إن ذيل الصفحة التي كتب فيها مذكرات هذا اليوم تشوبه صفرة، وكأنما سقطت عليه من قديم قطرات من العرق أو الدموع.
وينتهي العام، ويغلق صفحات «الأجندة» ويكون قد تعود أن يسرد لهذا الصديق الصامت حوداث يومه، ويمر يوم أول يناير عام 1939، ويأتي مساؤه عليه، وقد آوى إلى فراشه، وتدثر بالغطاء، حتى وجهه قد غطاه، وكانت تلك عادته لا يستطيع النوم في النور، أو عاري الوجه ... ويحس شيئا ينقصه ... يحس أنه في حاجة إلى أن يقص أخبار يومه على صفحات الورق الأبيض، وينتابه القلق حتى ليخيل إليه أنه لن ينام ما دام لم يكتب سطور مذكرته ... فينهض من فراشه، ويمسك بورقة بيضاء، ويكتب عليها ما حدث في يومه، ويضعها بعناية بين صفحات المفكرة القديمة ... وفي الصباح وهو في طريقه إلى المدرسة لا يشتري كعادته سندوتش الجبن الذي يفطر به، وإنما يدفع بثمنه في ركن من أركان درج المكتب، ويكرر ذلك بضعة أيام يخرج منها بثمن مفكرة جديدة للعام الجديد، ويقضي ليلة ينقل فيها إلى صفحات مفكرته الأيام التي فاتته من العام، ولا ينسى أن يسجل في صدر المفكرة تحت فاتحة القرآن، كيف استطاع أن يشتري هذه المفكرة؟ وما أسرع ما تمر الأيام! صفحات المفكرة تمتلئ بالحروف السود كصفحات قلبه تماما ... إنه يرى في هذا العام أياما سودا لا يستطيع مداد القلم أن يحاكيها، ولا تستطيع السطور أن تحكيها ...
كتب في أمسية يوم من تلك الأيام سطرا يقول فيه: «تبينت اليوم عجز القلم والكلام عن التعبير في بعض الأحيان، أي كلام يستطيع أن يعبر عن مدى سخطي وتعاستي اليوم؟» ... إن قصة ذلك السخط وتلك التعاسة، كما رواها قبل هذا السطر، هي اضطهاد جديد تلقاه من زوجة أبيه، أمه كما كان يجب أن يسميها في مذكراته، كانت إجازة نصف العام بعد أيام، وأعدت المدرسة رحلة إلى الصعيد، وجعلت رسم الاشتراك فيها للطلاب زهيدا، هو جنيهان فقط، وعرض الأمر على أبيه في حضور «أمه» فإذا بها - وقبل أن ينطق أبوه بحرف - ترد في غلظة: لم يبق إلا أن نتحمل مصاريف لهوك أيضا، كأنه لا يكفي مصروف المدرسة والطعام والكساء ... إن غيرك يوفر على أهله مصاريف المدرسة.
لو أن الاقتصاد كان قاعدة تتبعها الأسرة لما سخط ولما أحس التعاسة ... لكن أباه في اليوم نفسه دفع إلى أسماء بسوار من الذهب قائلا وهو يضحك: حتى يحين موعد زفافك سيكون لديك مصوغات تجعلك غنية.
إن حادث الرحلة المدرسية المرفوضة والسوار الذهب الممنوح يتكرران في صور شتى ... تمضي سنوات 1939 و1940 و1941.
وفي مفكرة كل منها مذكرات أيام تفيض بأمثال هذه الحوادث، وفي عام 1941 في 5 من فبراير يكتب في أسلوب رهيب: «إن صفحات المفكرة أقل إيلاما من صفحات الذاكرة ... ما دامت المذكرة لا تقلبها يد، ولا تقرؤها عين فهي صامتة تنطوي على ما فيها من ذكريات مريرة، أما ذاكرتي فهي قاسية تميل إلى الأحزان، لا تكاد تمر بي لحظة تعسة حتى تسارع هي فتنثر على بساط خيالي تعاسات العمر كله منذ عرفت الحياة، وكأن كل همها أن تكسو الجو كله بالغيوم، إنها هذه الذاكرة التي لا ترحم تدفعني إلى أفكار شريرة جعلتني اليوم أتمنى لو رأيت هؤلاء الثلاثة، أبي وزوجته وأسماء، موتى موسدين التراب، إني لأتمنى ذلك الآن ... لا لأني أكرههم، ولكن لأنني لا أرى في الموت عذابا، إني شخصيا أتمناه من حين إلى حين.»
وفي أواخر عام 1941 يخط سطورا ... سطورا لم يدرك مداها إذ ذاك، وإن كان قد أدركه بعد أن خرج من سلطانها الرهيب، كتب في ذلك اليوم: «كل ما ينالني من أذى، وما ألقاه من سوء معاملة، وما أحرمه من مصروف أو عطف، كل ذلك يذهب لكي يستحيل حنانا وخيرا وسخاء على أسماء، إن أبي وأمي يحرقان صباي بخورا يجلب لأسماء السعادة ... إن أعدائي ليسوا هم أبي وأمي ... إنها سعادة أسماء، عدوي الوحيد ... لو استطعت أن أحطم هذه السعادة، وأن أغرق هذه المخلوقة التي تقف سعادتها في سبيل حياتي، لو استطعت أن أغرقها في سيل من الشقاء لفعلت وأنا غير نادم، إن ما يجعلني أجن هو أنها لا تحس أبدا بأنها هي سر شقائي ... بل إنها تحادثني أحيانا كما لو كنا صديقين ...»
لقد حدث ذلك أكثر من مرة، حدث أن كان مغيظا مهتاجا ذات يوم؛ لأن أمه أساءت إليه إساءة بالغة لأنه مشط شعره بمشط أسماء ... وكان الأمر تافها لولا أنها - أي أمه أو زوجة أبيه بتعبير أصح - انتهزتها فرصة لتسيء إليه، وتجرح من كبريائه وترميه بالقذارة، كان مغيظا مهتاجا ، ولو نزل إليه في تلك اللحظة ملاك أو شيطان يأتمر بأمره، ويسأله ما يطلب لما طلب غير هلاك أسماء، إنه يصف تلك اللحظة في مذكراته قائلا: «وصعد الدم إلى رأسي فلم أر شيئا، وتملكتني خواطر غريبة، نقلني الغضب إلى حالة إغماء لم أفقد معها توازني، وإنما فقدت صلتي بالعالم ... وخيل إلي أن نجاتي معلقة بأن يهبط إلي ملاك من السماء، أو يصعد إلي شيطان من جوف الأرض ... فإذا ما سألني أحدهما أو كلاهما عما أطلب لقلت دون تردد ... قلت للشيطان: خذ روحها إلى أعماق الجحيم ... وقلت للملاك: اصعد برأسها، وعلقها في قمة شجرة ... بل لقد خيل إلي أن الملاك والشيطان قد التقيا بين يدي، وأني أهمس فعلا بأمري الرهيب ... ولعل شفتي قد تحركتا ببعض الألفاظ، لولا أن أفقت على صوت أسماء نفسها تهمس بي قائلة: لا يأخذك الغضب ... إني آسفة، خذ مشطي ومشط شعرك في حجرتك ... إني شخصيا لا أرى رأي ماما ... أنت لست قذرا.»
ولم يكن هناك أحد غيرنا إذ ذاك في الردهة بين حجرتي وحجرتها، فمددت يدي وأخذت المشط، وقذفت به بكل قوتي إلى الأرض، ونظرت إليها في حقد ومشيت، ومع ذلك فاليوم بعد العشاء والليلة إحدى الليالي التي نتعشى فيها جميعا على المائدة، وما أقل هذه الليالي، بعد العشاء جاءت أسماء إلى حجرتي بمشط أحمر اللون قائلة: «خذ هذا المشط لك ... إن عندي أكثر من مشط.»
وفكرت أنا - بعد أن خرجت - كيف سخرت مني أمها حين طلبت من أبي ثمن مشط ... عندها هي أكثر من مشط ... عندها كل شيء، ولها المزيد، أما أنا فلا شيء ...
صفحة غير معروفة