سبق إلى بعض الظنون أن الوزارة سوف تستريح برهة بعد عودته إلى العمل لتتفرغ لشئون الإصلاح التي شغلتها عنها الأزمات السياسية، ولكن لم يمض يوم واحد حتى وقع الاعتداء على حياة السردار «لي ستاك باشا»، وهو خارج من وزارة الحربية، ولسوء الحظ كان الرجل على نية السفر إلى السودان قبل ذلك بيوم، ثم أرجأ سفره لحضور مأدبة أقيمت له في القاهرة، فصادفته المنية على أيدي أولئك الجناة.
ولو شاءت السياسة البريطانية لعلمت أن جناية كهذه قد وقعت في العاصمة الإنجليزية - وهي قتل المارشال ويلسون - فلم يقل أحد: إنها دليل على خلل الحكومة أو سوء النية أو التقصير في حفظ الأمن والنظام.
ولو شاءت لعلمت أن سعدا خليق أن يكره وقوع هذا الاعتداء أشد من كراهة الحكومة البريطانية؛ لأنه اعتداء يصيبه هو ويصيب وزارته ويصيب الحكومة النيابية التي يمثلها، ولا ينفعه في شيء، بل ينفع خصومه من الإنجليز والمصريين.
ولو شاءت لعلمت أنه قد أصيب باعتداء على حياته من جراء المفاوضات قبل أن ينزع الجناة إلى إصابة حاكم السودان.
ولو شاءت لعلمت أن حاكم السودان هو قائد الجيش المصري، ولا مانع يمنعه من «تقدير الظروف» وحماية حياته بما لديه من الحراس والجنود، وليس بالإنصاف ولا بالميسور أن تطالب الوزارة السعدية بعناية أكبر من عناية الرجل نفسه، وفي البلاد «إدارة أوروبية» للأمن والاستعلامات لا يفوتها الانتباه والتحذير.
ولكن السياسة البريطانية لم تشأ أن تعلم شيئا من ذلك وهو معلوم غير مجهول، وكل ما شاءته أنها اغتنمت الفرصة كأنها كانت في انتظارها، أو كانت تشفق أن تضيع منها، وهي قد كانت حقا في انتظار فرصة تزعج بها الوزارة السعدية جهد ما استطاعت من إزعاج.
قال اللورد جورج لويد في الجزء الثاني من كتابه «مصر منذ عهد كرومر»:
تخلت وزارة مستر رامزي مكدونالد عن الحكم في نهاية أكتوبر، وخلفتها وزارة محافظة تولى فيها مستر أوستن شمبرلن وزارة الخارجية، وكان مستر مكدونالد يفكر - بمعاونة المندوب البريطاني - في توجيه تبليغ إلى الحكومة المصرية يسرد لها المخالفات المكررة التي خالفت بها النظام المتبع أو الحالة الواقعة، فواصل مستر شمبرلن بحثه مع القاهرة في الصيغة التي يفرغ فيها هذا التبليغ، وكانت هذه المخالفات تزداد أثناء ذلك، وآخرها رفض زغلول في الثامن عشر من نوفمبر بقاء وظيفة المستشار القضائي وامتناعه من تجديد العقد للسير إيموس الذي كان يشغلها إذ ذاك.
سنحت الفرصة إذن فينبغي ألا تضيع، وبلغ من التهافت على انتهازها أنهم لم يكلفوا أنفسهم مشقة إخفاء النية المبيتة وراءها؛ فجاء في الإنذار البريطاني أنهم يطلبون من الحكومة المصرية «أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة، فبدلا من أن تكون ثلاثمائة ألف فدان تكون غير معينة المقدار على نسبة ما تقتضيه الحاجة» ... وجاء في ملحق الإنذار «أن القوانين والشروط الخاصة بخدمة الموظفين الأجانب الذين لا يزالون في خدمة الحكومة المصرية وتأديبهم وخروجهم من الخدمة؛ يجب أن يعاد النظر فيها وتنقح طبقا لرغبة الحكومة البريطانية»، وأنه «إلى أن يتم الاتفاق بين الحكومتين على موضوع حماية مصالح الأجانب في مصر، تحافظ الحكومة المصرية على مركز المستشار المالي ومركز المستشار القضائي، وتحترم سلطتهما وامتيازاتهما كما نص عليهما عند إلغاء الحماية، وتحترم بالمثل مركز المكتب الأوروبي في وزارة الداخلية، ومعهما المالية كما حددت بالقرار الوزاري، وتأخذ بعين الاعتبار المشورة التي يقدمها مديره العام في الأمور الداخلة في اختصاصه».
أما الطلبات الأخرى فمنها الاعتذار الوافي الكافي، وقمع كل مظاهرة شعبية سياسية، ودفع نصف مليون جنيه، وإصدار الأوامر برجوع الضباط المصريين والوحدات المصرية البحتة في الجيش المصري من السودان خلال أربع وعشرين ساعة ... ومهد لهذه الطلبات بعبارة جاء فيها أن حكومة جلالة الملك «ترى أن هذا الاغتيال - الذي يعرض مصر بالحالة التي تحكم بها الآن إلى ازدراء الشعوب المتمدينة - هو النتيجة الطبيعية لحملة عدوانية على حقوق بريطانيا العظمى وعلى الرعايا البريطانيين في مصر والسودان».
صفحة غير معروفة