وكانت فاطمة ما زالت نائمة ... وكان حسن يلهو بقصاصات من الورق عند باب الحجرة، فترك ما بيديه، وهرع إلى أبيه، وصحت فاطمة على صوت أبيها، وهو يصف لحسن ثوب العيد الذي سوف يشتريه له بعد ساعات، ويحدثه عن الكعك اللذيذ الذي سيفطرون به في صباح العيد.
وأعاد سيد الحديث نفسه لفاطمة ... ثم حانت منه التفاتة إلى سنية فوجدها تنصت في غبطة وفرح ... وكأنه سيشتري لها هي أيضا ثوبا، وغادر سيد داره غارقا في دنيا الفرحة، وسار نحو المصنع، وسبقت خواطره الساعات الباقية، واستعرض في خياله يومه الحافل ... سيمضي في عمله حتى الثانية عشرة والنصف، ثم ينهض مع زملائه فيجتازون الممر الضيق الموصل بين المصنع والمتجر فيقفون صفا أمام عبد السميع أفندي الكاتب الذي ينادي كلا منهم باسمه ... إنه دائما الرابع، وسوف يتقدم فيقبض أجره كاملا، ثم يقبض ثلاثة جنيهات أجره الإضافي، ثم يعود من الطريق نفسه حتى المصنع، وعند الباب سيجد هو وزملاؤه حنفي القهوجي واقفا في الانتظار ليستقضيهم ثمن ما شربوه خلال الشهر من قهوة وشاي ونارجيلات، وسيتكرر ما يحدث كل شهر، سيطول النقاش بين حنفي وبين بعض زملاء سيد، إن الخلاف يكون دائما حول بضعة فناجين من القهوة أو أكواب من الشاي يضيفها حنفي زيادة على حسابهم، أو ينكرون هم أنهم أخذوها، وإنه ليعلم أن حنفي يضيف أحيانا من عنده، ولكنه يعلم أيضا أن بعض زملائه يصر على أن ينكر بضعة فناجين أو أكواب، إن الخلاف ينتهي دائما بأن يتخلى حنفي عن نصف ما يضيف من مشروبات حتى ليبدو أن حنفي قد جرى على هذه السياسة وألفها الجميع ... ولو أن حنفي طلب يوما حسابه المضبوط لخسر بضعة قروش ثمن المشروبات التي سوف ينكرها عملاؤه.
إن سيد أسعد كثيرا من زملائه ... إنه لا يتعاطى غير كوب من الشاي عند انتصاف النهار ... أما هذا الشهر فهو قد صام رمضان، ولن يدفع غير ثمن أكواب الشاي التي ارتشفها بعد الإفطار خلال أسابيع ثلاثة، إنه أسعد من كثير منهم أيضا؛ لأن أحدا غير حنفي لا ينتظره عند باب الخروج.
لن ينتظره صبي البقال الذي ينتظر زميله عبد العال ... ولا المرابي الذي ينتظر مصطفى ليحصل منه على الفائدة الشهرية الفادحة لقرضه اليسير، ولن يجد امرأة تنتظر نفقتها الشهرية، وعلى كتفها طفل رضيع، كما تنتظر مطلقة زميله رضوان خروج طليقها، وقد علا صياحها وشكواها، إنه سيخرج مرفوع الرأس إلى المتجر الصغير عند رأس الشارع فيشتري ثوبا جميلا لفاطمة - قماش ثوب تخيطه له سنية - ثم يمضي بعد ذلك إلى الحي القريب فيشتري حلة متواضعة لحسن، ثم يذهب إلى بائع الكعك فيشتري أقتين من الكعك، لقد كانت سنية تصنع الكعك بيديها من قبل، أما الآن فإنها لن تستطيع ... إن الحصول على دقيق صعب والحصول على بضعة أرطال من المسلى الصناعي أصعب من الحصول على الدقيق، وأصعب من الحصول على قدر من السكر ... إن سيد يتحسر على أيام الحرب الآن، ويذكر كم كان بطرا من الناس أن يصفوها بالغلاء والضيق.
ثم يمضي سيد إلى البيت فرحا بحمله الغالي ... إنه سيحمل آماله الكبار خلال ثلاثة أسابيع من الضنى والسهر ... سيحمل البهجة إلى أعز قلوب لدى قلبه، وتقف خواطر سيد عند أسرته المرحة بما يحمل لها من هناء، ويقف عند مدخل الشارع حيث يقوم المصنع ليتأمل واجهات المتاجر، وقد فاضت بمعروضاتها الجميلة ... لسوف يشتري ثوب فاطمة من بين هذه المعروضات ... ثم يمضي ثانيا في الطريق حتى يصل إلى متجر الأحذية فيتمهل قليلا، وينظر إلى ما تزدان به واجهة المتجر من أحذية أنيقة لامعة، لقد أسهمت يداه في صنع كل زوج من هذه الأحذية، ولقد اختلط بكل زوج منها قطرات من عرقه وأنفاسه.
وتحين منه التفاتة فيرى الثمن المكتوب على صنف من هذه الأحذية، ويلحظ شيئا لا يثير التفاته ولا يعنيه ... لقد تغير الثمن المكتوب عما كان عليه بالأمس، كان ثمن الزوج بالأمس مائة وسبعين قرشا فأصبح اليوم مائتين وخمسين.
ويحاول عقله الصغير أن يجد لذلك سببا فلا يسعفه الإدراك، وإنما يسعفه خاطر عابر فيشكر الله؛ في قلبه لأن طفليه ليسا بحاجة إلى أحذية، وتخترق عيناه زجاج الواجهة في نظرة سريعة فيلمح عبد السميع أفندي منهمكا في إعداد أوراقه، شأنه كل أول شهر فيتملكه الفرح، وينسى ارتفاع ثمن الأحذية.
وتمضي ساعات العمل، وينتصف النهار، وتدق الساعة دقتها مؤذنة بالنصف بعد الثانية عشرة، وينهض سيد وينهض زملاؤه، ويسيرون في الممر الضيق نحو المتجر، ويقفون صفا أمام عبد السميع أفندي، ويأتي دور سيد فيقبض مرتبه في لهفة، ثم يقبض أجره الإضافي ليس ثلاثة جنيهات كما توقع، وإنما جنيهان وثمانون قرشا، ويدرك سيد بعد حوار قصير مع عبد السميع أفندي أنه لم يخطئ الحساب، وإنما هي عشرون قرشا، مجرد قروش قليلة خصمت في سبيل ما دفعه صاحب المصنع لجمعية من جمعيات البر ...
ولم يكن عبد السميع أفندي كاذبا، إنه يضع أمامه الصحيفة التي نشر فيها اسم صاحب المصنع، وتبرعه الكريم، وقد رأى سيد اسم صاحب المصنع بعينيه، وليس له أن يشك في دقة حساب عبد السميع أفندي بعد ذلك، إنه يحمل ثروته راضيا، ويخرج من الممر الضيق ليتهيأ للخروج.
ويمضي ليحقق آماله للكبار ... إن العشرين قرشا ستؤثر قليلا في ميزانيته لكنها لن تعصف بشيء مما انتواه .
صفحة غير معروفة