ... أترى نفسك ما زلت معلقا بخيط الغموض؟
وشربا كأسا أخرى من الرحيق نفسه، وامتلأت رئتاه بعطرها العميق، وتدفق الهوى في شرايينه حارا كالدم، وأخذ يصب في أذنيها الأماني ... - لن أظل في مكاني يا ماجدة في مكتب الأستاذ وصفي ... لقد بدأت أكون لي عملا، وسأفتح مكتبا خاصا بعد عام ... سنبدأ معا حياة جديدة مشرقة، أنت وأنا متفقان في مشاربنا، كلانا يقرأ كثيرا، كلانا يحب الأدب ... إننا على الأقل لن نجوع يا ماجدة، فلدي ما ييسر لنا حياة طيبة.
إن هذا المنظر هو أقوى مناظر القصة ...
ظل يتكلم طويلا، وألقى دوره بمهارة فائقة، وكأنما كان يستظهره منذ شهور، وظلت ماجدة تستمع ... ترى هل نجح في دور العاشق أمام عاشقة محترفة؟ وهل سمعت أذناها قبلا مثل هذا الأداء؟ ... إن ما حدث بعد ذلك كشف عن مدى نجاحه؛ إذ قبلت ماجدة الزواج منه، لقد نجح في أن يجعلها تنسى نفسها، وتتكلم كفتاة يفتح قلبها لنداء الحب، قالت له: وزوجتك؟
أجابها على الفور: إنها شابة وما زال أمامها المستقبل، وحين يحب الرجل المتزوج، فمعنى ذلك أن زوجته لم تملأ فراغ حياته ... أتظنين أنه في استطاعة الرجل أن يحب اثنتين؟
وأخذت تسوق الاعتراضات، وأخذ هو يحطمها واحدا واحدا، وراحت بعد ذلك تتخيل بيت الزوجية، وما سوف يكون بيت الزوجية الذي ما عرفته قط، هي التي ذاقت كل بيت عداه ... واتفقا على موعد للزواج بعد ثلاثة شهور، ولعله اطمأن منذ ذلك اليوم إلى أنها لم تعد الغانية ماجدة، بل أضحت خطيبته، وإن لم يعنيا بإعلان الخطبة ... لقد أعلن علاقتهما بعد ذلك سير هذه العلاقة ... بدأا يظهران سويا، ويغشيان المطاعم ودور السينما، وكثيرا ما كانا يقابلان أصدقاء ماجدة ... كانت تومئ لبعضهم من بعيد، وكانت تقدمه للبعض الآخر ... وكان هذا البعض الآخر شعراء وفنانين من الشبان ... وكان هو يعرف بعضهم من قبل، كانت تقدمه كصديق، وكان كلما سألها لماذا لا تنبئهم بالخبر تقول له ضاحكة: ولم التسرع؟ سيعرفون النبأ في حينه ...
وفي شقتها الأنيقة كانت تجمعه وإياها وأصدقاءها من الأدباء والشعراء سهرات رائعة يتحدثون فيها، ويستمعون للموسيقى، ولا ينسى ذلك اليوم حين جاء صديقها الموسيقار «م»، وقد تأبط نوتة لحن من وضعه، وجلس يسمعهم اللحن بصوته الحنون، وعيناه مسمرتان على وجه ماجدة حتى انتهى اللحن، وصفق الجميع، وصفق هو معهم، وإن كان قد أحس شيئا من الضيق ... ضيق لم يخالجه شك حينذاك، ضيق ضعيف انفرج مع صيحات الإعجاب والتصفيق باللحن والأغنية، وقال «س» وهو ممثل يستنفد قدرته الفنية في التظاهر والتمثيل في الحياة، قال وقد خفت موجة الإعجاب: عرفنا أن اللحن من تأليفك، ولكن من الذي وضع هذه الأغنية الجميلة ... ويجيب الموسيقار ببساطة: الأغنية من تأليف صديقنا الشاعر «ع» لقد وضع الأغنية لماجدة، وأنا لحنتها لها ... إنها من وحيها لحنا، وغنائها لها ... ويصفق الجميع من جديد، وقد توجهت أنظاره إلى الشاعر «ع» الذي جلس في حياء، وقد اصطبغ وجهه بحمرة قانية ... وكأنه عذراء تسمع حديث الحب لأول مرة ... وصفق هو مع الجميع، وأحس بضيق أشد قسوة وظلا من ضيقه الأول ... وكان مطلع الأغنية:
عرفتك في ربيع عمري
يا ريت العمر كله ربيع
ماذا بعد أن عرفها؟ لطالما سأل نفسه تلك الليلة وهو يتقلب على فراشه ذلك السؤال، وكان يجيئه الجواب يوما بعد يوم حتى تجمعت سطوره في عبارة واحدة: إن ماجدة كانت وحيا لأكثر من قصيدة، وأكثر من شاعر، وكانت إلهاما لأكثر من رسام ومثال، وكانت نغما لأكثر من لحن وموسيقار ... وهو؟ ... هو الذي سوف يحظى يوما بهذا النبع لينهل منه إلى الأبد ... وكان هذا يعزيه ويبعث إلى نفسه الراحة ... فلم يشك يوما، ولم يسئ الظن ... حتى في قرار نفسه.
وكان يقول لنفسه كلما خطر له خاطر سوء: «ولم تخدعني، ولا مأرب لها ولا هدف؟ كل ذلك ضرائب الشهرة واللمعان ... قصة الفراش وهالة النور في كل زمان ومكان.»
حتى كان ذلك المنظر من القصة حين توقفت آلة العرض، فوقف كل شيء، وسكتت كل حركة، كانوا خمسة يسهرون عند ماجدة هو أحدهم، وكان ذلك قبل موعد الزواج الذي حدداه بثلاثة أسابيع، بدت ماجدة تلك الليلة في ثوبها الأزرق رائعة ... وكلمة رائعة لا تكفي، بدت شيئا أخطر من أن يمتلكه إنسان، أو يستأثر به حب واحد، كانت أكثر من امرأة واحدة، حتى لقد سأل نفسه سؤالا لم يستطع الجواب عليه، هل يقوى حبه وزواجه بها مهما يكن قويا وسعيدا أن يضفي عليها ثوب امرأة الرجل الواحد، فلا تشع روحها إلا على حياته وحده؟
وأدار بصره حواليه أكثر من مرة، فأحس بعجزه عن الجواب ... أو على الأصح بشكه في أن يكون جوابه بالإيجاب ... ها هم أولاء خمسة، ومع ذلك فإن ماجدة تسبغ عليهم جميعا ثوبا من البهجة، وتشع بروحها عليهم، وكأن كلا منهم يحظى من السعادة أكثر مما يطيق ... وينتصف الليل، وتمضي ساعاته الأولى، وينصرف الجميع، ويكون هو آخرهم ... يلثم يدها في عمق، ولا يكاد يفتح فمه حتى تقول له، وهي تربت على يده: غدا، غدا سأحادثك بالتليفون ...
غدا؟ غدا، ولا بعد غد ... وتسافر إلى الإسكندرية وتعود، ويتبين أن قصة هواه قد وقفت عند ذلك المنظر دون أن تصل إلى ختام.
قصص الهوى كما ألفتها الحياة ... أو ألفها الكتاب ... لم يلتق البطل والبطلة في قبلة لا فراق بعدها ... ولم يفترقا في دمعة كبيرة يذوب في حرارتها الحب؟! •••
بعد خمس سنوات تتحرك آلة العرض فجأة أيضا، فيتحرك كل شيء ويمر على شاشة الحياة آخر موقف من مواقف القصة ... موقف الوداع ... يودع البطل البطلة إلى الأبد ...
المنظر، ميناء فينسيا والباخرة قد رست لتلتقط بعض الركاب العائدين إلى مصر بعد رحلة الصيف في أوروبا.
كان هو أحد هؤلاء العائدين، وضع أمتعته في مقصورته بالباخرة، وخرج إلى إحدى الصالونات، وجلس وحيدا يقلب في نهم صحيفة مصرية أعطاه إياها أحد الركاب من المصريين، وأعلن أحد ضباط السفينة أنها ستغادر الميناء في الساعة العاشرة مساء ... وكانت هناك ساعتان باقيتان، وكان الكثيرون من الركاب قد تفرقوا بين قاعة الطعام، وصالونات الباخرة ... وقريبا من البار جلست جماعة من المصريين تقطع الوقت في الحديث على رنين الكئوس، ورفع رأسه على ضحكة عالية ... ضحكة لم ينسها ولن ينساها ... ووجد ماجدة تتوسط تلك الجماعة، وإلى جانبها صديقها المليونير الكهل آخر من ربطتها به الشائعات منذ عام، ورأته ماجدة، وهزت رأسها تلك المرة في تحية باسمة ... رد عليها سريعا، وعاد ببصره إلى صفحات الجريدة، ومر نصف ساعة بذل خلاله كل جهده لكيلا يرفع بصره عن الصحيفة ... كان كل ما يشغل فكره ليست أنباء الصحيفة، وإنما قصة ماجدة معه، وكل ما سمعه عنها منذ افترقا إلى الآن.
وأرغمته حركة المقاعد أن ينظر من جديد إلى مائدة ماجدة، فوجد الجمع قد نهض ليحيي صديقها المليونير الذي سمع صوته يقول ماجدة: «إنني متعب، وسأذهب إلى مقصورتي، قومي حتى تسأمين حديث هؤلاء السادة.» وتلتقي عيناه مرة ثانية بعيني ماجدة، ويلمح في عينيها ظل ابتسامة ... وتمر بضع دقائق فيهب من مكانه ويتجه إلى سطح السفينة، ويقف مطلا على الميناء، وقد انعكست عليه الأنوار، وتمر بضع دقائق أخرى، فيحس إلى جانبه شيئا يتحرك، فيلتفت فيرى ماجدة وحدها، وقد وقفت إلى جانبه تتأمل الميناء، ويشق سكوتهما صوت ماجدة: أما زلت حاقدا علي؟
ويصدمه السؤال فيرتبك ... يرتبك حتى يتعثر الاضطراب على شفتيه: أنا ... أنا أحقد عليك!
وتسارع قائلة: لا ... لا ... أعرف أنك غاضب مني، ولك العذر، لكن كان لا بد أن أتركك هكذا معلقا ... ماذا كنت تنتظر أن أفعل؟
وكان على وشك أن يجيبها: أن تلقي السطر الأخير في القصة.
لكنها لم تتح له الفرصة إذ استطردت: كان زواجنا أمرا مضحكا، كانت فترة ركود في حياتي حين عرفتك، ثم إني كنت أعجب بك.
وقال: كما كنت تعجبين بالشاعر «ع» والموسيقار «م»؟ - تماما، حتى حين حدثتني عن الزواج ... فقبلت ...
وكنت جادة حين قبلت، كنت أظن أنها فكرة رائعة، أن تتزوج مثلي وتستقر، حتى تبينت خطئي، تبينت أن المغامرة سوف تكون فاشلة بالنسبة لي على الأقل ...
وأجاب ساخرا: مؤكد ... الزواج من شاب ليس مليونيرا ... وليس كهلا ...
وقاطعته منفعلة: أنت لا تفهمني ... كنت تحبني، أليس كذلك؟
وسكت ... - كنت تحبني ... وكنت ستتزوجني، وتطلق زوجتك ... ثم تدخل حياتي، حياتي كما هي، أو أدخل حياتك ... كما هي ... الذي حدث أنك أنت دخلت حياتي وعشت فيها واحتملتها أياما، و... واعذرني إن قلت لك ... لم أحس لحظة واحدة أن عاطفتي نحوك من القوة بحيث تخرجني من هذه الحياة ... إلى آخر يوم كنا فيه سألت نفسي ... هل أنا على استعداد لأن أتخلى عن كل شيء في حياتي لأدخل في حياتك زوجة تغلق عليها جدران أربعة؟ وكان الجواب دائما «لا» ... معنى ذلك أن زواجي بك لا يكون إلا مغامرة ... - مغامرة ... وهل تخشين المغامرات؟ - مغامرة ستدمر بيتك أنت، وحياتك أنت.
ومضى في سخريته ... - تدمر حياتي وبيتي ... وهل يزعجك تدمير بيت؟ أنت؟
وتملكها الغضب، وقالت ثائرة: طبعا لا يزعجني ... لكن أي بيت ... حين أدمر بيتا، فإني أختار البيت الذي أدمره ... وأختاره بنفسي ... تكون أنقاضه تساوي شيئا ... لكن بيتك أنت ... ماذا كانت تساوي أنقاضه؟ ... مغامرة إن خسر فيها غيري فلن أربح فيها أنا شيئا ذا قيمة.
وكأنما أحست بقسوتها فعادت تقول في رقة: اعذر صراحتي ... لم أكن أحب أن أواجهك بهذا، لكن أنت لا تريد أن تفهم. - بل فهمت يا ماجدة ... عز عليك أن تغامري مغامرة صغيرة ... وعز عليك أيضا أن تكلفي خاطرك مشقة الرفض ... الرفض الصريح ... ولم يكن يكلفك شيئا أن تقولي لن أتزوجك؛ لأنني لا أحبك إلى الحد الذي أضحي فيه بحياتي اللاهية. - أو أضحي فيه ببيتك أنت على الأصح.
ومرت فترة سادها الصمت، قطعها بعد ذلك صوت ماجدة، وكأنما كانت تبكي، لو أني قلت لك إذ ذاك إني لن أتزوجك لأنني لا أصلح لك ... ولأن حياتي لو دخلت فيها فلن تجني خيرا ... لأنني أحرص على بيتك الصغير ... فربما جعلك ذلك تبدو ... وأنا أعرفك طيب القلب ... كمن يأسره النبل، فتتمسك بي ... كنت أستطيع أن أبدو لك بمظهر الفتاة النبيلة فتزيد تمسكا بي، وكنت أيضا أستطيع أن أكذب عليك فأزعم لك أني أحب غيرك ... فأجرحك جرحا ... جرح الرجل يهزم في قلبه وكرامته ... لكنني آثرت أن أنسحب من حياتك دون ضجة ... آثرت أن أترك حبل هواك يرخيه الزمان ... لقد أخطأت مرة واحدة ... أتعرف متى؟
كان غارقا في الصمت، فأجابت هي: حين دعوتك أول مرة لنزهة في الصحراء ... كان أبعد ما أتخيله أن تحبني، وأن ترى في شيئا غير ما يراه الناس ...
وتحركت ماجدة إلى مقصورتها ... وتحركت السفينة في هدوء ... بعيدا عن الشاطئ ...
صفحات من مذكراته
إنها سعادتها عدوي الوحيد، إن أبي وأمي يحرقان صبري بخورا يجلب لها السعادة ... ***
دعني أقدمه لك أولا ... إنه ليس رجل أعمال خطير الشأن تتحرك لحركته دوائر المال والأعمال، أو تنخفض الأسعار وترتفع ... ولا هو رجل فكر يوجه الرأي العام بآرائه، ويميل بتفكيره حيث يريد، ولا هو أديب يمتشق قلمه فتتلقف المطبعة ما ينثال من هذ القلم لتنشره على الناس ... إنه ليس هذا ولا ذاك ولا الذي قبله ... إنه مجرد إنسان عادي ولد في القرن العشرين وما زال يعيش مع الأسف (وهذا تعبير مأخوذ من مذكراته) أما كيف ولد؟ فإن لذلك قصة دامية.
لقد تعسرت ولادته على أمه، فخرج بعملية جراحية إلى الوجود وعادت هي بالعملية نفسها إلى العدم ... وكان أبوه يحب أمه حبا يقرب من العبادة، فكرهه هو لفعلته الشنعاء كراهية تقرب من الكفر، وليس تعبير «فعلته الشنعاء» من عندي، إنه تعبيره أيضا عن موت أمه بعد ولادته، إنه يقول في مذكراته إن أباه كان يناديه منذ بدأت أذناه تعيان الألفاظ قائلا: «تعال يا قاتل أمه ... كل يا قاتل أمه ...» وإذا كانت القصص لا تنتهي بالولادة، وإنما تبدأ بها، فلا بد أن تسير في حياته منذ ذلك اليوم فتراه يكبر كما تكبر الأطفال حتى يبلغ التاسعة، وعندئذ يتزوج أبوه من سيدة لها طفلة في مثل عمره، ويضاف إلى حجرته سرير صغير كسريره تنام عليه أخته الجديدة.
وكل التجديد الذي يطرأ على حياته منذ ذلك اليوم هو مولد عدو جديد هو السيدة والدة الأخت وزوجة الأب ... ومنذ ذلك اليوم يبدأ كتابة مذكراته ... لا يكتبها على الورق، وإنما ينقشها في صفحة خياله حتى تمر خمس سنوات، ويصل إلى سن الرابعة عشرة فيدخل عليه أبوه ذات يوم حجرته، ويدفع إليه بمفكرة كبيرة للعام الذي انصرم قائلا: خذ! بدلا من شراء كراريس، حل واجبات الحساب في هذه الأجندة.
ولما كان يعرف نتيجة تنفيذ رغبة والده، خمس ضربات بالعصا الرفيعة على باطن اليد، العقوبة الرسمية التي يفرضها مدرس الحساب لمن لا يحل الواجب بخط نظيف في كراسة المدرسة، فهو يؤثر السلامة، ويتظاهر بإجابة والده، ولكنه لا ينفذها ... إنه ينفرد بنفسه بعد ذلك في الحجرة، ويأخذ في تقليب «الأجندة» ويلاحظ أن لكل يوم صفحة، ويخطر له الهدف الذي يحتفظ الناس من أجله بالمفكرات لكي يكتبوا في صفحة كل يوم ما حدث فيه ... أو ليقيدوا مواعيد الأيام المقبلة حتى لا ينسوها.
ونحن الآن ... هو والمفكرة والقراء حسب تعبير المذيعين ... نحن الآن في عام 1938، و4 من مارس 1938 على وجه التحديد ... والمفكرة هي مفكرة هدية من إحدى شركات الأدوية لرأس السنة عام 1937 ... وفي كل صفحة منها حكمة، أو قول مأثور، وتحته إعلان عن أحد أدوية الشركة.
إنه سيبدأ كتابة هذه المذكرات من اليوم ...
لكن الأربعة عشر عاما التي مرت ... ألا يحسن به أن يكتب ما يذكره عنها ... إن لديه صفحات المفكرة من أول يناير 1937 إلى 4 من مارس 1937 فليجعل لكل شهر مضى من حياته صفحة، إن أجمل ما في الماضي - ماضي الطفولة - أنه ليس طويلا كالحاضر ... إن الإنسان يستطيع أن يتمثله في لحظة واحدة، في إحساس سريع كالبرق ... إحساس فرح أو إحساس حزين ... ولكنه لا يستطيع حتى أن يجعل لكل شهر من حياته صفحة من صفحات المفكرة، وذهنه الصغير يهديه إلى حسه الساذج أن أيام حياته إلى اليوم ثلاثة ... يوم ولد، ويوم تزوج أبوه، ويوم جلس مع أخته ... أخته التي فرضها عليه القدر كما فرض عليه أن يكون طفلا بغير أم ... يوم جلس مع هذه الأخت على مائدة الطعام، وأمامهما والده ووالدتها، وقالت زوجة أبيه: بنتي الآن ليست صغيرة، وأريدها أن تنام وحدها في حجرة أخرى.
وأجاب أبوه: وإذا كانت حجر المنزل محدودة، فماذا نفعل؟
وردت الزوجة: أبدا، نستطيع أن ننقل المكتب إلى حجرته، وننقلها إلى الحجرة الثانية، ونشتري لها دولابا. - ومحمود الخدام ... أين ينام؟
وكانت هذه هي الجملة الوحيدة التي قالها على المائدة ... وكان الرد عليها رد والده الجاف: ينام معاك يا أخي ...
هذا يوم من أيام حياته أيضا، لا يقل أهمية في نظره عن يوم زواج أبيه، ولا يوم ميلاده، إنه لا يعرف شيئا عن يوم ميلاده؛ ولذلك فهو يمسك بالقلم، ويكتب في الصفحة الأولى من المفكرة بعد أن يغير التاريخ: «في يوم من الأيام ولدت ورفضت أمي أن تراني ... أغمضت عينيها عن الحياة في الوقت الذي فتحت أنا فيه عيني عليها ... إنني لم أر شيئا، ولم أعرف شيئا في ذلك اليوم ... ومن المؤكد أنه كان هناك صراخ وعويل كثير؛ فقد كانت أمي محبوبة من أبي جدا، ومن خالتي فاطمة ... وتقول خالتي فاطمة إن أمي كانت في غاية الشوق لكي تراني في الحياة، وليس خطئي أنني لم أحقق لها هذه الأمنية ... أبي يقول لي دائما: «يا قاتل أمه» ومعنى ذلك أني قتلتها ... إن خالتي فاطمة تؤكد أن هذا لم يحدث، وأن الطبيب هو الذي قتل أمي، أنا أكره الأطباء من كل قلبي، ولن أصبح طبيبا أبدا ...»
ثم يكتب عن اليوم الثاني: «خلع أبي الكرافتة السوداء التي لم أره يغيرها منذ وعيت ما حولي، وحلق ذقنه بعد الغداء مرة ثانية مع أنه حلقها في الصباح الباكر كعادته، وطلب من خالتي فاطمة - وهو خارج - أن تعيد تنظيف حجرته، ومنذ أيام كان قد أحضر أثاثا جديدا لهذه الغرفة، وحينما عاد أبي في المساء كان البيت كله منيرا، وحضر معه ثلاث سيدات ورجلان وطفلة صغيرة، ونامت الطفلة الصغيرة في حجرتي منذ تلك الليلة.»
ولم يجد ما يكتبه بعد ذلك عن هذا اليوم إلا سطرا واحدا أضافه في سذاجة: «عرفت في الصباح أن أبي قد اشترى لي أما جديدة.» ... أما اليوم الثالث فقد بدأ كتابته بإسهاب، كان لا يزال يذكر تفاصيل ما حدث على المائدة، فذكره بالحرف الواحد، وملأ الصفحة، وانتقل إلى الصفحة التالية، قال إنه بكى تلك الليلة طويلا، ولا يدري لماذا ... وكان كلما نظر إلى وجه محمود الخادم زاد في بكائه ... إنه لم يكن يحب «أسماء» ولكنه مع ذلك كان يحس في نومها في حجرته راحة، إنهما متساويان، أما اليوم فقد أصبح له زميل واحد ... هو محمود الخادم، وختم حديثه عن ذلك اليوم قائلا: «أصبحت وحدي منذ ذلك اليوم في وسط أسرة تكرهني.»
وأغلق بعد ذلك كتاب مذكراته، وكأنما أغلق هذا الماضي من حياته ... الأربعة عشر عاما في أربع صفحات ... يا لها من فكرة جميلة أن توضع الحياة في مثل هذا الحيز الصغير من صفحات «أجندة» قديمة!
وأخذ منذ ذلك اليوم يكتب مذكراته.
كل يوم كانت تتحول ساعات النهار وساعات الليل الأولى إلى بضعة سطور ... كتب في آخر أبريل يقول: «عادت أمي إلى المنزل هي وأسماء في الساعة السابعة مساء، وكنت أنا جالسا في حجرتي أذاكر الجغرافيا، وتقدمت أسماء مني، وقالت: ألا ترى ثيابي الجديدة ... ثياب الصيف، لقد جئنا بها من عند الخياطة الآن، واشترينا لكل ثوب حذاء ... ثم ... اترك ما بيدك، وتعال اتفرج.»
وتركت مكتبي، وذهبت إلى سريري، وكانت أسماء قد فكت اللفافات، ونثرت ما فيها على السرير ... وأخذت أجيل بصري ... ثلاثة أثواب بديعة من القماش الثمين، وثلاثة أزواج من الأحذية ... وشرائط وحقيبة يد، أمسكت بيدي ثوبا أتفرج عليه، وإذا بصوت أمي يصدمني قائلا: أنت مجنونة يا أسماء! تضعين الثياب الجديدة على السرير القذر؟ اجمعي ثيابك واذهبي إلى حجرتك ... ماذا يفهم هو من كل ذلك؟
وسارت أسماء وأمي، ورفعت عيني وحاولت أن أصعدهما في أركان الغرفة لأمنع قطرات الدمع العالقة بأجفاني أن تسقط على الأرض، فاصطدمت عيناي بمنظر لم تقو بعده على المقاومة، وانهارت الدموع ... إنه منظر بدلتي البني الثقيلة التي أوشكت أن تتناسل.
ليس هناك أمل في تغييرها ... إلا أن أعود لبدلتي الثانية الضيقة التي كان يجب أن تلقى في صندوق القمامات ... إن والدي طلب مني منذ أيام أن أغير بدلتي قائلا: «هو أنت مدام عندك بدلة جديدة لازم تلبسها لغاية ما تدوب؟ لم لا تلبس بدلة أخرى؟» والدي يعرف جيدا أنه منذ عام لم يشتر لي بدلة.
إن ذيل الصفحة التي كتب فيها مذكرات هذا اليوم تشوبه صفرة، وكأنما سقطت عليه من قديم قطرات من العرق أو الدموع.
وينتهي العام، ويغلق صفحات «الأجندة» ويكون قد تعود أن يسرد لهذا الصديق الصامت حوداث يومه، ويمر يوم أول يناير عام 1939، ويأتي مساؤه عليه، وقد آوى إلى فراشه، وتدثر بالغطاء، حتى وجهه قد غطاه، وكانت تلك عادته لا يستطيع النوم في النور، أو عاري الوجه ... ويحس شيئا ينقصه ... يحس أنه في حاجة إلى أن يقص أخبار يومه على صفحات الورق الأبيض، وينتابه القلق حتى ليخيل إليه أنه لن ينام ما دام لم يكتب سطور مذكرته ... فينهض من فراشه، ويمسك بورقة بيضاء، ويكتب عليها ما حدث في يومه، ويضعها بعناية بين صفحات المفكرة القديمة ... وفي الصباح وهو في طريقه إلى المدرسة لا يشتري كعادته سندوتش الجبن الذي يفطر به، وإنما يدفع بثمنه في ركن من أركان درج المكتب، ويكرر ذلك بضعة أيام يخرج منها بثمن مفكرة جديدة للعام الجديد، ويقضي ليلة ينقل فيها إلى صفحات مفكرته الأيام التي فاتته من العام، ولا ينسى أن يسجل في صدر المفكرة تحت فاتحة القرآن، كيف استطاع أن يشتري هذه المفكرة؟ وما أسرع ما تمر الأيام! صفحات المفكرة تمتلئ بالحروف السود كصفحات قلبه تماما ... إنه يرى في هذا العام أياما سودا لا يستطيع مداد القلم أن يحاكيها، ولا تستطيع السطور أن تحكيها ...
كتب في أمسية يوم من تلك الأيام سطرا يقول فيه: «تبينت اليوم عجز القلم والكلام عن التعبير في بعض الأحيان، أي كلام يستطيع أن يعبر عن مدى سخطي وتعاستي اليوم؟» ... إن قصة ذلك السخط وتلك التعاسة، كما رواها قبل هذا السطر، هي اضطهاد جديد تلقاه من زوجة أبيه، أمه كما كان يجب أن يسميها في مذكراته، كانت إجازة نصف العام بعد أيام، وأعدت المدرسة رحلة إلى الصعيد، وجعلت رسم الاشتراك فيها للطلاب زهيدا، هو جنيهان فقط، وعرض الأمر على أبيه في حضور «أمه» فإذا بها - وقبل أن ينطق أبوه بحرف - ترد في غلظة: لم يبق إلا أن نتحمل مصاريف لهوك أيضا، كأنه لا يكفي مصروف المدرسة والطعام والكساء ... إن غيرك يوفر على أهله مصاريف المدرسة.
لو أن الاقتصاد كان قاعدة تتبعها الأسرة لما سخط ولما أحس التعاسة ... لكن أباه في اليوم نفسه دفع إلى أسماء بسوار من الذهب قائلا وهو يضحك: حتى يحين موعد زفافك سيكون لديك مصوغات تجعلك غنية.
إن حادث الرحلة المدرسية المرفوضة والسوار الذهب الممنوح يتكرران في صور شتى ... تمضي سنوات 1939 و1940 و1941.
وفي مفكرة كل منها مذكرات أيام تفيض بأمثال هذه الحوادث، وفي عام 1941 في 5 من فبراير يكتب في أسلوب رهيب: «إن صفحات المفكرة أقل إيلاما من صفحات الذاكرة ... ما دامت المذكرة لا تقلبها يد، ولا تقرؤها عين فهي صامتة تنطوي على ما فيها من ذكريات مريرة، أما ذاكرتي فهي قاسية تميل إلى الأحزان، لا تكاد تمر بي لحظة تعسة حتى تسارع هي فتنثر على بساط خيالي تعاسات العمر كله منذ عرفت الحياة، وكأن كل همها أن تكسو الجو كله بالغيوم، إنها هذه الذاكرة التي لا ترحم تدفعني إلى أفكار شريرة جعلتني اليوم أتمنى لو رأيت هؤلاء الثلاثة، أبي وزوجته وأسماء، موتى موسدين التراب، إني لأتمنى ذلك الآن ... لا لأني أكرههم، ولكن لأنني لا أرى في الموت عذابا، إني شخصيا أتمناه من حين إلى حين.»
وفي أواخر عام 1941 يخط سطورا ... سطورا لم يدرك مداها إذ ذاك، وإن كان قد أدركه بعد أن خرج من سلطانها الرهيب، كتب في ذلك اليوم: «كل ما ينالني من أذى، وما ألقاه من سوء معاملة، وما أحرمه من مصروف أو عطف، كل ذلك يذهب لكي يستحيل حنانا وخيرا وسخاء على أسماء، إن أبي وأمي يحرقان صباي بخورا يجلب لأسماء السعادة ... إن أعدائي ليسوا هم أبي وأمي ... إنها سعادة أسماء، عدوي الوحيد ... لو استطعت أن أحطم هذه السعادة، وأن أغرق هذه المخلوقة التي تقف سعادتها في سبيل حياتي، لو استطعت أن أغرقها في سيل من الشقاء لفعلت وأنا غير نادم، إن ما يجعلني أجن هو أنها لا تحس أبدا بأنها هي سر شقائي ... بل إنها تحادثني أحيانا كما لو كنا صديقين ...»
لقد حدث ذلك أكثر من مرة، حدث أن كان مغيظا مهتاجا ذات يوم؛ لأن أمه أساءت إليه إساءة بالغة لأنه مشط شعره بمشط أسماء ... وكان الأمر تافها لولا أنها - أي أمه أو زوجة أبيه بتعبير أصح - انتهزتها فرصة لتسيء إليه، وتجرح من كبريائه وترميه بالقذارة، كان مغيظا مهتاجا ، ولو نزل إليه في تلك اللحظة ملاك أو شيطان يأتمر بأمره، ويسأله ما يطلب لما طلب غير هلاك أسماء، إنه يصف تلك اللحظة في مذكراته قائلا: «وصعد الدم إلى رأسي فلم أر شيئا، وتملكتني خواطر غريبة، نقلني الغضب إلى حالة إغماء لم أفقد معها توازني، وإنما فقدت صلتي بالعالم ... وخيل إلي أن نجاتي معلقة بأن يهبط إلي ملاك من السماء، أو يصعد إلي شيطان من جوف الأرض ... فإذا ما سألني أحدهما أو كلاهما عما أطلب لقلت دون تردد ... قلت للشيطان: خذ روحها إلى أعماق الجحيم ... وقلت للملاك: اصعد برأسها، وعلقها في قمة شجرة ... بل لقد خيل إلي أن الملاك والشيطان قد التقيا بين يدي، وأني أهمس فعلا بأمري الرهيب ... ولعل شفتي قد تحركتا ببعض الألفاظ، لولا أن أفقت على صوت أسماء نفسها تهمس بي قائلة: لا يأخذك الغضب ... إني آسفة، خذ مشطي ومشط شعرك في حجرتك ... إني شخصيا لا أرى رأي ماما ... أنت لست قذرا.»
ولم يكن هناك أحد غيرنا إذ ذاك في الردهة بين حجرتي وحجرتها، فمددت يدي وأخذت المشط، وقذفت به بكل قوتي إلى الأرض، ونظرت إليها في حقد ومشيت، ومع ذلك فاليوم بعد العشاء والليلة إحدى الليالي التي نتعشى فيها جميعا على المائدة، وما أقل هذه الليالي، بعد العشاء جاءت أسماء إلى حجرتي بمشط أحمر اللون قائلة: «خذ هذا المشط لك ... إن عندي أكثر من مشط.»
وفكرت أنا - بعد أن خرجت - كيف سخرت مني أمها حين طلبت من أبي ثمن مشط ... عندها هي أكثر من مشط ... عندها كل شيء، ولها المزيد، أما أنا فلا شيء ...
وتمضي مذكراته خلال عام 1941 هكذا ... حافلة بالسخط والغضب، وبعشرات الأفكار الشريرة نحو أسماء حتى قبيل نهاية العام؛ إذ يكتب في 9 من ديسمبر مذكرة يومه مختصرة لا تعدو بضعة سطور. «توفي قريب لأمي، وسافرت هي وأبي في الصباح للعزاء، وحينما جلسنا أنا وأسماء للعشاء خطرت لي فكرة رهيبة ... بعثتها في رأسي تلك الرقة التي تعاملني بها أسماء والنظرات الخالية من الحقد التي تصوبها إلي ...
بعد العشاء جلست أتصفح أحد الكتب حتى كانت الساعة العاشرة ... وكنت وحدي على مائدة الطعام حتى أحسست البرد، فآثرت أن أذهب إلى غرفتي ... كان باب حجرة أسماء مفتوحا، وكانت مستلقية على الفراش تقرأ تحت ضوء المصباح المثبت فوق فراشها، لطالما تمنيت أن يكون لي مثل هذا المصباح فوق فراشي، ولكنني لم أجرؤ على طلب ذلك، وقالت أسماء حين مررت ببابها: هل كنت في غرفة المائدة إلى الآن؟
وتوقفت لأجيبها، فراحت تسأل مرة ثانية: ماذا كنت تقرأ؟
وولجت الباب، واقتربت من فراشها فقالت، وهي تشير إلى حافة الفراش: اجلس!
وتحدثنا زهاء الساعة ... كان الباب مفتوحا، ومرت خالتي فاطمة، فرأتنا نتسامر فقالت في سذاجتها، وهي تتصنع الجد: لا تطيلا السهر ... إن وراءك مدرستك في الصباح.
حينما أويت إلى غرفتي كانت في رأسي أشياء كثيرة ... أفكاري الحزينة نفسها كأشباح سوداء يخطر خلالها - في ثوب النوم الوردي - قوام أسماء ...
وفي خلال الأيام الأربعة التي غابها الوالدان كانت مذكراته تحمل سطورا عن أسماء ... كان يذكر أنهما جلسا يتحدثان بعد العشاء ... ثم يذكر خواطره التي تتنازع تفكيره ... ثم يتحدث عن أسماء ... وفي كل مرة يتكرر حديثه عن قوامها ... في إحدى الليالي نهضت من فراشها بثوب النوم لتحضر له من دولابها بضع قطع من الشيكولاته ... لقد ختم مذكرته ذلك اليوم قائلا: «وتبينت أني تركت قطعة الشيكولاته على فراشها، فقد كنت مستغرقا في خواطر غريبة ...»
كان ذلك في 11 من ديسمبر عام 1941، وما أسرع ما تمر الأيام بل الأعوام ...
إنه الآن قد أصبح رجلا، وما تخلى عن عادته في كتابة مذكراته، ولكنه تخلى عن طابع هذه المذكرات، فلم تعد حديثا عن الحاضر، وإنما أضحت أصداء للماضي ... كان إذ ذاك يأوي إلى مذكراته ليقص عليها ما حدث في يومه ... أما اليوم فإنه يأوي إليها لتقص عليه ما حدث بالأمس ... إنه يجلس كل ليلة إلى مكتبه، فيضع أمامه مفكرة اليوم، ثم يفتح درج المكتب فيخرج مذكرات الأعوام الماضية، ويقرأ ... يقرأ الساعات، ويعود إلى الماضي ... فإذا ما بدأ الكتابة كان حديثه استطرادا لهذا الماضي ... ثم يذكر آخر الأمر أنه لم يكتب شيئا عن يومه، فيدون أحداثه في كلمات، ثم يغلقها ليعود من جديد إلى صفحات الماضي يقلبها ويعيش فيها.
دقات الساعة تسجل الواحدة بعد منتصف الليل، وعيناه كليلتان لكثرة ما قرأ، فينهض متثاقلا لا لينام، ولكن ليقف إلى جوار النافذة ... لا يفكر صفاء الجو غير سحائب دخان لفافته، وما أسرع ما تتلاشى هذه السحائب في صفاء الجو، وتستحيل بدورها إلى نقاء ... إنه يفكر الآن، وهو يرقب سحائب الدخان وهي تتلاشى، في سحائب حياته هو، إن في حياته أيضا سحائب قاتمة تجثم على قلبه أحيانا فيحس الضيق ... وهو يرزح الآن تحت إحداها ... بل لعلها أكبر هذه السحائب، وأشدها قتامة ووطأة، لقد فرغ الآن من قراءة مذكراته لعام 1942.
عام يود لو أنه زال من حياته، وما عرفه أبدا ... كل يوم من أيام هذا العام تفيض صفحة مذكراته بالحديث عن أسماء، وعن لقائهما كل ليلة حينما تنام عيون الأسرة.
وفي إحدى هذه المذكرات كتب سطرا ختم به صفحة يومه، سطرا لم يتمه ... «آه لو رأت الأم والوالد كيف كان الصنم الذي يعبدانه، ويقدمان له القربان صباح مساء مرتميا تحت أقدامي غارقا في لجة من الخجل والذل.»
إنه الآن في موقفه عند النافذة يستعيد ذكريات هذا اليوم في أعماق خياله بعد أن استعادها في صفحات مذكراته، ليس هذا اليوم فحسب بل ما تلاه من أيام، حتى دار العام وعرفت الأم كيف مرغ هو في الأوحال صنمها المعبود.
ليست المرأة أقدر إنسان على إذاعة الفضائح فحسب، وإنما هي أيضا أقدر إنسان على كتمانها ... لقد كتمت الأم كل ما عرفت حتى عن الأب، بل لعلها استحالت معه منذ ذلك اليوم إلى مخلوق رقيق تتلمس رضاه، وتتكلف الابتسام كلما رأته ... ولما زفت أسماء بعد ذلك بشهور كانت الأم هي التي اقترحت على الأب أن يشتري له ثوب سهرة فاخرا يليق بأخي العروس، ثوب السهرة الذي ارتداه ليلة الفرح ليسير متأبطا ذراع أسماء أخته، ليقودها إلى بيت زوجها.
وتجثم السحابة في شدة على قلبه فيذكر كيف أحس بالضيق في تلك الليلة، ويذكر كيف خانه القلم فلم يستطع أن يكتب سطرا في مذكراته عن مشاعره في ذلك اليوم فلم يزد على قوله: «كان يوما مثيرا بكل ما حدث فيه ... ولقد بكيت حينما انتهى الفرح، وعدت إلى الدار لأحس فيها بأني وحيد أنا وجريمتي التي تطالعني في كل ركن من أركان حجرتي.»
وتدق الساعة الثانية فيغادر مكانه من النافذة، ويتجه إلى مكتبه ... يفتح من جديد مذكراته، ويحاول أن يكتب ... ويكتب عن الماضي، عن ذلك العام الذي يتمنى اليوم لو لم يكن قد عرفه أبدا ... ويقول وهو يغالب التعب: «عذري الوحيد الذي أخادع به نفسي الآن أني كنت شابا دافق الصبا ... وكانت حسناء ريانة العود ... وكان الشيطان ثالثنا.»
ثم يضيف سطرا أخيرا: «وكنت أحس بلذة غريبة، وأنا أمتهن هذا القوام ... الذي يعبده كل من أبي وأمي ... ويحرقان صباي بخورا تحت أقدام سعادته ... كنت أحاول جاهدا أن أنكر هذه اللذة، لكنها كانت تطغى على كل شيء ... بل لعلها كانت تتقدم كل لذة ...»
حساب بين الخيرين
... لقد خلق كلاهما للآخر ... كان يريد أن يصعد ... وكانت السلم لمجده ... ***
بعض القصص يبدأ حينما يرى رجل امرأة، وينتهي حينما يتزوج هذا الرجل بالمرأة، أو حين يفترق كلاهما عن صاحبه، أو حين يموت أحدهما ويعيش الآخر.
أما قصة الأستاذ عبد السميع، فهي تبدأ بداية أخرى، فهو لم ير سعدية حتى يحبها ويتزوجها ... وهي لم تره، فتنصب حوله الشباك حتى يقع في الفخ ... إن بعض المتشائمين يسمون الزواج فخا تموت فيه الفريسة ببطء وإمهال ... أو تعيش وقد كسرت أجنحتها فلا تكاد تشيل عن الفخ لتحلق ... حتى تهبط فيه ثانيا لتستقر ... إن الذي رأى عبد السميع أفندي، هو المصور الفوتوغرافي الذي التقط له صورة في ردائه الكحلي الذي لا يرتديه إلا ليلة الجمعة حينما كان يذهب ليسهر مع أقرانه.
والذي رأى سعدية أيضا، هو المصور الفوتوغرافي، مصور آخر غير الذي رأى عبد السميع، التقط لها صورة، وهي في ثوب قرمزي بدا فيه قوامها الطويل المنساب في استقامة نحو قدمين عريضتين تناسبان هذا القوام، ويبدو أن كلا المصورين قد فهم مهمته بكل دقة، وأداها بنجاح، فقد راقت سعدية في عين عبد السميع، ورأت سعدية بدورها أن عبد السميع مقبول شكلا.
أما من ناحية الموضوع فقد كان المهر مرضيا لوالد سعدية، ولم يكن مرهقا لعبد السميع، إذا ألقينا نظرة على قائمة الجهاز الذي تكفل به والدا العروس، كان الجهاز حجرة جلوس، وحجرة نوم، وحجرة مائدة، ومطبخا كاملا، وكان المهر سبعين جنيها، لا تكاد تكفي لشراء الجهاز، أي إن سعدية ستكون في داره ربحا دائما لم يدفع له مقابلا، ربحا من اللحم الأبيض الشهي الذي طالما داعب أحلامه والذي طالما صحا من نومه فوجد نفسه يطبق بيده على الوسادة متخيلا أنها ذراع سمينة من نوع هذا اللحم، وهكذا ... لم تكن هناك قصة، ولا شبه قصة ... إلى اللحظة التي احتوى فيها البيت الصغير، بحي المنيرة، عبد السميع وسعدية.
لم تكن هناك سوى عملية حسابية تقوم على بعد النظر كقيامها على الأرقام سواء بسواء، ومن بعد النظر أن يستريح عبد السميع من هذه الأحلام الكاذبة التي تخيب ظنه كلما صحا من نومه.
ومن بعد النظر أيضا أن يدفع سبعين جنيها، فيأخذ بما يعادلها أخشابا، وموبيليات ... ثم يكسب فوق ذلك قدرا شهيا من اللحم الأبيض الدافئ.
ولننصف عبد السميع، فنقرر أنه كان إلى يوم زواجه لا يعرف اللحم الدافئ إلا أحلاما سريعة لا تعدو نطاق خياله ... ولننصفه أيضا، فنقول: إن الزواج لم يكن يعني في نظره غير أن تتحقق هذه الأحلام دون نفقات، ولم يكن الزواج في حسابه يعني بداية قصة أو نهايتها، ولم يكن في نيته أن يكون الزواج بداية قصة.
ولنترك الآن عشرين عاما تمر ... هي الزمن الذي استغرقته القصة لتشرف على نهايتها ... ولنجلس خلف مائدة عبد السميع على المقهى ... أية مائدة ... فالمقهى خال والساعة الرابعة بعد الظهر، وكل شيء هادئ في المدينة الكبيرة حتى نسمات الهواء قد هدأت فسكنت أوراق الشجرة التي تقوم عند حافة الرصيف كأنما استغرقت في سبات عميق.
لقد جلس وحده يجرع فنجانا من القهوة، ويدخن سيجارة ... كل ما في عبد السميع يدل على أنه ثائر ... حركة يده العصبية، نفثه لدخان سيجارته، عدم استقراره على مقعده، كأنما يريد أن يفعل شيئا، ثم تمتمة شفتيه كأنما يحدث نفسه.
ترى ماذا يقول عبد السميع لنفسه؟
أي شيء جد في حياته؟ حياته التي بناها كما أراد من عشرين عاما فجعله يأوي في مثل هذه الساعة إلى المقهى الخالي؟ أي شيء؟ وتسمع عبد السميع، وهو يهمس لنفسه: مش معقول! أي شيء هذا الذي لا يعقله عبد السميع؟
ومع ذلك لم يقل شيئا غير هذه الكلمة ... وما عرفنا شيئا غير أنه ثائر غاضب، وأن ثورته لا تعني غير الاعتكاف في مقهى خال، ونفث الدخان في عصبية واضطراب ...
أما سعدية فهي أكثر صراحة ووضوحا، إنها في هذه الساعة نفسها تجلس في حجرتها، وعلى حافة السرير بالذات، تتحدث بالتليفون ... أي سرير؟ ليس السرير النحيل الذي كان قطعة من الأثاث يوم تزوجت عبد السميع ... لقد اختفت الحجرات الثلاثة، وحجرة المطبخ أيضا ... إن بيت عبد السميع ليس فيه الآن من ذكريات زواجهما غير عبد السميع وسعدية، إنه ليس بيت الموظف المتواضع بحي المنيرة، وإنما هو الدار الفخمة الواسعة الأنيقة بحي الزمالك.
لنستمع إلى سعدية، وهي تتحدث بالتليفون ... ما زال لها قوامها ممتلئا ممشوقا ... ولحمها أبيض كالعاج.
ألم أقل إنها أكثر صراحة ووضوحا؟ إنها تقول أيضا، تقول في التليفون لمن تحدثه: مش معقول! ولكنها تمضي بعد ذلك ... - ماذا يظن في نفسه هذا الأحمق؟ يأمر وينهى، ثم يقول لي إنه سيد البيت ... وإن له الحق أن يدعو من يشاء، وأنا ليس لي الحق ...
وتستمع سعدية لمن تحدثه في التليفون برهة، ثم تقول: خرج غاضبا.
ثم تتابع حديثها بعد لحظة: لا شيء ... سوف يعود ... كما عاد دائما ... ليقبل رأسي.
وينتهي الحديث ... لقد عرفنا على الأقل أن هناك خلافا بين عبد السميع، وسعدية ... إنه يريد أن يدعو إلى داره صديقا أو أصدقاء، وسعدية ترفض ... أو ربما أن سعدية هي التي تريد أن تدعو أصدقاء، وعبد السميع يرفض، وكلاهما يرى فيما يطلبه صاحبه أمرا غير معقول.
ثم لا تنتهي القصة ... ففي الساعة السابعة من اليوم نفسه، وعلى مقهى آخر يجلس فريق من الموظفين ... ونسمع اسم عبد السميع يتردد على ألسنتهم، ويدور هذا الحديث: كاد عبد السميع بك اليوم يبطش ببيومي الفراش لسبب تافه. - لقد أصبح عبد السميع بك لا يطاق. - لازم الإدارة مزعلاه. - وهو يقدر على زعلها؟ - لو أنه فعل شيئا أغضبها لنقلته إلى أسوان. - أو على الأقل لم يكن لينال درجة مدير عام «أ» ولم يمض على ترقيته شهور لدرجة مدير عام «ب».
ثم يسودهم الصمت لحظة، ويقول أحدهم: هناك شيء يحيرني! - ما هو؟ - كيف يستطيع عبد السميع بك أن يوفق بين كل هؤلاء الكبراء الذين يعرفهم مثلا ...؟ ولكن لا داعي ...
ويرد آخر: مثلا ماذا؟ لا تكن جبانا.
ويتشجع المتحدث: هل يعرف مثلا فلان باشا أن خصمه وعدوه فلان باشا كان صديقا لعبد السميع، ويتردد على داره قبله؟
ويجيب أحدهم: طبعا يعرف ... ولكن ما المانع ... إنه يعرف أكثر من ذلك، يعرف أن صداقته لعبد السميع مرهونة ببقائه في الوزارة، ولكن هل يضيع الفرصة؟ - فرصة؟ أية فرصة؟ - فرصة التمتع بصداقة عبد السميع بك، وأسرة عبد السميع بك.
ويضحك الجميع ...
ويسحب الليل ذيوله في أعقاب الغروب، وتكف الجماعة عن أحاديث عبد السميع، وتنهمك في لعب النرد ومطالعة الصحف.
ونعود نحن إلى بيت عبد السميع بك ... إن إحدى حجرات البيت مضاءة، وفيها يجلس عبد السميع بك وحده ليطالع الصحف أيضا، إنه لا يتمتم بالاحتجاج ... ولا يعروه انفعال ... إنه هادئ لا يبدو عليه الغضب، وسعدية ليست معه، لقد جلست في حجرتها مع صديقتها اعتدال ... ونسمع مرة أخرى اسم عبد السميع.
نسمعه مقرونا بشيء من السخرية ... ليس عبد السميع بك كما يسميه أصحابنا على المقهى ... وإنما ... سي عبد السميع.
تقول سعدية لصديقتها: سي عبد السميع حيعمل راجل على آخر الزمن ... تصوري إنه بيعاتبني لأني أقف كثيرا في النافذة ... وفي كل مرة أقف فيها بيكون الشاب الساكن أمامنا واقفا بالمصادفة في النافذة المقابلة.
وتقول صاحبتها في خبث: صحيح بالمصادفة؟
وتضحك سعدية قائلة: أنت شقية؟ - من؟ - محسن أمين الساكن أمامنا؟ - عاجبك؟ - شاب لطيف ... مش الخناشير بتوع عبد السميع ...
وتقول اعتدال، وهي لا تقصد شيئا: على فكرة مبروك لعبد السميع بك الترقية الجديدة.
وتضحك سعدية قائلة: وماذا ينوبني أنا؟ هو يترقى ويأخذ درجات، وعندما أطلب منه سوارا كهذا الذي رأيته عند الجواهرجي يدعي أنه مفلس.
ونسمع جرس التليفون ... وتصمت سعدية وصديقتها، إن الصوت الوحيد الذي نسمعه هو صوت عبد السميع ... نسمعه يقول لمحدثه: الله يسلم معاليك يا فندم ... - لا والله مش خارجين ... إذا كان معاليك معندكش مانع ما تشرف.
ولنخرج من الدار سريعا ... قبل أن يشرف معالي الوزير.
نخرج لنعود في الصباح ... إن هناك مشادة قد ارتفع فيها صوت الزوجين، عبد السميع يستنكر شيئا، ويصيح: هل هذه أصول؟ تتركينا مدعية أنك متعبة، وتذهبين لحجرتك؟ ماذا يقول عنا الرجل؟ - لا يقول شيئا، يعرف أنني مريضة. - وأنا الذي قلت له يتفضل بالحضور. - جاء ليجلس مع صديقه، لا معي أنا. - هل تنتقمين مني؟ - أنا أنتقم منك؟ لماذا؟
ويصمت عبد السميع، وقد فهم ... فهم أنها انتقمت منه.
ومن المؤكد أنه فهم ... لقد دخل حجرتها بعد دقائق فوجدها في مكانها بالنافذة فخرج دون أن يقول شيئا، ومن المؤكد أنه فهم، فما إن تمضي عشرة أيام حتى نسمع جلبة في منزل عبد السميع بك، ونرى الأنوار تشع من كل الحجرات ... ولا نكاد نلج باب غرفة المائدة حتى نرى منظرا عجبا.
سعدية على رأس المائدة، وعن يمينها فلان باشا، وعن يسارها فلان باشا، وإلى جانبها اعتدال، وبعدها عبد السميع بك، وبعد عبد السميع جلس الشاب ... ساكن الدار المقابلة ... محسن أمين.
ذراع سعدية تلامس كتف فلان باشا، وعيناها تصافحان عيني محسن ... وعبد السميع أيضا ... إنه يختلس نظرات ذليلة إلى كتف اعتدال البيضاء، ولا ترتبك أنها تجلس بين فلان باشا، وفلان باشا الآخر الخصمين اللدودين كما ظن أصحابنا الذين تحدثوا في المقهى منذ أيام ... الخصمان اللذان يختلفان في الرأي، ويهاجم كل منهما سياسة الآخر ... هكذا على مائدة واحدة.
ومحسن الشاب الذي يقف في النافذة، وأمامه سعدية في النافذة المقابلة تقف الساعات في انتظار اللحظة التي يجرؤ فيها على فعل شيء غير التطلع ...
لا شك أن عبد السميع قد فهم ... إن الذي لم يفهم هو فلان باشا حين يسأل: والأستاذ محسن بيشتغل فين؟
وينظر عبد السميع إلى سعدية، وكأنه يقول: «لست مسئولا».
وتقبل سعدية التحدي فتجيب: محسن أمين ابن خالة والدتي ... ويبدو أن الوحيد الذي صدق هو عبد السميع، لقد انفرجت أساريره، ونظر إلى محسن في ود وصفاء ... وفي الحق كان على عبد السميع بك أن يرضى، ولو وحده بهذه القرابة.
وسنرى محسن بعد ذلك في بيت عبد السميع، كما لو كان أحد أقارب العائلة المقربين فعلا، سنراه في السهرات كلها قاسما مشتركا في مكانه من عيني سعدية.
وسنراه بعد ذلك عشرات المرات حينما لا يكون عبد السميع بك في المنزل بالضبط ... كالأقرباء المقربين ... سنراه كثيرا ... ولكننا لن نثور كما سيثور عبد السميع بك ذات يوم، ثورة مكبوتة ذليلة كثوارته دائما ... تبدأ بسؤال كأنه يتحسس به الطريق: لم أعد أرى محسن كثيرا.
وتجيب سعدية دون اكتراث: كان هنا هذا الصباح.
وسؤال آخر ... وتعليق على طريقة الأذكياء: لكأنه يتجنب لقائي.
ولا تقل سعدية ذكاء، وإنما تزيد شجاعة: إنه يأتي ليراني أنا لا ليراك.
ولا معنى لأن تشك في ذكاء عبد السميع ... إنه يفهم ما ترمي إليه سعدية.
ويتراجع عبد السميع ... يتراجع في عتاب رقيق: سعدية ... إنك تسرعين في الغضب ... أريد أن أقول ماذا يظن الجيران؟
وتضحك سعدية في قسوة: ما كانوا يظنونه بالأمس ...
ونحن إلى الآن لم نسمع شيئا، إن الجيران يتكلمون دائما، وفي هذه الساعات بالذات ... ساعة الصباح حيث يتهيأ الموظفون إلى أعمالهم ... كان بعض الجيران يتكلمون.
كانت هناك مثلا سنية هانم التي تسكن في الشقة المقابلة لشقة عبد السميع ... لقد وقفت سنية هانم إلى جانب زوجها، وهو يرتدي ملابسه تقص عليه أطرافا من قصة جارهما عبد السميع بك وزوجته والشاب محسن، أما أنها ترى «محسن» كثيرا، وهو يترد على منزل عبد السميع فذلك أمر نعرفه ... ونعرف أيضا أن سعدية لا تبالي بزوجها، ولا بالجيران أيضا، لكنا لا نعرف مثلا هذا الذي تقوله الآن بحيث جعل زوجها يتوقف عن إصلاح ربطة عنقه، ويلتفت إليها سائلا في دهشة: هل وصل الأمر إلى هذا الحد؟
إن سنية تؤكد له أنه وصل ... لقد قالت سعدية لصديقتها اعتدال كل شيء، وصارحتها بما انتوته، وبما سوف تفعله.
ولزوج سنية الحق في أن تعروه الدهشة، وأن يشك في بلوغ الأمر إلى هذا الحد ... - مرة أخرى ... مش معقول ... مش معقول ... ولو أن اعتدال تقول ذلك.
وفي الوقت الذي تروي فيه سنية لزوجها القصة، وهو لا يعقلها، ولا يصدقها تكون اعتدال أيضا ترويها كشاهد عيان ترويها للمرة العشرين على الأقل ... لإحدى صديقاتها: ألم تسمعي بآخر خبر ... إنه سر لن أقوله لك حتى تقسمي ألا تبوحي به لأحد.
وتقسم الصديقة ... كما أقسمت هي من قبل لسعدية على حفظ السر ... وتمضي اعتدال في روايتها: مش سعدية بتحب واحد تاني ... وكأنما ترى الصديقة أن لا جديد في الموضوع، ولكن اعتدال تؤكد لها: بتحب صحيح، بتحب واحد، وسوف تترك عبد السميع زوجها من أجله ... ستتزوجه هو. - هو ... من هو؟ - ولد صغير ساكن في المنزل المقابل لمنزل سعدية ... اسمه محسن أمين، لقد قررت سعدية أن تطلق من زوجها، وتتزوجه هو.
وتمضي اعتدال في سرد تفصيلات القصة، النظرة فالسلام فالزيارة في ساعات الصباح المتأخرة ... وعشرات القصص من هذا القبيل ... ثم تنتهي بأن سعدية ستصارح عبد السميع اليوم، وتطلب منه أن يطلقها ...
ترى ماذا يقول عبد السميع ... وما هو رأيه؟
ونعود إلى منزل عبد السميع لنرى كل شيء هادئا، في ساعات الظهيرة سعدية في حجرتها تنعم برقاد لذيذ، وعبد السميع في حجرته يسحب أنفاس الدخان من سيجار ضخم ... هادئ الأعصاب مسرورا بالحياة، ومن سوء الحظ أننا لم نتقدم بضع دقائق ... لقد فاتنا أروع منظر في القصة ... منظر سعدية وهي تطلب من عبد السميع أن يطلقها ... ولكن لا بأس ... ستروي سعدية لاعتدال هذا المنظر، وما دار فيه من حوار بالتليفون، ولنستمع نحن مع اعتدال: رجل ليس في وجهه قطرة من الدم ... تصوري أني أقول له بالعربي المفتوح إني أحب محسن وهو يحبني، وإني أريد أن يطلقني لأتزوج محسن، فيكون جوابه ببساطة، ودون أن يثور: «ماتبقيش مجنونة» ثم ينسى الموضوع، ويحدثني عن رغبته في دعوة فلان باشا الوزير السابق للعشاء لأنه جاي وزير تاني في الوزارة الجديدة، أنت تذكرين فلان باشا هذا؟
وتعلق اعتدال: طبعا أذكره ... ليلة عيد ميلادك عندما سكر، وحمله عبد السميع والحاجب إلى منزله ... - هو بالضبط ... سيعود وزيرا، وعبد السميع يطمع في أن يعينه مديرا لمصلحة كبيرة ... هذا المغفل، إنني لا عمل لي إلا ترقيته ... - وبعدين؟ - وبعدين حاولت أن أجعله يتشاجر معي لأترك البيت فأخذ يتظرف معي، ويمدح في محسن، وقال إنه مستعد لأن يطلقني لو كان يعرف أن محسن يستطيع أن يفتح بيتا ... ثم بكى كالطفل، وقال لي إنه لم يتدخل في شئوني أبدا، وأقسم لي أن محسن يضحك علي، وأنه لن يتزوجني ... تصوري المغفل يظن أن كل الرجال مثله عديمو الشرف. - وبعدين؟ - وبعدين سأقابل محسن غدا صباحا، وأصفع عبد السميع صفعة لا يقوم منها ... سأجعل محسن يكتب لي ورقة يتعهد فيها بالزواج مني ... - وإذا رفض عبد السميع أن يطلقك بعد ذلك؟ - سأنغص عيشه، وأرغمه على طلاقي ... ولا بد أن يكون المنظر شائقا.
ذلك المنظر الذي تقدم فيه سعدية لعبد السميع البرهان على أن محسن يحبها، ويريد أن يتزوجها.
أي شعور بالمهانة سيحس به عبد السميع، وأي هزيمة؟
ترى سيطلق سعدية ... ومتى سيطلقها؟!
يلقى السؤال عشرات المرات ...
يسأله زوج سنية لزوجته ... وتسأله سنية لاعتدال ...
وتعد اعتدال بأنها ستحمل النبأ بعد حين ... فهي مدعوة لتناول العشاء عند سعدية غدا ... وغدا سينتهي كل شيء.
ويمتلئ الصالون الأنيق في منزل عبد السميع بك بالضحكات في مساء الغد، إن فلان باشا منشرح الصدر رائق المزاج يبعث الفكاهات فيضج لها الجميع بالضحك ، والجميع هم فلان باشا نفسه، وهو أعلى الضاحكين صوتا لفكاهاته، ثم عبد السميع بك، ثم سعدية، ثم اعتدال.
ولن نستطيع أن نسأل اعتدال عن النبأ الآن، فقد وصلت متأخرة، ودخلت على الفور إلى الصالون.
ولن نستطيع أن ننتظر إلى نهاية السهرة، فقد ثمل فلان باشا، وأخذ يخلط بين سعدية واعتدال، ويبدو أن اعتدال بدورها ثملت فظنت نفسها زوجة عبد السميع ... ويبدو أنها نسيت وعدها بأن تحمل لنا الأنباء، وكأنما أحست اعتدال، وهي تتثاءب في فراشها في صباح اليوم التالي، بأنها نسيت شيئا هاما، فهي تطلب سعدية بالتليفون لتسألها عن الخبر، ولا تكاد تنتهي المحادثة، ولا تكاد تمر بضع دقائق حتى نسمع سنية تروي لزوجها النبأ: لقد تشاجرت سعدية مع محسن؛ لأنه رفض أن يعدها بالزواج، ونصحها بأن تظل مع زوجها.
ويصلح زوج سنية رباط رقبته أمام المرآة، ويقول دون أن يدير رأسه: هل كنت تظنين أنه طلب منها الزواج؟ - لقد أشاعت سعدية أنه طلب منها الزواج.
ويمضي زوج سنية في إحكام رباط رقبته، ولا يعلق بشيء، وتمضي سنية في الثرثرة.
وفي الوقت نفسه يجرع عبد السميع جرعة قوية من فنجان الشاي، ولا تكاد تستقر في جوفه حتى يقول لسعدية: عندما أعين مديرا للمصلحة، ستكون لدينا سيارة تحت أمرك ... سيارة لا ندفع فيها مليما ... لا تصليح ... ولا بنزين، المصلحة دي خيرها كتير قوي يا سعدية.
وتقول سعدية، وهي تختلس النظر إلى النافذة المقفلة، نافذة غرفتها: المهم هو أن نغير هذا المنزل ... أظن أن مركزك لا يسمح بأن نسكن في منزل حقير كهذا.
وفي حماسة، وفرح يجيب عبد السميع: المنزل؟ سنغير كل شيء يا سعدية ... هل تعرفين فيم أفكر الآن يا سعدية؟ إني أفكر في حالنا أنا وأنت لو انفصلنا ... لقد خلق كلانا للآخر يا سعدية.
ويخرج عبد السميع بك ذلك الصباح إلى مقر عمله، وقد علاه الانشراح، وبدا في وجهه الامتنان بالحياة.
أليست قصة عبد السميع بك ذات نهاية سعيدة؟!
قفص الدجاج
إنه الرجل ... الرجل الوحيد الذي دافع عن حقه، وأبى أن يظلم فنصره الله ... ***
المكتب الصغير المتواضع في الحجرة المتداعية الجدران.
هنا يجب أن أعيش بضع سنوات حتى يأذن الله بأن يتغير مصيري فأنتقل إلى مكان آخر.
وربما كان المكان الآخر مكتبا آخر على الصورة نفسها، وفي حجرة أخرى على الحال نفسه.
ولم لا؟
أين يجب أن يكون كاتب السجن من أحد المراكز، إن لم يكن في حجرة نائية في أقصى الممر في بناء عتيق من مباني المدينة الصغيرة التي يقوم فيها المركز؟
كاتب سجن؟
أجل هذا هو العمل الحكومي الذي أسند إلي حينما صدر قرار تعييني موظفا في الدرجة الثامنة بوزارة الداخلية، كاتب سجن عليه أن يستقبل المسجونين الجدد، ويودع المسجونين الراحلين، ويغمض عينيه عن المسجونين الذين لا يستقبلهم ولا يودعهم، وإنما يراهم يمرون تحت أنفه داخلين إلى السجن، وخارجين منه دون أن يكونوا متهمين، أو محكوما عليهم ...
إن سجن المركز هو الاستراحة، ال «رست هاوس» بين الحرية، وبين حياة السجون ... وأنا مدير هذه الاستراحة، المدير الذي يشرف على راحة نزلائها، لكن أي مدير؟! مدير مغلول السلطة، لا يملك حتى أن يقبل من يريد، أو يرفض من لا يريد، بل لا يملك حتى الحق في أن يعرف عدد النزلاء، أو أسماء بعض النزلاء.
وأمامي دفتر ضخم ... دفتر السجن ... أقيد فيه أسماء النزلاء، وتاريخ وصولهم، ونوع جريمتهم، ورقم قضيتهم، ومدة بقائهم، ومن أين جاءوا وإلى أين يذهبون؟ والمفروض - المفروض فقط - أن يكون عدد المقيدين في الدفتر مطابقا لعدد الموجودين في السجن ... أما الواقع فهو أن حجرة السجن تحتوي دائما على ضعف العدد الموجود بالدفاتر ...
وكل من هؤلاء الزائدين يمثل مخالفة قانونية ... بعضهم قبض عليه ضابط المباحث لاشتباهه في شأنه ... وبعضهم أفرجت عنه النيابة، ولم يرق قرارها في عين البوليس فخرج من السجن ... في دفتري فقط، وبقي فيه بجسمه ... فقط.
وقد يختلف أحد الحكام مع أحد أتباعه فيلقى به إلى السجن لكي «يتربى» ولم لا؟ أليس السجن تأديبا وتهذيبا؟!
وإذا عرفت عدد الحكام في المركز فسوف تعرف عدد الذين يحتمل نزولهم ضيوفا على السجن ... ضيوفا غير رسميين، إن الحكام يبدءون بالمأمور، وينتهون عند محروس، ومحروس هو الجندي النفر الذي يقف أمام باب حجرة الأفندية الكتبة ... وأنا منهم.
وإياك أن تخطئ في محروس كما أخطأت أنا في أول عهدي بالعمل، لقد حسبت أن محروس يجلس على باب حجرة عملنا ليقوم بخدمتنا ... وعلى هذا الأساس ناديته لكي يقوم بتوصيل أحد الملفات إلى معاون البوليس.
واسمع حوارنا أنا ومحروس: - وصل هذا إلى معاون البوليس! - أحسن توصله حضرتك.
ورفعت رأسي ويدي ما زالت ممدودة بالدوسيه، فرأيت محروس واقفا لا يحمل وجهه أي معنى ... جامدا كأنني لم أقل شيئا، ولم يقل هو شيئا. - ماذا يا محروس؟ ألا تسمع الكلام؟
ويستدير يمضي إلى الباب كأنه لم يسمع فعلا الكلام، ونهضت من مكتبي منفعلا، وزملائي ينظرون، واتجهت إلى المكتب الخشبي المتهالك في أقصى الممر حيث يجلس الشاويش عبد ربه، ورفع عبد ربه عينيه، وهو يقول دون أن يتحرك من مكانه: أهلا محمد أفندي ... تلزم خدمة؟
وبسطت شكواي من محروس، وانتظرت لأسمع زئير الأسد مناديا محروس ليؤنبه على ما فعل، ولكنني سمعت تأنيبا لي أنا، أجل! أنبني الشاويش عبد ربه في أسلوب خبيث قائلا: له حق يا محمد أفندي، ده عسكري غشيم، افرض وقعت ورقة من الملف ... من يكون مسئولا؟ إوعى تديله ورق تاني.
وعدت بانفعالي، وقد تحول إلى ثورة جبانة، ثورة لم تتجاوز جذب أدراج المكتب بعنف وإلقاء الملفات على اليمين وعلى الشمال، وفتحت علبة سجائري في عصبية، ثورة المهزوم المغلوب الذي استنفد طاقة جهده في الاحتجاج والشكوى، ولمن غير الشاويش عبد ربه كنت سأشكو الجندي محروس؟ إن المركز كله له سيد واحد، هو الشاويش عبد ربه ...
ولندع المأمور في حاله ... إنه نفسه حين يضيق بشيء لا يملك إلا أن يصيح: «يا شويش عبد ربه!»
ولن أنسى حين سألت معاون البوليس أن يوقع على كشف السجن في أول يوم تسلمت فيه العمل، فإذا به ينادي عبد ربه، ويسأله أمامي عما إذا كان الكشف مضبوطا أم لا ... ثم يوقع بعد أن يجيبه عبد ربه بالإيجاب وأجل، لن أنسى أن ضابط المباحث قال لي يوما، وهو يعرفني بشئون المركز: «إن الشاويش عبد ربه هو كل شيء في المركز ... إنه دولاب العمل.»
لقد أنبني دولاب العمل، وبرأ محروس ... وليس أمامي إلا الله ... وإلا أن أحمل أوراقي بنفسي إلى معاون البوليس، وأن أفترض أن محروس على باب حجرتنا كاللوحة الموضوعة فوق رأس القاضي في قاعة المحكمة، وقد كتب عليها «العدل أساس الملك» ...
ومع ذلك ... مع وجود محروس رمزا للحكومة كاللوحة على باب الحجرة، ومع وجود عبد ربه على المكتب الخشبي المتهالك في أقصى الممر، وإشرافه منه على المركز كله بما فيه من حكام ومحكومين ... مع ذلك فقد كنت راضيا عن عملي ... وكان مبعث رضائي أنني كنت محوطا بجو صاف من صداقة أربعة زملاء يهونون علي مشقة العمل، ولا يكفون عن المزاح والضحك، حتى إن ساعات العمل من كل يوم تمر قصيرة هينة ... إني أتخيل جهنم أحيانا، وليس فيها لهب ولا حرمان، وإنما فيها مجموعة من ثقلاء البشر، ويسودها جو من الكراهية والحقد، وعلى العكس أتخيل الجنة ... ثمارها وأنهارها أرواحا مرحة صافية تفيض بالحب والبشر ...
كانت كل متاعب العمل تزول بنكتة رائعة يرسلها رياض أفندي كاتب الضبط، أو قصة لطيفة من ذكريات الماضي يرويها عبد المسيح أفندي، أو أغنية ساذجة يدندن بها السيد أفندي كاتب القيودات فتتحرك يداه على إيقاعها، وأنا أختم البوستة، وأغلقها في المظروفات.
ثم كانت لدي ساعة أخرى أعيشها في حياة الناس والريف، ساعة تسلم المسجونين الجدد والاستماع إلى أقاصيص جرائمهم الصغيرة والكبيرة يروونها في اقتضاب ... لا كجرائم بل اتهامات هم منها أبرياء ... بعضهم متهم بالسرقة ... بضعة أكواز من الذرة ... إنه لم يسرقها لقد اشتراها، ولكن سوء حظه هو الذي جعله يشتري نفس المقدار الذي سرق في نفس اليوم.
وبعضهم شج رأس غريم له في معركة، إنه لم يفعل شيئا، لقد أخذ غريمه عصاه، وشج رأسه بيديه لكي يلقي عليه التهمة ...
وراء كل قصة تبدو حقيقة ... كنت أحسها وأراقبها ... ما من كوز من أكواز الذرة، أو رأس من الرءوس المشجوجة ... أو صدر من الصدور التي نزف دمها إلا وخلفه عدو ... ليس صاحب كيزان الذرة، ولا الرأس المشجوج ... ولا الصدر النازف ... عدو آخر هو الفقر، ماهر في التنكر يلبس عشرات الثياب ويختفي، ووراءه عشرات الأقنعة ... يختفي مرة في صورة منجل تحصد به زراعة لم تثمر، أو سرقة تافهة، أو جرح غائر، أو نصل حاد ... فإذا اختفى هذا العدو فهناك عدو آخر لا يقل مهارة في التنكر عن العدو الأول هو الجهل وضيق العقل.
أيمكن لغير الجهل أن يصور في عقل الإنسان أن تسميم جاموسة تحمل في أحشائها جنينا هو انتقام عادل من غريم؟
الجهل والفقر يبعثان كل يوم بزبائن جدد أملأ بهم حجرة السجن الصغيرة في المركز، ولطالما وقفت مذهولا، وأنا أتخيل هذه الحجرة الصغيرة وهي تبتلع العشرات ... حتى ليخيل لي أحيانا أن فيها سراديب لا أعرفها تتسرب في حناياها هذه المخلوقات ... وإلا فكيف لا تنفجر جنباتها بهذ العدد الكبير، وكيف يخرجون منها أحياء؟!
ثم تأتي أيام لا يكون فيها غير سجين أو سجينين ... سجين أكاد أستشعر وحشته في هذا الظلام الدامس والليل الطويل ... الليل الذي لا يقطعه غير نباح كلب جائع، أو صوت الشاويش عبد ربه.
وصوت عبد ربه لا ينقطع ما دام في المركز ... إنه يتكلم بصوت عال، ويحيي بصوت عال، ويتشاجر بصوت عال، فإذا ما خيم السكون فإن عبد ربه يعز عليه أن تهدأ الدنيا ... ولهذا يرسل سعاله المدوي، كأنه ينبه من غفل أنه رابض في المركز.
ولا أدري لم كرهت عبد ربه منذ أول يوم وطئت قدماي فيه أرض المركز، لقد أحسست ساعة قدومي أن ألفاظ التحية التي قالها تحمل معاني غير التحية ... لقد قال لي إذ ذاك: آنستنا يا محمد أفندي.
وأحسست أنا أنه يقول: لن نكون صديقين يا محمد أفندي ... منظرك لا يروقني يا محمد أفندي.
وحتى يوم أن نصر محروس علي، وأعطاه الحق في أن يرفض طلبي ويعصي أمري ... أحسست أني لا أحقد على محروس بقدر ما أحقد عليه هو، ولربما كنت مخطئا في إحساسي ومتعسفا في كراهيتي، ومع ذلك فقد وصل الحال بيني وبينه بعد ذلك بقليل إلى أن يصارحني وأصارحه بهذه العواطف، كان ذلك في صورة رأي أبداه إثر مناقشة بيننا على مسمع من زملائي، فقد قال: أنا مش عارف إنت متقنزح على إيه يا محمد أفندي؟
وأجبته أنا بنفس البساطة التي توقح علي بها: ولا أنا أيضا ... إني لا أعرف لماذا أستثقل دمك يا شاويش عبد ربه.
وكان كلانا يجهل السبب في شعوره نحو صاحبه إذ ذاك حتى جاءني ذات يوم ما يبرر كراهيتي ... ثم توالت الأنباء ... من ماسح الأحذية، ومن السجناء، ومن بعض الزملاء.
إن عبد ربه يسرق ويرتشي ويضرب السجناء الذين لا يرشونه ولا يسمحون بأن يسرقهم، والويل للسجين الذي يفتح فمه حين يجرده عبد ربه مما في جيبه، ولا سيما إذا كان سجينا جديدا، أو الذي يزوره أقرباؤه فلا يجزلون لعبد ربه العطاء ... إن زيارة السجناء ممنوعة، ولكن عبد ربه يبيحها، ويحدد لها رسما، والويل لمن يكتفي زواره بدفع الرسم وحده، وكل من في المركز يعرف ذلك، ومع هذا فما من واحد تكلم ... إن عبد ربه لا يعمل لحسابه فقط ... إنه يمثل هيئة الحكم وينوب عنها، ورذائله تمثل رذائلهم مجتمعين ...
ويقسم ماسح الأحذية على أنه رآه بعينيه يقود قرويا من أقارب أحد السجناء، وهو يحمل صفيحة سمن إلى بيت المأمور، ويقسم بأنه حمل على رأسه قفصا من الدجاج أوصله إلى منزل معاون البوليس، وكان عبد ربه هو الذي كلفه ذلك.
وعشرات القصص الأخرى، ومن خلف كل قصة تبدو يد عبد ربه، وقد حلقت فوق الجميع، وتسلطت على الجميع.
ثم كان عبد ربه إلى جانب ذلك كله ضخم الجثة قوي البنية سريع العدوان، يرى في قبضة يده حجة كافية تسكت كل لسان، وتميت كل شكوى قبل أن تخرج من الأفواه.
وهل هناك سجين لم يذق لكمة من يد عبد ربه، أو لسعة أليمة من عصاه؟ لسعة واحدة ...
وإني لأذكر كيف رأيت بعيني أحد السجناء عقب «بسطة صغيرة» وهو لا يكاد يقوى على السير بقدميه، إن «البسطة» معناها بضع لسعات من عصا عبد ربه ينالها السجين إذا شكا أمرا، أو طلب طلبا، ولو جرعة ماء ... إن جواب عبد ربه على أي طلب مهما يكن متواضعا «أنا عارفك يا مسجون يا مجرم أنت ... أنت مشاغب لن ترجع حتى تنبسط ...»
وينبسط المسجون حتى يموت من الانبساط.
والمسجون الوحيد الذي لم ينبسط على الرغم من أنه كان أحق السجناء بالانبساط هو سيد عبد الغني.
وكان سيد عبد الغني فلاحا من إحدى قرى المركز جيء به مقبوضا عليه في تهمة قتل شيخ الخفراء وإلقاء جثته في الترعة، وتسلمت أنا أمر القبض، ورفعت رأسي لأرى الضيف الجديد فوجدت أمامي شابا في مقتبل العمر سليم البنية لا يقل جسمه رشاقة عن أي نجم من نجوم السينما الذين نراهم على الشاشة، كان جلبابه نظيفا، ووجهه نظيفا، ومع جمود ملامحه وسكون وجهه عن أي تعبير فقد كانت عيناه تنطقان بكل معاني القوة والاعتداد.
وملأت خانات دفتري كما أملاني هو بنفسه ... حتى رقم القضية ...
سيد عبد الغني ... فلاح ... سن 22 سنة من قرية ... مركز ... التهمة قتل أمر حبس رقم ... لمدة أربعة عشر يوما، وألقيت نظرة على أمر الحبس فإذا بسيد لم يخطئ في حرف واحد، وقلت في دعابة: «لكأنك معتاد على القضايا يا سيد؟»
وأجابني في صوت جاد لا خشونة فيه: هذه أول مرة أتهم فيها وأحبس. - أتكون أول مرة لك هي القتل؟ - لم أقتل شيخ الخفراء لعنة الله عليه. - أولا تستطيع أن تخفي عواطفك؟ على الأقل لتبرر إنكارك للتهمة؟
وأجابني بنفس الجد والهدوء: ولم أخفي عواطفي؟ لقد كنت أكرهه وتشاجرت معه قبل مقتله بيومين ... كنت أتمنى لو أني قتلته لكنه أفلت من يدي.
ولم أعن بسؤال سيد عن تفصيلات قصته مع شيخ الخفراء، وإن كنت قد أحسست أني أميل لتصديقه ... كان في صوته رنة تبعث علي الثقة به.
ومضى سيد بصحبة الشاويش عبد ربه والحارس الذي أحضره من النيابة إلى السجن ... وانصرفت أنا إلى عملي.
ومرت أيام كان سيد يذهب في كل يوم بصحبة حارسه إلى النيابة، ويعود منها بعد التحقيق ... وكدت أنسى كل شيء عنه ... حتى جاءني بعد أسبوع ومعه حارسه، وقدم إلي الشاويش عبد ربه أمرا بالإفراج عن سيد عبد الغني.
ولا أدري لم أحسست بالارتياح؟ كأن الأمر يتصل بإنسان أحبه، وأغلب الظن أن سيد نفسه قد لحظ ارتياحي، فقد قال وأنا أملأ خانات دفتر السجن: «والله أنا زعلان يا بيه علشان حاجة واحدة ... أنني لن أرى وجه حضرتك تاني.»
وقلت ضاحكا: «لا أراك الله وجهي يا سيد ... إنني كما ترى لا أرى غير السجناء.»
وأسلمت سيد - بعد أن أخرجته من السجن - في دفتري فقط إلى الشاويش عبد ربه ليتولى تسليمه ما أودعه في عهدته، ويطلق سراحه ... وكنت أعرف مقدما ما سوف يحدث، لسوف يتخلى سيد عما تحويه حافظته من نقود، وسوف يستولي عبد ربه على ساعته إن كانت لديه ساعة، أو خاتمه إن كان يملك خاتما جاء به إلى المركز.
وربما قضى سيد ليلة أخرى في السجن إذا لم يقدم لعبد ربه قربانا سخيا، وعبد ربه معذور إذا أبقاه ليلة أخرى ... إنه يخشى عليه من الذهاب إلى القرية بعد الغروب ... أول لعل ضابط المباحث يحتاج إليه لاستيفاء بعض معلومات.
إن هناك ألف حجة لحبس إنسان برأته سلطة القضاء.
وصح ما توقعته ... فما كدت أطأ عتبة باب المركز في الصباح حتى وجدت سيد عبد الغني بقوامه الفارع، ووجهه النظيف يخطر في الممر الضيق متجها نحو الباب.
وبادرني بصوته الجاد الصافي: صباح الخير يا بيه!
وقلت متصنعا الدهشة: ماذا؟! هل جئت إلى المركز ثانيا يا سيد؟
وأجابني، وفي صوته رنة دعابة: لم أكن قد غادرت المركز أمس، لقد قضيت ليلتي هنا في ضيافة الشاويش عبد ربه.
وكادت شفتاي تفتران عن ابتسامة خبيثة، ولعل سيد قد لمح بعينيه بوادرها ... فقد استطرد قائلا: حقك يا بيه تسأل عنه؛ لأنه روح البيت مريض، لقد أصيب بمغص شديد عقب صلاة الفجر.
وتملكتني الدهشة فما أظن أن في الدنيا آلاما تستطيع أن تؤثر في بطن الشاويش عبد ربه الضخم ... وأحسست أن هناك شيئا، فقلت لسيد: ولكن ماذا تفعل هنا الآن؟ ألم يطلق سراحك؟ - إني أنتظر معاون البوليس لأطالبه بحسابي. - حساب؟ أي حساب؟ - جنيه ونصف أخذهما الشاويش عبد ربه من حافظة نقودي حين دخلت السجن اشتري بهما خمسة أزواج دجاج بعث بها إلي معاون البوليس. - ومن قال لك هذا يا سيد، ألا تستحي؟
ويبدو أن لهجتي في عتابه لم تكن جادة، فقد قال وهو يضحك: لقد قال لي ذلك الشاويش عبد ربه، ولم يكن يستطيع أن يكذب. - ماذا تعني؟ تعال معي!
وكان الوقت مبكرا؛ إذ إنني أصل - مرغما - قبل موعد العمل يوميا بحكم سكناي في القاهرة، ومجيئي بأول قطار ...
ووقف سيد يقص علي ما حصل قائلا: لقد جئت إلى هنا، ومعي حافظة بها ثلاثة جنيهات سلمتها للشاويش عبد ربه، ومعها ساعتي وخاتمي ... وعندما أفرجت عني حضرتك أمس ظننت أني سأخرج لحال سبيلي، فطلبت حافظتي وساعتي من الشاويش عبد ربه، فإذا به يدفعني أمامه نحو باب السجن، وهو يصيح بي وسط الجنود: «إنت أصلك مشاغب ومجرم.»
وحاولت أن أفهمه أني لست مجرما، وأن النيابة قد أفرجت عني لهذا السبب فإذا به يتهمني بالإجرام، ثم يصفعني على وجهي بيده الغليظة أمام الجنود، ودخلت حجرة السجن، وأنا أكاد أجن من الغيظ، وهو يصيح بي: «اتفضل! اتفضل هنا لغاية ما تعقل» وقضيت الليلة - ولم يكن هناك غيري في السجن - حتى قبيل الفجر - فناديت على الشاويش عبد ربه، فجاءني أحد الجنود يسألني ماذا أريد فقلت له إني أريد الشاويش عبد ربه شخصيا، وجاءني الشاويش عبد ربه شخصيا، وهو يفرك عينيه قائلا: «عقلت يا مجرم يا ابن المجرمين؟»
وتجاهلت السباب، وملت على الشاويش عبد ربه متظاهرا بأني أحدثه حديثا خاصا وفي صوت خافت، وصرف عبد ربه الجندي المرافق له، واقترب مني وجذبته إلى داخل السجن، وأغلقت الباب ولكمته في بطنه حتى عوى كالكلب، وأفرغت في بدنه غيظ ليلة كاملة من الصفعات واللكمات، وكأنما كان يخشى على سمعته فما ارتفع صوته إلا عن أنات مكتومة من الألم، كل هذا وأنا أطالبه برد الساعة والثلاثة جنيهات، حتى أقر لي بأنه سيعطيني الساعة وجنيها ونصف جنيه فقط؛ لأنه اشترى بنصف المبلغ دجاجا لمعاون البوليس.
وسكت سيد، وظللت برهة صامتا، وقد غلبتني الدهشة، ثم قلت: لكن ... ألم تكن تخشى يا سيد أن ينادي الجنود فيتغلبوا عليك، ثم يوجهوا إليك تهمة جديدة؟
وأجاب سيد دون تردد: لقد قلت لعبد ربه، وأنا أكيل له الضربات إنه إن صاح أو اشتكى، فسأقتله قريبا كما قتلت شيخ الخفراء وخرجت بريئا، ولقد صدق الغبي التهمة. - إنك جريء يا سيد ... كان من الممكن أن يعيدك الشاويش عبد ربه إلى السجن، وينتقم منك شر انتقام.
فرد في اعتداد: مستحيل يا بيه ... إنه أجبن نوع ... هذا النوع الذي يصيح، ويقتل شواربه، ويعتز ببطنه الضخم ووظيفته الحكومية ... لقد فعل كما أمرته بالضبط ... أعد لي ماء فتوضأت وصليت، وهو واقف كالكلب، ثم ودعني حتى الباب بعد أن أعطاني ساعتي والجنيه والنصف، ولقد ذهبت فأفطرت في مطعم الفول على رأس الشارع، وجئت لأنتظر معاون البوليس.
وقلت لسيد، وهو يهم بالانصراف: أليس الأوفق يا سيد أن تنصرف، وتنجو بجلدك، وتنزل عن الجنيه والنصف الباقيين لك؟
وراعني جوابه بنفس لهجته الجادة: ولماذا يا بيه؟ أينا الذي يتصدق على الآخر، أنا أم معاون البوليس؟ - ربما كان عبد ربه كاذبا يا سيد ... - قلت لك يا بيه إنه كان في حالة لا يستطيع معها أن يكذب.
وقص علي سيد بعد بضعة أسابيع بقية القصة، حين لقيته في القطار الذاهب إلى مصر فترك مكانه، وجاء يحييني ...
سألته ما حدث بينه وبين معاون البوليس، فأجابني دون أن يتخلى عنه جده: لقد أعطاني الجنيه والنصف، وهو يقول لي أمام زملائه: «ابقى هات لنا فراخ من دي تاني يا سيد ... بس السعر عالي قوي ... المرة الجاية تبقى تنزل السعر شوية يا سيد.»
وأمنت على كلامه، ولم أشأ أن أقول له إنني لست تاجرا، وإنه ليس رجلا شريفا. - أوكنت تريد أن تقول له ذلك يا سيد؟ - ولماذا لا أقول له يا بيه؟ ماذا كان يستطيع أن يفعل معي؟ أليس هناك قانون يعاقبه على ما فعل؟
وغادرني سيد عبد الغني، وعاد إلى مكانه من القطار ...
سيد عبد الغني استطاع أن يخرج من السجن دون أن ينبسط ... والذي استطاع أن يخرج من جيب حضرة معاون البوليس لأول مرة ثمن الدجاج.
كعكة في يد اليتيم
... منتهى أمله ... صنع كعكة لأطفاله ... وثوب لزوجته ... وفي سبيل هذا الأمل ... بذل ما يملك من حياة ... ***
رشف سيد ما تبقى من كوب الشاي في جرعة كبيرة، ومال برأسه قليلا إلى الوراء بضع دقائق ... ثم عاد إلى العمل.
وكأنما كان كوب الشاي والدقائق القليلة التي أراح فيها رأسه يوم عطلة كاملا ... فقد أحس بنشاط وحيوية كأنه لم يأكل منذ دقائق طعام إفطاره الجاف، وكأنما كانت حبات الفول التي نخرها السوس قطعا من الشواء سهلة الهضم لذيذة المذاق.
وأهوى سيد بالمطرقة على قطعة الجلد فاستوت، ومد يده إلى كوز النشاء فالتقط بإصبعه قطعة صغيرة أخذ يدهن الجلد بها حتى غطاها كلها، ثم ألصق فوقها القماش الأبيض، ثم نحاها بعيدا، وسحب قطعة أخرى من الجلد ... وأهوى بالمطرقة من جديد ... وتكررت العملية ... كل واحدة منها تستغرق الوقت نفسه ... تهوي المطرقة، وتمضي فترة سكون يسمع فيها حفيف يده تسوي النشاء على سطح الجلد، ثم تهوي المطرقة من جديد.
ومضى نصف ساعة ... وامتلأت المنضدة الطويلة أمامه بقطع الجلد المبطنة بالقماش، ودارت عين سيد فاحصة ما سوى من القطع، ثم نهض إلى عمل جديد ... وكان العمل الجديد أكثر تشويقا لمن يراه.
كان وضع هذه القطع المتناثرة على قوالب الخشب في شكل الأحذية، وكان أقل سأما وانتظاما عن العمل الأول، وأكثر تعقيدا.
وكان يبدو لكل من يرى كل قطعة قد استوت على قالبها أن حذاء جديدا قد أوشك أن يكون، وكان يبدو لسيد وحده في كل قطعة ينتهي من إلصاقها وتشكيلها على القالب شيئا آخر غير حذاء جديد ، كانت تبدو له بضعة قروش تخرج من جيب صاحب المصنع لتنصب في جيبه هو ... وكان خياله يرسم لهذه القروش مصيرها منذ الآن، وقبل أن ينتهي الحذاء.
وكان هذا المصير منتهى أمله منذ أيام ... فيوم أن ينتهي من إعداد بضعة أحذية في ساعات الليل بعد الإفطار ... يوم يستطيع أن يفعل ذلك فسوف يحقق آمالا كبارا.
ولو أننا اقتحمنا على سيد خلوته منذ بضع ليال، وقبل أن يبدأ عمله الإضافي في ساعات الليل في المصنع، خلوته إلى زوجته في الدار التي يسكنها، وبعض الدور حجرة واحدة، لوجدناه يحدث سنية، والعيال نيام قائلا: وماذا قالت فاطمة؟ - قالت أبي تأخر، وقد غالبني النعاس ... هل ذهب ليأتي بالكعك؟ - وماذا قلت لها أنت؟ - لم أقل شيئا، وإنما قال لها أخوها، وهو يتثاءب إن الكعك يأتي في آخر رمضان ... وكذلك الثياب الجديدة.
ويخلع سيد حذاءه، ثم يستلقي على الفراش ويمضي في صمت عميق تقطعه سنية قائلة: إنهما ليسا بحاجة إلى ثياب، سأصنع لفاطمة ثوبا من ثوبي القديم الأزرق، فما زال قماشه متينا ... أما حسن ...
ويقاطعها في ضحكة حزينة: ستصنعين له بدلة من أي ثوب من أثوابك؟
وتصمت سنية في هذه المرة، ويجيب سيد عنها قائلا: حتى ولو لم يكن هناك عيد بعد عشرين يوما يا سنية، فإن الولد والبنت في حاجة إلى ثياب جديدة، ولقد دبرت الأمر.
وتنظر سنية عن غير قصد إلى السوار الذهبي النحيل الباقي في يدها من عشرة أساور كانت لديها، ثم يتملكها الرعب، وتسترد أنفاسها على صوت سيد. - لقد طلب صاحب المصنع أن نعمل بنصف أجر كل ليلة بعد الإفطار حتى السحور وبذلك ...
وتعاود سنية النظر إلى السوار في اطمئنان ... ويمضي هو في الحديث. - وبذلك سيكون لدي - إذا واظبت على السهر - بضعة جنيهات تكفي لكسوتهما ولشراء الكعك، ها أنت ذي ترين أن الله كريم يا سنية.
وينتهي بهما الحديث تلك الليلة من ليالي أول رمضان، ولو أننا عدنا إليهما بعد عدة ليال بعد منتصف الليل لوجدنا سيد قد تمدد على الفراش دون أن يخلع حذاءه هذه المرة، لقد بلغ به التعب مداه، ولقد راع سنية ما يلقاه من ضنى، وما يكلف نفسه من جهد، فهي تقول له: وماذا تنفعنا أو تنفع العيال الثياب الجديدة؟ وبأي شهية سيأكلون الكعك إذا سقطت أنت مريضا على العيد؟ هل هناك إنسان يحتمل العمل من مشرق الشمس حتى منتصف الليل مثلك؟
ويجيبها سيد، وهو يتكلف الرضاء: لا عليك، ولا على الأولاد ... إن العمل لا يمرض يا سنية، وإنما البطالة ... لست وحدي الذي أعمل، إن هناك غيري عشرات، سوف ننسى هذا التعب حينما نقضم الكعك، ونرى فاطمة وحسن يزهوان بالثياب الجديدة ...
ويصمت لحظة ليعود: هل تحبين الكعك يا سنية؟ إني لا أذكر أنك طلبت مني الكعك مرة واحدة منذ تزوجنا، حتى قبل أن يأتي الأولاد، كنت أنا دئما الذي أذكر أن العيد قد قرب فأشتري لك الدقيق والسمن لتصنعيه.
وتطويهما الذكريات تلك الليلة ... ثم يغالب النعاس سنية، وتنتاب سيد موجة من الأرق تحمل معها عشرات الذكريات.
ذكريات كلها تتصل بسنية، يذكر سيد أن سنية زفت إليه منذ عشر سنوات ... وذكر أنها ما طلبت منه خلال الأعوام العشرة شيئا لنفسها في سنوات الحرب، السنوات الخضر، كان هو الذي يذكر دائما ما تحتاج إليه فيشتريه، كانت الدنيا إذ ذاك دنيا، كان يعمل بالجيش، وكان يعول أمه وأخته عدا سنية، ومع ذلك فقد كان لا يعاني ما يعانيه الآن.
ما تغيرت موارده، ولكن الدنيا هي التي تغيرت ... إنه ليتحسر الآن على أيام الحرب ... ثم يعود إلى سنية ... لماذا لا تطلب شيئا لنفسها أبدا؟ أهي لا تحتاج حقا إلى ثياب؟ أم هي تشفق به؟ لو أنه طاوعها فصنعت من ثوبها الأزرق ثوبا لفاطمة فبماذا تخرج إلى السوق، وتزور أهلها؟ هل عندها عدا هذا الثوب الأزرق غير ثوب واحد آخر؟
وتثور نفسه على نفسه، وتمضي موجة الإعجاب بسنية إلى منتهاها، فيهم بخياله خاطر: «لا بد أن أشتري ثوبا لسنية، إنها تستحق ثوبا جديدا» ويرتطم خاطره الجديد بحقيقة تهبط على خياله كما يهبط الطير الجارح ... وتموت خواطره جميعا ، ويستسلم للنعاس ... ما من شك أنه لن يستطيع أن يشتري ثوبا لسنية.
إن قصارى ما يكسبه بعمله في الليل من نقود لا يكاد يكفي إلا ثياب طفليه، وبضع أقات من الكعك ... ولن ترضى سنية ألا يكتسي العيال، أو يحرموا من الكعك لتخطر هي في ثوب جديد.
وها هو ذا سيد حيث تركناه أول القصة يترجم ما أنتجت يداه من أحذية جديدة إلى أمتار في ثياب العيال، وأقراص من الكعك.
ولقد انتصف الليل، ونهض سيد فجمع ما أنتجت يداه، ونحاه جانبا، ورأى لأول مرة منذ بضع ساعات من حوله من زملاء ... ودبت في الحجرة الحياة، وغادر سيد وزملاؤه المصنع، وطواه الظلام في طريقه إلى المنزل، ونام الليل نوما هادئا لم تزعجه الخواطر ولا الأحلام، وصحا في الصباح نشيطا كأنه قضى ليلة كاملة في فراش وثير.
وكانت فاطمة ما زالت نائمة ... وكان حسن يلهو بقصاصات من الورق عند باب الحجرة، فترك ما بيديه، وهرع إلى أبيه، وصحت فاطمة على صوت أبيها، وهو يصف لحسن ثوب العيد الذي سوف يشتريه له بعد ساعات، ويحدثه عن الكعك اللذيذ الذي سيفطرون به في صباح العيد.
وأعاد سيد الحديث نفسه لفاطمة ... ثم حانت منه التفاتة إلى سنية فوجدها تنصت في غبطة وفرح ... وكأنه سيشتري لها هي أيضا ثوبا، وغادر سيد داره غارقا في دنيا الفرحة، وسار نحو المصنع، وسبقت خواطره الساعات الباقية، واستعرض في خياله يومه الحافل ... سيمضي في عمله حتى الثانية عشرة والنصف، ثم ينهض مع زملائه فيجتازون الممر الضيق الموصل بين المصنع والمتجر فيقفون صفا أمام عبد السميع أفندي الكاتب الذي ينادي كلا منهم باسمه ... إنه دائما الرابع، وسوف يتقدم فيقبض أجره كاملا، ثم يقبض ثلاثة جنيهات أجره الإضافي، ثم يعود من الطريق نفسه حتى المصنع، وعند الباب سيجد هو وزملاؤه حنفي القهوجي واقفا في الانتظار ليستقضيهم ثمن ما شربوه خلال الشهر من قهوة وشاي ونارجيلات، وسيتكرر ما يحدث كل شهر، سيطول النقاش بين حنفي وبين بعض زملاء سيد، إن الخلاف يكون دائما حول بضعة فناجين من القهوة أو أكواب من الشاي يضيفها حنفي زيادة على حسابهم، أو ينكرون هم أنهم أخذوها، وإنه ليعلم أن حنفي يضيف أحيانا من عنده، ولكنه يعلم أيضا أن بعض زملائه يصر على أن ينكر بضعة فناجين أو أكواب، إن الخلاف ينتهي دائما بأن يتخلى حنفي عن نصف ما يضيف من مشروبات حتى ليبدو أن حنفي قد جرى على هذه السياسة وألفها الجميع ... ولو أن حنفي طلب يوما حسابه المضبوط لخسر بضعة قروش ثمن المشروبات التي سوف ينكرها عملاؤه.
إن سيد أسعد كثيرا من زملائه ... إنه لا يتعاطى غير كوب من الشاي عند انتصاف النهار ... أما هذا الشهر فهو قد صام رمضان، ولن يدفع غير ثمن أكواب الشاي التي ارتشفها بعد الإفطار خلال أسابيع ثلاثة، إنه أسعد من كثير منهم أيضا؛ لأن أحدا غير حنفي لا ينتظره عند باب الخروج.
لن ينتظره صبي البقال الذي ينتظر زميله عبد العال ... ولا المرابي الذي ينتظر مصطفى ليحصل منه على الفائدة الشهرية الفادحة لقرضه اليسير، ولن يجد امرأة تنتظر نفقتها الشهرية، وعلى كتفها طفل رضيع، كما تنتظر مطلقة زميله رضوان خروج طليقها، وقد علا صياحها وشكواها، إنه سيخرج مرفوع الرأس إلى المتجر الصغير عند رأس الشارع فيشتري ثوبا جميلا لفاطمة - قماش ثوب تخيطه له سنية - ثم يمضي بعد ذلك إلى الحي القريب فيشتري حلة متواضعة لحسن، ثم يذهب إلى بائع الكعك فيشتري أقتين من الكعك، لقد كانت سنية تصنع الكعك بيديها من قبل، أما الآن فإنها لن تستطيع ... إن الحصول على دقيق صعب والحصول على بضعة أرطال من المسلى الصناعي أصعب من الحصول على الدقيق، وأصعب من الحصول على قدر من السكر ... إن سيد يتحسر على أيام الحرب الآن، ويذكر كم كان بطرا من الناس أن يصفوها بالغلاء والضيق.
ثم يمضي سيد إلى البيت فرحا بحمله الغالي ... إنه سيحمل آماله الكبار خلال ثلاثة أسابيع من الضنى والسهر ... سيحمل البهجة إلى أعز قلوب لدى قلبه، وتقف خواطر سيد عند أسرته المرحة بما يحمل لها من هناء، ويقف عند مدخل الشارع حيث يقوم المصنع ليتأمل واجهات المتاجر، وقد فاضت بمعروضاتها الجميلة ... لسوف يشتري ثوب فاطمة من بين هذه المعروضات ... ثم يمضي ثانيا في الطريق حتى يصل إلى متجر الأحذية فيتمهل قليلا، وينظر إلى ما تزدان به واجهة المتجر من أحذية أنيقة لامعة، لقد أسهمت يداه في صنع كل زوج من هذه الأحذية، ولقد اختلط بكل زوج منها قطرات من عرقه وأنفاسه.
وتحين منه التفاتة فيرى الثمن المكتوب على صنف من هذه الأحذية، ويلحظ شيئا لا يثير التفاته ولا يعنيه ... لقد تغير الثمن المكتوب عما كان عليه بالأمس، كان ثمن الزوج بالأمس مائة وسبعين قرشا فأصبح اليوم مائتين وخمسين.
ويحاول عقله الصغير أن يجد لذلك سببا فلا يسعفه الإدراك، وإنما يسعفه خاطر عابر فيشكر الله؛ في قلبه لأن طفليه ليسا بحاجة إلى أحذية، وتخترق عيناه زجاج الواجهة في نظرة سريعة فيلمح عبد السميع أفندي منهمكا في إعداد أوراقه، شأنه كل أول شهر فيتملكه الفرح، وينسى ارتفاع ثمن الأحذية.
وتمضي ساعات العمل، وينتصف النهار، وتدق الساعة دقتها مؤذنة بالنصف بعد الثانية عشرة، وينهض سيد وينهض زملاؤه، ويسيرون في الممر الضيق نحو المتجر، ويقفون صفا أمام عبد السميع أفندي، ويأتي دور سيد فيقبض مرتبه في لهفة، ثم يقبض أجره الإضافي ليس ثلاثة جنيهات كما توقع، وإنما جنيهان وثمانون قرشا، ويدرك سيد بعد حوار قصير مع عبد السميع أفندي أنه لم يخطئ الحساب، وإنما هي عشرون قرشا، مجرد قروش قليلة خصمت في سبيل ما دفعه صاحب المصنع لجمعية من جمعيات البر ...
ولم يكن عبد السميع أفندي كاذبا، إنه يضع أمامه الصحيفة التي نشر فيها اسم صاحب المصنع، وتبرعه الكريم، وقد رأى سيد اسم صاحب المصنع بعينيه، وليس له أن يشك في دقة حساب عبد السميع أفندي بعد ذلك، إنه يحمل ثروته راضيا، ويخرج من الممر الضيق ليتهيأ للخروج.
ويمضي ليحقق آماله للكبار ... إن العشرين قرشا ستؤثر قليلا في ميزانيته لكنها لن تعصف بشيء مما انتواه .
ويقف سيد يقلب القماش الجميل في متجر الأقمشة، ويروقه أحد أثواب القماش فيدقق فيه النظر، وتمر بخياله صورة فاطمة، وقد ارتدت ثوبا من هذا القماش، ويسأل البائع عن الثمن ...
ويذكر البائع ثمنا يتخاذل أمامه سيد، وتمتد يده بحثا عن قماش أرخص، ويقول البائع، وهو يقص الثوب أرخص قماش استطاعت نقود سيد أن تحتمله: كل شيء قد ارتفع ... العيد قد قرب، وشدت الأسعار.
وتمر بخيال سيد صورة لم يعرها التفاتا في الصباح، لقد ارتفع ثمن الحذاء أيضا اليوم، الحذاء الذي يصنعه هو وزملاؤه زاد ثمنه ثمانين قرشا.
وينقد البائع الثمن، وينصرف ليشتري حلة لحسن، وتطرق سمعه مرة أخرى - وهو ينقد البائع ثمن الحلة الصغيرة المتواضعة - أحاديث السعر الذي ارتفع، يقول له البائع: الدنيا عيد، وكل شيء قد غلا ثمنه ... كانت هذه الحلة أقل ثمنا منذ شهر واحد، بل منذ أسبوع واحد، ثم ارتفع ثمن كل شيء.
وتبدو صورة واجهة المتجر - متجر الأحذية - واضحة لعيني سيد، حيث ارتفع ثمن الحذاء بالأمس فقط ... ويحاول سيد أن يربط بين سعر الحذاء وسعر الثوب ... وسعر الحلة الصغيرة المتواضعة، ولكن عقله الصغير لا يمضي بعيدا، إنه يقف عند كلمة عيد، العيد هو الذي رفع الأسعار فطارت قروشه التي أجهد نفسه طوال ليالي رمضان من أجلها، ومع ذلك فقد نفدت هذه القروش ... ولم يشتر الكعك بعد ... الكعك الذي سألت عنه فاطمة، ومناها به سيد ذات ليلة ...
لو لم ترتفع الأسعار لما أعجزه أن يشتري الكعك ... كانت ستبقى معه القروش الثمانون ليشتري أقتين ونصفا من الكعك، ثمانون قرشا هي كل ما يحتاج إليه ... ويمضي عقله ثانيا في خواطر سابحة، يمضي إلى بائع الحلل الصغيرة ... لقد أخذ منه هذا الرجل الثمانين قرشا ثمن الكعك، أو هو بائع الثياب، الثياب الجميلة التي اشترى من أرخصها ثوبا لفاطمة هو الذي غصبه الثمانين قرشا، أو ...؟
تمر بعقله صورة المتجر ... متجر الأحذية من جديد ... الأحذية التي صنعها بيديه هو وزملاؤه.
الأحذية التي ارتفع سعر كل منها ثمانين قرشا ... الثمانون قرشا ثمن الكعك، زوج واحد من الأحذية التي يصنعها ... وأقتان ونصف من الكعك، وعبثا حاول سيد أن يطرد الصورة، صورة زوج الأحذية، وأقات الكعك الضئيلة، عبثا حاول أن ينسى الورقة الصغيرة المثبتة فوق الحذاء، الورقة التي رفعت ثمنه ... ثمانين قرشا ... اختلطت في رأسه الصور، وكان قد وصل إلى بائع الكعك، فألقى نظرة على الأقراص المتراصة في كوم ضخم، وحاول أن يقف، ولكن عقله رده في سرعة فابتعدت قدماه، وكأنما خشى أن تغلبه نزواته، وآب إلى المنزل بحمله الصغير ... ثوب فاطمة وحلة حسن، وتلقاه الصغيران في غبطة وفرح، ومرت لحظات سعيدة أفاق بعدها على صوت حسن: وأين الكعك يا أبي؟
والتقت عيناه بعيني سنية ... وعلى غير قصد منها نظرت إلى سوارها النحيل في رعب، ولم تفت سيد هذه المرة نظرتها، ومرت لحظة أجاب بعدها سيد: غدا سآتيكم بالكعك ...
وخرج سيد بعد لحظات ميمما شطر المصنع، وجلس بين زملائه يعمل في صمت وكآبة، ومرت ساعات النهار حتى الإفطار بطيئة مملة، وأخذ العمال ينصرفون مهرولين، وظل سيد مكانه ... وسأله واحد منهم: ألا تذهب لتفطر في بيتك يا سيد؟
وقال سيد: لدي ستة أزواج أعدها على القوالب، ولقد ضاعت مني ساعات الظهيرة، سأفطر هنا في المصنع.
وانكفأ سيد على العمل، وكأنه بقي فعلا لكي يعمل ... ومرت ساعات الليل الأولى، وانصرف مع زملائه عند منتصف الليل.
وقالت سنية، وهي تفتح له الباب: متى تنتهي من هذا السهر المضني، إننا لا نريد كعكا.
وأجاب سيد، وفي صوته عزيمة رجل قادر: بل سآتيكم بالكعك غدا صباحا. - ومن أين تأتي به، ولم يبق لديك غير مرتب الشهر، ألن ندفع إيجار المنزل يا سيد؟ أم نصوم شهرا آخر من أجل الكعك؟ - لن نصوم يوما، ولن تبيعي السوار يا سنية ...
ولم تسأل سنية، وإنما أرسلت عيناها عشرات الأسئلة، ولم يجب سيد، وإنما أغمض عينيه كأنما استسلم للرقاد، وطال إغماضه، وطالت يقظته كأنه يرى بخياله شيئا لا يريد أن يراه بعينيه، ومر الليل وجاء النهار، ووقف سيد، وقد انتصف النهار يتلقى عشرات الأسئلة: هل كسرت الصندوق الصغير يا سيد؟ - كم كان في الصندوق يا سيد؟ - كم أخذت من النقود؟
ويجيب سيد في اضطراب، وكأنه يكذب: كان الصندوق مغلقا ففتحته. - لست أعرف كم كان في الصندوق. - أخذت ثمانين قرشا.
ويصيح عبد السميع أفندي: نعم أخذ ثمانين قرشا فقط ... هذا حق.
ويتلقى سيد سؤالا آخر: ولكن لماذا لم تأخذ غير ثمانين قرشا؟
ويجيب سيد: كنت محتاجا إليها ... - لماذا؟
ويسكت سيد ... وتمر بخاطره صورة واجهة المتجر، وصورة أكوام الكعك، ويجيب سيد في إلحاح، وكأنه يكذب: كنت محتاجا إليها ... كنت محتاجا إلى ثمانين قرشا.
وتمضي فترة صمت يقطعها صوت المحقق: أتعرف أنك متهم بالسرقة يا سيد، أين خبأت الثمانين قرشا؟
ويجيب سيد في حسرة: إنها هنا في جيبي.
ويمد يده فيخرج القروش الثمانين، ويقدمها في ذلة إلى المحقق قائلا: كنت محتاجا إليها، إنها ثمانون قرشا فقط. - أعرف ذلك يا سيد لكنا سنقبض عليك بتهمة السرقة مع ذلك، لقد سرقت هذه الثمانين قرشا.
ويبكي سيد لأول مرة ... ويصيح في حرارة وضراعة، وكأنه لا يكذب: لم أسرق شيئا ... هذه الثمانون قرشا كنت محتاجا إليها.
ويطرق المحقق، ثم يشيح برأسه كأنما لا يريد أن يرى وجه سيد، ويهب عبد الحميد واقفا، ثم يمضي في الغرفة جيئا وذهابا، ثم يقف فجأة، ويقول: وهل كنت أستطيع أن أرى وجه سيد، وقد ارتسمت عليه مظاهر يأس هائل قاتل؟ لقد أحسست بحقارتي، وأنا أصدر أمري بالقبض عليه ...
ما من واحد من زملاء سيد إلا وأقر بأنه خير منهم جميعا، وعبد السميع أفندي كاتب المحل يقسم لي أغلظ الأيمان أنه برغم اعتراف سيد لا يصدق أنه يسرق، ويصمت عبد الحميد مرة أخرى، ثم يعود إلى حديثه في اضطراب: ومع ذلك فبين يدي قانون ... قانون يلقي بسيد إلى السجن، ولا يستطيع أن يفعل شيئا لصاحب المصنع، وتاجر الثياب، وتاجر حلل الأطفال الصغار، قانون لا يستطيع أن يجفف قطرة من دموع سنية، وهي تروي لي كيف قضى سيد ثلاثة أسابيع يعمل ساعات الليل ليشتري ثياب العيال، وأقراص الكعك، قانون يأبى أن يضع مع سيد في قفص الاتهام إنسانا آخر ...
ويعود عبد الحميد إلى كرسيه، وقد هدأت ثورته يستطرد في الحديث: لقد أفرج عن سيد بضمان ... وخرج ليقضي العيد مع سنية وطفليه، إنهم لن يذوقوا الكعك في العيد ... لقد ردت الثمانون قرشا لصاحب المصنع ... وبعد العيد.
ويعود عبد الحميد إلى قلقه من جديد. - بعد العيد ... سأقف يوما لأتهم سيد بخيانة سيده ... وسرقة مصنعه ... وكسر صندوق صغير فيه نقود ... وسأطلب الحكم عليه بالسجن ... سوف أتكلم طويلا عن الشرف والأمانة، وأكيل اللعنات على اللصوص والمعتدين ... ولكني ...
ويعلو صوت عبد الحميد: ولكني أقسم لكم ... لن يكون سيد هو الذي أقصده ... إن سيد قد يسجن، وقد يحكم عليه مع وقف التنفيذ لكنه لن ينال شيئا من لعناتي.
وينظر عبد الحميد إلى الفضاء، ويخفت صوته، وكأنه يهمس في حلم: كم كان حكيما ذلك الذي صور العدالة في صورة امرأة عمياء تحمل ميزانها ... إنها لا تدري أحيانا أي معدن نفيس تشيل به إحدى كفتيها، وقد أثقلت الأخرى بالأوزار ...
طريق الصخور
ويل لمن تدفعه قدماه في طريق الشر ... إنه طريق الصخور قد أخفتها الرياحين والأزهار ... ***
سار في الركب الطويل مخترقا الحديقة الصغيرة نحو ميدان كفاحه الجديد ... الميدان الذي حكم عليه أن يعمل فيه منذ اليوم عشرة أعوام.
واتسقت خطواته مع خطوات زملائه على نغمات قرقعة السلاسل الضخمة فقفزت إلى خاطره صورة لا ينساها منذ صباه ... صورة خراف القصاب، وقد انتظمها حبل واحد دار حول أعناقها، وانتهى طرفه بين يدي صبي صغير ذي نظرات شريرة تعلو ثوبه قطرات الدماء ...
لطالما سأل نفسه، وهو صبي يسكن حي المذبح: ما لهذه الخراف تسير مطأطئة الرءوس؟ أتعرف هذه البهم إلى أين تسير؟
إنه يسأل نفسه الآن، وهو يتأمل ما حوله ... عشرات الزملاء يسيرون إلى جانبه وأمامه وخلفه مطأطئي الرءوس كالخراف ... تنظمهم سلسلة واحدة تربطهم جميعا، وكأنهم عقد هائل رهيب حياته كائنات بشرية تعسة قد كتب عليها الشقاء، وبدلا من صبي الجزار بضعة جنود لا تنتهي عند أيديهم أطراف السلسلة الضخمة، وإنما يحملون بنادق قد ثبتت عليها الحراب، تلمع تحت أشعة الشمس الساخنة، وكأنها عيون صبي الجزار الشريرة.
وسار الركب ... وانتهى أثر الحياة، وبدأ الجبل ساكنا كأنه القبر، وصاح الجند بكلام غير مفهوم تعرفه أسماع الخراف الذليلة فوقفوا جامدين، وتقدم أحد الجنود فنزع السلسلة الثقيلة التي تربط القيود فانفرط العقد، وأحسوا جميعا بشيء من الراحة، وحركوا أقدامهم كأنهم يحسون الحرية ... ودوى رنين القيود، وكأنه صهيل الخيل فأعادهم إلى صوابهم ... وأدرك كل منهم مرة أخرى أنه مسجون، أما هو فقد أدرك شيئا جديدا ... شيئا يدركه لأول مرة في يومه الأول من حياته الجديدة ... أدرك أنه لم يكن حالما خلال الأيام الماضية ... وأدرك أن رحمة الله لن تكون في المعجزة التي كانت تصورها له خيالاته، لن تحدث المعجزة فيعفو عنه القضاء ... إنه محكوم عليه بالسجن مع الشغل الشاق 10 سنوات، وسيقضي مدة العقوبة، ولن تكون رحمة الله إلا في أن يعتاد حياته الجديدة.
وانتفض جسده، وكأنه يسمع الحكم عليه لأول مرة، واهتز القيد فحرك السلسلة الثقيلة التي تصل بين قدميه، وعكر رنينها السكون الرهيب، وكان قائد الحرس قد بدأ يصدر أوامره والتفت القائد ممتعضا، وقال في ثورة: أنت يا مستجد ... قف معتدلا، وإلا ...
وعرف ما سوف يحدث لو أنه لم يقف معتدلا بعد دقائق حين دوت صرخة مروعة من زميله المجاور، والتفت فوجد الجندي يركله في عنف بأعقاب بندقيته؛ وحمد الله لأنه أطاع الأمر، وأصدر قائد الحرس أمره الثاني فتفرق الركب في سرعة، وكأنه يعرف أهدافه ... أما هو فقد وقف جامدا في مكانه لا يعرف ما يفعل، وتقدم منه أحد الجنود قائلا في غلظة: وأنت يا مستجد، تقطع من هنا ... طوالي إلى الشرق ...
وسار بخطى متئدة إلى حيث أشار الجندي ... ورفع معوله، وأهوى به على الصخر ... وندت عن الصخر شظايا ضئيلة تناثرت ذات اليمين وذات الشمال ... وضج الجنود بالضحك، واقترب أحدهم منه، وأراه كيف يقطع الصخر.
وهوت ضربات معوله بعد ذلك في نظام وعناية، وأخذ يقطع الصخر متجها إلى الشرق ... واختلطت قطرات عرقه المتصبب بزبد فمه اللاهث، وأحس أنه سيموت قبل أن تنتهي ساعات العمل، وفي اللحظة التي انطلقت فيها الصفارة مؤذنة بانتهاء ساعات العمل كان قد غلبه الإعياء، وكان يتحرك وكأنه فاقد الوعي، كان كل ما يشعره بأنه في عداد الأحياء رنين السلاسل الثقيلة في أقدامه وأقدام زملائه، الذي يصل إلى أذنيه كأنه حفيف أغصان.
وجلس يستريح، وعاد إليه وعيه، واسترد حواسه رويدا رويدا ... وجد نفسه يجلس على صخرة وأمامه وعاء طعامه، وامتد بصره إلى الأمام ... إلى الشرق حيث أشار الحارس.
ورأت عيناه الأفق البعيد حيث يلتقي الجبل بالسماء، إن هذا الأفق لا يمثل نهاية الشرق، إن الصخر يمضي بعد هذا الأفق إلى ما لا نهاية.
هل تصل ضربات معوله إلى هذا الحد الذي تمثله له عيناه؟ هل يصل يوما إلى هذا الأفق ويعرف ما وراءه من حياة، أم أن أجله سينتهي قبل أن يفرغ من قطع الصخر حتى الأفق البعيد؟
وتعبت عيناه من التحديق أمامه ... فأغلقهما، وأخذ يغوص في أعماق نفسه يستنهض ذكريات ما مر به حتى اليوم ... ومر بأعوام حياته الأولى سريعا، وقفز خياله إلى ماضيه القريب منذ أربعة أعوام ... الدار الهادئة الجميلة في شارع الحلمية حيث يقيم هو وزوجته ... وغص حلقه، وهو يزدرد طعامه الجاف ... كأن شبح خديجة زوجته لم يعبر في حياته من قبل، وكأنه مر به مع طعامه الجاف في حلقه.
يا لخديجة من قسوته هو! ترى ماذا تفعل الآن؟
وعادت ذكرياته ... وقف أمام المرآة يرتدي ثيابه بعناية، ووقفت خلفه خديجة تزيل ما علق بثوبه من غبار، واستدار ليرى وجهها فأخذت تصلح من رباط رقبته، وهي تقول: دائما لا تحكم رباط رقبتك ... ما هكذا يفعل الشبان، إلى أين ستذهب الآن؟
وأجابها: كالمعتاد ... صالون عم محمود لأحلق ذقني، ثم إلى المكتب ساعة، ثم إلى النادي. - لتلعب الطاولة؟ - لألعب الطاولة ... ثم أكون هنا في العاشرة ... العاشرة تماما. - وغدا؟ ... لا صالون عم محمود، ولا مكتب ولا طاولة ... غدا الخميس. - غدا نذهب إلى السينما ... سأحلق ذقني ظهرا قبل عودتي إلى المنزل ... غدا أنا تحت أمرك.
ويغادر الدار بعد هذا الحديث ... وتشيعه خديجة حتى الباب، ويمضي في الطريق ليجد عم محمود جالسا أمام حانوته يدخن نارجيلته، وأمامه كوب الشاي، ويرمقه من بعيد كما يرمقه كل يوم فيجده كما هو كل يوم، جالسا في اطمئنان وراحة، يعب دخان النارجيلة حتى يمتلئ صدره، ثم ينفثه في هدوء وإشراق، ثم يمد يده فيرشف رشفة من كوب الشاي.
لطالما حسد عم محمود، ولطالما فكر فيه ككائن يعيش بين الأحياء، كان يسأله أحيانا: كيف الحال يا عم محمود؟ باين عليك مبسوط النهاردة.
ولم يكن يسمع منه غير هذا الجواب: رضا ... مبسوط النهارده ... وكل يوم يا أستاذ ... كل شيء ولله الحمد.
ويضع مبسم النارجيلة ليرفع يده إلى فمه، ويقبلها في حرارة ظهرا لبطن.
كان يسأل نفسه أحيانا: ما الذي يعجب هذا الكائن الحي في هذا الوجود المضطرب؟ كيف يعيش، وما من شيء يشغله؟
سأله مرة بعد أن أعياه سؤال نفسه: أنت غني يا عم محمود؟
وأجابه الرجل في ابتهاج: إلا غني يا أستاذ ... طبعا غني، ولله الحمد. - أعني عندك ملك مثلا؟ - عندي الدكان ... وعندي بضع أمواس ... وعندي زبائن كحضرتك ... الحمد لله.
وعرف أنه لن يصل إلى جواب من الرجل، فعاد يسأل نفسه ... أين يعيش هذا الرجل من الحياة حتى لا يحس بضغطها وكفاحها ومشاغلها، أتراه يعيش على هامشها فلا يحس بما تنطوي عليه من مرارة وشقاء؟!
إنه هو مثلا سعيد بلا شك ... موفق بلا شك ... لديه زوجته خديجة التي يحبها وتحبه، وتدير له منزله كأحسن ما تدير زوجة منزل الزوجية ... وعنده وظيفته يجني منها مرتبا لا بأس به يقوم بشئونه وشئون بيته ... ولكنه مع ذلك لا يعدم ساعات من النهار والليل يفكر فيها، وتشغله هموم الحياة ... يشغله أمر مستقبله فيفكر متى يزيد مرتبه، ويحس بحاجته الدائمة إلى أن يزيد هذا المرتب ليرتفع بمستوى حياته قليلا، ويشغل باله ما سوف تتمخض عنه الأيام ... لسوف تلد له خديجة أولادا، ولسوف تزيد تكاليفه، وتكثر أعباؤه ... ولسوف ... ولسوف ...
ويتمتم دون أن يسمعه أحد. - مستحيل ! ... أيمكن أن يعيش إنسان بغير هموم ولا أفكار في عالم تصطرع فيه حتى الهوام؟ هذا الرجل قد منحه الله نعيما آخر ... نعيم من خلت رءوسهم من عقل يفكر.
ثم يرى عم محمود في جلسته، جلسته الهادئة يعب أنفاس نارجيلته في شغف، ويرشف الشاي في لذة فيراجع نفسه قائلا: ومع ذلك فما في تصرفاته شيء يدل على أنه غير عاقل ... إنه لا يخطئ أبدا.
ويقترب من الحانوت، وينهض عم محمود لتحيته، ويصحبه إلى داخل الحانوت، ويبدأ في مزاولة عمله في نشاط وخفة ... خفة الشاب لا تثاقل الشيخ الذي غزا الشيب شاربه، وداعبت خطوط العمر بشرته في عنف وقسوة ... في ذلك اليوم دخل إلى الحانوت وجلس مكانه، وشرع عم محمود يحلق ذقنه، ودخل في تلك اللحظة عبد المجيد بك الشاب المرح الذي لا يكف عن الدعابة.
كان يعرف عبد المجيد هذا؛ فقد لقيه أكثر من مرة في حانوت عم محمود ... كان شابا أنيقا وسيما كثير الحديث عن مغامراته وغزواته، وكلها في ميدان المقامرة والنساء، وكان قد تعود أن يبادله الدعابة بأن يسأله عن مغامراته فيغضب عم محمود، ويعلن عن غضبه بتأنيب عبد المجيد بك في رقة كلما روى مغامرة قائلا: حرام عليك يا عبد المجيد بك ... أليس لك نساء ... الله يهديك؟
ويمضي عبد المجيد بك في سرد مغامراته ضاحكا من عتاب عم محمود، فإذا ما انتهى من حلاقة ذقنه قال، وهو يضحك في مرح: عم محمود أصله راجل طيب ... مش عايش في الدنيا.
وكانت هذه الجملة تجد صداها دائما في نفسه هو ... الذي طالما حيره أمر عم محمود ... إنه رجل لا يعيش في الدنيا.
وبدأ عم محمود ينثر على وجهه قطرات الكولونيا، وقال عبد المجيد: أتعرفون كم ربحت اليوم؟ سبعين جنيها ... بعشرين قرشا.
ومر عم محمود بهذا الخبر، وكأنه لم يسمعه، أما هو فقد سأل في اهتمام: في المقامرة؟ - أبدا ... في سباق الخيل يا أستاذ ... عشرون قرشا فقط جاءتني بسبعين جنيها.
وعلق محمود في استخفاف: وغيرك كم خسر؟
وقال عبد المجيد في تهكم: كم خسر ؟ ما كنت أخسره أنا لو لم أربح ... العشرين قرشا، كان قد أتم حلاقة ذقنه، وترك مكانه لعبد المجيد الذي استطرد في الحديث: غدا الأحد مثلا ... لدي أسماء أربعة جياد فوزها مضمون ... لو أنها ربحت لجاءت بثروة، فإذا لم تربح كم تكون الخسارة عشرين قرشا؟ ... خمسين؟ ... هل هذا مبلغ يبكي عليه المرء؟
ونظر إلى عبد المجيد متسائلا: ستلعب عليها طبعا؟
وأجاب عبد المجيد: بكل تأكيد ... مع ذلك فإني أعطيك أسماءها، وحينما تربح اذكرني بالخير.
ومضى في طريقه إلى مكتبه، وفي يده ورقة كتب عليها أسماء الجياد الأربعة ... وكم فكر خلال الساعة التي قضاها في مكتبه في تلك الورقة، بل لعله أخرجها أكثر من مرة، وقرأ أسماء الجياد، ولما ذهب إلى النادي سخط على ما قضاه من أيام يلعب النرد، ويجرب حظه في القروش، وأنصاف القروش الوهمية التي كان يراهن بها أصدقاءه في اللعب.
وسأل أحد أصدقائه، وكان من المترددين على سباق الخيل، عن الطريقة التي يراهن بها الناس، وأعطاه صديقه عنوان مكتب للمراهنة، وأوصاه أن يراهن على جياد أخرى إن أراد المراهنة ساخرا من فكرة احتمال فوز أحد الجياد الأربعة التي يحمل أسماءها ...
إنه ليذكر ما داعبه من أحلام تلك الليلة ... لقد حلم أنه عثر على كنز ثمين في صندوق من الذهب، وأنه اشترى لزوجته خديجة ثيابا فاخرة، واشترى قصرا له حديقة غناء، وصحا من نومه، وما زالت في رأسه صورة من الحلم السعيد، صحا مبتهجا، وارتدى ملابسه مسرعا، وهرع إلى دكان عم محمود، كان الرجل قد فتح حانوته، وأخذ يراقب صبيه، وهو ينظف أثاثه، وتلقاه محمود بالترحيب، وسلسلة من التمنيات الطيبة، ودعاه لكي يشاركه في شاي الصباح، ولكنه اعتذر بعمله، ومد يده في جيبه فأخرج الورقة، وتحسس محفظة نقوده فتبين أنه نسيها في البيت، فمد يده بالورقة لعم محمود، وسأل عم محمود في حيرة، وقد أمسك بالورقة: ماذا أفعل بها؟
قال: بخمسين قرشا تدفعها مناصفة، فلقد نسيت حافظة نقودي في البيت.
لقد نسيت حافظة نقودي في البيت .
وقال محمود: لا عليك من نسيان الحافظة، لكني أنا لا أراهن أبدا. - إذن، ادفع خمسين قرشا، وسأعطيها لك بعد الظهر.
وحاول عم محمود أن يثنيه عن عزمه، وأساء هو الظن بهذه المحاولة ... ظنه يضن بهذا القرض الضئيل الذي سيرده إليه بعد ساعات، وسكت محمود على مضض، ووعد بأن ينفذ له ما أراد ...
وجلس في مساء اليوم التالي يتناول العشاء مع خديجة في مطعم أنيق، ويقص عليها ما حدث، وقالت خديجة: أما كان يجدر بك، وقد ربحت مائتين وخمسين جنيها أن تعطي لمحمود هذا جنيهين على الأقل؟ ألم يقرضك ثمن تذكرة الرهان؟!
وأجابها محتدا: هذا رجل معتوه ... لقد كنت حائرا في أمره منذ مدة، أما اليوم فقد أدركت أنه مغفل كبير يرفس النعمة بقدميه، لقد عرفت أن الجياد قد ربحت قبل أن أراه، ومع ذلك فقد سألته إن كان يشاركني في التذكرة فرفض رفضا باتا، وألححت عليه ممنيا إياه بالربح، ولكنه رفض ... رفض المعتوه، وقال في حزم: «ولو قلت لي إنها ربحت ألف جنيه، وسألتني بعد ذلك أن أشاركك في الربح لرفضت أيضا.»
وسكت لحظة، ونظر إلى خديجة مستطردا: إن ما غاظني من هذا المعتوه أنه لم يبد أي اهتمام حتى بعد أن صارحته بأن التذكرة قد ربحت مائتين وخمسين جنيها، بل قال في برود «ربنا يكفيك شرهم.» وحاولت أن أعطيه خمسة جنيهات فرفض، وكأنني أمد يدي بجمرة من النار قائلا: «لا يا أستاذ، أعطني الخمسين قرشا، وغيرها لا أقبل مليما.»
إن الأيام لتمر سريعا ... خمسة أيام مرت كالحلم منذ ربح الرهان، ويأتي يوم السبت ... ويتناول غداءه مسرعا، ودون أن يخلع ثيابه، وتسأله خديجة عن سر عجلته فيجيبها في اقتضاب: حتى لا يفوتني أول شوط، لقد أعطاني عبد المجيد جوادين مضمونين في الشوط الأول ...
ويمضي الشوط الأول ... والثاني ... وتتتابع الأشواط ... أشواط يوم السبت ... والأحد ... أشواط موسم السباق كله ... وينتقل الموسم إلى الإسكندرية فيجري خلف الجياد إلى الإسكندرية ... إن بينه وبينها ثأرا ... إنه يربح مرة، ويخسر مرات ... يقول لنفسه كلما خسر مرة ... «أو نربح مائتين وخمسين جنيها» يا له من جشع! أن نفزع من خسارة قروش، كان يمر بين اليوم واليوم ليحلق ذقنه مرة عند عم محمود، ولكنه لم يجرؤ أن يحدثه بالمرة، كان يجلس واجما ... وكان عم محمود يحلق له في تقزز، وكأنه يقوم بواجب ثقيل ... ثم قل تردده على عم محمود، وأخذ يحلق في صالون آخر ... صالون أنيق لا يحس فيه ما يحس به من ضيق حين تهبط يد عم محمود بالموسى على ذقنه ...
وتعود الجياد إلى القاهرة، ويعود معها همه إلى القاهرة، وتتابع الجري خلف حظه وأمامه، ولكنها لا تجري مع هذا الحظ أبدا، وتقول خديجة ذات يوم، وهي تغالب الدمع: أما آن لك أن تهدأ؟ لقد أعدت للجياد ما ربحته منها ... وأعطيتها هناءنا وراحتنا ... ألا تتركنا هذه الجياد الآن؟
ويسكت، ولا يجيب فتعود خديجة، وقد غلبها الدمع فاختلط نحيبها بصوتها الكسير: سخرت من عم محمود حين دعا الله أن يجنبك شر ما ربحت، ألا ترى أنه كان ينطق بالغيب؟ أتريد أن نبيع متاعنا؟ لم يبق لديك مما ربحت، ولا مما ادخرت شيء ...
وينتفض جسمه لخاطر يمر برأسه، وحينما يمضي في الطريق يحمد الله؛ لأن خديجة لم تعرف بعد ... لم تعرف أنه ارتهن أغلى متاع لديها ... سوارها الذهبي الذي حملته معها من بيت أبيها.
ويتملكه عزم قوي أن يستعيد السوار بأي ثمن ... ويجلس في المساء إلى مائدة الميسر في أحد النوادي الليلية، وقد عقد العزم على أن يستعيد السوار ... ويخرج من ساعات الليل الأخيرة إلى الشوارع الساكنة، وقد امتلأ رأسه بصرخات عاوية في ذل، وكأنه كلب جريح لا يملك غير النباح ... ولا يغمض له جفن حتى الصباح ...
وتبدأ مغامراته الأخيرة ذات يوم ... وتنتهي حينما يتقدم منه رئيسه الطيب القلب باكيا بعد ذلك اليوم بشهور: أنت تفعل ذلك؟ تسرق وتختلس وتزور؟ لماذا فعلت ذلك؟
ويبكي رئيسه الطيب القلب بدمع منهمر، أما هو فلا يجد في مآقيه دمعة، لقد استحالت دموعه قطرات من اللهب تتساقط على قلبه.
ويدوي في أذنيه الساعة ، وهو بين الصخور ، صوت وكيل النيابة، وهو يسرد قائمة اتهامه: اختلس مالا، وزور أوراقا ... وسرق مفتاح الخزانة من رئيسه، واستولى على مبلغ ضخم مما فيها.
كاد يصرخ إذ ذاك قائلا: فعلت ذلك لألعب بهذا المبلغ، وأسترد ما اختلست، وأعيد ما سرقت، وأفك عن سوار زوجتي خديجة المرهون.
كاد يصرخ لولا أن رأى وجه خديجة المحتقن، وقد جحظت عيناها، وأتلفها الحزن ... عند ذلك فقط عدل عن الكلام، وسكت سكوت المقر بذنبه، وتمنى على الله أن يؤمن القضاء بجرمه وألا تنازعه فيه رأفة.
وحينما نطق القاضي بالحكم كان ينظر إلى وجه خديجة، وعيناه غارقتان في الدموع ... فما انتهى القاضي حتى هرعت خديجة إليه باكية، أما هو فقد أدار وجهه، وكأنه أداره عن الحياة، وأدار وجهه عن الحياة فعلا منذ تلك اللحظة.
ولم يعد إلى الحياة إلا اليوم، حين سار في الركب يحدوه رنين السلاسل ... عاد ليبدأها في طريق جديد لن يرى فيه وجه خديجة ... ولن يسمع فيه صوت عم محمود ... ذلك الرجل المعتوه الذي يبتسم للحياة، ويعب منها الراحة كما يعب من نارجيلته أنفاس الدخان.
وعلا صوت الجند بالعودة إلى العمل، وقرقعت السلاسل، وارتفعت المعاول، وهوت الضربات على الصخر، ورن في أذنه صوت الحارس، وهو يزمجر: أنت يا مستجد! أنت نائم؟! هل آتي لأوقظك؟
ودفع معوله في سرعة وخوف ... وأخذ يحطم الصخر ... إلى الشرق.
عنوان الفقيد
لم يكن مجنونا، وإنما كان قد سئم منطق العقلاء، وتصرفات العقلاء. ***
حينما تسير في طريق الصحراء في منتصف الليل، وفي ليلة من ليالي الشتاء فأنت أحد ثلاثة؛ إما عاشق يحمل عشيقته في جوف السيارة، ويبحث عن مكان لا تصل إليه أقدام رجل البوليس، وإما مسافر إلى الإسكندرية يريد أن يدرك عملا في الصباح، وإما مجنون يضرب في الأرض بغير هدف ...
وليس المجانين هم الذين يعملون أعمالا تشذ عن عرف الناس، وإنما هم أيضا هؤلاء الذين يتمتعون بحريتهم كما لا يتمتع الناس.
إنه هو - بلا شك - واحد من هؤلاء، لقد خرج من بيته في الساعة الحادية عشرة بعد نصف ساعة من خروج سعدية ... نصف ساعة قضاها ممسكا بسماعة التليفون يعتذر لأخته عن إخلافه موعده معها، وكانت قد دعته للغداء ظهر ذلك اليوم ... وكان في منزله في الساعة الواحدة ظهرا مرتديا ملابسه يتهيأ للذهاب إلى الموعد حيث ملأت خياشيمه رائحة صنف لذيذ يحبه من الطعام، فجرى نحو المطبخ فوجد الطباخ مشغولا بتذوق هذا الصنف، فسأله لم يعد هذا الصنف، ولمن يعده؟ فأجابه بأنه هو الذي طلبه ... وإذا به يتجه إلى غرفته ويخلع ملابسه ويغمض عينيه لحظة كعادته كلما أراد أن يعدل عن تنفيذ أمر من الأمور، ثم يتجه إلى غرفة المائدة، ويتناول الغداء ... يأكل حتى يشبع فينهض من المائدة لكي يشرب سيجارته على الفراش، وينام حتى السابعة موعده مع سعدية ... كل ذلك دون أن يفكر في أن يعتذر لأخته عن موعد الغداء معتمدا على أنها تعرفه جيدا ... وهي تعرفه بلا شك، إلى الحد الذي يجعلها لا تغضب وتظل تترقب عودة التليفون إلى الحياة لكي تعاتبه، كما عاتبته مئات المرات، وكما سوف تعاتبه دائما.
مجنون ... حتى هي أخته تختم حديثها معه دائما بهذا الوصف الذي يحمل في طياته كل اعتذار عن سخافاته، وما أكثر هذه السخافات!
مجنون ... يهبط في الساعة الحادية عشرة في ليلة من ليالي الشتاء الباردة فيخرج السيارة من «الجراج» وينطلق بها في سرعة، وكأنه كان صادقا حين قال لأخته في التليفون منذ لحظة إنه على موعد هام في الجيزة، ولكنه لا يقف عند الجيزة، وإنما يمضي في شارع الأهرام، ثم ينحرف في طريق الصحراء نحو الإسكندرية، ويوغل في الطريق مسافة بعيدة، ثم يتوقف عند المنعطف المرتفع، وينزل من السيارة، ويقف على حافة المرتفع، ثم يملأ رئتيه بالهواء البارد في ارتياح، وكأنه يعب من نسيم ربيع ضوعته رائحة الزهر ...
وينفث الهواء بعد أن يدفئه كأنه ينفث دخان لفافة من التبغ الجيد في رضاء وغبطة.
مجنون! من رآه على هذه الحالة لأقسم أنه مجنون، ومن سبر أغوار نفسه، وهو في موقفه هذا، وعرف أين تذهب خواطره الساعة، لأدرك أنه مجنون يفترض أغرب الخيالات، ثم لا تلبث خيالاته التي يفرضها أن تخرج حديثا في جوف الليل البارد، حديثا هامسا، وكأنه يحدث أشباحا تنصت للحديث: تجربة بديعة ... لقد نجحت ... ليس الموت كريها كما يزعمون ...
وكأن الأشباح تسأله فهو يجيب: لم لم أذهب إلى القرافة نفسها؟ ... لسبب بسيط هو أني حي فعلا، وربما خفت ... حي بين الأموات، هنا قفر، وهناك قفر وظلام وظلام، وبعد عن الحياة، وبعد عن الحياة ... الفارق الوحيد هو أني حي، فإذا متنا يا نفس، فلن يجد علينا شيء ... لا شك أن التجربة قد نجحت، فلنعد الآن إلى عالم الأحياء.
وينطلق ثانيا بأقصى سرعة تستطيعها السيارة، ينطلق إلى داره، ويندفع إلى غرفة مكتبه ليفتح كتاب مذكراته ويكتب:
الليلة في الساعة الحادية عشرة خرجت من داري، وذهبت إلى مكان ناء في جوف الصحراء يغمره الظلام، وتلتطم فيه ريح الليل الباردة في أشد ليالي الشتاء زمهريرا ... مكان خلا من الحياة حتى أحسست فيه كل ما في العدم من برودة وجفاف، واستنشقت أنفاسا من هوائه لأعرف كيف يكون طعم الموت، فآمنت بأن الموت ليس شيئا كريها كما يزعمون، لو أن الإنسان قد ضمن بين قبور أنداده مثل هذا الهدوء والأمن الذي أحسسته في جوف الصحراء، أكبر كارثة تحدث لنا لو أن الناس يحتفظون ببعض صفاتهم بعد الموت ... إذن لانقلب العدم جحيما ... أقصد دنيا ثانية.
ويغلق المجنون مذكراته وينام.
وليس صحيحا أن تكون تصرفات المجانين دائما عفو الخاطر، ودون مبرر وبلا مناسبة، وليس صحيحا كذلك بالنسبة لصاحبنا أن يوصف بالشذوذ المطلق، إنه شاذ فعلا، ولكن هناك منطقا يربط بين تصرفاته، في تصرفه مع أخته مثلا كان هناك منطق، وفي رحلته الغريبة بالليل كان هناك منطق، ولنصطلح على تسمية منطقه هذا بمنطق المجانين، كما يسميه هو نفسه، كلما ألح عليه إنسان بالعتاب، إنه يقول دائما ... «سئمت منطق العقلاء ... وأنا الآن مرتاح جدا لمنطقي الجديد، منطق المجانين.»
ولنعد إلى حوادث يومه لنرى خلالها منطقه العجيب، إن أخته مثلا تدعوه للغداء مرتين تقريبا كل أسبوع ، وفي كل مرة تدعوه تنسى أنها دعت شقيقها وحده، فتعد طعاما يكفي عشرة وحوش مفترسة، قد جاعت أسبوعا كاملا، وآية البر بالأخ عندها أن يأكل الأخ كما تأكل عشرة وحوش مفترسة؛ لأنه مسكين يعيش وحده، ويسيء الطباخ تغذيته، وحجتها الدائمة أن الطعام لا يضر أحدا حتى زوجها ... زوجها البدين الذي يأكل، وكأن له في كل شريان معدة قائمة بذاتها تهضم الطعام، وكرش احتياطي للاحتفاظ بما يزيد على الحاجة، إن زوج أخته هذا لم يشك مرضا طوال حياته إلا مرض ضيق الملابس الذي يعتريه كل شهر تقريبا.
في هذا اليوم بالذات كان هو يشكو ألم الأمعاء الذي يعاوده بين الحين والآخر، ومع ذلك فقد تناسى آلامه حين ملأت خياشيمه رائحة طبق الخرشوف ذي الصلصة البيضاء، الخرشوف الذي أوصاه طبيبه بأن يأكله، فكان أول طبيب يصف طعاما يحبه المريض؛ ولذلك آثر السلامة وفر من المعركة، معركة الطعام عند أخته التي تخسر فيها معدته دائما بعد أن ترغم على احتمال كل الجولات، ولم يتكلم بالتليفون؛ لأنه يؤمن إيمانا تاما تؤيده شواهد الماضي أنه أضعف من أن يقاوم توسلات أخته، وكم من مرة هزمت إرادته أمام هذه التوسلات، ولقد رفع سماعة التليفون طوال الساعات الثلاث التي قضتها سعدية معه؛ لأنه كان يعرف غرام سعدية بتفتيش جيوبه والعبث بأوراقه وكثرة استلطافها لحاجاته الخاصة، ولم يكن هناك فرصة لتعبث بحجرته أكثر من تلك التي تسنح لو أنه نهض إلى غرفة مكتبه ليرد على التليفون، وثرثر مع أخته كعادتهما ... تلك الثرثرة التي تطول أحيانا أكثر من نصف ساعة، وبقي بعد ذلك أن جرس التليفون يحلو له دائما أن يزعجه خلال جلساته الخاصة؛ ولذلك كان يؤثر دائما كلما زاره صديق أو صديقة أن يرفع سماعة التليفون.
أما رحلة المساء فقد بدأت قصتها في صباح ذلك اليوم نفسه حين فتح صحيفة الصباح فصدمه نعي صديقه «م» ... ذلك الشاب المرح الفياض بالحياة والبهجة، والذي كانت حياته أبعد ما تكون عن السكون والموت؛ إن «م» لم يمرض، ولم يشك ... كان معه بالأمس إلى الساعة الثامنة مساء، وغادره ليذهب للقاء بعض أصدقائه، ولمشاهدة إحدى روايات السينما ... وحينما أمسك بالتليفون ليستفسر عما حدث أجابته زوجته الغارقة في المصاب، بأنه ذهب إلى السينما بعد أن تعشى، ولكنه أحس بألم فنقلوه من السينما، وصعدت روحه إلى الله في حين كان جسده يهبط درج السلم ... تعشى كالأحياء، وتخلت معدته عن عملية الهضم لدود القبر، ما أفظع ذلك!
ولعل ذلك كان سببا لا يدريه هو في أن يؤثر طبق الخرشوف المسلوق على أطباق أخته الدسمة ... ليست السينما أمرا ضروريا لكي يموت الإنسان إثر أكلة.
ومع ذلك فقد حزن على «م» وجره الحزن عليه إلى تخيل الموت لا حقيقة واقعة فحسب، وإنما حقيقة سهلة ... وإذا كان الناس لا ينتقلون من دار إلى دار في الحياة الدنيا، دون أن يعاينوا الدار الجديدة، ويتبينوا ما سوف يحسونه بين جدرانها من راحة وأمن، فمن العقل والمنطق أن يعاين هو الدار التي سيسكنها بعد عمر، من الصعب الحكم على مدى طوله بعد اختراع السكتة القلبية، المرض الذي لا يحمل أي مخترع من مخترعات جيلنا السعيد طابع السرعة مثله.
إنه ليس خيرا من «م» وفرص الأكلات الدسمة أمامه أوسع؛ لذلك تخيل أنه تغدى عند أخته ... ثم شرب بضع كئوس مع سعدية، ثم وافته المنية فانتقل في تلك الليلة الباردة إلى الدار الآخرة، فذهب إلى ما يشبه الدار الآخرة ... الصحراء في جوف الليل البارد، والهواء يعصف، والكائنات رمل وحصى، وأشباح تصنعها دوامات الهواء، والأصوات همهمة أرواح عابرة في الجو، هل تكون الدار التي ستضم جسده غير هذه؟
وعاد مطمئن النفس قرير العين، وخط بيده في مذكراته إقرارا بأنه لا يخشى الموت، ونام ملء جفنه يحلم بالحياة، واستيقظ في الصباح ليعاود سخافاته من جديد ...
ولكن سخافة هذا اليوم فاقت في غرابتها كل ما صنع منذ سنين ... حتى لتقرب أن تكون تصرف عقلاء ...
فاجأه جرس التليفون، وهو يزدرد طعام إفطاره المتواضع كسرات الخبز المحمص في كوب اللبن، وفنجان القهوة الكبير.
ورفع السماعة، وسمع صوت سعدية تسأله ما سوف يفعل في يومه، وفي صوتها مظهر الاضطراب والاهتمام ... ومنذ بضعة شهور عرف سعدية، وعرف معها حاجتها الدائمة إلى المال، ووسائلها الطريفة للحصول عليه ... وليس الشوق الذي يدفعها لمحادثته في الصباح الباكر، ولن ينقذه من يومه إلا الاعتذار بالغياب عن البيت والقاهرة بأكملها إن استطاع.
وأجاب سعدية على الفور أنه مسافر بعد ساعة ... وقالت سعدية: إلى أين؟
وأوشك أن يقول متأثرا بالليلة الماضية: إلى الدار الآخرة، لولا أن قالت سعدية مستدركة: رايح العزبة؟
وأحس بالخطر الذي توقعه ... وترجمت خواطره العزبة إلى المزروعات، والمزروعات إلى إيجار والإيجار إلى مال ... وأخيرا وصل إلى سعدية ... وقال دون أن يدرك ما يقول: لا أبدا، عمي توفى بالإسكندرية، وسأسافر اليوم وقد أمكث بضعة أيام.
وكانت أمامه صحيفة الصباح فقلبها بسرعة، ووضع عينيه على صفحة الوفيات ليتخير عمه من بين الراحلين ... ولحسن الحظ وجد وجيها إسكندرانيا بين الموتى ... وتحفز لجواب السؤال القادم ... ستسأل هي: «مكتوب في الجرنال؟» فيجيبها بسرعة، ويتأثر ... «أي نعم في رأس العمود الثاني» ... ثم تقول: «ولكن اسمك غير موجود»، فيقول بنفس التأثر: «كان بين أبي وبين عمي خلاف، وقد محا الموت أسباب العداوة.»
ولم تسأل سعدية، وإنما عزته في رقة، وأغلقت التليفون لتعطيه الفرصة للبكاء ... وازدرد هو بقية طعامه، واحتسى فنجان القهوة، وارتدى ملابسه بسرعة، وطوى إحدى بيجاماته وفوطة وجه وآلة الحلاقة، ووضعها في حقيبته الصغيرة، ونادى خادمه لكي ينبئه بأنه سيسافر، ويعود بعد يوم أو يومين.
وكان الخادم كسعدية يؤثر معرفة الأسرار بيده لا بلسانه، فلم يسأله إلى أين؟ وإنما اكتفى بأن يتمنى له سلامة السفر والعودة في صوت عال، في حين تمنى على الله، في صوت منخفض، أن تطول الرحلة ... إن بيوت العزاب أخصب عش غرام للخدم المتزوجين.
وحمل الحقيبة، ومضى يضرب في الطريق، وسأل نفسه إلى أين؟ وقال عقله، عقل المجنون: تذهب إلى الإسكندرية لتقدم واجب العزاء في عمنا الحنون، إني أحب الصدق كما تعلم.
وقال لعقله: وكما تعلم أنت ليس لنا عم مات بالإسكندرية. - فلم لا يكون نصف الصدق ... نذهب إلى الإسكندرية، أليس جميلا أن نرى الإسكندرية في الشتاء!
ووجد نفسه في المحطة وأمام شباك التذاكر ويده ممدودة بالنقود، ساهما كأنه لا يعرف أين يذهب، وصاح عامل التذاكر: أفندم!
وأجابه طالبا تذكرة الإسكندرية، وصاح العامل مرة ثانية: أولى أو ثانية؟
وفتح فمه ليجيب لكنه لمح ساعدا أبيض، كأنه ذراع تمثال من المرمر يمتد أمام عينيه، ويناول العامل ورقتين من فئة الجنيه قائلا: تذكرة أولى لإسكندرية من فضلك!
وأجاب عندئذ: وأنا كمان ... تذكرة أولى لإسكندرية.
وصب وجهه من الساعد إلى الكتف ليرى الوجه والعينين ... عينين ترمقانه في غضب لطريقته في طلب تذكرة السفر، ونظرته الجريئة، وضحكته البلهاء، وكانت ضحكته البلهاء إحدى سخافاته أيضا ... يطلقها دائما في وجه كل امرأة ينظر إليها ... ليست ابتسامة الذي يرى شيئا لطيفا، ولكنها ضحكة الذي يرى شيئا يثير الضحك.
وانسحبت صاحبة اليد مسرعة، وتكاسل هو برهة، أحصى خلالها باقي النقود الذي رده إليه عامل التذاكر ... وسار بجوار القطار وأخذ ينظر من نوافذه ليرى أين تجلس؟ فأعياه البحث، وأخيرا وجد مقصورة خالية فأسرع إليها، وجلس يطالع صحيفة الصباح، ولفت نظره من جديد نعي ذلك الشخص الذي قرر أن يصطنعه عما لينقذ نفسه من سعدية ... وقرأ النعي بتأن وعناية فعرف أن لهذا العم الذي مات أقارب منهم أطباء ومحامون ... ومنهم أيضا أحد زملائه في الكلية وأصدقائه بعد التخرج، صديق كل الفرق بينه وبينه أنه هو آثر أن يشتغل بالقراءة حتى لا يزيد ثروته ... في حين اشتغل هذا الصديق بالمحاماة ... لسوف تكون مجاملة لذيذة حينما يذهب إلى مأتم عمه ... فيعزي الصديق.
وكان يوشك أن يقرأ عنوان البيت حيث يقام السرادق، حين صدمته قدم تفسح لنفسها الطريق ... ورفع رأسه ورآها تجلس في المقعد المقابل دون أن تنظر إليه، بل لعلها نظرت إليه وعرفته، ولهذا اتخذت هذا التصرف الجاف ...
وجلست وفتحت كتابا وأخذت تتصفحه دون أن تتغير ملامح وجهها الجافة ... وقال متحديا ومتصنعا الجد: عندما يصدم الناس المهذبون أقدام غيرهم يعتذرون ... خصوصا إذا كان المصدومة قدمه مثلي ... غارقا في الصدمات.
وتصنع التأثر ... ولم ترفع رأسها عن الكتاب ... ومرت فترة قال بعدها: صدمتان في اليوم الواحد، هذا لا يحتمل ...
ورفعت رأسها ببطء، وقالت ووجهها محتفظ بتجهمه: لا تعني بالطبع وقفتك السخيفة في شباك التذاكر، لقد مددت يدي بلطف.
وقال على الفور: بلطف ورشاقة ... لا يمكن أن تعد هذه صدمة ... لا أعني ذلك مطلقا ... قد أكون وقفت بسخافة كما تقولين ... لكن لو عرفت أي تعس أنا منذ هذا الصباح لالتمست لي العذر ... تصوري إنسانا يفقد عمه الحبيب في غمضة عين.
ورفعت رأسها، وقد عرتها الدهشة: أنت أيضا؟ مات لك عم اليوم؟ - أجل ... وفي الإسكندرية تصوري عمي الذي رباني بعد أبي ... أبر إنسان بي في هذا الوجود ... يموت دون أن أراه، كان في أحسن صحة ... حتى أول أمس كان يحدثني بالتليفون ثم ... اقرئي ... لا أكاد أصدق عيني ... دعيني أسمع لربما صدقت.
وتناولت الصحيفة من يده حيث يشير ... ورأت النعي فرفعت رأسها إلى وجهه، وقد مرت بشفتيها حركة عصبية. - ألتمس منك خدمة ... اقرئي لي الخبر ... النعي فقط، هل صحيح أنه مات ...
وتناولت الصحيفة وقالت في أسى: معذرة إذا أصبت بالجنون ... لكن البقية في حياتك ... هذا هو حال الدنيا.
وتريد أن تعود إلى كتابها لولا أن يستمر هو في الحديث، ويتحدث عن عمه الحبيب، ويمضي في الذكريات، وكأنه يقرأ في كتاب ... يسعفه خياله بصور عشرات الحوادث، حوادث البر والإشفاق والحنان التي لم تحدث له فينسبها لعمه ... وتستمع هي لهذا الحديث، وتفهم منه أنه فلان ... المحامي الذي ورد اسمه في النعي قبل كل الأسماء ... أحب أبناء الأخ إلى المتوفى ... ويقف الحديث الحزين، وتبدأ أحاديث أخرى تبدأ من عنوان الكتاب الذي تقرؤه هي، ويتشعب نحو عشرات الكتب والكتاب ... وينسى هو عمه الميت، وتنسى هي أن له عما قد مات، ويتضاحكان أكثر من مرة، ويمضي الوقت سريعا، ويصل القطار إلى الإسكندرية، وينزلان سويا حتى باب الخروج، ويقول وقد عاود الظهور بمظهر من فقد عمه منذ ساعات: إلى أين تذهبين ... ربما أستطيع توصيلك؟
وتقول له عنوانا، ولكنها تعتذر له عن ظروفه قائلة في إغراء: لكنك ربما لا تسلك نفس الطريق ... ثم إنك مضطر للذهاب لمنزل عمك ...
ويقاطعها ملحا، وفي إصرار: إنك في نفس طريقي تفضلي ...
وينادي سيارة وتركب هي أولا ... ويلحظ أن متاعها كمتاعه سواء بسواء مجرد حقيبة صغيرة، فيحاول أن يحملها، ولكنها تقول متضاحكة: إنك تحمل هموما فضلا عن حقيبتك.
وتسير السيارة بعد أن تلقي بالعنوان للسائق، وتميل السيارة يمينا ويسارا، وتنحرف إلى شارع ضيق، وتقف فجأة، ولا يحاول هو أن ينظر إلى ما حواليه، وإنما ينظر إلى وجهها الضاحك في بلاهة كوجهه تماما ... هل نسيت أنه حزين، وتجمع حقيبتها ومجلاتها، ويحاول أن يسبقها للنزول فترده قائلة: لا ... ربما رآك أحد.
وتمد يدها لتصافحه في حين تهبط من السيارة قائلة: ربما رآك أولاد عمك ... إنه كما ترى، منزل عمك رحمه الله، إنه عمي أيضا.
وتهرول نحو الباب، ويحملق هو فيرى حركة في الشارع، وسرادقا ينصب، ويرى أقدامها تخطر صاعدة السلم حتى تختفي، وتبدو غيرها هابطة.
ويتنبه هو فيفتح الصحيفة، ويقرأ مرة أخرى نعي العم الحبيب حتى يصل إلى العنوان ... ويتبين كيف فاته أن يعرف أين مات عمه، ومن أين يشيع جثمانه العزيز ... ولو أنه قرأ لاختار عما آخر ...
في طريقه إلى القاهرة لا يكاد يصل إلى طنطا حتى يهبط من القطار مسرعا إلى مكتب التلغراف ليبعث ببرقية لصديقه ابن العم العزيز ... ابن العم الحقيقي يعزيه في مصابه ببرقية يبدؤها قائلا: «أعزيكم ...» ثم يخطر له تعبير أدق فيمزق البرقية الأولى، ويبدأ الثانية هكذا: «أعزيكم والأسرة فردا فردا ...» ويستمر في الكتابة حتى يملأ صفحة البرقية بعبارات الرحمة والعزاء، وعندما يصعد إلى القطار مرة ثانية يقول لعقله المجنون: أظننا قد عزينا فأحسنا العزاء ... كانت هذه رغبتك ... هل آمنت الآن بأن منطقك هو منطق المجانين.
ويرتمي عقله في إعياء.
ويقرأ هو من جديد خبر النعي في رأس العمود الثاني من صحيفة الصباح، ويقف بصره لحظة عند عنوان الفقيد ...
الجواد الذي خسر
كان في الميدان كالجواد العجوز لم يكد يسير خطوات ... حتى لهث ... ***
المقدمة القصيرة التي تسبق هذه القصة هي أنه كان صديقا للسيدة أفكار منذ خمسة عشر عاما ... وقد نشأت صداقتهما في وقت كانت فيه أفكار غانية حسناء، يتهافت على جمالها عشرات الشبان الأغنياء والصعاليك على حد سواء.
وكان أحسن ما تميزت به أفكار هو قدرتها العجيبة على الاحتفاظ بالمعجبين بها وترتيبهم حسب أهميتهم بحيث لا يحس واحد منهم أن هناك سواه في أفق حياتها ... هذا فيما يختص بالأغنياء.
أما الصعاليك فكانت أفكار حريصة عليهم أيضا ... حريصة على أن تبقى ما بينها وبينهم من مودة مع تعديل بسيط كانت تجريه بنفسها.
كان كل منهم يبدأ عاشقا متيما مشبوب العواطف، وينتهي صديقا هادئا ... صديقا فخورا بأنه موضع سر أفكار ومستشارها الأمين.
وكانت أفكار تبتكر المشاكل والمتاعب ... المشاكل والمتاعب الوهمية لكل من هؤلاء الأصدقاء ... فإذا ما اختلت بواحد منهم فتحت له صدرها وقلبها، وأخذت تبسط له مشاكلها ومتاعبها طالبة إليه النصح والرأي؛ لأنه - أي واحد منهم - موضع سرها، وليس لها غيره تسأله الرأي.
وكان هو أحد هؤلاء ... الصعاليك ...
حينما عرفها كان طالبا بالسنة النهائية بكلية التجارة، ولم يكن وحده، بل كانوا ثلاثة وقعوا في هواها دفعة واحدة وفي يوم واحد، أحدهم شاعر، والثاني رسام، وهو ثالثهم ... وكانت الليلة عيد ميلاد أفكار، وقد دعاهم صديق من زملاء الدراسة الأغنياء ... كان يقوم بدور الممول في حياة أفكار إذ ذاك.
وقدمهم هذا الصديق إليها ... قدم إليها الشاعر قائلا، وهو يضحك: هاك واحدا أقدر مني على وصف جمالك ... ثم قدم إليها الرسام قائلا: إذا أردت صورة تنكرية، فعليك أن تجلسي أمامه بضع ساعات، ثم قدمه هو باسمه مجردا ...
ونظرت إلى الشاعر، وقالت: أيمكن أن يكون في الحياة أجمل من قصيدة رائعة، إنني أعبد الشعر، ثم عطفت على الرسام، وقالت: كانت أمنية حياتي أن أصبح رسامة.
ثم نظرت إليه هو في حنان، وقالت: لا أدري ... ولكن في وجهك شيء أعرفه ... إنك لست غريبا عني.
وانتهت حفلة عيد الميلاد، وخرجوا ثلاثتهم، وساروا على النيل ساعة ونصف ساعة حتى ظهرت خيوط الفجر.
وكان حديث الثلاثة ... عن أفكار.
ولم يمض أسبوع حتى كان الشاعر قد نظم فيها أكثر من قصيدة، وحتى كان الرسام قد بدأ يرسمها ... وحتى كان هو قد ادخر ثمن صندوق فاخر من الحلوى قدمه إليها ...
وما زال الشاعر صديقا لها حتى اليوم، ينظم في كل عيد من أعياد ميلادها قصيدة ... والرسام ... على كل جدار من جدران دارها تجد أثرا من آثاره، وإن كان هو قد هجر مصر، وأقام في أوروبا.
أما هو فما كان يمر شهر إلا ويزورها ليشرب بصحبتها فنجانا من القهوة، ويثرثر معها في شتى الموضوعات ... حتى كثرت شواغله وزادت أعماله فأصبح يراها بين الحين والحين، والصداقة باقية.
هذه هي المقدمة القصيرة للقصة ... وهي قصيرة في حساب الصفحات طويلة في حساب الزمان.
لقد سلخت هذه المقدمة خمسة عشر عاما ... إن لكل مقدمة حواشي وهوامش ... الهامش الوحيد الذي يهم في قصته هو أنه كان لأفكار ابنة ولدتها قبل أن يعرفها هو وأصدقاؤها وعشاقها جميعا، ولم تظهر إلا منذ سنوات قليلة، عندما استقرت أفكار في الفيلا الأنيقة التي بنتها على شاطئ النيل.
وهو يذكر أول مرة رأى فيها ابنة أفكار، كان يزورها كعادته فإذا بها تنادي سامية ... ودخلت سامية صبية في العاشرة أو الثانية عشرة على أكثر تقدير ... دخلت فحيته في حياء، ولم يكن بحاجة ليعرف أنها قريبة لأفكار؛ فقد كانت في وجهها صورة من أفكار يتدفق منها جمال الطفولة المتأخرة، ولكنه فوجئ حين قالت أفكار. - سامية! ... بنتي ... لعلك لم ترها من قبل ... وعرف أنها ابنتها، وليست قريبتها فحسب ... وعرف أيضا أنها كانت عند أبيها طوال طفولتها، ولكنه لم يعرف لم جاءت لتقيم مع أمها، وقد كان المعقول أن تقضي طفولتها مع أمها، ثم تذهب لأبيها حينما تكبر.
لقد رأى سامية بعد ذلك مرارا، ولكنه ما أعارها من التفاته أكثر مما يعير طفلة أو حيوانا صغيرا إلينا في المنزل ...
إن سامية هي الهامش الوحيد الذي يقفز من مقدمة القصة ليتوسط المنظر الأول فيها ... ولولا أنه يحتفظ لنفسه بالدور الأول لكانت البطلة .
ولندخل توا في القصة، ولنجلس معه هو وسامية في شرفة الفيلا ... عصر أحد الأيام من شهر مايو عام 1949 ...
ولنسأله لم جاء اليوم ... ولم يجلس مع سامية، وأين أفكار؟ إنه يقول: ما دار بخلدي قط أن آتي إلى دار أفكار اليوم، ولكن سامية هي التي دعتني.
وهو يحس بتشككنا في صدق كلامه، فيقول: أجل ... سامية هي التي دعتني، لقد سافرت أفكار إلى لبنان مع زوجها الجديد منذ أيام، وكنت قد لقيتها هي وسامية في أحد المتاجر قبل سفرها بأيام فأوصتني بسامية، وطلبت إلي أن أزورها لأطمئن على أحوالها.
ولم أحاول أن أتصل بها، أو أسأل عن صحتها، حتى كان ضحى اليوم، وكنت جالسا إلى مكتبي، ودق جرس التليفون ... آخر مخلوق كنت أتوقع صوته هو سامية ... بل إني لم أعرف أولا صوت المتكلم، وكانت هي تعاتبني لأني نسيت وعدى لأمها.
فقلت لها: سآتي اليوم ... لم أقل شيئا ... هي التي قالت ... قالت إنها تريدني لأمر هام، وسألتني ماذا أفعل اليوم، فقلت: لا شيء، فطلبت مني أن أزورها إن أمكنني بعد الظهر ... وما المانع؟ فتاة في سن الثامنة عشرة لو أني تروجت لأنجبت مثلها.
ومررت على «جروبي» فاشتريت قليلا من الحلوى، وجئت لأزورها، وها أنا ذا أجلس إليها، كما يجلس الأب إلى ابنته.
ذلك صحيح ...
كان فعلا يجلس إليها كما يجلس الأب إلى ابنته ... وكان ينظر إليها ولنطاوعه الآن ... نظرات أب شفيق إلى ابنة رائعة الصبا ... بل لعله أحس بالأسى لأنه لم يتزوج في سن مبكرة، لتكون له ابنة مثل سامية بهاء ونضارة.
وقد يكون لمس يديها أكثر من مرة، وقد يكون ربت على خدها أكثر من مرة، ولكنه مع ذلك، كما يقول: لم يحس بها غير فتاة في سن ابنته، حتى نهض لينصرف.
وكان الليل قد بدأ يرخي سدوله في رفق ... وكانت أضواء الشارع تعكس ظلا باهتا على الشرفة، ولم تكن سامية قد أضاءت النور.
وقالت سامية: أتنصرف إلى موعد؟
وأجاب: أبدا، سأتسكع حتى يحين موعد السينما. - أي سينما تقصد ؟ - لا أعرف بعد .
ومرت فترة، وقالت سامية:هل تصحبني في نزهة قصيرة؟ ... إني لا أجرؤ على الخروج وحدي.
ووجد نفسه معها يوغلان بالسيارة في طريق الصحراء.
وبدت أنوار المطار - مطار القاهرة - من بعيد ... وكانت سامية تثرثر في شتى الموضوعات، وكان هو ينصت وقد وضع يده ... عفوا حول كتفها.
ولندعه يمضى في طريقه ... لو سألناه شيئا الآن لأنكر، ومن حقه أن ينكر، فالقصة ما زالت غامضة الخطوط ... غموض أفكاره السابحة في شتى الخواطر القلقة.
لندعه حتى يصل إلى المقهي المنعزل، وحتى يجلس هو وسامية في أحد أركانه يحتسيان عصير الفاكهة، بل لندعه حتى ينهضا ويعودا إلى السيارة، ويقفلا راجعين.
عادت يده تلتف حول كتفيها ... وعادت هي إلى الثرثرة، وفجأة تسأله ... ولنلاحظ أن يده ما زالت تحنو على كتفيها، كأب شفوق: كيف كنت تراني قبل اليوم؟
ويجيبها في بساطة: كما أراك اليوم، زهرة ناضرة جديرة بالإعجاب.
وتعود إلى السؤال: الإعجاب فقط؟ ... ألا أثير شيئا غير الإعجاب؟ - هل هناك أكثر من الإعجاب؟ - الحب مثلا؟
وفي سرعة تنسحب يده من حول كتفيها، ويعتدل في جلسته، كأنما رأى خطرا في طريق السيارة، ثم يجيب: قطعا تثيرين الحب ... لكن عند من في مثل سنك شبابا ونضارة، وتسأله وهي تضحك: لماذا سحبت يدك هكذا؟
ولا يجيب ... ولكنه يعيد يده في تراخ، وتقترب هي قليلا، ويحس جسدها دافئا إلى جواره.
ولننصفه، فنقول إنه حاول أن يتزحزح قليلا ليجعل بينها وبينه فراغا، ولننصفه مرة ثانية فقد وقف موقفا مشرفا حين هبطت من السيارة، وقالت: متى سأراك؟
إنه أجابها في حزم كما يقول: أنت تعلمين أن شواغلي كثيرة ... إذا احتجت لشيء فاتصلي بي بالتليفون، ولسوف أطمئن عليك من حين إلى حين، ولكنها لا تدعه يمضي حتى تطلب إليه أمرا. - ألا تقبلني قبلة المساء؟
وتستطرد ضاحكة: ألا تقبل ابنتك؟
ويطبع قبلة مرتعشة على جبينها ... ثم يطلق العنان لسيارته، ولو سألناه الآن فيم يفكر لأنكر ... أنكر أنه كان يفكر في سامية، ولن نستطيع أن نصل إلى أفكاره ... إنه سيزعم أنه لا يفكر فيها ... هذه الطفلة ، ولكن شفتيه مع ذلك تهمسان ... وهو وحيد في السيارة: هذه الطفلة ماذا تريد؟ آه لو سألناه الآن ماذا يعني؟ إنه لن يستطيع الجواب ... وإذا أجاب فهو يقول: وماذا أعني؟ لا شيء طبعا، لا أعرف ماذا أعني ... إنني أسأل ماذا تعني هي ... هذه الطفلة ...
هل ...؟
ولكنه لا يتم السؤال، بل يصيح في غضب: هذا سخف ... سخف ... معقول أن أغازل أمها ... أما هي، بنت الثامنة عشرة، فطفلة ...
ويدرك شيئا فيستدرك: لكن ما هي الثامنة عشرة بالضبط، وما هي الأربعون التي أحملها، ويكون قد وصل إلى داره، وفي رأسه عشرات الخواطر التي لا يستطيع أن ينكرها، وإن استنكرها.
استنكرها، كما استنكر في الصباح تصرفه الأحمق حين طلبها بالتليفون ليسألها عن صحتها، وليطمئن عليها، وكانت النتيجة ...
كانت النتيجة أن واعدها على اللقاء في المساء ...
ومع ذلك، مع أنه هو الذي طلبها بالتليفون، فهو ينكر أنه سعى إلى موعد معها، ينكره مقسما أغلظ الأيمان ... - أقسم: ما فكرت في موعد، ولا كان في بالي أن ألقاها، لكنها هي ... هي التي أخرجتني ... سألتها عن صحتها فإذا بها تجيبني: كل شيء على ما يرام ... لم يضايقني إلا أنك تركتني مبكرا، وإلا خوفي من ألا أراك قريبا.
وأجبت كالأبله: ولم لا؟
فإذا بها تقول ... متى أراك؟ ... اليوم؟ ... غدا؟ ... وأجبت بالجواب الطبيعي: كما تريدين. - اليوم ... هل تأخذني للسينما ... أو إلى ذلك الركن الهادئ الجميل؟
ألم أقل إني كنت أبله!
أقسم أني ما فكرت في لقائها ... ولا حتى في طلبها بالتليفون ... لكن الذي حصل ... الذي حصل ... ويسكت ...
يسكت لأنه لا يعرف تفسيرا لما حصل ... التفسير الوحيد هو أنه زارها بعدئذ ثلاث مرات ...
وفي كل مرة خطت العلاقة بين الأب والبنت التي في سن ابنته خطوة إلى الأمام.
في المرة الأولى قال لها في أثناء حديثه معها إنني أحس بسعادة حين أكون معك.
وأجابته وهي تضحك: سعادة الأب حين يحتضن ابنته!
وفي المرة الثانية لم يقل لها شيئا، ولكنها هي التي قالت له في ضيق: لماذا تصر على خداع نفسك حتى الآن ؟ ألا ترى أن مسألة الأبوة هذه أصبحت مضحكة؟ أنت لا تفعل هذا مثلا مع ابنتك ... وهذا الذي أشارت إليه هو قبلة آثمة طبعها على خدها الأيمن، وهو يراقصها على نغمات لحن حالم ...
إنه لم يرد عليها، ولكنه ضمها بشدة إلى صدره، وكان صمته تسليما بأنه تخلى إلى الأبد عن لقب أب.
أما في المرة الثالثة فقد بدا صراحة في ثياب العاشق، وفي حديث العاشق ... في هذه المرة لم يكن ثمة إنكار، ولا استنكار ولا تمنع، بل كان هناك تمنع كذلك الذي يبذله الطفيلي إذا دعوته على الغداء، وإذا كان هو متهافتا على دعوتك، تمنع خير منه قبول الدعوة في امتنان، لقد قالت له: هل فكرت يوما في أننا سنصبح هكذا؟
وأجابها حائرا: صراحة لم أفكر من قبل ... ولكنني أفكر الآن، وأفكر جديا ... - وما رأيك ... هل أنت سعيد؟ - أنا ... أنا طبعا سعيد، لكن أنت؟
وقاطعته: أو لم تدرك بعد أني سعيدة؟! - بلى ولكن ...
وقاطعته مرة ثانية: أو لم تدرك شيئا آخر ... أو لم تدرك أني أحب؟!
وقاطعها هو هذه المرة، وإنه ليفخر بأنه قاطعها قائلا: هذا هو الموضوع يا سامية ... لقد أدركت منذ أيام أني أحبك، ولم يكن هذا مهما، وأرجو ألا تعيريه التفاتا ... أما المهم حقا فهو أنني أدركت أنك تحبينني ... وهذا ما يقلقني. - يقلقك ... لماذا؟ - سامية ... كم عمرك الآن؟ - عشرون عاما. - أتعرفين كم عمري أنا؟ خمسة وأربعون عاما ... أكبر من والدتك وربما في سن أبيك. - هل تعود ثانية لقصة الأبوة؟
وأجابها (وهذا ما أسماه تمنعا): أبدا يا سامية، ولكني أريد فقط أن تري كل شيء في وضوح ... أنت في حدود العشرين، وأنا في الخامسة والأربعين ... هل يسعدك مثل هذا الحب ... أتعرفين ماذا تعني الخامسة والأربعون؟ - ماذا تعني؟
تعني أني ... بالنسبة لك صفقة خاسرة ... أنت الآن في نضارة صباك ... أنت تنهبين ظهر الأرض وثبا وعدوا ... وأنا الآن أخطو في حذر، لا أقول إني عاجز عن السير، لكنني لا أستطيع العدو، ماذا تفعلين بي لو أني لهثت في الطريق؟
وقالت ضاحكة : ومن قال لك إني سأعدو؟ سأطير في مثل خطواتك ... إني أوثر السير البطيء من الآن ...
وصمت فترة، ثم قال: سامية ... سأكسب أنا كل شيء: صبا ونضارة وشبابا ... ولن تكسبي أنت شيئا ... مجرد رجل على أبواب الكهولة. - سأكسب رجلا كامل الرجولة.
وكان هذا غاية تمنعه ... رضي غروره بهذا الوصف الرائع ... رجل كامل الرجولة ...
ولنتركه الآن يقص بقية قصته ... إننا الآن بعد ذلك اليوم بعام ... لقد هدأ كل شيء، ونزل الستار ... هدأت أعصابه، وخفت حدة طبعه، إنه يروي الآن بقية القصة كأنه فيها طرف ثالث لا يعنيه الأمر. - أجل، لقد أرضاني هذا الوصف ... إنه ليس جديدا ... ما الذي يمنع أن تكون سامية التي نضج جسمها مبكرا قد نضجت أيضا عقليا بنفس النسبة ... ... ما الذي يمنع أن يكون عقلها قد أفرط في النضوج.
ولم لا؟ أليست تتحدث إلي بأسلوب امرأة ناضجة؟
كل الفرق بيننا هو شعراتي البيض ... ومع ذلك فهي تحب الشعر الأبيض، لقد وجدت في الأيام التي تلت ذلك اليوم مصداق ما قالته لي، فقد أفاضت علي من حبها، ماذا أقول؟ ... ما دفع في جسدي دماء الشباب، وجدتني إرضاء لها أحيا حياة شاب في مقتبل العمر ... أرتاد دور السينما، وأشغف بأناقة ملابسي، وأعنى بمظهري، وأتلقى دروسا في الرقصات الجديدة، وأحسست بميلها للرياضة، ففاجأتها ذات يوم بتذكرتي العضوية في ناديين من أهم أندية القاهرة الرياضية.
وما كان أسعد ذلك اليوم الذي وقفت فيه أبادلها الكرة على ملعب التنس، خيل إلي أني شاب، وأن الشباب ليس سوى قوة إرادة وعزيمة ...
وانصرفت سامية إلى الرياضة، وأحبتها حتى إنها كانت تقضي أغلب أوقاتها في النادي تلعب التنس معي طورا، ومع صديقنا الشاب المهذب حمدي، وكان حمدي مهذبا فعلا ... ورياضيا فعلا، وكان أحد ثلاثة يعلق عليهم النادي الرياضي أمله في الفوز ببطولة هامة، وكأس تذكارية.
ولم تكن سامية أقل تحمسا مني لحمدي الذي ما قصر في تدريبنا على اللعب، وتصويب أخطائنا حتى كنا، أنا وهي، نرقب يوم المباراة التي سيلعب فيها لبطولة النادي ...
في يوم المباراة ذهبنا نحن الاثنين ... وكانت سامية ترتدي ثوبا ورديا أراه لأول مرة، وتضع فوق رأسها قبعة أنيقة حليت بدبوس من الذهب على شكل مضرب الكرة ...
وجلسنا نرقب المباراة في حماسة ... ولعب حمدي لعبا يفوق حد الوصف من البراعة والإتقان حتى أحرز بمفرده انتصارات كفلت للنادي الفوز بالبطولة ونيل الكأس.
وانتهت المباراة، وهبطنا من الدرج لنحيي حمدي، ونصافحه ... وما كان أحر تهنئة سامية له حتى صنعت مثلي ... قبلته في خديه ... واقترحت ... أنا ... أن نحتفل بهذا النصر احتفالا رائعا ...
وقالت سامية: اذهب لإحضار السيارة من المكان النائي الذي أوقفناها فيه، وسأنتظر أنا في الشرفة حتى يبدل حمدي ثيابه.
وتركت سامية عند شرفة النادي، وسرت وسط جموع المتفرجين المندفعة نحو باب الخروج ...
و... و.
إنه يتوقف عن الحديث لحظة، كأنما يستعيد ما حدث إذ ذاك، أو يستجمع أطراف جأشه الثائر. - وفي الطريق إلى الباب سمعت هذا الحديث ... لم أر وجوه الذين قالوه لكنني سمعته فقط. - كان حمدي عجيبا اليوم. - لقد لعب لعبا مدهشا. - كان ضروريا أن يلعب هكذا، كانت حبوبته الجديدة تشاهده لأول مرة في مباراة ... - من هي حبوبته الجديدة؟ - ألم ترها معه قبل اليوم ... إنها كل يوم في النادي ... إنها تلك التي قبلته بعد المباراة. - آه رأيتها ... إنها رائعة ... تلك التي قبلته في خده. - نعم هي ... إن أسرتها سبور جدا كما ترى ... لقد قبلته أمام والدها. - والدها! - أجل ... هو هذا الذي كان معها ... إنه يأتي معها كثيرا إلى النادي ... إنه رجل رياضي جدا، ما زال يلعب التنس إلى اليوم.
رياضي جدا؟ والدها؟
وأحببت أن أكون رياضيا لآخر لحظة ... فذهبت وأحضرت السيارة، واستصحبت حمدي وسامية، وانطلقنا نحو فيلا سامية على شاطئ النيل.
في الشرفة حيث جلست منذ شهور قليلة مع سامية لأول مرة بدأ الليل يرخي سدوله ... وأخذت أضواء الشارع تعكس ضوءا باهتا علينا ... بالضبط كذلك اليوم الأول.
كنا صامتين نحن الثلاثة ... ولا أدري ماذا كان يملأ رأس سامية، ولا رأس حمدي من خواطر، وإنما أعرف فقط أن صورة واحدة تملأ رأسي أنا ... صورة ميدان سباق تجري فيه ثلاثة جياد ... فيتقدم اثنان منها ... أما الثالث فإن الإعياء يغلبه، وتتخاذل ساقاه، ويتصبب عرقا، ولما يمض من الشوط ثوان ... في حين أخذ الناس يصيحون به من كل مكان ... اخرج أيها الحصان العجوز ...
ولا أعرف ماذا فعلت إذ ذاك لأخرج من الميدان، ويستدرك قائلا: أقصد من الفيلا، لقد اختلطت الصورة بالواقع فاعذروني ... إنني أعرف فقط أني خرجت، استأذنت بضع دقائق لألقى صديقا، قلت إني نسيت موعده ... ووعدت بالحضور مسرعا، وما كدت أغادرهما حتى تنفست الصعداء، ووجدتني أخرج منديلي لأجفف عرقي، وخيل لي أن الصورة التي ملأت رأسي بدأت تتلاشى.
وتركت السيارة تسير على مهل على شاطئ النيل ... كانت صفحة الماء قد بدأت تعكس في وضوح صورة المصابيح المتناثرة على الشاطئ ... وكان كل ما يشغلني إذ ذاك فكرة واحدة ... سؤال واحد كان يدور بخاطري: هل أدركت سامية أنني لن أعود؟
لقد أتاني الجواب في اليوم التالي، وفي الأيام التي تلته ... إن سامية قد كفت عن عادتها التي ألفتها منذ شهور، ولم تعد توقظني بصوتها العذب كل صباح.
قولوا ما شئتم عني ... لكنني أقسم، وأنا صادق، أني ما ندمت على هذا الفراق ...
ولنصدقه هذه المرة.
الشعرات البيضاء
كذب عليها ... وكانت تحبه ... ولا يقتل الحب غير الكذب ... فمات حبها له، وبقي له الندم إلى الأبد. ***
22 من يناير سنة 1929
فندق كتاراكت بأسوان ...
رأيت اليوم الآنسة «ر» في شرفة الفندق، كانت جالسة وحدها تحتسي فنجانا من الشاي، وإلى جانبها على المقعد بضع مجلات، وسلة بها أدوات «تريكو» ...
إني أعرف الآنسة «ر» من القاهرة ... تعرفت بها في منزل شقيقي منذ بضعة شهور، عصر أحد الأيام كانت مع ثلاث فتيات من صديقات أختي، وتجاذبنا أطراف الحديث مدة نصف ساعة، وكان يروقني الحديث معها، ومع أن الجلسة كانت لطيفة، والآنسة «ر» كانت جذابة إلا أنني اضطررت أن أترك المنزل لارتباطي بموعد سابق، موعد هام كان من الصعب أن أخلفه ... ومنذ ذلك اللقاء لم أرها إلا اليوم ...
وتركت مكاني، وذهبت فحييتها، ويظهر أنني تركت في نفسها منذ لقائنا الأول نفس الأثر الذي تركته في نفسي، فقد عرفتني للفور، وأحسست أنها سرت برؤيتي، ولكنها على ما بدا لي، كانت محرجة ولا تستطيع دعوتي للجلوس معها، ولكنها قالت، وهي تنظر حواليها، إنهم عائدون هي وأسرتها بقطار المساء إلى القاهرة، ولما قلت لها إنني سأعود بعد أربعة أيام، قالت وهي تبتسم: سنراك في مصر إن شاء الله ...
وما زال رنين هذه الكلمات في أذني إلى الآن ... وأنا أكتب هذه السطور في مذكراتي بعد منتصف الليل، وقد سكن كل شيء ...
4 من فبراير سنة 1929
قابلت اليوم الآنسة «ر» وهي خارجة من محل شيكوريل، وكانت مصادفة لطيفة؛ فقد خطرت بفكري هذا الصباح، وكنت أفكر في طريقة للاتصال بها.
وقالت لي «ر» ونحن نسير في شارع فؤاد إنها تخرجت من المدرسة منذ عامين، وإنها تضيق بحياة المنزل، وإنها تقرأ كثيرا، وأحسست أنا أنها لا تضيق بحديثي معها، وأنها ليست مرتبطة بأي موعد، فدعوتها لتتناول فنجانا من الشاي معي في «جروبي».
حينما تتحدث الفتاة عن نفسها يكون معنى ذلك في نظر الرجل أنها تدعوه للتعارف ... والرد الطبيعي على هذا الحديث هو أن يتحدث عن نفسه ... وقد لبيت هذه الدعوة، وأخذت أتحدث عن نفسي ...
لكن يعلم الله أنني لم أقل اليوم للآنسة «ر» كلمة صدق واحدة، بل لم أتحرك حركة طبيعية واحدة ... إن اليوم الأول في بدء علاقتنا كان تمثيلا رائعا ... من جهتي أنا على الأقل ...
ولأضرب مثلا على سلسلة الأكاذيب التي سردتها هذا اليوم، لقد تحدثت عن دراستي، وقلت إنني أتممتها بالجامعة، وإنني سافرت في صيف العام الماضي إلى أوروبا، وإنني أبحث عن عمل، وأريد أن أقضي عاما أو عامين أدرس فيهما الخطط للمستقبل ... هذا الجو الذي خلقته عن نفسي، والذي يتلخص في الكلمات الثلاث، شاب متعلم مهذب غني ... لم يكن حقيقيا.
أما التعليم فاليوم بالذات دفع والدي القسط الثاني لي في كلية الحقوق، وهو متبرم، وعلى حد تعبيره «فلوس رايحة في الهوا» ذلك لأنه كان العام الثاني الذي أرسب فيه في السنة الثانية.
أما أوروبا، فلم تذهب قدماي إلى الآن إلى أبعد من البراميل المنتشرة على الشريط الضيق من ساحل البحر الأبيض الذي نسميه البلاج، والتي وضعت لأمثالي لتنبئهم بأن الأوان لم يئن بعد ليعبروا البحر بطريقة ما ... وأما أني مهذب فتلك مسألة فيها نظر، وأنا شخصيا أعتقد أنني مهذب، وسوف أجتهد أن يصدق هذا الشطر على الأقل في علاقتي مع الآنسة «ر».
طالت جلستنا أنا والآنسة «ر» وأدركت ونحن نغادر «جروبي» أن علي أن أقول شيئا ... وأجابتني «ر» وهي تمنحني إحدى ابتساماتها الهادئة: فليكن بعد غد ... هنا في «جروبي» ...
لا أدري، لم أحس وأنا أكتب مذكراتي اليوم بشيء من الغبطة، وأتخيل بعد غد حين ألقاها، أعترف أن الآنسة «ر» شغلت فكري طول اليوم ... وأعترف أيضا أنني أنظر إليها نظرة تختلف عن نظرتي لغيرها من الفتيات.
9 من أبريل سنة 1929
لماذا فعلت ذلك؟
سألت نفسي هذا السؤال منذ الصباح إلى الآن أكثر من مرة، ولم أستطع الإجابة عليه ... حدث كل ذلك بسرعة، ودون أن تتاح لي فرصة للتفكير، وجدت نفسي خارج حياة تلك المخلوقة التي راقبتني، والتي كنت أتمنى أن أرتبط بها إلى الأبد ...
إنها إن كانت أخرجتني من حياتها، فإنني لن أستطيع أن أخرجها من حياتي ... لا اليوم ... ولا غدا ... بل ستظل دائما الفردوس المفقود.
آه من الفردوس المفقود ... إن مرارة ذكراه أقسى من مرارة فردوس الأماني التي لم يرها الإنسان بعد، أجل، إن «ر» فردوس مفقود، فردوس كان بين يدي خلال الشهرين الماضيين كما تقول محجوزا للزوج ... الذي هو أنا بالطبع.
مذكراتي، وماذا كنت أستطيع أن أكتب فيها، كان كل يوم سعيدا ... يبدأ بصوتها بالتليفون فتحييني تحية الصباح الجميل، وتحدثني عن أحلامها التي كنت أنا فارسها دائما ... وينتهي بالقبلة اللذيذة التي أطبعها على خدها ... إن فمها كان كما تقول محجوز للزوج ... الذي هو أنا بالطبع.
وبالأمس دق جرس التليفون، ورددت أنا كعادتي فقالت «ر»: لابد أن ألقاك اليوم لأمر هام ...
وحينما التقينا، واجهتني بالحقيقة المروعة ... - عندما انصرفت أمس بعد أن لاقيتك سألت نفسي هذا السؤال، متى سأشعر بقبلته على فمي؟
ودار رأسي، وهي واقفة في انتظار جوابي ... وتخيلت ما أفكر فيه الآن، أنه ليس الزواج، وإنما الامتحان الذي يدقون الآن الأوتاد لنصب سرادقه، فتهبط كل دقة كأنها حجر يسقط على قلبي أنا.
متى سأذاكر؟ ... وكيف أذاكر؟!
أجل كيف أذاكر ... أنا الشاب الذي أتم تعليمه، وسافر إلى أوروبا، وحالته المالية تسمح له أن يستريح عامين ليضع خطط المستقبل، وقلت وأنا أغالب ضميري: قريبا يا حياتي ...
وأجابتني: إنك لم تفهمني ...
قلت: كيف لا أفهمك؟! إنك تتعجلين موعد الزواج.
وقاطعتني بسرعة: لم يخب ظني فأنت لم تفهمني ... إنني لا أتعجل موعد الزواج، وإنما أريد أن أعرف أسباب إرجاء زواجك بي، لم يعد بيننا ما تخفيه علي ... لقد صارحتك بكل ما يحيط بي ... وأنت صارحتني بكل ما يحيط بك ... أظن ذلك ...
وتوقفت لحظة عن الحديث.
ولسوء الحظ أن عقلي قد توقف بدروه عن التفكير، وإلا لما أجبت بسرعة، ودون أن ألحظ أني أكذب من جديد: أجل يا حياتي ... لقد صارحتك بكل شيء. - وما من شيء أخفيته علي؟ - وهل كان يجب أن أخفي عليك شيئا؟
وهنا أجابت، وهي تتحامل قليلا خشية أن تسقط: إذن فقد خاب أملي، ليتني لم أعرفك.
وعبثا حاولت أن أهدئ ثورتها، واقتربت لكي أربت على خدها، ولكنها صاحت في صوت أرهبني: إياك أن تمسني ... أريد أن أقول لك شيئا لآخر مرة ... لقد أتحت لك الفرصة لتصارحني بظروفك ... فتحت لك باب الاعتراف لتتحلل من أكاذيبك، لكنك رفضت ... رفضت كمن يصر على الخداع حتى النهاية ... لو أنك قلت لي إنك ما زلت طالبا، وإنك لا تستطيع الزواج ... لو أنك قلت لي إنك ستنتهي من دراستك، ثم تمهد سبيلك لنعيش معا ... لكنك كذاب ... كما قيل لي عنك ... لم تفكر في الزواج، ولن تفكر ...
هل تفهمني الآن؟ ... هل تفهم لماذا سألتك؟ ... هل صارحتني بكل شيء أولا؟
وبالطبع فهمت ... حدث ما كان يجب أن يحدث ... حينما تسير مع فتاة في الطريق، فلا بد أن تلقى صديقا لك، أو صديقة لها، ولا بد أن ينتقل لقاؤكما من فم عزول المصادفة إلى عشرات الأفواه ... وإني أذكر الآن أننا رأينا بالمصادفة الآنسة «ج» صديقة شقيقتي، وصديقة «ر» أيضا ذات مساء، ونحن خارجان من السينما ... وأستطيع أن أتخيل الآن ما حدث بعد ذلك، إن «ر» كما أعرفها، صريحة وغير ملتوية ... ولا شك أنها قابلت «ج» بعد ذلك، وقالت لها ما تعرفه عني ... وما قلته أنا عن نفسي ... فأفهمتها «ج» أن كل ما قلته كذب ...
وما زلت أذكر مرة، قالت فيها «ر» أثناء الحديث: إني صريحة لا أخفي شيئا، هل تصدق أني خاصمت أختي شهرين؛ لأنها كذبت علي مرة؟
أرجو ألا يكون عقابها لي أقسى من عقابها لأختها.
30 من يونيه سنة 1929
سافرت اليوم إلى الإسكندرية، وأنا أكتب مذكراتي هذه في الغرفة المطلة على البحر، وقد نام شقيقي حامد، إنني لا أستطيع أن أنام من حزني الجاثم على قلبي، فقد أخبرتني شقيقتي، ونحن في القطار بنبأ خطبة «ر» إلى ابن عمها، وقالت لي ما هو أقسى من ذلك، قالت لي إنها قابلت «ر» في الطريق، وإنها هي التي أنبأتها بذلك، وسألتها عن أحوالي، وأبدت أسفها لأنني خدعتها، ولم تنكر أنها كانت تفضل أن تتزوجني.
بهذه الصراحة؟
أجل ... وإني أعيد ما قالته لأختي بالحرف الواحد: كنت أنتظر أخاك عامين أو ثلاثة لو كان جادا، لكنه كان يلهو، كذب علي ورفض أن يصحح موقفه، لم يكن عيبا أن يصارحني بظروفه، لكن العيب أن يخدعني ويصر على الخداع، لقد خطبني ابن عمي، ورحبت بزواجه والحمد لله ...
أجل ... بهذه الصراحة لا يوجد في العالم إلا فتاة واحدة، وهي «ر».
كانت تستطيع من باب الزهو أن تقول: إنها لم تكن تهتم بي، لكنها مع ذلك كانت تفضل أن تنتظرني عامين أو ثلاثة، إن المرأة لا تنتظر إلا رجلا واحدا، الرجل الذي تحبه، ما أشد حزني على ما حدث! وما أشد حماقتي!
وأغلق مذكراته، ووضعها في مكانها بين عشرات الكراسات الصغيرة التي تحوي كل منها مذكرات عام كامل من حياته ... ولم يكن بحاجة بعد ذلك إلى مذكرات ... إن مذكرات الأعوام التالية بعد عام 1929 تستطيع أن تمر بخياله سريعة باردة، كما مرت هذه الأعوام نفسها ... لقد أتم دراسته عام 1933، وسافر إلى أوروبا ... ثم عاد إلى القاهرة، وانخرط في سلك المحاماة ... ومنذ وضعت الحرب أوزارها، وهو يجلس كل يوم يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا لا أتزوج؟!
وتمر بخاطره قصته مع «ر» إن ذلك الماضي القديم يرتبط في خياله دائما بفكرة الزواج، وما من مرة فكر في الزواج إلا ذكر «ر» وذكر قصته معها، وتمنى لو أنه تزوجها ... لكنه مع ذلك يفكر في الزواج تفكيرا جادا منذ بضعة شهور.
منذ أن أخذت بضع شعرات بيضاء تتسلل إلى رأسه ... إنه لم يبلغ الأربعين بعد ... إن هذه الشعرات توحي إليه في رقة وأدب أنه لم يعد طفلا ... وحين يتجاهلها تخطابه في المرآة ... وقد تغيرت لهجتها من الأدب إلى الخشونة؛ لأنه قد أصبح رجلا ... وهي أحيانا تستعير لسان أحد أصدقائه لتنطق في قحة ساخرة: والله عجزت يا أبا السباع!
وفي أغلب الأحيان تترجم خواطر هذه المزاح السخيف إلى صرخة ملحة: لم يعد هناك مجال للتسويف، ولا بد أن تتزوج ...
وهو لا يعارض في الزواج، وما عارض فيه من قبل أبدا، وإنما كان يتوقع الوقت المناسب والوجه المناسب والسن المناسبة.
ومنذ أيام كان الوقت مناسبا، والوجه مناسبا.
كان صباحا مشرقا جميلا من أيام أبريل الأخير، وكان يجلس في حديقة الشاي، وكانت الفتاة الجالسة على خطوات من مائدته تحتسي على مهل القطرات الأخيرة من كوب عصير البرتقال، حين اهتزت يدها باصطدام طفل صغير بمقعدها فسقط الكوب ... وتناثرت القطرات على الثوب ... قطرات قليلة لكنها أتاحت له فرصة الحديث ... حديث قصير لم يتجاوز الأسف على ما حدث، وهو يمد لها يده بكوب ماء لتنظف ما علق بالثوب ... ثم أتاحت له فرصة أخرى حين خرج من الحديقة بعد ساعة، ورآها تنتظر على محطة الترام فركب معها، ولم يكن هناك ما يمنع حديثهما، فقد كانا وحيدين في المقصورة ...
وقت مناسب ووجه مناسب والسن ...
إن عمر المرأة من حقها وحدها تحديده، وهو لا يعرف أن هناك امرأة في العالم قد تعدت الثلاثين، إن الوجه الذي يراه الآن أنضر من أن يثير مسألة السن ... بل لعل الحقيقة تخفيه، إنها تبدو في العشرين.
وذكر وجهه في المرآة ذلك الصباح، وخيل له أنه يرى شعراته البيض تقترب في حياء لتلامس خصلات الشعر الأسود الفاحم.
صغيرة! قال لنفسه هذا، وقد عول على التراجع ... بل لقد هم فعلا أن يغادر مركبة الترام ... وصده عن ذلك شيء واحد.
إنها هي أيضا قد نهضت لتنزل من الترام، وقالت وقد لحظت حركته: هل تنزل هنا أيضا؟ وأحس بحرج موقفه فأجاب، وهو يعاود النهوض: نعم، فهذا أقرب مكان لي ... إني أسكن في مصر الجديدة، ولكن سيارتي في جراج قريب من هذا المكان.
يقول الفرنسيون أحيانا: إن المرأة هي التي تختار رجلها دائما ... تختاره دون أن يخالجه شك في أنه هو الذي يختار ... إن هذا القول لا يصدق في تعرفه بثريا ... فهو الذي اختارها في حديقة الشاي، وهو الذي كان يفكر طوال الطريق في أنها هي، الوجه المناسب.
وسيبدأ منذ اللحظة خطته لإتمام ما يريد ... يعرض عليها أن تلقاه مرة أخرى، فتمانع قليلا في ابتسامة راضية.
ويلقاها بعد ذلك بيومين ... يلقاها أشجع عزيمة، ولا يكاد ينفرد بها في المقهى الهادئ على حافة النيل حتى يبدأ حديثه عن نفسه.
ويلتفت إليها خلال الحديث طالبا أن تخمن كم عمره؟ وتقول في ابتسامة: آه! لم تخدعني شعراتك البيض ... إنك في حدود الثلاثين ... اثنين وثلاثين سنة مثلا.
ويقول، وكأنما يحرجه الكذب في تحديد السن: لا خمسة وثلاثون ... راجل عجوز أليس كذلك؟
وتجيب، وكأنها لا تهتم بما يقول: بالعكس ... هذه هي سن الرجولة. - سن الرجولة؟!
وتمر بخاطره الآن الآنسة «ر» فجأة، فترتسم على جبينه ابتسامة خفيفة، ويخالط فكره ندم، لقد كذب على «ر» نفس الأكذوبة عكسيا، قال لها حين عرفها إنه في الخامسة والعشرين، وكان لم يتعد العشرين ليبدو رجلا.
ويكذب الآن على ثريا، فيقول إن عمره خمسة وثلاثون ، وهو يخطو في الأربعين ... ليبدو أيضا رجلا.
إن الحديث يطوي أفكاره في ركن من عقله ليعود من جديد إلى الموضوع، موضوع الرجل والمرأة ... إنهما يقتربان مما يريد رويدا. - هل تعيش وحيدا؟ - نعم لأني لم أكن قد وجدت من يملأ فراغ بيتي ...
لقد علمه الماضي أن يتجنب المراوغة، وها هو ذا يخطو إلى منتصف الطريق في اللقاء الثاني، وتجيبه، وكأنها لا تجيبه على سؤاله ... - لقد قلت لأمي اليوم وأنا أغادر المنزل إني ذاهبة لزيارة صديقة، وآلمني أن أكذب عليها. - كذبة صغيرة. - أنا لا أحب حتى الأكاذيب الصغيرة، ولا أدري لم كذبت عليها؟ لعل ذلك لأني أفعل شيئا خاطئا.
ويرفع رأسه في دهشة، ويقول مستنكرا: لقاء في وضح النهار، وفي مكان عام شيء خاطئ ... إنك تبالغين.
وكان يعرف أنها لا تبالغ، وإنما تتعجل، لكنه رأى أن يتريث.
لم يكن يتردد في اتخاذ قراره، لكنه أحس من باب الشكل فقط أن طلب الزواج في اللقاء الثالث أكثر ملاءمة لرجل ... في سن الرجولة، إنه على أية حال قد مهد الطريق ...
وكان موعد اللقاء الثالث، فجلس إلى المائدة ينتظر ...
وانتظر طويلا، ومرت ساعة دون أن تحضر ثريا ...
وقضى ليلته لا يصدق أنه رأى فتاة، فأعجب بها، وقرر أن يتزوجها، وأراد أن يخطبها في اللقاء الثالث، فلم تحضر هذه الفتاة للقائه.
ذلك قد حدث ... حدث له فعلا ... هو الذي ظل طوال الأعوام الماضية يعيش بعواطف راكدة لا تجد ما يحركها، لقد تحركت عواطفه فجأة تحت طرقات الأعوام، ولسعات الشعرات البيض.
وأخذ عقله يفرض لتخلف ثريا عن موعدها عشرات الأسباب ... لكن فرضا واحدا من هذه الفروض رفض البقاء في رأسه ... لقد رغبت عنه وصرفت نظرها لأنه لم يرقها ... لقد راقها، وما زالت جملتها ترن في أذنه: بالعكس ... هذه هي سن الرجولة ...
ما من عقل يستطيع أن يضع لهذه الجملة ترجمة غير الرضاء والقبول ... الرضاء والقبول الذي يتبعه الإيحاء بطلب الزواج ... إنه لا يصدق ... وعقله لا يقبل غير فرض واحد، لقد حدث لثريا شيء ... وانتابه القلق، وتمنى لو يطمئن إلى أنها سليمة لم يمسسها سوء، وأن شيئا لم يعقها عن لقائه ... ثم ...
ثم لا يبقى غير الفرض اللعين الذي لا يطيق رأسه أن يتحمله طويلا، لقد صرفت نظرها عنه؛ لأنه لم يرقها.
عاش ليلة يطوف عقله في حلقة مفرغة، حتى ترنح ونام في إعياء، نوم أجفانه المتعبة.
وفي الصباح تلقى رسالة ... رسالة أخذ يقرأ سطورها الأولى بصوت مسموع ...
سيدي ...
يؤسفني أن أكتب لك نيابة عن ابنتي، لأتم حديثا قصيرا بدأته معك منذ عشرين عاما.
وخفت صوته تدريجيا، وهو يمضغ الألفاظ، وكأنما خشي أن تسمعه جدران الحجرة ... وكأنما خشي أيضا أن تراه هذه الجدران، فقد رفع رأسه وأجال بصره في أنحائها ... ثم عاد إلى الرسالة لتقرأ عيناه فقط.
إنني أحاول أن أفهم من أي معدن أنت فلا أستطيع ... تكذب علي منذ عشرين عاما لتتسلى بي بعض الوقت ... فينكشف لي كذبك وخداعك، وينقذني الله منك ... ثم تأتي لتخدع اليوم ابنة العشرين ... إن مصيبة الجيل الجديد هي أنه يحرص على أن يبدو أكبر مما هو ... إن ثريا في العشرين يا ابن الخامسة والأربعين ... إنك قد تنسى أكاذيبك علي، ولكنك لا تنسى كلمة الصدق الواحدة التي قلتها إذ ذاك، وهي أنك في الخامسة والعشرين ... فتاة في عمر ذكرياتك تريد أن تربط حياتك بها يا قاس ... إنك مسلح بهذه القسوة ضد الزمان فلا تبدو عليك سنواته ... قالت لي ثريا كم أنت لطيف وشاب وصريح ... إنها عرفتك كما عرفتك أنا أول يوم رأيتك ... لكنها لم تعرفك كما عرفتك آخر يوم إلا الآن ... ولكم كنت أتمنى لو رأيت نظرة الخيبة واليأس والاحتقار معا في عينيها ... إنها نفس النظرة التي صرحت بها لك عيناي منذ عشرين عاما ...
من المؤسف حقا أنك لم تر هذه النظرة، ولن تراها ... لكن ربما استطاع خيالك، وما أوسع خيال من يكذبون ... أن يصورها لك.
إني لست بحاجة إلى أن أعتذر عن تخلف ثريا عن لقائك بالأمس، إنك لن تراها بعد اليوم ... ولعلك لست بحاجة إلى إمضاء لتعرف ممن هذا الخطاب.
إنه لم يكن بحاجة فعلا إلى إمضاء ...
كان بحاجة لأن ينهض من مقعده، ويترك حجرته إلى الشرفة الصغيرة ليتنسم الهواء ...
وكان بحاجة إلى فضاء واسع ينثر فيه خواطره المهتاجة ...
ووجد نفسه يميل إلى حافة الشرفة، وينظر إلى أرض الشارع، ينظر إليها دقائق طويلة كأنه يبحث عن شيء وجده آخر الأمر، فآب إلى حجرته، وفتح أحد أدراج مكتبه، وأخذ يقرأ في مذكراته.
22 من يناير سنة 1929
فندق كتاراكت بأسوان ... قابلت اليوم الآنسة «ر» في شرفة الفندق!
سبعة في صورة
ويل للمقدسات الزائفة من لحظات الشك، إنها تلقى خلالها من الذين آمنوا بها أكثر مما تلقى من أعدائها. ***
عشرة أعوام مرت لم أر فيها هذه الصورة ...
لقد كانت إذ ذاك تحتل إطارا جميلا، وتتخذ مكانها على الحائط بين عدد من الصور الأخرى، صورة عهد التلمذة اللذيذ.
ولأمر ما تغيرت الحال ... فإذا بيد الزمان، لا يدي أنا تنتزع صور ذلك العهد ... ومن بينها هذه الصورة، وتلقي بها جميعا في صندوق خشبي ... يضم مع هذه الصور عشرات من الرسائل، وقصاصات الصحف والمذكرات.
وانتقل الصندوق الخشبي معنا من منزل إلى منزل، كأنه قطعة من الأثاث حتى فكرت زوجتي آخر الأمر في أن تزين حجرة مكتبي ببعض صور صباي، ففتحت الصندوق، ونفضت ما تراكم على محتوياته من تراب، واختارت ثلاث صور.
الصورة الأولى: أبدو فيها، وقد أمسكت بكمان، وتهيأت للعزف، وصاحت زوجتي: قل لي إذا إنك كنت موسيقيا، لم أخفيت علي ذلك؟ أهذا هو سر حبك للموسيقى إلى الآن؟
والصورة الثانية: أبدو فيها ممشوق القد في ثوب رياضي ممسكا بمضرب التنس.
وصاحت مرة أخرى: يا مضروب ... كان من الممكن أن تصبح بطلا متقاعدا، لماذا هجرت الرياضة؟
وأمسكت بالصورة الثالثة، وصاحت، وهي تغالب الضحك: أنت تتسلق الجبال، وتضرب الخيام؟! في الكشافة كنت؟ وترفض الآن الذهاب إلى رحلة قمرية إلى الأهرام بالترام؟
وصمت حتى فرغت من الأسئلة، ثم شرحت لها الأمر.
قلت لها: إنني ما أمسكت في حياتي بمضرب التنس، ولا حنوت على كمان، ولا ذهبت إلى رحلة في الجبل إلا مرة واحدة، المرة التي التقطت فيها هذه الصور.
فقالت في نظرة مستفهمة: كيف؟ - كنت أمثل دور عضو جمعية الموسيقى ... وعضو جمعية التنس، وعضو جمعية الكشافة.
ووجدتها غارقة في صمتها، ودهشتها فزدتها إيضاحا: كنا في مدرسة أهلية ... وكانت الحكومة تعطي إعانة للمدارس الأهلية، وكان من شروط الإعانة أن تكون المدارس التي تطمع في الإعانة تباشر ألوانا من النشاط الاجتماعي والرياضي والفني ... فجمعنا الناظر ذات يوم قبيل نهاية العام والتقطت لنا هذه الصور ليقبض هو الإعانة.
ولم أعرف هل اقتنعت زوجتي أم لا؟ ولكنها أجابت: على أية حال ... إن هذه الصور تظهرك في أحسن أوضاعك، سأعلقها هنا في حجرتك لتوهم البسطاء ممن لا يعرفونك بأنك كنت فتى متعدد النشاط.
ثم صاحت فجأة، وقد أمسكت بصورة: يا حفيظ! ما لكم واقفين هكذا، وكأنكم قد قتلتم قتيلا؟ سبعة شبان يحملقون في المصور بصرامة.
وأمسكت بالصورة ... الصورة التي كانت تحتل إطارا جميلا في حجرة مكتبي من عشرة أعوام وتأملتها ... ثم قلت لزوجتي: قال لنا المصور انظروا إلى العدسة فنظرنا جميعا، وجمعنا رجولتنا في نظرة صارمة ... آه لو عرفت كم ضحكنا بعد أن التقطت الصورة. - على أية حال لن أعلقها، هذه الصورة مكانها هنا كما كانت ... في الصندوق.
وخرجت زوجتي، وقد حملت معها الصور الثلاث، وامتدت يدي إلى الصندوق، فأخرجت الصورة من جديد ... الصورة التي كانت تحتل إطارا جميلا ذات يوم ... صورة «الشلة» التي جمعها الزمان منذ عشرين عاما ... ثم ...
لقد أحسنت زوجتي صنعا ... هذه صورة مكانها قبو الذكريات، لو أن زوجتي علقتها اليوم في حجرة مكتبي لما وجدت جوابا لمن يسألني، وهو يتأمل الصورة، وأين هؤلاء الأصدقاء؟ وأين ذهبت هذه الصداقة؟
أين ذهبت؟ إي وربي، أين ذهبت هذه الصداقة؟ هل أستطيع أن أجيب؟ هل أروي قصة لا تشرف أحدا من السبعة الواقفين في الصورة وكأنهم، كما تقول زوجتي، قد قتلوا قتيلا؟
إننا لم نكن بعد قد قتلنا قتيلا حين التقطت هذه الصورة لكننا قتلناه بعد ذلك ... قتيلا غاليا عشنا في ظله عشرين عاما، وإني لأذكره الآن.
وكأننا: أنا وحمدي وعبد القادر وسعيد ومصطفى وعلي ومحمود، كأننا ما زلنا بعد في ظلال هذا القتيل، صداقة الطفولة والصبا والشباب ... حمدي واقف في أقصى اليمين، ومحمود في أقصى اليسار، وفي وسط الصورة سعيد ... وحول سعيد من اليمين واليسار أنا وعبد القادر ومصطفى وعلي ... ولا ينقص الصورة شيء لتروي قصة حادث القتل الفظيع.
هؤلاء هم أبطالها ... من عجب أن تضعهم الأقدار في الصورة، كما وضعتهم في القصة سواء بسواء، إن حمدي ومحمودا كانا في القصة ... كما هما في الصورة، على الهامش، وسعيد ... إنه في وسط الصورة ... ولقد كان أيضا مركز القصة، وأنا على مقربة من سعيد، بالضبط كما شاءت الأقدار أن أكون في القصة، لقد كنت على مقربة من سعيد، وإن لم أقم بأي دور كان، شأني كمرتاد الحانة التي ينشب فيها عراك، فيأخذ البوليس بتلابيب كل روادها، وغالبيتهم لم تشترك في المعركة ... أجل ... شهدت القصة، لا مع الجمهور، وإنما على المسرح مع الأبطال.
ولو ذكر ممثلو القصة بحسب ظهورهم على مسرحها لذكرت أنا قبل أي واحد من هؤلاء، أنا الذي عرفت سعيدا بمصطفى، ودعوتهما إلى داري غداة يوم التقينا فيه لأول مرة بعبد القادر، وعن طريق عبد القادر تعرف كل منا بعلي وحمدي ومحمود.
في اليوم الذي التقطت فيه هذه الصورة، كان قد مر على هذا التعارف بضعة أعوام، وكان أول فصول القصة وأجملها ... لم يهبط عليه الستار بعد ... الفصل الحافل بالبهجة والمرح والهناء ...
لقد هبط عليه الستار ذات يوم، ونحن نغادر باب الجامعة شبانا قد أتموا دروسهم، وشرعوا يتهيئون للحياة العملية، لقد كان فصلا سعيدا، وتلاه الفصل الثاني، ولم يكن أقل منه بهجة، فصل قضيناه نشوى بخمر الرجولة الباكرة، فرقتنا سبلنا في الحياة، وجمعتنا السهرات الجميلة في بيت عبد القادر ... والمائدة الشهية في «شقة» علي، والنزهات المرحة في سيارة سعيد.
ونزل الستار عن هذا الفصل أيضا ذات مساء ... نزل على نهاية سعيدة هي زواج سعيد بالفاتنة الناعمة سهام، وقلنا جميعا حين قدمنا إلى خطيبته قبيل نزول الستار ... قلنا في غبطة وغيظ معا: فزت يا وغد ... إنها قطعة فنية.
وقال سعيد، وهو يضحك: وقطعة ثمينة أيضا ... إنكم لم تعرفوا من أخلاقها ما أعرف، إنها آية في الأدب والذكاء.
وبدأ الفصل الثالث، وقد دخل في القصة بطل جديد هو سهام، وبدا في أول الأمر أن دورها لن يكون هاما ...
كانت كما وصفها حمدي ذات يوم كطاقة جميلة من الزهر، ستتخذ مكانها من المنظر لتزيد في بهائه ... ولكن طاقة الزهر تحركت ذات يوم من مكانها في صدر المنظر ... وما دار بخلد واحد منا ... حتى سعيد نفسه أنها ستكون البطل الوحيد الذي سينزل عليه الستار، وأننا سنصبح في نهاية القصة مجرد صورة مكانها قبو الذكريات ... نحن الذين صفقنا لها حين تحركت من مكانها ... وحين قامت بدور البطلة ... البطلة التي أعدت لنا موائد أشهى من كل الموائد التي نعمنا بها في دار صديقنا علي، وسهرات أنستنا سهرات عبد القادر ...
مر عام على زواج سعيد بسهام، واحتفلنا في نهايته بذلك اليوم السعيد الذي وهبنا الله فيه هذه الطاقة الجميلة من الزهر.
ومرت بعد العام بضعة شهور، وذهبنا جميعا ذات يوم إلى السينما ... كانت سهام تجلس بين سعيد وبيني، وإلى جانبي جلس عبد القادر، وإلى جانب سعيد جلس علي، وانتهى الفيلم، نهاية حزينة طوتنا جميعا في صمت خانق، وقلت ممزقا هذا الصمت: ما رأي سهام في الفيلم؟
وأجابت: نهاية فظيعة ... مسكينة البطلة لم تكن تستحق هذا المصير.
ولم أعلق على رأيها، ولكن عليا اندفع كعادته في تبرير نهاية الفليم، لقد انتهى الفيلم بانتحار البطلة، وكانت القصة تدور حول طموحها ورغبتها في أن تصل إلى الجاه والثراء، حتى لقد لفظت في سبيل أطماعها الحب الوحيد الصادق في حياتها.
اندفع علي يقول: ماذا كنت تتوقعين وقد علقت آمالها بأطماع كبيرة لم يكن في مقدورها أن تنالها؟ لقد كانت تعيش حياة هادئة، وكان «جاك» البطل يحبها، وكان سيسعدها حتما، لكنها آثرت أن تلقي بنفسها في تيار المغامرات!
فقالت سهام: هل تعيب عليها رغبتها في حياة أفضل ؟
وأجاب علي: ومن قال إن الحياة الأفضل لا توجد إلا في القصور؟ ألم تترك «جاك» لتذهب مع ذلك المليونير لمجرد أنه غني واسع الثراء؟ تذكري منظرها وهي تدير نظرها في أنحاء قصره مبهورة بما حولها، ولم يمض على موقفها القاسي مع من أحبها غير ساعات ...
وتقاطعه سهام: إنك عاطفي أكثر من اللازم ... إن الذي أحبها هذا كان خاملا، كل ما يملكه حديث الحب.
وكان من الممكن أن يمضي نقاشنا على هذا الوجه لا ثمرة له، نقاش يدور حول قصة سينما ... قصة لم تحدث ... لولا أن عبد القادر نظر إلى سهام قائلا: ماذا كنت تفعلين يا سهام لو كنت مكانها؟
ولم تتردد سهام طويلا، ولم يبد أيضا أنها تمزح، وإن طغى الضحك على صوتها، فقالت: كنت أفعل ما فعلت، لكنني كنت أحتاط للمستقبل، لاحظ أنها لم تنتحر إلا حين ذهبت إلى الشاب الذي أحبها بعد أن طردها المليونير، فطردها هو أيضا بدوره ... أنا ما كنت أدع الأمر يمضي إلى هذا الحد أبدا ...
وإني لأذكر الآن رنين صوتها، وهي تقول هذه الكلمة باستنكار، وإني لأذكر الآن حديثنا، أنا ومصطفى، بعد أن ودعنا سعيدا وسهاما والآخرين، وسرنا وحدنا نثرثر بعد منتصف الليل.
دار حديثنا إذ ذاك كله عن سعيد وسهام، ولا أدري بالضبط كيف بدأ الحديث، ولكني أعرف أن سهام لم تكن في تلك اللحظة في مكانها من نفسي ... كانت قد تزحزت قليلا، وقد أكون أنا الذي بدأت الحديث فخطأت رأيها.
على أية حال، لقد تطرق بنا الحديث حتى تغلغل في بيت سعيد، وأخذ يزيح بلا سبب الغلالات الجميلة التي كسونا بها سهام، ولم يكن هذا غريبا ... إن في حياة كل إنسان لحظات يصبح فيها أشد ما يكون تهيؤا لفحص عقائده ومقدساته بقسوة قد لا يجرؤ عليها غيره.
والويل للعقائد والمقدسات الزائفة من هذه اللحظات، إنها تلقى إذ ذاك منا - نحن الذين آمنا بها حينا - ما لا تلقاه من الذين كفروا بها طوال الحياة.
ولقد كانت سهام إحدى مقدسات الشلة ، وكنا أنا ومصطفى نجتاز إحدى هذه اللحظات ... نجتازها فجأة بلا مقدمات ... حديث السينما التافه من الصعب أن يكون أساسا، وآراء سهام في الحب والحياة قد تكون مجرد ثرثرة في الطريق ...
ما الذي جعلنا إذن نتحدث عن سهام، وبالطريقة التي تحدثنا بها، بل ما الذي جعلني أنا أستمع لكل ما قاله مصطفى تلك الليلة، كأنه صادف هوى في نفسي؟
من المؤكد أنه ليس حديث السينما، ولا ثرثرة سهام وآراؤها الجريئة ... هي «الكبسولة» التي انفجرت ففجرت البارود، وملأت الجو بهذا الدوي الرهيب ... لكنها كانت مجرد كبسولة، أو لعل الكبسولة كانت قولي: عجيب هذا الرأي من سهام ... لو أن غيرها يقوله ... لكن هي؟!
واتصل اللهب بالبارود، فأجابني مصطفى، وكأنه يجاهد كلاما غير ما يقول: إن العجيب هو أن يكون لها رأي غير هذا، أليست امرأة؟
واستنكرت قوله ... وليتني ما استنكرته: امرأة! هل تنسى أنها سهام ... زوجة سعيد؟ - إن الذي يقتلني هو أنني لا أستطيع أن أنسى ذلك. - يقتلك! لكن لماذا؟ إنك ثائر.
لكن مصطفى كان أكثر من ثائر، كان كمن يئوده عبء ثقيل صبر على احتماله طويلا، ثم تهاوت أعصابه، واسترخت فسقط العبء على الأرض. - لست ثائرا، وإنما أكاد أجن ... ألا يرى سعيد ما نراه؟ لقد كان أكثرنا تجارب ... ألا يرى ما تفعل سهام؟ - وماذا تفعل سهام يا مصطفى، ولا تقره أنت؟ - هؤلاء السادة الجدد الذين نراهم في بيت سعيد ... متى كانوا أصدقاء؟ - هذا سؤال نوجهه إلى سعيد لا إليها ... ومع ذلك فأنا أجيبك عليه، عن أيهم تسأل؟ - ذلك السيد المنتفخ «م» باشا الذي ملأ صيته أنوف الأشراف بما هو أكثر من الزكام ... ما الذي جعله الآن قاسما مشتركا في كل سهرة ... منذ متى كان صديقا لسعيد؟ - إن الرجل صاحب يد جليلة على سعيد ... ألا تعلم أنه صاحب نفوذ؟ ثم إن الرجل يمضي السهرة معنا كأنه أحدنا ... إنه ديموقراطي الخلق. - والسيد الآخر الذي ظهر فجأة «ع» بك، ذلك الأمي الذي يقرأ ويكتب بعناء، ما الذي جمعه بنا؟ وأي حديث راقه من أحاديثنا حتى أصبح يشاركنا في مجلسنا كل ليلة ...؟ هل هو حديث الخراف والديكة التي انهالت على بيت سعيد؟!
وصحت بمصطفى: ألم أقل إنك ثائر ومجنون؟ هؤلاء أصدقاء سعيد ... يروقهم مجلسه كما يروقك ويروقني ... كيف تعرف عليهم؟ ألم تعرف أن ذلك يرجع إليه وحده، وهذا شأنه دون سواه؟ لقد أنستك ثورتك أكثر مما يجب.
وصمت مصطفى لحظة، وكدت أحس بالجو الثقيل الذي نشره ينزاح بعيدا لولا أنه عاد يقول في تراخ: لو رأيت بعينك ما رأيت لثرت أكثر مني ... هذا إذا كنت تضع سعيدا حيث وضعناه من نفوسنا من زمن ... لو رأيت سهاما، وهي قابعة في سيارة صاحبنا المنتفخ، ولو رأيت صاحبنا المنتفخ نفسه، وهو يصعد إلى السيارة ويجلس إلى جوارها.
وأعترف أني دهشت لهذا الذي يقوله مصطفى ... ومن المؤكد أني ثرت عليه، وقاطعته والتمست لهذا اللقاء الأعذار.
وأعترف أيضا أني تخاذلت، وأنا أسمع أبعد من هذا الذي رواه، سهام تلقى هذا وذاك خلال ساعات النهار حين يكون سعيد في عمله، ليس السيد المنتفخ وحده ... وليس الثري الأمي ... وإنما ثالث ورابع.
ويل للمقدسات الزائفة من لحظات الشك، إن هذه اللحظات تستبدل بعيون الحب العمياء عيونا واعية حذرة ذاكرة.
في خلال بضعة شهور من هذا اليوم كان كل منا يرى في بيت سعيد ما لم يكن قدره من قبل، وكان كل منا يلحظ من تصرفات سهام ما يثير أشد الرجال غباء وغفلة.
ولكن سعيدا كان يفوق أشد الرجال غباء وغفلة، كان لا يثيره شيء بل كان يبدو أنه راض بكل شيء.
وعلل عبد القادر ذلك ذات يوم فقال: إن سعيدا قد تغير، وإنه يريد أن يصل إلى الثراء والجاه معا؛ لأن سهام تريد ذلك.
واندفع علي كعادته: أو لم تقل رأيها بصراحة ليلة كنا في السينما؟ ... إنه لا يريد أن يكون العاشق الذي تتركه في منتصف الطريق.
وخرج حمدي من هامشه فقال: وماذا أنتم فاعلون؟ هذا هو سعيد، إما أن تقبلوه كما هو، وإما أن ندعه في حاله ... هل فيكم من يجرؤ على أن يحدثه بشيء؟ - أنا أجرؤ أن أحدثه لو أن لذلك أية فائدة تعود عليه، إنه راض عن ذلك.
وكان مصطفى هو الذي يتكلم في استنكار. - قد يكون سعيد كما تقولون يمنح زوجته الكثير من الحرية، ويفتح بيته لأصدقاء جدد قد يعاونونه فيما رسمه لنفسه من مستقبل، لكن من يجرؤ منكم على أن يتهمه بأنه يعرف السوء عن سهام ويسكت.
وسكتوا جميعا ... وإني لأذكر الجو الخانق الذي عشنا فيه تلك الليلة، وأذكر أيضا أن غالبيتنا منذ ذلك اليوم قد آثرت ألا تثير الموضوع، ولم يكن يواصل الحديث فيه غير مصطفى ...
حتى جاءني مصطفى يوما، وفي يده رسالة وصلت إليه بالبريد ...
رسالة تحمل توقيع سعيد، وفيها يعلن سعيد مصطفى بأنه يقطع علاقته به بعد ما تبين نذالته وحقارته التي لم يكن يتصورها.
وتتلخص هذه النذالة وهذه الحقارة في أن مصطفى قد حاول أن يغري سهام، وطارحها هواه، وطلب منها موعدا بالتليفون ... وفي الرسالة، إن لم تخني ذاكرتي، هذه الجملة:
لقد روت لي سهام كل شيء، وهي خجلة تبكي ... أما خجلها فيرجع إلى المستوى الذي انحدر إليه بعض أصدقائي، وأما بكاؤها فلأنها ربما كانت تنوب عني في ندب صداقتنا الطويلة.
وطويت الرسالة وأنا مذهول، ثم انتبهت على صوت مصطفى، وهو يقول لي: توقعت كل شيء إلا هذا ... لو أنها فعلت ذلك مع أحدكم لكان معقولا ... لكن معي أنا؟
ومضت فترة قبل أن أعي كلماته لأسأله ما يعني ... لم لا يستبعد حدوث ذلك مع أحدنا، ويستبعد حدوثه معه هو؟ وأعادني إلى ذهولي جوابه الجريء. - ذلك لأني الوحيد بينكم الذي فعل ذلك حقا. - فعل ذلك؟ ... أنت؟ ... طارحتها هواك، وطلبت منها موعدا هل جننت؟ - قد أكون جننت ... لكن ذلك حدث ... أما الذي لم يحدث، فهو ما قالته لسعيد من أنها رفضت لقائي ... ولم يحدث ذلك أول أمس كما تقول بل منذ شهر ...
ولم أفهم شيئا، فعاد مصطفى يقول: صبرا حتى تسمع القصة التي يسبقها اعتراف قصير، هو أنني أحببت سهام فعلا، ليس اليوم ولا أمس، وإنما منذ رأيتها أول مرة ، أحببتها كما يجوز أن تحبها أنت، أو يحبها غيرك ... أحببتها وطويت على هذا الحب جوانحي، فلم يعرفه أحد حتى هي نفسها ... ذلك هو اعترافي القصير ... أما ما حدث فهو أنني لقيتها منذ شهور ... لم أطلب منها موعدا، ولم أدبر لقاءنا، وإنما كان ذلك مصادفة.
وفي هذا اللقاء لا أعرف كيف جرتني هي إلى الحديث عن نفسي، ولا أعرف أيضا كيف واعدتها على اللقاء في اليوم التالي، وإن كنت أقسم أني ما رتبت أن تمضي الأمور على هذا الوضع.
وفي لقاء اليوم التالي صارحتها بحبي ... فعلت هذا، وأنا أكاد أبكي لما يريبني من تصرفاتها، وأعترف أني كنت قد فقدت كل سلطان على عقلي وأعصابي، وأعترف أيضا أن شبح سعيد ظل بيننا برغم ما أصابي من انهيار، فما لمست غير يدها في قبلة أحسست أنها أحرقت شفتي، وانتهى لقاؤنا لا كما ينتهي لقاء العشاق على وعد باللقاء، وإنما كما ينتهي غرام يائس لا خير فيه ... وكل ما فعلته بعد ذلك أنني كنت أحادثها بين الحين والحين بالتليفون، فأثرثر معها بضع دقائق، وما خطر ببالي مرة واحدة أن أطلب منها موعدا ... حتى كان يوم الثلاثاء الماضي، إذ رأيتها تجلس في سيارة إلى جانب ذلك الشاب الذي رأيناه عند سعيد منذ بضعة أسابيع، ذلك الشاب الذي قال عنه حمدي إنه قد ورث بضعة ألوف، كانا وحدهما، وكان يطوق خصرها بذراعه في طريق الصحراء، فجن جنوني، وما كاد الصباح يطلع علي حتى أمسكت بالتليفون أعاتبها في حسرة على ما رأيت، فإذا بها تنكر في شدة، وإذا بحديثنا ينتهي، وقد أغلقت المكالمة في عنف ... ثم يكون اليوم الجمعة فتصل إلي هذه الرسالة بالبريد.
ويصمت مصطفى لحظة، ثم يقول: كنت على وشك أن أذهب لسعيد لأقص عليه ما حدث لولا خشيتي مما يحل به لو عرف الحقيقة. - ماذا ستصنع إذن؟ - لا شيء، لا أعرف ماذا أصنع؟
أما أنني أبديت رأيا فيما فعله مصطفى فذلك حق، لقد صببت عليه سيلا من اللوم والتقريع ... لم ألمه لأنه أحب سهام ، بل لأنه واعدها على اللقاء.
لكني في قرارة نفسي أحسست أن ما فعله هو قد أفعله أنا، وأن الفخ الذي وقع فيه ... قد يقع فيه أي إنسان.
ولقد صدق إحساسي حين لقيت سعيدا بعد ذلك ... فإذا به يفاجئني برأيه ... لا في مصطفى فقط ... وإنما في ثلاثة غيره من أفراد شلتنا ليس فيهم أنا ولا حمدي ولا محمود.
لقد اعترفت له سهام ... اعترفت بأن عليا، وعبد القادر قد حاولا معها المحاولة نفسها وإن لم يصلا إلى قحة مصطفى ... وكان سعيد مقتنعا بما تقول؛ لأن دموع سهام قد استطاعت أن تنبت في قلبه أقسى الكراهية لهؤلاء الثلاثة.
أما أنا فقد غادرته تلك الليلة لآوي إلى داري مبكرا، ولأجلس إلى مكتبي أتأمل صورتنا ... نحن السبعة.
ومرت أيام ... أيام ثقيلة كالجبال ... لقيت خلالها عبد القادر ومصطفى وبقية الصحاب في أكثر من مكان ... إلا بيت سعيد ... وكان حمدي آخر من لقيت منهم خلال تلك الأيام ... لقيته وأنا في طريقي إلى بيت سعيد، فدعوته للذهاب معي، فإذا به يعتذر في لباقة، فلا أكاد ألح عليه حتى يقول: أوتريدني أن أصدق ما نسب إلى علي وعبد القادر؟ إن ذهابي معناه أن أصدق ما نسب إليهما، وأنا لا أصدق حرفا واحدا منه، إن أضعف الإيمان ألا تطأ قدماي بيت سعيد ...
ومضيت وحدي ... مضيت لأجد نفسي غريبا في بيت غريب حتى سعيد نفسه بدا لي غريبا في حديثه وتفكيره وتصرفاته.
وما استطاعت بسمات سهام ولباقتها ونعومتها أن تزيل وحشتي من هذا الجو الذي لا أعرف فيه إلا وجهها ووجه سعيد.
وكان سعيد فرحا في ذلك اليوم، فقد اشترى حجرة جديدة للمائدة، وكان حديثه كله عما اعتزمه هو وسهام من إعادة تأثيث البيت ... البيت الذي مر على تأثيثه عامان فقط، ومضى يصور ما سوف يبدو عليه بيته حين يعمر بالأثاث الجديد.
وخرجت قبيل منتصف الليل، واستطعت أن أنام بعد ساعة من التفكير المضطرب في كل ما حدث، وكانت هذه آخر ليلة زرت فيها سعيدا.
ظلت الصورة في مكانها في الإطار الجميل بعد ذلك، ظلت بضعة شهور حتى سقطت ذات يوم؛ إذ وهن الخيط الذي كانت معلقة به على الحائط فانقطع، ولم أجد في نفسي أية رغبة لتعليقها من جديد، فوضعتها شقيقتي في الصندوق الخشبي مع شتى الصور والمذكرات، وضعتها لتنقل معي إلى بيت الزوجية أثرا من آثار الشباب، وها أنا ذا أعيدها من جديد.
صورة السبعة الذين قتلوا قتيلا ... ويا له من قتيل غال ...
أقوى من الشرف
كان حبه لها كل شيء ... كان آماله، كان نجاحه ... كان أقوى من الشرف نفسه ... ***
حينما تحتفظ برسائل أصدقائك، فإنك تجد عملا مسليا حين تخلو لنفسك وتجلس إلى هذه الرسائل وتقلب فيها ... وتقرؤها واحدة واحدة، إن كل رسالة تستدعي بعض خواطرك عنها، وتكون معها صورة لصديق أو قصة له، ربما كانت قصة حياته كلها أحيانا ...
إني أفعل ذلك الآن، وأنا جالس إلى مكتبي في هدأة الليل لا أجد ما أعمله ... أقلب رسائل أصدقاء الزمن الماضي، لا أفض إحداها حتى تنقلني إلى ماض بعيد ... وكأنها عصا ساحر تفعل الأعاجيب، هذه رسالة من سعيد يزف إلي نبأ نجاحه في البكالوريا، إن الخواطر تتزاحم في رأسي ... ليالي المذاكرة في منزله والصحاب الأربعة الذين كانوا يذاكرون معنا ... ليالي مايو الساخنة تبعث في سحب الدخان المنعقدة في الحجرة لهبا ... فيصيح سعيد: لم لا يكون الامتحان في الشتاء؟
ويضحك إبراهيم، وهو يقول: كنا برضه حانعرق لو عملوا الامتحان في يناير.
وتتوالى الذكريات، وتدخل خلالها رسائل سعيد كأنها الأعمدة الحديدية ...
إن المذكرات والرسائل تبدوان معا كبناء ضخم ... وإني لأطوف بهذا البناء ... إني أعرفه تماما، إن خيالي يفتح أبوابا من الذكريات، وكأنه يفتح أبوابا موصدة في البناء، إنه يجوس في الحجرات والممرات والدهاليز منذ التقينا في المدرسة الخديوية عام 1929.
وفجأة تكتشف الذاكرة ذكرى مطوية، وينفرج الطريق ... هذا جناح آخر من البناء ... يقود إلى بناء آخر ... إلى حياة صديق آخر كان معنا ... هذه رسالة من سعيد تذكر لي الأيام السعيدة التي قضاها هو وعبد الجواد بالإسكندرية.
إني أذكر هذه الأيام ... كنت قد رسبت في المجموع، فكتب علي أن أقضي الصيف في القاهرة لأستعد لامتحان الدور الثاني ... إن سعيدا يكتب لي من الإسكندرية قائلا:
ليتك كنت معنا ... إننا نقضي هنا أياما لطيفة، وقد استطعت أن ألتقط من فوق رمال الشاطئ ثلاث فتيات، أوزع وقتي بينهن بالقسطاس، وأنت تعرف عبد الجواد وطبعه الحنبلي؛ فهو يصر على أن الإسكندرية بحر بالنهار، ونوم طويل بالليل ... وعبثا حاولت أن «أشبكه» مع إحدى الفتيات الثلاث ... وعلى فكرة سيعود عبد الجواد بعد باكر إلى البلد، وربما عدت أنا بعده بأيام.
إن ذاكرتي تسوق إلي القصة الآن من بدايتها ... فعبد الجواد هو صديق سعيد منذ الطفولة، وهما من بلد واحد، وقد عرفتهما في وقت واحد، وظلت صداقتنا قائمة حتى بعد أن تخرجنا في الجامعة، وتفرقنا في طلب العيش.
وشاءت الظروف أن تجمع سعيدا وعبد الجواد مرة ثانية؛ فقد نقل سعيد إلى طنطا حيث كان عبد الجواد قد فتح مكتبه، وبدأ يكون لنفسه مكانا ممتازا بين محامي المدينة، ولأدع أحد رسائل سعيد إلي تتحدث:
وتخيل عبد الجواد ... حين رآني أمامه في حجرة مكتبه بطنطا قضينا الدقائق العشر الأولى في عناق وتحيات، وقصصت عليه أني نقلت إلى طنطا، وقبل أن تمر نصف ساعة على لقائنا كنا نسير في الطريق نحو داره، وبعد الغداء قص علي نبأ خطبته لابنة لأحد معارف والده من القاهرة، إنه يستعد للزواج فعلا، وقد حضرت والدته إلى طنطا لتشرف على تأثيث منزله ... إن طنطا بديعة، ويخيل لي أني سأقضي فيها أياما سعيدة، وإن كنت أحس أني مهدد بالزواج؛ لأن صديقي الوحيد فيها سيتزوج.
وتزوج عبد الجواد فعلا، وحضرنا حفلة زفافه في القاهرة، وكانت ليلة لا ننساها أنا وسعيد؛ فقد كدنا نضرب المطرب الذي غنى في الفرح؛ لأننا طلبنا منه أغنية معينة فلم يغنها ... وقد شربنا أنا وسعيد وثملنا، ولعلنا أضحكنا الناس في تلك الليلة أكثر مما أطربهم المطرب الثقيل الظل.
وقال لي سعيد وهو يترنح ونحن في طريقنا بعد الفرح: سهرة مدهشة!
وأجبته وأنا أكثر ترنحا : تعرف يا واد أن الجواز لذيذ.
وأجابني، وقد وقف متصنعا الاتزان: على أن نحضر مدعوين فقط.
وتعالى ضحكنا، وودعت سعيدا عند باب الفندق الذي ينزل فيه، وقال لي: سأصحو مبكرا لأحضر سيارتي من الجراج، وسأتولى نقل المحكوم عليهم بالزواج إلى منزل الزوجية في طنطا بسيارتي ... لقد اتفقت مع عبد الجواد أن أمر عليه الساعة 11,30.
وضحكت لفكرة استيقاظه مبكرا؛ فقد كان الفجر يؤذن حين استأنفت أنا السير إلى منزلي ... وسافر عبد الجواد وعروسه إلى طنطا بسيارة سعيد بعد ظهر اليوم التالي، وعاشا حياة هانئة طيبة ... حياة لمست أنا مقدار بهجتها حين ذهبت إلى طنطا بعد ذلك بعدة شهور، وتغدينا ومعنا سعيد.
كان كل شيء ينطق بأن عبد الجواد سعيد ... البيت المنظم الأنيق، والعذوبة التي يتحدث بها الزوجان، ونظرات الحنان التي يتبادلانها، كل شيء يدل على أن زواج عبد الجواد كان موفقا.
وقال لي سعيد بعد ذلك إنه يقضي أغلب وقته معهما، وإنه سوف ينتهي به الأمر إلى الزواج.
وإذا ضمنت أني سأجد زوجة مثل منيرة فثق أني سأتزوج فورا، إن عبد الجواد زوج مثالي حقا؛ لكنه لم يكن ليحظى بهذه السعادة لو لم تكن زوجته بدورها زوجة مثالية.
وقص على سعيد كيف فتح زواج عبد الجواد أبواب الرزق أمامه؛ فقد اتسعت أعمال مكتبه ففكر في أن يفتح مكتبا آخر في المحلة الكبرى، وأن منيرة تشجعه على ذلك، وستسافر معه إلى المحلة لتشرف على تأثيث المكتب.
وبعد الظهر اجتمعنا، أنا وسعيد وعبد الجواد ومنيرة، في شقة سعيد لنشرب الشاي، ورأى عبد الجواد تمثالا لطيفا من البرونز على مكتب سعيد، تمثالا لفتاة تحمل قيثارة، أعجب به، وسأل سعيدا من أين اشتراه؟ وصمت سعيد برهة، ثم قال: تعرف لقد كنت أفكر منذ مدة عن مكان هذا التمثال الملائم، لقد تذكرت الآن أنه ظهر البيانو الفخم في منزل الأستاذ عبد الجواد، يجب أن نصحح الأوضاع.
وحمل عبد الجواد التمثال بعد إلحاح سعيد إلى منزله، وقال سعيد وهو يودعني على محطة طنطا: كنت أبحث عن مكان نظيف أضع فيه هذا الأثر الغالي، الحمد لله الذي أعجبهم التمثال ... أنت تعرف كم هو غال عندي.
وكنت أعرف فعلا قصة هذا التمثال ... إنه الأثر الباقي لسعيد من شقيقه الذي توفي في باريس منذ أعوام، وهو يدرس الفن ... التذكار الوحيد الذي أرسله لسعيد قبيل وفاته بأسابيع ... وكان سعيد يحتفظ به، ويحرص عليه.
إن حياة الزوجين تمضي في طريقها، ورسائل سعيد تصل حلقات الذكريات ... في كل منها ذكر لعبد الجواد وأخباره، لقد أصبح عبد الجواد من أشهر محامي طنطا، ونجح مكتبه في المحلة، وهو يذهب إلى المحلة ثلاث مرات في الأسبوع ... وفي كل رسالة من رسائل سعيد يأتي ذكر عبد الجواد، فهو منذ حضرت شقيقته لتقيم معه في طنطا يرى عبد الجواد وزوجته كل يوم تقريبا، بل يقضيان معا أغلب الليالي ... وفي إحدى هذه الرسائل يقول: ... إننا الآن كأسرة واحدة، وقد كان لمنيرة الفضل الأكبر في أن تنسى شقيقتي نكبتها في زواجها فهي تزورها باستمرار، وحينما تضطر للبقاء في المنزل تصر على أن تدعو شقيقتي لتقضي اليوم معها ... كنت وعدتنا أن تحضر في شم النسيم، فأرجو ألا تنسى وعدك، وسوف تحضر شقيقتي الصغرى وزوجها وأخي أحمد، وربما حضرت والدتي أيضا، وستكون فرصة لترى أسرتي ما دمت لا تراها، ولا تزور أحدا منهم في القاهرة.
وقد وفيت بالوعد، وذهبت لأقضي مع الصحاب شم النسيم في حديقة أحد أصحاب سعيد من أعيان طنطا، وكان يوما لطيفا، وقص علي سعيد ما لم يخبرني به من قصة شقيقته؛ فقد كانت متزوجة برجل محترم يشغل منصبا كبيرا، ثم دب بينهما الخلاف أخيرا؛ إذ نقلت إليها إحدى صديقاتها نبأ علاقة بين زوجها وإحدى الراقصات مما أثارها، وعبثا ذهبت الجهود لإصلاح ما بين الزوجين؛ فقد أصرت على الطلاق، وتم الطلاق فعلا، وقد دعاها سعيد للإقامة معه فترة لتسري عن نفسها ... فقد كانت المسكينة تحب زوجها برغم كل ذلك، وبعد شم النسيم جاءتني رسالتان من سعيد خلال شهر، وإني أعترف أن شيئا في الرسالتين لم يسترع اهتمامي أول الأمر ؛ في الأولى يجيء ذكر عبد الجواد وزوجته في سطر واحد، مجرد ملء خانة تعود أن يملأها سعيد ... ... سافرت شقيقتي إلى مصر؛ لأن موعد نظر القضية التي رفعتها لضم طفليها إليها قد حان، وقد زرنا عبد الجواد، وودعتهما شقيقتي، وهما بخير، وقد قال لي عبد الجواد إنه كتب لك ليهنئك بالدرجة.
أما الرسالة الثانية، فقد كانت بعد ذلك بأسبوعين، وكنت قد سمعت أن شقيقته قد ربحت قضيتها، وحكمت المحكمة لها بضم الطفلين، فكتبت لسعيد أهنئه بهذا النصر السخيف خصوصا، وأنه كان مهتما بالقضية اهتماما كبيرا، مصدره لهفة أخته على طفليها الصغيرين اللذين انتزعهما الأب منها وأخفاهما عنها، وكتب سعيد يرد على رسالتي وينبئني بمساعي الصلح التي يبذلها زوج شقيقته، وأنه كتب لأبيه بألا يتشدد، وأن الأولى أن يتصالح الزوجان بعد أن رأى بعينيه مدى حالة أخته بعد الطلاق، وفي هذه الرسالة ورد ذكر عبد الجواد مرة واحدة، وفي جملة واحدة. ... زرت عبد الجواد أمس، وهو يهديك أزكى تحياته ...
أما ما وراء هذا التطور في رسائل سعيد فهو أن عبد الجواد اضطر إلى أن يزيد نشاطه في مكتبه في المحلة، وأصبح يذهب إليها أربعة أيام في الأسبوع، وبدأ يركز قضاياه في يومين في طنطا هما الأربعاء والخميس، ثم يسافر السبت والأحد والاثنين والثلاثاء إلى المحلة، يسافر كل يوم بأول قطار، ويعود آخر النهار؛ ولذلك وجد سعيد أنه من الإرهاق أن يزوره في غير أيام الخميس أو الجمعة، وكان يحضر إلى مصر في كل أسبوعين مرة، فأصبح بذلك لا يزور عبد الجواد إلا كل أسبوعين مرة ... إن الحياة مشاغل ... هكذا قال لي سعيد، وهو يحدثني عن تزايد عمل عبد الجواد، وعن انشغاله هو في عمله المصلحي:
تصور أنني أذهب إلى مكتبي صباحا ومساء بعد أن مرض أحد زملائي، وتحولت علي أعماله.
إن كل شيء يمضي في طريقه طبيعيا حتى تصل إلي هذه الرسالة التي أقرؤها الآن ... أقرؤها متماسكا شعوري، وأكاد أتخيل شعور سعيد الذي تنم عليه سطور رسالته ...
إني اكتب لك هذه الرسالة ، وأنا أكاد أحترق من الحيرة والقلق ... ولا أدري هل لي الحق في هذه الحيرة أو لا؟ لقد حاولت أنا شخصيا أن أصل إلى تفسير فلم أوفق، ودعني أقص عليك ما حدث أولا، وأرجوك إذا اهتديت إلى حل أن تخبرني به ... إنني شخصيا لا أجد حلا ... ولا تعليلا.
في الأسبوع الماضي خرجت يوم الثلاثاء من مكتبي في الساعة الثانية عشرة ظهرا، وكان معي أحد زملائي في العمل لنقوم بمعاينة منزل تريد أن تشتريه الحكومة، فوجدت منيرة تغادر منزلا من المنازل الجديدة التي بنيت في نهاية شارع «...» هذا ما حدث في صورته المبسطة ... وما رأيته ... فلم يلفت نظري بالمرة، خصوصا وأن منيرة لم ترني ... وفي عصر ذلك اليوم مر علي بالمنزل عبد الجواد ليدعوني للعشاء احتفالا بعيد زواجه زاعما أنه قد أخفى ذلك على زوجته ليفاجئها، وأخفاه علي لكيلا أتعب نفسي في إحضار هدية والوقت آخر شهر، وذهبنا للعشاء، وقضينا وقتا لطيفا، ونسيت بالمرة أني رأيت منيرة في الصباح، نسيت ... لولا أن طرق أذني صوت منيرة تقول لزوجها: زرت اليوم أسما هانم، وقضيت عندها ساعتين، وقد تحسنت صحتها، ويقول الدكتور إنها ستغادر الفراش بعد شهر على الأكثر.
وأنت لا تعرف أسما هانم بالطبع ... ولكني أعرف أنها زوجة القاضي الشرعي، وهي سيدة محافظة، وهذا لا يهمك بالطبع لكن المهم هو أن أسما هانم هذه تسكن في ناحية نائية من مدينة طنطا، في الطرف الآخر من المدينة، ذكرت إذ ذاك فقط ما حدث ظهر ذلك اليوم، وقفز إلى ذهني ما لم ألتفت إليه أول الأمر ... المنزل الذي رأيت منيرة تغادره، إنني أعرف من يقطنه، في الدور الأعلى أحد تجار المدينة متزوج بسيدة يونانية لا تزور أحدا أبدا، وهي لا تتكلم العربية، ولم يمض على زواجهما شهور، وفي الدور الثاني يقيم عبد الستار أفندي كبير كتاب المحكمة الأهلية، وهو رجل محافظ، حتى إن نوافذه على الشارع لا تفتح أبدا ... ولا أعرف أن زوجته صديقة لمنيرة ... ويبقى بعد ذلك الدور الأول ... إن ساكنه هو الشاب الرقيع الدكتور محجوب، ولا إخالك قد نسيته، إنه صاحب صديقنا حسان، وصاحب الحديقة التي قضينا فيها شم النسيم، والذي كاد يقتلنا أنا وأنت بنظرته، ولا أدري كيف يطيقه حسان، هل يمكن أنك ستقول ذلك ... وأنا أيضا قلت ذلك لنفسي أكثر من مرة، واستبعدته بعنف أكثر من مرة لكنه مع ذلك كان، وللأسف الشديد، الحقيقة بعينها ... فمنيرة تذهب إلى هذا الوغد في منزله، وإليك البرهان
فقد دعاني حسان بعد ذلك بيومين لسهرة عنيفة في منزله ... سهرة وجدت فيها الدكتور محجوب، وأخذنا نشرب ... أنت تعرف أني أقلعت عن الإفراط في الشرب؛ لذلك شربت كأسين فقط ... أما هو وحسان فقد شربا حتى ثملا، وأخذا يثرثران ... وسمعت وسط الثرثرة لسان هذا النذل يلفظ اسم منيرة، فاعتدلت في جلستي، ويظهر أنه لحظ ذلك مني، فحاول أن يدير الحديث، ولا أدري من أين جاءني الدهاء إذ ذاك ... لقد ابتسمت ونظرت إليه في خبث، وقلت له: سبحان الله ... حانخبي على بعض ... ما إحنا عارفين ... وكأني بذلك قلت له كلمة السر ... فقد انطلق في عنف يمزق الثوب الأبيض الجميل، ثوب الطهارة الذي كانت تتشح به منيرة أمام عيني، لقد تعرف بها قبل أن تتزوج، ثم رآها في طنطا، وجددا عهد الصداقة ... جدداه في هذه المرة على حساب صديقنا عبد الجواد المسكين، إنه هو الذي يهمني في الموضوع، إنني أكتب لك هذه الرسالة، وأنا لا أكاد أتصور كيف سأرى منيرة بعد ذلك؟ وهل سأتمالك نفسي عن احتقارها؟ ... اليوم هو الأربعاء والمفروض أنني سأراها غدا ... سأراها وهي تبتسم في حنان، وتتكلم في عذوبة تفيض على عبد الجواد المخدوع، فلا يدري شيئا مما حوله ... إني أكاد أنفطر حزنا، وأتفجر غيظا، ولن أستطيع أن أكتم الأمر عن عبد الجواد طويلا، خير له أن يعرفه مني وبطريقتي الخاصة، من أن يعرفه قصة فاضحة تملأ كل الأسماع قبل أن تصل إليه، عندئذ سيكون الوقت قد فات لإنقاذ سمعته ...
إني أذكر الآن كيف فجعني هذا النبأ، ليس من أجل عبد الجواد، ولكن فجيعتي العظمى كانت في منيرة، تلك السيدة التي احترمتها لأنها زوجة طيبة، فإذا بها تنهار أمام عيني كما ينهار تمثال من الرمل، وراعتني فكرة سعيد، ولم أكن أرى رأيه في إطلاع عبد الجواد، وكنت أظن أن محاولة مع منيرة، محاولة لتقويمها، قد تجدي، ولقد كتبت لسعيد فعلا، وأعترف أني لم أكن مقتنعا بأن مثل هذه الزلة ممكن إصلاحها؛ لذلك كانت رسالتي، على ما أذكر، مجرد دعوة إلى التمهل والتريث، ولم أقترح عليه أن يواجه منيرة بجرمها ... وتخيلت موقفي أنا لو أن زوجتي خانتني، فوجدتني أوثر ألف مرة أن أعرف خيانتها، وأضع حدا لصلتها بي، ذلك خير ألف مرة من أن أكون الزوج المخدوع.
وسبق السيف العذل ... فقد وصلت رسالتي لسعيد بعد أن كان قد قام، كصديق شهم يغار على عرض صديقه، بإطلاع عبد الجواد على كل شيء.
واعترفت منيرة ... وكتب سعيد في رسالته التالية يقول: ... أؤكد لك أني أحسنت صنعا ... لقد ماتت الفضيحة في مهدها ... واجه عبد الجواد زوجته فاعترفت، وعرض عليها الطلاق فقبلت، وقد تم كل شيء في هدوء ودون ضجة، وعادت منيرة أمس إلى القاهرة، وكان الله في عون عبد الجواد في الأيام القليلة المقبلة ... إنه سوف يعاني بضعة أيام، ثم ينسى ... وأنا لا أغادره دقيقة واحدة، لقد كانت الصدمة قوية عليه، لكن عبد الجواد رجل وسوف يفيق منها.
هل أفاق عبد الجواد؟
لقد ظننت ذلك كما ظن سعيد، ولكن ما حدث بعد ذلك كان مروعا ... لقد أخذ يصفي أعماله في مكتب المحلة بحجة أن أعصابه لا تحتمل كثرة السفر، وفي طنطا ظل مكتبه ناجحا، ولكنه اختفى عن أنظار أصدقائه؛ فكان يأوي كل مساء إلى منزله فلا يغادره ... وقد أحس سعيد نفسه بعد مدة أن عبد الجواد يؤثر أن ينفرد بنفسه، فكتب إلي في إحدى رسائله يقول:
لا أدري ماذا حل بعبد الجواد ... إنه انقطع عن كل الناس حتى عني أنا ... إنه يزعم أن وراءه عملا كثيرا، وأنه يشتغل في المنزل ... لقد زرته مرتين، فأحسست أنه يتمنى لو تنتهي زيارتي سريعا.
وقابلت عبد الجواد بعد ذلك في القاهرة فراعني لقاؤه الفاتر، وتحيته السريعة، وشرود ذهنه، ثم تعجله الانصراف ... إن الحوادث التالية كشفت عما تطور إليه حال عبد الجواد، فبعد عام واحد كتب إلي سعيد:
لقد صفى عبد الجواد أعماله في طنطا لكي يفتتح مكتبا فخما في القاهرة، وأنا لا أرى في ذلك خطأ فعبد الجواد محام ناجح، وميدان القاهرة أوسع، ومنه ينتقل لميادين كثيرة من النشاط ... ربما كان النشاط السياسي أحدها ... وهذا الميدان يوصل كما تعرف إلى الوزارة أحيانا، ولعلك تذكر أن عبد الجواد كان يتمنى دائما أن يصبح وزيرا للعدل؛ لأن قوانين كثيرة في حاجة إلى الإصلاح والتعديل، وسوف يكون هو الوزير الذي يجرؤ على إجراء هذا التعديل.
هذا ما قاله سعيد في رسالته، أما ما رأيته أنا فقد كان عبد الجواد نفسه ... بعد هذه الرسالة بأيام، رأيته يجلس على مقهى في شارع عماد الدين، لقد هب للقائي، وبعكس لقائه الأول أحسست أنه يريد أن يثرثر معي فجلست، وأخذ يحدثني عن مشروعاته ... إنه سيفتتح مكتبا كبيرا في القاهرة في أفخم حي من أحيائها، وسيشتغل إلى جانب ذلك بالتجارة، ويحشر نفسه في الأوساط الاقتصادية، لقد كان نجاحه في طنطا سهلا، وسوف يكون نجاحه في القاهرة أسهل، وتركت عبد الجواد تلك الليلة، وأنا مغتبط حقا بقوته واحتماله وروحه المتجددة، وتمنيت له التوفيق في حياته الجديدة ... وقابلت عبد الجواد بعد ذلك ثلاث مرات في المقهى نفسه، وكان كما قال لي يعد العدة لإنشاء مكتبه الجديد، وأخذ يذكر لي الأماكن التي رآها، والأحياء التي سيختار في أحدها مكتبه ... وكان يحمل في جيبه رسوما لتصميم حجرة المكتب، وغرف الموظفين، وصالون فاخر لاستقبال زوار المكتب.
ومر عام، ورأيت عبد الجواد في المقهى نفسه، كان يجلس إلى ثلاثة من أصدقائه قدمني إليهم، وأعترف أن اسما منهم لم يسترع انتباهي، وإنما استرعى انتباهي هيئة هؤلاء الأصدقاء ... ملابسهم الرثة، وطريقة حديثهم، ليس فيهم محام واحد من زملائه ... كلهم أساتذة، ولكنني لم أعرف في أي شيء ... إن طريقة حديث عبد الجواد نفسها لم تعجبني ، ثم كئوس الخمر الفارغة على المائدة، وأطباق المزة، إن الجو كان جو سهرة لا جو حديث عن العمل.
ومال علي عبد الجواد هامسا: الأستاذ الانصاري ده تاجر مهول، وحايشترك معايا ...
وكنت على وشك أن أسأله، عما تم بمكتب المحاماة، لولا أن استطرد هو: وعلى فكرة أنا قررت أن أترك المحاماة.
ونهضت بعد مدة وجيزة، وقد تملكني الأسى، إلى أين يسير عبد الجواد؟ ترى هل هو يحطم حياته الآن؟ أو هو يبني حياة جديدة حقا؟
إنه كان يحطم حياته إذ ذاك، كان يقوض البناء الضخم الذي شاده منذ ولج باب المدرسة طفلا ... إلى يوم أصبح محاميا ممتازا ... كان يقوضه في نوبة يأس كما يقوض المثال التمثال الرائع حين يجحد الناس عمله.
أجل كان يهوي على ماضيه المجيد بالمعول ... كان يهوي ببطء، ولكن في قسوة وعنف ... لم يستأجر مكتبا للمحاماة، وإنما ظل يقضي يومه على المقهي، وتدرج من الكأس إلى الكئوس، وتهاوى ما جمعه من مال، والتف به هؤلاء الأوغاد الذين أسماهم أساتذة فعجلوا بإفلاسه.
إن الثقافة والعلم والمدنية وكل صفات الفضيلة ... بل كل ملكات العقل نفسه ليست سوى عادات تقتلها عادات مضادة، لنأخذ النظافة مثلا ... رباط الرقبة الأنيق ... وإني لأذكر كيف كان عبد الجواد يعتني برباط رقبته، وأذكر كيف كان يعتني بوضع منديله الحريري في جيب الصدر، إن عبد الجواد هذا اختفى بعد عامين ليحل محله شخص مهمل الهندام قد تعقد رباط رقبته، وتدلي إلى صدره، وتكوم منديل الصدر، كأنه خرقة تطل من الجيب، إن سحب الفاقة لم تجر ذيولها على ثيابه فحسب، وإنما مشت إلى عقله ... عقله المرتب المنظم الذي يسكب أفكاره على لسانه في أناقة وتمهل قد استحال خلية نحل اختلطت بها معارفه.
لكأن عقله قد اهتز هزة عنيفة خلطت ما فيه خلطا فظيعا، وأسالته في عنف على لسانه ... إنه يثرثر ... عبد الجواد المنطقي المحاذر قد أضحى ثرثارا مشوش الحديث ... حتى لغته المهذبة قد حلت محلها لغة سوقية لا يتكلم بها المتعلمون.
كذبت نفسي حين لقيته بعد ذلك عدة مرات في أن الذي أراه وأحدثه هو عبد الجواد، وفي كل مرة كنت أراه أحس أن شيئا قد اختفى من معالم الصديق القديم، حتى استحالت علي معرفته ذات يوم، وحتى اضطر أن يناديني مرة، وهو يعبر الطريق قائلا: أنت نسيتني؟
وقلت في حرج: أنا أبدا ... إنني لم أرك.
وكاد لساني يقول: لم أعرفك، وكرر وهو يرتعش: لا أبدا، أنت نسيتني ... نسيت عبد الجواد.
وكدت أقول له إنه هو الذي نسي، بل نسي عمره، أو أنسي هذا العمر، فأخذ جسده يرتعش كأنه شيخ محطم بال ... - أنت معاك فكة؟
وترنحت لحظة ... هذه اللهجة أعرفها ... أعرفها من طبقة معينة من الأفاقين ... طائفة تجلس أحيانا إلى جانبك في المقهى، أو تلقاك في الطريق ... أو تزورك في مكتبك، طائفة تعرف واحدا منها بلا شك إذا كنت من رواد المقاهي أو الملاهي ... بعضهم أنيق وجيه، وبعضهم مهلهل الثياب، لكنهم جميعا يتساوون في الاستجداء بنفس التعبير الأنيق الوجيه. - معاك فكة؟
لكن عبد الجواد ليس أفاقا ... ومددت يدي فأخرجت حافظة نقودي، وفتحتها لعبد الجواد ... وقال عبد الجواد، وهو يمد يده: لا ... أنا عايز خمسين قرش بس ... متشكر.
ولوى وجهه وسار، واستطعت أن ألمح قطرات الدم الأحمر الباقية في عروقه، وهي تصعد إلى وجنتيه ضعيفة باهتة ... إنها قطرات خجل، على أي حال ... ما زال هناك ... وراءها ... أثر من عبد الجواد الصديق.
لكن هذا الأثر اختفى على مر الأيام ... وأصبح عبد الجواد أقل حياء وخجلا ... وأعترف أنني بدأت أضيق بسطواته ... وأنني قصرت محفظتي، وبدأت أحدد بنفسي ما أعطيه له ... ثلاثين قرشا ... عشرين قرشا ... عشرة ... خمسة.
ثم ... ثم وجدته يترنح من السكر ذات مرة، وأشفقت على أمعائه من السم الزعاف الذي تستطيع أن تقدمه له القروش الخمسة، فقلت: ليس معي فكة يا عبد الجواد.
ولم يكن في العروق قطرات باقية من الدم الأحمر، ولم يلو وجهه، وإنما قال: ولا قرشين صاغ؟
ودفعت له بضعة قروش، وسرت في طريقي.
بدت لي الحياة إذ ذاك شائهة دميمة ... دمامة حاضر عبد الجواد المعتم القذر ... الحمد لله ... هكذا يدفعنا حب الذات أحيانا كلما قارنا بين أنفسنا وبين غيرنا من المنكودين لأن نقول: الحمد لله! إن الله يعلم أن في هذه الحمد أحيانا من الملق أكثر مما فيه من الإيمان، إني أجمع الآن حزمة الرسائل من جديد، رسائل الأصدقاء، وأضعها في الصندوق، وكأني أضع الماضي خلف ظهري ... وأحاول أن أنسي قصة عبد الجواد بعد أن انتهت ... بعد أن جست خلالها، ما أعتم حجراتها الأخيرة، وما أفسد هواءها، إني لأحس حاجة لكي أخرج إلى الحياة ... إلى الهواء والنور بعد هذا الظلام ...
وربما ظن من يقرأ هذه السطور أني قصرت في سرد القصة، لقد ألف الناس أن يطووا أبطال القصص في الأكفان، أو يكسوهم ثياب الزفاف ... أو يصعدوا بهم إلى أعلى درجات المجد، أو يهبطوا بهم إلى أسفل دركات الحضيض ... ألف الناس دائما أن يعرفوا مصير أبطال القصص ... إن مصير عبد الجواد هو هذا الحضيض حيث خلفته تلك الليلة يجر قدميه المرتعشتين ويتجه، وقد أمسك بالقروش في يده المتدلية نحو أقرب حان، وحين خلفته بعد ذلك عشرات المرات يسير في الطريق نفسه، وقد ازداد انهيارا ... وإني لأذكر آخر ذكريات شبحه المتداعي، يوم مر علي عبد الجواد ساعة الغروب، وأنا جالس أقطع الوقت في انتظار موعد ... كان المقهى خاليا فدعوته إلى الجلوس وطلبت له فنجانا من القهوة، وأخذت أستمع إلى ثرثرته ... ثم سألته وقد حان موعدي وتأهبت للخروج: ألا ترى منيرة أبدا يا عبد الجواد؟
إنه لم يجب على سؤالي، وإنما ضحك ... ثم مرت بجبينه سحابة كئيبة سرعان ما اختفت، وعاد إلى ضحكه ... وما زلت أذكر نظرته التي صحبت هذه السحابة ... لقد كانت نظرة رأيت فيها عبد الجواد الذي أعرفه ... نظرة فيها معنى هائل، نظرة تجعلني إلى الآن كلما ذكرت عبد الجواد أسأل نفسي هذا السؤال: ترى إلى أي مدى أصاب سعيد حين صارح عبد الجواد بخيانة منيرة؟ إني لأشك أحيانا أنه أصاب.
جاء الخريف
عبث بربيع حياته حتى إذا جاء الخريف وجد نفسه وحيدا ... كالورقة الذابلة ... ***
في سن الثامنة عشرة تتجرد الفتاة من الجمال، ولكنها مع ذلك ككل فتاة، تحتفظ بشيء نادر يضفي على الدمامة نفسها أحيانا شيئا من السحر، ولقد كانت إقبال من هذا النوع مع تعديل بسيط هو أنها ليست دميمة ... كانت تتمتع بالشباب وبعدم الدمامة معا، وكان فيها هذا السحر اللازم لغير الموهوبات من شابات الطبقة المتوسطة ... مجرد فتاة وعاطفة تسند الغرائز، وتقف إلى جانبها إذا ما صرخت ...
وقامت إقبال بمهمتها في الحياة خير قيام، وكانت المدرسة تتحدث عن إقبال ومغامرتها كما تتحدث عن أعلام السياسة ونجوم السينما، مخلوق غريب ليس من طينة الطالبات، وإنما هي عجينة أخرى ... عجينة مرنة كالمطاط تسمح بتسلق الأسوار والقفز من النافذة والخروج من عنبر النوم في أعماق الليل زحفا على أطرافها، كما تزحف الأفاعي حينما يدفأ جو الغرفة بأنفاس الطالبات الغارقات في الرقاد.
وفي يوم من أيام الشتاء الباردة، زحفت إقبال من عنبر النوم، وخرجت إلى الحديقة، وتسلقت السور، وهبطت عند الشجرة الملاصقة للحوش الخلفي للمدرسة، وقابل آدم حواء، وخرجا لا من الجنة ... وإنما من القاهرة وضواحيها في مغامرة كانت آخر مغامرات إقبال المدرسية، مغامرة عادت منها إلى بيت آدم ذليلة كسيرة؛ لتلقى مصير كل امرأة تسلم نفسها إلى رجل قبل عقد الزواج ... وقال آدم، واسمه الحقيقي حسين، لحواء المخدوعة ذات يوم: رفضت أمي أن تزورني لقضاء بضعة أيام عندي وسكت ... وفهمت إقبال، لأنها لم تكن غبية، ما يعني وقالت: سأذهب عند سميرة بضعة أيام ...
وعلقت في انكسار وأسى، وقد غاص صوتها في أعماق نفسها الجريح: إن أمك على حق، كيف تأتي وسيدة البيت امرأة غير مشروعة.
ومن الإنصاف لحسين أن نقول إنه تأثر لتعليقها ورثى لحالها دون أن يربط في هذا الرثاء بين حياته وبينها ... حتى لقد فزع من مجرد تخيلها سيدة مشروعة لبيته هو ... إنه تخيل ذلك لكن كما يتخيل الإنسان حلما مفزعا سوف يمر به خلال الليل ... حلما لا يراه، ويتمنى ألا يراه، ومع هذا فقد تحقق الحلم المفزع بعد هذا الحديث بأيام على ثلاث خطوات ... كانت الخطوة الأولى يوم قالت له أمه حين ودعته في طريقها إلى القرية: لكم أتمنى لو تستقر حياتك يا ولدي ... إن رائحة بيتك تنقصها أنفاس امرأة ...
وأوشك أن يقول لها إنه كره رائحة هذا البيت لكثرة ما تردد فيه نفس إقبال، ولكنه ابتسم وسكت وكان هذا جوابه منذ سنوات كلما حدثته عن المرأة التي يجب أن تملأ فراغ البيت، وتغمره بأنفاسها الزكية ...
ولكن حينما احتواه البيت وحده أخذ يتأمل موقفه من إقبال، وقد أحس فعلا خلال اليومين اللذين قضاهما وحيدا بعد سفر أمه، وقبل أن تعود إقبال، أحس أن إقبال كائن في حياته، إنها تغنيه عن خادمة طوال أيام الأسبوع، وتغنيه عن الغسالة يوم الثلاثاء ... وتغنيه عن خائط الثياب، أجل إنه الآن فعلا يرتدي جلبابا من صنع يديها، وجواربه لا يحس يوما أنها تمزقت ...
ما أعظم فوائد إقبال! وكانت هذه الجملة التي دارت في رأسه دون أن تخرج على لسانه أول خطوة في تحقق الحلم المفزع ...
أما الخطوة الثانية فقد كانت بعد ذلك بشهور قلائل، فلأمر ما غضب حسين من إقبال فطردها من منزله، وأوت إقبال إلى منزل خالتها بضعة أيام، ثم انتقلت إلى منزل شقيقتها، ولم تجد غير ما وجدته عند خالتها من فتور وجفاء، فلم تلجأ إلى حسين توا، وإنما لجأت إلى أحد أصدقائه وإلى صديق ثان، ثم إلى صديق ثالث، وتجمع أصدقاء حسين عليه يدافعون عن حق الفتاة المهضوم، وشرفها المضاع ...
قال أحد أصدقائه: إنه ليس رجلا إن ترك إقبال تتضور، وهو الذي خرج بها من مدرستها، وفرق بينها وبين أهلها ...
وقال الثاني: أنه لو كان منه لما تردد في الزواج منها لحظة.
وقال الثالث: إنه يستطيع أن يحتفظ بها في منزله، ثم يعيش بعد ذلك الحياة التي يريدها ...
وكان الثالث أقرب أصدقائه إلى منطقه ... منطق الرجل ذي الخامسة والثلاثين الذي أشرقت له الحياة، وطلعت عليه شمسها بالدفء، الحياة التي يريدها خارج المنزل، والزوجة التي يريدها رجل في مثل تحرره وانطلاقه، إن إقبال فعلا هي مثال هذه الزوجة، وهل تستطيع أن تكون غير ذلك؟ غير الزوجة من الجانب المادي البحت؟ المرأة التي تعمل بالنهار في المنزل، وتأوي آخر الليل قريبا من الفراش تنتظر بجوار النافذة عودة السيد؟
لقد عاش حسين سيدا فعلا، إذا كان السيد هو الرجل الذي يملك كل الحقوق وتخطئه كل الواجبات ... كما عاشت إقبال الرقيق الذي يشتريه الرجل بمغامرة في الغابات، أو بدفع ثمنه نقدا على يد مأذون.
وكانت إقبال من النوع الأول، رقيق مغامر، صك امتلاكه غير مكتوب.
حتى جاء يوم نقل فيه حسين إلى وظيفة تفرض في صاحبها حسن السمعة، فقضى فيها عاما يقدم فيه إقبال إلى أصدقائه على أنها زوجته، فلما لم يجد غضاضة على مسمعه من تلقيبها بالزوجة، ذهب بها يوما إلى المأذون، وعاد بها زوجة شرعية، قد تم تدريبها على أن تقوم بدور الرقيق الذليل ...
ولم يغير عقد الزواج شيئا من أوضاع البيت، فقد ظلت إقبال في مكانها على هامش حياة حسين، والسهم الأخير في جعبة غرائزه، والمخلوق الأخير الذي يفكر فيه ...
وكان الذين يعرفون حسين جيدا يدركون مسرحياته المزدوجة، حياة الزوج الذي يعيش كالغراب، أما الذين لا يعرفونه فكانوا يرون في إقبال زوجة مثالية يحتاج إلى مثلها كل زوج متحرر يحب الانطلاق.
وفي ظلال هذه الزوجة الفريدة عرفت حسين، عرفته في إحدى السهرات، وكانت تجذبني إلى معرفته مقالاته الرنانة في الصحف عن الفن والحياة الفنية، وحديث مغامراته التي لا يخلو منها مجلس، وازداد تعلقي به حين عرفته، فوجدت في حديثه ومجلسه أكثر مما يسود ما يكتبه من مرح، وحببه إلي ميله إلى الدعابة في كل شيء والسخرية بكل شيء.
كنت إذ ذاك في شرخ الشباب، وكانت الحياة في نظري ميدانا فسيحا من العبث أن نملأه بالجد، وطريقا طويلا لن نقوى على قطعه صامتين، وأمثال حسين بلا شك يفهمون جيدا أن الطريق طويل ممل لن يؤنس وحشته إلا رنين الضحكات، وأمثالي أنا، وأنا أصغر من حسين ببضع سنوات في حاجة إلى دراسة فلسفته وحياته لينسجوا على منوالها ...
وقلت لحسين ذات ليلة: أنت تعجبني في الحياة، وإني لأعجب كيف تسوس حياتك؟ ألا تحاسبك زوجك حينما تعود إلى البيت ساعات الفجر؟ قل لي بالله ماذا تفعل حين ترى وجهك في الصباح؟
فأجابني وهو يضحك: تفعل! تعد لي طعام الإفطار، وتتسلم مني مصروف البيت، وتقص علي ما فعلت في أمسها، وتسألني بين الحين والحين ثوبا أو حلية، ماذا تريدها أن تفعل؟ - تغضب مثلا أو تحاسبك؟ - تحاسبني على ماذا؟ على أني أستمتع بربيع حياتي؟
ولم ينتظر جوابي، بل مضى يضحك حتى إذا أفرغ من صدره قدرا من المرح، مضى يقص علي قصة زواجه بإقبال ... تلك القصة التي رويتها لك، والتي ينزل عليها ستار الفصل الأول من حياة حسين.
أما الفصل الثاني، فإنه يبدأ دون جلبة ولا مقدمة، بل حتى ولا استراحة قصيرة ... إنه مجرد امتداد لنهاية الفصل الأول، فحسين يعيش كما هو ناعما بكل ما في الحياة من متعة، يستطيع أن يهبها له المال والاسم اللامع، إن عيب هذا الفصل هو أنه طويل وممل، ومناظره متكررة ... بل هو منظر واحد يتكرر، حسين ينتقل من مغامرة غرامية غريبة إلى أخرى، مثيرا حول اسمه دائما ضجة ولمعانا، والفضائح كما نعرف جميعا تضفي على الأفراد ثوبا يجعلهم في نظرنا شيئا غير البشر، ثوبا من النور يجذب فراشات الليل الضالة ... وكم من فراشة احترقت على حافة الثوب المنير، ولم تلبث على غلالته إلا ريثما تمر بها ريح عابرة، أو تطؤها أقدام فراشة أخرى ضالة ...
هذا هو الجزء الأيمن من المنظر، الجزء الواقع بعد باب منزل حسين مباشرة ...
أما الجزء الثاني، فهو إقبال في البيت تتلقى كل مغامرة من مغامرات حسين على أفواه صديقاتها، وفي صفحات الصحف، وهي أقل اكتراثا من خادمة، تسمع بأنباء غرامياته صاغرة ساكنة، وكأنما تؤمن إيمانا راسخا بأن كل مزاياها كزوجة هي خضوعها كرقيق ليس عليه أن يحس أو يتألم ...
إنك ستلحظ بعض التغيير قبل نهاية هذا الفصل، لقد استغرق فعلا اثني عشر عاما رتيبة تمضي على منوال واحد، لكن العام الأخير في هذا الفصل طويل تدب فيه الشعرات البيض في مفرق حسين، ويمضي دبيبها إلى جسمه وبشرته في بضع نفضات تعلو جبينه وتنتشر على صفحته ...
ليس هذا فحسب ... لقد بدأ حسين يعود إلى المنزل في ساعة مبكرة، وبدأت إقبال تقضي لياليها لا إلى جوار النافذة تنتظر، وإنما إلى جوار حسين تتحدث معه ... حتى صوته نفسه بدأ يتخذ لهجة أرق، ونغمة غير نغمة الأمر والنهي التي ألفتها خلال الأعوام الماضية.
هناك تغيير آخر لم تلحظه إقبال، وإنما أحسه حسين، هذه العاطفة التي بدأت تشغل قلبه وفكره نحو إقبال ... إنه لم يستطع أن يسميها حبا.
وفي نهاية هذا الفصل تبدو هذه العاطفة غامضة غير واضحة، إن مظهرها الوحيد هو هذا الميل الطارئ في الركون إلى المنزل والحديث إلى إقبال، والهدايا الصغيرة التي بدأ يحملها إليها، ونستطيع نحن أن ندع حسين، وقد بدأ يعتمل في صدره هذا التغيير، وإقبال وقد بدأ يطرأ عليها تغيير آخر ... تغيير من الصعب علينا أن نتبينه؛ لأن مظاهره لم تخرج بعد إلى عالم الوجود ...
وفي هذا الجو ينزل الستار على الفصل الثاني، ويرفع عن الفصل الثالث ... إن أثاثه هو نفس أثاث حسين في الفصلين السابقين ... وسنلحظ أول ما نلحظ قطعة واحدة قد زادت في الأثاث هي التليفون ... وربما عاوننا على استساغة الحوار والحوادث في هذا الفصل الأخير أن نعلم أن حسينا قد أدخل التليفون تحقيقا لرغبة نفسه في أن يتصل بإقبال في ساعات عمله ليسمع صوتها ... إن صوتها أصبح ضروريا لتنتعش نفسه.
أما ملابس هذا الفصل فقد تغيرت فعلا؛ فإقبال أصبحت شيئا آخر بما طرأ على ملابسها من تغيير ... إن الصنبور الذي كان يصب الذهب في الحانات والسهرات قد انتقلت فوهته، وبدأ يصب الذهب في أماكن أخرى؛ عند حائكة ثياب إقبال، وعند صائغ الحلي الذي ملأ معصمها وجيدها بالحلي والجواهر ... إنك لن ترى هذا الصنبور بالطبع، ولكنك سترى إقبال نفسها غارقة في السيل الذي انهمر من فوهته ... وليس هذا هو كل ما طرأ على إقبال من تغير، لقد احتفلت منذ شهور بعيد ميلادها الثلاثين، وقدم لها حسين حلية ثمينة، ودفع لها ثمنا يزيد كثيرا على ما صرفه عليها في السنوات الأولى لحياتها معه، وأقام مأدبة لأصدقائها كلفته بضع عشرات من الجنيهات.
وفي هذه الحفلة أنكرت أنا إقبال كما أنكرت حسين ... أنكرت إقبال المتعالية الأنيقة التي كستها أناقتها جمالا، وأفاضت عليها أنوثة الثلاثين جاذبية وسحرا، وهي تنتقل بين المدعوين، وتوزع دعابتها عليهم، ليس دعابتها فقط ... وإنما نظراتها أيضا، وأنكرت حسين ... حسين الذي أضحى الآن على أبواب الخمسين ... الخمسين لرجل أفرط في الاستغراق في متعته ... أفرط في استهلاك حواسه وجسده، فطغى الكلال والجهد على كل شيء فيه ... حتى بدت الخمسون حين بلغها، وكأنها نهاية العمر لكهل فان.
ومضت الأيام على حفل عيد الميلاد حاملة في كل يوم حدثا جديدا من أحداث الفصل الأخير ... تلك الأحداث التي لم أعرفها للأسف ... إلا بعد أن نزل الستار على هذا الفصل.
ورأيت بعيني رأسي حسين قابعا في الدار يتسلى بتحريك أحجار النرد جاعلا من إحدى يديه لاعبا، ومن الأخرى اللاعب الآخر، مما يقطع الوقت انتظارا لإقبال، وربما - لسخرية القدر - كان موضعه نفس الموضع الذي كانت تقبع فيه إقبال منتظرة أوبته من إحدى مغامراته ...
إن أحداث هذا الفصل تروي لي صباح تلك الليلة التي رأيته فيها، وقد يهمك أن تعرف ما الذي دفعني إلى زيارته في وقت متأخر من الليل، إن إقبال هي السبب ...
كانت الساعة الحادية عشرة مساء، وكنت أشتري علبة سجائر حينما وقفت سيارة أعرفها أمام باب العمارة التي يقع فيها حانوت السجائر ... العمارة نفسها التي يقطن فيها حسين ... وأدرت رأسي أتأمل صديقي صاحب السيارة، ولكني وجدته مشغولا بفتح باب السيارة لسيدة، سيدة خرجت مسرعة، واتجهت نحو باب العمارة، ووصلت إليه في الوقت نفسه الذي وصلت أنا إليه متجها إلى أقصى الشارع، والتقى وجهي بالسيدة إقبال ... أما أنا فقد اضطربت ... وأما هي فقد ضحكت في ثبات ... ضحكت، ومدت يدها إلي في دلال طغت عليه صورة وجهها الخالي من الجمال ... الوجه الذي أعرفه منذ أكثر من خمسة عشر عاما، تلك الصورة التي لم تمحها كل مظاهر الأناقة والمساحيق والعطور التي تستعملها ... تلك الصورة العالقة في ذهني للزوجة الذليلة الشاحبة، الرقيق في أحدث نماذجه ... هذه الصورة هي التي ملأت رأسي، وهي تمد يدها إلي كما كانت تملؤها حتى في ليلة عيد ميلادها منذ شهور، ومددت يدي وحييت إقبال وفاجأني صوتها وهي تقول في عتاب: بجوار البيت يا أستاذ، وتمضي هكذا؟ هل نسيت الأصدقاء؟
وقلت مضطربا: أبدا ... إنما الوقت متأخر. - وهل بيوت الأصدقاء تغلق أبوابها في ساعة معينة؟! هيا ... تعال معي لنشرب كأسا مع حسين.
وتسمرت قدماي لحظة، ودار برأسي الموقف كله منذ وقفت السيارة، وطاف بمخيلتي هذا السؤال: أكون أنا كبش الفداء لعودتها في هذا الوقت المتأخر؟ ماذا يقول حسين حين أصعد معها الآن؟ وهل هو؟ ...
ولكنني لم أكد أتم خاطري، فقد قالت: هل تخشى ألا تجد حسين؟ إنه لا يتأخر حتى في مثل هذه الساعة، أراهنك على أنه جالس الآن إلى أحجار النرد يلاعب نفسه ... كالمجانين ...
وضحكت ضحكة أسكرتني عن الموقف كله ... وسحبت يدي في إصرار وتبعتها أنا ... تبعتها لأرى حسين كما قالت تماما ... ورفع حسين رأسه ونظر إلي متهللا ودعاني إلى الجلوس ... لألعب معه عشرة طاولة.
وسرت أنا كالمذهول وجلست أمامه وانتظرت عتاب الزوج للزوجة العائدة عند منتصف الليل تقريبا، وأدركت ما يجب علي أن أقوله حين تزعم مثلا أنني قابلتها عند منزل خالتها، وأوصلتها بسيارتي، ولكن انتظاري ذهب عبثا ... فقد قال حسين، وليس في صوته أثر للغضب، بل لعله يفيض حنانا وانكسارا: أعجبتك السهرة؟
وأجابت دون تردد: أجل كانت لطيفة ... الذي لم يكن لطيفا هو صاحبك هذا ... فقد رأيته الآن يسير أمام العمارة دون أن يفكر في الصعود ليشارك صديقه في كأس من الوسكي، أو عشرة طاولة ...
وأدهشني صدقها الجريء الذي لم أكن أتوقعه ... أدهشني حتى صباح اليوم التالي ... اليوم الذي زالت فيه دهشتي، ونزل الستار على القصة ...
إنك تذكر بلا شك يوم طرد حسين إقبال من منزله، ويوم لجأت إلى أصدقائه ، وتذكر أن هؤلاء الأصدقاء كانوا ثلاثة؛ أحدهم الدكتور مراد الذي وصف تركه لها بعد أن خرج بها من أسرتها ومدرستها نذالة تجرده من رجولته ... إن الدكتور مراد نفسه هو الذي يروي لي أحداث الفصل الثالث الأخير ... يرويها لي في إسهاب ... يقص علي كيف أصبح حسين اليوم متيما بإقبال متهالكا على إرضائها؟ وكيف أصبحت إقبال تضيق بهذا الحب؟ تتدلل على حسين وتسخر به، ويمضي الدكتور مراد، فيروي أكثر من هذا من مغامرات إقبال مع أناس لا يعرفهم حسين، ومع ذلك فهم مدعوون إلى داره في كل مأدبة يقيمها، وما أكثر ما يقيم حسين، أو إقبال على الأصح، من مآدب! ومغامرات أخرى مع بعض أصدقاء حسين أنفسهم ... ولعل صاحبنا الذي رأيته يوصلها تلك الليلة بسيارته هو آخر تلك المغامرات ...
ظل الدكتور مراد يروي لي من هذه القصص حتى أحسست أنه لم يبق من أصدقاء حسين من لم يغامر مع إقبال إلا أنا والدكتور مراد ...
وكانت كل مغامرة لإقبال ترتبط على الرغم مني بإحدى مغامرات حسين التي عفا عليها الزمان ...
وانتهى مراد من أقاصيصه.
وقلت أنا في أسف: وحسين، ماذا يفعل؟
ولكن مراد لم يجبني بل زاد السؤال تعقيدا في نظري، وقال وهو حائر: حسين! من المؤكد أنه يعرف جيدا في أي طريق تسير إقبال ... لكني مع ذلك أشك في أنه يعرف إلى أي مدى تمضي في هذا الطريق ... إنه كما يخيل لي يعتقد أنها تمرح وتلهو فقط ... دون أن تقارف خطيئة ... إنه بالصورة التي حفرتها الأيام لإقبال في خاطره لا يمكن أن يتصورها امرأة خاطئة ... إنه كالأب الذي ربى طفله وليدا صغيرا ... يعز عليه أن يعتقد حين يكبر طفله أنه يصبح قاتلا أو سارقا.
ولكني مع ذلك لم أرض عن هذا التعليل ... ولعل لي الحق أن أتخيل القصة من أولها منذ بداية الفصل الأول لأرى ما يرسمه القدر من مبررات لهذا الختام.
إني فعلا أتخيل القصة الآن ... أتخيل إقبال في السابعة عشرة، وحسين في الخامسة والثلاثين، وهو يعبث ويمرح، أو على حد قوله يستمتع بربيع حياته، وأتخيلهما الآن ... إقبال في الثلاثين، وحسين على أبواب الخمسين ... رجل قد قطف بيديه كل زهور ربيعه واعتصرها، وما ترك على غصن حياته زهرة واحدة منها ... أجل أتخيلها الآن، فأستبعد تعليل الدكتور مراد ... وإنما أجد في اختلاف الفصول ... وتوالي الليل والنهار تعليلا أوضح ... إن أحدهما يعصر أزهار ربيعه، أما الثاني فإنه يلعق أغصان الخريف الجافة باحثا - دون جدوى - عن العصارة.
صفحة غير معروفة