كانت كل متاعب العمل تزول بنكتة رائعة يرسلها رياض أفندي كاتب الضبط، أو قصة لطيفة من ذكريات الماضي يرويها عبد المسيح أفندي، أو أغنية ساذجة يدندن بها السيد أفندي كاتب القيودات فتتحرك يداه على إيقاعها، وأنا أختم البوستة، وأغلقها في المظروفات.
ثم كانت لدي ساعة أخرى أعيشها في حياة الناس والريف، ساعة تسلم المسجونين الجدد والاستماع إلى أقاصيص جرائمهم الصغيرة والكبيرة يروونها في اقتضاب ... لا كجرائم بل اتهامات هم منها أبرياء ... بعضهم متهم بالسرقة ... بضعة أكواز من الذرة ... إنه لم يسرقها لقد اشتراها، ولكن سوء حظه هو الذي جعله يشتري نفس المقدار الذي سرق في نفس اليوم.
وبعضهم شج رأس غريم له في معركة، إنه لم يفعل شيئا، لقد أخذ غريمه عصاه، وشج رأسه بيديه لكي يلقي عليه التهمة ...
وراء كل قصة تبدو حقيقة ... كنت أحسها وأراقبها ... ما من كوز من أكواز الذرة، أو رأس من الرءوس المشجوجة ... أو صدر من الصدور التي نزف دمها إلا وخلفه عدو ... ليس صاحب كيزان الذرة، ولا الرأس المشجوج ... ولا الصدر النازف ... عدو آخر هو الفقر، ماهر في التنكر يلبس عشرات الثياب ويختفي، ووراءه عشرات الأقنعة ... يختفي مرة في صورة منجل تحصد به زراعة لم تثمر، أو سرقة تافهة، أو جرح غائر، أو نصل حاد ... فإذا اختفى هذا العدو فهناك عدو آخر لا يقل مهارة في التنكر عن العدو الأول هو الجهل وضيق العقل.
أيمكن لغير الجهل أن يصور في عقل الإنسان أن تسميم جاموسة تحمل في أحشائها جنينا هو انتقام عادل من غريم؟
الجهل والفقر يبعثان كل يوم بزبائن جدد أملأ بهم حجرة السجن الصغيرة في المركز، ولطالما وقفت مذهولا، وأنا أتخيل هذه الحجرة الصغيرة وهي تبتلع العشرات ... حتى ليخيل لي أحيانا أن فيها سراديب لا أعرفها تتسرب في حناياها هذه المخلوقات ... وإلا فكيف لا تنفجر جنباتها بهذ العدد الكبير، وكيف يخرجون منها أحياء؟!
ثم تأتي أيام لا يكون فيها غير سجين أو سجينين ... سجين أكاد أستشعر وحشته في هذا الظلام الدامس والليل الطويل ... الليل الذي لا يقطعه غير نباح كلب جائع، أو صوت الشاويش عبد ربه.
وصوت عبد ربه لا ينقطع ما دام في المركز ... إنه يتكلم بصوت عال، ويحيي بصوت عال، ويتشاجر بصوت عال، فإذا ما خيم السكون فإن عبد ربه يعز عليه أن تهدأ الدنيا ... ولهذا يرسل سعاله المدوي، كأنه ينبه من غفل أنه رابض في المركز.
ولا أدري لم كرهت عبد ربه منذ أول يوم وطئت قدماي فيه أرض المركز، لقد أحسست ساعة قدومي أن ألفاظ التحية التي قالها تحمل معاني غير التحية ... لقد قال لي إذ ذاك: آنستنا يا محمد أفندي.
وأحسست أنا أنه يقول: لن نكون صديقين يا محمد أفندي ... منظرك لا يروقني يا محمد أفندي.
صفحة غير معروفة