مقدمة
1 - سعد في سطور
2 - القارعة
3 - الثورة
4 - سفر الوفد إلى باريس
5 - الوفد في أوروبا
6 - من سفر الوفد إلى لجنة ملنر
7 - المفاوضة في لندن
8 - مسألة السودان
9 - تصريح 28 فبراير
10 - من المنفى إلى الوزارة
11 - في رئاسة الوزارة
12 - من رئاسة الوزارة إلى رئاسة النواب
13 - رئاسة مجلس النواب
14 - زعامة سعد وأثرها
مقدمة
1 - سعد في سطور
2 - القارعة
3 - الثورة
4 - سفر الوفد إلى باريس
5 - الوفد في أوروبا
6 - من سفر الوفد إلى لجنة ملنر
7 - المفاوضة في لندن
8 - مسألة السودان
9 - تصريح 28 فبراير
10 - من المنفى إلى الوزارة
11 - في رئاسة الوزارة
12 - من رئاسة الوزارة إلى رئاسة النواب
13 - رئاسة مجلس النواب
14 - زعامة سعد وأثرها
سعد زغلول زعيم الثورة
سعد زغلول زعيم الثورة
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
تسير الأمم على هدى من غايتها كلما تبينت مواقع خطواتها بين ماضيها وحاضرها، ويعظم رجاؤها في النجاح كلما أحست أنها أدركت نصيبا منه في الماضي وأنها خليقة أن تدرك نصيبا مثله أو يزيد عليه في المستقبل، ومصر لا تكسب شيئا من قول قائل: إن جهادها كله عبث، وإن زعماءها كلهم عجزة أو مقصرون. فإن هذا ظلم للماضي وللمستقبل في وقت واحد: ظلم للماضي؛ لأنه يخالف الواقع الذي تدل عليه المقابلة بين أمسنا ويومنا، وظلم للمستقبل؛ لأنه يثبط عزائم العاملين له، ويدخل اليأس على قلوب الآملين فيه، ومن دواعي التفاؤل أن سجل النهضة المصرية يدل على نجاح أدركناه ونجاح سندركه، إذا صدقت العزائم، واطرد المسير على الطريق المستقيم.
في هذه الصفحات التالية سجل النهضة التي نهضتها مصر على أثر الحرب العالمية الأولى، ويطيب لنا ونحن نقدمها أن نسأل: أين نحن اليوم؟ وأين كنا؟ فإذا بالجواب الواقع الذي تقرره شواهد العيان أننا تقدمنا ونرجو أن نتقدم، وأن التسوية بين مصر اليوم ومصر قبل ستين سنة أمنية لا يتمناها لمصر مصري رشيد؛ فإن الفارق البعيد بين ما كناه وما صرناه هو المقياس الصادق الذي تقاس به خطواتنا من أمس إلى اليوم، ونتمنى أن تستقيم في الغد إلى مدى أوسع جدا مما أدركناه.
كيف كانت مصر في مستهل الجهاد الذي تسجله هذه الصفحات؟
كانت الدولة كلها في قبضة «المندوب السامي»، أو قيصر قصر الدوبارة، يصرفها كيف شاء، ويتولى شئونها الداخلية والخارجية بغير حسيب ... وكان جيشها كله بقيادة «السردار» الإنجليزي الذي يثور ويسوق الأساطيل إذا هم بإصلاحه أمير أو وزير، وكانت كل وزارة في قبضة مستشارها الذي يأمر وينهى ويبرم وينقض بغير إرادة الوزير وبغير علمه في كثير من الأحيان، وكان كل إقليم في قبضة المفتش الإنجليزي الذي يختار الموظفين ويرشحهم للترقية أو للعزل من المدير إلى العمدة إلى الخفير، وكانت كل محكمة عليا لها قاض من قضاة الإنجليز، وكل محافظة في عواصم القطر الكبرى لها حكمدار من ضباط الإنجليز، وكان جيش الاحتلال من ورائهم يكظم منافس القاهرة والإسكندرية، ويقبض مرتباته من ميزانية الدولة المصرية، وكانت السياسة الاستعمارية تدير ميدان الاقتصاد المصري كأنه ديوان من دواوين الحكومة، فلا مصرف ولا شركة ولا مرفق من مرافق الثروة العامة بيد أحد من المصريين، وكل ما بيدهم ديون ثقيلة كأنها الأغلال في أيدي الأسرى والسجناء. وندع الفارق بين التعليم الذي تنفق عليه الدولة والأمة أقل من نصف مليون، والتعليم الذي تنفقان عليه أكثر من خمسين مليونا، فإن الأرقام تغني فيه عن الكلام.
ذلك مدى النجاح الذي أدركته مصر بنهضتها قبل ستين سنة، وإنها لسعيدة إذا تهيأت لها ستون سنة أخرى بمثل هذا الفارق العظيم بين ما نحن عليه اليوم وما نطمح إليه.
واعتقادنا أن النهضة لم توفق هذا التوفيق إلا لأنها امتازت على تقدمها من النهضات بمزيتين ظاهرتين: أولاهما أنها كانت نهضة أمة كاملة وجدت زعيمها، ولم يكن زعيم رهط محدود أو طبقة خاصة، والثانية أنها طلبت الاستقلال حيثما وجدت إليه سبيلا، ولم تقيده بوسيلة من الوسائل أو نظرية من النظريات.
وقد تغيرت ظروف العلم، وفعلت سنة التطور فعلها في تقدم الأمة المصرية، ومع هذا نرجع إلى المشروعات التي كانت مقترحة قبل نيف وثلاثين سنة، فنرى أنها سبقت الزمن بشوط بعيد، فلو نفذ مشروع منها لحقق لنا أمنية الجلاء وإلغاء الامتيازات قبل سنة 1936، وهي سنة المعاهدة التي أبقت على بعض القيود ولم تحطم جميع تلك القيود. ولا ينتهي العجب من غيرة الزعيم الشيخ سعد زغلول حين يعلم المطلع على هذه الصفحات أنه لم يقبل مشروعا ناقصا إلا وهو على مضض وبعد الرجوع إلى مبدأ الاستفتاء والإجماع، حرصا منه على وحدة الوفد ووحدة الأمة من ورائه جهد المستطاع.
هذه الوقائع التي تحملها هذه الصفحات خليقة أن تعزز الثقة بما بلغناه، والأمل فيما سنبلغه بالمثابرة والاستقامة إلى الغاية، وقد اخترناها من كتاب «سعد زغلول» وافية على حدة بتجلية الحوادث التي اشتملت عليها، وتوخينا في اختيارها أن تنتظم صلة الحاضر بالماضي، وأن تستقيم بها الطريق على هدى التاريخ الصحيح.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
سعد في سطور
في أول يونيو سنة 1860 ولد سعد زغلول في قرية «إبيانة»، وكان أبوه الشيخ إبراهيم زغلول عميد القرية، وأمه بنت الشيخ عبده بركات من أسرة عريقة.
ورث سعد من أبويه بنية الفلاح وصلابة الخلق وصدق العزيمة، ولما مات أبوه وهو في سن السادسة عني بتربيته أخوه الأكبر.
ألحق سعد بمكتب القرية حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، ثم أرسل إلى الأزهر حيث ثابر على حضور الدروس بين يدي المجددين من أساتذته، وكان يتردد على مجلس جمال الدين في داره.
حينما استعانت الحكومة بالشيخ محمد عبده في تحرير «الوقائع المصرية» سعى في تعيين سعد لتحرير القسم الأدبي، فمكث محررا بها حتى نشبت الثورة العرابية.
اشترك سعد في الثورة العرابية وناله من أذى الاعتقال بلاء غير يسير، وخسر وظيفته، وبات في قائمة أنصار عرابي باشا.
اضطر إلى احتراف المحاماة، وكانت الدولة البريطانية قابضة على ناصية الأمور، فنمى إلى المسئولين أن سعدا وزميلا له ألفا جماعة سرية باسم «جماعة الانتقام»؛ فاعتقلا وظلا في الاعتقال بعد الحكم ببراءتهما أكثر من ثلاثة أشهر.
وبعد ثماني سنوات عرضت عليه وظيفة «نائب قاض» بمحكمة الاستئناف في سنة 1892، فقبلها، وبقي في القضاء 14 عاما، ثم عين وزيرا للمعارف، ثم وزيرا للحقانية.
اعتزل الوزارة وعزم على ترشيح نفسه للجمعية التشريعية، فنجح في الدائرتين اللتين رشح نفسه فيهما نجاحا فاق كل تقدير، واختير وكيلا للجمعية التشريعية فكان وكيلها المنتخب.
نشبت الحرب العظمى في يوليو 1914، وفي ديسمبر أعلنت الحماية البريطانية، ولم تمض أشهر حتى أطلق الإنجليز أيديهم في دواوين الحكومة، وأمعنوا في التضييق على أعداء الاحتلال.
وبعد انتهاء الحرب تألف «الوفد المصري» للسعي للحرية والاستقلال، واختير سعد رئيسا للوفد؛ فكان قائد النهضة المصرية الباسل، وزعيمها العظيم، وقد كافح وناضل، ونفي في سبيل بلاده.
كان أول رئيس لوزارة شعبية بعد الاستقلال، وأول زعيم مصري ألقى خطبة العرش الأولى حين افتتح الملك فؤاد البرلمان في 15 مارس سنة 1924.
تولى رياسة مجلس النواب حتى توفي في 23 أغسطس سنة 1927 وهو في السابعة والستين من عمره.
الفصل الثاني
القارعة
لا بد لنا من قارعة!
تلك هي الكلمة التي كان يرددها سعد في الأسبوعين الأخيرين قبل نفيه؛ لأنه كان يرى بحق أن السكوت يتبعه سكوت، وأن الحركة تتبعها حركة، ولم يكن جازما بأن الثورة آتية بعد القارعة التي كان يتصدى لها ويستبطئ وقوعها؛ لأن المعسكرات والقلاع والمطارات في مصر كانت تعج بالجيوش، وتزدحم بالمدافع والدبابات والطيارات، والمصريون مجردون من كل سلاح حتى الهراوات والمدى وبنادق الصيد، والخطب ممنوعة والصحف مراقبة، والذهاب والإياب بمرصد من الجواسيس والعيون، فإذا تعذرت الثورة على المصريين، فغير عجيب أن تتعذر، وغير لزام أن تثور أمة في هذه القيود، وهي لا ترجو بالثورة العزلاء أن تغلب الغالبين المزودين بكل سلاح.
لم يكن جازما بأن الثورة آتية، ولكنه كان جازما بأنها إذا أتت فلن يكون مجيئها إلا بقارعة تشعل نيران الغضب في الأمة الوادعة المتحفزة، وفي وسعه هو أن يتصدى للقارعة المرجوة المرهوبة. فليتصد إذن لها، وليعمل ما في وسعه، وعلى المقادير بقية التدبير.
وعندنا أن سعدا لو كان جازما بالثورة جزما لا تردد فيه لكانت بطولته دون هذه البطولة، ونصيبه من الإقدام دون هذا النصيب؛ لأنه يقدم ولا يخشى أن يطول الخطر الذي يقدم عليه، ويجازف ويعلم أن غضب الثورة يحميه. فأما أن يقدم وهو لا يبالي أن يستهدف للنكال دون أن يتبعه أحد، أو يقفو ضربته ضارب، فتلك هي البطولة العليا؛ لأنها بطولة الواجب، وهي أعلى وأقوم من بطولة الحساب والتقدير.
ومضى يوم ولم تأت القارعة فاستبطأها، وكان من عادته أن يخرج من مكتبه ليتمشى في الطرقة لحظة ثم يعود إليه، ففي مساء اليوم التالي لإرساله البرقية إلى رئيس الوزارة لقي عضوا من أعضاء الوفد في تلك الطرقة فقال له: «إن الجماعة لم يأتوا بعد، أتراهم لا يأتون؟» ثم قال: «هذا ليس بنافع، إنهم إما أن يدعونا نسافر أو يقبضوا علينا، وإلا فهم يتركوننا نموت في مواضعنا.»
بيد أن هذا القلق لم يطل أكثر من يوم آخر؛ لأن «الجماعة» المنتظرين أتوا في مساء اليوم التالي؛ أي في اليوم الثاني من شهر أغسطس. فجاء إلى بيت الأمة - عند الساعة الخامسة - ضابط بريطاني برتبة صاغ، ومعه ضابط آخر برتبة الملازم ومترجم مصري، ووقف على جانبي الباب الخارجي جنديان بريطانيان يحمل كل منهما بندقية في طرفها حربة، وكان طالب من طلاب المدارس العليا قد دخل إلى بيت الأمة قبل مجيئهم مهرولا، فأبلغ الأستاذ فؤاد القصبجي
1
الذي كان يعمل يومئذ في قلم الكتاب والمترجمين الملحق بالوفد المصري أنه رأى ضابطا بريطانيا يستوقف محمد محمود باشا في طريقه إلى بيت الأمة، ويركبه سيارة من سيارات الجيش الإنجليزي. فخرج الأستاذ فؤاد ليخبر سعدا بما أبلغه الطالب، وإذا به أمام الضابط البريطاني على باب الحجرة، فارتد هذا وبادره بالإنجليزية: «إني أريد مقابلة سعد زغلول باشا فأين هو؟» فأجابه الأستاذ فؤاد بالفرنسية: «تفضل فانتظر في حجرة الاستقبال ريثما أخبر الباشا.» وأشار إلى حجرة الاستقبال، فلم يفهم الضابط قوله وظن أن الباشا في الحجرة التي أشار إليها، وعاد يقول: «هل سعد باشا هنا في الحجرة؟» فقال الأستاذ فؤاد: «لا، وإنما أنا ذاهب لإبلاغه.» فنظر إليه الضابط نظرة فاحصة، وقال له: «بل أنا أريد أن أراه بغير وساطتك.» فاعتذر الأستاذ وهتف في شيء من الاستغراب: «إن العرف هنا لا يبيح الزائر أن يقدم نفسه بنفسه!» قال الضابط متهكما: «في هذه الزيارة لا بأس من المقابلة والتقديم في وقت واحد!» والتفت إلى الأستاذ فؤاد فرآه واضعا يده اليمنى في جيبه، فخيل إليه أنه يخرج سلاحا فناداه في لهجة عسكرية: «ارفع يديك.» وأسرع الضابط الثاني إلى مسدسه يستعد لتجريده.
وكان سعد في مكتبه قد شعر بما يجري على حجرة الاستقبال؛ فخرج إلى باب المكتب، ولمحه الأستاذ فؤاد والضابط هناك في وقت واحد، فقال الأستاذ للضابط: «ها هو سعد باشا.» فتركه الضابط واتجه إلى الباشا وهو يحييه التحية العسكرية.
نظر الباشا إلى الضابط مليا ثم دعاه إلى المكتب، فرفع قبعته ودخل معه، ثم خرجا والباشا يتقدمه في ثباته المعهود إلى درج السلم حيث وقف وقال له بالفرنسية: «لست أذهب معك على قدمي، سأرسل في إحضار مركبة.» فلم يفهم الضابط قصد الباشا وردد قوله: «لدي أمر بالقبض على سعادتك.» قال الباشا وهو يبتسم: «فهمت ذلك جيدا، ولكني أريد إحضار مركبة.» ففهم الضابط عند ذلك بشيء من العناء، وأشار إلى حيث تقف السيارة العسكرية بالانتظار. وكانت آخر كلمة قالها سعد قبل مغادرته بيت الأمة «تشجعوا» ... قالها بالفرنسية وكررها مرات.
ولما هم بالنزول التفت الضابط إلى الواقفين الذين تجمعوا في هذه الفترة وسأل: «أين إسماعيل صدقي باشا؟» وكان صدقي باشا مع الواقفين فقال: «أنا هو.» فقال الضابط: «تفضل بالمجيء معي.» فأجابه: «حسنا، ولكن تسمح لي بالرجوع لحظة إلى المكتب.» فوضع الضابط يده على كتفه وقال: «لا، إني أخشى أن تذهب!» قال صدقي باشا: «لو كنت أريد الهرب لما أظهرت نفسي.» ثم أفلت من يده ومضى إلى المكتب، فانتظر الضابط إلى أن عاد ... ثم سأل: «أين منزل حمد الباسل باشا؟» فلم يجبه أحد، وبعد هنيهة أشار أحد الواقفين إلى المنزل ودل الضابط عليه.
ولم يذكر لي الأستاذ فؤاد قصبجي فيم كانت عودة صدقي باشا إلى المكتب تلك اللحظة، ولكني علمت بعد ذلك أنه عاد إليه ليقصي بعض الأوراق الهامة مخافة أن تأخذها القيادة العسكرية أثناء التفتيش.
ولما هم الضابط بالانصراف تقدم إليه عبد العزيز فهمي (بك) والاضطراب باد عليه، وقال بالفرنسية: «إذا أردتم مرة أخرى استدعاء أحد منا فيكفي أن تكتبوا إليه وهو يحضر إليكم.» واضطر إلى أن يكرر عبارته مرة أو مرتين؛ لأن الضابط لم يفهمها لأول مرة، فلما فهمها قال له: «أشكرك.» ومضى.
وبعد نحو ساعة حضر إلى بيت الأمة حمد الباسل باشا، وكان قد علم بما حدث، فخاطب مركز القيادة العليا بفندق سفواي سائلا: «إلى أين تريدونني أن آتيكم؟» فأحالوه إلى ثكنة قصر النيل ليسألها ... وطلبت منه هذه الحضور على الأثر؛ فودع أصحابه وذهب إلى الثكنة.
وقد أدخل سعد وأصحابه في الثكنة، كل واحد منهم إلى حجرة منفردة حتى المساء، ثم سمح لهم بالاجتماع ساعة العشاء، وقضوا الليلة في الثكنة يتساءلون عن مصيرهم، وفي الصباح أبلغهم ضابط كبير أنهم قد سمح لهم باستحضار ثياب من منازلهم تكفيهم لمدة شهر، وبخادم لكل منهم، إذا شاء.
وفي اليوم الثالث سئلوا: «هل أنتم على استعداد للمسير؟» فأجابوا: «على أتم استعداد.» ونزلوا مع الحراس إلى فناء الثكنة، فركبوا سيارتين تتبعهما سيارة بضاعة، تحمل الأتباع والحقائب.
وخرجت السيارات مسرعة إلى محطة العاصمة، فلما نزلوا منها أحاط بهم عشرون ضابطا إنجليزيا، ومعهم محمود صدقي باشا محافظ العاصمة، وساروا بهم إلى الرصيف الذي يقف عليه قطار بورسعيد، وأدخلوهم جميعا إلى ديوان واحد في القطار، ومعهم واحد من الضباط.
لم يكن سعد وأصحابه يعلمون الوجهة التي يتجهون إليها، فكانوا عند خروجهم من ثكنة قصر النيل يحسبون أنهم منقولون إلى معسكر المعادي، فلما اتجهت السيارة يسارا، وبلغوا قطار بورسعيد ظنوا أنهم منقولون إلى رفح أو إلى السويس، ثم وصلوا إلى بورسعيد ووجدوا هناك ضابطا بريطانيا بالانتظار، فأركبهم معه سيارة إلى الميناء وأصعدهم إلى نقالة بريطانية تقل ألفين من الجنود الإنجليز في طريقهم إلى بلادهم، وأخذ البحارة في تدريبهم على وسائل النجاة عند الخطر؛ لأن السفن كانت تصطدم بالألغام كثيرا في بحر الروم.
علموا أنهم منقولون إلى جزيرة مالطة حيث كانت القيادة العسكرية تأسر المعتقلين من المصريين والترك والألمان، ولكنهم لم يعلموا ذلك من ضابط النقالة إلا بعد الخروج من الميناء. فقيل لهم في عرض البحر: إنهم ذاهبون إلى تلك الجزيرة. ووصلوا إليها بعد ثلاثة أيام.
تساءل الكثيرون: على أي قاعدة جرت الحكومة الإنجليزية باختيار أصحاب سعد الثلاثة في هذا الاعتقاد؟ وتعليل ذلك ما نرى أن القيادة العسكرية لاحظت التقاليد الرسمية في اختيار كبراء الوفد الذين يعتقلون مع رئيسه، فإسماعيل صدقي باشا وزير سابق، ومحمد محمود باشا مدير سابق، وحمد الباسل باشا من غير الموظفين هو رئيس قبيلة بدوية كبيرة يعرفه الإنجليز من أيام الحرب الطرابلسية، وجميعهم يحملون لقب الباشوية، فاختيارهم هو الاختيار الوحيد الصحيح من وجهة التقاليد الرسمية.
الفصل الثالث
الثورة
سرى نبأ الاعتقال بطيئا متناقضا في اليوم الأول؛ لأن القيادة العسكرية حظرت على الصحف نشره والتلميح إليه، فعلم به أعضاء الوفد وأصدقاؤه وموظفوه في يومه، وعلم به طلبة المدارس العليا في اليوم التالي؛ لأنهم يجتمعون في أمكنة متقاربة، وينتمي بعضهم إلى أعضاء الوفد وأصدقائه بصلة القرابة أو المعرفة، وتسامعت به أحياء القاهرة شيئا فشيئا، وانتقل منها إلى الأقاليم بمثل ذلك البطء والتناقض، فلم يسر إلى القطر كله إلا بعد يومين أو ثلاثة.
أضرب طلاب المدارس العليا في صباح اليوم العاشر من شهر مارس عن تلقي الدروس، وخرجوا من مدارسهم في مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج على اعتقال الزعماء، وعلى كبت شعور الأمة وحرمانها الحق في إبداء مشيئتها، وهي تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلى بيان حقها وتقرير مصيرها.
وأضرب عمال الترام بعد الظهر، ثم أضرب الحوذية في اليوم الحادي عشر، وأصبحت الدكاكين مغلقة في معظم أنحاء المدينة إلا الدكاكين الأوروبية، وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس وطلاب الأزهر وطوائف شتى من الجمهور، فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير، ولا بين مشترك أو غير مشترك في المظاهرة.
وكانت نقابة المحامين قد أعلنت الإضراب؛ فانقطع المحامون عن المحاكم إلا من كان يوفدهم المجلس إليها لطلب تأجيل القضايا، واستثارت القسوة في قمع المظاهرات غضب الناس وحنقهم؛ فكثرت المظاهرات بدلا من أن تقل، واضطرمت وقدتها بدلا من أن تخمد، وطاش صواب الحراس العسكريين من جراء هذه المفاجأة؛ فأصبحوا لا يميزون بين جمع وجمع، ولا يطيقون النظر إلى حشد من الناس. ففي يوم الجمعة الرابع عشر من شهر مارس أطلقت السيارات المدرعة نيرانها على حشد كبير بجوار المسجد الحسيني؛ فقتلت منهم بضعة عشر وجرحت خلقا كثيرين، ولم يكونوا في مظاهرة ولا قصدوا إلى التظاهر، ولكنهم كانوا خارجين من المسجد بعد أداء الصلاة، وضابط الفرقة يجهل كل شيء إلا أنهم قوم متجمعون، وعنده أمر صريح بإطلاق النار على كل قوم متجمعين!
وتعددت المظاهرات في مدن القطر، فقوبلت بمثل ما قوبلت به في القاهرة، وسرت أخبار القتل وإطلاق الرصاص إلى أنحاء الأقاليم؛ فانفجر كمين السخط الذي طال كظمه في الصدور، وانفجرت الثورة في كل مكان.
من الخطأ أن يقال: إن المظاهرات كانت هي سبب الثورة الوحيد، أو إن الثورة ما كانت لتنفجر في القطر لولا مظاهرات العاصمة. فإنما كانت المظاهرات كالشرر الأول يتطاير من فوهة بركان يغلي وهو يهم بالانفجار، فمن شهد تلك الثورة الجارفة التي اندفعت في حينها اندفاعا يدل على عمق مكامنها وتأجج وقودها، أيقن أنها قوة لا تحبس طويلا، وأنها هي سبب المظاهرات وليست نتيجة المظاهرات.
فقد صبر الناس زمنا على مظالم الحرب ومضانكها، ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة، فإذا بهم يعالجون مرارة الخيبة ويوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية، وزاد في نكايتهم أنهم يعانون هذا الكظم كله في الوقت الذي تعلو فيه دعوة الإنصاف وتتجاوب فيه الأصداء بالظفر والرجاء، وأنهم يطلبون أمرا يسيرا هو حق الشكوى والاحتجاج فيجابون بالتهديد والإقصاء عن البلاد، ثم يستنكرون هذا العنت الغاشم فيعاقبون بإطلاق الرصاص، ولا يراد منهم إلا أن يختنقوا وهم صامتون.
فلما شاع خبر إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وشاعت أخبار الموتى والمعتقلين من الطلاب والشبان العزل المسالمين، طغى الغضب بعد أن طم، وظهر بعد أن عم، وكان ظهوره على نمط واحد في جميع البلاد بغير تدبير ولا سبق اتفاق، فبدأ انقطاع السكك الحديدية ما بين طنطا وتلا في اليوم الثالث عشر من الشهر، ثم انقطعت في جهات كثيرة دفعة واحدة، وتناول التحطيم والتخريب أسلاك التلغراف والتليفون وقضبان السكة الحديد حيثما وصلت إليها أيدي الثائرين.
ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود، وهو تعويق القاطرات المسلحة والفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى لجمع السلاح، وتفتيش المنازل العسكرية في جمع السلاح من بداءة الحرب، حتى جمعت المدى الكبيرة والعصي الغليظة وكل ما يصلح للتسلح به في عراك أو مشاجرة، ثم لمحت بوادر الثورة بعد اعتقال الزعماء، فعادت إلى حملة أخرى من حملات التفتيش، وأوجس الناس من عواقب هذه الحملة شرا، فخطر لبعضهم أن يعوقوها بقطع المواصلات.
إلا أن الباعث الأكبر إلى التحطيم والتخريب كان اندفاعا جامحا بغير قصد مرسوم: اندفاع الساخط يحار فيما يصنع وهو ساخط، كأنما هو في هذه الفورة الجامحة صريع مكموم محبوس في بيت مغلق، يريد أن تسمعه الدنيا ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره. فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان؛ لأن هذه العوارض هي كل ما يستطاع في تلك الحالة. ولو كان باعث التحطيم العدوان على الملك والنفس، ولم يكن مجرد الاحتجاج وإبلاغ الصوت إلى العالم لاتجه الثائرون إلى نهب خزائن الحكومة وأموال الأغنياء والمصارف، وهو ما لم يحدث قط في بلد من البلدان.
وظل الإنجليز مضللين عن فهم شعور هذه الأمة، يفسرون أعمالها بأسباب المصالح، ولا ينظرون إلى بواعثها النفسية، كأنما البواعث النفسية عامل لا يحسب له حساب في حركات الجماهير. فظنوا أن أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية. وربما طاب لرؤسائهم أن يفهموا ذلك؛ لأنهم أبلغوا حكومتهم في لندن أن الأمة هادئة فاترة، وأنها ضعيفة لا يخاف منها انتفاض.
وأن أناسا كثيرين - ومنهم بعض المصريين - ليعجبون إذا عرفوا الآن أن هذه الثورة المفاجئة لم يقع فيها تنظيم ولم تكن فيها رئاسة مدبرة على الإطلاق، وأن مظاهرة الطلبة الأولى وقعت على غير علم سابق من الوفد، بل على خلاف النصيحة التي سمعها الطلبة من بعض أعضائه الذين بقوا في القاهرة بعد اعتقال سعد وأصحابه الثلاثة.
لكنها هي الحقيقة التي نؤكدها بعد استقرائها من مصادر عديدة. فإن الطلبة أصبحوا مضربين في مدارسهم يوم المظاهرة، وهم مختلفون في الخروج أو البقاء، ثم خطر لفريق منهم أن الخروج ربما خالف مشيئة الوفد، وأفسد عليه رأيا يفكر فيه أو خطة يتوخاها، فبعثوا إلى «بيت الأمة» أفرادا منهم يستفسرون، ويعودون إليهم بما يقر عليه رأي الأعضاء، وهناك التقوا بالأستاذ «عبد العزيز فهمي بك»، فأفضوا إليه بقصدهم، وأبلغوه هياج الطلبة وتحفزهم للخروج والتظاهر في أحياء العاصمة؛ فثار بهم الأستاذ وانتهرهم انتهارا شديدا وهو يقول لهم ما معناه: «إن المسألة ليست لعب أطفال ... دعونا نعمل في هدوء، ولا تزيدوا نار الغضب اشتعالا عند القوم.»
فتركوه وهموا بالانصراف متذمرين مغتمين، وإذا بالأستاذين محمود أبي النصر وعبد اللطيف المكباتي يلحقان بهم ليخففا عنهم أثر الكدر الذي خامرهم من تأنيب عبد العزيز بك، فتلطفا في التسرية عنهم والنصح لهم بالتزام السكون واجتناب المظاهرات، وانصرف رسل الطلبة على أن يبلغوا زملاءهم ما سمعوه وهم مترددون بين الإغضاء عنه أو الإصغاء إليه، ولكن زملاءهم كانوا قد استبطئوهم، وتهايجوا بما سمعوا من كلام خطبائهم واستثارة دعاتهم، فخرجوا قبل أن يعود إليهم رسلهم بنتيجة سؤالهم، وتمت المظاهرة الأولى على هذا المنوال.
أما حوادث الأقاليم، فقد تمت بغير إيحاء ولا تدبير؛ إذ لم يكن للوفد في ذلك الحين لجان يجوز أن يقال إنها اتفقت على تنفيذ خطة مرسومة في جميع الأقاليم، ولم يكن خبر السكة التي قطعت بين طنطا وتلا قد شاع في القطر حتى يقال إنه جاء في طليعة الحوادث بمثابة الإيحاء والقدرة على عمد أو على غير عمد. وإنما نجمت الثورة من بديهة الأمة كلها؛ لأنها كانت كلها على اتفاق في الغضب المكظوم والتأفف الذي بلغ مداه.
ولقد أخطأت السلطة العسكرية في كل تدبير؛ فكانت تستفز الناس بكل عمل تقصد به إلى البطش والإرهاب ، وتدفعهم إلى نقيض ما تريد من الخوف والطاعة، وتثير النفوس إلى التحدي والمعاندة بدلا من الإذعان والسكينة.
بالغت في قمع المظاهرات فزادت المظاهرات، وأنذرت كل من يقطع المواصلات «بالإعدام رميا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية»، فكان جواب هذا الإنذار إضراب عمال السكة الحديدية في اليوم التالي وخروجهم من مصانعهم متظاهرين، ثم اندفع الناس إلى قطع القضبان وأسلاك التلغراف والتليفون غير مكترثين للعاقبة، فانعزلت القاهرة والمدن الكبرى من جميع الجوانب، واضطرت السلطة إلى استخدام الجنود الإنجليز لتسيير القطر وتنظيم المواصلات. وبعد أن كانت تتوعد القرى التي تنقطع السكة على مقربة منها بالغرامة عادت إلى نشر إنذار تقول فيه: إن كل حادث جديد من حوادث التدمير «يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من سواها من مكان التدمير» ... واستدعى القائد العام بعض الوزراء والسروات في اليوم العشرين، وحذرهم من دفع السلطة إلى «تدمير العمائر وتخريب القصور»، وطلب إليهم أن يبذلوا جهدهم في النصح للشعب بالهدوء والإقلاع عن «المشاغبات».
كل ذلك والثورة تتفاقم، والجماهير تقدم وتقدم، ومنهم من أغاروا في بعض البلدان على مراكز الشرطة، فانتزعوا ما فيها من السلاح؛ فاستخدمت السلطة الطيارات والبواخر النيلية لإيصال المدد إلى الجهات المعزولة، وحدثت أثناء ذلك مناوشات قتل فيها خلق كثير.
على أن الثورة لم تكن فورة غضب بغير معنى، كما أراد أعداؤها والناقمون منها أن يتخيلوها، فلو كانت كذلك لما ظهر فيها ما قد ظهر من نفحات النخوة القومية والأريحية الإنسانية التي ترتفع إليها الشعوب كما يرتفع إليها الأفراد في ساعات السمو والإشراق والفداء. فإن هذه النفحات لا تظهر في سورات الغضب الحيواني حين ينطلق على غير هدى وفي غير مطلب، ولكنها تظهر حين تكون الثورة إعرابا عن شعور مكتوم ونزعة مشبوبة إلى الكمال، وقد كانت الثورة المصرية كذلك، فغلب فيها الروح القومي على كل عصبية وكل علاقة وكل فارق، مشى فيها علماء الأزهر يحملون بساط الرحمة في تشييع جنازات الشهداء، ويرفعون الأعلام وعليها شارة الهلال والصليب، وقام القساوسة في المساجد يخطبون المسلمين، ويؤدون ما يؤدى لها من الشعائر الدينية، وخرج العقائل والأوانس من الخدور يسابقن الرجال والشبان إلى المهالك والأخطار ويستهدفن لجند مسلحين متأهبين كأنهم في ميدان قتال، وغلبت فرائض الحمية الوطنية على كل فريضة وكل تقليد؛ فكان الضباط يسيرون إلى جانب القضاة والمحامين، وطلاب المدرسة الحربية يسيرون إلى جانب الطلاب في كل مدرسة، وكانوا جميعا ينادون باسم مصر، ولا يذكرون إلا أنهم مصريون.
وتجلت بسالة التضحية على مثال رائع نبيل كأنبل ما سطرت تواريخ الجهاد والفداء في وثبات الأمم. فمات أناس يحملون العلم أنفا من الفرار أمام نيران المدافع وهم عزل من السلاح، ويرى إخوانهم مصرعهم، فيبادرون إلى رفع العلم ليستقبلوا مصرعا كمصرعهم طائعين متنافسين، في لحظة يطيقون فيها رؤية الجثث المطروحة لقى ولا يطيقون رؤية العلم ملقى على التراب.
وقد أحاطت بالمصريين في تلك الأيام موغرات كثيرة من فتك وإرهاب وخشونة واستفزاز، وفي بعضها ما يشفع للناس لو طغت بهم مرارة النقمة وجمحت بهم لواعج الضغينة، لكنهم مع هذا لم يقترفوا سقطة واحدة تشين صاحبها في غضبه أو رضاه، ولم ينسوا أدب المروءة في أشد أوقات الهياج والاضطراب؛ فلم يعتد أحد قط على طفل أو على شيخ عاجز أو على امرأة، وشهد اللورد اللنبي للثورة المصرية بهذا الأدب في الكتاب الأبيض حيث قال بعد ثلاث سنوات: «كانت سيدة إنجليزية مستقلة مركبة مفتوحة، فهاجمها الرعاع وقذفوها بالحجارة يوم الجمعة في حي بولاق، وقد نجت من الأذى البليغ بأن اتخذت من مظلتها مخبأ فمزقت الأحجار المظلة، وهي أول مرة اعتدي فيها على امرأة في كل السنوات الثلاثة الماضية.» ولو ثبتت هذه الحادثة كل الثبوت لما كانت شيئا يذكر؛ لأنها لن تكون إلا الندرة التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها، ولكن التحقيق لم يثبت بوجه من الوجوه أن السيدة كانت مقصودة بالاعتداء والإساءة ... وإلا فما الذي كان يحمي سيدة منفردة لا تحمل معها إلا المظلة من عدوان العشرات والمئات الذين يقصدونها بالإيذاء؟! إن انفراد هذا الحادث في جميع سنوات الثورة لحقيق وحده بالجزم بنفيه لا بمجرد التشكيك فيه، وقد سبقته الحوادث الكثيرة المشهورة في أعنف أيام الهياج، فكان الثائرون يتورعون فيها جميعا عن المساس بالسيدات والأطفال، ومنها حادثة «بهيج» المشهورة على الحدود الغربية، التي شهدت فيها صحف الاستعمار بترفع الثوار المصريين على هذه السقطات ثائرة على المستعمرين، وفي وسعها أن تلفق عليها التهم وتزور عليها العيوب.
لقد حدث أن أفرادا من الأرمن أطلقوا الرصاص على المتظاهرين من نوافذ المنازل فلم يكن جزاء الثائرين لهم إلا بمقدار ما يقتضيه دفع العدوان ومنع تكراره، وحدث أن الغوغاء في أثناء المظاهرات قذفوا زجاج الدكاكين بالحجارة، فحسب بعض الأجانب أنهم مقصودون بالسخط والعداوة، والحقيقة أن إلقاء الحجارة على تلك الدكاكين لم يكن عن شعور العصبية أو العداوة للأمم الأجنبية، وإنما كان استنكارا لفتحها في أيام الإضراب، وإحساسا من الغوغاء بأن أصحابها يجبهون شعور الأمة ويستخفون بمطالبها ويترفعون عن مجاملتها. فأصابوا دكاكين المصريين التي اتفق فتحها في تلك الآونة كما أصابوا دكاكين الأجانب، ورجحت كفة الأجانب في الخسارة؛ لأن متاجرهم أكثر عددا في الأحياء الإفرنجية التي تطوف فيها المظاهرات، ومع هذا لم ينس الطلبة أن يعتذروا إلى «الضيوف» من عمل الغوغاء في بيان نشروه في الصحف العربية والإفرنجية، وعلقوه على وجهات الدكاكين ووعدوا باتقاء تكراره في المستقبل.
ولم يجد المستعمرون في الواقع حادثا يستغلونه للتشهير والتشويه غير حادث ديروط أو ديرمواس الذي قتل فيه ثلاثة من الضباط وخمسة من صف الضباط الإنجليز، وهو حادث على جسامته لا يذكر إلى جانب الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء حملات التأديب والتفتيش ... ومنها فظائع العزيزية والبدرشين والشبانات التي نترك تفصيلها إلى غير هذا المقام، وسنضرب عنها صفحا في هذا الكتاب، ولا نذكر من فظائع قمع الثورة إلا مثلا صغيرا يغني بالدلالة عن الشرح والإسهاب، وهذه خلاصته بعد التجاوز والتلطيف.
في أول سبتمبر سنة 1934 نقلت إلينا الأنباء البرقية من لندن أن جنديا إنجليزيا سيق إلى المحكمة لاتهامه بمقتل عشيقته، فكان من المحاسن التي تشفع بها إلى المحكمة واعتقد أنه يستحق بها العفو والرحمة أن قال بغير سؤال ولا مناسبة إنه كان صولا بالجيش البريطاني بمصر سنة الثورة فقتل ثلاثة من المصريين، وإنه بعد بضعة أسابيع كاد صديق له أن يقتل فقتل هو مصريا آخر، ثم عمل في شركة للسيارات رئيسا للمهندسين، وعمل في خدمة أمير مصري أربع سنوات، وقد لخص القاضي الدعوى فقال: «إنه مهما يكن ما فعل تافني - اسم الرجل - فإن رؤساءه يومئذ لم يعدوا ما فعله جريمة.»
فهذا جندي من قامعي الثورة يفاخر بما جنى بعد الثورة بخمس عشرة سنة! وبعد أن أكل خبزه من خير أمير مصري أربع سنوات! وهو واحد من عشرات الألوف لا يسألون عمن قتلوا، ولا يحتاجون إذا سئلوا إلى عذر أكثر من ادعاء الخطر والدفاع عن الحياة، وكل من لديه ذرة من التصور وذرة من الإنصاف ليعلم بعد ذلك أن الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء ثورتهم أكبر وأهول بما لا يقاس من فظيعة الاعتداء على فئة من الضباط والجنود كلهم مسلحون، ولا يتكاثر عليهم الجمهور الأعزل من السلاح.
وندع فظائع الثورة جانبا ونسأل: لم كل هذا؟ أكانت هذه الزوبعة الدامية ضرورة لا محيد عنها؟ أكانت حادثا لا يمكن اتقاؤه؟ كلا! لم تكن ضرورة ولا مصلحة. وكان ميسورا أن تجتنب اجتنابا وأن يحقن كل ما سال فيها من دماء، ويصان كل ما خرب فيها من عمار وضاع فيها من أموال، لولا الأخطاء المتلاحقة التي ارتطمت فيها السياسة الاستعمارية لقلة اكتراثها للعواقب، وإلقاء اعتمادها كله على العدد الحربية، وأنها تضمن لها قمع الأمم الضعاف إذا ضاقت الصدور عن الاحتمال.
فهي أخطأت في البداءة بإعلان الحماية واغتصاب أرزاق المصريين وأدوات معيشتهم في إبان الحرب العظمى. وكان في مقدورها أن تتقي كل ذلك بأن ترد إلى المصريين استقلالهم، وتكل إليهم أن يدبروا بأنفسهم ما يعنيهم من أمر المعاونة في الحرب بما يطيقون. فإن لم يوافقها ذلك فماذا كان يمنعها أن تعلن الاستقلال، وترجئ النظر في تفصيل قواعده إلى ما بعد الفراغ من القتال؟!
ثم أخطأت بحرمان زعماء المصريين إبداء مطالبهم والبحث في مستقبلهم، مع أنهم لم يقصروا في المجاملة ولم يبدر منهم - وهم يخاطبون رجالها هنا أو في إنجلترا - أثر من التحدي والإعنات.
ثم وقعت الأزمة الوزارية التي لا بد من وقوعها، فألقت على الزعماء تبعتها، وألقى الزعماء التبعة عليها، ولم يكن رد الزعماء من قبيل التراشق بالتهم والمجاوبة على الادعاء بمثله، ولكنه كان هو الحقيقة بعينها في نظر المنصفين الواقفين على الحيدة لا في نظر الوفد المصري وحده؛ فالمسئول عن الأزمة الوزارية وعن صعوبة تأليف الوزارة المصرية هو السياسة الاستعمارية، أو هو كما قال الوفد: «أولئك الذين وضعوا من هم أهل للوزارة في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمام مواطنيهم.»
وإلا فماذا يقول الوزير المصري لأبناء وطنه، إذا فرضنا أنه أراد فعلا أن يخدم السياسة الاستعمارية ولا يحفل بمصير وطنه؟ أيقول لهم: إني خائن لا أبالي بغير الوصول إلى المنصب؟! أم يقول لهم: إنني أتولى المنصب لأحول بينكم وبين المطالبة بالاستقلال أو السفر إلى حيث تشتركون في تقرير مصيركم؟! وهل يستطيع أن يقول لهم ذلك في الوقت الذي ينادي فيه ساسة الإنجليز أنهم لا يمنعون أمة متقدمة أو متخلفة أن تشترك في تقرير مصيرها؟!
فإحجام الساسة المصريين عن قبول الوزارة حتى لا حيلة لأحد فيه؛ إذ ليس يوجد في مصر ولا في غير مصر مرشح للوزارة يشتري المنصب بهذه الخيانة الصريحة ولو كان مدخول الضمير؛ لأنها خيانة سمجة مبتذلة لا تستر فيها ولا مغالطة ولا عذر لمن يشاء أن ينتحل الأعذار، ما دامت الأمة تطلب حقها والوزارة التي أذعنت للحماية قد تحركت للبحث فيها، والعالم كله ينادي بحقوق الشعوب وتقرير المصير ... ففي هذا العمل لو أقدم عليه المرشح للوزارة قضاء حياته السياسية إن لم يكن فيه قضاء على الحياة.
لكن القيادة العسكرية شاءت مع هذا أن تلقي التبعة على الوفد في هذا الموقف الذي لا حيلة فيه للوفد ولا لأحد من المصريين؛ فأخطأت خطأها الغاشم، واعتقلت رؤساءه جزاء على السيئة التي أساءتها هي ولم يسيئوها. ثم أخطأت بعد هذه السلسلة من الأخطاء في بطشها الدموي بمن غضبوا لذلك العسف المبين عزلا من السلاح، ومن نادوا بما كان ينادي به أقطاب الحلفاء في مؤتمر السلام، ولعلها لو فسحت لهم جو بلادهم ينادون فيه بما يشاءون، لما خرجت الثورة من طور الدعوة إلى طور التخريب والتحطيم.
وأكبر أخطاء السياسة الاستعمارية جميعا، بل هو الخطأ الذي يطوي فيه جميع الأخطاء؛ أنها أساءت تقدير الشعور الذي كان يسور ويثور في نفوس المصريين قاطبة على تفاوت الطبقات والمشارب، فليس في وسع إنسان سياسي أو غير سياسي أن يجهل هذه الأمور كلها كما يجهلها نائب المندوب البريطاني - السير ميلن شيتهام - قبل الثورة بأقل من ثلاثة أسابيع؛ فإنه كتب إلى حكومته في الرابع والعشرين من فبراير يقول: «إن الوزيرين رشدي وعدلي فقدا الشهرة الموقوتة التي عادت عليهما من الاستقالة، وإن زغلولا لا يثق به أحد، وإن هناك قلقا يسيرا بين أفراد الطبقة العليا الذين يطمعون في تعظيم مكانتهم ببلوغ مرتبة من مراتب الحكومة الذاتية، ولكن الحالة لا تختلف في لبابها عن الحالة التي طرأت في سنة 1914 عندما رفض الأمير حسين وكبار الوزراء طويلا أن يقبلوا الحماية ما لم تكن مشفوعة ببعض المنح التي لم نكن على استعداد لإعطائها، وإن الحركة الحاضرة على كل حال ليست بالتي تضارع حركة مصطفى كامل، أو بالتي يصح أن تؤثر في قرارات الحكومة البريطانية فيما يتعلق بالمسائل الدستورية والوضع الذي توضع فيه الحماية.»
ولما بدت طلائع الثورة لم يجد هذا السياسي النادر ما يداري به غفلته وعجزه عن سبر غور الحرية الوطنية إلا أن يعزوها إلى أسباب أجنبية غير وطنية؛ فأبرق في التاسع من مارس يقول: «إن الحركة معادية لبريطانيا معادية للعرش معادية للأجانب، وفيها نزعات بلشفية نتيجة إلى تخريب الأسلاك والمواصلات، وهي منظمة مدبرة ولا بد أن تكون مأجورة.»
وأذاعت الحكومة البريطانية مذكرتها عن الثورة بعد ذلك بشهر فجاء فيها: «إن هناك شواهد تثبت أن الخطة مدبرة منظمة بإحكام ... ومما يستحق الملاحظة أن الخطة التي نفذت تشابه البرنامج الذي رسمه الألمان والترك للغارة على مصر في خريف سنة 1914، وهو البرنامج الذي أفضى به إلى السلطات المصرية الجاسوس الألماني مورس المقبوض عليه في الإسكندرية، وإذا حسبنا كل حساب للحالة العقلية أو لدواعي التذمر الناشئة بين الفلاحين المشار إليها آنفا، فكل هذا لا يكفي لتعليل هذا الانفجار الخطير المنظم الذي تلوح فيه إصبع تركيا الفتاة، كما قد تلوح فيه إصبع الألمان.»
إي والله! ثورة تشمل أربعة عشر مليونا يدبرها الترك والألمان في الخارج أو في الداخل، ولا تعثر فيها السلطات الإنجليزية بدليل واحد على هذا التدبير غير التنجيم والتخمين! وإن الإنسان لا يدري أيضحك أم يحزن من هذا التفكير العجيب الذي يعلل ثورة مصرية تنفجر في شهر مارس بأنها دسيسة أجنبية دبرتها حكومات منهارة مضى على هزيمة رؤسائها وتفرقهم في البلاد وانقطاع الصلة بينهم وبين أتباعهم عدة شهور ... وأدعى من هذا إلى الحيرة بين الحزن والسخر أن تكون الثورة من صنع الطبقات العليا ومن صنع البلشفية في وقت واحد!
ولا نظن أن الغفلة وحدها هي سر هذه التعديلات المضحكة المبكية التي تعلقت بها السياسة الاستعمارية في تلك الفترة، ولكنها رأت وكلاءها قد وقعوا في الجهل الذي لا رجعة فيه فاستغلت جهلهم أحسن استغلال في استطاعتها؛ لأنها وجدت لها فائدة من تشويه الحركة المصرية بنسبتها إلى جواسيس الترك والألمان، ووجدت أنها قد تحول بهذا التشويه بين الدعاة المصريين ومسامع الحلفاء والأمة الإنجليزية. فمزجت بين الغفلة والذكاء هذا المزيج الجدير بأساليب الاستعمار!
ولقد ظل القوم يتخبطون في فهم الحركة وسبر أغوارها حتى بعد عمومها وانتشارها، وطفقت الحوادث تتلقاهم مرة بعد مرة بتكذيب ظنونهم وتقديراتهم، فلا تنجاب الغشاوة عن أبصارهم. ومن ذاك اعتقادهم بعد شبوب الثورة في البلاد أنها ضرب من الشغب الذي يفرقون فيه بين طائفة من الأمة وطائفة أخرى، كما كانوا يصنعون في العهد السابق تارة بين الباشوات ولابسي الجلاليب الزرقاء، وتارة بين طلاب الوظائف وأصحاب المصالح الحقيقية، وتارة بين المسلمين والمسيحيين ... فألقى اللورد كرزون بعد انفجار الثورة بنحو أسبوعين بيانا يثني فيه على الموظفين المصريين؛ لأنهم ثابروا على أعمالهم في إبان الهياج الذي غمر البلاد، ويقول فيه: إنهم صفوة المتعلمين من المصريين «فمسلكهم هذا يدل على أن عقلاء الأمة لم يشتركوا في الحركة الأخيرة». فكان جواب هذا الثناء المزري أن أجمع الموظفون في الدواوين كلها على الإضراب ثلاثة أيام إعلانا للتآزر بينهم وبين طبقات الأمة في المطالب الوطنية، وكتبوا عرائضهم بهذا المعنى إلى صاحب العظمة السلطان، وأبلغوها الحكومة الإنجليزية.
لم تنقطع هذه الأخطاء ولا جرائرها، أيام الثورة ولا بعدها، ولم يقع منها الضرر على أحد غير المظلومين فيها، ومن ذا الذي يحاسب الأقوياء حين يخطئون مع الضعفاء؟!
وهكذا يليق الخطأ ويليق التمادي فيه بالأقوياء؛ لأنهم في غنى عن حسبان العواقب، ويستأثر الضعفاء بسوء العاقبة وإن جهدوا في اجتناب الأخطاء؛ لأنهم ضعفاء!
الفصل الرابع
سفر الوفد إلى باريس
جلس سعد وأصحابه الثلاثة في طريقهم إلى المنفى يتساءلون، وأول سؤال طبيعي يخطر لهم وهم مفارقون البلاد هو السؤال عما عسى أن يجري فيها بعد إقصائهم عنها: هل تسمع بالخبر؟ وهل تملك أسباب الثورة؟ وهل تقوى القيادة العسكرية كظم النفوس طويلا بعد هذه الضربة؟ فأما سعد فكان رأيه أن الثورة عمل شاق على بلد أعزل مرهق بالأعباء مشحون بالجند والسلاح والأرصاد. ولكنها إذا كانت واقعة فشعور الناس بالاختناق والتماسهم المنفس للجهر بآلامهم المكبوتة كاف لانفجارها والاستيئاس فيها.
وقريب من هذا رأي إسماعيل صدقي إلى نزعة من شكوك الرجل الحديث.
أما حمد الباسل ومحمد محمود فقد كان رأيهما الرأي الطبيعي لزعيم قبيلة بدوية وصاحب عصبية في الصعيد؛ فآخر شيء يطيب لزعيم القبيلة أن يفكر فيه أن قبيلته لا تثور لأجله ولا تأخذ بثأره، وكذلك صاحب العصبية في الصعيد، فاتفقا على ترجيح الثورة وإن لم يتفقا على النتيجة.
ويظهر أنهم - سواء منهم من رجح الثورة العاجلة ومن لم يجزم بوقوعها العاجل - قد وطنوا النفس على البقاء زمنا ليس بالقصير في جزيرة مالطة، ولم يخطر لهم أن الإفراج عنهم قريب. فبحث سعد عن منزل يستأجره وفكر في استدعاء السيدة الجليلة قرينته إلى الجزيرة ؛ لحاجته إلى العناية الصحية التي لا يجدها هناك في غير المنزل برعاية الزوجة الرءوم، ولم يفكر صحبه الآخرون في ذلك؛ لأنهم شبان أصحاء بالقياس إليه.
وصلوا إلى مالطة بعد أن قضوا في النقالة ثلاثة أيام. وقد كان سعد متعبا من مشقة الانتقال والدوار. وكان بين الشاطئ ومعتقل «بلفورستا» الذي اختاره حاكم الجزيرة لهم مسيرة نصف ساعة على القدم، فبحثوا عن مركبات في جوار الميناء فلم يجدوا إلا مركبة صغيرة يجرها حصان واحد. ركبها سعد وسار رفاقه وراءه على الأقدام، ووصلوا إلى المعتقل، فوجدوا أن السلطة العسكرية قد أعدت لكل منهم حجرة للنوم وأخرى للاستقبال، وثالثة للمائدة ومكانا للحمام.
وأراد سعد أن يكون أول عمل له في منفاه استئنافا لعمله في القاهرة، وتحديا للنفي والإرهاب، واستمرارا في المطالبة بالاستقلال وإنكار الحماية. فلم يكد يستريح من عناء سفره حتى كتب الرسالة البرقية الآتية إلى رئيس الوزارة الإنجليزية، يكرر فيها المطالب التي جاء من أجلها إلى هذه الجزيرة:
إن شرف الممالك يقدر بمقدار احترام ساستها ورجالها للمعاهدات السياسية التي يبرمونها والتصريحات الرسمية التي يفوه بها رجال تلك الحكومة الرسميون. ولما كانت إنجلترا في معاهدة لندن عام 1840 قد ضمنت استقلال مصر، كما أقسمت الملكة فكتوريا والبرلمان بالتاج والشرف عام 1882 أن الاحتلال لن يكون إلا وقتيا وأعلن جلادستون عام 1887 أن أوان الجلاء عن مصر قد آن، ولما كنتم جنابكم الرئيس الممثل لحكومة جلالة ملك بريطانيا والمدافع عن كرامة بلاده وشرف الأمة الإنجليزية الحرة؛ فإني أطالب جناب الرئيس المبجل برفع الحماية التي أعلنتها حكومتكم على بلادنا قسرا لمقتضيات الحرب وجلاء الجنود البريطانية عن وادي النيل احتراما للمعاهدات والتصريحات التي ذكرناها وصيانة لشرف أمة أنت على رأس حكومتها، وليأذن جناب الرئيس بأن أذكر أن سياسة العنف والإرهاق التي اتبعت معنا لا تزيدنا - نحن المصريين كافة - إلا تمسكا بمطالبنا، وثباتا في موقفنا، وأنه خير لإنجلترا أن تكون لمصر صديقة، وهناك نستطيع أن نقطع على أنفسنا عهدا بأن نصون مصالحكم، ونروج تجارتكم في بلادنا.
ولا شك أن آخر ما انتظرته الحكومة البريطانية - وهي تنفي زعيم مصر إلى جزيرة مالطة عقابا له على طلب استقلالها - أن لا تفيد من ذلك إلا أن تصبح الجزيرة ميدانا آخر من ميادين المطالبة بذلك الاستقلال!
نزلوا في المعتقل معزولين عن بقية الأسرى على خلاف السنة التي كانت متبعة فيه قبل وصولهم، ولم يؤذن لهم بالخروج للرياضة في الخلاء إلا مرتين كل أسبوع بعد التوقيع على حلف كتابي يقسمون فيه بالشرف أن لا يهربوا، ولا يساعدوا أحدا على الهرب، ولا يعطوا أحدا نقودا، ولا يعملوا شيئا فيه إيذاء لجنود جلالة الملك ... وبعد كل هذا لم تكن السلطة الإنجليزية تسلمهم من مالهم إلا بمقدار ما يلزمهم أول فأول لضرورة المعيشة، وكانوا قد برحوا مصر وليس معهم من النقد إلا قليل، فأرسلوا - بوساطة السلطة - يطلبون مالا من ذويهم في مصر، فجاءهم خمسمائة جنيه لكل من سعد وحمد الباسل ومحمد محمود، ومائة جنيه لإسماعيل صدقي، فأودعتها السلطة مصرف الجزيرة، وأباحت لهم أن يشتروا ما يشاءون بتحويلات يقبضها البائع من المصرف، ورخصت لهم في استخدام طاه ألماني وإبقاء النور الكهربائي إلى ما قبل منتصف الليل بنصف ساعة، فكانوا يقضون الوقت في التعاون على تعلم اللغات التي يحسنها بعضهم ولا يحسنها الآخرون.
ولم يسمعوا شيئا عن مصر ولا عن ثورتها إلا حين زارهم اللورد مثوين حاكم الجزيرة، وهو يقول لهم عرضا: «أشعلتم النار في مصر وجئتم إلى هنا!» فعلموا أن في مصر أحداثا خطيرة، وأدركوا أنها الثورة حين استطاع طاهيهم الألماني أن يدس إليهم بعض القصاصات عن صحيفة التيمس، وعرفوا منا قبسا من مظاهرات الطلبة وثورة البدو في الفيوم، ولكنهم لم يسمعوا بما يدلهم على مداها وتفصيلات وقائعها.
وبعد شهر من مالطة جاءهم النبأ بالإفراج عنهم والسماح لزملائهم في القاهرة بالسفر إلى حيث يشاءون، وأنهم مأذون لهم في السفر على الباخرة «كاليدونيا» التي تقل أولئك الزملاء، وستصل إلى الجزيرة صباح يوم الثلاثاء الموافق لنصف أبريل.
فكان لذلك النبأ في نفوسهم وقع عظيم؛ لأنه بشرهم بالحرية التي طالما تمنوها للسعي في قضية بلادهم، وأثبت لهم أنهم يسعون في قضية تستحق عناءها، ولا تخيب رجاء الساعين فيها.
فتفاءلوا بالإفراج عنهم خيرا، وفرحوا بما أولاهم من الثقة وتأكيد العزيمة أضعاف فرحهم بالطلاقة من الاعتقال، وباتوا على شوق إلى صباح يوم الثلاثاء؛ لينعموا بلقاء أولئك الزملاء الذين فارقوهم، ولا يعلم منهم أحد متى يكون اللقاء، وليسمعوا منهم تفصيل الحوادث التي لمحوا بصيصا منها في شذرات الصحف الإنجليزية، وهي لا تصل إليهم إلا بعد لأي في خلسة من الرقباء.
ثم أذنت السلطة لهم بزيارة الأسرى من أبناء وطنهم ومن الترك والألمان، فلبوا دعوة المصريين المعتقلين بالمعسكرات الأخرى، فاستقبلهم الأسرى الأجانب معجبين، واستقبلهم الأسرى المصريون فخورين، وكان بعض القادة الترك يقولون لأصدقائهم المصريين: «اعتبرونا منكم فقد أحببنا بلادكم وأحببنا زعماءكم.» ورحب بهم الأمير هوهنزلرن ابن عم غليوم، ورفع لهم بعض الألمان راية بيضاء مكتوبا عليها بالمداد الأحمر تاريخ (14 سبتمبر سنة 1807)، وهو تاريخ جلاء الجنود الإنجليز عن مصر عندما طمعوا في احتلالها للمرة الأولى، وكان الأسرى الألمان قد أقاموا معرضا فنيا لمصنوعاتهم التي استطاعوا أن يصنعوها بما لديهم من الأدوات القليلة تزجية لأوقات الفراغ، فقدم أحدهم إلى سعد تمثالا عسكريا بالعدة الحربية الكاملة للإمبراطور غليوم، مصنوعا من الورق المقصدر الذي تغلف به صناديق التبغ الصغيرة، فحياه سعد وقال له: «إنه لتمثال عظيم يمثل عظيما.» ثم قال: «ولكننا لا نملك عدة الحروب، وإنما نحن أمة سلام.»
وقد رست الباخرة «كاليدونيا» في ميناء مالطة ضحى يوم الثلاثاء، وعليها أعضاء الوفد القادمون من القاهرة وهم حسب ترتيب الحروف الهجائية: أحمد لطفي السيد بك، وجورج خياط بك، والدكتور حافظ عفيفي، وحسين واصف باشا، وسينوت حنا بك، وعبد العزيز فهمي بك، وعبد اللطيف المكباتي أفندي، وعلي شعراوي باشا، ومحمد علي بك، ومحمود أبو النصر بك، ومصطفى النحاس بك، ومعهم مكتب الوفد وفيه كتابه ومترجموه، ومنهم الأستاذ ويصا واصف الذي انتخب عضوا في الوفد بعد وصولهم إلى باريس.
ولما رست الباخرة على الميناء انتظر الأعضاء فيها قدوم إخوانهم المعتقلين فطال الانتظار، واستحسن بعضهم النزول إلى الجزيرة للقائهم، فوجدوا الخدم قد سبقوا سعدا وأصحابه إلى الشاطئ بالحقائب ومؤنة السفر، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل سعد وأصحابه الثلاثة يمشي معهم ضابط إنجليزي وضابط من أهل الجزيرة لم يفارقهم إلا عند صعودهم إلى السفينة، فكان للقاء الزعيم وأصحابه مشهد رائع لا ينساه من رآه، وامتزجت في لقائهم معان شتى من الشوق والإيناس، وشعور الظفر والثقة والأمل في النجاح.
أما كيف تحولت السلطة البريطانية في مصر من الحجر الشديد إلى السماح للوفد بالسفر حيث شاء، فخلاصة القول فيه أنه تحول ضروري قضت به الثورة، فلم يسع السلطة إلا أن تنقاد لحكمه في النهاية؛ لأنها عجزت عن تيسير الأمور بأيديها، وعجزت عن تأليف وزارة وطنية تقبل الحكم والوفد محبوس عن السفر، فلم تجد بدا من إطلاق سبيل الوفد عسى أن تفرج شيئا من حرج الموقف، وتمحو شيئا من الحفيظة التي أفعمت قلوب المصريين وزادتها الفظائع في إبان الثورة ألما على ألم.
وقد أدركت القيادة العسكرية من اللحظة الأولى أنها أخطأت التقدير، وانتهت باعتقال الزعماء إلى عكس ما تريد؛ لأن اعتقالهم لم يردع السيل المتجمع وراء السدود، وإنما جاءه بمدد جارف أطلقه ودفع به شوطا وراء شوط، ورسم للمصريين طريق المقاومة، فمن شاء منهم أن يرجع فلا حيلة له في الرجوع، ومن خطر له أن يتردد فليس أمامه موضع للتردد ... وأن أول من دعا إلى الثبات والمثابرة لهم أول من أصيب باعتقال الزعماء ومن هدد بهذا الاعتقال، وأول من ظن بهم أنهم يتقهقرون ويوجلون: قرينة سعد وخلفاؤه المتروكون في القاهرة!
فالسيدة الجليلة قرينته لم تضيع لحظة واحدة في الحزن والجزع الذي لا يفيد ... عادت من زيارة إحدى شقيقاتها حيث كانت ساعة الاعتقال، فما هو إلا أن علمت بما حدث أثناء غيابها حتى كان أول ما خطر لها أن أرسلت إلى شعراوي باشا تبلغه أن مكتب سعد مفتوح له ولزملائه في غياب سعد كما كان في حضوره وترجوه وزملاءه أن يقبلوا دعوتها إلى العشاء في ذلك المساء، وأن يعقدوا جلستهم الأولى في مكان انعقادها المألوف؛ لكيلا يطرأ على سير الدعوة أقل تغيير بعد ذلك الحادث الذي أريد به القضاء عليها. فقرر الأعضاء أن يلبوا رجاءها وأن يشكروها عليه، واعتذروا من حضور العشاء لاشتغالهم بإعداد الاحتجاج الذي يقابلون به اعتقال الزعيم، واتخاذ الخطة التي تلائم الموقف الجديد.
ولم يكن شعور الأعضاء بعد الاعتقال شعور فزع وارتداع كما قدرت السلطة البريطانية، بل كان شعور استياء لاعتبارهم دون من اعتقلتهم السلطة في الخطر والأثر، وشعور رغبة في إفهام السلطة البريطانية خطأها وتحديها واستفزازها بإتيان العمل نفسه الذي من أجله اعتقلت سعدا وأصحابه. فكتب شعراوي باشا احتجاجا إلى رئيس الحكومة البريطانية على اعتقالهم، وأبلغه فيه أن الوفد مثابر على خطتهم، ووجه مع زملائه في اليوم التالي خطابا إلى صاحب العظمة السلطان، يلقي فيه تبعة إعراض الكبراء عن تأليف الوزارة على السلطة العسكرية:
فإنما هو النتيجة الطبيعية للخصلة التي اتخذت في مسألة سفر الوفد، فإن كل مصري ذي كرامة لا يمكنه - حقيقة - أن يقبل الوزارة في هذا الظرف من غير أن يستهين بمشيئة بلاده.
وختم الخطاب بقوله:
إليكم يا صاحب العظمة - وأنتم تتبوءون أكبر مقام في مصر، وعليكم أكبر مسئولية فيها - نرفع باسم الأمة أمر هذا التصرف القاسي، فإن شعبكم الآن يحق له أن يعتبر هذه الطريقة بادرة تخيفه على مستقبله، كما يحق له أن يكرر الضراعة لسدتكم العلية أن تقفوا في صفه مدافعين عن قضيته العادلة.
أما الحكومة البريطانية فقد أحبت أن تيئس المصريين من كل أمل في اللين والهوادة، فعينت الماريشال اللنبي مندوبا ساميا بعد نشوب الثورة بنحو أسبوع، بدلا من السير ريجنالد ونجت الذي كان من رأيه السماح بسفر الوزيرين المصريين، وقد تعمدت بتعيينه غرضا آخر هو إرهاب المصريين باسم القائد المنتصر في أقرب الميادين إليهم وهو ميدان فلسطين. وأذاعت في الوقائع المصرية أنه «منح السلطة العليا في جميع الأمور المدنية والعسكرية، وفي اتخاذ ما يراه من الإجراءات صالحا لإعادة النظام واحترام القوانين ... مع تثبيت حماية جلالة الملك في مصر على أساس متين».
وقد بدأ الماريشال اللنبي عمله بعد قدومه إلى القاهرة باستدعاء الكبراء والسراة قائلا لهم: إنه جاء إلى مصر لينهي الاضطرابات، ويتحرى أسباب الشكاية، ويزيل منها ما يقضي العدل بإزالته. وطلب إليهم أن ينصحوا الناس بالهدوء والسكينة.
فتكررت هذه النصائح التي يوعز بها الإنجليز في غير جدوى، ولم يزل متعذرا على «المستوزرين» أن يجترئوا على قبول الوزارة، ولم يزل تسيير الإدارة الحكومية في البلاد من أصعب الأمور.
ولجأ الماريشال اللنبي إلى أعضاء الوفد المصري، فاستدعاهم إليه في السادس والعشرين من مارس، وطلب إليهم أن يبسطوا أسباب الشكاية في تقرير يكتبونه، فقدموا له التقرير بعد أربعة أيام وفيه تلخيص للمظلمة السياسية من بداءة إعلان الحماية. وقالوا في ختامه:
غير أن السلطة العسكرية مع ذلك قد استدعتنا مرة أخرى في يوم 16 الجاري، وأعلنت إلينا أننا مسئولون عن هذا الاضطراب، وأننا مسئولون عن إزالته، ولكنها سمحت لنا هذه الدفعة أن نناقش أمر المسئولية، فأجبناها بأن هذا الاضطراب ليس نتيجة متوقعة لعملنا، ولا يصوغه برنامجنا بحال من الأحوال، بل نحن نأسف له. وأما تسكين هذا الاضطراب فليس في يدنا وسيلة فاعلة فيه، ونصحنا بأن أنجع الوسائل في تهدئة الخواطر بالطرق السلمية، إنما هو تأليف وزارة تعطي من الترضيات ما يرضي الشعب، حتى تستطيع أن تقوم بأعباء الظرف الحاضر.
هذا رأي أعضاء الوفد الباقين بمصر في الثورة، وهذا رأيهم في تفريج الأزمة، وهو رأي اتفقوا عليه مع كبار مصر الرسميين، ومنهم علماء الأزهر وبطريرك القبط الأرثوذكس وبعض الوزراء والنواب والسروات. وكتب به هؤلاء جميعا خطابا إلى القائد العام في الرابع والعشرين من شهر مارس؛ أي قبل استدعاء أعضاء الوفد إلى اللورد اللنبي بيومين، وكان تقديرهم أن الوزارة التي تؤلف تعمل لتهدئة الحال، دون أن يشترطوا سلفا لهذه التهدئة إفراجا على معتقلين أو سماحا لأحد بالسفر.
ثم قال أعضاء الوفد: «وفي اليوم التالي - وهو يوم 17 مارس - قابلنا الوزراء الثلاثة رشدي باشا وعدلي باشا وثروت باشا، وأقنعناهم بأن يظهروا استعدادهم للمفاوضة في تأليف وزارة تستطيع أن تقضي على هذه الحركة المخيفة التي تخشى عواقبها المجهولة، فأظهروا هذا الاستعداد لرجال دار الحماية ولكن الأمر لم يتم، والاضطراب يأخذ نسبا وأشكالا ليس الحكم على نتائجها في نفوس الناس بالشيء الميسور.»
وبعد أيام حان موعد صدور الميزانية وليس في البلاد وزارة ولا نواب يناقشونها، فلم ير المارشال اللنبي مخرجا من هذه الورطة إلا أن يعتمد الميزانية باسم السلطة العسكرية، فأصدر بلاغا بذلك في أول أبريل، ولكنه حل مشكلة وأثار مشاكل؛ فإن هذا التحدي ألهب في النفوس جذوة الغضب وشحذ فيها عزيمة المناجزة؛ فعاد التجار إلى إغلاق حوانيتهم، وأضرب بعض الموظفين ممن لم يكونوا مضربين، وتمرد طلاب المدرسة الحربية ومدرسة الشرطة، فخرجوا متظاهرين أمام قصر السلطان ودور السفارات، وكانوا قبل ذلك يحتجزون عن المظاهرات، واشتدت ثورة الأزهر وكثرت اجتماعاته، حتى لجأت السلطة العسكرية إلى مخاطبة شيخ الأزهر في إغلاقه دفعة واحدة أو الاكتفاء بإغلاقه في غير أوقات الصلاة، فأبى واعتذر بأن الله ينهى المسلم عن إقفال مساجد الله.
وفي السادس من الشهر وزع على الناس منشور من عظمة السلطان يقول فيه:
إني أنشر بين قومي هذه الكلمات التي كانت تختلج بصدري في الوقت الذي أخذت تتوارد إلي فيه ملتمسات الأماني القومية نحو مستقبل البلاد، وإني بالطبع لا أعني بالبلاد إلى بلادنا المباركة، لا أعني بالبلاد إلا وطننا العزيز: هذا الوطن الذي اقتضت حكمة الله أن يكون جدي الأكبر محمد علي الكبير أكرم الله مثواه صاحب عرشه.
وفي ختامه طالب عظمة السلطان أبناءه المصريين بما له من حق الأبوة عليهم أن يتناصحوا بعدم الاستمرار على المظاهرات التي كانت عواقبها غير محمودة في بعض الجهات.
وبعد أن جربت السلطة العسكرية كل وسيلة، وفشلت في كل تجربة، لم يسعها إلا أن تجرب الوسيلة الوحيدة الباقية التي اقترحها المصريون من اللحظة الأولى، وهي إطلاق الحرية للوفد المصري ليسافر حيث شاء، فإن الحجر عليه هو سبب استقالة الوزارة، وهو سبب الإحجام عن تأليف وزارة أخرى، وهو سبب غليان النفوس وانفجارها ونشوب الثورة وانتشارها، فأذاع المارشال اللنبي في السابع من الشهر بلاغا يعلن فيه أنه بالاتفاق مع حضرة صاحب العظمة السلطان «لم يبق حجر على السفر، وأن جميع المصريين الذين يريدون مبارحة البلاد يكون لهم مطلق الحرية»، وأن «كلا من سعد زغلول باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وحمد الباسل باشا، ومحمد محمود باشا يطلقون من الاعتقال، ويكون لهم كذلك حق السفر».
فسرت نشوة الظفر والرجاء في نفوس الأمة قاطبة، وقامت مظاهرات الابتهاج في مكان مظاهرات الغضب والهياج، واستولى على الناس شعور مقدس غسل حوبة النفوس فنسي المجرم إجرامه والموصوم وصمته، وشوهدت جموع النسوة الشقيات المتبذلات على مركبات النقل يحيين وطنهن، ولا ينظر إليهن ناظر بعين المهانة أو الريبة أو المجون الذي تثيره أمثال هذه الجموع في غير تلك المظاهرات.
وامتنعت حوادث السرقة على سهولتها بين ذلك اللجب اللاجب؛ فخلت محاضر الأقسام من حوادث الطرارين واللصوص، التي لم تكن تمتنع ساعة من أيام الشح والضيق ووفرة المال في جانب وندرته في جانب آخر، ومشى أعظم الناس وأصغرهم على السواء في مظاهرات واحدة لا يتوقر عنها العالم الهرم، ولا ينسى فيها الصغير دواعي الوقار، ولم ينغص هذه المظاهرات إلا اعتداء بعض الأرمن عليها، وشكاسة بعض الضباط والجنود البريطانيين الذين أطلقوا الرصاص على المتظاهرين المتهللين في غير عداء ولا تنكر، فقتلوا منهم أربعة وجرحوا كثيرين، ولعل هذه الحادثة وحدها كافية لبيان ما وصلت إليه فوضى القمع والإرهاب، فإن هؤلاء الضباط والجنود تطوعوا لفعلتهم دون أن يدعوهم رؤساؤهم إليها، بل لقد كانت القيادة العليا تستبشر بمظاهرات الفرح التي أعقبت الإفراج عن الزعماء؛ لأنها قد تلطف سورة الحنق والعداء وتهيئ جو السياسة للوفاق والمسالمة، وتتيح للوزراء المصريين أن يقبلوا مناصب الحكومة، ولكن الفوضى أخرجت أولئك الضباط عن طورهم فأفسدوا هذه الدلائل، وعكسوا الأمر على القيادة العليا حتى كادت أن تفشل في تأليف الوزارة التي كان يجري الكلام في تأليفها حينذاك؛ مما اضطر المارشال اللنبي إلى الاعتراف بخطأ الجنود ونشر بيانا يقول فيه:
لقد تغيرت الحالة فجأة وأطلقت الحكومة البريطانية الزعماء المعتقلين في مالطة، وأذنت للمصريين أن يرسلوا مندوبيهم إلى إنجلترا ليعرضوا شكواهم. وقد سر المصريون لذلك بالبداهة وسمح لهم أن يقيموا الاحتفالات، كما يسمح لأبناء إنجلترا بالاحتفال بأي نصر سياسي، ومن سوء الحظ أن الجنود لا يفهمون هذا على ما يظهر؛ لذلك حدث مرة أو مرتين أن نفرا من الجنود قاموا بمظاهرات ضد المصريين الذين كانوا قد أقاموا احتفالا غير موجه ضد سلطتنا بتة. وقد أدى عمل هؤلاء الجنود إلى اضطرابات خطيرة، وإلى خسارة في الأنفس من الجانبين. على أنه المأمول الآن أن يلوذ الجنود بالهدوء، ويلزموا السكينة، ويتركوا القانون والنظام للقائد العام. ومما يجب أن يفهم أن كل عمل مستقل يقوم به الجنود يضاعف صعوبة مركزنا عشر مرات.
بقي سفر الوفد فعلا بعد السماح بالسفر قولا.
والظاهر أن السلطات الإنجليزية سمحت بسفره من جهة لتعرقله من جهة أخرى؛ لأنها تعللت بقلة البواخر، وزعمت أن الأماكن فيها محجوزة سلفا، وأن الأماكن المطلوبة لا تتيسر قبل ثلاثة أشهر! وعلم الوفد أن الانتظار إلى ذلك الموعد مضيع لفرصة الحضور أمام مؤتمر الصلح أو الوصول إلى باريس في إبان انعقاده؛ فالتمس الإذن بالسفر على «يخت» صاحب العظمة السلطان المسمى بالمحروسة، واتصل نبأ هذا الخبر بالإنجليز فخشوا أن يجاب بعد قيام الوزارة الرشدية التي يعلمون من سياستها الأولى أنها تشايع الوفد في طلب السفر إلى أوروبا، ورأوا أن وصول الوفد المصري إلى أوروبا على اليخت السلطاني يخوله «مظهرا رسميا» يتقونه ولا يحبون دلالته الواضحة عند أمم العالم؛ فدبروا أمر الأماكن المطلوبة على عجل، وسرعان ما استطاعوا أن يحجزوا الأماكن كلها في الباخرة «كاليدونيا»، ومعها ستة أماكن أخرى لمن يشاء السفر من خصوم الوفد إلى باريس!
برح أعضاء الوفد العاصمة في الساعة الثامنة من صباح يوم «11 أبريل» فكان توديعهم الرائع بمثابة توكيل جديد من الأمة قاطبة، فازدحمت الطرقات والميادين بعشرات الألوف من جميع الطوائف والطبقات، ووزعت محافظة العاصمة أكثر من ألف تذكرة لعلية القوم ورؤساء الدين والسروات الذين رغبوا في توديع الوفد على المحطة، فلم تكف هذه التذاكر لتلبية جميع الرغبات، وبلغ عدد المودعين أضعاف العدد المقدور، وأوشك الناس ما بين العاصمة وبورسعيد أن ينظموا موكبا واحدا للحفاوة بالوفد وتأييده وإظهار الابتهاج بسفره، وما كانوا يعلمون بالسفر في يومها لصعوبة المواصلات وانقطاع أسلاك البرق في بعض الجهات، ولكنهم كانوا يرون القطار المزين بالرايات والأزهار وعليه التحيات التي كتبها المودعون في محطة العاصمة، فيعلمون الخبر ويتسامعون به في لحظات معدودات، ويهرولون إلى لقائه داعين هاتفين.
ولما وصل القطار إلى بورسعيد، خرجت المدينة تستقبله وترحب به وتصحبه إلى الباخرة التي بات فيها ليلته، وأضاءت بورسعيد كلها في المساء، وحفت بالباخرة عشرات الزوارق المضاءة الصادحة بالموسيقات والهتافات الوطنية طول الليل، وانثالت الرسائل البرقية من المدينة ومن أنحاء كثيرة في القطر تشيع الأعضاء بالرجاء والتأييد.
وفي اليوم الذي أقلعت فيه الباخرة - وهو اليوم التالي - تألفت في القاهرة لجنة مركزية كبرى تنوب عن الوفد في غيابه، وتتولى إنشاء اللجان التي تنوب عنه في الأقاليم. •••
ويلي هذا الفصل فصل انتقادي عن العيوب التي لوحظت في تأليف الوفد، ثم فصل عن خطة الوفد في مسألة الامتيازات الأجنبية التي أراد بها التفرقة بين بريطانيا العظمى والدول صواحب الامتيازات، ثم ينتقل الكلام إلى عمل الوفد في أوروبا كما يلي.
الفصل الخامس
الوفد في أوروبا
عندما طلع الرئيس ويلسون على العالم ببشارة السلام ومبادئ الحرية والإنصاف صدقه كثيرون ورحب به كثيرون؛ لأنهم استبعدوا أن يخرج بنو الإنسان من تلك الأهوال والمآثم بغير عبرة، وأن يقدموا على تكرار المأساة الجهنمية، وهم لا يزالون يكتوون بنارها ويتلوون من آلامها.
ولم يهزأ بدعوة ويلسون من أساسها إلا طائفة من ثلاث طوائف، وهم المستعمرون الرجعيون؛ لأن الدعوة لا توافق سياستهم، ولا تحقق لهم مطامع القهر والاستغلال.
واليائسون من أخلاق بني الإنسان؛ لأنهم يهزءون بجميع المبادئ ولا يحسبون الإنسان صادقا في شيء غير المصالح القريبة والشهوات الحيوانية.
والاشتراكيون؛ لأنهم يرون أن العوامل الاقتصادية هي علة الدعوات الاجتماعية والمذاهب الأخلاقية؛ فلا فائدة من أحاديث المروءة والرحمة وتقرير المصير ما دام نظام رأس المال هو النظام القائم في المعاملات، وهو الحافز إلى الغارات والحروب والمنافسة بين المستغلين والمستعمرين.
ولم يكن سعد مستعمرا رجعيا ولا يائسا من بني الإنسان ولا اشتراكيا ولا قارئا متبعا لآراء الاشتراكيين، ولكنه كان رجلا مطبوعا على نجدة الضعيف وإغاثة المظلوم، فلا غرابة عنده في هذه العاطفة، وكان قانونيا يقدس القوانين والشرائع فلا غرابة لديه في التوسل بالتشريع وحقوق المعاهدات لفض المشاكل وإصلاح الآفات.
لذلك رحب بالدعوة الولسنية ولم يستبعد تحقيقها كما قال في خطابه بمنزل حمد الباسل باشا:
من الناس من يرون هذا المذهب السياسي الجديد أجمل من أن يتبع في هذه الحياة الدنيا: حياة المزاحمة على البقاء والمغالبة على المنافع ... نعم، مذهب جميل! ولكن تطبيقه ممكن متى جد الدكتور ويلسون في تطبيقه بحزمه المعروف. وإنه لجاد، بل أرتقي إلى أن أقول إن تطبيقه سهل متى صحت نيات أكثرية الدول التي أقرته بالإجماع؛ ذلك لأن هذا المذهب غير مخالف لما ألف الإنسان في الوصايا الدينية وقواعد الفلسفة الأخلاقية، ثم هو متفق مع الأفق الذي وصلت إليه الإنسانية في تطورها الجديد ...
وعلى هذه العقيدة كان يرجو الخير الكثير من الدعوة الولسنية، وأقل ما يحق له أن يرجوه أن لا تنقلب هذه الدعوة في إبان الصلح عونا للأقوياء على الضعفاء وعقبة في وجه المطالبين بالحقوق، فكان أول ما فكر فيه ساعة وصول الباخرة «كاليدونيا» إلى مارسيليا أن أرسل إلى الرئيس ويلسون يطلب منه الإذن في مقابلة خاصة للوفد المصري المطالب بحقوق الأمة المصرية، فلم يجئه الرد المنتظر من رسول السلام، وإنما جاءه رد لم يكن يخطر على بال متفائل ولا متشائم؛ فإن الولايات المتحدة اعترفت بالحماية البريطانية على مصر في اليوم التاسع عشر من شهر أبريل؛ أي بعد وصول الوفد المصري إلى مرسيليا بيوم واحد!
يحار الإنسان ولا يدري كيف استطاعت السياسة البريطانية أن تحمل ذلك الرسول المبشر بحقوق الضعفاء على نقض مبادئه رأسا على عقب، واستباحة الفصل في قضية لم تعرض عليه من جوانبها المختلفة، ولكن ساسة الإنجليز - على ما نظن - قد أدخلوا في روعه أن المصريين أساءوا فهم دعوته وتشجعوا بها على الثورة وتهديد الحضارة والمصالح الأجنبية، وأن كلمة منه تحقن الدماء وتعيد الأمن إلى قراره، وتصون أرواح الأوروبيين ومرافق العمران، وأن ترك مصر عرضة للتنازع عليها بين الدول قد يجر العالم إلى حرب كالحروب التي كان يتقيها ويبشر باجتنابها؛ فبقاؤها في ظل الحماية أصون للسلام وأنفى للحروب، وربما وعدوه أن ينصفوا المصريين متى ثابوا إلى السكينة واستعدوا للإصغاء إلى صوت الحكمة والنظام.
وقد اهتمت الحكومة البريطانية بنشر اعتراف الرئيس ويلسون في مصر من دار الوكالة الأمريكية، فأذاعت دار المندوب البريطاني بلاغا جاءها من همسون جاري وكيل الولايات المتحدة يقول فيه:
أتشرف بأن أقول: إن حكومتي أمرتني أن أبلغكم أن رئيس الجمهورية يعترف بالحماية البريطانية على القطر المصري، وهي الحماية التي بسطتها حكومة جلالة الملك في 18 ديسمبر سنة 1914. هذا وإن الرئيس باعترافه هذا يحفظ بالضرورة لنفسه حق البحث فيما بعد في تفاصيل هذا الاعتراف، مع مسألة تعديل حقوق الولايات المتحدة التعديل الذي يقتضيه هذا الأمر. وقد كلفت بهذا الصدد أن أقول: إن رئيس الجمهورية والشعب الأمريكي يعطفان كل العطف على أماني الشعب المصري المشروعة؛ للحصول على قسط آخر من الحكم الذاتي، ولكنهما ينظران بعين الأسف إلى كل مسعى لتحقيق هذه الأماني بالتجاء إلى العنف.
وإن صيغة هذا التبليغ لتشف عن الغرض منه وعن المسعى الذي سعته الحكومة البريطانية عند الرئيس ويلسون لإقناعه بوجوبه ... فباسم الأمن وكراهة العنف، وبعد الوعد بمنح المصريين قسطا آخر من الاستقلال الداخلي، ظفرت الحكومة البريطانية بذلك الاعتراف وبادرت إلى إذاعته في مصر وأوروبا، وتعمدت أن تصدم به الوفد ساعة وصوله إلى أوروبا ليفت الخبر في عضده، ويزعزع ما عنده من ثقة وأمل، ويريه خيبة المسعى في معارضة القوة البريطانية حيث ذهب ... فكان تدبيرها في الإفراج عن الوفد ولقائه بتلك الصدمة كتدبير السجان الذي يطلق أسيره ويرصد له على أبواب السجن من يدهمه ويغتاله؛ ليحيق به الكيد في ساعة الفرح والاستبشار.
ولم تبالغ السياسة البريطانية كثيرا في وقع الصدمة المفاجئة على الوفد ساعة نزوله بالأرض الفرنسية واقترابه من محكمة العدل والحرية؛ فقد بدا لسعد أول وهلة أن العمل في أوروبا لا يجدي، وأن تركيز العمل في مصر أجدى وألزم. ولم يكن هذا ضعفا ولا نكوصا عن الكفاح؛ لأن مقاومة الإنجليز في مصر تحت الأحكام العسكرية بعد الاعتراف بالحماية البريطانية أخطر وأعضل من مقاومتهم في أوروبا على العاملين الجادين في المقاومة ... ولكنه كان رأيا رآه فيما هو أصلح للقضية المصرية على حسب ما تبين من خطواته الأولى بالبلاد الأوروبية.
وقد لمس وقع الصدمة في نفوس فريق من زملائه فإذا هو أفدح وأقدح؛ فمنهم من كان قد دخل الوفد على تردد وريب في سلامة العاقبة، ومنهم من كان يؤثر اللجوء إلى الحكومة الإنجليزية ويؤمن في قرارة نفسه باستحالة الغلبة عليها، وقصارى ما طمعوا فيه من هوادتها أن تخشى بعض المعارضة أو بعض المنافسة من الدول الأخرى في مؤتمر الصلح، فتغلق هذا الباب باستجابة بعض المطالب المصرية. فإذا بمؤتمر الصلح في قبضة يديها وعلى رأسه أكبر الدعاة إلى الحرية وأكبر القائلين بمشاورة الأمم المغصوبة في تقرير مصيرها ... فمن البين إذن في رأيهم أن «مهمة الوفد» انتهت لم يبق له ما يرجوه من المؤتمر ولا من الحكومات المشتركة فيه. وقد صرحوا برأيهم هذا وهموا بالعودة وأشاروا بها على زملائهم الآخرين.
وقد أرادت الحكومة البريطانية أن تتبع هذه الضربة بضربة أخرى، تعجل بعمل التفكك والانخذال في صفوف الوفد والأمة المصرية؛ فنشرت التيمس «إشاعة» تشير فيها إلى إرسال لجنة مستقلة إلى القطر المصري للبحث عن أسباب الهياج، واقتراح الإصلاحات الدستورية التي يتسع بها نطاق الحكومة الذاتية، وتوقعت أن يصيب الخبر الوفد في سمعته وعزيمته إن لم يصبه في تكوينه ووحدة رأيه، فإذا عاد بعض رجاله إلى مصر وبقي بعضهم في أوروبا فقد وقع الخلاف، وهو بدء الانحلال. وإذا عاد الوفد جميعه فقد ملكته الحكومة البريطانية ورجعت به إلى قبضة يديها وعرضته لسخرية أبناء وطنه، وإذا بقي الوفد كله في أوروبا فعندهم فسحة من الوقت لإرسال اللجنة إلى مصر وسؤال المصريين عن مطالبهم وشكاياتهم بمعزل عن وفدهم الذي يدعي الوكالة عنهم ... فتلغي وكالته وتلقي درسها الصادع على الوكيل ومن أوكلوه، وأي درس تشتهيه السياسة الاستعمارية وتلقيه على الدعاة الوطنيين أنجع وأوجع من أن تضرب الوفد المصري وتعاقبه هذه العقوبة القاصمة بيد الأمة المصرية؟!
ومهما يكن من حساب الحكومة البريطانية، فالشيء الذي لم تحسب حسابه - كما ينبغي - هو أثر السخرية في الطبيعة المصرية؛ فإن المصري ليتقي السخرية أشد من اتقائه الضرر والخسارة، وقد يستسلم للفجيعة، ولكنه لا يستسلم للغفلة؛ ولهذا كانت ضربتها للوفد المصري باعتراف ويلسون ضربة قوية بارعة، ولكنها كانت خليقة أن تفشل بعد الصدمة الأولى؛ لأنها سخرية تعرضه لسخرية أخرى. ولو أنها أبطأت برهة، ولم يكن فيها معنى الكمين المدبر والهزء المرتب في لحظة الانتصار والتفاؤل، لكان رجاء الحكومة البريطانية في نجاحها أصدق وأسرع، ولكنها كانت بمثابة الاستدراج إلى كمين مضحك أو «مقلب» مهين ... فجمعت لها الطبيعة المصرية كل ما عندها من الكراهة للسخرية ومقاومة الشماتة المضحكة؛ وهما في الطبيعة المصرية قوة تعتصم بها في أحرج الأوقات.
ولم يلبث سعد وأصحابه بعد الخاطر الأول أن أعادوا النظر في الأمر كله، فوجدوا أن العمل في مصر قد يكون أولى وأصوب، ولكن العودة إلى مصر بعد كل هذه القيامة التي أقامتها الأمة لتمكين الوفد من السفر، وهي خيبة أليمة لا تؤمن عقباها، وقد تيئس الأمة من رجالها وتشككها في دعاتها، وتعجل بالتفرقة بين صفوفها.
ووجدوا كذلك أن البقاء في أوروبا لا يمنع تركيز العمل في مصر والاعتماد عليه في الدعاية الأوروبية، وقد تنفع الدعاية الأوروبية في تنبيه عزيمة الأمة كلما احتاجت إلى تنبيه.
ومن مبدأ الأمر لم يكن رجاء سعد كله معقودا على الحكومات والوسائل الحكومية: إذا جاء الرجاء من هذا الباب فذاك خير وأقرب سبيلا، وإن لم يجئ فالشعوب من وراء الحكومات، والطريق إلى الشعوب مفتوح لمن يحسن ولوجه ويقوى على صعابه، وهو القائل: إن الشعب فوق الحكومة، وهو الذي أبى أن يسلم المطالب المصرية إلى المندوب البريطاني والوزراء البريطانيين احتفاظا بالجانب الأهم منها «لاستنارة» الرأي العام البريطاني الذي يخضع له المندوب والوزارة. وهو الذي عرف أن النائب في «الجمعية التشريعية» - التي لا حقوق لها ولا نفوذ لأحكامها - يملك من سلاح الحجة والبيان ما يكافح به الوزارة ويكافح به جبار قصر الدوبارة. فماذا حدث الآن؟ هل حبط الرجاء في مؤتمر الصلح وفي ويلسون وفي لويد جورج؟ حسن! إن وراء هذه الأسماع أسماعا، ووراء هذا المرجع مراجع: هناك الشعوب الأوروبية، وهناك شعب ويلسون وشعب لويد جورج ... ومن يدري؟! فلعل شعب ويلسون وشعب ما قال وسامع غير ما سمع، وبالغ في إحراج السياسة البريطانية ما لم يبلغه رئيسه المخدوع بتلك السياسة.
يقول نيتشه:
كل ما لم يقتلني يزيدني قوة.
وهذه قولة تصدق على كل رجل كبير الهمة مطبوع على الكفاح. فضربة الاعتراف بالحماية كانت ضربة نافذة، ولكنها لم تكن مميتة؛ ومن ثم كانت ضربة حافزة للعناد، مثيرة للنخوة، نافعة في توطيد النفس على بعد الشقة.
قال جورج لويد في كتابه عن مصر منذ كرومر:
لم تنفع الصدمة إلا في إقناع زغلول إقناعا جليا بأن العراك خليق أن يجري إلى مداه في الحومة المصرية. فوجه همه على الفور إلى تلك الحومة، وطفق يدير المعركة من مقامه بباريس، ويبعث إلى أتباعه بمشجعات مموهة، ولكنها أخاذة باهرة بما تحدثهم عن الأنصار الذي يستميلهم للقضية الوطنية، والنجاح الذي يصيبه رجاله.
وقد أدار سعد المعركة في باريس على أتم وجه يستطيعه وفد من الوفود الشعبية؛ فإن الوفد المصري - على اعتباره غريبا عن الأجناس الأوروبية - قد استطاع غاية ما يستطاع من نشر الدعوة إلى جانب مؤتمر الصلح. فكتب إلى المؤتمر يطلب استدعاءه لسماع أقواله؛ لأن «إلغاء السيادة التركية يقتضي حتما تغييرا في حالة مصر السياسية التي قررتها معاهدة سنة 1840، ولا يصح إجراء هذا التغيير في غيبة المصريين». واتصل الوفد بكل من تيسرت لهم مقابلته من رجال المؤتمر وأعضاء وفوده وكبار موظفيه، وأقام المآدب للساسة والكتاب والصحفيين الأوروبيين والأمريكيين ليشرح لهم الحوادث التي كانت تهملها الصحف، ويريهم صور المظاهرات التي اشترك فيها السيدات ورجال الجيش، وظهرت فيها الأعلام وعليها الصليب إلى جانب الهلال، ويذكر لهم ما استفاده الحلفاء من أموال مصر ورجالها مما كانوا يجهلونه ولا يعرفون خبرا عنه.
وأقنع الوفد بعض مشاهير الكتاب بكتابة رأيهم في قضية مصر وحقوق أبنائها، ومنهم فكتور مرجريت، وأناتول فرانس؛ فأصدر الأول رسالة في موضوع القضية المصرية، وقدمها الثاني بكلمات وجيزة على سبيل التزكية.
واجتهد الوفد في اجتناب كل عمل يتيح للمستعمرين البريطانيين أن يتهموه - كما فعلوا من قبل - بمشايعة دول الوسط، أو النزوع إلى المذاهب الفوضوية والاشتراكية، فلم يتصل بالمغفور له محمد بك فريد حين تلقى خطابه من سويسرا، لما كان معروفا من مقام فريد بك في ألمانيا وتركيا أثناء الحرب وبعدها. ولكنه اتصل بجميع المصريين المقيمين بفرنسا، ولا سيما أعضاء الجمعية المصرية في باريس، وكان لفريق من هؤلاء أثر نافع في بث الدعوة، وتعريف الفرنسيين من جميع المذاهب بالوفد ومطالبه وصعوباته.
ولا نسهب في تفصيل المقابلات والخطب والولائم واحدة واحدة؛ لأن التفصيل لا يزيد القارئ شيئا على ما هو مفهوم بالإجمال، وحسبنا أن نقول: إن الوفد لم يدع في باريس ولا في مراكز الدعوة السياسية أحدا يؤبه له إلا أبلغه مظلمة مصر، وأوجز له الحالة التي مرت بالقارئ في صفحات هذا الكتاب.
وقد كان المصريون في لندن - ومعظمهم من الطلاب - يعاونون الوفد كما عاونه زملاؤهم في العاصمة الفرنسية؛ فطبعوا الألوف من الرسائل، وقابلوا النواب، واستعانوا بالكتاب حتى ضاقت بهم الحكومة الإنجليزية ذرعا، فدمر الشرطة مكان اجتماعهم وصادروا الأوراق التي فيه، وظنوا أنهم قضوا عليها، وكانوا سيقضون عليها فعلا لولا أن الطلاب أخذوا بالحيطة، فأعادوا طبع الأوراق مما كان مدخرا عندهم من المحفوظات في مكان أمين.
وقد تجاهل الساسة الإنجليز في باريس شأن الوفد المصري ما وسعهم أن يتجاهلوه، ولكنهم لم يحسنوا كتمان حنقهم في بعض الأمور التي تقضي بها اللياقة، فلم يأت منهم من يرد الزيارة لسعد باشا حين ترك بطاقته للمستر لويد جورج كما ردها بعض وزراء الدول الأخرى، وتجاوزوا ذلك إلى عمل فيه من الصبيانية ما ليس يليق بكبار الرجال؛ فقد روى أحد أعضاء الوفد المصري أنهم أرسلوا مرة «مذكرة» إلى الوفد البريطاني في مؤتمر السلام، فردت إليهم ممزقة داخل غلاف وعليها عبارة قصيرة معناها: «مثل هذه الأقوال لا تستحق الرد».
1
وعلى الرغم من اعتراف الدول بالحماية فقد بدأت الحكومة البريطانية تشعر بالقلق بعد أن اتجهت أنظار الوفد إلى نشر الدعوة في الولايات المتحدة، وظهرت دلائل الاهتمام بالقضية المصرية بين ذوي النفوذ من الشيوخ الأمريكيين ورجال الصحافة ... حدث هذا دون أن يكون للرئيس ويلسون فضل فيه؛ بل ربما كانت صدمته للوفد في باريس من أسباب اتجاه الوفد إلى الأمة الأمريكية رأسا؛ ليثير في هيئتها الرسمية بهذه الوسيلة بعض العناية التي فاتته من رئيس الجمهورية ومعاونيه في المؤتمر. فإن أقصى ما صادفه الوفد من النجاح عند رئيس الجمهورية الأمريكية أنه تلقى منه ردا على خطاب كتبه سعد يطلب فيه المقابلة مرة أخرى، فإذا هو يعتذر في رده لضيق الوقت ويرجو أن يتسع وقته في المستقبل للمقابلة المطلوبة! وكان الوفد قد فهم أن استثارة «الرأي» في الولايات المتحدة لبحث القضية المصرية أمر مستطاع بعد ما أحسه من أثر الأخبار التي بعث بها المراسلون إلى صحف أمريكا، وزاده أملا في المزيد من الاهتمام أنه كان قد استخدم بعض الأيرلنديات والأمريكيين في أعماله الكتابية، فالتقى هؤلاء بالساسة الأمريكيين الذين حضروا إلى باريس للدفاع عن استقلال أيرلندا، وعرفوا منهم الرغبة في تشديد النكير على الاستعمار البريطاني بذكر المسألة المصرية إلى جانب المسألة الأيرلندية، ومن هؤلاء الساسة مستر «والش» رئيس الوفد، ومستر «ريان» ومستر «دن» مساعداه.
وقد جرى الوفد المصري من قبل على سنة إرسال البيانات والاحتجاجات إلى المجالس النيابية مع إرسالها إلى الوزراء وممثلي الحكومات، فوجدت بياناته واحتجاجاته في مجلس الشيوخ الأمريكي صدى أقوى وأصرح مما وجدته في المجالس النيابية الأوروبية.
ففي جلسة الحادي والعشرين من شهر يونيو اقترح الشيخ «ماسون» الاعتراف بالجمهورية الأيرلندية، فتصدى زميله مستر «بوراه » لفتح باب المسألة المصرية، وقال: «إن مصر تستحق الاستقلال كما تستحقه الأمم الشرقية والأوروبية التي اعترف مؤتمر السلام باستقلالها.» فجددت هذه الحملة رجاء الوفد في تحريك قضيته من جانب الأمة الأمريكية وشيوخها، وأرسل يشكر المستر «بوراه»، ويبلغه أن المصريين ليعتمدون اعتمادا تاما على مساعدة الشعب الأمريكي محب الحرية في تحقيق الآمال القوية لشعب حكم عليه بالاستعباد من غير أن يسمع دفاعه.
وعاد المجلس إلى ذكر مصر بعد أيام، فقام المستر «والش» واتهم الوفد الأمريكي في مؤتمر السلام بخيانة المبدأ الذي غامر الأمريكيون بدخول الحرب من أجله، وقال: إن الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى إذا أرادتا أن تدلا على حسن النية، فيحب عليهما أن تتركا جزائر الفليبين لأهل الفليبين وأيرلندا للأيرلنديين. وهنا قام مستر «مكس كورك» وقال: إن مصر أيضا يجب أن تكون لأبنائها، وأيده مستر «بوراه» سائلا: لماذا يعترف مؤتمر الصلح ببولونيا ورومانيا ويغض عن أيرلندا، ولا يصغي إلى كوريا ومصر كما أصغى لغيرها؟! فقال مستر «شرمان»: «إن معاهدة الصلح إنما كتبت لخدمة المطامع البريطانية.»
كانت هذه الأقوال من أشد ما قيل وقعا في نفوس المستعمرين وفي نفوس المصريين على السواء. فأما المستعمرون فقد أوجسوا من عواقبها في الولايات المتحدة وفي مصر نفسها، وأما المصريون فقد شعروا بفضل الدعوة واستبشروا بما وراء ذلك من صدى الحملة في الدوائر السياسية الأمريكية والبريطانية، وتبين الوفد أن الدعوة في تلك البلاد تستحق منه أن يضاعف العناية بها ويتابع إشهارها وترويجها، ويتركها للمصادفة والمناسبات العارضة، فانتهى بوساطة مستر «والش» إلى توكيل مستر «جوزيف فولك» في نشر الدعوة هناك، وكان الاختيار موفقا؛ لأن الرجل ممن سبقت لهم الوكالة في القضايا السياسية الكبرى، وسبقت لهم ولاية المناصب وعلاج المشكلات؛ فهو ذو منزلة مرعية بين النواب والرؤساء، وله علاقة منتظمة برجال الدولة وأصحاب الكلمة المسموعة.
وأوشكت الدعوة الخارجية لمصر أن تنحصر خلال تلك الفترة في الولايات المتحدة، فعن لسعد باشا أن يسافر إليها مع بعض الأعضاء، ثم استقر الرأي على إيفاد محمد محمود باشا في هذه المهمة لمعرفته الإنجليزية، وتردد الوفد هنيهة بين هذه الفكرة وفكرة أخرى كانت ترمي إلى سفر اثنين من الأعضاء إلى البلاد الإنجليزية، يدافعان عن مطالب المصريين ويبسطان ما أصابهم من المظالم إما بالخطب أو بالنشرات إذا أحجمت الصحافة عن إذاعة ما يكتبان، ويفعلان ذلك باسميهما لا باسم الوفد أو باسم رئيسه، ويعولان على الدعوة الشعبية دون الرجوع إلى الهيئات الرسمية، التي أعرضت عن الوفد وتجاهلت شأنه، وكان الوفد يحرص على اجتناب الهيئات الرسمية في إنجلترا حتى تجيء المفاتحة من جانبها بعد أن أقام هو بما يجب عليه من إيذانها بقصده، ويقال: إن رجال الحكومة الإنجليزية وسطوا أناسا من سراة الأجانب المقيمين في مصر لتيسير مقابلة بين سعد ومستر «بلفور» الوزير الفيلسوف الإنجليزي المعروف، فلم تتم هذه المقابلة لرغبة الوفد عنها ما لم تكن الدعوة صريحة من جانب القوم، وتغلبت فكرة السفر إلى الولايات المتحدة على هذه الفكرة.
ولم يستطع محمد محمود باشا أن يصل إلى أمريكا إلا في منتصف أكتوبر بعد مشقة في الحصول على جواز السفر لم تذلل إلا بمساعدة مستر «فولك» وبعض الأصدقاء الأوروبيين.
وقد كان مستر «فولك» أثناء ذلك يوالي الكتابة في الصحف، ويبسط وجهة النظر المصرية بين يدي مجلس الشيوخ ولجانه المنوط بها بحث هذه الأمور، وأهم ما أثمرته جهوده تصريح صرحت فيه لجنة الشئون الخارجية «أن مصر تعد من الوجهة السياسية غير خاضعة لإنجلترا ولا لتركيا، وأنما يجب أن تكون مستقلة وزمامها بيدها»، وخطاب ضاف ألقاه مستر «بوراه» عن مركز مصر السياسي والأطوار التي مر بها قبل الاحتلال وبعده، والفظائع التي أصابت أهلها في أثناء الحرب وبعد الهدنة، على ما سلف من معونتهم للإنجليز خاصة والحلفاء عامة.
فاهتمت المراجع البريطانية بإخفاء ذلك جميعه عن المصريين وتهوين خطره عندهم، ولا سيما تصريح لجنة الشئون الخارجية؛ فإن خبره لم يصل إلى مصر إلا من رسالة برقية أرسلها سعد من باريس إلى لجنة الوفد المركزية في التاسع والعشرين من أغسطس، فكان له فيها ضجيج لم يفرح المصريين بمقدار ما أغضب الإنجليز ، وقد سعت المراجع الإنجليزية سعيها حتى حملت الوكالة الأمريكية بالقاهرة على إذاعة تكذيب مبهم تقول فيه: إن الخبر خطأ. ولم تعقبه بتصحيح من جانبها!
هذا في مصر. أما في الولايات المتحدة نفسها، فقد أزعج السفارة البريطانية فيها ما أبصرته من أثر الدعوة المصرية واتساع نطاقه واشتماله على الكثيرين من المستمعين والأشياع؛ فاضطر مستر «رونالد لندسي» القائم بأعمال السفارة في واشنطن - وقد كان بمصر أثناء الحرب العظمى - إلى مقابلة تلك الدعوة بكثير من المساعي الخفية والعلنية، ومنها رد مفصل على سؤال مدير كتبه إلى إحدى الصحف يغض فيه من معونة المصريين ويقول منه: «إن الحكومة البريطانية قد عنيت بأن تتحاشى القضاء على السيادة المصرية، وإن الجنود المصريين يعملون في ظل العلم المصري لا الإنجليزي، ولا ترفع الراية البريطانية إلا على دور السلطة العسكرية البريطانية، وفيما عدا هذا ترفع الراية المصرية الخاصة. ولو أني أردت أن أجيبك على سؤالك جوابا لا يخرج على مدلول الألفاظ المحدودة لقلت إنه لم ينضو جندي مصري تحت الألوية البريطانية، ولكنه يكون بيانا ناقصا ولا مراء؛ إذ إنه في فبراير سنة 1915 عند هجوم الجيش التركي على مصر، اشتركت فرقة من المدفعية المصرية مع القوات البريطانية في الدفاع عن خط قناة السويس، وكان هجوم العدو قبل هذه الفرقة التي أدارت مدافعها بمهارة وكفاءة فساعدت على رد العدو. وفي اعتقادي أن الخسائر كانت اثنين من القتلى وستة من الجرحى، ولم تشترك في العمل خلال الحرب أية قوة مصرية أخرى مسلحة، ولكن في الأدوار الأخيرة من الحرب قامت ثلاث فرق مصرية أو أربع بحراسة خطوط المواصلات في سيناء، بينما كان الجنرال اللنبي يغزو سوريا، وحدث كذلك أن فصيلة مصرية كانت ببلاد الحجاز في وقت من الأوقات، لكن هذه القوات جميعها لم تتعرض لنيران القتال. وفضلا عن ذلك قد ضم عدد كبير من المصريين إلى فرقة العمال الملحقة بالقوات البريطانية، وكانوا يستخدمون لمدة قصيرة بين ثلاثة أشهر وستة، وقد قاموا لقوات الجنرال اللنبي بالأعمال اليدوية التي لا تستدعي خبرة فنية، وبهذه الصفة كان ما أدوه من الخدمات عظيم القيمة؛ لأنهم أتاحوا لعدد من الجنود الإنجليز أن يكونوا في خط القتال، ولولا ذلك لاستخدموا في ساقة الجيش، ولست أستطيع أن أذكر عدد هؤلاء الرجال الذين ألحقوا بفرقة العمال، ولكنهم بلغوا في بعض الأوقات من ثمانين إلى تسعين ألفا، وكان بعضهم يستهدفون للنار، وهم يحفرون الخنادق وينقلون المؤن والذخائر بمقربة من خط القتال، فأصابهم بعض الخسائر. وليس في وسعي أن أقول كم تبلغ هذه الخسائر على وجه التحقيق، ولكني أعتقد أنها تبلغ في الجملة ألفا وخمسمائة بين قتيل وجريح في خلال سنوات الحرب الأربع.»
وعلى الرغم من محاولة السبك والدقة في ظاهرة هذا البيان، يرى القارئ أنه قابل لمخالفة الواقع في عدة مواضع؛ لأن وصول العدد في الفوج الواحد من العمال إلى تسعين ألفا لا يمنع أنهم يبلغون المليون، ويتجاوزونه في جميع الأفواج؛ ولأن إحصاء القتلى والجرحى بألف وخمسمائة على وجه غير «وجه التحقيق» قد يفتح الباب لبلوغهم أضعاف ذلك على وجه التحقيق، إلا أن مستر «فولك» لم يتوان في الرد على هذا البيان بعد مراجعة الوفد في باريس، فكتب إلى وزير الخارجية بواشنطن خطابا يلفت فيه النظر إلى العبارة التي وردت في سياق كلام المستر «رونالد لندسي» عن تحاشي المساس بالسيادة المصرية؛ لكيلا يشق على الحكومة الأمريكية الاعتراف باستقلال مصر عند بحث معاهدة الصلح في مجلس الأمة، وكتب إلى رئيس لجنة الشئون الخارجية خطابا آخر ضمنه رد رئيس الوفد على بيان السفارة الإنجليزية وفيه:
إن مليونا ومائتي ألف مصري جندوا لفرقة العمال، وإن الجيش المصري نفسه قاتل على قناة السويس وفي شبه جزيرة سيناء وفي الحجاز، وحارب علي بن دينار في السودان، وإن خسائر عظيمة نزلت بفرقة العمال وعلى الأخص من فتك الأمراض.
واستند مستر «فولك» إلى عبارة «السيادة المصرية»، فطلب توكيد الإخلاص في المقصود منها بتصريح رسمي من الحكومة البريطانية تعلن فيه موعد الجلاء، وتفوض إلى عصبة الأمم - بعد تأليفها - تقرير مركز مصر، وتتخلى عن كل معارضة في تمثيل الدولة المصرية عند الدول الأجنبية، وعن كل معارضة في سفر وكلاء الأمة المصرية إلى الولايات المتحدة.
ولم تزل المسألة المصرية تتردد على ألسنة الأعضاء بمجلس الشيوخ تارة من حزب الحكومة، وتارة من حزب المعارضة، حتى التفت إليها كثيرون ممن لا يسمعون بها، ووجدت الصحف مسوغا لنشر الأخبار عنها وقبول المناقشة فيها، وأيقنت الحكومة البريطانية أن اطراد الدعوة على هذا المنوال كاف لإقلاقها وتوقع المتاعب التي قد تضر بمصالحها كما تمس سمعتها، وإن لم تعقبها نتيجة حاسمة في موقف الحكومة الأمريكية.
أما الدعوة في باريس، فقد كانت تنقطع حينا وتتصل حينا، ويثابر الوفد أكثر الأحيان على خطة الدعوة الشعبية؛ لأنه علم أن النجاح فيها أقرب من النجاح في مخاطبة الحكومات والوزراء، وطفق على الجملة يراسل المجالس النيابية وأقطاب الساسة وكبار الأدباء، ويكتب إلى الصحف، ويلقى من ذوي الكلمة المسموعة من تيسر له لقاؤه، ويجدد الاحتجاج والبيان كلما تجددت لذلك مناسبة من توقيع اتفاق أو عرض معاهدة أو وصول وفد أو غير ذلك، فجرى ذكر الحماية البريطانية على مصر في أكثر من مجلس من المجالس الأوروبية على نحو لا يبلغ في القوة والإفاضة ما جرى في الولايات المتحدة، ولكنه مع ضعفه واقتضابه أقلق الحكومة البريطانية، وزاد مخاوفها من التمادي فيه إلى أن يدرك المصريون شأن الدعاية ونفاذ سلاحها تمام الإدراك. ولعل أكبر ما حدث من دعوة الوفد خلال هذه الفترة وليمته في ثاني أغسطس في فندق كلاردج بباريس، وهي الوليمة التي خطب فيها وزير سابق للبحرية الفرنسية وحضرها الكاتب المشهور فكتور مرجريت، وتليت فيها كلمة من أناتول فرانس، وأجاب الدعوة إليها عدا هؤلاء بعض الشيوخ والنواب والصحفيين من أمم كثيرة.
هذه الحركة التي كانت تؤذن بالاستفاضة والاتفاق على تعاقب الأيام قد أفهمت الساسة الإنجليز أن «التجاهل» سياسة لا تفيد إلى زمن بعيد، وأنه لا بد من «شيء» تعمله في هذه الحالة غير الاستخفاف الظاهر وطول البال، ولكنها لم تقصد إلى إرضاء المصريين بمقدار ما قصدت إلى الخلاص من الوفد، وتفريق شمله بين الآراء المتضاربة والمذاهب المتعارضة؛ فعجلت بإيفاد لجنة التحقيق برآسة اللورد ملنر إلى القطر المصري لسؤال المصريين عن مطالبهم وتقرير نظام الحكم الذي يحكمون به في ظل الحماية، ودعاها إلى التعجيل بإرسالها غير ما تقدم سببان آخران: «أحدهما» أن رؤساء الوفد في القاهرة أعلنوا العزم على مقاطعتها إذا هي حضرت في تلك الظروف؛ لأن اللجنة تريد المفاوضة على أساس الحماية، وتستفتي البلاد وهي في قبضة الأحكام العرفية، وتدعي لحكومتها الحق في نظر الشكايات المصرية كأنها صاحبة السيادة على البلاد.
وقد شعر محمد سعيد باشا - رئيس الوزارة يومئذ - بإجماع الأمة على مقاطعة اللجنة، فنصح للورد اللنبي بإرجاء إرسالها انتظارا للفراغ من عقد معاهدة الصلح مع الحكومة التركية، ووضوح مركز مصر السياسي من حيث علاقتها بالدولة البريطانية، فلم يشأ اللورد اللنبي أن يصغي إلى هذه النصيحة مخافة أن يتهم بالضعف والتراجع أمام صيحة المقاطعة من اللجان الوفدية.
والسبب الآخر الذي دعا إلى تعجيل الحكومة البريطانية بإيفاد اللجنة في تلك الآونة أنها علمت ببوادر التفكك التي أصابت بعض أعضاء الوفد في باريس، وقد عاد فعلا بعض هؤلاء الأعضاء إلى الإسكندرية في الثاني عشر من شهر أغسطس، وهم: إسماعيل صدقي باشا وحسين واصف باشا ومحمود أبو النصر بك، وأذاعت لجنة الوفد في السادس والعشرين منه أن علي شعراوي باشا قادم لأعمال خاصة بإذن من رئيس الوفد وزملائه، وعاد قبل ذلك آخرون لأسباب من هذا القبيل؛ فحسبت الحكومة البريطانية أن الفرصة سانحة للفصل بين الوفد والأمة أو لتمزيق شمل الوفد، وتشجيع المترددين من أعضائه على تركه، ورجح عندها هذا الحسبان أنها علمت بما شاع عن آراء الأعضاء العائدين، وأنهم يتشككون في نجاح مسعى الوفد لإشفاقهم من مهاجمة الحكومة البريطانية بالدعوة الأجنبية، وإيثارهم أن تكون الدعوة في إنجلترا، وعلى رضى من رجالها الرسميين؛ فطمعت في توسيع مسافة الخلف وبث الغواية من طريق اللجنة الملنرية، وما عسى أن تشير به من تحويل النظم والمناصب، وتقريب الآمال والرغائب.
الفصل السادس
من سفر الوفد إلى لجنة ملنر
استدعت الحكومة البريطانية السير «ريجنالد ونجت» توطئة لإقالته من منصبه في دار الحماية، وهو الرجل الذي أحسن لها النصيحة، وأشار عليها بقبول سفر الوزيرين المصريين إلى العاصمة البريطانية، وعادت هي إلى رأيه بعد فوات الأوان.
واستبدلت به المارشال اللنبي فاتح القدس؛ لأنها حسبت أنها تروع المصريين بهيبته العسكرية، وهو خطأ غريب في تقدير الحالة وجمود على أساليب التخويف الدارجة بغير معنى؛ لأن مظاهر الهيبة العسكرية والسطوة الحربية كانت كثيرة على مسمع ومبصر من المصريين أثناء الحرب العظمى، لا يرون في بلادهم من الحكم الإنجليزي إلا المدافع والدبابات والجنود تغدو وتروح في الحواضر والقرى بعشرات الألوف، فإذا كانوا قد ثاروا وهم على هذه الحالة، وجاءت ثورتهم على أعقاب انتصار الدولة البريطانية في الحرب العظمى، فما كانت الثورة إذن لأنهم كانوا في حاجة إلى مذكرة بالهيبة العسكرية والسطوة الحربية، وما كان اسم المارشال اللنبي عندهم إلا كاسم كل قائد في الميادين البعيدة أو القريبة؛ بل هم كانوا يسمعون بغيره من قيادة الميادين البعيدة سنوات قبل أن يسمعوا به في غزوة فلسطين.
جاء المارشال اللنبي إلى مصر وهو يقدر أن الرهبة من اسمه فوق كل كلام وتفكير، وأنه لا خوف إذن من اتهامه بالضعف إذا هو تواضع إلى سماع الشكايات ومخاطبة الشعب بلسان رجاله؛ فخاطب المصريين باسم الشيوخ ورجال الدين، كما خاطبهم باسم الوزراء والكبراء، وصدرت النصيحة المطلوبة من هؤلاء وهؤلاء يحضونهم على السكينة والاستقرار وانتظار ما يقضي به ولاة الأمور، فلم يكن لهم من أثر كبير ولا صغير؛ لأن الشعب لم يفهم من نصائحهم إلا أنهم مضطرون، أو أنهم متهمون في إخلاصهم إن لم يكونوا مضطرين.
وقد وقفنا بالقارئ من حوادث الثورة المصرية وأحوال الحكومة في مصر على استقالة الوزارة الرشدية لرفض الحكومة البريطانية سفر الدولة إلى أوروبا.
فلما سافر الوفد عادت الوزارة الرشدية في التاسع من أبريل، ولكنها لم تلبث قليلا حتى استقالت؛ لأنها شعرت بالحرج من مطالب الضباط والموظفين، وهي معبرة عن مطالب المصريين أجمعين. فطلب الضباط الوطنيون أن تسند الحراسة إليهم؛ لأن إسناد الحراسة في الميادين العامة إلى أناس لا يفقهون لغة البلاد ولا يعرفون عاداتها كثيرا ما جر إلى إزهاق الأرواح بغير موجب حتى من وجهة النظر البريطانية، كما حدث حين أطلق الرصاص على المصلين الخارجين من المسجد، أو على المتظاهرين ابتهاجا بالإفراج عن الزعماء.
وألف الموظفون لجنة من اثنين وثلاثين عضوا لمخاطبة الوزارة في المطالب السياسية التي لا يتعرض لها الضباط، وهي التصريح بصفة الوفد الرسمية، وأن قبول الوزارة الحكم لا يفيد الاعتراف بالحماية، والإفراج عن المعتقلين مع إبطال الأحكام العرفية.
وجاءت الوفود تترى إلى ديوان الوزارة تعزز هذه المطالب وتلح في قبولها، وعم إضراب الموظفين وأصحاب الأعمال الحرة انتظارا لتحقيقها؛ فاستقالت الوزارة ولما ينقض عليها أسبوعان؛ لتعذر التوفيق بين مطالب الشعب والموظفين وإرادة السلطة العسكرية.
وقد أنذر القائد العام الموظفين بالفصل إن لم يعودوا إلى دواوينهم، وتوعدهم بالمحاكمة العسكرية إن حرضوا على الإضراب، فعاد منهم فريق وقبضت السلطة العسكرية على زعمائهم الذين لم يعودوا في الموعد المحدد.
وفي الحادي والعشرين من أبريل ألف محمد سعيد باشا الوزارة، وصرح لمندوبي الصحف يوم تأليفها «أنها وزارة إدارية» لا تبت في شيء له مساس بمركز مصر السياسي ... وليست لها صبغة سياسية؛ لأن المسألة المصرية لم يبت فيها بعد في مؤتمر الصلح، وأنها ستجتهد في استدعاء الجمعية التشريعية وإلغاء الأحكام الاستثنائية، ومنها قانون المطبوعات.
ولقد كان محمد سعيد باشا رئيس هذه الوزارة رجلا داهيا يحب - بما استطاع من دهائه - أن يجمع بين قضاء أغراضه واستبقاء سمعة سياسية يلبس لها لبوسها في كل مجال وعند كل فرصة. وكانت العلاقة بينه وبين سعد باشا علاقة فتور وجفاء منذ كانا في الوزارة معا، ثم وقع بينهما ما وقع من الخلاف الشديد في الجمعية التشريعية، ولهذا حاول سعيد باشا أن يجمع وفدا ثانيا إلى جانب الوفد السعدي؛ لينازعه قيادة الأمة والدفاع عن القضية، معتمدا في أول الأمر على الأمير عمر طوسون وأفراد من بقايا الحزب الوطني، ثم أحس نفور الأمة من هذا المسعى وصدود الأمير عمر عن متابعته؛ فتراجع وظل يرقب الأحوال إلى أن عرضت عليه الوزارة فقبلها، واخترع صيغة الوزارة الإدارية، وحيلة تأجيل الوزارات السياسية إلى ما بعد عقد الصلح، وأبرم معاهداته مع الدول المحاربة ومع الدولة التركية على الخصوص؛ لأنه رأى في ذلك مخلصا من جميع الجوانب.
فهو - بهذه الحيلة - يريح نفسه من المطالب السياسية، ولا يصادم الأمة في أمل من آمالها، ثم هو يستبقي دعوة الحزب الوطني إلى وقت الحاجة؛ لأنه الحزب الذي يعتمد على حقوق السيادة التركية في دعوته الوطنية، ثم هو يدفع لجنة التحقيق البريطانية بهذه الحجة إلى أقصى أمد ميسور حتى إذا جاءت بعد اعتراف الدولة التركية بالحماية البريطانية - كما كان منظورا بين جميع العارفين - استطاع أن يسوس الأمر بغير مشقة مع أمة أشرفت على اليأس ونفضت يديها من جميع الدول، ووفد بدا فشله للأمة ... وحزب وطني لم يبق له ما يتعلل به من السيادة التركية، ولكن بقى له من المنافسة للوفد ما يحفزه لحربه، ويطمعه في الغلبة عليه، وقد ظهرت للأمة هزيمته وإخفاقه.
وأقبل سعيد - بمثل هذا الدهاء - على علاج المشكلات التي خلفتها الحماية والثورة لوزارته، فاجتهد في إقناع الإنجليز بتحويل قضايا الوطنيين من المحاكم العسكرية إلى المحاكم الأهلية؛ فاقتنعوا لأنهم يضمنون من صداقته لهم وإخلاصه في النصح أنه على الأقل عدو الوفد المصري ورئيسه.
وتشفع في تخفيف بعض الأحكام الصارمة فقبلت شفاعته، ورفع شيئا من الضغط على الصحافة والخطابة، واستمال إليه الموظفين بإغداق العلاوات عليهم، وزيادة مرتباتهم حتى بلغت مثيلها.
غير أن الناس كانوا يستريبون بنياته، وينظرون إلى هذه الأعمال كأنها مخدرات ترمي إلى تهدئة النفوس وإضعاف الحركة الوطنية؛ فأوغرت من صدور الناس عليه أكثر مما جذبتهم إليه، ونقم الغلاة منه قبول الوزارة وتهيئة الخواطر للرضى بالحالة القائمة، فثار بعضهم عليه ورماه أحدهم بقنبلة لم تصبه، وبلغ من كياسة الرجل أنه ذهب إلى المحكمة يؤدي شهادته، فطلب الرحمة بالمعتدي عليه؛ لأنه إنما اجترح فعلته بدافع من عقيدة خاطئة غلبته على صوابه.
واستمرت العلاقات بينه وبين المارشال اللنبي على وفاق إلى أن اختلفا على مسألة لجنة ملنر، ذلك الاختلاف النموذجي لكل اختلاف بين تفكير العسكري وتفكير الوزير المحنك من المدرسة التركية؛ فاللورد اللنبي يرى أن امتعاض المصريين من قدوم اللجنة إلى بلادهم سبب كاف لتعجيل قدومها! وأن إقناع المصريين بأن عواطفهم ومطالبهم لا حساب لها ولا اكتراث بها هو المقدمة الصالحة لمجيء اللجنة التي كانت مهمتها الأولى إرضاء تلك العواطف والبحث عن تلك المطالب! فإكراه الناس على قبول الأوامر هو المهم في السياسة العسكرية سواء نجحت اللجنة أو لم تنجح، وعلى اللجنة وعلى المصريين بعد ذلك العفاء.
ورئيس الوزارة يرى - كما علمنا مما سلف - ألا تحضر اللجنة قبل الفراغ من حل القضية المصرية بين الدولة العثمانية - صاحبة السيادة - والدولة البريطانية؛ وهو رأي له قيمته من الدهاء والحصافة، ولكن لا قيمة له إلى جانب الأوامر العسكرية! وقد اختلف القائد والوزير، فلا محيص إذن من أن يستقيل الوزير.
استقال سعيد باشا وخلفه يوسف وهبة باشا في الحادي والعشرين من نوفمبر، فجرى على «السنة الإدارية» التي استنها سلفه، والتزم الحيدة مع اللجنة المقبلة، فلم يتخذ له موقفا معها أو عليها. ولكنه لم يستطع أن يمنع بعض الرؤساء الإنجليز من تكوين حزب مصطنع من المنبوذين وطلاب المنافع الذين لا خلاق لهم، أسماه «الحزب المستقل الحر»، وأعده للقاء اللجنة ومداراة المقاطعة الإجماعية التي ستلقاها، ولم يفلح في هذه المحاولة على الرغم مما بذل فيها من المصروفات السرية والغوايات المختلفة.
أما اللجنة التي تفاقم حولها هذا الخلاف، فقد وصلت في السابع من ديسمبر وهي محوطة بسوء الطالع من كل مطلع. وكانت ممثلة لجميع الأحزاب الإنجليزية، ومؤلفة من رجال قديرين مشهود لهم بمعرفة الشئون المصرية والمسائل السياسية عامة، وهم: اللورد ملنر وزير المستعمرات، والسير رنل رود سفير إنجلترا السابق في روما، والقائد السير جون مكسويل الذي كان بمصر في أوائل الحرب العظمى، والسير أوين توماس الخبير بمسائل الري، والمستر سبندر الكاتب الصحفي المعروف، والسير سسل هرست الحجة في القانون الدولي، ومعظمهم ممن عرفوا مصر بالخبرة والاطلاع.
لكنهم حضروا والفشل يسبقهم، والصدور موغرة بما توالى على الناس من دواعي الكراهية والنفور، ووظيفة رئيسهم توحي إلى الناس أنه سيجعل مصر إحدى المستعمرات البريطانية.
وقبل أن ينقضي على اللجنة أسبوعان أو نحو أسبوعين، سرى في مصر نبأ الفرار الذي اعتمده نواب الولايات المتحدة، وهو رفض المعاهدة التي وقعها الرئيس ويلسون، فبدلا من أن تجيء اللجنة وتركيا معترفة بالمعاهدات - كما كان يريد محمد سعيد - جاءت الولايات المتحدة - وهي قبلة أنظار العالم في ذلك العهد - تنقضها وتفتح الرجاء لإبطالها وتحقيق آمال الشعوب المخذولة فيها.
وما استقرت اللجنة أياما حتى أحست أنها في حصار محكم من المقاطعة الإجماعية لا يتخلله منفذ إلى لقاء أحد يجديها لقاؤه، ورأى اللورد ملنر من روح الوطنية المصرية غير ما كان يعهده في أيامه السالفة بمصر كما قال لبعض أصحابه؛ فلجأ إلى الملاينة والمصانعة، وحاول أن يفسر غرض اللجنة تفسيرا يحافظ به على الحدود التي رسمتها الحكومة البريطانية، ويجتنب في ظاهره الكلمات المثيرة التي تنفر المصريين وأخصها ذكر الحماية، فنشر على الناس في التاسع والعشرين من ديسمبر بيانا قال فيه:
أدهش اللجنة البريطانية الاعتقاد الشائع بأن الغرض من مجيئها هو حرمان مصر من الحقوق التي كانت لها إلى الآن، ولا أساس على الإطلاق لهذا الاعتقاد؛ فإن اللجنة أوفدت من قبل الحكومة البريطانية بموافقة البرلمان البريطاني لأجل التوفيق بين أماني الأمة المصرية والمصالح الخاصة لبريطانيا العظمى في مصر، مع المحافظة على الحقوق المشروعة التي لجميع الأجانب القاطنين في البلاد. ونحن على يقين من أنه يمكن الوصول إلى هذا الغرض مع توافر حسن النية بين الجانبين، واللجنة ترغب رغبة صادقة في أن تكون العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر قائمة على اتفاق ودي يزيل أسباب الاحتكاك، ويمكن الأمة المصرية من صرف كل مجهوداتها إلى ترقية شئون البلاد في ظل أنظمة دستورية
Self-governing Institutions
وتنفيذا لهذه المهمة تريد اللجنة أن تقف على كل الآراء، سواء صدرت من هيئات نيابية أو أشخاص يهتمون اهتماما صادقا بخير بلادهم، ويمكن إبداء كل رأي بحرية وصراحة، ولا رغبة للجنة في تقيد حدود المناقشة، كما أنه لا يخشى أي فرد أن تعتبر مقابلته للجنة تنازلا منه عن معتقداته؛ فإنه لا يعد متنازلا عن معتقداته بمفاوضة اللجنة إلا كما تعد هي متنازلة بسماعها، وبغير الصراحة التامة في المناقشة يصعب وضع حد لسوء التفاهم والوصول إلى الاتفاق.
ويلاحظ القارئ أن اللجنة ترجمت العبارة الإنجليزية
Self-governing
بالأنظمة الدستورية، وهي ترجمة غير دقيقة، صححناها في صحيفة الأهرام يومئذ بترجمتها الحرفية، وهي أنظمة «حكم ذاتي».
ولوحظ هذا الاختلاف في الترجمة فكان له شأن في اختلاف الرأي بين خطة سعد وخطة عدلي وأصحابه بمصر حيال اللجنة. فقد قال عدلي في خطاب له إلى سعد مكتوب في التاسع والعشرين من يناير:
رأينا قبل عمل أي شيء أن نعجل بالكتابة لتوضيح نقطة هامة كان لها بحق أثر كبير في قراركم الذي اتخذتموه، وهذه النقطة هي ما فهمتموه من أن بلاغ اللجنة ضيق للغاية من المناقشة فجعلها «وضع نظام حكومي في حدود الحكم الذاتي»؛ مما جعلكم تعتقدون أنه مع هذا التحديد لا تنتقل المسألة المصرية من مركزها، فلا ترتفع به الحماية بل تتأكد، والواقع أنه حصلت بيننا وبين اللورد ملنر مناقشة في هذا الموضوع، وأكد لنا أن النص الإنجليزي ليس معناه الحكم الذاتي الذي يعبر عنه ب
Self-governing ، بل معناه الحكومة الدستورية، وأن الغرض من ذكر هذه العبارة في البلاغ بيان أن الحكومة الإنجليزية لا يصح أن ترتبط بمعاهدة حكومة لا تكون ذات نظام دستوري، وكذلك كانت الترجمة العربية الرسمية وفق هذا التفسير، ولولا هذا لكانت أحاديثنا مبنية على غير أساس، ولما جاز لنا أن ننقلها إليكم، ونستنتج منها ما استنتجناه.
والقرار الذي اتخذه سعد، وأشار إليه عدلي في الخطاب المتقدم هو قراره الذي نشره في بلاغ بعث به إلى مصر عقب نشر اللجنة بيانها، وقال فيه ما نصه:
يحاول الأقوياء بجميع الوسائل أن يأخذوا منكم رضاه بحمايتهم؛ ليزدادوا قوة ويزيدوكم ضعفا، فلا تنخدعوا إذا وعدوكم، ولا تخافوا إذا هددوكم، واثبتوا على التمسك بحقكم في الاستقلال التام؛ فهو أمضى سلاح في أيديكم وأقوى حجة لكم، فإن لم تفعلوا - وليس في قوة إيمانكم الوطني ما يجعل احتمالا لذلك - خذلتم نصراءكم، وأهنتم شهداءكم، وحقرتم ماضيكم، وأنكرتم حاضركم، ومددتم للرق أعناقكم، وحنيتم للذل ظهوركم، وأنزلتم بأمتكم ذلا لا يرفع منه عز، وإن تفعلوا - كما هو أكبر ظني في عظم إخلاصكم ومتين اتحادكم وقوة وطنيتكم - فقد استبقيتم لأنفسكم قوة الحق، وأعددتم لنصرتكم قوة العدل، فلا تذلوا وإن قهرتم، ولا تخشوا وإن ظلمتم، ولا بد من يوم يعلو فيه حقكم على باطل غيركم، وينتصر فيه عدل الله على ظلم خصومكم، وتتحقق بإذن الله الإله القدير آمالي وآمالكم في الاستقلال التام.
وصل هذا البلاغ إلى مصر، ونشر في صحفها عند منتصف يناير، وكانت لجنة الوفد المركزية قد أعلنت بلاغا في معناه عقيب صدور البيان المتقدم من لجنة ملنر، وتعاقب على أثره صدور البلاغات في هذا المعنى من ذوي الشأن والرأي في مقدمتهم الأمراء والعلماء، وأيقنت اللجنة - لجنة ملنر - أن لا رجاء في الاتصال بينها وبين الأمة المصرية على قاعدة البيان الجديد؛ لأن هذا البيان لم يغير من الأمر شيئا، ولأن الأمة لا ترى لها مصلحة في تجاهل وفدها النائب عنها في قضيتها، كما ترى السياسة الإنجليزية المصلحة في هذا التجاهل أو هذا التفريق بين الأمة ودعاتها؛ فلم يعد للجنة مناص من السفر أو من القناعة بما عندهم من وسيلة لاستطلاع الآراء هنا وهناك، وزيارة بعض أعضائها لبعض أصحابهم الذين كانوا يعرفونهم من سراة المصريين في القاهرة أو الريف، وشاع بين أبناء الريف أن أعضاء اللجنة الملنرية يطوفون البلاد خفية؛ فأصبحوا يستريبون بكل سؤال يلقيه عليهم أجنبي غير معروف، ورويت في ذلك أحاديث شتى تدخل في باب الملح والطرائف، ولكنها تدل في الوقت نفسه على الجد في كراهة الحماية وحب الاستقلال والوفاء لزعيم الوفد والحذر من حيل الاستعمار؛ فكان الفلاح الساذج إذا سأله أجنبي لا يعرفه: أين الطريق؟ بدر إلى ذهنه أنه عضو من أعضاء اللجنة يتخفى لاختلاس الآراء والأجوبة بغير علم الوفد، فأجابه على الفور: عليك بسعد في باريس يخبرك أين الطريق، وإذا سأله: هل لك أولاد؟ أو سأله: كم أجرك في اليوم؟ لم يزد على أن يحيله إلى سعد في باريس فهو أعلم بالجواب! ولا يبعد أن يكون أعضاء اللجنة الذين اختلفوا إلى الأقاليم قد صادفوا شيئا من هذه الأجوبة، وعرفوا من دلالتها السياسية ما هو أدل وأجلى مما كانوا يقصدونه بالتحقيق والسؤال.
ولا ينبغي أن ننسى أناسا من الداعين إلى مقاطعة اللجنة قد تشعبت بواعثهم ونياتهم، فلم يكونوا جميعا على نية الأمة في تأييد الوفد ورعاية حق نيابته، أو صون كرامته على مهانة التجاهل الذي قصدته الحكومة البريطانية، فكان ممن اتخذوا المقاطعة أناس اتخذوها إحباطا لكل مفاوضة يجريها الوفد في الحاضر والمستقبل، ومنهم خصوم له كانوا يرضون باليسير في حل القضية المصرية، ولا يطمعون في استقلال تام ولا ناقص، ولكنهم يصطنعون الغلو ويؤثرون التصعيب وتوسيع المسافة بين طرفي الاتفاق؛ لاعتقادهم أن كل شرط يوضع للمفاوضة المقبلة إنما هو عقبة في طريق الوفد دون غيره من الرجال الرسميين، فإن هؤلاء الرجال الرسميين لا يلقون أكثر اعتمادهم على قوة الحكومة، ومن ورائها قوة الاحتلال.
أما الوزراء الذين كانوا معروفين يومئذ باسم أصدقاء الوفد - وهم رشدي وعدلي وثروت - فقد أخذوا بالحيطة فلم يغضبوا الوفد ولم يغضبوا اللجنة، وكتبوا في السابع من يناير خطابا إلى سعد يقترحون فيه عليه أن يعود هو وأصحابه إلى القاهرة لمفاوضة ملنر بعد الوعود التي أفضى بها إليهم، ولا تخرج عن معنى البيان المتقدم، فلما أجاب الوفد بامتناع ذلك لأن بيان ملنر يحصر الغرض من المفاوضة في الحكم الذاتي، أجابوه بما أسلفنا من تفسير كلمة «الحكم الذاتي»، كما جاءت في الصيغة الإنجليزية، وقالوا: إن اللورد ملنر لا يرى مانعا من دخول الوفد المفاوضة على أساس الاستقلال التام، وإن كان هو لا يستطيع الجهر بهذا الأساس، ولا يزال يرجو بعد تمام المفاوضة أن يحسن «للرأي العام الإنجليزي» قبول ما ليس يقبله الآن.
وقد بسط سعد تفصيل رأيه في بيان رد به على التقرير الذي جاءه من لجنة الوفد المركزية مع علي ماهر بك، وفيه يقول بتاريخ الحادي والعشرين من يناير: ... إننا لم نجد في بلاغ ملنر شيئا يخالف التصريحات السابقة عليه إلا خلوه من لفظ الحماية وحسن أسلوبه. أما في الجوهر فقد وجدناه متفقا معها تمام الاتفاق؛ إذ هو مثلها يعتبر مصر تابعة لإنجلترا، ولجنة ملنر لجنة تحقيق، موقف المصريين معها موقف المجيب من المستجوب، وغاية أبحاثها الوصول إلى وضع نظام حكومي في دائرة الحكم الذاتي، ونحن لا نعترف بشيء من ذلك؛ فلا تبعية لإنجلترا علينا، ولا نعرف لهذه اللجنة سلطة التحقيق في بلادنا، والغاية التي نسعى إليها هي التمتع بجميع حقنا في الاستقلال التام، نعم! إن هذا البلاغ وسع مجال المناقشة، ولكنه ضيق الغاية منها؛ فجعلها وضع نظام حكومي في حدود الحكم الذاتي؛ وبذلك هدم بيد ما بناه باليد الأخرى، وزاد أن اشترط لنفسه حرية العمل، وهو تحديد الغاية الذي لا ينقل المسألة من مركزها، فلا ترتفع به حماية بل تتأكد، ولا يتم به استقلال بل يقل، ولا يفيد إلا شيئا واحدا هو تسهيل مأمورية التحقيق على اللجنة، وما كان للمصريين أن يعرفوا لها هذه الصفة وألا يسهلوا لها هذه المأمورية. وأكبر ما تعطيه أو تشير بإعطائه أقل من حقهم بكثير. زد على ذلك أنها جاءتهم رغم أنوفهم وضد إجماعهم بأن استعملت كل وسائل الشدة معهم تمهيدا لوصولها، وشكلت وزارة لم يرض الرأي العام بها.
إن عودة الوفد أو بعض أعضائه على أثر هذا البلاغ لم يخطر ببالنا للاعتبارات السالف ذكرها، ولأن الإنجليز لا يتأخرون أن يتخذوا منها حجة على فوز سياستهم، ويبنون عليها كثيرا من الأقوال التي ينشرونها لتضليل الرأي العام في أوروبا عموما وإنجلترا خصوصا. ربما كان يسهل علينا أن نتعرض لمثل هذا الخطر، ونعجل لهم ذلك الفوز لو أنهم وعدونا بشيء في مقابلته وعدا صريحا يصح الاعتماد عليه. ولكنهم لم يفعلوا، وليس لنا أن نتوهم أنهم سيفعلونه بعد عودتنا على غير وعد سابق. لو أنهم مع توسيع مجال المناقشة أطلقوا الغاية منها لصح لنا أن نتعشم أن نقنعهم بالبرهان الصادق والحجة الدامغة بصحة مطالبنا، ولكنهم حددوها بما دون ما نطلب حتى في ذلك البلاغ الذي نشروه بقصد استرضائنا؛ فكان مثلهم في ذلك مثل بعض القوانين الألمانية القديمة التي كانت تقضي بسماع الشهود بعد الحكم في الدعوى؛ ولهذا رأينا أن العودة ارتكانا على البلاغ المذكور لا تكون إلا عبثا مقرونا بالخفة والمخاطرة. ويصح للإنجليز وغيرهم أن يقولوا إنه كفى أن يغير شكل التصريح، وأن يؤتى ببعض العبارات الطلية في أن تغير الأمة المصرية بتمامها خطتها نحو اللجنة، فتخرج من مقاطعتها إلى المفاوضة معها. كلا! إننا لم نبلغ هذا الحد من البساطة والسذاجة؛ إن المسألة أكبر بكثير من أن يكون لاختلاف الصور والأشكال تأثير فيها.
إننا نقبل العودة للمفاوضة على شرط أن تكون بين متعادلين في حقوق المناقشة وطرفين كل منهما يمثل أمة، وأن يكون الغرض منها الوصول إلى عقد معاهدة تضمن لمصر استقلالها التام ولإنجلترا مصالحها التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال التام، وأن تعترف الدول بهذه المعاهدة وتسجل في عصبة الأمم. فإذا صرح الإنجليز بذلك رسميا هنالك لا نتأخر عن العودة لمباشرة المفاوضة متى ألغيت الأحكام العرفية، وضمنت لنا العودة لمباشرة أعمالنا عندما نريد. أما المفاوضة في أوروبا فنحن مستعدون لها مع لجنة ملنر أو غيرها ما دامت المناقشة لا يترتب على الدخول فيها الالتزام بشيء ما. وما دام أن العبرة بما يتم عليه الاتفاق في حدود التفويض لنا، فإذا كان الإنجليز يرغبون حقيقة في ودنا وفي بناء علاقاتهم على الاتفاق معنا، فلا شيء أسهل عليهم من اتباع إحدى هاتين الطريقتين للوصول إلى الغاية. وهم لا بد أن يفهموا أن الأمة المصرية وصلت من اليقظة والانتباه ومعرفة حقوقها إلى درجة لا تركن معها إلى الأقوال، ولا تعتمد فيها إلا على الأعمال، ولا ترضى عن استقلالها التام بديلا. نعم! إن في قوتهم إرغامها على النظام الذي يريدون وضعه فيها، وقد لا يبعد عليهم أن يحملوا كل الدول على الاعتراف بحمايتهم علينا، ولكن حقنا لا يضيع بهذا الإرغام ولا بهذا الاعتراف، بل يبقى ثابتا، ونبقى مستمرين على المطالبة به والسعي للحصول عليه، وإذا لم يكن في الحكومات الأجنبية الآن من يمد يد المساعدة إلينا، ففي شعوبها كثير من الأحرار يعطفون علينا وينتصرون لقضيتنا بأقلامهم وخطبهم، وما يدرينا أن يظهر غدا المساعد لنا؟! وللزمان تقلبات تجعل الحليف عدوا والعدو حليفا.
ولا يصح أن نسقط من حسابنا اتساع ملك بريطانيا وتباعد أطرافه، واضطراب الأحوال في ممتلكاتها وجوارها، وانتشار المبادئ الديمقراطية في العالم عموما وفيها خصوصا، وتهديد حزب العمال لحكوماتها بالاستيلاء عليها وقربه من هذه الغاية يوما فيوما، كما تؤيده الانتخابات الجزئية والاعتصابات التي كثر تواليها في هذه الأيام. كل هذا يجعلنا ألا نغامر بحقنا، وأن نبقى متشددين في التمسك به ومقاطعين للجنة التي حضرت رغم أنوفنا لحملنا على الرضاء بإنقاصه حتى تعود خائبة؛ فيعلم الإنجليز وتعلم الأمة والعالم معها أن مصر متحدة تمام الاتحاد على الوصول إلى استقلالها التام، وأن إرادتها على ما تكره مخالف لشرف الوعود التي بذلتها إنجلترا، ومناقض للعهود التي سجلتها، وغير منطبق على المبادئ التي قبلتها، ومكدر على الدوام لسلمها ومقلق لراحتها، وأن خير سياسة تتبعها هي أن تبر بوعدها، وتتخذ من مصر حليفة صادقة لها لا تابعة نافرة منها تترقب الفرص دائما للخروج عليها، وتفضل الموت على الاستسلام لها ...
هذا بيان مفصل برأي سعد في احتمالات الحالة من جميع أطرافها، ومنه نعلم لماذا كان على خلاف رأي الوزراء «الأصدقاء» في العودة إلى القاهرة لمفاوضة ملنر، ونعلم أنه لم يكن يرفض المفاوضة إذا جرت في أوروبا؛ لأنها لا تكون هناك بمثابة تحقيق تجريه الدولة المتبوعة في بلاد رعاياها فضلا عما فيها من اعتراف اللجنة بوكالة الوفد عن الشعب المصري، وهي لا تجهل نصوص ذلك التوكيل ولا مطالب الشعب المحدودة فيه.
وبديه أن الوزراء «الأصدقاء» لم يكونوا لينتظروا لهم «دورا» يقومون به قبل تمام المفاوضة بين الوفد ولجنة ملنر وانتهائها إلى صيغة محدودة يتفق عليها الطرفان، أو يظهر منها على الأقل مبلغ استعداد الإنجليز لإجابة المطالب الوطنية، فأما قبل ذلك فليس في وسع الوزراء أن يفاوضوا اللجنة في تفصيلات الاتفاق بمعزل عن إجماع الأمة وموقف الوفد بباريس ولجنته المركزية بالقاهرة في وقت واحد، ولو أنهم أقدموا على هذه المفاوضة العقيمة لخسروا الجانبين معا وأخفقوا في تقرير الاتفاق المطلوب لا محالة، ورجعوا وحدهم بتبعة الفشل أمام الأمة. وأما الإنجليز، فهم لم يخطئوا في تقديرهم أن المفاوضة بين الوفد ولجنة ملنر لا بد أن تسبق كل «دور» يقومون به في هذه المرحلة؛ ومن ثم اجتهدوا في إقناع سعد بالحضور إلى مصر أو إيفاد من ينوب عنه لمفاوضة اللجنة، وكانوا متعجلين - ولا شك - فيما اقترحوه؛ لأنه اقتراح أقل ما فيه أن يدل اللجنة الملنرية على تهافت المصريين وتراميهم على هذه الفرصة المدخولة ترامي المناضل الذي استنفد موارده الأخيرة وقنع بالتعلل والمغالطة، وليس في شيء من هذا ما يغري اللجنة بالتوسع في إجابة المطالب المصرية، أو يرجح عندها أن تتوقع رفضا لما تعرضه أيا كان الحل المعروض، فلما تريث سعد ولم يقنعه تفسير العبارة الإنجليزية ذلك التفسير الذي أسرع الوزراء إلى قبوله، دار الكلام في إيفاد رسول من قبل اللجنة إلى باريس لتمهيد المقابلة بينها وبين الوفد بعد عودتها من القاهرة.
وقد دارت المناقشة بين عدلي وسعد في تفسير العبارة الإنجليزية وما احتوته من الإشارة المزعومة إلى الأنظمة الدستورية، فأعرب سعد عن شكوكه في خطاب الحادي عشر من فبراير إلى عدلي باشا إذ يقول: ... نعم! إن ترجمتكم العبارة الإنجليزية
Self-governing
بالحكومة الدستورية هي الأصح، ولكن صحة هذه الترجمة في نفسها لا تحمل على تعديل قرارنا؛ لأن هناك أسبابا أخرى غيرها، ولأن إيرادها في المكان الذي وردت فيه من البلاغ مع عدم اقتضاء المقام لها بعد التصريح فيه بأن مأمورية اللجنة هي التي صورتها الحكومة ووافق عليها البرلمان يوقع في الذهن بأن المقصود بها هو المعنى الذي فهمناه. والقول بأن القصد منها إنما هو ألا يكون الاتفاق إلا مع حكومة دستورية، لا يتفق في ظاهره مع كون هذه العبارة وردت على أنها نتيجة للتعاقد لا وسيلة له. ومع ذلك فإذا كان القصد منها هو كما يؤكد جنابه من أن الحكومة الإنجليزية لا يصح أن ترتبط بمعاهدة إلا مع حكومة ذات نظام دستوري؛ لزم قبل كل شيء وضع هذا النظام لتشكيل حكومة دستورية تكون أهلا للتعاقد على تحديد العلاقات بين مصر وإنجلترا.
ومن هذا الخطاب نفهم أن سعدا لم يأخذ بالتفسير كما جاء في حديث ملنر مع الوزراء، ولكنه أراد أن يستفيد من ملنر والوزراء على تفسيرهم بأن يمهد به لإنشاء الحياة النيابية وقيام الحكومة الدستورية، ويجس النبض لاستطلاع ما هنالك من النيات والخطط المرسومة، فإن جاء الدستور فذاك، وإن لم يجئ لسبب من الأسباب، فظهور ذلك السبب خير من كتمانه والمواربة فيه.
قال سعد في خطابه المتقدم بعد ما أسلفناه:
ولا أخفي عليكم أن فكرة هذا النظام خطرت أول الأمر ببالنا على أنها الوسيلة القانونية لحل المسألة؛ لذلك نحن نوافق كل الموافقة عليها بل نحبذها، والطريقة المثلى للوصول إلى هذه الغاية في رأينا هي أن يبدأ بتأليف وزارة من غير أعضاء الوفد موثوق بها، ويكون البروجرام الذي تعلنه هذه الوزارة هو وضع ذلك النظام، ثم المفاوضة مع الحكومة الإنجليزية بغرض الوصول إلى وضع اتفاق يضمن استقلال مصر التام ومصالح إنجلترا الخصوصية، ثم عرض ما تنتهي المفاوضة إليه على الهيئة النيابية التي تتألف بموجب ذلك النظام للتصديق. ومتى تم تشكيل الوزارة على هذا النحو، وأعلنت بروجرامها على هذه الصيغة أو بما في معناها، لا نتردد نحن وزملاؤنا في العودة إلى مصر لمساعدتكم على القيام بمهمتكم لدى الأمة، والسعي في أن تنتخب أعضاء لهذه الهيئة. إذا تم لكم أن تفعلوا ذلك خدمتم بلادكم أجل خدمة، وخلدتم لكم في التاريخ أحسن الذكرى.
وزاد الموضوع تفصيلا بخطاب في اليوم التالي (12 فبراير) قال فيه:
إن الطريقة التي عرضناها فيما كتبناه لكم هي في اعتبارنا أمثل طريقة لحل العقدة الحاضرة؛ لأنه من الطبيعي أن تجرى مفاوضة مع هيئة رسمية موثوق بها خصوصا من الأمة، وأن يصدق على ما تنتهي المفاوضة إليه من النواب الذين تختارهم لهذه الغاية، وهي تقرب في ظننا من التي يظهر أن اللورد ملنر يدلي بها في محادثاته معكم، وفيما أكد لكم من المقصود بالعبارة الإنجليزية السابقة التي أوردها في بلاغه، إن لم تكن هي بذاتها؛ ولهذا يغلب على ظننا أنه يهش لها ويعمل على تنفيذها، ولا يصعب عليه أن يتضمن بروجرامكم عبارة الاستقلال التي أوضحناها فيما كتبناه لكم؛ لأنها لا تربط غيركم، وهي فوق ذلك ضرورية جدا حتى لا تقابلكم الأمة بالنفور الذي تلاقي به كل وزارة، لا يكون السعي إلى هذه الغاية أول قصدها وأكبر همها، نعم! إن فيها مشقة عظيمة لكم ومسئولية كبرى عليكم، ولكنها ليست فوق همتكم، وأنتم أهل لتحمل كل هذه المسئولية في خدمة بلادكم، والوفد مستعد لأن يعمل ما في وسعه لتسهيلها عليكم؛ ولهذا يرى أن يكون أعضاؤه خارجين عن هيئتكم حتى لا يساء الظن في نزاهتكم، وتبقى الثقة فيهم يستعينون بها في تأييدكم وتمهيد الطريق أمامكم. وبعد أن تتألف الهيئة الجديدة تحت رئاستكم وتعلن بروجرامها، لا يترددون في العودة ليكونوا قريبين منكم يعملون في تنوير الأفهام وصيانة الرأي العام من خطرات الأوهام، التي لا يقصد ذوو الأغراض الفاسدة من بثها فيه وتسليطها عليه إلا ترويجا لمقاصدهم الفاسدة وتحصيلا لمصالحهم الباطلة، ولا يهمنا فيمن تختارونهم لمعاونتكم إلا أن يكونوا محلا لثقتكم وأهلا لأن يتضامنوا معكم في تحمل تلك المسئولية الكبرى.
وقد أجاب عدلي بخطاب في الخامس والعشرين من فبراير قال فيه:
نعم، إننا على رأيكم من أن وجود هيئة وزارة تعمل على تحقيق الأماني القومية وتثق بها الأمة في ذلك من أهم الأمور، وربما كانت الوسيلة القانونية الوحيدة للحصول على الغاية التي ننشدها، ولكننا نرى أيضا أنه لا يصح أن تستأثر هذه الهيئة بالمفاوضة وحدها وبوضع النظام الدستوري للبلاد، بل يجب أن يكون هذا بالاشتراك مع الوفد، وطريقة العمل في ذلك أن تعلن الوزارة حين تشكيلها أن برنامجها هو السعي للوصول إلى اتفاق يوفق بين استقلال مصر والمصالح الإنجليزية والأجنبية، ووضع مشروع نظام دستوري للبلاد، ثم تعهد المفوضة لهيئة تضم بعضا من أعضاء الوزارة، وبعضا من أعضاء الوفد.
بعد هذه الرسائل المتبادلة بين سعد وعدلي انجلت سياسة سعد وسياسة الوزارة «الأصدقاء» مع لجنة ملنر، بل انجلت سياسة كل من الفريقين مع الفريق الآخر، وأصبح في وسع الناظر إلى ما وراء الظواهر أن يلمس النيات التي توحي إلى كل فريق بسياسته ومقترحاته.
فسعد يريد حلا للقضية المصرية لا مغالطة فيه، ويريد أن يترك للوزارة «الأصدقاء» ما هو للوزراء ويبقي للزعامة ما هو للزعامة؛ فليس عنده ما يمنع أن تفاوض الوزارة الصديقة الإنجليز متى ضمن سلامة المفاوضة وعرض النتيجة على الأمة. وهو لا يريد أن تسيطر الحكومة على الرأي العام وتعرض الوفد للانقسام؛ لأنها إذا أدت عملها مستقلة به بقي للوفد عمل آخر عند عرض النتيجة على الهيئة النيابية المماثلة للأمة، ولا بأس في أن يقوم به يومئذ متفقا مع الوزارة؛ لأن المرجع في جميع ذلك إلى ميدان الانتخاب الذي يجوز لأعضاء الوزارة كما يجوز لأعضاء الوفد أن ينزلوا إليه.
أما سياسة عدلي فهي قبول الوزارة مع التزام الخطة التي جرى عليها هو وزملاؤه من مبدأ الحركة الوطنية، وهي خط الانتفاع بنفوذ سعد والاحتراس منه في وقت واحد، أو هي إشراك الوفد في التبعة حذرا من رقابته وتعقيبه إذا استقل الوزراء بالمفاوضة والاتفاق على القضية العامة! وهذه سياسة هي أدنى إلى العداوة منها إلى الصداقة وخلوص النية؛ فهم لا يريدون أن يدعوا سعدا حرا في عمل واحد، ولا يعنيهم إلا أن يشركوه معهم في التبعة، ويسوقوه حيث انساقوا، ويقطعوا عليه سبيل التعقيب والملاحظة، ويقدموه أمامهم خطوة خطوة ليحموا ظهورهم ويحفظوا لأنفسهم طريق الرجعة. وكلما استطاعوا أن يهونوا عليه قبول ما قبلوه أسرعوا إلى محاولة إقناعه؛ لأنهم لا يخسرون شيئا وإنما هو الخاسر عند الجمهور إن قبل! بل لعلهم يكسبون أن يقنعوا الناس كما أقنعوا أنفسهم بأنهم كانوا على صواب في قبول الحماية، وأن الأمة لن تنال بالثورة أو بغير الثورة وبالزعامة أو بغير الزعامة أكثر مما قبلوه.
فحسنوا لسعد أن يعود إلى مصر ويرضى بمغالطة نفسه ومغالطة الأمة في الألفاظ التي لا تسمح بالمغالطة، ثم حسنوا له أن يشترك بفريق من أعضاء الوفد في هيئة المفاوضة ليدخلوه في التبعة وهم قابضون على زمام الحكومة، ومن قبل ذلك رحبوا في أيام الحرب العظمى بدخوله معهم في الوزارة ليعترف بالحماية كما اعترفوا بها، ونظروا في ذلك إلى أنفسهم غير ناظرين إلى البلد الذي كان يجوز أن يهيب بسعد أو يهيب سعد به إلى بلوغ ما لم يبلغوا من استقلال وحرية، وأبوا بعد الهدنة أن يسافروا إلا إذا سافر هو يوم جاءهم الإذن بالسفر إلى العاصمة البريطانية، وكل ما صنعوه بعد ذلك في مفاوضات ملنر وكرزون مطرد مع هذه الغاية ومنبعث من هذه النية، وهي أن يقاسموا سعدا في كل ما يدركه، وأن يشركوه معهم في كل ما وقعوا فيه، وألا يتركوه حرا في فرصة من الفرص ليطلب فوق ما طلبوه، وينال فوق ما عسى أن ينالوه.
وهي خطة حافظ الوزراء «الأصدقاء» عليها أدق محافظة، ولن يتأتى لهم أن يتبعوها على نمط واحد بغير تفاهم وممالأة، ولن يقع التفاهم عليها مع الصداقة وخلوص النية، وسواء حسنت نتائجها أو ساءت فهذا الذي قصدوه بما بذلوا من مساعدة أو نصيحة، وعلى حسب هذا القصد يكال لهم العذر أو الملام.
وقفت مسألة الوزارة التي دار الكلام عليها في الرسائل السابقة؛ لأن اللورد ملنر لم يستحسنها عندما فاتحه عدلي فيها، وتعلل بقوله: «إن الفكرة لا بأس بها، ولكني لا أرى من المصلحة تغيير الوزارة الآن؛ لأنه إذا شكلت وزارة مهمتها المفاوضة فربما اعترض هذه صعوبات يكون من نتائجها سقوط الوزارة، على أن أعضاءها - وهم الذين سيكون عليهم المعول في إدارة البلاد - يجب ألا يكونوا عرضة للتخلي عن خدمة البلاد بمجرد إشكال يمكن أن يحل فيما بعد.»
فقال عدلي: «لم يبق إذن سوى حل واحد، وهو أن تتفاوضوا مع الوفد.»
وحوالي هذا الوقت ختمت لجنة ملنر أعمالها في مصر، وأصدرت في السادس من شهر مارس بيانا رسميا قالت فيه: إنها أنجزت بحوثها، وأجلت عملها الباقي إلى أن تجتمع بلندن بعد عيد الفصح لتحضير تقريرها. وذهب رئيسها في رحلة إلى فلسطين مكث فيها نحو أسبوعين، ثم عاد إلى الإسكندرية في السادس والعشرين، وقفل منها إلى بلاده. أما الحالة في الفترة التي قضتها اللجنة بمصر فخلاصتها أنها أسفرت عن إخفاق السياسة البريطانية في التفرقة بين الوفد والأمة، وعن نجاح الحركة الوطنية في زعزعة الحماية التي كان الضعفاء يحسبونها قضاء مبرما لا يدفعه دافع، ولاح من كلام الصحف المشهورة بنزعتها الاستعمارية عقب رجوع لجنة ملنر من مصر أن الحكومة البريطانية لم تجد بدا من التفكير في إلغاء الحماية، فصرح بعضها - ومنها الديلي ميل - بما يفيد تلك النية.
ولقد لمست الأمة المصرية قوة إجماعها بيديها في أيام اللجنة الملنرية، وشعرت باستقلالها حقيقة ماثلة في ضميرها وإن جحدته المظاهر الرسمية؛ فصمدت على التفاؤل والاطمئنان إلى المستقبل غير حافلة بما بدا من ضعف الأعضاء الوفديين الذين تراجعوا على أثر ما اصطدموا به من اعتراف الدول جميعا بالحماية، وأعان المصريين على تحدي هذا الإجماع أنهم رأوا مؤتمرا كالمؤتمر الأمريكي يرفض معاهدة فرساي؛ فشعروا بأن إجماع الدول على توقيعها ليس بالسد المنيع الذي يستعصى اختراقه، ويحق عليهم اليأس من تداعيه يوما بعد يوم، كلما تبدلت أطوار الشعوب وعلاقات الحكومات.
وظل النفور مستحكما بين الحكام العسكريين والأمة المصرية في إبان زيارة اللجنة الملنرية، وكأنما كان يهم هؤلاء الحكام العسكريين أن يوقعوا في أخلاد المصريين أن حضور اللجنة إلى هذا البلد لا يعني أن الدولة البريطانية تبالي بشعورهم، وتكترث لرفضهم أو قبولهم، فدأبوا على الغطرسة والعناد. ولولا قليل من الحرية في نشر بعض الآراء لظلت الحالة كما كانت عليه قبل حضور اللجنة بلا اختلاف.
وزاد الجو اكفهرارا لجاج حكومة السودان في مشروعات الري والزراعة، وهي المشروعات التي ترمي إلى بناء خزان على النيل الأزرق وخزان آخر على النيل الأبيض، واستدراج الحكومة المصرية إلى القيام بتكاليف هذه المشروعات ليستفيد منها أصحاب الأموال في إنجلترا، ويستعينوا بها على إصلاح الأرضين الواسعة وزرع القطن الذي يزاحم قطن مصر، ولا ينتفع به أهل السودان؛ فبلغ الحنق من هذه المشروعات أقصاه، وساء تأويل كل ما يقال وكل ما يراد في هذا الباب، وتعرضت حياة وزيرين مصريين من رجال الهندسة والري - وهما إسماعيل سري باشا ومحمد شفيق باشا - للخطر من جراء البحث فيها؛ إذ ألقى بعض الشبان على كل منهما قنبلة في طريقه، واتفقت الحادثتان معا في أثناء زيارة اللجنة الملنرية، فدلتا على اكفهرار الجو أثناء زيارتهما أيما اكفهرار.
الفصل السابع
المفاوضة في لندن
بعد أخذ ورد قبل عدلي باشا أن يقدم موعد سفره إلى باريس إجابة لطلب سعد في العشرين من شهر مارس.
ولم تكن هذه الدعوة ابتغاء الوساطة في لقاء بين الوفد واللجنة كما أشاع بعضهم في تلك الأيام؛ فقد كان ملنر في الشرق حتى ذلك اليوم، وكان محتملا أن يمر بباريس عند عودته خلال ذلك الأسبوع، قبل ذهاب عدلي إلى باريس على أي تقدير.
وإنما دعاه سعد؛ لأنه أراد أن يعرف بالمحادثة ما لا يعرف بالمراسلة، وأن يطلع على الحقيقة قبل أن يبت بالرأي الحاسم في مسألة اللجنة، عن يقين لا تشوبه الظنون.
وهنا بدرت من عدلي بادرة جديدة من البوادر التي لا تني تدل على نيات الوزراء «الأصدقاء» فيما يتخذون من علاقة بسعد خاصة وبالوفد عامة، فلما أبرق سعد إلى عدلي يرجوه «تقديم موعد حضوره إلى باريس بقدر المستطاع» كان هم عدلي الأول أن يتمسك على سعد وعلى الوفد بوثيقة مفصلة قبل أن يجيب هذه الدعوة! فأبرق إليه يقول إنه «قبل تعيين ميعاد السفر يكون سعيدا لو تسلم خطابا تفصيليا منكم». وليس هذا مسلك تعاون خاص، ولكنه مسلك تقييد بالأسانيد المكتوبة، قد يكون فيه مصلحة لعدلي ولكن، لا مصلحة فيه للقضية المصرية، ولا للمساعي المنتظرة في المستقبل.
فإن القضية المصرية لا تستفيد من وثيقة يبسط فيها الوفد أغراضه المفصلة قبل الاطلاع على فحوى الحالة كلها من محادثة عدلي والموازنة بين المعلومات الأخرى.
لقد كان عدلي ينتظر من الوفد خطابا «مفصلا»، يكشف فيه نياته نحو اللجنة ونحو مستقبل المفاوضة إن كانت هناك مفاوضة. فأي مصلحة وطنية في كشف هذه النيات؟! ولماذا هذا الحرص على تقييد الوفد بخطة مفصلة قبل تعيين موعد السفر؟! ليس في ذلك إلا أنه دليل على بواطن السرائر وعلى الفرق بين مسلك المعاونة الخالصة ومسلك التمسك بالوثائق والقيود كما يتمسك الخصوم.
وغني عن القول أن سعدا لم يجب هذا الطلب الغريب، ولكنه كرر الرجاء على عدلي بالإسراع في السفر «لتبادل الآراء».
فبرح الإسكندرية في السادس عشر من أبريل، ووصل إلى باريس في الثاني والعشرين منه، وفي هذا دليل على أن الغرض الأول من دعوته لم يكن هو السعي في تدبير مصادفة للقاء بين الوفد وأعضاء اللجنة الملنرية في أثناء اجتيازهم بالعاصمة الفرنسية، وإنما كان الغرض الأكبر منه استيفاء المعلومات التي ينبني عليها رسم الخطة التالية بعد تجربة اللجنة في البلاد المصرية.
أما اللورد ملنر فقد عاد من مصر، وهو يعتقد أن مفاوضة الوفد أمر لا محيص منه قبل تقرير النظام الذي يوصي الحكومة البريطانية باتباعه؛ لأنه إذا فرض نظامه فرضا على الأمة المصرية قابلته لا محالة بالنفور والمقاومة، وضاعت المنح التي لعله يوصي بها هدرا في تيار هذه المقاومة، فلا هو احتفظ بها للمساومة والأخذ والعطاء، ولا هو أرضى الأمة المصرية، ولا هو جرى على سنة تقرير المصير التي يهم الدولة البريطانية أن تجري عليها بعد شيوعها على الألسنة في أثناء مؤتمر الصلح، والتحدث بمبادئ الرئيس ويلسون، وقيام عصبة الأمم الجديدة بما لها من حق الإشراف على الوصاية والانتداب وما إليهما من العلاقات بين الدول القوية والأمم التي لا تملك استقلاها وسيادتها. وخير للحكومة البريطانية أن تعامل مصر على أساس التعاهد والاتفاق من أن تحسبها غنيمة مملوكة تدخل في حساب المقايضات والمنافسات بين الدول الاستعمارية؛ فإن معاملة مصر على هذا الأساس تخرج بها من حساب المقايضات والمنافسات بين الدول الاستعمارية، وتحفظ لبريطانيا العظمى سمعة الديمقراطية وحسن العلاقة بينها وبين الشعوب العزلاء المطالبة بحقوق الحرية.
ورأى اللورد ملنر أنه لو أهمل الوفد المصري كل الإهمال، ومضى في وضع تقريره بغير اكتراث به ولا رجوع إليه، لأوجب على الوفد خطة المقاومة، وعلى الأمة أن تجاريه في هذه الخطة، وقطع الرجاء في أعضائه المعتدلين والمتطرفين على السواء، فلا ينشط منهم أحد - بعد إهمالهم أجمعين - لترويج المقترحات المعروضة على الأمة وجلب الأنصار إليها ولو وافقته تلك المقترحات.
ثم ما العمل في الوزارة التي تبرم المعاهدة وتستفتي فيها الأمة؟! أيؤلفها الإنجليز من المنبوذين الذين لا مطمع لهم في أنصار كثيرين أو قليلين؟! إن فعلوا ذلك فرفض المعاهدة محقق بغير جدوى، وقد يجر ذلك إلى مجافاة «الوزراء الأصدقاء» أيضا وإلجائهم مختارين أو غير مختارين إلى مسايرة الوفد والإجماع، والوقوف من المقترحات موقف المعارضة أو الإعراض.
أما إن كان الإنجليز يؤلفون الوزارة من عدلي ورشدي وأصحابهما، فهل يرجو اللورد ملنر منهما أن يقبلا تأليفها بمعزل عن الوفد كله دون أن يطمعا في تأييده أو تأييد فريق من أعضائه؟! إنهما لا يقدمان على ذلك كما يعلم اللورد ملنر، وخير ما يرجوه أن ينتظرا حتى تكون هناك مفاوضات مع الوفد، ويكون هناك أمل في استمالة بعض الأعضاء الموافقين على المقترحات، فهما يقدمان حينئذ على تأليف الوزارة بتأييد من أولئك الأعضاء.
فكل عمل كان يعمله ملنر قبل مفاوضة الوفد عبث:
عبث أن يلقي إلى الأمة بمقترحات يقاطعها الوفد بالإجماع، وهو معذور لديها ولدى جميع المنصفين.
وعبث أن يسلم المقترحات إلى وزارة منبوذة تجني عليها من الخطوة الأولى.
وعبث أن يطمع في قيام وزارة عدلية تناصب الوفد العداء ولا تعتمد من أعضائه على أحد.
فمفاوضة الوفد هي الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره، وعلى هذه العزيمة عاد ملنر من القاهرة بغير جدال؛ فلا اعتداد بما قيل يؤمئذ عن وساطة الوسطاء وكياسة الأكياس الذين جذبوا اللورد ملنر إلى مفاوضة الوفد على غير قصد منه ولا ارتياح، ولا يزالون ينقذون سعدا من الورطات كلما احتاج الأمر إلى وساطة أو كياسة!
غير أن اللورد ملنر يعلم أن سعدا يرفض المفاوضة مع لجنة يقال إنها لجنة تحقيق تبحث عن شكايات المصريين وتنظر في تنظيم الحماية، ولكنه يفاوضها على اعتباره وكيلا عن الأمة، يطلب لها الاستقلال التام ويسعى في إلغاء الحماية. فلا بد من تمهيد يصحح الأمور، وينفي عن المفاوضة صبغة الاعتراف بالحماية والخروج عند حدود التوكيل؛ ولهذا أوعزت الحكومة البريطانية إلى أحد النواب أن يلقي سؤالا في نحو منتصف شهر مايو يقول فيه: «هل صحيح أن لجنة اللورد ملنر قد ذهبت إلى مصر لتثبيت الحماية البريطانية عليها، ومن أجل ذلك كان معقولا أن يجفل المصريون منها؟» فأجابه مستر بونارلو قائلا: «كلا! لم يكن هناك شيء من ذلك، ولكن اللجنة قصدت إلى مصر؛ لتشير بأحسن النظم الصالحة لحكم البلاد.»
وفي تلك الجلسة بعينها ألقى مستر كنورثي سؤالا في هذا الموضوع فقال مستر بونارلو جوابا عليه:
لو كان الممثلون المصريون على استعداد للمناقشة في الضمانات المعقولة الكافية لصيانة المصالح البريطانية فيما يتعلق بقناة السويس والمصالح التجارية والمالية مقابلة لوعد بريطانيا العظمى باحترام استقلال مصر، لكانوا اغتنموا فرصة بلاغ اللورد ملنر الذي نص على إطلاق حدود المناقشة.
وقد سأل المستر كنورثي بعد ذلك: «هل من الممكن مع هذا أن يفتح باب المناقشة من جديد حتى يتيسر الوقوف على رأي هؤلاء السادة المصريين في الاتفاق الذي سيعقد بين البلدين؟»
فقال مستر بونارلو: «إنني على يقين من أن كل مناقشة يكون وراءها نتيجة مرضية تقبل بلا إبطاء، ولكن يجب أن تقدر الحكومة فائدة هذه المناقشة والنتائج التي تنتظر من ورائها.»
وقابل سعد هذه التصريحات بما يناسبها، فقال لمراسل صحيفة الجورنال حين سأله في هذا الصدد: «لا أنكر قيمة هذه التصريحات، ولا أنكر أن فيها ما يقرب المسافة بين وجهة النظر الإنجليزية ووجهة النظر المصرية، على شريطة أن يصاحبها ما يجعلنا نترقب لها نتائج فعلية، ومن الصعب مع هذا أن يعرف الآن ما تراه مصر في هذه التصريحات؛ إذ يجب ألا يغرب عن الذهن أن إنجلترا عدلت أخيرا - بمحض إرادتها وبغير استشارتنا - نظام وراثة العرش بمصر، وليس هذا بخير السبل للتقريب بين البلدين بأواصر الثقة والمودة، وإنما تكسب مودة المصريين وثقتهم بالاعتراف باستقلالهم والكف عن التعرض لخاصة شئونهم.»
ثم قال سعد: «إنه لا يوافق مستر بونارلو على قوله: إن المصريين ضيعوا فرصة المناقشة مع لورد ملنر.» وأضاف إلى ذلك أنهم لم يتلقوا دعوة من لورد ملنر للمفاوضة باعتبارهم ممثلين للأمة المصرية، ثم سأله المراسل: هل هو استعداد للمفاوضة على أساس إعطاء الضمانات المعقولة لمصالح إنجلترا في قناة السويس ومصالحها التجارية والمالية إذا هي وفت بعهودها؟ فقال: «إننا مستعدون لإعطاء كل الضمانات المعقولة للتوفيق بين مصالح إنجلترا واستقلال مصر، ولا نرفض الدخول في المفاوضات اللازمة باعتبارنا وكلاء الأمة المصرية إذا كان من وراء ذلك الوصول إلى هذه النتيجة.»
وعقب ذلك بأيام وصل إلى باريس مستر سسل هيرست - أحد زملاء ملنر - لدعوة الوفد إلى الاجتماع باللجنة في لندن للمناقشة في قواعد الاتفاق بين مصر وبريطانيا العظمى؛ ففضل الوفد - كما جاء في رسالة سعد إلى لجنة الوفد المركزية بالقاهرة - أن ينيب عنه محمد محمود باشا، وعبد العزيز فهمي بك، وعلي ماهر بك، في السفر إلى لندن لاستطلاع الحالة والتحقق من استعداد بريطانيا العظمى نحو استقلال مصر، قبل الانتقال بهيئته الكاملة إلى العاصمة الإنجليزية. وقد لقي هؤلاء الأعضاء اللورد ملنر فذكر لهم أن إنجلترا تعترف باستقلال مصر التام إذا هي ضمنت مصالحها الخاصة وانتهت من المفاوضة إلى هذه النتيجة، فكتبوا إلى سعد بما سمعوه، وشفعوا ذلك باستحسان حضور الوفد كله إلى لندن للبدء في المفاوضة، فلبى الدعوة وأبرق إلى لجنة الوفد المركزية بالقاهرة يعلن للأمة اعتزام السفر في الخامس من شهر يونيو عسى أن يصلوا بالمفاوضات إلى حل مرض «مستمدين القوة من اتحاد الأمة وحكمة أبنائها، والحجة من وضوح الحق والمعونة من الله ناصر الضعفاء».
ولسنا نعرف مبلغ ما كان يرجوه سعد للقضية المصرية من وراء هذه المفاوضة، ولكنه لم يكن مستطيعا أن يرفضها دون أن يعرض الوفد للانشقاق والتنازع، ويهيئ للمغرضين أسباب اتهامه بتضييع الفرص وسوء السياسة، والخوف من مواجهة الحقيقة التي اضطلع بها دون أن يعتمد على وسيلة أخرى مضمونة الفلاح والجدوى. وهو لو رفض المفاوضة مكتفيا بنشر الدعوة بين الشعوب الأوروبية لم يعد هنالك من يلقي عليه اللوم ويبرئ بريطانيا العظمى من التهمة؛ لأنها مهدت له سبيل التفاهم والمناقشة الحرة، فأعرض هو عنها وأشفق على نفسه وعلى أمته من مناقشتها ومساجلتها! وفي وسعه أن يعود إلى نشر الدعوة متى احتاج إليها يوم ينجلي سوء النية من جانب السياسة البريطانية، وينجلي عذر المصريين في رفض مفاوضتها بعد الاستجابة إليها، ولكن ليس في وسعه أن يقنع الناس جميعا بإخفاق المفاوضة قبل الدخول فيها، ولا أن يمنع الفتنة أن تدب دبيبها بين أعضاء الوفد، ومنهم من ود لو رجع سعد إلى القاهرة وقبل نصيحة «الوزراء الأصدقاء»، حين زينوا له مفاوضة اللجنة الملنرية قبل رجوعها إلى بلادها، فإذا رفض مفاوضتها في هذه المرة وأغلق باب المفاوضة إغلاقا لا رجعة فيه، فماذا ينتظرون؟! وعلام يصبرون؟!
ومن العجز أن يتهم الإنسان نفسه ويتهم قومه بالخوف من المناقشة لإظهار حقهم وإثبات مطالبهم، فإذا كان مقدرا للوفد أن يختلف، لا مناص، فخير للأمة المصرية ألا يختلف قبلها؛ لأن الخلاف يومئذ يكون على أمور مذكورة مسطورة تظهر من ورائها النيات والدعاوى، ويسهل الدفاع عنها وبيان وجه القوة والضعف في جانبيها، ولكن الخلاف قبل المفاوضة إنما تقوم به حجة من يقبلونها وتسقط به حجة من يرفضونها، ويتاح لمن يشاء أن يتهم الرافضين بالعبث والتعنت وإهمال الوسائل المعروضة، لأسباب مبهمة أو لغير سبب على الإطلاق.
وقد وازن سعد بين جميع الدواعي والموانع، فاستقر رأيه على إجابة الدعوة، واعتزم السفر، ووصل إلى لندن في مساء الخامس من شهر يونيو ومعه زملاؤه.
فاستقبلهم المصريون هناك أحسن استقبال، وتمت المقابلة الأولى بينهم وبين لجنة ملنر في اليوم السابع، فقام بالتعريف بين الفريقين عدلي باشا الذي كان قد سبق أعضاء الوفد إلى العاصمة الإنجليزية. وبدأت المفاوضة في اليوم التاسع، فبسط اللورد ملنر غرض الحكومة البريطانية منها، وهو عقد اتفاق ودي بين الأمتين الإنجليزية والمصرية تعترف فيه باستقلال مصر، وتطمئن به إلى الضمانات الضرورية لمصالحها ومصالح الأجانب واستقرار النظام والسكينة، ومن هذه الضمانات إقامة حامية عسكرية في أماكن يقررها الخبراء، وإبداء الرأي في التشريع الذي يمس الأجانب إلى أن ينزلوا لبريطانيا العظمى عن امتيازاتهم التي تعود باستقلال البلاد، وتوطيد حكومة ملكية دستورية ينص عليها في المعاهدة.
ثم دارت المناقشة بجلسة أخرى في مسألة المستشارين الإنجليز وغيرها من المسائل التي تلحق بها، وكان وكلاء الوفد في جلسات المناقشة: رئيسه، ومحمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، ووكيلا اللجنة الملنرية: رئيسها، وسمرت رنل رود. ويحضر عدلي باشا الاجتماعات برضى من الطرفين.
ولا نطيل في سرد التفصيلات؛ فالخلاصة أن البحث انتهى منتصف شهر يوليو إلى تدوين كلا الطرفين مذكراته بما فهمه كلاهما من نتائج المناقشات السابقة؛ فاشتملت مذكرة اللجنة الملنرية على ما يأتي:
أن تستبدل بالحالة الحاضرة معاهدة تحالف دائم بين بريطانيا العظمى ومصر يشترط فيها:
أولا:
تتعهد بريطانيا العظمى بضمان سلامة مصر واستقلالها باعتبارها دولة ملكية ذات أنظمة دستورية.
ثانيا:
تتعهد مصر من جهتها بألا تعقد معاهدة سياسية ما مع دولة أخرى بغير موافقة بريطانيا العظمى.
ثالثا:
نظرا للتبعة التي أخذتها بريطانيا العظمى على عاتقها في المادة السابقة، ونظرا لما لبريطانيا العظمى من المصلحة الخاصة في حماية المواصلات في أملاكها بالشرق والشرق الأقصى، تمنح مصر بريطانيا حق إبقاء قوة عسكرية على الأرض المصرية وحماية مواصلات بريطانيا العظمى مع تلك الأملاك. أما الموضع أو المواضع التي يعسكر فيها الجنود فتعين في المعاهدة.
رابعا:
توافق مصر على تعيين مستشار مالي باتفاق مع حكومة جلالة الملك تعهد إليه جميع السلطات التي لأعضاء صندوق الدين الآن لحماية حملة الأسناد المصرية، ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية لكل أمر آخر ترغب في استشارته فيه.
خامسا:
تتعهد بريطانيا بمساعدة مصر في تحرير نفسها من القيود التي تقيد حريتها في التشريع والإدارة بسبب الامتيازات والضمانات التي يتمتع بها الأجانب في مصر، وأن تساعدها في إقامة نظام يكون من شأنه تطبيق القانون المصري على المصريين والأجانب على حد سواء.
سادسا:
نظرا لتخلي الدولة الأجنبية عن الامتيازات الخاصة التي يتمتع بها رعاياها حتى الآن، ولضرورة تأمين تلك الدول على أن حقوق الأجانب المشروعة ستحترم مع هذا، تمنح مصر بريطانيا العظمى حق التدخل بواسطة معتمدها في مصر لتوقف تنفيذ أي قانون يخالف حقوق الأجانب المشروعة، أو يخالف المتبع في البلاد المتمدنة، وإذا ادعت الحكومة المصرية في حالة من الحالات أن حق التدخل هذا استخدم استخداما لا ينطبق على العقل، فيصح عرض الأمر على عصبة الأمم.
سابعا:
يبقى نظام المحاكم المختلطة، أو أي نظام آخر مساو له يحل محله، ويوسع بحيث يتناول القضايا الجنائية، وجميع القضايا الأخرى التي تمس الأجانب في مصر.
ثامنا:
توافق مصر على تعيين موظف بريطاني في وزارة الحقانية بالاتفاق مع حكومة جلالة الملك، يكون له مركز وسلطة تكفي لتمكينه من ضمان تنفيذ القانون تنفيذا عادلا فيما له مساس بالأجانب.
تاسعا:
ترضى حكومة جلالة الملك بأن تأخذ على عاتقها تمثيل مصر في أية دولة لا يعين فيها معتمد مصر، ولكن مصر لا تعهد بتمثيلها على هذا النحو إلى أية دولة غير بريطانيا العظمى.
عاشرا:
تعترف الحكومة المصرية بأن لمركز المعتمد البريطاني في مصر صفة خاصة، وأنه باعتباره ممثل دولة حليفة تكون له الأولوية على جميع المعتمدين الآخرين.
حادي عشر:
يسوى مركز من عدا المذكور في المواد السابقة من الموظفين البريطانيين والأجانب باتفاق خاص يعقد بين الحكومتين البريطانية والمصرية يعد جزءا من الاتفاق الذي يعقد بينهما.
وظاهر من هذا المشروع أنه لم يخرج بمصر عن الحماية الصريحة في أضيق حدودها، وأن اللجنة لم تتقرب به خطوة واحدة إلى موقف المصريين، ولم تزد على أن جمعت فيه ما تريده بريطانيا العظمى بحذافيره إلى أقصى مداه، وليس فيه شيء يصح أن يقال إنه كان موضع تفاهم واتفاق بين المندوبين الإنجليز والمندوبين المصريين؛ لأنه دون المطالب من جانب واحد، ولم يتزحزح فيها قيد أنملة إلى جانب المطالب الأخرى.
أما مذكرة الوفد التي أرسلها بعد وصول هذه المذكرة إليه بيوم واحد، فقد لاحظ فيها الرغبة الصحيحة في الاتفاق، ولم ينس حدود وكالته التي يجب عليه التزامها. وقد صدرها سعد بكتاب قال فيه: ... إني أبادر، فأعرض على فخامتكم طي هذا، مشروع اتفاق يحوي النقط التي جرت المناقشة بشأنها في أحاديثنا، وهي النقط التي يلوح لي أنكم تقبلونها ...
ونحن نعتقد أن هذا المشروع - بالصفة التي هو عليها - من شأنه أن يرضي الطرفين. فعلى هذه القواعد يمكننا أن نضع دعائم صداقة متينة، وتعاون عماده الإخلاص بين الشعبين الإنجليزي والمصري. ومن المتفق عليه بيننا أن النقط التي لم تبحث بعد تكون موضوع اتفاق يعقد فيما بعد.
ثم قال:
ولي الثقة التامة بأن أعمالنا التي توليتم رئاستها بتلك الكياسة، يمكن أن تنتهي قريبا بحيث يتيسر لي السفر إلى شاتل وفيشي قبل فصل الخريف للاستشفاء الذي لا بد منه لصحتي على ما يظهر.
وأتبع ذلك بالمذكرة، وهذه ترجمتها:
أولا:
تعترف بريطانيا العظمى باستقلال مصر، وتنتهي الحماية التي أعلنتها بريطانيا العظمى على مصر والاحتلال العسكري البريطاني، وبهذا تسترد مصر كامل سيادتها الداخلية والخارجية، وتؤلف دولة ملكية ذات نظام دستوري.
ثانيا:
تسحب بريطانيا العظمى جنودها من الأرض المصرية في مدة، ابتداء من وقت نفاذ المعاهدة الحالية.
ثالثا:
تتعهد الحكومة المصرية بأنها عند استخدام حقها في الاستغناء عن خدمات الموظفين الإنجليز، تعامل هؤلاء الموظفين المعاملة الممتازة التالية: فيما عدا الإقالة لبلوغ نهاية سن الخدمة، أو عدم القدرة على العمل، أو الأحكام التأديبية، أو انتهاء مدة التعاقد والاستخدام؛ يمنح الموظف الذي يقال من الخدمة تعويضا إضافيا مقداره مرتب شهر عن كل سنة من سني خدمته. وتتناول هذه المعاملة الممتازة الموظفين الذين يتركون خدمة الحكومة المصرية من تلقاء أنفسهم في بحر سنة من نفاذ هذه المعاهدة.
رابعا:
لتخفيف وطأة نظام الامتيازات إلى حين إلغائها تقبل مصر أن تستخدم بريطانيا باسم الدول حقوق الامتيازات التي لهذه الدول الآن، ويكون ذلك بالصفة الآتية: (أ)
تكون الإضافات والتعديلات في النظام القضائي المختلط معلقة على موافقة بريطانيا العظمى. (ب)
جميع القوانين الأخرى التي لا يمكن أن تسري الآن على الأجانب المتمتعين بالامتيازات إلا بعد موافقة الدول، أو مداولة الجمعية التشريعية للمحكمة المختلطة أو جمعيتها العمومية، تصير نافذة عليهم بموجب قرار يسن لذلك، إلا إذا عارضت الحكومة البريطانية في ذلك، وتبلغ هذه المعارضة لوزير الخارجية المصرية في مدة، من نشر القرار في الجريدة الرسمية. ولا تكون المعارضة إلا فيما يحتويه القانون من أمور لا مثيل لها في أي تشريع من تشريعات الدول المتمتعة بالامتيازات، أو إذا كان القانون خاصا بضرائب وكان في هذه الضرائب إجحاف بالأجانب دون الوطنيين.
وفي حالة اختلاف الحكومتين على أحقية هذه المعارضة لمصر أن تعرض المسألة على عصبة الأمم للبت فيها.
خامسا:
في حالة إلغاء محاكم القنصليات وإحالة النظر في الجرائم والجنح التي يرتكبها الأجانب إلى المحاكم المختلطة توافق مصر على تعيين أحد رجال القضاء البريطانيين في مركز النائب العام لدى المحاكم المختلطة.
سادسا:
تقر الحكومة البريطانية بأنها على استعداد لأن تنظر الحكومة المصرية بعد خمس عشرة سنة في مسألة إبطال تقييد سيادة الحكومة المصرية الداخلية الناشئ من الامتيازات التشريعية والقضائية التي للأجانب، وتحفظ مصر لنفسها الحق عند الاقتضاء في عرض هذه المسألة على عصبة الأمم بعد مضي المدة المتقدمة.
سابعا:
في حالة إلغاء لجنة الدين العمومي تعين مصر موظفا ساميا، تقترحه بريطانيا العظمى، وتكون له الاختصاصات الحالية التي للجنة الدين، ويكون الموظف السامي المذكور تحت تصرف الحكومة المصرية لكل الاستشارات، أو المهمات التي ترى تكليفه بها في المسائل المالية.
ثامنا:
للحكومة البريطانية - إذا رأت ضرورة - أن تنشئ على نفقتها نقطة عسكرية على الضفة الآسيوية لقناة السويس للاشتراك في دفع أي اعتداء أجنبي يحتمل حدوثه على القناة. وتعين حدود هذه النقطة فيما بعد بواسطة لجنة من خبراء حربيين، يعين كل فريق نصفهم. ومن المتفق عليه أن إقامة هذه النقطة لا يخول بريطانيا أي حق للتدخل في شئون مصر، ولا يمكن أن يمس بأية حالة من الحالات حقوق السيادة التي لمصر على المنطقة المذكورة التي تبقى خاضعة لسلطة مصر محكومة بقوانينها، كما أن إقامة النقطة لا يقيد السلطات التي اعترف بها لمصر بموجب اتفاق الآستانة المعقود في سنة 1888 خاصا بحرية قناة السويس. وبعد مضي عشر سنوات من تاريخ سريان المعاهدة الحالية، يفحص الطرفان المتعاقدان مسألة ما إذا كان يصح أن يترك لمصر وحدها تولي حماية القناة، وفي حالة الخلاف تعرض المسألة على عصبة الأمم.
تاسعا:
في حالة ما إذا لم تجد مصر - التي لها الحق المطلق في تعيين سفراء لها - ضرورة لتعيين ممثل سياسي مصري في أي بلد من البلدان، تعهد بالمصالح المصرية في هذا البلد إلى ممثل بريطانيا العظمى الذي يتبع تعليمات وزير الخارجية المصرية.
عاشرا:
يعقد الطرفان المتعاقدان بالعقد الحالي محالفة دفاعية للغايات التالية: (أ)
تتعهد بريطانيا العظمى بالمساعدة على الدفاع عن الأراضي المصرية ضد كل اعتداء تقوم به دولة أجنبية. (ب)
في حالة وقوع اعتداء من دولة أوروبية على الإمبراطورية البريطانية تتعهد مصر - ولو لم تكن سلامة أرضها مهددة مباشرة - بأن تقدم لبريطانيا العظمى في أرضها تسهيلات المواصلات والنقل لحاجتها الحربية، ويحدد اتفاق خاص طرق هذه المساعدة.
حادي عشر:
تتعهد مصر أيضا بألا تعقد أية معاهدة تحالف مع دولة أخرى دون اتفاق سابق مع بريطانيا العظمى.
ثاني عشر:
هذه المحالفة معقودة لمدة ثلاثين عاما يمكن للطرفين المتعاقدين بعد انتهائها النظر في أمر تجديدها.
ثالث عشر:
تكون مسألة السودان موضوع اتفاق خاص.
رابع عشر:
جميع النصوص المخالفة للمواد الحالية والواردة في جميع المعاهدات الأخرى خاصة بمصر تعتبر ملغاة وكأنها لم تكن.
خامس عشر:
تودع المعاهدة الحالية في مكتب عصبة الأمم لتسجيلها بها، وتقر الحكومة البريطانية من الآن بأنها توافق فيما يختص بها على دخول مصر عصبة الأمم دولة حرة مستقلة.
سادس عشر:
تصير المعاهدة الحالية سارية المفعول بمجرد تبادل عقود إبرامها بين الطرفين المتعاقدين.
ويكون إبرامها فيما يختص بمصر على أثر إقرارها بواسطة جمعية قومية، تعقد للاقتراع على الدستور المصري الجديد.
هذا هو مشروع الوفد كما لخصه في مذكراته، وظاهر منه - كما أسلفنا - أنه مشروع أناس يجدون في طلب الوفاق ما استطاعوا، ولا يتلاعبون بالألفاظ في التقريب بين حقوق الاستقلال ومصالح بريطانيا العظمى، التي لا تفرضها على مصر وعلى العالم إلا بحكم القوة. وقد احتفظوا من معالم السيادة الوطنية بالقسط الضروري الذي لا ترضى أمة تطلب الاستقلال بأقل منه، فمن يطالبهم بالتبرع من عندهم بقبول قسط أقل من هذا، فهو كأنما يطالب الأمة المصرية بالثورة والتضحية لغير نتيجة إلا أن تصحح مركز بريطانيا العظمى في مصر، وتزودها بقوة النصوص المشروعة والموافقة الودية فوق ما لها من قوة السلاح والسطوة! وهو أمر لا يعقل أن يكون موضع اتفاق ومفاوضة بين طرفين وفيه الربح كل الربح من جانب، والخسارة كل الخسارة من الجانب الآخر؛ وإنما المعقول المفهوم أن يكون ما قبله الوفد أقل ما يسعه قبوله ما دام المرجع فيه إلى الاختيار والاتفاق، فإذا تجاوز هذا الحد فهو يعطي بريطانيا العظمى كل مزايا الاتفاق الحر ويبوء - والأمة المصرية معه - بكل مساوئ الإكراه، ومع هذا استغربوا في إنجلترا «جرأته» - كما سموها - وقالوا: إن سعدا يحسب أنه هزم الدولة البريطانية، ويملي عليها شروطه إملاء الظافر في ميدان القتال! •••
توقفت المفاوضات، وقيل إنها تنقطع أو انقطعت؛ لأن الوفد رفض مذكرة اللجنة، كما رفضت اللجنة مذكرة الوفد، ثم توسط عدلي يكن باشا في الأمر؛ فاضطر سعد إلى إرجاء السفر ريثما تتم هذه الوساطة، وبقي في لندن حتى تسلم مذكرة اللجنة الثانية في الخامس من شهر أغسطس، فانفتح بها باب جديد للمناقشة، وجرى التعديل مرة أخرى في بعض العبارات، وتعذر الاتفاق على جميع المسائل، فاستمر البحث فيها إلى منتصف أغسطس، وهنا اختلفت آراء الأعضاء بين القبول والرفض ومعظمهم إلى القبول، واقترح بعضهم عرض المشروع الأخير على الأمة لتبدي ملاحظتها عليه ثم يعاد بحثه بين الوفد واللجنة بعد الوقوف على جملة الآراء ومواضع الملاحظة والاستدراك.
ويغلب أن يكون هذا الاقتراح إنجليزيا في منشئه، أوحاه إلى اللجنة ما كانت تسمعه من سعد وزملائه من الاعتذار بوكالة الأمة وتعذر الخروج عن حدود هذه الوكالة؛ لأن الأمة ترفض كل ما يخرج على تلك الحدود - لا محالة - ولو قبله الأعضاء. فكان أعضاء اللجنة يقولون: إنما الوكالة برنامجكم أنتم، وفي أيديكم أن ترجعوا إليه بالتعديل والتحويل إن اقتنعتم بصواب ما تعرضونه على الأمة التي أوكلتكم. وكان من الطبيعي أن يخطر للجنة اقتراح الرجوع إلى الأمة تخلصا من هذا الاعتذار، وسعيا وراء الخلاف إن لم يكن سعيا وراء الإقناع.
فتردد سعد في العمل بالاقتراح مخافة الانقسام والشتات، ولكنه رأى بوادر الانقسام والشتات تبدو في داخل الوفد، فآثر أن يتداركها وأن يرجئ ظهورها ما استطاع، وهو يرجو أن يستعين بجلاء رأي الأمة على معالجة تلك البوادر أملا في رأب الصدع وتوحيد الصفوف، فتقرر إيفاد أربعة من الأعضاء إلى القاهرة، وهم: محمد محمود، وأحمد لطفي السيد، وعبد اللطيف المكباتي، وعلي ماهر، ينضم إليهم في القاهرة مصطفى النحاس، وويصا واصف، وحافظ عفيفي لعرض الموضوع على طوائف الأمة واستطلاع رأيهم فيه، وتقييد ملاحظاتهم عليه والرجوع بها إلى الوفد في النهاية لاستئناف البحث فيها جميعا مع اللجنة الملنرية، وإن كان رئيسها قد أعلن أن المشروع تضمن أقصى ما توصي به اللجنة وتطمع في إقراره من لدن الحكومة البريطانية، وأنها تشك في إقرارها لبعض ما فيه.
وعلى هذا سافر سعد من لندن في السادس عشر من شهر أغسطس، وتبعه الأعضاء في اليوم التالي، وتبعهم عدلي في اليوم الذي بعده، وهذه صيغة المذكرة التي تم الاتفاق على استطلاع رأي الأمة فيها:
قواعد الاتفاق (1)
لأجل أن يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدا دقيقا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتيازات في مصر من المزايا، وجعلها أقل ضررا بمصالح البلاد. (2)
ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول بين ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية وآخرين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثاني بين الحكومات البريطانية وحكومات الدول ذوات الامتياز؛ وجميع هذه المفاوضات ترمي إلى الوصول إلى اتفاقات بنيت على القواعد الآتية :
أولا:
تعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى تعترف بريطانيا العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصر بريطانيا العظمى الحقوق التي تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من تقديم الضمانات التي يجب أن تعطى للدول الأجنبية لتحقيق تخلي تلك الدول عن الحقوق المخولة لها بمقتضى الامتيازات.
ثانيا:
تبرم بموجب هذه المعاهدة نفسها محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر، تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد مصر أنها في حالة الحرب - حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها - تقدم داخل حدود بلادها كل المساعدة التي في وسعها لبريطانيا العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من الموانئ وميادين الطيران، ووسائل المواصلات للأغراض الحربية. (3)
تشمل هذه المعاهدة أحكاما للأغراض الآتية:
أولا:
تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني، وتتعهد مصر بألا تتخذ في البلاد الأجنبية خطة لا تتفق مع المحالفة أو توجد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بألا تعقد مع دولة أجنبية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية.
ثانيا:
تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأرض المصرية لحماية مواصلات الإمبراطورية، وتعين المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه هذه القوة، وتسوي ما ستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا يعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالا عسكريا للبلاد، كما أنه لا يمس حقوق حكومة مصر.
ثالثا:
تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارا يعهد إليه في الوقت عينه بالاختصاصات التي لصندوق الدين، ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته فيها.
رابعا:
تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفا في وزارة الحقانية، يتمتع بحق الدخول على الوزير، ويجب إحاطته علما على الدوام بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له مساس بالأجانب، ويكون أيضا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بحفظ الأمن العام.
خامسا:
نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق الأجانب في رفض أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها ألا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون مفعول القانون جائرا على الأجانب.
صيغة أخرى لهذه الفقرة:
نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثليها في مصر لتمنع أن ينفذ على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها ألا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين التي تتضمن تمييزا جائرا في مادة فرض الضرائب، أو لا توافق مبادئ التشريع المشتركة بين جميع الدول ذوات الامتيازات.
سادسا:
نظرا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ومصر، يمنح الممثل البريطاني مركزا استثنائيا في مصر، ويخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.
سابعا:
الضباط والموظفون الإداريون، من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة، يجوز انتهاء خدمتهم بناء على رغبتهم أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدة المعاش أو التعويض الذي يمنح للموظفين الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادة على ما هو مخول لهم بمقتضى القانون الحالي. وفي حالة عدم استعمال الحق المخول بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظيف الحالية بغير مساس. (4)
تعرض هذه المعاهدة على جمعية تأسيس، ولكن لا يعمل بها إلا بعد نفاذ الاتفاقات مع الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية وإنفاذ الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة. (5)
يعهد إلى جمعية التأسيس في وضع قانون نظامي جديد، تسير حكومة مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، ويتضمن هذا النظام أحكاما تقضي بجعل الوزراء مسئولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضا بإطلاق الحرية الدينية لجميع الأشخاص، وبالحماية الواجبة لحقوق الأجانب. (6)
تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تعقد بين بريطانيا العظمى والدول المختلفة ذوات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات بإبطال المحاكم القنصلية الأجنبية لكي يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة وتوسيع اختصاصها، وسريان التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية دونه التشريع الذي يفرض الضرائب على جميع الأجانب في مصر. (7)
تنص هذه الاتفاقات على أن تنتقل إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي كانت تستعملها الحكومات الأجنبية المختلفة بمقتضى نظام الامتيازات.
وتشمل أيضا أحكاما تقضي بما يأتي:
أولا:
لا يسوغ العمل على التمييز الجائر على رعايا أي دولة وافقت على إبطال محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع بها الرعايا البريطانيون.
ثانيا:
يؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النسب، فيتمتع الأولاد الذين يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم، ولا يحق اعتبارهم مصريين.
ثالثا:
تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع به القناصل الأجانب في إنجلترا.
رابعا:
المعاهدات أو الاتفاقات الحالية التي اشتركت مصر في التعاقد عليها في مسائل التجارة والملاحة؛ ومنها اتفاقات البريد والتلغراف تبقى نافذة المفعول. أما في المسائل التي ينالها مساس من جراء إبطال المحاكم القنصلية فتعمل مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية صاحبة الشأن؛ مثل معاهدات تسليم المجرمين وتسليم البحارة الفارين، وكذلك المعاهدات التي لها صفة سياسية، سواء كانت معقودة بين أطراف عدة أو بين طرفين. مثال ذلك اتفاقات التحكيم والاتفاقات المختلفة بسير الحروب، وذلك كله ريثما تعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفا فيها.
خامسا:
تضمن حرية إبقاء المدارس وتعليم لغة الدول الأجنبية صاحبة الشأن، على شرط أن تخضع جميع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على المدارس الأوروبية بمصر.
سادسا:
تضمن أيضا حرية إبقاء أو إنشاء معاهد دينية وخيرية كالمستشفيات ... إلخ. وتنص المعاهدة أيضا على التغييرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى إبعاد العنصر الدولي عن مجلس الصحة في الإسكندرية. (8)
التشريع الذي تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية، يعمل به بمقتضى مراسيم تصدرها الحكومة المصرية، وفي الوقت عينه يصدر مرسوم يقضي باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التي اتخذت بمقتضى الأحكام العرفية صحيحة . (9)
تقضي المراسيم العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة بتخويل هذه المحاكم كل الاختصاص الذي كان مخولا إلى الآن للمحاكم القنصلية الأجنبية، ويترك اختصاص المحاكم الأهلية غير ممسوس. (10)
بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تبلغ بريطانيا العظمى نصها إلى الدول الأجنبية، وتعضد الطلب الذي تقدمه مصر للدخول في جمعية الأمم.
الفصل الثامن
مسألة السودان
أما مسألة السودان فلم تطرح تحت البحث، ولكن الوفد قد حصل على تأكيدات تضمن الطمأنينة على مياه النيل لري الأرض المصرية المزروعة الآن والقابلة للزراعة في المستقبل.
وقد بين الأعضاء المندوبون مهمتهم في هذه المرحلة بكلمة ذيلوا بها المذكرة وقالوا فيها:
أما مهمة أعضاء الوفد المندوبين فبيانها أنه لما وصلت المفاوضات بين الوفد ولجنة ملنر إلى أن قدمت اللجنة هذه القواعد على أنها نهائية في الأساسات التي بنيت عليها، رأى الوفد - أخذا بالأحوط واستمساكا برأي الوكالة على إطلاقه - ألا يبت في الموضوع برفضه أو قبوله، بل رأى أن الحكمة تدعو إلى عرض الأمر على البلاد. فإذا قالت البلاد: «إن هذه القواعد صالحة أساسا للمعاهد»، دخلت المسألة في دورها النهائي، ووضعت معاهدة على القواعد المذكورة، وعرضت على الجمعية الوطنية التي هي صاحبة الرأي الأعلى في الأمر، ولها دون غيرها الكلمة الأخيرة في الموضوع. فبعد أن تدرس تفاصيل المعاهدة وصيغتها تقرر قبولها أو رفضها.
وقد رأى سعد أن يجعل رأيه في المشروع للأساتذة: مصطفى النحاس، وويصا واصف، وحافظ عفيفي؛ لأنهم لم يحضروا البحوث فيه بالعاصمة الإنجليزية كما حضرها زملاؤهم القادمون من أوروبا، فكتب إليهم في الثاني والعشرين من أغسطس ما يأتي:
أهديكم أطيب تحياتي، وبعد فإنكم تجدون طي هذا بلاغا لنواب الأمة وأرباب الرأي فيها، تعلمون مضمونه من المشروع الذي ستعرضونه على الأمة - أنتم والقادمون إليكم من إخوانكم - وهذا موافق للحقيقة؛ لأنه - وأريد أن يكون الأمر بيني وبينكم - مشروع ظاهره الاستقلال والاعتراف به، وباطنه الحماية وتقريرها؛ ففيه من خصائص الحماية ومميزاتها الشيء الكثير، كالقوة العسكرية، والتدخل في التشريع للأجانب وفي القضاء المختص بهم، والتدخل في المالية وفي الحقانية بواسطة موظفين إنجليز، وجعل المعتمد الإنجليزي ذا مقام خاص وله التقدم على غيره من وكلاء الدول الأخرى، وتقييد حرية مصر في عقد المعاهدات وفي اختيار وكلائها السياسيين، وفي التجاء هؤلاء لممثلي إنجلترا، وتولي إنجلترا دون مصر عقد المعاهدات المتعلقة بإلغاء الامتيازات مع الدول الأخرى.
وفضلا عن ذلك، فإن ما اشترط من تعليق تنفيذه على قبول الدول لإلغاء المحاكم القنصلية وصدور الذكريات بإعادة تنظيم المحاكم المختلطة، يجعل الفوائد التي تعود منه على المصريين وهمية؛ إذ قد ينقضي الدهر، ولا تقبل الدول ذلك الإلغاء ولا تصدر الذكريات بذلك التنظيم. ولكن إخواني لا يرون فيه رأيي، ولم أرد أن أظهر الخلاف بيني وبينهم حرصا على الوحدة التي هي قوتنا، ولكيلا يشمت الأعداء بنا. ولو أن إخواني أصغوا إلى قولي أو لو لم أكن أخشى على هذه الوحدة من الانقسام لفارقت الندوة في يوم 22 يونيو الماضي، وهو اليوم الذي وردنا فيه خطاب من اللورد ملنر عن مشروع سابق وضعته لجنته ورفضناه لكونه كان يرمي إلى ما يخالف مبدأنا وتوكيلنا، وكان رفضنا له بالإجماع. ومن الغريب أن المشروع الثاني جاء أبلغ في باب الحماية لاشتماله على كثير من مميزاتها، ومع ذلك رأى الإخوان صلاحية عرضه على نواب الأمة، ولا أريد أن أشكو منهم إليكم؛ لأنهم إنما رأوا ذلك لأسباب قامت عندهم وأقنعتهم بصحة آرائهم، أهمها تغير ظروف الحال وعدم وجود السند والنصير لنا في الخارج، وانفراد الدول الإنجليزية بالعزة والسلطان، وعدم قوة الأمة على متابعة المعارضة والمقاومة، وإني أعترف بأهمية هذه الأسباب، ولكنها لا يمكن أن تقلب حقيقة المشروع من حماية إلى استقلال، ولا أن تجعلنا نرضى بما نهضنا لمقاومته وقمنا للمطالبة ببطلانه، وما ضحت الأمة في سبيل النفور والقضاء عليه بدماء الكثير من أبنائها وحرية العدد العديد من شيوخها وفتيانها، ولا يحملنا - نحن دعاة الاستقلال وحماة ألويته والصائحين به في كل صقع وناد - على أن نتحول إلى تأييد ما هو بعيد عنه في الواقع وإن كان قريبا منه في الظاهر. أما إذا قبله غيرنا وكان الإنجليز معهم، فذلك شيء آخر لا تقع تبعته علينا؛ ولهذا رأيت أن أكتب لكم بفكري حتى تكونوا في مستوى واحد مع إخوانكم الذين سيشتركون معهم في عرض المشروع، وأن يكون مركزكم إذا استحسنتم من الذين تستشيرونهم مركز الشارح للحقائق العارض للوقائع من غير تأويل ولا تفسير، لكيلا يجد خصومكم سبيلا للطعن عليكم، ولا حسادكم حجة يقيمونها ضدكم، وسوف تطلعون على جميع المكاتبات التي دارت بيننا وبين لجنة ملنر، وعلى المشروعات الثلاثة التي ورد في البلاغ ذكرها، وتقفون من الإخوان على جميع المعلومات التي يهمكم الوقوف عليها في هذا الشأن. وإني على ثقة تامة بأنكم ستكونون في عرض هذا المشروع مثال الدقة والنزاهة والبعد عن مزالق القدم، وإني مستعد لأن أرسل إليكم كل ما تشاءون من الأوراق، ولأن أجيبكم عن كل ما تشاءون الوقوف عليه من المسائل. والله يكون في عونكم ويقيكم شر خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وبدهي أن هذا الخطاب لم يعلن للأمة ولا لأحد غير الأعضاء الذين خوطبوا به وأصدقائهم المقربين. ولكن الرئيس مهد لتقديم المذكرة إلى الأمة ببيان منه وصف به المشروع الوصف الذي ينبغي في هذا المقام؛ فقال فيه: ... وانتهت المناقشة بوضع ثلاثة مشروعات: أولها من لجنة ملنر رفضناه بتاتا، والثاني منا ورفضته هذه اللجنة كذلك، والثالث منها وهو الأخير، قد صرح رئيسها لنا عند البحث فيه أنه غير قابل للمناقشة في الأساسات التي بني عليها، وأنه يلزم إما أخذه كله أو رده كله؛ لأنه تضمن في اعتباره أقصى ما يمكن إنجلترا الاتفاق مع مصر عليه، بل زاد أن هناك شكا في جواز التساهل في بعض ما اشتمل عليه، ولكنا وجدناه مع ذلك معلقا بتنفيذه على غير إرادتنا وغير واف بمطالبنا؛ فلم يسعنا قبوله لخروجه عن حدود توكيلنا، وأظهرنا للجنة ملنر عدم رضائنا به. غير أنه - نظرا لاشتماله على مزايا لا يستهان بها، ولتغير الظروف التي حصل التوكيل فيها، وعدم العلم بما يكون من الأمة بعد معرفتها بمشتملاته، وقياس المسافة التي بينه وبين أمانيها - رأى إخواننا معنا خروجا من كل عهدة وحرصا على كل فائدة واستبقاء لكل فرصة، ألا يبت فيه رسميا بما يقتضيه توكيلهم قبل عرضه عليكم - أنتم نواب الأمة المسئولين وأصحاب الرأي فيها.
ثم قال:
فإذا رفضتم أعلن الوفد رسميا رفضه، وإذا قبلتم دخلت المسألة في دورها النهائي ووضعت معاهدة على القواعد التي تضمنها، وعرضت على الهيئة النيابية للتصديق عليها ووضع نظام دستوري للبلاد.
وهذه الخطة التي سلكها سعد في التوفيق بينه وبين أعضاء الوفد هي غاية ما كان في وسعه من الموافقة والمجاراة، فلم يكن مستطيعا أن يعلن استحسان المشروع وهو لا يستحسنه، ولا يرى في ضميره أنه محقق لإلغاء الحماية وإقامة الاستقلال، ولم يكن مستطيعا أن يقدم المشروع بغير بيان، ولا أن يقول في البيان غير ما قال من وصف صادق لجميع نواحيه في جانبي المزايا والنقائص، مع إطلاق الرأي لمن يشاء فيما يشاء.
ووصل الأعضاء المندوبون إلى الإسكندرية في اليوم السابع من سبتمبر بعد نشر البيان بيومين، فاحتفى بهم الشعب في الإسكندرية والقاهرة وعلى طول الطريق بينهما، وبدأ الاستفتاء بعد يومين. فعرض المشروع على المحامين وأعضاء الجمعية التشريعية ورجال الدين ورجال القضاء وأعضاء مجالس الأقاليم والمجالس المحلية، وأجمعت الطوائف في جملتها - ما عدا أنصار «الوزراء الأصدقاء» - على وجوب التعديل والتنقيح في بعض قواعده وتضمينه النص الصريح على إلغاء الحماية، وحذف ما جاء فيه عن امتياز المندوب البريطاني «بمركز استثنائي» غير مركز المندوبين الآخرين، وطلب الأكثرون تعيين حدوده المبهمة ومواعيده المرسلة، وإخلاءه من كل لبس واشتباه في مسألة السيادة القومية، وذهب كثيرون إلى رفضه بتاتا وفي مقدمتهم فريق من الأمراء، وذكروا السودان ووجوب الاحتفاظ بحقه وحق مصر فيه. نشروا على الملأ بلاغا قالوا فيه: «إننا لا نبرر عقد أي اتفاق ينافي أو ينقص استقلال مصر مع سودانها استقلالا تاما حقيقيا بلا قيد ولا شرط»، ثم فوضوا الأمر إلى الأمة صاحبة الرأي الأعلى.
وبعد عشرين يوما مضت في عرض المشروع والتعقيب عليه في الصحف والمجالس، اكتفى الأعضاء المندوبون بما اطلعوا عليه من آراء، وكتبوا بيانا شكروا فيه الأمة على ما قابلتهم به من الحفاوة، ونوهوا بالاستنارة التي «خلقت فرصة جديدة ظهر فيها رشد الشعب وحسن تقديره لجميع الظروف السياسية التي تحيط الآن بالفصل في مصيره ...»
وفي هذه العبارة ما لا يخفى من دلالة على نتيجة الاستفتاء عند المندوبين، وهي نتيجة يعتبرونها تمهيدا للقنوع والقبول لا تمهيدا للرفض أو التعديل.
ويلي هذا الفصل فصول عما حدث في مصر خلال المفاوضة، وبعد عودة أعضاء الوفد المندوبين لاستفتاء الأمة، إلى قيام الوزارة العدلية وعودة سعد إلى مصر، والخلاف على تأليف لجنة المفاوضة، ثم ذهاب عدلي باشا إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية، واستقالته لتعذر الوصول إلى اتفاق مقبول، ثم مساعي سعد في توحيد الصفوف ونشره البيان الذي حل السلطة الفعلية على التعجيل بنفيه، وفي ختامه يقول:
إنكم أنبل الوارثين لأقدم مدنية في العالم، وقد حلفتم أن تعيشوا أحرارا أو تموتوا كراما، فلا تدعوا التاريخ يقول يوما فيكم: «أقسموا ولم يبروا بالقسم»، فلنثق إذن بقلوب كلها اطمئنان، ونفوس ملؤها استبشار بالاستقلال التام أو الموت الزؤام.
وقد نفي سعد وخمسة من صحبه إلى جزائر سيشل في أواخر سنة 1921، ونقل منها إلى جبل طارق، ولم تكد السياسة البريطانية تطمئن إلى إبعاده من ميدان الحركة الوطنية في مصر حتى بادرت إلى إعلان تصريح 28 فبراير المشهور.
الفصل التاسع
تصريح 28 فبراير
أرسل المركيز كرزون في الثالث والعشرين من ديسمبر البرقية الآتية إلى الفيكونت اللنبي كما جاء نص ترجمتها في الكتاب الأبيض:
ليس ثمة اعتراض من جانب وزارة المستعمرات على إبعادك زغلولا وأنصاره إلى سيلان في أول فرصة كما اقترحت في تلغرافك المؤرخ في 22 ديسمبر. والتعليمات مرسلة إلى حاكم سيلان طبقا لذلك. ولكن إذا ظهر أنه من غير المرغوب فيه حجزهم هناك لاعتبارات محلية، فإن في الوسع إرسالهم إلى سيشل. ومعلوم لدينا أن الاستعداد اللازم لهم يمكن توفيره في سيشل. وينبغي الإبراق إلى حاكم سيلان مباشرة بالتفاصيل الوافية عن تاريخ الإبحار من السويس وعن تأليف القوم المبعدين.
فاستطير الفيكونت اللنبي فرحا بهذه الموافقة كما بدا من برقيته التي بادر بإرسالها ليشكر المركيز كرزون كثيرا. وانتظر إبعاد زغلول وأصحابه إلى سيلان ليوقع اليأس في قلوبهم وقلوب المصريين من كل مستقبل مرجو لهؤلاء القوم المبعدين في عالم السياسة المصرية. ولأمر ما - لا يعنينا بحثه هنا - تغير المنفى واستبدلت جزائر سيشل بجزيرة سيلان، ولبث سعد وأصحابه في انتظار النقل إلى المكان المقدور، حتى أعلن تصريح 28 فبراير في مصر فكان يوم إعلانه - إعلان الاستقلال - هو يوم انتقال «القوم المبعدين» من عدن إلى منفاهم السحيق.
ولولا الحرص الشديد على الانتقام من سعد والتشفي منه ومن أنصاره، لكان التمهيد بنفيهم لتأسيس النظام الجديد من أعجب ما يخطر على العقول، وكان رجاء النجاح بعد ذلك التمهيد من أغرب الأحلام التي يحلم بها الساسة العمليون، وهي أغرب مخترعات الخيال، فإن النفي ليصلح عنوانا لكل شيء إلا أن يكون عنوانا للحرية والاستقلال، ودليلا على أن البلاد قد ظفرت بحكم نفسها وتحقيق مشيئتها، وأن بلدا يضيق بزعمائه في يوم إعلان حريته واستقلاله لأعجوبة من أعاجيب النقائض والأضداد. وما كان بدعا من المصريين أن يتشاءموا بتصريح يمهد له ذلك التمهيد، ولا أن يسمعوا في يوم واحد بنفي سعد إلى سيشل وباستقلالهم هم في وطنهم بما يرومون ومن يرومون؛ فلا يستطيعون التوفيق بين الأمرين، ولا يجدون بدا من الشك في إحدى الروايتين. وإنما البدع أن تؤكد لهم النفي والاستقلال في وقت واحد، وألا تتركهم ينسون نبأ النفي في ذلك اليوم خاصة، ثم تطمع منهم في اعتقاد غير ما اعتقدوه ويقين غير ما أيقنوه، وتريدهم على أن يستبشروا بالتصريح وبالعهد الذي يليه.
ولو كان التصريح استقلالا حقا لما عيب على المصريين أن يتشاءموا به ويوجسوا منه ويعرضوا عنه وعن دعاته ومروجيه؛ لأن نسيان الأعزاء المنكوبين والانتصار لخصومهم الظافرين اغتباطا بغنيمة سياسية أو منفعة وزارية أمر قد يفهمه الساسة، ويحمدونه في حساب المساومات والمعاملات، ولكن النخوة في الشعوب أولى بالتقدير والإعجاب من جميع المنافع والغنائم التي تنطوي في النظم والدساتير؛ لأنك إذا بحثت عن النخوة في سواد الأمة فوجدتها عندهم، فليس يضيرك ألا تجد فيهم موازين الساسة المحنكين، وإذا بحثت عنها فلم تجدها، فهناك الضير كل الضير والوخامة شر الوخامة والإسفاف الذي لا تغني فيه حنكة ولا نظم ولا وزارات.
إن المصريين لم يشعروا بتصريح 28 فبراير إلا كما ينبغي أن يكون شعورهم به، سواء في ذلك من حمدوه ومن أنكروه ومن دقوا له الطبول ومن حثوا على وجهه التراب ... وأظرف ما يروى في هذا الباب ما رواه البارون «فان دن بوش» البلجيكي في كتابه «عشرين سنة بمصر» نقلا عن مذكراته التي وصف بها الاحتفال بالاستقلال في محافظة الإسكندرية؛ فقد روى كيف خطبوا يوم ذاك، وكيف هللوا بالعهد الجديد، ثم قال: «إن رجلا قصيرا على رأسه طربوشه المنحرف، تقدم في مشية إبليسية ورفع يده في وقار وعيناه تلمعان ثم نادى: ليحي الاستقلال التام! فهبطت كلماته في وسط سكوت مكروب ...»
أين الاستقلال؟ لا أحد يصدق أنه الاستقلال حتى المبتهجين بيوم الاستقلال!
وكان من الميسور أن يتنبأ الفيكونت اللنبي وأصدقاؤه الوزراء المصريون بما يوشك أن يلقاه التصريح الذي مهدوا له ذلك التمهيد، ولكنهم بلغوا بالتمهيد غاية فيها الكفاية: وهي الخلاص من زغلول والغلبة عليه؛ وهي غاية مقصودة لذاتها ولو لم تعقبها نتيجة مرموقة من النتائج السياسية. وقيل: إن بعض أولئك الوزراء قد لجت به الضغينة على سعد حتى اقترح محاكمته وإعدامه بتهمة الثورة والخيانة العظمى. وقيل: إن الفيكونت اللنبي لم يرفض ذلك الاقتراح ولم يحجم عن الرجوع به إلى الحكومة البريطانية، وإنها هي التي ساومته في الصفقة المعروضة إلى أن قنع من الإعدام بالإبعاد!
ومما يعزز أن اللورد اللنبي نفسه طلب لزعماء الوفد جميعا الإعدام في هذه المناسبة أو غيرها، ما رواه السفير الأمريكي الدكتور مورتون هول عن مقابلة اللورد اللنبي ومستر اسكويث بعيد مقتل السردار، حيث قال في كتابه «مصر ماضيا وحاضرا ومستقبلا»:
عندما لقيته قدمني إلى مستر اسكويث، وكنا جميعا واجمين، واللورد اللنبي - بصفة خاصة - مهتاج الشعور، وكان يقول: إن الأطباء الآن يفحصون حالة الحاكم العام، وإنه يخشى أن تكون الإصابة قاتلة. ثم قال: إن زغلولا باشا رئيس الوزراء حضر قبيل ذلك ليعرب عن أسفه لهذه الفعلة الشنيعة، ولكنه لم يجد متسعا من الوقت ولا من الكلام لهذه المقابلة.
ثم ختم كلامه عن هذه المسألة بقوله:
إنني قد أردت أن أشنق جميع هؤلاء الناس من وقت قبل هذا فلم توافق الحكومة، وكأنه يعني - كما فهمت ساعتئذ - أنه لو أجيب إلى طلبه وترك لرأيه لما وقعت هذه الفاجعة.
فالانتقام من زغلول - ومن هؤلاء الناس - كان إذن غرضا يراد لذاته، أو كان هو الغرض الأول من قضية التصريح والاستقلال المزعوم. لعله بعد نفي زغلول يعين على نسيانه وإهماله.
وبعد الفراغ من هذا الغرض الأول تفرغ اللورد اللنبي والوزراء المصريون أصدقاؤه لما بقي لهم من الغرض الآخر الذي لا يهم النجاح فيه، كما يهم النيل من زغلول والغض من مكانته وكبريائه، ونعني بالغرض الآخر إرضاء مصر بالتسوية الجديدة من طريق إقناع المعتدلين، وإجبار المتطرفين على الاعتدال؛ فلم تطل الأيام حتى وجدوا أن «التصريح» كان عبثا باطلا وجهدا ضائعا من حيث تحقيق هذا الغرض الآخر؛ لأنهم قد اضطروا إلى اتباع الخطة التي كانوا مضطرين إلى اتباعها لو لم يوجد هذا التصريح، وهي خطة القمع والتجسس والمحاكمات العسكرية، تقابلها من الجانب المصري المظاهرات وسلسلة من حوادث القتل السياسي لم تكن معروفة قبل ذلك في تاريخ الثورة المصرية؛ لأن الإنجليز الذين أصيبوا قبل تصريح 28 فبراير، إنما كانوا يصابون في أثناء المظاهرات أو في أثناء الصدام والمقاومة وكانوا جميعا من الجنود، ولكن حوادث الاعتداء بعد ذلك التصريح كانت تصيب الجنود والموظفين وغير الموظفين، وكان القائمون بها أناسا يتآمرون ويدبرون ويقدمون عليها للحفيظة والانتقام.
وانقلب العداء إلى عناد والعناد إلى مناجزة يبذل فيها كل فريق قصارى ما عنده لتحدي الفريق الآخر وإحباط مسعاه، فإذا منعت الحكومة الاجتماعات والمظاهرات التي تهتف بحياة سعد زغلول، نابت عنها الأغاني الشعبية في الشوارع والأزقة والحواضر والقرى، وكل مكان يتسع فيه الفضاء للغناء والترنم والإنشاد. وإذا حظرت الحكومة على الصحف أن تذكر سعدا أو تشير إلى اسم الجزيرة التي هو منفي فيها، استورد الناس الآنية الخزفية من أوروبا وعليها رسمه، وكتبوا اسمه على الجدران وعلى ورق النقد الذي كانت تتداوله الأيدي بمئات الألوف في تلك الأيام لانتشار الأوراق الصغيرة من جميع الفئات، وإذا اعتقلت الحكومة أعضاء من الوفد، قام في مكانهم على الأثر أعضاء غيرهم يعرضون أنفسهم للاعتقال والجزاء وهم مستبشرون، فأصبحت العلاقة بين الفريقين علاقة غالب أو مغلوب ومنتصر أو منهزم، وهذا كل ما ظفر به التصريح من «التقريب» و«تسوية» العلاقات بين البلدين.
وقد ظهر من سفر اللورد اللنبي إلى لندن أيام المفاوضة في التصريح - كما ظهر بعد ذلك من الوثائق الرسمية - أن الوزرة البريطانية لم تخل من أناس يعارضونه معارضة شديدة، ويستكثرونه على مصر كأنه غنيمة لا ينبغي لها أن تطمح إليها. وراق الوزراء المصريين أن يحسبوه كذلك من الغنائم التي لا تنال إلا بالدهاء و«المرونة» ولطف المدخل على عقول الإنجليز، بل راقهم أتباعهم أن يحسبوا أنفسهم خادعين، ويحسبوا الفيكونت اللنبي ومستشاريه الإنجليز مخدوعين في هذه المساومة التي ما كانت لتفلح في زعمهم لولا ما وهبوه من قدرة على طرق الأبواب وتذليل الصعاب. ومن الطبيعي أن يكون هذا رأيهم أو زعمهم في تعظيم ما عملوه وتسويغ ما فعلوه، ومن الطبيعي كذلك أن تمانع الحكومة البريطانية في المبادرة بإعلان التصريح ما دامت تستطيع أن تمانع وتساوم وتعطي بالثمن الكبير ما هي خليقة أن تعطيه بالمجان، ولكن الحقيقة أن الدولة البريطانية كانت وشيكة أن تفرض ذلك التصريح أو ما شابهه على مصر بغير جهد الفيكونت اللنبي ولا مخادعة من الوزراء المصريين؛ لأنها اتبعت هذه السنة في كل أمة شرقية غير مصر بعد الحرب العظمى، وبعد رواج المبادئ الولسنية التي استغلتها بريطانيا العظمى في سياستها الاستعمارية، كدأبها في جميع المبادئ والدعوات الصالحة للاستغلال، فاعترفت بمملكة الحجاز ومملكة العراق وخولتهما مظاهر الملك وألقابه وحقوق الدول والعروش دون أن يزعم زاعم أن وزيرا بارعا أو غير بارع ضحك من عقول الإنجليز هناك فساقهم بدهائه ولباقته إلى التسليم بالاستقلال من حيث لا يدرون ولا يشعرون. وعمم الإنجليز هذه السياسة حتى اعترفوا بالحكومات الوطنية في مستعمرات أفريقيا التي لا نصيب لها من الحضارة، فهناك اليوم أمراء وطنيون ومحاكم وطنية ورؤساء وطنيون ومراسم من هذا الطراز تخدع من يعبرون بالبلاد عبور السائح، ولا ينفذون فيها إلى بواطن الأمور. ولم تخسر بريطانيا العظمى كثيرا، ولا قليلا بهذه البدعة الطريفة من بدع الحرب العظمى، بل استفادت كل ما تبغيه وفوق ما تبغيه من السطوة والمصلحة والدعاية؛ لأنها كسبت سمعة الحرية والإنصاف بين أمم العالم على أثر الدعوة الولسنية، وكسبت إيقاع الفتنة بين الوطنيين وتدويخهم بالمنازعات الداخلية بدلا من الاتفاق بينهم على السيطرة الأجنبية، وكسبت إلقاء التبعة عن كاهلها وإلقاءها على كواهل الوطنيين، لتعود في يوم من الأيام فتتخذ من سوء الإدارة الذي لا بد منه في جو المنازعات والدسائس وتغليب المفسدين وطلاب الفرص والمغانم حجة لها على أولئك الوطنيين، وكسبت إرضاء الأغرار وذوي الأغراض الذين ترضيهم المظاهر والصور الخلابة؛ فيحسبون أنهم مستقلون لأنهم يوصفون بأوصاف المستقلين. ونجحت هذه السياسة نجاحا أغرى الدول الاستعمارية باقتباسها والحدو على مثلها، فاقتدت بها فرنسا في سوريا والبلاد المغربية واليابان في الأقطار التي اقتطعتها من الصين.
ومعلوم أن بريطانيا العظمى احتفظت لنفسها في تصريح 28 فبراير بشروط أربعة، هي: (1)
تأمين مواصلات الإمبراطورية في مصر. (2)
الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو بالواسطة. (3)
حماية المصالح الأجنبية وحماية الأقليات. (4)
مسألة السودان.
وهي لو لم تحتفظ بهذه الشروط الأربعة لكان في جيشها المقيم بالبلاد الكفاية لتحقيق كل دعوى تدعيها وتضييع كل استقلال تعتصم به البلاد المحتلة. فإذا أضيفت إلى القوة العسكرية هذه الشروط أو هذه الحقوق كما تريدها الحكومة البريطانية، فالذي يبقى من الاستقلال لا يساوي عناءه، والذي يبقى من الحماية أو من الضم الصريح هو الجوهر الصميم الذي ليس يعني القوم شيء سواه.
تحدث سعد بعد عودته من المنفى عن تصريح 28 فبراير فقال على أسلوبه في سرد الأمثال:
هو ناقة البدوي التي تباع بمائة درهم وتباع التميمة التي في رقبتها بألف، ولكن لا تباع الناقة بغير التميمة؛ فما أملحها من صفقة (لولا الملعونة في رقبتها)!
الفصل العاشر
من المنفى إلى الوزارة
كان عدلي هو الذي قطع المفاوضات مع كرزون، وكان سعد هو الذي نفي إلى سيشل بعد قطع هذه المفاوضات!
وليس هذا كل ما هنالك، بل كان اللورد اللنبي حريصا على بقاء الوزارة العدلية في الحكم، ولما استقالت وأكدت استقالتها مرة أخرى كان حريصا على «إقناع أعضاء من حزب عدلي بالانضمام إلى الحكومة»؛ لأنه يشعر كما قال في برقية العشرين من ديسمبر إلى حكومته «بأن هذا الحزب لا محالة ممزق ما لم يتقدم الآن».
وهذا تصرف من جانب الإنجليز لا معنى له إلا أنهم يعتقدون أن المعارضة التي أحبطت المفاوضات هي معارضة زغلول، وأن ما عداها إنما هو معارضة «المظاهر» والمراسم ومقتضيات الأحوال.
وقد اجتمعت المعارضة الحقيقية ومعارضة المظاهر بعد نفي زغلول وأصحابه في صف واحد؛ فاجترفت كل ما دبرته السياسة الإنجليزية وخيبت رجاءها في كل ما قدرته من تخويف المصريين بتهديد اللورد كرزون في كتابه إلى السلطان، وشملت المعارضة السياسيين وغير السياسيين، فاشترك فيها كبار القضاة والمحامين والأطباء، و«حزب عدلي» - كما يسميه اللورد اللنبي - وسائر الأحزاب التي تنضوي إلى هذا الجانب أو ذاك، أو تقف بين بين في انتظار الطوارئ والتقلبات.
استقال عدلي وأكد استقالته مرة أخرى بعد اعتقال سعد وأصحابه لكيلا ينسب إليه الاشتراك في هذا التصرف، وأسرع إلى اللورد اللنبي «يؤكد أنه شخصيا سيظل مؤيدا لحكومة السلطان ولقوى القانون والنظام»؛ أي للأحكام العسكرية البريطانية بطبيعة الحال؛ لأنها هي القوى التي تدعي حفظ القانون والنظام فيما عدا حكومة السلطان!
واستحال تأليف وزارة جديدة بعد المعارضة الإجماعية من جميع الطبقات للسياسة التي رسمها اللورد كرزون في كتابه.
وبعد مفاوضات بين ثروت واللنبي أعلن في الثامن والعشرين من فبراير التصريح المنسوب إلى هذا التاريخ؛ لأن أحدا لم يستطع أن يسميه تصريح إلغاء الحماية أو تصريح الاستقلال، أو ما إلى ذلك من الصفات، لا فرق بين أنصاره المرحبين به، وخصومه المعترضين عليه!
تألفت الوزارة الثروتية عقب هذا التصريح، وأرسلت وزارة الخارجية المنشأة حديثا منشورا في منتصف شهر مارس إلى وكالات الدول السياسية تبلغها النطق الملكي المعلن استقلال مصر واتخاذ ولي الأمر لقب صاحب الجلالة ملك مصر.
وفي الوقت نفسه أعلنت الحكومة البريطانية الدول أن كل معاملة بينها وبين مصر على غير الخطط التي رسمتها لاستقلالها تنظر إليها بريطانيا العظمى كأنها عمل من أعمال العداء.
وبقيت الأحكام العسكرية وبقي اللورد اللنبي صاحب السلطان الأكبر في مصر المستقلة! وبمقتضى هذه الأحكام كانت تغلق الصحف، وتمنع الاجتماعات، وتصادر الحريات في كل صباح ومساء، بل بمقتضى هذه الأحكام العسكرية حوكم سبعة من أعضاء الوفد بعد إعلان الاستقلال بنصف سنة؛ لأنهم أصدروا منشورا فيه إغراء وتحريض ضد نظام الحكم الحاضر؛ أي ضد الاستقلال! فوقف حمد الباسل باشا
1
وكيل الوفد إذ ذاك يتلو على المحكمة الكلمة الوحيدة التي قبلوا أن يلفظوا بها في هذه المحاكمة، ومنها قولهم: «لو أن المحكمة تأخذ بتصريح حكومتها، أو تعتبره تصريحا جديا، وهو أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، لكان حقا عليها أن تعلن من تلقاء نفسها عدم اختصاصها بمحاكمتنا. لكم أن تحكموا علينا غير ضمائرنا وتوكيل الأمة التي يروقكم أن شرفتنا وقوانين بلادنا ومحاكمنا؛ فمهما تكن العقوبة التي تروقكم أن تشرفونا بها، فإننا سنقابلها بالسرور والفخار؛ لأنها خطوة إلى الأمام في طريق المجد الذي تسير فيه مصر إلى مصيرها الخالد.»
وقد حكمت المحكمة العسكرية عليهم بالإعدام. ثم عدل الحكم إلى سبع سنوات وغرامة خمسة آلاف جنيه على كل منهم. وأبلغوا حكم الإعدام أولا فهتفوا «لتحي مصر» قبل أن يسمعوا ما وراء ذلك. ثم تليت عليهم تتمة الحكم وفيها ذلك التعديل، فكرروا الهتاف لمصر بالحياة.
أما الوفد بعد اعتقال سعد فقد عاد إليه بعض أعضائه المنفصلين، ثم تركوه بعد أيام لسبب ظاهره أنهم اختلفوا على اختيار عضو من الأعضاء الجدد، وباطنه أنهم عرفوا السياسة التي رسمت للمستقبل، وهي سياسة «حزب عدلي» - كما سماه اللورد اللنبي - فرجعوا إلى تأييد هذه السياسة.
وقد أصدر الأعضاء الباقون منشورا مفصلا ببرنامج المقاطعة، وسياسة عدم التعاون مع الإنجليز في الحكومة وخارج الحكومة؛ فقبض عليهم ثم أفرج عنهم، وعادوا فأصدروا منشورا حضوا فيه الأمة على بذل ما في الطاقة لإعادة سعد وأصحابه من منفاهم، فقبض عليهم في الرابع والعشرين من شهر يوليو، وحوكموا في التاسع من شهر أغسطس، وانتهت المحاكمة بعد ثلاث جلسات وجيزة؛ لأن الأعضاء رفضوا بتاتا أن يجيبوا على أي سؤال.
أما الوزارة الثروتية فأهم ما صادفها من العقبات - غير مقاومة الأمة - احتجاج الحكومة البريطانية على كثرة الجرائم السياسية التي كانت تقع على الموظفين وغير الموظفين الإنجليز، ومنها ما كان يقع نهارا في أعمر الأحياء بالسكان. وقد قالت الحكومة البريطانية في احتجاجها:
إن عدم الاهتداء إلى مرتكبي تلك الجرائم وبقاءهم بعيدا عن طائلة العقاب يدل أوضح الدلالة على عدم كفاية التدابير التي اتخذت لمنع وقوع تلك الاعتداءات، وإن الحكومة البريطانية تجد نفسها تلقاء هذه الحالة مضطرة لأن تعتبر الحكومة المصرية مسئولة عن تعويض من يقع به اعتداء من الأجانب، أو تعويض ورثته إن أدركته الوفاة، كما أنها تحتفظ بحق تقدير ما إذا كان التعويض الذي تمنحه الحكومة المصرية كافيا أو غير كاف.
وفيما عدا ذلك الاحتجاج الرسمي كانت العلاقات بين الإنجليز والوزارة الثروتية علاقة مودة وتأييد متبادل، وكانت العقبة الكبرى التي تلقاها الوزارة إنما هي الخلاف المتعاظم بينها وبين الملك فؤاد على مسألة الدستور.
وخلاصة المسألة الدستورية أن الوزارة أنشأت برأيها ورأي أصدقائها لجنة مؤلفة من ثلاثين عضوا برئاسة «حسين رشدي باشا» لوضع الدستور الجديد، تمهيدا لانتخاب الهيئة التي تبرم الاتفاق بين مصر وإنجلترا على القضية المصرية. ودعت الوزارة عضوين أو ثلاثة من الوفد المصري إلى الاشتراك في اللجنة فلم يجيبوا الدعوة؛ لأن تمثيل الوفد بهذا العدد القليل بين ثلاثين من أنصار الوزارة المعادية للوفد ورئيسه عبث، لا يناله منه إلا التبعة وتصحيح مركز الوزارة تصحيحا يقويها ويضعفه ويفل سلاحه، ولأنه كان من ناحية أخرى يقترح انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور برأي نواب البلاد لا برأي الوزارة ومن يشايعها، ولأنه كان يستريب بمقاصد عبد الخالق ثروت، ويناصبه العداء مقابلة لعدائه بمثله، وتطبيقا لسياسة عدم التعاون التي أعلنها بعد اعتقال سعد وأصحابه.
وارتسمت الخطة التي كان ينويها ثروت باشا وأصدقاؤه، ويطمئنون إلى جريان الأمور في مجراها إلى الغاية المنشودة؛ وهي تنفيذ الاتفاق بينهم وبين الإنجليز باسم النواب المنتخبين وضمان الحكم على القواعد الدستورية.
فسعد وأصحابه في المنفى، والبقية الباقية من أعضاء الوفد البارزين في السجون أو المعتقلات، والانتخابات تجري على الأسلوب الذي يحسنه ثروت باشا وجرى عليه في جمع التوقيعات، وهو وأصدقاؤه من «حزب عدلي» ينزلون إلى ميدان الانتخاب بغير منازل، أو يقهرون منازليهم بمعونة الحكومة وما عندها من وسائل الترهيب والترغيب وقضاء المصالح من هنا ومنعها من هناك؛ ولا يبقى إلا النجاح والاستئثار بالأمر إلى زمن طويل.
ولهذا كانت الوزارة وأنصارها يقررون المبادئ التي تلائمهم في الدستور، وهي مبادئ التبعة الوزارية والاعتراف بالأمة وحدها مصدرا للسلطات، بدلا من حصر السلطة الدستورية في أيدي الملك، وهو الجانب الذي كانوا لا يأمنونه ولا يرجون منه المساعدة على نجاح الخطة المرسومة وجريانها في ذلك المجرى المعلوم. وكان يشايعهم المخلصون من أعضاء اللجنة الذين لا ينظرون إلى المآرب الحزبية ويؤثرون المبادئ الديمقراطية في الدستور على مبادئ الاستبداد.
فاستفاد الدستور كثيرا من حيطة الوزارة وإخلاص المخلصين، وجاء على الجملة دستورا لا بأس به في القواعد والنصوص.
لكن الملك فؤادا كان يريد الدستور على غير هذه القواعد، فيما يرجع إلى التبعة الوزارية ومصدر السلطات، ومجمل ما يريده في هذا الباب أن تكون الوزارة مسئولة بين يديه، وألا ينص في الدستور على أن الأمة مصدر السلطات جميعا. فتوترت العلاقات بين القصر والوزارة الثروتية، ولاح في الأفق أن الملك فؤادا يترقب الفرصة التي يتخلص فيها من تلك الوزارة دون أن يفتح للإنجليز باب التدخل في الموضوع، وقد سنحت هذه الفرصة بعد زمن وجيز بما نقله محمد سعيد باشا إلى الملك من حديث رواه حسن صبري «بك» المحامي عن الخديو السابق، وفحواه أن الخديو يعتبر ثروت باشا من رجاله، ولا يخشى منه أن يقيم الصعوبات في تسوية ما له من المسائل المالية ... وواجه الملك ثروت باشا بهذه الرواية، فلم يبق للرجل إلا أن يستقيل بعد قيام هذه الشبهة، ثم قضى على تردده في نية الاستقالة أنه دعي للصلاة مع الملك في الجامع الأزهر، وسمع من المصادر المختلفة أن مظاهرة كبرى ستلقاه في داخل المسجد وخارجه بما يكره من هتافات التشهير والاتهام على مسمع ومشهد من ولي الأمر والحاشية الملكية، فعجل بالاستقالة ولم يذكر فيها من أسبابها إلا أنه قال في ختامها: «وقد كنت أرجو أن أمضي مع زملائي في تنفيذ برنامجنا حتى تمامه، ولكن أرى أن أترك الأمر لغيري.»
فجاءه الأمر الملكي بقبول الاستقالة بعد نصف ساعة من رفعها، وكان ذلك في التاسع والعشرين من نوفمبر، وفي اليوم التالي قامت الوزارة النسيمية وغرضها الأول تعديل الدستور، وتوسيع حقوق الملك في التبعة الوزارية، وتعيين أعضاء مجلس الشيوخ.
أما وسيلتها إلى هذه الغاية، فهي التقرب من الوفد واسترضاؤه بما يجنح به إلى السكوت عن التعديل المقصود؛ فلا يرى الإنجليز وجها للاعتراض مع موافقة الملك والشعب على المبادئ الدستورية التي يستقر عليها القرار.
ولهذا أكثر من دعوة الوفد إلى القصر الملكي وإلى الصلاة في المساجد التي يحضرها الملك أيام الجمعة. وكتب ردا على مذكرة اللورد اللنبي التي يحتج فيها على حوادث الاعتداء السياسي قال فيه: «إن تكرارها المؤلم منذ نحو سنة يحمل على الاستنتاج أن هناك رد فعل ضد سياسة لا تراعي عواطف الأكثرية من الأهلين المراعاة الكافية، وهو رد فعل يؤسف له، كما أنه صادر عن قلة روية من قبل بعض العناصر المتهوسة غير المسئولة، كما يوجد لسوء الحظ في كل بلد. والذي يزيد في ترجيح هذا الافتراض أمر يستوقف النظر، وهو أنه في كل المدة التي يؤمل فيها الوصول إلى اتفاق ودي بين لسان حال تلك الأكثرية والحكومة البريطانية ليس فقط لم ترتكب جريمة من تلك الجرائم، بل إن العلاقات بين المصريين والإنجليز لم تكن قط أكثر ثقة وأوفر ولاء مما كانت في تلك الفترة، مع أن الأمر صار على العكس من ذلك من يوم ما أصبحت الحكومة البريطانية غير متصلة بممثلي الأكثرية المصرية بسبب المفاوضات غير الرسمية أولا، ثم بسبب تدابير العنف التي تلت قطع المفاوضات الرسمية، وأخيرا بسبب التدابير التي صاحبت الاتفاق مع أقلية لا تأثير لها حقيقة في الأمة؛ فزادت الحالة تحرجا والعواطف تألما؛ مما جعل الاتفاق المرغوب فيه أكثر صعوبة.»
بيد أن هذا التقرب إلى «الأكثرية» لم ينفع الوزارة النسيمية طويلا في تخدير الأمة وتهيئة الجو لتعديل الدستور؛ ذلك التعديل الذي يضيق من حدوده ويكاد ينقضه من أساسه، وهو الاعتراف بسلطة الأمة والتبعة الوزارية.
فقد كانت الأمة أيقظ من أن تؤخذ بهذه الأساليب، أو تستمع فيها إلى رأي أحد، وزادها يقظة وحذرا أن الوزارة لم تصنع شيئا في مسألة المنفيين والمعتقلين كما كان منتظرا منها، ولم تصنع شيئا لتمثيل مصر في مؤتمر لوزان الذي كان منعقدا للنظر في مسائل الشرق وتنقيح المعاهدات بين الحلفاء والدولة التركية صاحبة السيادة القديمة على مصر. فأذاع الوفد المصري بيانا في العشرين من يناير قال فيه: «ما زالت الوزارة ملتزمة خطة الصمت، وما زالت مصالح البلاد معطلة، فلا مثلت مصر في مؤتمر لوزان تمثيلا شعبيا، ولا ألغيت الأحكام العرفية، ولا احترم حق الأمة في أن يكون الدستور وليد إرادتها، ولا عاد الوكلاء المنفيون، ولا أطلق سراح الزعماء المسجونين، وهذا سر ما استولى على النفوس من الحيرة والقلق.» ثم قال: «والأخبار متواترة أيضا على وقوع أمور خطيرة بشأن مشروع الدستور؛ فإنهم يؤكدون أن هناك أخذا وردا بين الوزارة والإنجليز متعلقين بالنص الخاص بالسودان، وأن الوزارة قد أدخلت من جهتها تعديلا جديدا على نص المشروع يقضي بزيادة عدد الأعضاء المعينين في مجلس الشيوخ إلى النصف وتقرير مسئولية الوزارة أمامه.»
وأتبع هذا البيان بيانات أخرى في معناه.
ثم استقالت الوزارة النسيمية؛ لأن الإنجليز تخطوها ووجهوا إلى الملك إنذارا يطلبون فيه حذف النص الخاص بالسودان من الدستور والاكتفاء فيه بلقب «ملك مصر» بدلا من «ملك مصر والسودان»؛ فقبل نسيم باشا هذا الطلب واستقال بعد قبوله وتنفيذه!
وهنا يجب أن نلخص الحالة من حيث المناورات الوزارية لنفهم حقيقة الموقف الذي وقفه سعد باشا من هذه الوزارة؛ لأنه موقف في حاجة إلى التوضيح.
وذاك أنه لما أحس رؤساء الوزارات والمرشحون لرياسة الوزارة أن رشدي وعدلي وثروت وأصحابهم قد احتكروا الميدان في السياسة المصرية تألبوا حزبا واحدا على مقاومة هذا الفريق، وأصبحوا فريقا آخر يرأسهم محمد سعيد وأحمد مظلوم وتوفيق نسيم ويوسف وهبة وإخوان هذا الطراز، وأصبح في مصر على هذا التقسيم فريق وزاري يصح أن يسمى بالمدرسة المتفرنجة وهم عدلي وأصحابه، وفريق آخر يصح أن يسمى بالمدرسة التركية وهم محمد سعيد وأصحابه.
وبحكم العداء بين الفريقين أصبح لزاما على «المدرسة التركية» أن تخطب ود الوفد وتتقرب إليه، وتلوذ بالقصر الملكي؛ لتستند إليه في وجه المعاونة المكشوفة من الإنجليز لعدلي وأصحابه.
وهذا سر الصداقة التي كان يبديها محمد سعيد وتوفيق نسيم وأحمد مظلوم لسعد زغلول بعد أن كانوا جميعا يحاربونه أو لا يتقدمون إلى مساعدته بعمل من الأعمال. فسعى محمد سعيد في إنشاء وفد غير الوفد السعدي، وأبى توفيق نسيم أن يوقع التوكيلات القومية، ولبث أحمد مظلوم على صداقته للاثنين.
فلما جاء توفيق نسيم عقب عبد الخالق ثروت المجاهر بعداء سعد وأنصاره، واتبع سياسة التقرب إلى الوفد، وكتب مذكرته يطلب فيها الاعتراف بالكثرة القومية، واستقال قبل أن ينسخ الدستور وتنكشف أغراضه الخفية بلغ ذلك كله إلى سعد في جبل طارق، وهو بعيد من مجرى الحوادث ووسائل الاستقصاء الوافية؛ فكتب إليه البرقية التي يقول فيها:
إنكم بعملكم الشريف المفعم بالوطنية والحكمة استحققتم تقدير الوطن.
ونظر إلى الموقف في جملته بين أن ينصر حزب ثروت أو ينصر حزب نسيم، فاختار ما اختاره بعد هذه الموازنة المجملة، وحدا به إلى حسن الظن بالرجل وعدم استغراب سياسته الجديدة أنه كان صهرا له؛ إذ كانت شقيقة نسيم زوجا لشقيق سعد المرحوم أحمد فتحي زغلول.
ولسنا نقول هذا لتسويغ ذلك التقدير، فإننا لا نسوغه الآن كما لم نسوغه في حينه، ولكننا نقوله لتبيين الأسباب التي باعدت بين حكم سعد على الوزارة النسيمية، وما تستحقه هذه الوزارة بما عملته وبما تنويه.
بعد سقوط الوزارة النسيمية اتجهت الأنظار إلى عدلي يكن باشا لاستئناف الخطة التي اقتضبت على ثروت قبل تمامها، وكان عدلي باشا قد أنشأ حزبا ينزل به إلى ميدان الانتخاب وسماه من أجل ذلك «حزب الأحرار الدستوريين».
ولكن الملك كان لا يرغب في استيزاره، ولا يزال يرجو أن تقوم وزارة من رجاله تعيد النظر في الدستور على المبادئ التي يريدها، وتعاظمت المصاعب أمام عدلي بين مقاومة الوفد ومقاومة القصر وكثرة الجرائم السياسية في أيام ترشيحه وصعوبة إصلاح الخطأ الذي وقعت فيه الوزارة النسيمية، وإنجاز الوعود التي لم تنجزها، فاعتذر عن تأليف الوزارة وأصر على اعتذاره، وانتهى الأمر في منتصف شهر مارس 1923 بإسنادها إلى يحيى إبراهيم باشا، وهو قاض نزيه ولكنه رجل ضعيف كان يخشى كثيرا أن يتم تعديل الدستور المطلوب على يديه، وضاعف هذه الخشية قوله في اليوم التالي لتأليفه الوزارة: «إن كان الناس قد تكلموا كثيرا عن التعديل الذي أدخل على الدستور وتساءلوا عما إذا كانت وزارتنا تسلم بالتعديل الذي قد أدخلته الوزارة النسيمية فتصدر الدستور كما عدلته، أم ترجعه إلى أصله كما وضعته اللجنة، فإن ما وضعناه نصب عيوننا هو أن يحقق الدستور رغبات الأمة كل التحقيق.»
وهذا كلام ليس فيه من نفي التعديل بقدر ما فيه من ترجيحه. فاسترابت الأحزاب بما وراء هذه الفاتحة، وكتب الوفد المصري بيانا يقول فيه: «إن ما نشر عن رئيسهم - رئيس الوزراء - كله تنصل وإبهام؛ ففي الدستور لم تكن سيادة الأمة وإرادتها موضع عناية، بل إنه أقر من سبقه على اغتصاب حق الأمة في وضعه، ورفع الأحكام العرفية ليس لديه إلا مجرد أمل من الآمال، وإصدار قانون التضمينات بالقيود التي يود الإنجليز أن يقيدوا بها سيادة البلاد وحرية أبنائها قضاء محتوما لا يرجو فيه - كما قال - سوى لطف فخامة اللورد والتخفيف. أما مسألة السودان على أهميتها فقد اكتفى بأنها ستكون موضع مباحثاته مع زملائه.»
واحتج حزب الأحرار الدستوريين على التعديلات التي قيل إنها أدخلت على الدستور في عهد الوزارة النسيمية، وأبلغ الوزارة الجديدة مطالبه في السياسة العامة، وأهمها العمل على اتباع سياسة الاتحاد والوئام؛ لأنه أيقن أن مجاملة الكثرة خير من مجافاتها؛ ومن ثم طلب رفع الأحكام العرفية في الحال وفك المعتقلين والإفراج عن المبعدين والمسجونين السياسيين، كما طلب إصدار الدستور كاملا شاملا للمبادئ التي قررتها لجنة الدستور.
ونشر الأستاذ عبد العزيز فهمي بك خطابا مفتوحا إلى رئيس الوزارة، سرد له فيه المبادئ التي لا يستغنى عنها في الدستور، وقيل إنها مست بالتعديل في عهد الوزارة النسيمية، وهي: سلطة الأمة، واشتراك الوزارة في الإنعام بالرتب والنياشين، واقتصار حق الحل على مجلس النواب دون مجلس الشيوخ، وإبقاء عدد الشيوخ المعينين دون عدد المنتخبين، وإشراك مجلس الشيوخ في تعيين رئيسه، وعدم إصدار مراسيم أثناء دور انعقاد البرلمان قبل عرضها عليه، وعرض معاهدات التجارة والملاحة على البرلمان، وإشراف الوزارة على المعاهد الدينية، وترك القيود التي قيد بها تنقيح الدستور على ما هي عليه.
أمام هذا الإجماع من الأحزاب المختلفة تراجعت الوزارة، وأفضى وزير الحقانية في الوزارتين النسيمية والإبراهيمية بحديث إلى الصحف اعترف فيه بحذف المادة التي تنص على أن الأمة مصدر السلطات، وقال فيه عن عدد الشيوخ: «أؤكد لكم أننا قبل أن تخطر لنا فكرة الاستقالة عدلنا عن تعديل كنا عدلناه في المادة الخاصة بمجلس الشيوخ بالنسبة إلى عددهم؛ لأن اللجنة الاستشارية لفتت نظرنا إليها، ولم تزل هذه المسألة باقية تحت البحث كغيرها من المسائل.»
ثم سرت الحملة في مسألة الدستور من مصر إلى الصحافة الإنجليزية، فقالت التيمس بالعبارة الصريحة: إن القصر هو المؤخر لصدور الدستور. وساندتها صحف أخرى من صحف الأحرار والمحافظين، وتماوج الرأي العام في مصر حول هذه المسألة، فثبت للوزارة أن التعديل على المبادئ التي يريدها القصر عسير غير مأمون العواقب، وصدر الدستور بغير تعديل ذي بال في التاسع عشر من شهر أبريل.
وفي خامس يوليو صدر قانون التضمينات، وهو قانون تعويضات الموظفين الأجانب أهم ما أصدرته الوزارة الإبراهيمية بعد الدستور، وقد أفرغ في قالب اتفاق بين مصر وإنجلترا ليمتنع تعديله على البرلمان، واعترف بالحالة الفعلية فيما يتعلق بالأرض التي استولت عليها الحكومة البريطانية، وعهد بالأشخاص المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية إلى لجنة يسود فيها رأي الإنجليز دون المصريين، ولم تقبل الحكومة الإنجليزية فيه أن تحمل التبعة فيما اتخذته من التدابير أيام الحرب وما بعدها، بل اكتفت بوعد مبهم «أن تكون مستعدة على الدوام للاتفاق مع الحكومة المصرية على الحل الذي تقتضيه الحالة بروح العدل والإنصاف» إذا حدثت حالة من الأحوال التي تعود فيها الخسارة من جراء التدابير الإنجليزية.
وبصدور هذا القانون تم التمهيد لإلغاء الأحكام العرفية بالإنجليزية، فألغيت «مع استمرار السلطات العسكرية على مباشرة الحقوق التي خولتها إياها الإعلانات المختصة بتنفيذ معاهدات الصلح فيما عدا الحقوق الجنائية، وذلك إلى أن تتم التدابير المقررة في تلك الإعلانات، وتبقى القضية المنظورة أمام المحاكم العسكرية إلى أن يحكم فيها».
ومن القوانين التي أصدرتها الوزارة الإبراهيمية - ولا تقل عن هذا القانون في الخطر والضرر - قانون تعويضات الموظفين الإنجليز، وهو الوثيقة التي تعهدت مصر بموجبها بأداء ما لا يقل عن عشرة ملايين من الجنيهات لتعويض الموظفين الأجانب، ثمنا لحريتها في الاستغناء عنهم واختيار غيرهم، وهي لا تملك إلى الساعة هذه الحرية!
قبل صدور قانون التضمينات بثلاثة أشهر أفرجت الحكومة البريطانية عن سعد في جبل طارق، وقالت في بلاغها: إن الطبيب المعالج لزغلول باشا قرر «أن تغيير نظام الحياة والاستحمام بالمياه المعدنية في أوروبا ضروريان لصحة الباشا. ولهذه الأسباب قررت الحكومة بعد استشارة المندوب السامي أن تفرج عن زغلول باشا من جبل طارق».
وكانت الأسباب الصحية في الواقع من أقوى الأسباب التي حملت الحكومة البريطانية على هذا القرار؛ لأن الدكتور موريسون الذي زار سعدا في الثاني والعشرين من أكتوبر رأى أن الحالة الصحية على جملتها مقلقة للسكر أو الزلال أو الأسيتون، وأخفى الخبر عن سعد فلم يطلعه على تقريره المفصل بعد كتابته، تفاديا من إزعاجه.
وكان في النية التعجيل بالإفراج عنه عقب ذلك، ولكن اللورد اللنبي ظل يعارض أمر الإفراج ويتوعد بالاستقالة، وصرح مستر بونارلو بذلك لأحد النواب المهتمين بالسؤال عن حالة سعد وقرار الحكومة بشأنه في السابع عشر من شهر ديسمبر، فقال للنائب: «تريدون الإفراج عنه! حسن. ولكن ذلك معناه إقالة اللورد اللنبي على الأثر.»
إلا أن الأسباب الصحية لم تكن هي كل الباعث إلى شروع الحكومة البريطانية في إطلاق سعد زغلول؛ ففي مقدمة الأسباب الأخرى اقتناعها بفشل اللورد اللنبي في المقاصد التي كان يرمي إليها باعتقاله وتأييد ثروت وأشياعه؛ فقد ساءت العلاقات بين المصريين والإنجليز أشد ما يتاح لها من سوء، وبلغت من الحرج ما لم تبلغه قط في وقت من الأوقات، وتعاقبت أعمال القمع والقضايا العسكرية من جهة، وحوادث الاعتداء ومظاهرات الاحتجاج من جهة، حتى أصبحت مصر المستقلة المطلوب منها الرضى والاستقرار كأنها ميدان حرب دائمة بين عدوين متناحرين، وليس هذا هو المقصود بسياسة التصريح، ولا يمكن أن يكون مقصودا بسياسة أخرى في بلد من البلدان.
ولما سقط ثروت وأخفق عدلي في تأليف وزارة بعد الوزارة النسيمية، وصار الوزراء والأحزاب يقدمون طلب الإفراج عن سعد وسائر المنفيين والمعتقلين على كل طلب آخر في البرامج الوزارية والحزبية، شعرت الحكومة البريطانية بأن نجاح كل سياسة في مصر مستحيل مع بقاء هذه الحال أو بقاء سعد في منفاه، وشعرت قبلها - أو بإيعاز منها - صحف الأحرار والعمال وبعض صحف المحافظين بخطل السياسة التي سار عليها اللورد اللنبي، فأنحت باللائمة عليه، وأجمعت كلها على وجوب النظر من جديد في عواقب تلك السياسة الخرقاء.
ومن الأسباب التي دعت إلى الإفراج عن سعد تلك القضية التي رفعها وكيل سعد في إنجلترا طالبا الحكم فيها ببطلان أمر اعتقاله؛ لأنه سجن بغير محاكمة ولا تهمه معروفة.
نعم! إن الحكم من المجلس الأعلى قد صدر برفض هذه الدعوى، ولكنه لم يصدر إلا بعد جهد شديد من النائب العام السير دجلاس هوج «اللورد هليشام» لإقناع الأعضاء باجتناب هذه السابقة الخطيرة في معاملة الثائرين على الإمبراطورية، ويغلب على الظن أن أعضاء المحكمة كانوا يفهمون بالإيحاء أن الإفراج حاصل عما قريب، فلا ضرورة لتسجيل المبدأ الخطير من أجل تحصيل الحاصل. وقد نمى إلى بعض المطلعين أن الوزارة البريطانية قررت الإفراج في أول فبراير وإرجاءه إلى أن ينتهي الفصل في القضية، وقد انتهى في التاسع من شهر مارس، وليس معنى ذلك أن القضية لم تفعل فعلها في تقرير الإفراج، بل معناه أن الوزارة اهتمت بها، واهتمت في الوقت نفسه بحسن التخلص منها ومن مثيلاتها؛ لئلا يقال إن الحكم هو الذي أكرهها على اتخاذ ذلك القرار.
وربما كان أهم الأسباب جميعا - إلى جانب سبب الصحة - تلك الحركة التي أحسن توجيهها الدكتور حامد محمود بين فريق كبير من نواب الأحرار والعمال بلغت عدتهم تسعة وتسعين؛ فقد كثر الكلام في الدوائر البرلمانية عن فشل السياسة الإنجليزية المصرية، وعن وصمة العار التي تصم الدولة البريطانية باعتقالها الشيخ العظيم وتعريضه للموت في منفاه، فترددوا على الوزارة سائلين ملحين في وجوب الإفراج، وأجمعوا آخر الأمر على كتابة عريضتهم المشهورة، فقدموها في التاسع والعشرين من شهر مارس وأذيع الأمر بالإفراج بعدها بيومين.
يضاف إلى ذلك أن قانون التضمينات سيصدر، وأن الأحكام العسكرية ستلغى، وأن الانتخابات ستجرى، ولا بد أن تسفر عن انتخاب نواب مجمعين على المطالبة بعودة سعد إلى بلاده؛ لأن خصومه وأصدقاءه كانوا يعلمون علم اليقين أن رضاء الشعب بغير هذه الوسيلة من وراء كل رجاء، ولا معنى لإلغاء الأحكام العسكرية في مصر وإجراء الانتخابات فيها وزعيم النواب المنظورين خاضع للأحكام العسكرية في منفاه.
ولقد كان الرجاء قويا في تحضير الانتخابات على الوجه الذي يهواه اللورد اللنبي أيام ثروت وأشياعه، ولكن أي رجاء هناك في هذه النتيجة بعد سقوط ثروت وإحجام عدلي عن تأليف الوزارة، وصعوبة المضي في هذه السياسة من جميع الأنحاء؟!
فالإفراج عن سعد كان كجميع الحوادث التاريخية متعدد الأسباب غير محصور في سبب واحد، وإنما كانت المسألة مسألة الزمن، أو الانتظار حتى تتفق جميع هذه الأسباب.
غادر سعد جبل طارق بعد خمسة أيام من إعلان الإفراج عنه إلى طولون، ومعه السيدة الجليلة صفية زغلول، وكانت قد وافته في منفاه لما اشتد عناؤه من الوحدة مع انحراف الصحة والحاجة إلى حسن الرعاية.
فتلقاه الطلبة المصريون في عرض البحر بالترحيب والتهليل، ومنهم مندوبون عن زملائهم في جامعات فرنسا وسويسرا حضروا خصوصا لتحيته وتجديد عهده. وخطبوا يذكرون مآثره، وخطب فيهم راجيا أن ينسوه في تلك اللحظة ليفكروا في الذين لا يزالون يرسفون في قيود السجن والاعتقال، ثم قال: «إن مصدر قوتي هو أني لست إلا معبرا عن شعور الأمة وآرائها معربا عن تصميمها على أن تعيش حرة مستقلة.»
ثم توالى الإفراج عن المعتقلين في مصر؛ فأفرج أولا عن أعضاء الوفد الذين كانوا معتقلين بقصر النيل، ثم أفرج في الرابع عشر من شهر مايو عن المعتقلين في صحراء ألماظة «المخزن»، وهم حمد الباسل باشا وأصحابه الذين كتبوا منشور المقاطعة والاستبسال في رد سعد إلى وطنه، ثم أفرج في آخر مايو عن المنفيين إلى سيشل، ثم سمح بزيارة بيت الأمة بعد إغلاقه برهة مع منع الاجتماعات فيه، ثم نشرت الحكومة المصرية بلاغا في العشرين من شهر يوليو صرحت فيه «بإمكان عودة جميع المبعدين» ومنهم سعد باشا؛ لأنه كان إلى ما قبل صدور قانون التضمينات ممنوعا من العودة إلى بلاده.
وفي الثالث عشر من سبتمبر أبحر سعد من مرسيليا فوصل إلى الإسكندرية في السابع عشر منه، ووصل إلى القاهرة في غده، وتكررت مظاهر الحفاوة الكبرى التي قوبل بها في العودة الأولى، وزاد عليها في هذه المرة اشتراك الأجانب في الاستقبال بما كانوا ينثرون عليه من الأزهار والرياحين بأيدي السيدات والأطفال حتى امتلأت بها السيارة.
وقد انحلت مشكلة الاستقبالات الرسمية هذه المرة؛ لأن القصر الملكي لم يعد مقاطعا الوفد كما كان في المرة الأولى، ودار المندوب البريطاني لم تعد دار الحماية بعد إلغائها، فزار سعد القصر وزار دار المندوب .
ونشطت مساعي التوفيق بين القصر وسعد على يدي توفيق نسيم ومحمد سعيد وأحمد مظلوم، فتمت المقابلة الأولى بين الملك فؤاد وسعد في تاسع نوفمبر بعد ظهور نتيجة الانتخابات الثلاثينية، وتحقق النجاح للوفديين فيها، وكان المظنون يومئذ أن سعدا لا يشكل الوزارة، وأنه قد يعهد بها إلى توفيق نسيم أو أحمد مظلوم على الأرجح، أو إلى محمد سعيد على احتمال بعيد، وكان هو لا يبوح بنياته لمن يسألونه في هذا الموضوع، وإلى ذلك أشارت صحيفة التيمس في بعض مقالاتها، فزعمت أن سعدا لا يقدم على تأليف الوزارة؛ لأنها «مقبرة الشهرة» ... ولا يبعد أن يكون هذا الاحتمال ملحوظا في مساعي التوفيق.
وقد جرت الانتخابات الثلاثينية في السابع والعشرين من سبتمبر؛ لأن الانتخاب كان على درجتين لا على درجة واحدة، وجرت الانتخابات لمجلس النواب في الثاني عشر من يناير 1924، فأسفرت عن نجاح مائة ونيف وتسعين نائبا وفديا من مائتين وأربعة عشر عدة الأعضاء في مجلس النواب، ومن حسنات الوزارة الإبراهيمية أن رئيسها كان قاضيا نزيها في مباشرة الانتخاب، كما كان قاضيا نزيها في المحاكم؛ فأدار المعركة الانتخابية بالحيدة الواجبة، وشهد الكثيرون من رجال الأحزاب المختلفة أن الانتخابات في عهده كانت أنزه الانتخابات في جميع العهود، حتى لقد أخفق هو نفسه في دائرته ولم يظفر بالنيابة التي كان يبتغيها.
بقيت انتخابات الشيوخ وتعيين الخمسين من الأعضاء الذين تعينهم الوزارة القائمة، فلم يبق مناص من تأليف الوزارة الدستورية لمباشرة هذا التعيين، وعلى هذا أعرب سعد لمكاتب روتر عن رأيه حين سأله فقال: «إذا اتبعت القواعد الدستورية وجب على يحيى إبراهيم باشا أن يستقيل أمام حقيقتين كبيرتين: الأولى أن البلاد أوضحت رأيها بشكل لا يمكن الشك فيه، والثانية أن رئيس الوزراء قد هزم في الانتخابات.»
وبدا من هذا جليا أن سعدا زعيم الكثرة البرلمانية لا يؤيد بقاء الوزارة إلى أن تتولى اختيار الشيوخ المعينين، فاستقال يحيى إبراهيم باشا في السابع عشر من يناير، وتأجل النظر في قبول استقالته إلى أن يعود الملك من السويس، فلم تقبل إلا بعد عشرة أيام.
وقبل إعلان قبولها بيومين أدب النواب لسعد مأدبة كبرى في فندق شبرد، خطب فيها مظلوم باشا وسعيد باشا راجيا أن يقبل سعد رئاسة الوزارة إذا عرضت عليه، فنهض سعد وتلا خطابا مكتوبا لم يشر فيه إلى شيء في قبول الوزارة، ولكنه لم يشر فيه كذلك إلى رفضها، وعرض على السامعين ما يصح أن يسمى برنامجا وزاريا يسير عليه.
وفي اليوم التالي لقبول استقالة الوزارة الإبراهيمية دعي سعد إلى القصر الملكي، فمكث في حضرة الملك نحو نصف ساعة، ثم خرج وتلا على الجموع المحتشدة في بيت الأمة نص الأمر الملكي الصادر بتأليف الوزارة وإسناد رتبة الرئاسة إليه.
وفي ذلك اليوم كتب سعد بيانه الوزاري وهذا نصه:
مولاي صاحب الجلالة
إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي الضعيف توجب علي والبلاد داخلة في نظام نيابي يقضي باحترام إرادتها، وارتكان حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسئولية الحكم التي طالما تهيبتها في ظروف أخرى، وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم تكليفي بتشكيلها من غير أن يعتبر قبولي لتحمل أعبائها اعترافا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري الذي لا أزال متشرفا برئاسته.
إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة وتمسكها بمبادئ الوفد التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في الاستقلال التام لمصر والسودان، مع احترام المصالح الأجنبية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال. كما أظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيا، ونفورها من كثير من التعهدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية وأنقصت من حقوق البلاد، وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات المالية والإدارية ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم وحفظ الأمن وتحسين الأحوال الصحية والاقتصادية، وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران؛ فكان حقا على الوزارة - التي هي وليدة تلك الانتخابات - وعهدا مسئولا منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل، الأهم فالمهم منها، وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى تحقيق رغبات الأمة فيها، وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافي ما هناك من الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها وتعيين المسئولين فيها، وكل ذلك لا يتم على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان؛ ولهذا يكون من أول واجبات هذه الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم لانعقاده في القريب العاجل، وتحضير ما يحتاج الأمر إليه من المواد والمعلومات لتمكينه من القيام بمهمة خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمنا طويلا وهي تنظر إلى الحكومة نظر الطير للصائد لا الجيش للقائد، وترى فيها خصما قديرا يدبر الكيد لها لا وكيلا أمينا يسعى لخيرها، وتولد من هذا الشعور سوء تفاهم أثر تأثيرا سيئا في إدارة البلاد وعاق كثيرا من تقدمها؛ فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن الثقة في الحكومة، وعلى إقناع الكافة بأنها ليست إلا قسما من الأمة تخصص لقيادتها والدفاع عنها وتدبير شئونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام؛ ولذلك يلزمها أن تعمل ما في وسعها لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات، وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم، كما يلزم أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح، وتعود الكل على احترام الدستور والخضوع لأحكامه؛ وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة وعدم السماح لأي كان بالاستخفاف بها والإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام وزارتي وضعته طبقا لما أراه وتريده الأمة شاعرا كل الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات خصوصا مع ضعف قوتي واعتلال صحتي، ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمنا طويلا، ولكني أعتمد في نجاحه على عناية الله وعطف جلالتكم وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين وجميع أهالي البلاد ونزلائها.
فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي مع تقليدي وزارة الداخلية:
محمد سعيد باشا لوزارة المعارف العمومية، وأحمد مظلوم باشا لوزارة الأوقاف، ومحمد فتح الله بركات باشا لوزارة الزراعة، ومصطفى النحاس بك لوزارة المواصلات، ومحمد نجيب الغرابلي أفندي لوزارة الحقانية، ومحمد توفيق نسيم باشا لوزارة المالية، وحسن حسيب باشا لوزارة الحربية والبحرية، ومرقص حنا بك لوزارة الأشغال العمومية، وواصف بطرس غالي أفندي لوزارة الخارجية.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم وخادم سدتكم.
ومن الملاحظات على هذا البيان ما لوحظ في القصر الملكي، وهو أن رئيس الوزارة ذكر «الرعاية السامية التي قابل بها جلالة الملك ثقة الأمة ونوابها»؛ فجعل الأصل في ولاية الوزارة ثقة الناخبين.
وأنه قال: «شاكر نعمتكم وخادم سدتكم»، ولم يقل كما جرت العادة «عبدكم الخاضع أو خادمكم المطيع».
ولوحظ في الدوائر القضائية تعيين الأستاذ الغرابلي لوزارة الحقانية، وفيها قدماء المستشارين وكبار الموظفين من رجال القانون، وقد كان لهذه الملاحظة صداها فنقل الأستاذ إلى وزارة الأوقاف، كما لوحظ في الصحف والدوائر السياسية تعيين سعيد باشا لوزارة المعارف، وهو رئيس وزارة قديم، وهي من الوزارات التي لا تعد في الصف الأول بين وزارات الحكومة، وفهم من ذلك أن اشتراك سعيد وصاحبيه مظلوم ونسيم في الوزارة إنما كان في مقابلة الدور الذي داروا به لمعاونة الوفد على خصومه والتقريب بين الوفد والقصر بعد سقوط الوزارة الثروتية، وليس اشتراكهم فيها عن تجانس أصيل في الميول والأفكار.
ومن قبل ذلك لاحظ بعض الناقدين أن دخول سعد ميدان الانتخاب يعد اعترافا بتصريح 28 فبراير الذي أنكره واحتج عليه، وهي ملاحظة لا محل لها من الاعتبار؛ لأن تمثيل المصريين في الحكومة حق لا نزاع فيه، فإذا اعترف به الإنجليز فليس ذلك سببا داعيا لصاحب الحق إلى النزول عنه وإسقاطه بيديه، وقد دخلت جميع الأحزاب المصرية ميدان الانتخاب حتى ما كان منها منكرا للمفاوضات والمعاهدات مع الحكومة الإنجليزية؛ فلا موجب إذن لانفراد الوفد بمقاطعة الانتخاب، وهو لو قاطعه لما كان لذلك من نتيجة إلا تمكين خصومه من ادعاء النيابة عن الأمة، وأن يبرموا باسمها ما يأباه الوفد وتأباه.
ولاحظ بعض الناقدين أن سعدا قبل الوزارة وكان عليه ألا يقبلها، وأن يعهد بها إلى أحد أنصاره وحلفائه؛ لئلا يضطر وهو في الوزارة أن يجيز ما لا يجيزه الزعيم الوطني في حل القضية المصرية، وفات هؤلاء أن مجرد التنحي عن رئاسة الوزارة لهذا الغرض معناه إعلان الاستعداد للرضى بما دون المطالب الوطنية، واتخاذ المناورات المصطنعة لتسهيل النزول عن تلك المطالب، ثم ماذا يكون إذا تطلب الأمر موافقة النواب وسعد رئيس النواب؟! فليس هنا من ضرر يتقى باجتناب سعد رئاسة الوزارة عقب الانتخابات الأولى، ولكن الضرر كل الضرر في ذلك الاجتناب. إنما ينبغي للزعيم الوطني أن يتنحى عن الانتخاب، أو يتنحى عن رئاسة الوزارة إذا حبطت وسيلة الدستور لتحقيق المصالح العامة والمطالب القومية، وذلك تقدير لا يطالب سعد بافتراضه في ذلك الحين، ولو كان يعلم الغيب العلم القاطع الذي لا مراء فيه لوجب عليه أن يقنع الجماهير بما هو مقتنع به، وأن يضع أيديهم على الحقيقة بتجربة لا تحتمل الجدل.
وخير مقياس نقيس به خطة من الخطط أن ننظر إلى الخطة التي تناقضها، ونذهب معها إلى جميع نتائجها لكي نوازن بين النتائج في الحالتين، وليس في نتائج رفض الانتخاب ورفض الوزارة في ذلك الحين ما هو أجدى وأحق بالاطمئنان من نتائج القبول على أسوأ الفروض.
ومن ثم نحن من المعتقدين أن سعدا أصاب في قبول الوزارة هذه المرة، وأنه كان يخطئ لو رفضها بعذر من تلك الأعذار، وليس منها ما يستحق المبالاة.
في أثناء وضع الدستور كان الملك فؤاد ينوي أن يجعل نصف مجلس الشيوخ من المعينين، وأن يكل إلى هذا المجلس حق النظر في الثقة بالوزارة.
وبعد الانتخاب كان يأمر باستدعاء النواب الناجحين إلى القصر واحدا بعد واحد لينشئ بينه وبينهم الصلة التي ينال بها من السلطان النيابي ما لم ينله بنصوص الدستور.
فلما استقر حكم الدستور على تعيين الخمسين من أعضاء الشيوخ، وحرمان هذا المجلس حق الاقتراع على الثقة بالوزارة، كان من رأي الملك بداهة أن يتولى هو حق اختيار الأعضاء ولا يكون للوزارة إلا التنفيذ، وهكذا نجم أول خلاف بين الملك فؤاد وسعد في عهد الدستور، وانحسم الخلاف في حينه بتقرير المبدأ الذي يخول الوزارة حق الاختيار، وإجابة الرغبة الملكية في ترشيح فئة من الأعضاء.
ثم جاءت أزمة أخرى من أزمات المراسم والأشكال، ولكنها تمس الخلاف بين الوفد وخصومه في صميم المبادئ الأصلية، ساقها التقويم السنوي في ركابه ولم يسقها أحد باختياره.
وذاك أن اليوم الخامس عشر من شهر مارس يقترب والحكومة القائمة وفدية والبرلمان وفدي، وتصريح 28 فبراير نظام بغيض لجميع هؤلاء، فكيف يحتفلون بهذا اليوم؟! لقد احتفلوا به في السنة الماضية لأنه عيد الاستقلال، والرأي الغالب بين المصريين أن الاستقلال لم يترتب، ولن يترتب على ذلك التصريح، فهل يحتفلون به هذه السنة على هذا المعنى، أو يهملونه مع ما يتربط به من تبليغات مصر إلى الدول وإعلان لقب صاحب الجلالة؟ مشكلة بحق من مشاكل الأيام. وقد حلها سعد باختيار ذلك اليوم لافتتاح البرلمان. فإذا تعطلت فيه دواوين الحكومة، فلمن شاء أن يفهم أنها تتعطل احتفالا بعيد الدستور، وافتتاح الهيئة النيابية الأولى في البلاد!
وهكذا كان، وخرج سعد في ذلك اليوم إلى جانب الملك يفتتحان البرلمان الأول، وتلاحمت الجماهير والجند بين قصر عابدين ودار النيابة. وسمع لأول مرة هتاف الجماهير بحياة الملك وسعد في صوت واحد، وكان شعار ذلك الموكب «يعيش الملك ويحيا سعد»، وهي كلمة لم تسمع قبل ذلك في أنحاء وادي النيل؛ إذ كان الحجاب كثيفا بين القصر والرعية، ولم يزل كذلك إلى أن عاد سعد من منفاه، فعود الجماهير كلما هتفوا بحياته أن يجيبهم قائلا بل نادوا: «لتحي مصر، وليحي الملك»، فكانوا يجيبون عليه موفقين بين الأمرين: «يعيش الملك ويحيا سعد»، وكذلك كان هتافهم يوم اجتمع الملك وسعد في موكب واحد، ومن عجائب التقادير أن هذه البدعة الناشئة لم تقع من المسامع الملكية موقع الاستحسان.
الفصل الحادي عشر
في رئاسة الوزارة
كان سعد باشا يقول إذا ذكرت وزارة الشعب الأولى وأزماتها ومعضلاتها:
إن عيبنا الأكبر في تلك الوزارة أننا أخذناها جدا وصدقنا أننا مستقلون!
وهذا عيب من وجهة النظر الإنجليزية لا شك فيه؛ لأن الذي كان مطلوبا من سعد - على ما يظهر - هو أن يصدق أنه رئيس حكومة مستقلة ولكن بمقدار ما يؤدي ثمن الاستقلال، ويحمل ما فيه من المغارم والتكاليف، ثم ينسى الاستقلال كلما كان للسياسة البريطانية مطلب تبتغيه، وهو وشأنه بعد ذلك في تمثيل هذا ا الدور ذي الوجهين.
لكنه يخلف لتمثيل دور ذي وجهين في رواية طويلة كرواية الاستقلال، فاكتفى بتمثيل الدور من جانب واحد وهو جانب الاستقلال الصحيح، ومضى في وزارته كما يمضي كل رئيس حكومة في أمة مستقلة، وترك للسياسة البريطانية أن تقنع بهذا الدور الصريح، أو تعلن أغراضها الخفية من وراء الظواهر والمراسم، فتقوم هي بتمثيل الدور ذي الوجهين.
بدأ وزارته بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين، وألغى نفقات جيش الاحتلال الإنجليزي التي كانت تدرج في الميزانية المصرية، كأن بقاء الاحتلال مطلب من مطالب البلاد!
ورجع بالموظفين الإنجليز إلى حدودهم القانونية التي ترسمها لهم صفتهم الرسمية؛ وهي صفة المستشارين والخبراء الفنيين، الذين هم موظفون يخدمون الحكومة المصرية لا الحكومة الإنجليزية، يسألون فيجيبون بما يعلمون، ويتركون الرأي الأخير للوزير المسئول.
وأصبح هؤلاء الموظفون خاضعين للقوانين بعد أن كانت إرادتهم وحدها هي القانون. فلما ظهر الخلل في أعمال بعضهم بوزارة المالية ووزارة المواصلات أمر بتحقيق التهم المنسوبة إليهم، وقدم واحدا منهم إلى مجلس التأديب، وأصر على تقديمه للمحاكمة على الرغم من احتجاج دار المندوب.
وكان على الحكومة المصرية أن تتلقى الأوامر من كل إنجليزي له مصلحة، أو هوى في السيطرة عليها ولو لم يكن من الموظفين، فكان مستر كارتر يعمل - مثلا - في تنظيف مقبرة «توت عنخ آمون»، ويستبد بفتحها وإغلاقها حين يشاء ولمن يشاء، ولا يبالي بما تقرره مصلحة الآثار من مواعيد الفتح والإغلاق. وكل حقه في المقبرة أنه رجل مرخص له في التنقيب عن الآثار بالشروط التي تسمح بها الحكومة لجميع المنقبين.
فلما نبهته الحكومة إلى خطئه لم يكترث لها، وأرسل إلى سعد باشا برقية ينذره فيها «بإقفال المدفن ومقاضاة الحكومة المصرية»، وهو ينتظر في هذه الحالة ما ينتظر من كل حكومة مصرية ينتهي إليها تهديد واحد من السادة المحتلين كيفما كان؛ لأن المرجع في الوزارات لمستشار أو مفتش إنجليزي، وهو لا يقبل من المصريين أن يسمعوا هذا التهديد ولا يسرعوا إلى الخوف والإذعان، فلما وصل الإنذار إلى سعد كتب إليه يقول: «لكم الحرية في أن تقاضوا الحكومة، ولكن الحكومة تريد أن تكون مواعيد الزيارات مصونة ومحترمة، وأما ما يتعلق بإغلاق المدافن كما تقولون، فإنه يشق علي أن أضطر إلى تذكيركم بأن المدفن ليس ملكا لكم، وأن العلم الذي تدعونه بحق لا يمكن أن يسلم بإقدامكم مع زملائكم - من أجل أمر خاص بزيارة أفراد تريدون تمييزهم - على ترك التنقيبات العلمية التي لا تهتم بها مصر وحدها أعظم اهتمام، بل يهتم بها العالم كله أيضا.»
إنه جواب لا يعدو حدود الإنصاف ولا حقوق الحكومة، ولكنه قوبل بالاستياء بين الجالية الإنجليزية؛ لأنه يخالف ما تعودوه، لا لأنه يخالف الإنصاف.
ولما نمى إلى سعد أن السودان سيمثل رسميا في معرض «ويمبلي» مع المستعمرات البريطانية، كتب إلى حاكم السودان يسأله: «على أي قاعدة دعي السودان للاشتراك في هذا المعرض الخاص بالمستعمرات؟ وكيف قبلتم أن تشركوا فيه من غير إذن الحكومة المصرية؟»
فجاءه الرد من دار المندوب البريطاني بأن حاكم السودان أبلغه نبأ تلك البرقية، وأنه كتب إلى حكومته يستفسر عن المسألة، وسيكتب إلى الحكومة المصرية بفحوى جوابها.
فكتب سعد مرة أخرى إلى حاكم السودان يسأله ما سبب تأخير رده ويقول له: «إن المسائل التي كلفتموها من شأنكم دون سواكم لتعلقها بأعمال هي من خصائصكم، وإني ما زلت في انتظار الرد منكم، وأرجو ألا يتأخر الرد زيادة عما مضى.»
وأبرق إلى وزير مصر المفوض بالعاصمة الإنجليزية ليبلغ حكومتها احتجاج مصر على دعوة السودان إلى معرض خاص بالمستعمرات البريطانية بدون علم الحكومة المصرية، وعلى قبول حاكم السودان الدعوة بغير إذن من تلك الحكومة، وفي كلا الأمرين اعتداء على حقوق مصر، وعمل غير ودي موجه للحكومة المصرية.
وقد جاءه الرد من الحاكم العام بالاعتذار من التأخير؛ لأنه أبلغ المعلومات المطلوبة إلى المندوب السامي الذي هو الطريق المعتاد للمخاطبة بين الحكومة المصرية وحكومة السودان عملا بالإجراءات المتبعة.
وجاءه الرد بهذا المعنى من اللورد اللنبي مشفوعا ببيان عن دعوة السودان إلى المعرض يقول فيه:
إن الحكومة البريطانية لم يكن ليخطر لها أن تطلب أخذ رأيها إذا وجهت الحكومة المصرية دعوة لحكومة السودان لتشترك في معرض تجاري شبيه بهذا يعقد في مصر. وقد سبق أن قبلت حكومة السودان مباشرة ودون رجوع إلى دار المندوب السامي أو الحكومة البريطانية ما عرضته الحكومة المصرية من تخصيص حجرة لمعروضات السودان في المكتب المصري للتجارة والصناعة بالقاهرة، وذلك في يونيو سنة 1920. ومن جهة أخرى فإن معرض ويمبلي ليس وقفا على الإمبراطورية البريطانية، بل إن فيه أشياء أخرى متنوعة ذات فائدة عامة، مثل صورة لمسجد فارسي، ونماذج لشلالات نياجرا، ومعرض من التبت، والسودان موصوف في الخرائط والفهارس المعروضة في القسم الخاص بأفريقيا الشرقية باسم السودان الإنجليزي المصري؛ ولذلك لا محل لتساؤل الزائرين للمعرض عن اشتراك السودان فيه.
وقد أجاب سعد بخطاب إلى اللورد اللنبي يقول فيه:
يتضح جليا من نص المادة الثالثة من الاتفاق المذكور - اتفاق سنة 1899 - أن حاكم السودان العام موظف يعينه ملك مصر ويستمد سلطته من هذا التعيين ذاته، وتنص المادة الرابعة صراحة على أن كل إعلان للقوانين والأوامر واللوائح يجب أن يبلغ في الحال إلى المعتمد البريطاني في القاهرة وإلى رئيس مجلس نظار سمو الخديو المعظم؛ وبناء عليه يكون الطريق الطبيعي الوحيد للتخاطب بين الحكومة المصرية وحاكم السودان العام إنما هو الطريق المباشر، وهذا ما قصده واضعو اتفاق سنة 1899. وفعلا كانت الحكومة المصرية وحاكم السودان العام يتخاطبان مباشرة في غضون المدة التي تلت توقيع الاتفاق ...
ثم قال:
أما من جهة تمثيل السودان بمعرض ويمبلي، فقد بينت أنه بالنظر إلى الظروف التي حدث فيها، لا يمكن أن يبرره الحكم الثنائي في إدارة السودان الداخلية، كما أوضحت أنه ما كان يوجد لدى الحكومة المصرية أي اعتراض على أن يمثل السودان في معرض صناعي أو تجاري بحت، وليس هذا حال معرض ويمبلي؛ ولذلك احتججت على تمثيل السودان في معرض المستعمرات البريطانية. ولا شك أنه كان يسرني ألا يكون تمثيل السودان في هذا المعرض إلا في نفس الموضع الذي وضع فيه تمثيل العجم والولايات المتحدة وتيبت في المعرض المذكور. ولست في حاجة لأن أزيد على ما تقدم أني آسف لأن الحادث وقع ونحن على أبواب المفاوضات. نعم! إن مسألة السودان كلها سيدور البحث عليها بيني وبين المستر مكدونالد، ولكن من واجبي أن أحتج على كل عمل أعتبره ماسا بحقوق مصر.
ولما حان موعد المفاوضات بين سعد ومكدونالد كان الاستقلال هو الحق الأول الذي بنى عليه المفاوضة، وجعله مبتدأ الحديث فيها ليكون ملحوظا بعد ذلك في كل دعوى أو مطلب عن المصالح البريطانية، وفي ذلك يقول مستر مكدونالد من الكتاب الأبيض الذي صدر في سابع أكتوبر: أثناء محادثاتي مع رئيس الوزارة المصرية أوضح لي زغلول باشا ما هي التعديلات التي لا يرى بدا من إدخالها في الحالة الحاضرة في مصر. فإذا كنت قد فهمته حق الفهم فهذه التعديلات هي كما يأتي:
أولا:
سحب جميع القوات البريطانية من الأراضي المصرية.
ثانيا:
سحب المستشار المالي والمستشار القضائي.
ثالثا:
زوال كل سيطرة بريطانية على الحكومة المصرية، ولا سيما في العلاقات الخارجية التي ادعى زغلول باشا أنها تعرقل بالمذكرة التي أرسلتها الحكومة البريطانية إلى الدول الأجنبية في 15 مارس سنة 1922 قائلة: إن الحكومة البريطانية تعد كل سعي من دولة أخرى للتدخل في شئون مصر عملا غير ودي.
رابعا:
عدول الحكومة البريطانية عن دعواها حماية الأجانب والأقليات في مصر.
خامسا:
عدول الحكومة البريطانية عن دعواها الاشتراك بأية طريقة كانت في حماية قناة السويس.
أما في شأن السودان فإنني ألفت النظر إلى بعض البيانات التي فاه بها زغلول باشا باعتباره رئيس مجلس الوزراء أمام البرلمان المصري في الصيف في 17 مايو، ويؤخذ مما علمته في هذا الصدد أن زغلول باشا قال: «إن وجود قيادة الجيش المصري العامة في يد ضابط أجنبي وإبقاء ضباط بريطانيين في هذا الجيش لا يتفق مع كرامة مصر المستقلة.» فإبداء مثل هذا الشعور في بيانات رسمية من رئيس الحكومة المصرية المسئول لم يقتصر على وضع السردار السر لي ستاك باشا في مركز صعب، بل وضع جميع الضباط البريطانيين الملحقين بالجيش المصري أيضا في هذا المركز.
ولم يفتني أيضا أنه قد نقل لي أن زغلول باشا ادعى لمصر في شهر يونيو الماضي حقوق ملكية السودان العامة، ووصف الحكومة البريطانية بأنها غاصبة. «فلما حادثت زغلول باشا في ذلك قال لي إن الأقوال السابقة التي قالها لم يكن مرددا فيها صدى رأي البرلمان المصري فقط، بل رأي الأمة المصرية أيضا ...»
وبعد العودة من المفاوضات أوشكت مدة المستشار القضائي أن تنتهي فرفض سعد إبقاء هذه الوظيفة، وأبى تجديد العقد لمن كان يشغلها، وكان ذلك في الثاني عشر من شهر نوفمبر لذلك العام؛ لأنه لم يذهب إلى المفاوضة ليكون كل ما كسبه منها أن يعود متطوعا لتنفيذ السياسة الإنجليزية، قابعا من قضيته بطلبات لا تجاب.
لا جرم صدق سعد أننا مستقلون وعمل بما صدق! لكننا نسأل هل كان في وسعه ألا يصدق؟ وهل كان ينفعه عند الإنجليز - فضلا عن المصريين - أن يمثل الدور على وجهين؟
إن الكثيرين ليفهمون أنه لم يفعل بمسلكه هذا في الوزارة إلا ما ينبغي لزعيم ينادي بقضية وطنية، ولكنهم لو نظروا إلى الموقف من جميع جوانبه لفهموا كذلك أنه فعل ما ينبغي للسياسي اللبق الذي يلمس الواقع ويحذر العواقب، ولا يفرط في شيء قل أو كثر من أجل «لا شيء».
ولا حاجة إلى القول بأن سعدا لم يكن يطمع من المفاوضات في الوصول إلى كل ما جاء في الكتاب الأبيض من المطالب، وهو نزول الإنجليز دفعة واحدة عن كل دعوى يدعونها وتهاونهم في كل مصلحة يرومونها، ولكنه كان مسئولا أن يقر الأمور في نصابها ويضع القضية المصرية في موضعها. وليس في استطاعته أن يأمل النجاح من مفاوضة يكون الأساس فيها أن مصر هي المطالبة وإنجلترا هي صاحبة الحق في المنع والإعطاء، وإنما الأساس الصالح للمفاوضة أن مصر هي صاحبة الحق في بلادها، وأنها إذا قبلت أن تراعي بعض المصالح البريطانية، فذلك من حسن نيتها ورغبتها في السلام والصداقة. وقد سأل مستر مكدونالد سعدا في بداءة المفاوضة: ماذا تطلبون؟ فكان الجواب الطبيعي أننا لا نطلب من إنجلترا سخاء ولا مبرة، وإنما شأن البلاد المستقلة أن تكون على الصفة التي تقدمت في الكتاب الأبيض؛ لا إملاء ولا سيطرة على الحكومة في سياستها الداخلية والخارجية، وكل ما نقص من ذلك فهو عطاء من مصر، ودليل على الهوادة والرغبة في الوفاق.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعلم سعد أن الإنجليز لم يخلوا بينه وبين الوزارة ليمكنوا له في الحكم ويثبتوا مركزه من الزعامة، ولكنهم أخلوا بينه وبين الوزارة عسى أن تكبحه أعباء الحكم ومطامعه وتكف من غيرته وشنآنه، فيسمعوا من سعد الحاكم غير ما سمعوا من سعد الزعيم، ولا يلبث المصريون أن يروا زعيمهم على حال غير الذي عهدوه وضعف غير الذي توقعوه؛ فيقال لهم إن الزعامة الوطنية ليست إلا جعجعة في الخلاء يلغط بها غير المسئولين طمعا في المناصب ومنافسة على المآرب، ثم يصبح الزعماء وغير الزعماء سواء فيما يقبلون ويرفضون، وفيما يعملون ويقولون، ويذهب عناء الأمم وجهادها مع الريح!
وعلى كون هذه النية واضحة من سوابق الإنجليز مع سعد وازدادت وضوحا في أيام الحكم وبعد تلك الأيام؛ لم يقتصر الأمر فيها على الظن والاستقرار، بل فاه بها اللورد اللنبي فعلا في السودان بعد قيام الوزارة السعدية؛ حيث راح يقول لمن يلقاه من رؤساء الإنجليز الناقمين على تلك الوزارة: «لقد وضعت زغلولا في قفص! وسنرى كيف يخرج منه أو يبقى فيه.»
ولعله كان يقول ذلك ليحفظ مهابته ويدخل في روع مرءوسيه أنه لم ينهزم، ولم يكن رجوع زغلول إلى مصر ثم إلى الوزارة على كره منه وبغير تدبير مقصود على حسب رأيه، ولكنه لم يقل في الحقيقة غير ما ينويه، وينويه معه رجال دوننج ستريت.
ولا شك أن مستر مكدونالد كان يود - بل كان يتمنى - أن ينجح في حل القضية المصرية وإبرام الاتفاق بصددها مع سعد زغلول، إلا أنه كان يود ذلك لنجاحه هو في توطيد وزارته المتداعية وإرضاء المحافظين والأحرار عن بقائه، والحل الذي يرضي المحافظين عن وزارة عمال متداعية يريدون إسقاطها لن يكون نجاحا لسعد ولا نجاحا للقضية المصرية.
ولقد دلت الطوالع من أحاديث مكدونالد وتصريحاته على العواقب التي يرجى أو يخشى أن تؤدي إليها، فإن مكدونالد كان يعلم أن سعدا لا يقر تصريح 28 فبراير، وأن هذا التصريح لم يتيسر إعلانه في مصر إلا بعد أن يمهد بنفيه إلى سيشل، وأنه إذا جرت مفاوضات مع سعد فليس بالمعقول أن يقبل دخولها على أساس هذا التصريح، ومع هذا كان مكدونالد لا يفتأ يعلن مرة بعد مرة أن التصريح هو أساس ما يدعو إليه من مفاوضات، وأن السياسة البريطانية لا تتحول في هذا الموضوع، ولو أنه قال إن المفاوضات حرة من كل قيد لما اعتبر ذلك نزولا من الحكومة البريطانية عن تصريحها، ولكنه كان ييسر للزعيم المصري دخول المفاوضات على ذلك الأساس. فكأنما كان المقصود هو اضطرار سعد عاجلا إلى الاعتراف بما لم يكن يعترف به قبل الوزارة وهو يقدم على مفاوضات لا يضمن فيها النجاح، وقد يكون كل ما يصيبه منها أن ينقض موقفه بيديه وأن يقيم الحجة عليه لخصومه، وأن يسجل على نفسه التقلب من أجل المناصب الحكومية من النقيض إلى النقيض.
وما جاءت هذه المفاوضات إلا بعد مطاولة في المواعيد وتقاذف بالخطب والتصريحات وحوادث مدبرة في مصر والسودان، وعزي في أثناء ذلك إلى مستر مكدونالد حديث جاء فيه أنه «حدثت في الوقت نفسه حوادث يؤسف لها في السودان، تقع المسئولية في حدوثها على الحكومة المصرية بلا جدال. وإني معتقد تمام الاعتقاد أن القلاقل الحديثة دبرها بعض أعضاء الحكومة المصرية، وأن دولة زغلول باشا غض الطرف عن أعمال المتطرفين».
ثم انتهى الحديث بوعيد جاء فيه أنه «لا يمكن بحال ما أن يكون هناك محل للكلام في جلاء الجنود البريطانية عن مصر، أو إبعاد القوات البريطانية عن منطقة القناة وفي استطاعتي أن أقول إننا أعددنا العدة التامة لجميع الطوارئ»، فأغضى سعد عن هذا الوعيد، واكتفى بأن صرح في حديث مع مراسل الديلي إكسبرس بأنه أخذ تذكرة العودة إلى مصر في يوم 17 سبتمبر - وكان يومئذ في باريس - ثم قال إنه ظل ينتظر أن تعين الحكومة البريطانية الزمان والمكان للاجتماع، ولكنه لا يرغب أن ينتظر أكثر من ذلك الآن وبعد أن صرح مستر مكدونالد بأن مواعيده المقبلة لا تسمح له بترتيب موعد قريب للمقابلة.
فكان لهذا التصريح أثره، وكذب مستر مكدونالد الحديث المعزو إليه قائلا إنه دهش أشد الدهش لسماع ما عزي إليه ... ووصف أقوال المراسل بأنها مناورة خبيثة مما يسمونه صحافة!
وكتب مستر مكدونالد إلى سعد قائلا إنه يرغب رغبة شديدة في الاشتراك في إعادة حسن التفاهم في العلاقات بين البلدين، وإنه يكون مسرورا لمقابلته بلندن في أواخر هذا الشهر.
وعلى ذلك سافر سعد إلى لندن، فكان من المصادفات التي لها دلالتها أن وفد السودان الذي استقدمته الحكومة الإنجليزية لتمثيل السودان في معرض ويمبلي كان بين المستقبلين على المحطة عند وصول سعد إلى العاصمة الإنجليزية، وكان أشد الهاتفين هتافا لاستقلال وادي النيل، وشارك السودانيين رهط من أبناء الهند وفارس، فجعلوا يهتفون بلغاتهم وباللغة الإنجليزية لزعيم الشرق الكبير، وكذبوا بذلك ما يقال من أن هذه المظاهرات لا تحصل حيث حصلت إلا بتدبير وتحضير.
أنذرت الظواهر بالفشل من أول لقاء، وكأن مستر مكدونالد لم يكفه ما هنالك من النذر والعلامات، فعمد إلى «مناورة» صبيانية لا خير فيها غير التكدير والإساءة والإغراء بالتشاؤم والعناد؛ فبعد أن استقبل سعدا في حجرة بيته معتذرا بالمرض والإعياء، جاءته رسالة على حين غرة، فوثب مهرولا إلى الديوان، ونسي مرضه وإعياءه، وخرج يعتذر في غير اكتراث وكأنه يقول: «هناك مسائل لحجرة البيت ومسائل للديوان!» ولعله استكثر من رئيس وزارة مصرية أن يأنف من مطاولة المواعيد ويستوثق من أساس المفاوضة قبل البدء فيها كما فعل سعد ... فأراد أن يريه بهذه المناورة الصبيانية مبلغ ما تستحقه قضية مصر عند رئيس وزارة بريطانيا العظمى من الاحتفاء والاهتمام.
وانقطعت المفاوضات في أوائل أكتوبر ولم تكد تستغرق الأسبوع. وقال سعد لمراسلي الصحف الإنجليزية: ... لاحظت مع ذلك أن وزارة مكدونالد ترتطم الآن بصعاب عديدة جعلتها مهددة بالسقوط. وقال لي مستر مكدونالد - بالرغم من كثرة شواغله - إنه على استعداد للمناقشة وإياي، ولكني أختار المناقشة مع رجل أكثر حرية وأقل مشغلة منه، وهو محاط بالشواغل من كل جانب.
ولا يظن ظان أنني أتيت إلى لوندرا لأوقع على اتفاق يمس حقوق مصر! فمن ظن هذا وقع في الخطأ. إنني أتيت لأكسب لا لأخسر. فإذا كنت لم أكسب شيئا فإنني لم أخسر شيئا.
وقال في حديث مع الماتان بعد عودته من باريس:
إن المحادثات فشلت نظرا للتمسك بحفظ قوات بريطانية على قناة السويس ... وإنما إذا كانت حماية القطر المصري للقناة تلوح غير كافية، فقد يقبل المصريون أن يضعوا القناة تحت حماية عصبة الأمم. وإن مصر لا يسعها أن تتخلى عن السودان.
وقال في حديث مع البتي باريزيان:
إني قبل الدخول في المحادثة اشترطت أن الشروع في المباحثات لا يمكن على أي وجه من الوجوه أن يمس حقوق مصر أو يضر بها. ثم إن هناك أمرا تم التسليم به، وهو أنه إذا أفضت المحادثات إلى مفاوضات، فإن هذه المفاوضة تجري على حد المساواة التامة، أو تكون مفاوضة الند للند.
فيرى من جميع ما تقدم أن سعدا الزعيم لم يسلك في الوزارة إلا كما ينبغي أن يسلك الوزير المحنك الخبير بعواقب الأمور. إنهم كانوا يسوقونه إلى شرك لا مفر له من الوقوع فيه أو النجاة منه، وقد اختار هو النجاة واختار لها آمن طريق، وليس في مقدور ناقد أن يدله على طريق آمن ولا أجدى عليه وعلى القضية الوطنية مما توخاه.
نعم، كان في الوسع تأجيل المفاوضة إلى موعد آخر، ولكن ماذا عسى أن يفيد هذا التأجيل؟ إن مستر مكدونالد إذا سقط فليس الذي يليه بأسهل قيادا منه ولا أقرب إلى إجابة المصريين، فالدخول في المحادثات كان ضربة لازب، وكان ضربة لازب أن تفشل، وكان ضربة لازب مع هذا التقدير أن يسلك سعد في مفاوضاته وفي علاقاته بالسياسة البريطانية مسلك الزعيم، وهو بعينه مسلك الوزير القدير والسياسي الخبير.
على أن المتاعب قد صادمت الوزارة السعدية من اللحظة الأولى، ولا سيما في مسألة السودان. فلما أراد أن ينص في خطاب العرش على الاستقلال التام لمصر والسودان، حال بينه وبين ذلك عبارة الإنذار الذي وجهته بريطانيا العظمى إلى جلالة الملك مباشرة - في عهد الوزارة النسيمية - لاشتمال الدستور على اسم «ملك مصر والسودان». ولم يشأ صاحب العرش أن يستهدف لأزمة أخرى من ذلك القبيل؛ فاستغنى سعد عن عبارة تحقيق الاستقلال التام لمصر والسودان بعبارة «تحقيق الأماني القومية بالنسبة لمصر والسودان».
وهي العبارة التي أوشكت أن تدفع بسعد إلى الاستقالة، حين تعرض النواب لها بالتعديل والتفسير، وقد أتبعها في بعض أحاديثه بتفسير يقول فيه: إن الآمال القومية هي الاستقلال التام.
وما زالت مسألة السودان مثار السؤال والجدل والإحراج والتعنت من خصوم سعد الإنجليز والمصريين في وقت واحد، كلا الفريقين يريد أن ينقلب المنصب الوزاري على سعد شركا مرديا، وكلاهما يريد أن يرى كيف يعجز ويفشل، ولا يريد أن يرى كيف يقتدر وينجو بكرامة الزعامة وكرامة القضية.
فالمعارضون في مجلس النواب يطالبون بعرض ميزانية السودان كما كانت تعرض على مجلس الشورى، وهي أحرى أن تعرض على أول برلمان.
والموظفون الإنجليز في السودان يجمعون الأذناب والأتباع ليعلنوا ولاءهم للحكومة البريطانية دون غيرها، واستمساكهم بالتبعية والإخلاص لتلك الحكومة العادلة المحبوبة تعريضا بحكومة المصريين.
وإذا قوبلت هذه المظاهرة بمظاهرة من السودانيين المتعلقين بوحدة وادي النيل حل بهم البطش الشديد، وحاق بهم العذاب الأليم.
فإذا شكوا إلى الحكومة السعدية - وليس لهم من يشكون إليه غيرها - فخصوم سعد الإنجليز يمعنون في إحراجه بزيادة البطش والتعذيب، وخصومه المصريون يمعنون في إحراجه بطلب الإفراج عن المعاقبين، وتعجيل الحساب والعقاب للموظفين المسئولين، وكان من هذا وذاك أنه استقال، ولم يكد يمضي على الوزارة ثلاثة أشهر.
استقال بعد تصريح اللورد بارمور باسم الحكومة البريطانية - حكومة العمال - «بأن الحكومة البريطانية لن تترك السودان بأي معنى كان».
فأجاب سعد على هذا التصريح بتصريح مثله في مجلسي النواب والشيوخ جاء فيه:
إنني بالنيابة عن الشعب المصري جميعه، وفي حضرتكم الموقرة، أصرح بأن الأمة المصرية لن تتنازل عن السودان ما حييت وما عاشت ... إن حقوق الأمم لا تضيع بمجرد أن يقول الغاصب إني أريد أن أتمتع بها دون أصحابها ... نعم أيها السادة، لا يمكننا مطلقا أن نتنازل عن السودان، لا لأنه مستعمرة، بل لأنه جزء من كياننا، بل لأنه منبع حياتنا، بل لأنه لا يمكن لمصر أن تعيش بدون السودان أصلا.
وربما ظنت الحكومة البريطانية أنها تبيح نفسها مثل ذلك التصريح دون أن يجسر سعد على إباحة مثله نفسه؛ لأنه قائم في منصب الوزارة، فيسمعه ويغضي عنه ويذهب إلى المفاوضة وهو مسلم به سكوتا قبل أن يسلم به مقالا! فكانت إجابته على التصريح بمثله حتما، وكان حتما معها أن يعرب عن زهده في الوزارة التي يحسبونها قيدا له يجبره على الإغضاء، وقد استقال فرفض الملك قبول استقالته، وأبدى له - كما أبدى الشيوخ والنواب - أن فيما صرح به الكفاية للرد على التصريحات الإنجليزية.
لم يكن المقصود إذن أن يرى خصومه الإنجليز والمصريون كيف يعمل في الوزارة، بل كان المقصود أن يروا كيف يعجز عن العمل، وكيف يتغير في الوزارة ويخل بأمانة الزعامة، فلا هو وزير ولا زعيم، وليس له وهو محاط بهذه النيات المدخولة أن يصنع غير ما صنع وأن يعالج الشرك المنصوب بغير ما عالجه به من ثبات ومراس، هما في وقت واحد إقدام الزعامة وحيلة السياسة، وإخلاص المجاهد وحيطة الأريب.
ولقد أصيبت وزارة سعد بالإجرام كما أصيبت بالإحراج، فوقعت في عهدها جنايتان وبيلتان، إحداهما موجهة إلى حياته والأخرى موجهة إلى وزارته، وكلتاهما في اعتقاد سعد من تدبير واحد.
أما الجناية الأولى، فهي حادثة الاعتداء عليه في محطة العاصمة، حين كان ينتوي السفر إلى الإسكندرية لحضور تشريفات عيد الأضحى (12 يوليو سنة 1924).
اعتدى عليه شاب مفتون من أعداء المفاوضات؛ لأنها في رأيهم تصد الأمة عن سبيل الجهاد الناجع، وقال في التحقيق إنه تعمد إرهاب سعد؛ لأنه يرغب في المفاوضة، ولأنه قال: «إن الإنجليز خصوم شرفاء معقولون.»
وقد أصابته الرصاصة في الساعد الأيمن ثم في صدره، وحاول الجاني أن يطلق غيرها فتكاثرت عليه الجماهير، وهموا بتمزيقه لولا رجال الشرطة الذين أحاطوا به فأنقذوه. ومن غرائب ما حدث في هذا الاعتداء أن المسدس الذي كان مع الجاني اختفى عقب الاعتداء فلم يعثر له على أثر، وشهد محام كان على مقربة من الجاني أنه رأى ضابطا إنجليزيا من ضباط الشرطة يخفيه في جيبه، وأنكر الضابط ذلك واعترف بأنه أخفى شيئا في جيبه، ولكنه كان مقبض المنشة التي كان يحملها وانكسرت في الزحام.
وأشرف على التحقيق بعض الوزراء، واستمر على الإشراف عليه حسن نشأت باشا وكيل وزارة الأوقاف يومذاك، وبعد بحث طويل أحيل الجاني إلى الكشف الطبي، فقرر الدكتور «ددجن» كبير الأطباء العقليين أنه مجنون، وتقرر اعتقاله في مستشفى المجاذيب، وهو المعتدي الوحيد على الوزراء الذي صار إلى هذا المصير.
لقد تبينت شجاعة سعد منذ صباه في شدائد السجن والنفي والاضطهاد، كما تبينت شجاعته بالجهر برأيه وإمضاء عزمه، ولو تصدى لإغضاب أقوى الأقوياء ... ففي هذه الجناية تبينت منه شجاعة أخرى قد لا يتاح ظهورها كثيرا في حياة الأبطال المجاهدين بسلاح الحجة والإيمان لا بسلاح النار والحديد، وتلك هي شجاعة الرجل في وجه الموت الداهم وهو منه على يقين؛ فقد نفذت الرصاصة إلى صدره، وهو مصاب بشتى الأمراض التي لا تؤمن معها الجراح إذا نجا صاحبها من الموت بفتك الرصاص، فما وجم ولا تردد ولا فكر لحظة فيما أصابه، ولبث كأنه ينظر إلى مصاب أحد لا يعنيه، والتفت إلى الوزراء الباكين حوله يقول لهم: «لا تحزنوا، ولا تبتئسوا، إذا مات سعد فمبدأ سعد باق لا يموت، اعملوا من بعدي، وثابروا على تحقيق سعيي.»
ولما قال بعض الوزراء: إن الله أرحم بمصر من أن تصاب بسوء، عاد يقول: «وماذا في ذلك؟ نحن ميتون، فلنمت نحن وليحي الوطن.»
ونظر إلى جماهير الطلبة والشبان وهي تندفع على باب الحجرة التي نقل إليها، فوثب على قدميه وجرحه لا يزال ينزف، وناداهم بصوت جهير يضرم الحمية في النفوس: «لا تكتئبوا ولا تهتموا، إلى الأمام دائما، إلى الأمام!» ثم قالها بالفرنسية
Enavont Enavont . أما الجناية الثانية - وهي التي اعتبرها سعد موجهة «ضده» كما قال عند سماع خبرها - فهي حادثة الاعتداء على «السردار» لي ستاك باشا بعد عودته من المفاوضة بنحو شهر واحد.
فقد عاد سعد من المفاوضات، فوجد خصومه مجدين في محاربته بالشغب تارة والدسيسة تارة أخرى، وسعى هؤلاء الخصوم بالوقيعة عند الأزهريين؛ لأنهم يعلمون من ماضي سعد أنه هو صاحب الرأي قديما في إنشاء مدرسة القضاء الشرعي التي تخرج القضاة الشرعيين، وأن الأزهريين كانوا ينقمون من نشأة هذه المدرسة؛ لأنهم يطلبون أن تنحصر فيهم وظائف القضاة وما إليها من وظائف التعليم الديني وتعليم اللغة العربية قبل السماح بإجراء الإصلاح في برامج التعليم الأزهرية، وكانوا قد عرضوا على الوزارة السعدية مطالب لتحسين أحوالهم فألفت الوزارة لجنة خاصة لدرسها والإشارة بما تراه فيها، وعاد سعد من المفاوضات فاستثارهم خصومه مدخلين في روعهم أن مدرسة القضاء عائدة وأن مطالبهم غير مجابة؛ فخرجوا في الطرقات يتظاهرون ويهتفون ويعرضون بسعد في هتافهم مهددين متوعدين، ونسوا أو نسي صغارهم أن أمر المعاهد الدينية بيد الملك لا بيد الوزارة، فإذا تأخرت إجابة المطالب، فليست الوزارة صاحبة الرأي الفصل في التأخير أو في الرفض والقبول.
ثم تعاقبت أمثال هذه الدسائس والسعايات، واجترأ بعض الموظفين على الخوض فيها والحض عليها لاعتقادهم أن الجهات العليا ترحب بإضعاف الوزارة السعدية وتنفير الناس منها، ولا سيما رجال الدين والموظفين.
وكان يساعد على سريان التذمر بين طبقة الموظفين أن الوزارة فكرت في إصلاح نظام الدرجات والترقية والتعيين، فخشي جمهرة منهم أن يتبع ذلك نقص المرتبات أو الاستغناء عن بعض الوظائف، واستقال أحد الوزراء وهو محمد توفيق نسيم باشا المعروف بعلاقاته بالقصر الملكي، فكان هذا وأشباهه من دواعي الظن بقرب أيام الوزارة وسهولة الخروج عليها والإساءة إليها.
وهكذا توالت الأزمات والمشكلات والمساعي الظاهرة والخفية، فبرم سعد بما يلقاه من كل ذلك، وقدم استقالته إلى جلالة الملك في منتصف شهر نوفمبر مبينا لجلالته الأسباب الصريحة التي تدعوه إلى الاستقالة، وفيها أن أناسا من كبار الموظفين المنسوبين إلى القصر يستخدمون اسم جلالته لمحاربة الوزارة في الخفاء ... فقال له جلالته: إنه يثق به ويعتمد عليه، ورغب في عدوله عن عزمه، فاعتذر بأنه قد فرغ من التفكير في هذا الموضوع.
فقال الملك لنبق المسألة إذن إلى غد. وحدث في هذه الأثناء أن الشيوخ والنواب أوفدوا إلى جلالة الملك من يتوسل إليه أن لا يقبل الاستقالة، وأوفدوا إلى سعد من يرجوه العدول عنها. فقبل أخيرا أن يستعفي من الاستعفاء - كما قال - ولكنه طلب إلى جلالة الملك - توكيدا للثقة وقطعا لدسائس الدساسين - أن تدخل مسائل الأزهر والمعاهد الدينية ومناصب السلك السياسي ومناصب القصر والرتب والنياشين في اختصاص مجلس الوزراء. ولكل طلب من هذه الطلبات سبب من الحوادث التي مرت بالوزارة السعدية وبخاصة في الأيام الأخيرة.
فهو يريد أن تنظر الوزارة في مسائل الأزهر ليكون مسئولا حقا عن الإصلاح لا ليحرجه المحرجون بطلب الإصلاح، ويمنعوه عمدا مبالغة في الإحراج، وهم يتظاهرون بصداقة الأزهريين.
ويريد أن تنظر الوزارة في مناصب السلك السياسي لئلا يتمادى الوزراء المفوضون والسفراء في إحراجها مع الدول - كما حدث من بعضهم في أوائل قيام البرلمان - وهم آمنون ما يستحقون من جزاء.
ويريد أن تنظر الوزارة في مناصب القصر والإنعام بالرتب والنياشين؛ لأنه طلب إقصاء حسن نشأت باشا من وكالة الأوقاف فنقل إلى القصر، وجاء على أثر ذلك إلى شرفات مجلس النواب وهو يتشح بالوشاح الأكبر من نوط النيل، وقد أنعم به عليه بغير رأي الوزارة.
فأجاب الملك سعدا إلى هذه الطلبات، ووعده أن تضاف إلى الدستور، وأن يشرع في ذلك عقب رد الاستقالة إذا شاء، هذا في اليوم السادس عشر من نوفمبر، وفي اليوم السابع عشر أعلن سعد في مجلسي النواب والشيوخ أنه «تشرف أمس بمقابلة جلالة الملك، فأعرب له أنه متفق تمام الاتفاق مع الأمة ومجلسي الشيوخ والنواب في الثقة بالوزارة، وأنه أمام هذا الإجماع لا يسعه قبول استعفاء الوزارة؛ وبناء على هذا وعلى التصريحات التي لطفت من عبء العمل عليه ومن عنائه، لم ير بدا من سحب الاستقالة والعود إلى العمل في حدود صحته».
سبق إلى بعض الظنون أن الوزارة سوف تستريح برهة بعد عودته إلى العمل لتتفرغ لشئون الإصلاح التي شغلتها عنها الأزمات السياسية، ولكن لم يمض يوم واحد حتى وقع الاعتداء على حياة السردار «لي ستاك باشا»، وهو خارج من وزارة الحربية، ولسوء الحظ كان الرجل على نية السفر إلى السودان قبل ذلك بيوم، ثم أرجأ سفره لحضور مأدبة أقيمت له في القاهرة، فصادفته المنية على أيدي أولئك الجناة.
ولو شاءت السياسة البريطانية لعلمت أن جناية كهذه قد وقعت في العاصمة الإنجليزية - وهي قتل المارشال ويلسون - فلم يقل أحد: إنها دليل على خلل الحكومة أو سوء النية أو التقصير في حفظ الأمن والنظام.
ولو شاءت لعلمت أن سعدا خليق أن يكره وقوع هذا الاعتداء أشد من كراهة الحكومة البريطانية؛ لأنه اعتداء يصيبه هو ويصيب وزارته ويصيب الحكومة النيابية التي يمثلها، ولا ينفعه في شيء، بل ينفع خصومه من الإنجليز والمصريين.
ولو شاءت لعلمت أنه قد أصيب باعتداء على حياته من جراء المفاوضات قبل أن ينزع الجناة إلى إصابة حاكم السودان.
ولو شاءت لعلمت أن حاكم السودان هو قائد الجيش المصري، ولا مانع يمنعه من «تقدير الظروف» وحماية حياته بما لديه من الحراس والجنود، وليس بالإنصاف ولا بالميسور أن تطالب الوزارة السعدية بعناية أكبر من عناية الرجل نفسه، وفي البلاد «إدارة أوروبية» للأمن والاستعلامات لا يفوتها الانتباه والتحذير.
ولكن السياسة البريطانية لم تشأ أن تعلم شيئا من ذلك وهو معلوم غير مجهول، وكل ما شاءته أنها اغتنمت الفرصة كأنها كانت في انتظارها، أو كانت تشفق أن تضيع منها، وهي قد كانت حقا في انتظار فرصة تزعج بها الوزارة السعدية جهد ما استطاعت من إزعاج.
قال اللورد جورج لويد في الجزء الثاني من كتابه «مصر منذ عهد كرومر»:
تخلت وزارة مستر رامزي مكدونالد عن الحكم في نهاية أكتوبر، وخلفتها وزارة محافظة تولى فيها مستر أوستن شمبرلن وزارة الخارجية، وكان مستر مكدونالد يفكر - بمعاونة المندوب البريطاني - في توجيه تبليغ إلى الحكومة المصرية يسرد لها المخالفات المكررة التي خالفت بها النظام المتبع أو الحالة الواقعة، فواصل مستر شمبرلن بحثه مع القاهرة في الصيغة التي يفرغ فيها هذا التبليغ، وكانت هذه المخالفات تزداد أثناء ذلك، وآخرها رفض زغلول في الثامن عشر من نوفمبر بقاء وظيفة المستشار القضائي وامتناعه من تجديد العقد للسير إيموس الذي كان يشغلها إذ ذاك.
سنحت الفرصة إذن فينبغي ألا تضيع، وبلغ من التهافت على انتهازها أنهم لم يكلفوا أنفسهم مشقة إخفاء النية المبيتة وراءها؛ فجاء في الإنذار البريطاني أنهم يطلبون من الحكومة المصرية «أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة، فبدلا من أن تكون ثلاثمائة ألف فدان تكون غير معينة المقدار على نسبة ما تقتضيه الحاجة» ... وجاء في ملحق الإنذار «أن القوانين والشروط الخاصة بخدمة الموظفين الأجانب الذين لا يزالون في خدمة الحكومة المصرية وتأديبهم وخروجهم من الخدمة؛ يجب أن يعاد النظر فيها وتنقح طبقا لرغبة الحكومة البريطانية»، وأنه «إلى أن يتم الاتفاق بين الحكومتين على موضوع حماية مصالح الأجانب في مصر، تحافظ الحكومة المصرية على مركز المستشار المالي ومركز المستشار القضائي، وتحترم سلطتهما وامتيازاتهما كما نص عليهما عند إلغاء الحماية، وتحترم بالمثل مركز المكتب الأوروبي في وزارة الداخلية، ومعهما المالية كما حددت بالقرار الوزاري، وتأخذ بعين الاعتبار المشورة التي يقدمها مديره العام في الأمور الداخلة في اختصاصه».
أما الطلبات الأخرى فمنها الاعتذار الوافي الكافي، وقمع كل مظاهرة شعبية سياسية، ودفع نصف مليون جنيه، وإصدار الأوامر برجوع الضباط المصريين والوحدات المصرية البحتة في الجيش المصري من السودان خلال أربع وعشرين ساعة ... ومهد لهذه الطلبات بعبارة جاء فيها أن حكومة جلالة الملك «ترى أن هذا الاغتيال - الذي يعرض مصر بالحالة التي تحكم بها الآن إلى ازدراء الشعوب المتمدينة - هو النتيجة الطبيعية لحملة عدوانية على حقوق بريطانيا العظمى وعلى الرعايا البريطانيين في مصر والسودان».
وعلم اللورد اللنبي أن أمنيته المرقوبة قد حانت آخر الأمر؛ فاحتفى ما شاء بمظاهر التخويف والتشفي والإرهاب، وذهب في ركب يتقدمه مئات من حاملي الرماح إلى مجلس الوزراء، وأعلن وصوله بنفخ الأبواق وقعقعة السلاح، فلم يتمالك سعد - كعادته - أن يلمح الجانب المضحك من هذه المبالغة في استغلال فاجعة أليمة، وقال واللورد اللنبي يدخل عليه: «ماذا؟ هل أعلنت الحرب؟!»
أما جواب الحكومة المصرية على الإنذار، فقد قبلت فيه ما له علاقة بالجريمة كالاعتذار ودفع التعويض واقتفاء أثر الجناة ومنع المظاهرات المخلة بالنظام، ولم تقبل ما عدا ذلك من المطالب التي لا علاقة لها بسبب الإنذار، فما هي إلا ساعات حتى أخذت البلاغات تتعاقب من اللورد اللنبي بأنه أمر حكومة السودان أن تسرح الضباط المصريين، وأن تطلق يدها في زراعة الجزيرة، وأنه سيتخذ ما شاء لحماية الأجانب، وأنه سيحتل الجمارك، ويتبع ذلك بضروب أخرى من النذر والقوارع.
وكانت الوزارة قد رفعت استقالتها إلى جلالة الملك، فلما تعاقبت هذه التبليغات كتبت إلى جلالته عريضة تقول فيها إنها «إزاء هذه التعديات المتتالية المضرة بالبلاد، لا يسع الوزارة إلا أن تلح على جلالتكم بأن تتفضل بالإسراع في قبول الاستقالة؛ لأنه ربما كان في هذه الاستقالة وفي قبولها ما يقي شر الأضرار المتوالية»، فقبل جلالته الاستقالة، وأعلن سعد في المجلسين قبولها، وعقب على ذلك بقوله: «كذلك أصرح لكم أنا وزملائي بأننا مستعدون بكل إخلاص لأن نؤيد في مجلس النواب الذي نحن أعضاء فيه كل وزارة تشتغل لمصلحة البلاد، ليس فينا عاطفة معارضة إلا فيما يختص بالمصلحة العامة، فإننا نخدم هذه المصلحة ونؤيد كل من يؤيد هذه المصلحة.»
وبذلك تم للسياسة البريطانية ما أرادته من إقصاء سعد، وإن لم يتم لها ما هو أفضل لديها من الاستقالة العاجلة، وهو قبول المطالب ثم معاودة الإحراج لإقصائه بعد حين.
وإن الإنسان لا يدري بعد ذلك هل تعتبر السياسة الاستعمارية هذه الحوادث من المصادفات السعيدة أو من الفواجع المحذورة؟!
فمقتل غردون في الخرطوم - وإنما قتل ؛ لأن الإنجليز القابضين على الحكومة المصرية لم يبادروا إلى إنقاذه - قد أكسب السياسة الاستعمارية نصف السودان وهو القطر الذي يعدل القارات في الاتساع وخصوبة الموارد، ولا تنال الدول مثله إلا بسفك دماء العشرات من القواد وعشرات الألوف من الجنود.
وقالت السياسة الاستعمارية يومئذ إنها لا تشارك مصر في السودان؛ لأنها تدعي حقا في ملكه أو السيادة عليه، ولكنها تريد هذه الشركة توسلا بها إلى منع سريان الامتيازات الأجنبية عليه، وهي تسري على كل قطر تابع للدولة العثمانية، وقد يكون في سريانها على السودان تعطيل لإصلاحه، وتقييد لحرية المصريين في حكمه ... وفيما عدا ذلك لا مطمع للدولة البريطانية في الحكم ولا في الاستغلال.
وباسم مصر وحقها احتجت إنجلترا على فرنسا حين احتل القائد مرشان «فاشودة»؛ لأن التعليمات قد صدرت «بتوطيد السلطة المصرية على ذلك الإقليم».
وباسم مصر وحقها دفعت الخزانة المصرية أكثر من عشرين مليونا من الجنيهات لتعمير السودان وحراسته وتحصينه وتسديد العجز في موارده!
ثم جاء مقتل لي ستاك بعد مقتل غردون بنحو أربعين سنة؛ فضيع على مصر كل ما بذلته من مالها ودمها في العصور القديمة والحديثة، ونقل ذلك حلالا زلالا سائغا إلى أيدي السياسة الاستعمارية تتخذه ذريعة إلى زرع ما تشاء من الأرض، وإقصاء جميع الموظفين المصريين، وطرد الجيش المصري كله، مع تكليف الخزانة المصرية سبعمائة وخمسين ألف جنيه للدفاع عن السودان!
إن السياسة الاستعمارية لو راجعت نفسها لحارت كما نحار نحن؛ فلم تدر هل هذه الحوادث من المصادفات السعيدة أو من البلاء المحذور!
ونعود إلى مصاعب الوزارة السعدية فنقول: إن الشواغل والأزمات لم تكن موقوفة على العلاقات المصرية الإنجليزية وحدها وما يتفرع عليها؛ فإن الوزارة السعدية لم تقم في الحكم أياما حتى قابلتها مشكلة عسيرة مع الحكومة الإيطالية، وهي إلحاح هذه الحكومة في تسليم عشرة من اللاجئين السياسيين من أهل طرابلس قدموا إلى مصر، واعتقلتهم الوزارة الإبراهيمية قبل قيام الوزارة السعدية. وكانت حكومة موسوليني تأبى أن تقنع بما دون التسليم، وثارت ثائرة الأمة المصرية لهذه المطاردة العنيفة لأناس لم يقترفوا من وزر إلا الدفاع عن حرية بلادهم كما يحق لكل إنسان، بل كما يجب على كل إنسان، واحتدمت النفوس غيظا من هذا اللدد الغريب في ملاحقة اللاجئين بالعقاب بعد أن هجروا ديارهم وألقوا سلاحهم وذاقوا مرارة الخيبة والهزيمة، كأنما هم الواترون وإيطاليا هي الموتورة المعتدى عليها التي لا ينبغي لها أن تنسى جزاء الوتر والعدوان.
والطرابلسيون بعد جيران المصريين وإخوانهم في اللغة والدين وفي قضية الحرية والاستقلال، والوزارة السعدية لا تشعر إلا بهذا الشعور، ولا يجمل بها - وعلى رأسها زعيم المجاهدين الوطنيين في الشرق العربي - أن تسلم بيديها أولئك الغرباء المساكين للموت والبلاء؛ فرفضت تسليمهم وأصرت على الرفض كل الإصرار، وخشيت في الوقت نفسه أن يتفاقم الخلاف بينها وبين الحكومة الإيطالية تفاقما يجر إلى دخول الحكومة البريطانية في القضية؛ لأنها مسئولة - كما تدعي - عن حماية الأجانب وعن علاقات مصر الخارجية، حيث يؤذن الخلاف بتعريض مصر لاعتداء أو تهديد من إحدى الدول القوية؛ فتوسط سعد في فض هذه المشكلة بحل لا يسخط الحكومة الإيطالية كل السخط وإن كان لا يرضي المصريين كل الرضى، واكتفى بإطلاق اللاجئين المعتقلين ليبرحوا القطر إلى حيث يشاءون.
ولم ينته الخلاف مع إيطاليا بهذه المشكلة، بل نشبت بعدها مشكلة أخرى لإكراه الحكومة المصرية على ضم واحة جغبوب إلى البلاد الطرابلسية، وقد استغرب الناس هذا التحرش بالوزارة السعدية من الحكومة الإيطالية، حتى بدر إلى ظنهم أنها مغراة بذلك من أناس يتصلون بها، ويجوز أن يحرضوها على خلق الأزمات لإحراج سعد وتكبير المصاعب عليه، وطال الأخذ والرد في هذه المشكلة، حتى انتهت بالاتفاق بين قائد السلوم ومندوب الحكومة الإيطالية على حد موقوت بين مصر وطرابلس تدخل به جغبوب والسلوم في الأرض المصرية، وسرعان ما عادت الحكومة الإيطالية وحدها إلى تغيير هذا الحد بغير مشاورة ولا استئذان!
يضاف إلى هذه المشاكل كلها شواغل البرلمان الأول التي لا بد منها؛ فقد كان على الوزارة البرلمانية الأولى أن تعرض عليه جميع القوانين والمعاهدات التي حدثت بعد فض الجمعية التشريعية ، وكان عليها وعلى البرلمان أن يشتركا في ترتيب نظامه الداخلي وعلاقته بالوزارة ومصالح الحكومة، وأن يشتركا في تعديل قانون الانتخاب على الوجه الذي يرضاه السعديون، وهم لا يرضون عن قانون الدرجتين.
والبرلمان هل كان يخلو من صعوباته؟ وهل كانت الوزارة السعدية لا تحسب حسابه إلا لتستعين به على خصومها في جميع قراراته ومناقشاته؟
كلا! فقد كانت لأبي الديمقراطية المصرية صعوباته ومساجلاته أيضا مع البرلمان بمجلسيه من نواب وشيوخ، وكان يحتاج أحيانا إلى قوته كلها ليروض بها قوة هذا البرلمان. ولا نعني المعارضة وحسب؛ فإنها لم تكن تتجاوز عشر المجلسين في عدد الأعضاء، ولكننا نعني الأعضاء الوفديين، وهم أنصار سعد وأبناؤه ومريدوه، وكانت تتألف منهم الهيئة الوفدية التي اكتمل تأليفها بعد انعقاد البرلمان بنحو شهرين لتنظيم المناقشات ومنع الاحتكاك بينها وبين الوزارة، وقال سعد في خطابه لأعضائها من مجلس النواب:
النظام يتطلب من كل منكم أن ينزل عن جزء يسير من حريته حتى تجتمع الحرية كاملة من هذه الأجزاء للهيئة التي قبلتم العمل تحت لوائها، والحرية متوافرة من قبل في اختيار الهيئة التي تتضامنون معها واختيار النظام الذي تسيرون عليه، فلا معنى للقول بأن الحرية تنعدم مع النظام. إن الحكومة منكم وأنتم عضد الحكومة، فيجب أن تكون هيئتكم منظمة ليمكن أن يكون سير الحكومة منظما.
ومع هذا لم تخل جلسات الشيوخ والنواب من معارضة للحكومة في أمور أصرت فيها الحكومة على رأيها وأصروا فيها على رأيهم، فلم يرجعوا عنه بعد طول المساجلة والجدال.
أودعت الحكومة القوانين الني صدرت قبل اجتماع البرلمان مكتب مجلس النواب، وفيها قانون الاجتماعات المنظم لحق الاجتماع المباح بحكم الدستور في حدود القانون، فنظر مجلس النواب هذا القانون في غيبة الوزارة دون أن يكون مدرجا بجدول الأعمال، وقرر إلغاءه بلا تقييد ولا تعديل؛ فجاء سعد في الجلسة التالية (2 يوليو)، ولاحظ على مبدأ نظر القوانين في غيبة الحكومة المصرية قائلا:
إن المسألة التي أريد عرضها على حضراتكم هي أنكم نظرتم قانون الاجتماعات مع أنه غير وارد بجدول الأعمال، ولم تكن الحكومة حاضرة؛ فهل يجوز أن يتخذ مثل هذا القرار في غيبة الحكومة؟! هذا ما أردت طرحه على حضراتكم لإبداء الرأي فيه.
فقال أحد الأعضاء:
المجلس صاحب الحق المطلق في جدول أعماله، فموضوع البحث هو: هل للمجلس - إذا لم تكن الحكومة ممثلة - أن يغير جدول أعماله قبل أن يخطرها بذلك أم لا؟ فيجب أن تقرر أولا أن الحكومة تعمل على تمثيل نفسها دائما في المجلس لتتوقى مثل هذه المسائل، والذي أفهمه أن مكتب المجلس كان يجدر به أن يخطر الحكومة من باب المجاملة ....
فقال سعد:
ليست المسألة مسألة مجاملة. إني لا أقبل المجاملة في هذا! ومحل ذلك في المسائل الشخصية، ولكني أعرض المسألة الآن رسميا، وليس هذا حق الحكومة فقط، بل حق كل عضو علم بجدول الأعمال ولم يحضر الجلسة ثم عدل جدول الأعمال فله أن يعترض، وأولى بالحكومة أن تعترض على ذلك باعتبارها الطرف الآخر «طرفا مهما» ... وأن مصلحة المجلس تقضي بإعلانها؛ لأنها إذا كانت لا تقبل قرارا صدر في غيبتها، فلها أن ترده للمجلس لا من باب المجاملة بل من باب الإلزام.
واحتدت المناقشة طويلا، ثم أصرت الحكومة على رأيها وأصر المجلس على رأيه، وغاية ما سمح به أن تنتظر الحكومة الفرصة التي تسنح عند إعادة القانون في مجلس الشيوخ إذا أعاده إلى مجلس النواب، أو تتقدم إلى مجلس النواب بقانون اجتماعات جديد، أما الإلغاء فلا رجوع فيه.
وعرض القانون على مجلس الشيوخ فعدل بعض أحكامه ولا سيما في العقوبات، وعلم وكيل الداخلية أن الحكومة ستنهزم في المناقشة، فاستنجد بوزير الداخلية محمد توفيق نسيم باشا، ودارت المناقشة بعد حضوره كأشد ما تكون بين خصمين متناجزين، ثم سأل رئيس المجلس: ما هو رأي الحكومة النهائي في هذه التعديلات؟
فقال سعد باشا: «إن الحكومة لا تزال عند رأيها.»
وأخذت الأصوات فإذا المجلس يؤيد التعديلات ويخذل الحكومة، ولم يكن سعد يتوقع هذا، ولكنه اغتبط به بعد ذهاب سورة المناقشة، وحمد الله «أن في مصر نوابا وشيوخا لا يقولون نعم نعم ولا لا كلما قالها الحاكم أو الزعيم».
هذه الصعوبات البرلمانية كانت تتعب الوزارة في بعض الأحايين، فاصطلحت فيها الوزارة والبرلمان على حد سواء بين الفريقين؛ فأما المسائل التي يتأزم بها مركز الوزارة والبرلمان معا، فقد كان سعد يعتصم فيها بالثقة، وكان البرلمان يجاريه فيها؛ لأنه يعلم أن ليس وراء قدرة الوزارة فيها قدرة قصرت في استخدامها. كذلك حدث في مسألة خطبة العرش وتفسير الأماني القومية، وكذلك حدث في مسألة الجزية التركية التي رأى سعد أن يبطل التزام مصر بها ويودعها في الوقت نفسه أحد المصارف انتظارا للفصل فيها محافظة على سمعة البلاد المالية، ورأى المجلس غير ذلك ثم ثاب إلى رأي سعد في ختام المناقشة، وإن لم يعرض سعد مسألة الثقة في هذه الجلسة.
وأما المسائل الأخرى فقد كان موقف سعد فيها كموقفه في قانون الاجتماعات؛ يدلي برأيه ويصغي إلى رأي النواب والشيوخ، ويعمل بما يقررون.
وبعد هذه الشواغل جميعها، لا عجب إذا كان وقت الوزارة لم يتسع لإنجاز أعمال الإصلاح التي كانت في نيتها وفي مقدروها. وهي لم تلبث في الحكم إلا تسعة أشهر تحسب منها أيام البطالة وأيام السفر وأيام الاستشفاء والعلاج. فحسبها مع هذا جميعه أنها استطاعت أن تحقق معنى الحكومة الأول وهو إطلاق الحرية للمحكومين في أوسع الحدود؛ فقد كان المصري يستمتع في عهد الوزارة السعدية بحرية واسعة لا يستمتع الإنجليزي ولا الفرنسي بأوسع منها، وكان الأنصار والمعارضون في هذه الحرية على حد سواء. فمن قرأ ما كانت تكتبه صحف المعارضين عن سعد وآل سعد ووزارة سعد، علم أن الحرية المنشودة لا تتسع في بلد من البلدان لأكبر من هذه الحقوق في النقد والمعارضة، بل في المهاجمة والتجريح.
واستطاعت الوزارة السعدية أن تشرع في إصلاح ميناء السويس، وفي مد السكك الحديدية بالوجه البحري والتمهيد لتوسيعها بين الأقصر وأسوان، وفي إنشاء الطرق الهامة بالقاهرة كطريق الأزهر وطريق الأمير فاروق، وما شابه ذلك من أعمال العمران، وأن تشرع في تعميم التعليم الإجباري حسبما تتهيأ له موارد الدولة، ولم تحجم عن تشييد الجامعة المصرية إلا لأنها كانت تفهم من معنى الجامعة أن تجعلها شيئا غير اجتماع المدارس العليا في صعيد واحد، كما قال سعد في حديثه مع كاتب هذه السطور عندما كان ناظرا للمعارف العمومية، أو كما قال وهو رئيس للوزارة: «إن الذي أفهمه أن الجامعة - بمعنى اجتماع المدارس العليا - موجودة الآن، وهي وزارة المعارف!» وهو يعني أن الجامعة التي يريد إنشاءها - وقد وضع حجرها الأول يوم كان قاضيا بمحكمة الاستئناف - هي الجامعة التي تعلم الطلاب الاستقلال بالبحث والتوسع في الإحصاء، ولا تكتفي بالبرامج المعهودة في المدارس العالية قبل إنشائها.
ترى ماذا كان شعور سعد بسلطان الحكم الذي جلب عليه جميع هذه المتاعب وحمله جميع هذه الأعباء وأحاطه بجميع هذه الدسائس والنكايات؟ أسرور؟ نعم! لا شك أنه تقبل سلطان الحكم في بادئ الأمر بشيء غير قليل من السرور والرجاء، ولكنه سرور غير سرور الضعيف المزهو بمرتبة رفعته، أو ارتفع هو لها بين سائليها والمتطلعين إليها، وإنما هو سرور الانتصار على الذين حسبوا أنهم حائلون بينه وبين هذا المكان عنوة وقهرا، فإذا هو يدركه بحوله وقدرته ولا يحتاج فيه إلى شفاعة شافع أو معونة معين؛ فهو شعور الظافر في الميدان والرابح في الرهان، لا شعور الكسب أو المتعة بالعطاء!
ولكنه سرعان ما فقد حتى هذا السرور قبل أن يستقيل ببضعة أيام؛ ففي الليلة التي استرد فيها استقالته كنت أتناول العشاء على مائدته مع بعض المدعوين، وكانت الطرقات حول «بيت الأمة» تموج بالهاتفين والمهنئين، وهو في موقف خليق أن يحسبه انتصارا على الخصوم، ونجاحا فيما طلب وفاتحة لعهد جديد. فتحولنا بالحديث إلى الحكم ومتاعب الحكام الدستوريين والمستبدين على السواء ... فقال رحمه الله وهو يزم شفتيه في امتعاض وأسف: «إن أردتم الحقيقة ... أنا غير ملذوذ!» وهكذا حوافز الحياة، أقوى ما فيها من عزاء للأقوياء العاملين أنهم قادرون على النهوض بها وقادرون على احتمال صدماتها وعقابيلها، ولولا ذلك لما ثابروا على رجائها ولا ثابروا على عنائها والعودة إليها، أما سرورها فهباء لا فرق فيه بين الأقوياء العاملين والضعفاء الحالمين.
ويلي هذا الفصل فصل عن العلاقات بين الملك فؤاد وسعد، يليه تلخيص الحوادث التي جرت في مصر بعد استقالة الوزارة السعدية إلى عودة الحياة النيابية كما يأتي.
الفصل الثاني عشر
من رئاسة الوزارة إلى رئاسة النواب
فكر سعد في بقاء الدستور بعد ذهاب الوزارة، فأعلن في خطابه - الذي ألقاه على النواب تبليغا للمجلس باستقالة الوزارة - أنه مستعد مع أصدقائه الكرام من أعضاء هذا المجلس لأن يؤيدوا كل وزارة تشتغل لمصلحة البلاد.
وأعلن مثل ذلك في ندائه إلى الأمة باعتباره رئيسا للوفد، وفي خطاب ألقاه على الجموع الذين وفدوا إلى بيت الأمة بعد استقالته حيث قال:
إنني مستعد لتأييد كل وزارة تأتي وتكون حائزة للرضاء العام، عاملة على تحقيق أماني البلاد؛ فإن الموقف دقيق جدا وأنا واثق من أني - وأنا خارج الوزارة - سأستطيع خدمة البلاد أكثر ألف مرة مما لو كنت داخلها. وتأكدوا أن الله معنا، ولا بد أن تفوز الأمة في النهاية إن شاء الله.
ولكن الغرض الأكبر في تلك الأيام لم يكن هو الخلاص من حادث السردار بوسيلة من الوسائل المرضية، بل هو استغلال ذلك الحادث العظيم لتحطيم سعد ومن يواليه، ولا سبيل إلى هذا التحطيم مع بقاء البرلمان وسريان أحكام الدستور.
وقد احتج البرلمان بمجلسه إلى عصبة الأمم على استغلال الحكومة البريطانية لحادث السردار في اهتضام السودان وتمزيق الاستقلال المصري، فلم يجد هذا الاحتجاج صدى له بين أعضاء العصبة إلا مندوبي إيران والسويد وأرجواي الأمريكية، وتعلل مندوبو الدول الكبرى بأن الاحتجاج لم يعرض على العصبة من قبل حكومة قائمة؛ لأن الوزارة السعدية كانت قد استقالت والوزارة الزيورية التي تلتها لا تحب أن تحتج على شيء من مطالب الإنجليز، ولا ترى للمسألة حلا مستطاعا عندها إلا الإذعان لما طلبوه.
وأذعنت الوزارة الزيورية فعلا لجميع المطالب البريطانية، وأرسلت من مصر رسولا إلى الضباط المصريين في السودان تأمرهم بالجلاء والعودة إلى بلادهم؛ لأنهم كانوا قد امتنعوا عن العودة وتسليم السلاح، حين بلغهم نائب الحاكم العام أمره باسم الحكومة البريطانية، ردوا عليه بأنهم لا يطيعون غير ملك مصر وأوامر حكومتها، فجاءهم هذا الأمر من الوزارة مع رسول في طيارة بريطانية، فأطاعوا راغمين وتمسكوا بالعودة حاملين السلاح والأعلام، غير مخفورين بالجنود الإنجليزية في طريقهم إلى الحدود.
وقد ترك زيور باشا رئيس الوزارة كل شيء للإنجليز من جانب، ولحسن نشأت باشا وكيل القصر الملكي من جانب، ولإسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية فيما بقي له من شئون الوزارة، فلا رأي له ولا برنامج ولا إرادة، وسلمت الوزارة للإنجليز في مسألة جغبوب بالصحراء الغربية ومسألة نهر الجاش في السودان، وهما الهديتان اللتان ساومت عليهما بريطانيا العظمى صديقتها إيطاليا على حساب الحقوق المصرية والسودانية، وسلمت على الإجمال في كل ما أراده الإنجليز، واستباحوا به نصوص الدستور والقانون التي لا تقبل التأويل، ومنها القبض على النواب وهم في كنف الحصانة البرلمانية قبل أن يعرض الأمر على مجلس النواب، وجعلت شكوى النواب من عدوانها على الدستور والقانون وتفريطها في حقوق البلاد ذريعة إلى حل المجلس، وتعطيل البرلمان قبل أن تتقدم إليه.
ولم تعارض في مطلب من المطالب الإنجليزية إلا التوسع في زراعة القطن بالسودان؛ لأنه المطلب الذي فضح المناورة الاستعمارية، وأحست الحكومة البريطانية أن اللورد اللنبي أخطأ خطأ فاحشا في تضمينه إنذاره النهائي إلى سعد زغلول، وكان له دخل كبير في إقالة اللورد اللنبي بعد ذاك بشهور، فاهتمت بمداراته وإصلاحه، وأوعزت إلى أحمد زيور باشا بالمراجعة فيه، ولولا ذلك لما تحرك هو لمراجعة أو استدراك؛ لأنه رجل أشهر ما اشتهر به قلة الاكتراث وفلسفة المعيشة الرخية وعلى الدنيا بعد ذلك السلام؛ فما كلف نفسه قط قراءة الصحف المعارضة أو الموالية، وأعجب من ذلك أنه لم يكلف نفسه قراءة الدستور ... فإذا عرضت عليه حملة في إحدى الصحف على الوزارة قال: أغلقوها، أغلقوها. ونسي أن الدستور يمنع إغلاق الصحف بالوسائل الإدارية، وأن إغلاقها بهذه الوسائل مما تضيق عنه دائرة الاحتيال على النصوص، ويعرض الحكومة للمطالبة بالتعويضات، وكلما كرروا له التنبيه كرر هو النسيان!
ولم يكتمل لوزارته في الحكم شهران حتى كان «حزب الاتحاد» قد ظهر في عالم الوجود، وظهرت له صحيفة عربية وصحيفة فرنسية بأموال ليست أمواله على كل حال. وأصبح معيار الترقية عند عمال الإدارة عدد الأعضاء الذين ينضمون على أيديهم إلى حزب الاتحاد وينفضون من الهيئة الوفدية، وأبيح لهم في ذلك كل مباح، وتمادى بعضهم في حرب الدعوة لهذا الحزب ولغيره تماديا يزري بشرف الإنسان، فضلا عن شرف الموظف الأمين. ومن أمثلة ما استباحوه في اضطهاد الوفديين فظائع الدقهلية التي عرفت بفظائع أخطاب، وضجت منها أرجاء البلاد وألهبت في صدور المصريين كافة ذحولا لا ينطفئ لها أوار، ولا يرجى معها فلاح لحكومة من الحكومات، وصدر فيها حكم القضاء على ملاحظ البوليس بالسجن خمس سنوات جزاء له على ما ثبت من جناياته، وهو أيسر ما اتهم به ونسب إليه، ومنه إجهاض الحوامل، وقص شوارب الفلاحين بمقصات الحمير، وإكراههم على التسمي بأسماء النساء، وإهراق الماء على الأرض وتمريغ أنفسهم بأنفسهم في الوحل الذي صنعوه.
أما الانتخابات فقد كان الواجب أن تتم في ميعاد لا يتجاوز الشهرين على حسب نص الدستور، وأن ينعقد المجلس الجديد في خلال الأيام العشرة التالية ليوم الانتخاب، ولكن الوزارة تعللت بتعديل قانون الانتخاب وتنقيح الجداول للمطاولة في هذه المدة، فلم تحصل الانتخابات إلا في اليوم الثاني عشر من شهر مارس، ولم ينعقد المجلس إلا في الثالث والعشرين منه، ويكفي لبيان الأساليب التي جرت عليها الانتخابات الثلاثينية، ولم يعرف أن سعد زغلول أخفق في الانتخابات الثلاثينية ولم يظفر بخمسة عشر صوتا تجعله مندوبا ثلاثينيا في الحي الذي هو فيه! وعلى هذه الطريقة جرت الوزارة في تقسيم الدوائر حسبما يروق مرشحيها، وكتابة أسماء الناخبين وحذفها كما يملي أولئك المرشحون، وإقامة الحراس في الطرقات ليصدوا أناسا عن الصناديق ويدفعوا إليها بأناس آخرين. وبعد هذا كله ظهرت النتيجة، فإذا بسعد قد فاز بمائة وأحد عشر صوتا في اليوم الأول، ولا تزال في الدوائر بقية لم تظهر لها نتيجة. ثم أدب النواب السعديون مأدبة لزعيمهم في فندق سميراميس، فحضرها مائة وثلاثة عشر نائبا، واعتذر ثلاثة بمرضهم مع تأييدهم للزعيم، وفي هؤلاء وحدهم الكثرة اللازمة لإسقاط الوزارة المهزومة.
إلا أن الوزارة زعمت أنها هي الفائزة بالكثرة المطلقة، وحسبت من أصواتها أصوات جميع الأحزاب الأخرى، وهي: حزب الأحرار الدستوريين، وحزب الاتحاد، والحزب الوطني مضافا إليهم المستقلون، وهم بطبيعة الحال لا يرجحون فريقا على فريق إلا بعد اجتماع البرلمان والاقتراع على الثقة. وبهذه الدعوى استقالت الوزارة لتتألف مرة أخرى من جميع الأحزاب وفاقا لما ظهر لها من نتيجة الانتخاب، وقال زيور باشا في خطابه إلى جلالة الملك: «لما كان البرلمان قد أوشك أن ينعقد، فإن الوزارة ستعلن خطتها السياسية عند تقدمها إليه، وإني أتشرف بأن أعرض على سدتكم أسماء حضرات الوزراء الذين قبلوا معاونتي في هذه المهمة محتفظا لنفسي بمنصب وزارة الخارجية، وهم: يحيى إبراهيم باشا لوزارة الحقانية، وتوفيق دوس بك لوزارة الزراعة، وإسماعيل سري باشا لوزارة الأشغال العمومية، ويوسف قطاوي باشا لوزارة المواصلات، وعلي ماهر بك لوزارة المعارف العمومية، ومحمد علي بك لوزارة الأوقاف.»
ومن هؤلاء الوزراء أربعة من الأحرار الدستوريين، وأربعة من الاتحاديين، والبقية من المستقلين، واحتفظ زيور باشا لنفسه بوزارة الخارجية خلافا للعرف الذي اطرد بالجمع بين رئاسة الوزارة ووزارة الداخلية، ودليل على أن وزير الداخلية لا يزال في هذه الوزارة منوطا بمهمة خاصة للإشراف على الانتخابات، وتسخير الإدارة في ضم الأنصار، وتشتيت الخصوم لا يضطلع بها كل وزير، ولا يضطلع بها زيور باشا من باب أولى.
وألحت الوزارة في دعواها إلى أن كان يوم انعقاد البرلمان وانتخاب رئيس مجلس النواب، فلم يظفر مرشح الحكومة عبد الخالق ثروت باشا بأكثر من خمسة وثمانين صوتا، وبلغت أصوات سعد مائة وثلاثة وعشرين صوتا عدا صوته؛ لأنه انصرف قبل الاقتراع لانتخاب الرئيس.
وتأجلت الجلسة إلى المساء لإتمام انتخاب المكتب، والوزارة في هذه الأثناء تعد المرسوم بحل مجلس النواب للسبب الأول الذي حلته من أجله في السنة الماضية، وهو الإصرار على تلك السياسية التي كانت سببا لتلك النكبات التي لم تنته البلاد من معالجتها! وهو مناقض لنص الدستور الذي يحرم حله مرتين بسبب واحد.
وجاء المساء فدخل زيور باشا ومعه ثلة من الجند وقرأ المرسوم وانصرف، وكان يلتفت قبل تلاوته إلى منصة الرئاسة ليرى سعدا عليها، وينعم هو وشركاؤه بما رتبوه من رؤيته نازلا من المنصة بعد انتصار الصباح، ولكنه كان قد ذهب إلى حجرة الرئاسة، ولم يعد إلا في أثناء تلاوة المرسوم.
غاية ما يقال تلخيصا للحرب الانتخابية في هذه المرة أنها كانت حربا بين من استفادوا بحادثة السردار، ومن أصيبوا بهذه الحادثة ومنهم الأمة بحذافيرها؛ فلا جرم أن تكون الأمة في الجانب الذي ينبغي أن تكون فيه، ولا يعقل أن تنحاز إلى غيره. ومن خطأ اللورد اللنبي وخلفائه أنهم قدروا للانتخابات المصرية مآلا غير المآل.
ويظهر أن إقالة اللورد اللنبي عقب الخطأ الفاحش الذي ارتكبه في الإنذار النهائي كانت أمرا مبتوتا فيه منذ أوائل العام، ولكنهم أجلوه في الوزارة البريطانية ريثما تنجلي المعركة الانتخابية عن مصيرها، خوفا على أصدقائه الوزراء المصريين من الفشل والهزيمة من جراء تلك الإقالة أو الاستقالة، وأملا في الظفر بمجلس نيابي يساعده ويتوج سياسة التصريح - تصريح 28 فبراير - بالنجاح. ولكن الانتخابات أسفرت عن خيبة جديدة وتقويض لسياسة الرجل لا أمل بعده في الترميم والتلفيق؛ فعادت الصحف الإنجليزية تتحدث باستقالته، وهو ينفيها من القاهرة ويوعز إلى الصحف الاحتلالية بتكذيبها. وتحققت الإشاعة بعد أسابيع، فأبلغها اللورد اللنبي إلى جلالة الملك في التاسع عشر من شهر مايو، وغادر البلاد بعد أيام.
إن السياسة المصرية - على التخصيص بين السياسات العالمية - لا تتغير لسبب واحد. ولكننا إذا أردنا أن نعرف لها قاعدة واحدة تتكرر في جميع التغييرات الهامة، فالأغلب أن الإنجليز يشرعون في التغيير كلما انحصر النفوذ في ناحية واحدة، سواء أكانت ناحية القصر أم ناحية الأمة؛ وعلى هذا غيروا سياسة الوفاق بعدما تبين لهم في عهد السير الدون غورست أن نفوذ الخديو عباس ينبسط في أنحاء الأمة والحكومة، وغيروا سياسة الحكم الدستوري بعدما تبين لهم أنه يقوي سعدا ولا يضعفه كما كانوا يقدرون، وأنشئوا حكومة زيور وهم يظنون أنها حكومة متزنة يتعارض فيها نفوذ القصر ونفوذ الأحرار الدستوريين، وأن هؤلاء جميعا يسلطون نفوذهم على سعد زغلول، فلا يرجح جانب على جانب من نفوذ الأمة أو نفوذ القصر أو نفوذ الوزارة ... فسرعان ما ظهر لهم أن تعطيل الدستور قد حصر النفوذ بأيدي القصر، وهيأ له أن يستبقيه بين يديه في غياب الدستور وفي وجود الدستور، وانكشف لهم ما وراء إنشاء حزب الاتحاد من المقاصد والتدبيرات ... إن الانتخاب الأول بعد استقالة سعد قد اشترك فيه الاتحاديون والدستوريون من جماعة الوزراء، أما الانتخاب الثاني فلن يتسع لحزب غير الاتحاديين؛ لأنهم سيوحدون فيه جميع الأحزاب!
وبرزت هذه النية بعد تشكيل الوزارة الزيورية الثانية، وانطلاق حسن نشأت باشا - وكيل القصر الملكي - في السيطرة على دواوين القاهرة وفروع الأقاليم؛ فكانت أوامره تصدر إلى المأمورين مباشرة في المراكز بغير وساطة الوزير أو المدير، وكانت أوامر الوزراء تلغى ولا تطاع، ولم يلبث الاشتراك أن أفضى إلى الاحتكاك بين الأحزاب وبين أشخاص الوزراء، ثم سنحت الفرصة أخيرا للخلاص من الدستور بضربة واحدة ترمي إلى هدفين؛ فقد ألف الأستاذ علي عبد الرازق - وهو عالم ديني من أبناء بيوتهم الكبيرة - رسالة في الإسلام وأصول الحكم أدحض بها القول القائل بوجوب الخلافة في الإسلام؛ فاهتم الاتحاديون بتجريد هذا العالم من صفة العالمية؛ لأن تجريده يرضي القصر بما يقتص من رجل يعوق المسعى إلى الخلافة، ويرضيه من طرف آخر بما يحرج الأحرار الدستوريين ويضطرهم إلى اعتزال الحكومة. فتم هذا التجريد، واستقال الوزراء من الأحرار الدستوريين، واستعد الاتحاديون لخوض معركة الانتخاب منفردين.
فلما وصل السير - اللورد جورج لويد خلف اللورد اللنبي - إلى مصر، وصل وله وجهة مرسومة في السياسة المصرية لا يطول فيها التردد والاضطراب؛ نفوذ القصر يجب أن يقف عند حد محدود، والحياة النيابية يجب أن تعود، ولكن هل تعود الحياة النيابية ليعود سعد زغلول إلى نفوذه الحكومي القديم؟ كلا! بل تعود الحياة النيابية في برلمان مؤتلف من جميع الأحزاب؛ فيحول البرلمان دون انفراد القصر بالسلطان، ويحول الائتلاف دون انفراد سعد بالوزارة والبرلمان، ولا ينحصر النفوذ في يد واحدة من أيدي المصريين.
وفي الوقت الذي كانت فيه السياسة البريطانية تتجه إلى هذا الاتجاه، كانت الأحزاب المصرية تشعر بالخطر الواحد يهددها جميعا، وتعلم أن لا نجاة لها بغير الائتلاف؛ فتحدث رجالها في توحيد الصفوف، وتزاوروا لتقريب ما بينهم من شقة الخلاف، وأزف موعد انعقاد البرلمان بحكم الدستور في السبت الثالث من شهر نوفمبر، فعول الأعضاء على الاجتماع مدعوين أو غير مدعوين، وأعلنت الوزارة أنها تمنع بالقوة كل اجتماع داخل البرلمان أو في مكان آخر، واحتلت دار النيابة بنحو ألفين من الجنود، ولكن النواب والشيوخ اجتمعوا في فندق الكنتننتال، وباتوا من أجل ذلك في الفندق لكيلا يحال بينهم وبين دخوله في الصباح. ومن طرائف زيور باشا أنه - وهو يسكن ذلك الفندق - لم يدر بما كان يجري فيه، واستغرب هذه الضجة هناك على خلاف المألوف!
وافتتحت الجلسة قبل الظهر فانتخب سعد رئيسا، ثم أصدر المجلسان قرارا بالاحتجاج على تصرفات الوزارة، وعلى منع الأعضاء من الاجتماع في دار البرلمان بقوة السلاح، وباعتبار دور الانعقاد موجودا قانونا، واستمرار اجتماعات المجلس في المواعيد والأمكنة التي يتفق عليها الأعضاء.
ثم ندب الحاضرون وفدا من حضرات فتح الله بركات باشا، ومحمد محمود باشا، وعبد الحميد سعيد أفندي لرفع القرار إلى جلالة الملك وتبليغه إلى الوزارة.
أما الوزارة فقد كان كل ما وسعها بعد هذا الاجتماع أنها كتبت إلى مفتش الجيش العام تلفته إلى مسلك الضباط والجند، الذين أدوا التحية العسكرية لسعد وهو يمر بمجلس النواب في طريقه من بيت الأمة إلى فندق الكنتننتال!
وقد اجتمع أصحاب السمو الأمراء بعد اجتماع البرلمان، واتفقوا على كتابة عريضة إلى جلالة الملك يؤيدون فيها إعادة الحياة النيابية إجابة لقرار الشيوخ والنواب.
وبين هذه المآزق التي لا تعيش معها وزارة في بلد مستقل، لم ينقطع رجاء الوزارة الزيورية في التعمير وحكم البلاد بالدستور أو بغير الدستور، بل راحت تشرع القوانين لفض الأحزاب، وتمحو وتثبت في قانون الانتخاب، وعندها أنها بخير ما دامت لا تسمع من الإنجليز شرا ولا تحس منهم نفورا، والإنجليز لم يسمعوها الشر ولم يشعروها النفور؛ لأنهم كانوا ينتظرون منها الخدمة الأخيرة وهي تسليم جغبوب إلى الحكومة الإيطالية، فسلمتها ووقعت المعاهدة في سادس ديسمبر، وظنت أنها قد اشترت البقاء من الإنجليز بهذا الثمن الفادح، ولم تدر أنها قد ختمت بيديها على كتاب موتها، وكتبت وصيتها حين كتبت تلك الوثيقة.
ففي اليوم السادس أمضيت المعاهدة، وفي اليوم الثامن قابل اللورد جورج لويد جلالة الملك، وطلب إلى جلالته إقصاء حسن نشأت باشا عن القصر، متذرعا بما حام حول اسمه من الأقاويل في قضية مقتل السردار، فأجيب إلى طلبه بعد ممانعة قصيرة الأجل، وأقصي نشأت باشا إلى وظيفة في السلك السياسي لم تكن مما يرتضيه.
وقد استمر التحدي والنضال بين الوزارة والأحزاب، فأجمعت الأحزاب على تجاهل قوانينها، وأضرب العمد عن تنفيذ قانون الانتخاب، وحكم القضاء ببراءتهم حين أحيلوا إليه بتهمة عصيان القوانين ومخالفة الأوامر، وازداد التقارب بين الأحزاب بهذه الوحدة بينها في محاربة الوزارة، فكان أقوى مظاهرها مأدبة النادي السعدي التي أدبها سعد للنواب والشيوخ على اختلاف أحزابهم «ليتم التعارف بينهم ويزول ما يكون في نفوس بعضهم لبعض من نفرة وجفاء، ويحل مكانهما ما تقضي به روح التسامح من عطف وولاء».
ثم أعلنت الأحزاب في أوائل السنة الجديدة (1926) إجماعها على مقاطعة الانتخابات على غير القانون الذي تريده، وخطا الزعماء خطوة أخرى في سبيل الوفاق، فزار معظمهم بيت الأمة، ورد لهم سعد الزيارة في بيوتهم، واتفقوا على الدعوة إلى مؤتمر وطني يجمع الوزراء السابقين والشيوخ والنواب ورجال الأحزاب وأعضاء مجالس المديريات والمجالس المحلية وسائر الجماعات النيابية في القطر كله، ليقنعوا الوزارة بإجماع المرشحين على مقاطعة الانتخابات حسب قانونها الجديد، فعجلت الوزارة قبل انعقاد المؤتمر بإجابة طلب الأحزاب (في 18 فبراير) وبلغته إلى المؤتمرين، وقالت في بلاغها: إنه «توخيا لخطة الاتفاق التي سلكتها الحكومة الحاضرة في أعمالها على الدوام وابتغاء التعجيل باجتماع البرلمان، قرر مجلس الوزراء في مساء هذا اليوم أن يعرض مشروع مرسوم على حضرة صاحب الجلالة الملك للتصديق على إيقاف العمل بقانون الانتخاب الصادر في 18 ديسمبر سنة 1925، وإجراء الانتخابات على مقتضى القانون نمرة 4 لسنة 1924».
أما المؤتمر الوطني، فقد التأم بمنزل محمد محمود باشا، وجلس سعد على منصة الخطابة وعلى يمينه عدلي وعلى يساره ثروت، ثم تكلم في الحالة العامة فلخصها تلخيصا سريعا منذ استقالت وزارته إلى قبول الوزارة الزيورية قانون الانتخاب المباشر، الذي يرضاه الوفديون ولا ترضاه الأحزاب الأخرى ... وأشار إلى أن الوزارة عجلت بقبوله لتوقع الشقاق بين الأحزاب قبل انعقاد المؤتمر، فقال في ختام خطابه ليقضي على رجائها هذا: «أذاعوا بأن الانتخاب على أساس ذلك القانون أريد به إيقاع الشقاق بين الأحزاب المؤتلفة؛ لتنحل رابطتهم وتنقسم وحدتهم، ولكنهم واهمون في زعمهم؛ لأن الاتحاد متين بين هذه الأحزاب.»
ثم دارت مناقشة طويلة في دخول الانتخابات أو عدم دخولها اعتمادا على أن المجلس القديم قائم والحل باطل، فاتفق الحاضرون على دخولها ما عدا أربعة، وتلي عليهم اقتراح فحواه المطالبة بإقالة وزارة موثوق بها للإشراف عليها. ثم انفضت جلسة المؤتمر بعد تأليف لجنة من الأحزاب المختلفة لإنفاذ القرارات وبحث المقترحات.
على أن الوزارة لم تستقل، ولم يصر المؤتمرون على استقالتها لعلمهم بعجزها عن مقاومة الأحزاب المؤتلفة في المعركة الانتخابية، واكتفوا باستعجال يوم الانتخاب، فصدر المرسوم بدعوة الناخبين في اليوم الثاني والعشرين من شهر مايو لانتخاب أعضاء مجلس النواب ... وليس في المرسوم موعد لانعقاد البرلمان!
وكانت الأحزاب قد تفاهمت مع الوفد المصري على الدوائر التي يتركها لها، ولا يرشح فيها أحدا من أنصاره. فلما كان يوم الانتخاب أسفرت النتيجة عن انتخاب مائة وخمسة وستين وفديا، وتسعة وعشرين حرا دستوريا، وخمسة من الحزب الوطني، وستة من المستقلين، وخمسة من الاتحاديين ... إلخ.
على هذا وجب أن يدعى سعد باشا لتأليف الوزارة الدستورية، ولكن الوزارة الزيورية لم تستقل، وهي لم تعلن من قبل ذلك موعد انعقاد البرلمان ... فهل قصدت إغفاله لأنه كان من الجائز عندها - أو عند من أوعزوا إليها - أن يحصل الانتخاب ولا يحصل الانعقاد، أو يحصل ولكن بشروط؟!
تداولت الألسن أن زيور باشا فاتح اللورد جورج لويد في أمر الاستقالة بعد الانتخاب توا، فاستمهله بضعة أيام ريثما يتم الاتفاق على اختيار الخلف، وتحقق أن الإنجليز يريدون عدلي يكن ولا يريدون سعد زغلول في رئاسة الوزارة، وتقابل سعد وجورج لويد في هذه الأثناء فسأله جورج لويد: «هل ينضم عدلي إلى وزارتك إذا ألفتها؟» قال سعد: «أعتقد ذلك.» فقال جورج لويد: «ولكن الإحساس الذي عندي لا يسمح لي بهذا الاعتقاد!»
غير أن سعدا هو زعيم الكثرة الغالبة على الرغم من تجاوزه عن بعض الدوائر في الانتخابات، فكيف السبيل إلى منعه بمشيئة حكومة أجنبية أن يلي الوزارة الدستورية؟
لا سبيل إلى ذلك لو جرت الأمور في حدود الصراحة، ولكن قضية الاغتيالات السياسية باقية، ولا تزال فيها بقية صالحة للاستغلال. فلتكن هذه القضية إذن وسيلة امتناعه من تأليف الوزارة، كما كانت قضية مثلها بالأمس وسيلة اعتزاله الوزارة وهو قائم فيها.
أصدرت محكمة الجنايات حكمها في قضية الاغتيالات السياسية اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو (1926)، فقضت «بالنسبة لمحمود أفندي عثمان مصطفى، والحاج أحمد جاد الله، والدكتور أحمد ماهر، والأستاذ محمود فهمي النقراشي، والأستاذ حسن كامل الشيشيني، وعبد الحليم البيلي بك ببراءتهم من التهمة التي نسبت إليهم وبالإفراج عنهم فورا إلا إذا كانوا محبوسين رهن قضايا أخرى».
وعلى هذا يكون اتهام الوفد بتدبير هذه الجنايات باطلا بحكم القضاء، كما بطل من قبل اتهامه بتدبير مقتل السردار؛ لأن الرجلين البارزين من رجال الوفد اللذين كانا بين المتهمين - وهما الأستاذان ماهر والنقراشي - قد برئا من التهمة، ولم تعد للوفد صلة بهذه القضايا على جميع الاعتبارات.
إلا أن ما يبطل بحكم العقل أو يبطل بحكم القضاء قد تشاء السياسة ألا تبطله، فيكون لها الحكم النافذ متى كان وراءها الجيوش والأساطيل.
فبعد أسبوع من صدور الحكم - أي بعد قيام مشكلة الوزارة - كتب مستر كرشو أحد القضاة الثلاثة الذين كانوا في محكمة الجنايات خطابا إلى وزير الحقانية استهله بقوله:
آسف لاضطراري إلى إبلاغ معاليكم أنني - بعد مداولة مع زميلي دامت خمسة أيام - أجدني لا أستطيع الموافقة على الحكم الصادر في قضية محمد فهمي علي وآخرين إلا فيما يتعلق بمحمد فهمي علي المحكوم بإعدامه، ومحمود فهمي النقراشي المحكوم ببراءته، وعبد الحليم البيلي المحكوم ببراءته. فإن الأدلة على الاثنين الأخيرين كانت غير كافية، أما باقي الحكم فهو لزميلي، وعندي أن حكم البراءة في تهمة محمود عثمان مصطفى، والحاج أحمد جاد الله، وأحمد ماهر، وحسن كامل الشيشيني يناقض وزن الأدلة إلى حد الإخلال بتنفيذ العدالة. وقد بلغت خطوة هذا الإخلال في رأيي وخطورة النتائج التي تنجم عنه حدا جعلني أعتبر أن من واجبي الخروج في هذه الحالة على مبدأ المحافظة على سر المداولة، وتوجهت بعد إصدار الحكم إلى دار المندوب السامي، فأطلعت فخامته على رأيي باعتباره حاميا للأجانب.
ويرى من هذا الخطاب أن مستر كرشو خالف أمانة القضاء، وأنه قاض واحد من ثلاثة قضاة، وأنه نسي أنه قاض مصري لا شأن له بدعوى المندوب السامي في المسائل السياسية، ومع هذا كان من رأي الحكومة البريطانية أن حكمه وحده هو الحكم الصحيح، وأن ما عداه لغو لا يجوز الاستناد إليه؛ فكتب اللورد جورج لويد إلى زيور باشا بلاغا يعلنه فيه بأن حكومته - حسب النصيحة المقدمة إليها في الوقت الحاضر - ترفض أن تعتبر الحكم دليلا على براءة الأربعة المذكورين كائنة ما كانت الأسباب التي بناه عليها القاضيان المصريان.
وسيلة صالحة - سواء كانت حسنة أو غير حسنة - لاستغلال القضايا في الأزمات السياسية. فإذا ألف سعد الوزارة، فهناك هذا البلاغ كفيل بخلق المشكلات وإكراه الوزارة على الاعتزال العاجل؛ لأنه قد يؤدي إلى قبض السلطة البريطانية على «الأربعة المذكورين» وإعنات الحكومة الجديدة إعناتا لا حيلة فيه إلا أن تطلق أولئك السجناء، وهي لا قوة لها على إطلاقهم، أو تستقيل.
هذا إذا ألف سعد الوزارة. أما إذا ألفها غيره فلا ضرورة لاتخاذ عمل من الأعمال، ولا خطر من الإخلال بتنفيذ العدالة وتبرئة الجناة!
وهكذا كان؛ فإن سعدا تنحى عن الوزارة وعدلي يكن ألفها، فلم يسمع أحد بعد ذلك بخبر ذلك البلاغ أو الإنذار، ونفعت قضايا الاغتيال سياسة الاستعمار نفعها السريع في إقصاء سعد زغلول عن الحكومة.
والواقع أن سعدا لم يكن يأبى أن يتولى عدلي تأليف الوزارة، وأنه صرح بذلك لبعض أصحابه قبل الانتخابات وبعد الانتخابات، ولكنه بعد الأنباء التي نشرتها الصحف الإنجليزية وصحف القصر في مصر بأنه مرغم على ذلك، وأنه لن يتولى الوزارة أبد الآبدين لأن حزبه متهم في مقتل السردار وغيره من الإنجليز، أحب أن يكشف الرياء حول هذه المسألة كلها، ولا سيما وقد صدر الحكم ببراءة الأستاذين ماهر والنقراشي من كل تهمة. فإذا شاء الإنجليز أن يقصوه عن الحكم، فليظهروا بعد ذلك بالسبب الصحيح من مقاصدهم السياسية المكشوفة، لا بما يتعللون به من التعلات.
فلما حدثت الأزمة وانكشفت الحيلة كلها تنحى عن الوزارة، ورجع إلى الرأي الذي ارتضاه أولا وصارح به أصحابه، وهو إسناد الوزارة إلى عدلي باشا واختيار أعضائها من النواب والشيوخ المؤتلفين.
والرأي عندنا في موقف سعد من تأليف الوزارة في هذه المرحلة أن ولايته الوزارة لم تكن ضرورة لازمة، ولم يكن فيها كذلك ضرر محذور على المصالح الوطنية لولا تلك الأزمة التي خلقها اللورد جورج لويد في آخر لحظة، وعلى هذا لا ملامة عليه في طلبها ولا في التنحي عنها.
أما تأليف الوزارة العدلية الجديدة فكان على النحو الآتي: عدلي يكن باشا للرئاسة والداخلية، وعبد الخالق ثروت باشا للخارجية، ومحمد فتح الله بركات باشا للزراعة، ومحمد الغرابلي باشا للأوقاف، وأحمد محمد خشبة بك للحربية والبحرية، ومحمد محمود باشا للمواصلات، وأحمد زكي أبو السعود باشا للحقانية، ومرقس حنا باشا للمالية، وعلي الشمسي أفندي للمعارف العمومية، وعثمان محرم باشا للأشغال العمومية.
ومن تأليفها على هذا النحو يبدو لنا مقدار التساهل الذي ارتضاه سعد لرعاية الائتلاف؛ إذ لم يكن في هذه الوزارة أكثر من خمسة وزراء على اتصال صحيح بالوفد، والباقون كلهم من غير الوفديين. ولم يعهد بوزارة هامة إلى أحد من وزراء حزب الكثرة، وهم أكثر من ثلاثة أرباع النواب.
وقد وصف سعد هذه الوزارة بأنها وزارة «اندماج» (Amalgamation)
لا وزارة ائتلاف (Coalition) ، كما شاع اسمها في الصحف وأروقة البرلمان؛ فدل بذلك على نظره البعيد وتفريقه الدقيق بين الأوضاع البرلمانية؛ فإن وزارة الائتلاف قد أقيلت إقالة بعد بضعة عشر شهرا لخروج حزب القلة منها، وليس خروج القلة بالعذر الصالح لإقالة الوزارة لو كانت وزارة اندماج في حزب الكثرة النيابية.
رأيت سعدا في أوقات كثيرة منذ قيامه بالدعوة الوطنية، فما أعرف وقتا تسرب فيه السأم والتعب إلى بنيته وإلى نفسه كما كان يتسرب أحيانا خلال الفترة من مقتل السردار.
كانت هذه الفترة أقل أوقاته حركة؛ ولهذا كانت أكثرها سأما وتعبا، وكان قصارى ما اهتدى إليه خصومه من محاربته أن يحاصروه في بيت الأمة بالجند والسلاح ويمنعوا وفود الناس إليه، فكان يراقب الحالة على بعد، ولا يملك النهوض لها بجهد من جهوده ... وكان يؤلمه في الوقت نفسه أن يستطيع الموظفون الإداريون كل ما اجترحوه من إرهاق الناس واستفزازهم دون أن ينالهم جزاؤهم الذي يستحقونه ... وفي أكثر الأيام كان يسأل: «ما الذي يوغر صدور هؤلاء الموظفين على الأمة؟! وما الذي يبغضهم في أيام الوزارة الشعبية؟!» وقد قلت له يوما إنهم تعودوا أن يكونوا طوال حياتهم مأمورين وآمرين، ووزارة الشعب فرضت لهم حرية وفرضت للناس حرية، فلا هم مأمورون ولا هم آمرون، ولو عرفوا أنها دائمة لخافوها وعلقوا رجاءهم برضائها، ولكنهم لا يحسبونها تدوم ... قال لا يبعد أن يكون كذاك؛ فقد كنا نعامل هؤلاء الموظفين معاملة الشركاء في الحكومة، ولا نعاملهم معاملة الآلات، وكنا ننتظر منهم غيرة وطنية، ولا ننتظر منهم طاعة عمياء، فوجدوا منا غير ما تعودوه.
وذات ليلة كان يسأل: «ما الذي يبعث القوة في الشعب؟» وكنا ثلاثة على مائدته: محاميا معروفا والأستاذ عبد القادر حمزة وكاتب هذه السطور. فقال المحامي وظن أنه يرضيه بما قال: يا باشا كلمة منك تبعث فيه القوة ... كلمة منك تبث فيه الحياة الفنية ... واسترسل في مثل هذا الكلام.
فنظر إليه سعد هنيهة، ثم قال: «ما هذا؟! أتريد أن تخطب؟ أتريد أن تتحمس؟ طيب: تفضل اخطب وتحمس، وانتظر من يسمع!»
وكانت نفسه برمة جدا بمن يعبثون بهذا الموضوع؛ لأنه كان مهموما به لا يطيق الهزل فيه، بل كثيرا ما سمعته يتضجر في تلك الأيام من حب النكتة في الطبيعة المصرية ويقول: «لولا أن المصريين يضحكون من زيور وغرائبه لما احتملوه هذا الزمن الطويل!»
وفي أوائل هذه الفترة زرته بفندق «مينا هوس»، وكان يأوي إليه أحيانا أيام الشتاء. فرأيته كثير التفكير كما يكون حين يلتبس عليه وجه العمل وطريق الحركة، وسألني وهو ينظر إلى الصحف على مقربة منه: «ماذا يقولون؟»
قلت: «وماذا غير قولتهم المعهودة! أن سعدا ترك الميدان واستقال!»
قال: «لو بقيت في الحكم لقالوا إنه يخرب البلد تشبثا بالمنصب ... هؤلاء لا يعتد لهم بكلام!»
ثم نشط كعادته حين ينبعث الكلام في موضوع نضال بينه وبين خصومه ومضى يقول: «وهذه الصحف الإنجليزية ما بالها تمسي وتصبح وهي تلغط بزغلول؟ ... إن زغلولا يدبر ... إن زغلولا يتربص ... زغلول، زغلول. نعم يا هؤلاء، إنكم لم تستريحوا من زغلول!»
وهكذا كان في هذه الفترة، يسأم ويتعب ويخيل إلى من رآه أنه يهم بأن ينفض يديه، ثم يتحداه متحد فإذا هو واقف على قدميه لا يسره أن يستريح منه الخصوم.
الفصل الثالث عشر
رئاسة مجلس النواب
كانت رئاسة مظلوم باشا لمجلس النواب الأول مشهورة بضرب الجرس لحفظ النظام؛ بحيث يصح أن يقال إن الجلسات - ما لم يحضرها رئيس الوزارة، أو تحتدم فيها المناقشة لأمر يشغل النواب - كانت مقسومة بين لغط الرئيس بدق الجرس ولغط النواب بالكلام.
وأذكر أن زميلنا الأستاذ محمود عزمي حرمه مجلس النواب تذكرته التي يحضر بها المجلس لما كان يكتبه عنه من القوارص والغمزات؛ فانتقل إلى مجلس الشيوخ واستمر على نشر أخبار مجلس النواب، وهو يزعم أنه يتلقى تلك الأخبار من طريق المكاشفة والتنويم! فلقيته يوما بمجلس الشيوخ وسألته أن يرينا معجزة من معجزاته على سبيل المداعبة ... فيذكر لنا ما يجري الساعة في المجلس الآخر، فهام بنظره قليلا كأنما يستطلع الغيب وقال: مظلوم باشا يدق الجرس! قلنا جميعا: آمنا لك بالمكاشفة ... ما في ذلك جدال!
ففي عهد رئاسة سعد للمجلس بطل دق الجرس أو كاد، ولاحظ المختلفون إلى المجلس في العهدين أن الجرس قد أصبح من الأدوات النيابية الملغاة، وكان الأجانب والمصريون على السواء يقولون: ليس هنا مجلس ورئيس، ولكنه معلم محبوب بين تلاميذ مطيعين.
ولم يكن سعد يستعين في حفظ النظام بنصوص القانون ولا بحق الرئاسة في منع الكلام وفض المناقشات، إنما كان يستعين بسلطان هو أشد رهبة من جميع النصوص والحقوق، وهو سلطان العارضة القوية والفكاهة الحاضرة؛ فكان العضو من الأعضاء يقول قولا سديدا أو يصمت؛ لأنه يخشى إذا أطلق لسانه بغير السداد أن يستهدف على الأثر لجواب مفحم أو نكتة لاذعة من منصة الرئاسة.
حدث لما ذهب ثروت باشا إلى لندن لمصاحبة جلالة الملك والتماس الفرصة الملائمة لفتح باب المفاوضة في القضية المصرية؛ أن عضوا من الأعضاء الذين يخالفون مبدأ المفاوضة من أساسه وجه استجوابا إلى نائب رئيس الوزارة، يستوضح فيه موقف ثروت باشا في لندن، ويحرج الوزارة إحراجا لا تملك الجواب فيه؛ لأن المفاوضة لم تكن هي الغرض الرسمي لسفر ثروت باشا، وإنما كانت بغية متفقا عليها بين ولاة الأمر يرجى أن تتاح لها الفرصة الملائمة بعد جس النبض واستطلاع الأحوال، فإذا قالت الوزارة - ردا على الاستجواب - إنها ستفاوض أو إنها لا تفاوض، فليس في ذلك تسهيل لما كانت تنويه.
وألح كثير من الأعضاء على صاحب الاستجواب أن يلغي استجوابه، فلم يفعل ولم يستمع وجنح إلى الإحراج والعناد، وأشار الوزراء بالمطاولة والمراوغة في عرض الاستجواب، فأبى عليهم سعد أن يخالف نظام المجلس، وقال لهم: بل يعرض الاستجواب، ونعالجه بما يستحقه الإحراج والعناد.
وجاء الموعد المحدد وتلي الاستجواب، وانتظر العضو المحترم جواب الوزارة، وهو موقن بأنه قد وضعها في الفخ الذي لا خلاص منه بغير إحباط المفاوضات، ولكنه لم يكد يتهيأ لسماع الجواب المأمول، حتى فاجأه وزير الحربية - باتفاق سابق مع سعد - قائلا: «إن هذا الاستجواب موجه إلى شخص غير موجود.»
وقال سعد: «ما قول حضرة العضو المحترم في ذلك؟ في الواقع أنه لا نائب لجلالة الملك ولا لرئيس مجلس الوزراء!»، فسأله صاحب الاستجواب: «أيؤخذ من ذلك أن الحكومة لا تريد أن تجيب؟» فقال سعد: «ليست المسألة مسألة إرادة أو عدم إرادة، وإني ألفت حضرة العضو - فضلا عما ذكرته - إلى أن الاستجواب يحتاج إلى ثمانية أيام حتى لو كان مستوفيا جميع الشروط، والدورة البرلمانية على وشك الانتهاء، فهل لا يرى العضو المحترم أن تأجيله أولى؟»
أما سر الغلطة في شكل الاستجواب، فهو - كما رأى القارئ - أنه كان موجها إلى «نائب رئيس الوزراء»، ولم يصدر عند سفر ثروت باشا أمر رسمي بإنابة أحد عنه في رئاسة الوزارة اكتفاء بأن يؤدي عمله في وزارة الداخلية أقدم الوزراء الموجودين عهدا بالمناصب الوزارية.
قال صاحبنا: «كيف؟! أليس هنا فلان باشا؟»
فقال سعد: «نعم، ولكنه ليس بنائب رئيس الوزراء!»
فتردد صاحبنا وصاح مذهولا: «إذن من نسأل؟»
قال سعد: «اسأل محاميا!»
وقعد الرجل بين القهقهة والضجيج، وتأجل الاستجواب إلى موعد غير مسمى بموافقة العضو المحترم!
وتناقش المجلس في قانون خلط الأقطان، وفيه عقوبة مفروضة على من يخلطون صنفا منها بصنف، فنهض أحد الأعضاء وقال: «ولكن، ألا يتفق أن يسهو أحد فيحصل الخلط على غير قصد منه؟»
فضحك سعد ضحكته المعروفة وقال: «نعم يا حضرة العضو المحترم، يتفق! ولكن أتقدر حضرتك أن تقول لنا كم كيسا من القطن تملؤه وأنت ساه عن نفسك؟!»
وطلب بعض الأعضاء إنارة طريق مقفل وعزز طلبه بأن القتيل يقتل هناك في وضح النهار.
فعاجله سعد سائلا: «ولماذا تطلب أن ينار؟!»
وبهذه الأجوبة الحاسمة وهذه الفكاهة السريعة، كان يحفظ النظام في المجلس، ويحفظ الألسنة في الأفواه.
واستطاع من ثم أن يقف في ميدان الفصل بين جميع السلطات وجميع الهيئات، فيفصل بين الأعضاء من أنصاره ومعارضيه، ويفصل بين المجلس والوزارة، ويفصل بين الوزارة والإنجليز، ويمشي بالوئام بين القصر والنواب والوزراء، ويأخذ من كل لكل حسبما تتجه الحوادث، وتتبدل الأحوال .
ومن أخطر الأزمات التي وقعت في أثناء رئاسته لمجلس النواب وعالجها بما له من النفوذ والحنكة أزمة الوزارة العدلية، وأزمة ميزانية الأزهر، والمخصصات الملكية، وأزمة الجيش التي أثارها اللورد جورج لويد عقب الحملة التي حملها عليه مجلس النواب.
فأما أزمة الوزارة العدلية فقد نجمت من اقتراح اقترحه بعض النواب لشكر الوزارة على مساعدتها بنك مصر، ثم قيل في الرد على هذا الاقتراح إن الشكر غير لازم؛ لأنه من قبيل تحصيل الحاصل. فاغتنم عدلي باشا هذه المناسبة واستقال؛ لأنه كان على ضجر وامتعاض من مطالب اللورد جورج لويد التي لا تجري على قانون ولا اتفاق.
وبذل سعد باشا زغلول جهده في إقامة وزارة أخرى - هي الوزارة الثروتية - قبل أن يتسع الأفق للدسائس والمناورات التي لا تنقطع في السياسة المصرية.
والذي نعتقده نحن أن أزمة الوزارة العدلية وافقت رضى من سعد في تلك الآونة؛ لأنه لم يستحسن من عدلي تهديده بالاستقالة إذا تعرض المجلس لتصرفه في مسألة كتاب «الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين، ولم يكل إليه الرأي كله في هذا التصرف. وقد كان علي الشمسي باشا وزير المعارف من قبل الوفد، وكان رأيه كرأي عدلي باشا في هذه المسألة على خلاف المظنون والمقدور، فكان نصيبه أيضا من المجلس تجريح قوانينه التي عرضها لتعديل برامج الدراسة، وإفهامه من ثم أن اضطرار وزير إلى الاستقالة أمر غير عسير، ولو دخل في حماية رئيس الوزراء وحسب له حسابا قبل حسابه لزعيمه.
وسلك سعد في مسألة ميزانية الأزهر ومسألة المخصصات الملكية مسلك المجاملة للقصر مع المحافظة على نص الدستور؛ فقد كان كثير من النواب يلحون في وجوب عرض الميزانية الأزهرية على المجلس، وكان المجلس يكاد أن يتخذ قرارا بتأييد هذا الطلب؛ فذكر لهم سعد أن الدستور ينص على أن المعاهد الدينية تنظم بقانون؛ فالاقتراح سابق لأوانه قبل وضع ذلك القانون.
وفي مسألة المخصصات الملكية، كان بعض الأعضاء ينسى الدستور، ويطالب الحكومة بنقصها في الميزانية، وهو ما لا يجوز؛ لأنه مخالف للمادة المائة والحادية والستين من الدستور ، فكان سعد يسمح للأعضاء بالمناقشة في هذه المسألة ويمنع الشطط فيها، ويكتفي بتوجيه المجلس إلى التماس تعديل المخصصات من جلالة الملك رعاية للاقتصاد، ويصبغ احترام النصوص التي لا محيص عنها بصبغة المجاملة على هذا المنوال.
أما أزمة الجيش، فهي أعجب الأزمات وأدلها على العنت الذي يلقاه الساسة المصريون من ألاعيب السياسة البريطانية؛ حيث تعمد إلى خلق الأزمات؛ فكل ما حدث من أسباب هذه الأزمة أن لجنة الحربية في مجلس النواب اقترحت زيادة عدد الجيش وتحسين سلاحه، وهو اقتراح قديم عرضه سبنكس باشا نفسه في عطلة الدستور، وليس فيه خروج على حدود النيابة ولا سوابق الاتفاق بين الحكومتين المصرية والبريطانية.
إلا أن المندوب السامي كان موتورا من المجلس ومن الشعب؛ لأنهم استنكروا منه أن يباشر عمله دون أن يقدم أوراقه كسائر السفراء والوزراء المفوضين، كما استنكروا رحلاته إلى الأقاليم واستقباله الأعيان والوجهاء كأنه ملك يستقبل رعاياه. وليس للمجلس بد من هذا الاستنكار؛ لأن سكوته عنه أمر غير مفهوم إلا على معنى الإقرار والتفريط في أمانته الوطنية وأمانته الدستورية، ولكن اللورد جورج لويد لا يعرف عذرا لأحد في معارضة أهوائه وبدواته، ولا يرى للمصريين - حكومة ونوابا وشعبا ومتطرفين ومعتدلين - إلا أن يذعنوا لتلك الأهواء والبدوات ... فكظمها في صدره حتى سنحت مناسبة كأنها لا مناسبة على الإطلاق ... وراح يمطر الحكومة المصرية باحتجاجاته الشفوية والكتابية، ويطلب منها ما لا طاقة لحكومة في الدنيا بقبوله، وهو مد خدمة سبنكس باشا ثلاث سنوات ومنحه رتبة الفريق، وتخويله السيطرة على الضباط في الترقية والتعيين، واتصاله المباشر بجلالة الملك، وتعيين وكيل له ووكيل للوكيل من الإنجليز! وغير ذلك من المطالب التي أقلقت الحكومة والمجلس، وأضاعت عليهما الوقت في غير طائل ... فإن خضعت الحكومة لهذا، وإلا فالبوارج البريطانية على شاطئ الإسكندرية، وأرواح الأجانب في خطر داهم! وإن قالوا هم ونادى بعض سفرائهم بأنهم في أمان يعيشون بين المصريين معيشة الإخوان!
وقام وزير الخارجية البريطانية السير أوستن شامبرلن بمجلس النواب البريطاني فقال في بيان أسباب الأزمة: «إن أنظار فريق من رجال السياسة في مصر اتجهت إلى الجيش منذ زمن، وهم يرمون «أولا» إلى زيادة الجيش الحالي، و«ثانيا» إلى اتخاذه سلاحا في يد حزب سياسي، ولا ريب أن هذه المساعي من المسائل التي تهم الحكومة البريطانية مباشرة؛ لأن الدفاع عن القناة من المصالح الجوهرية، وحماية الأجانب من العهود التي قطعناها على أنفسنا.»
إلى أن قال: «والحكومة البريطانية على استعداد للشروع توا في فتح باب المفاوضات للوصول إلى هذه الغاية، وهي الاتفاق على المسائل المختلف عليها، ولكن علينا إلى أن يتم ذلك الاتفاق أن نصر على بقاء الضمانات التي دلت الخبرة الماضية على أنها فعالة!» نعم ... وعلى المصريين طبعا أن يفهموا أنه لا سلامة من هذه الأزمات حتى يساقوا سوقا إلى المفاوضات!
وبعد محال وجدال استقر الرأي على إجابة بعض المطالب، وهي ترقية سبنكس باشا ومد خدمته وتعيين وكيل له، وانتهت أزمة من تلك الأزمات التي تخلق من الهباء ويضاع فيها الوقت على ساسة المصريين، ثم لا يسلمون بعدها من اللوم والاتهام بالتقصير في أعمال الإنشاء والإصلاح! وقد بذل سعد من الجهد في تهدئة النواب والجمهور ما ليس يقدر على بذله سواه، وكان موضع الملاحظة عليه من بعض أنصاره - ومنهم كاتب هذه السطور - أنه يشتري الدستور بأغلى من ثمنه، ويطيل المسألة حيث لا يرجى أن تقابل بمثلها أو يكف عن العدوان.
وكنت في أمثال هذه المناسبات أقول وأكتب مؤكدا لهذا المعنى، كما قلت في أواخر مايو سنة 1926 من مقال في صحيفة البلاغ:
ويلوحون لنا بعهد كرومر وإلغاء الدستور، وما عهد كرومر بشر من دستور كهذا لا ينال المصريون منه إلا التبعات الجسام، ولا يجنون منه إلا الأباطيل والأوهام. فإما أن نسلم للإنجليز بكل زعم يزعمونه وكل مطلب يدعونه، وإما أن ينسخوا الدستور ويعبثوا بالعلاقات بين الشعب والعرش والبرلمان. ثم ماذا نأخذ نحن من هذا الدستور الذي يسوموننا فيه هذا السوم الغشوم؟ لا شيء على الإطلاق. نعم! لا شيء إلا الضرر والمحال مشفوعا بالفرقة والانقسام.
وإنما ذكرت هذه الملاحظات لأذكر رد سعد عليها وحجته في ردها، فقد كنت إذا حدثته فيما يلاحظ من فرط الحرص على الدستور أمام التهديد والوعيد يقول لي: «ليذهب الدستور حيث يذهب ... هذا حسن. ولكن يجب أن نذكر أن الإنجليز قادرون على تضييع جهودنا كلها في طلب الدستور، وأنهم لولا رغبتهم فيه لضاع علينا ما سلف من جهود. يا فلان! إن في صلب الدستور كلمات لا تزال مكتوبة بخط موظف إنجليزي في دار المندوب.»
وحجته في موقفه من أزمة الجيش خاصة، أن تضييع الدستور من أجلها عجلة لا تقضي بها الضرورة. ومتى كان القوم يشيرون إلى المفاوضة بلسان وزيرهم، فلا ضرر من إرجاء الخلاف كله بضعة أشهر إلى أن نتفق على قرار، أو يذهب الدستور إلى حيث يذهب كما تقول.
وعلى ضيق الوقت وغلبة الشواغل السياسية والأزمات المصطنعة، قد اتسع المال لأعمال شتى ومقترحات صالحة، كإلغاء السخرة وتعميم التعاون بين الفلاحين، وفتح الطرق ودرس مشكلة العمال، وما إلى ذلك من مطالب الإصلاح الاجتماعية.
غير أننا لا نريد هنا أن نسرد سجلا للأعمال والمقترحات التي أشرف عليها سعد في أثناء رئاسته لمجلس النواب، فإن هذه الأعمال والمقترحات قد يشرف عليها كثيرون من رؤساء المجالس النيابية، ثم لا يمتازون بقدرة غير معهودة في الرؤساء عامة، إلا أن الغاية التي ما بعدها غاية في هذه الصناعة أن يستوي المرء فيها على مستوى الواجب كما يتخيله المتخيل ويصبو إليه المتأمل.
والمثل الأعلى في الرئاسة هو الرئيس الذي يملك القدرة على القصد في أوقات المجلس والقصد في جهوده، ويملك القدرة على حفظ نظامه بغير حاجة إلى زواجره وقوانينه، ويملك القدرة على تعليم أعضائه وهدايتهم إلى أكبر ما يستطيعون من صواب وأقل ما يتعرضون له من خطأ.
ويكون مع صيانته لحقوق مجلسه قائما بالقسط بينه وبين جوانب الحكومة الأخرى، مانعا للصدام بينه وبين ما يحيط به من القوى والعراقيل؛ فبهذه القدرة استحقت رئاسة سعد أن تحسب مزية من مزاياه وصفحة من صفحاته، لا أن يكون مبلغها من الذكر استقصاء جزء من تاريخه والإلمام بعام أو عامين من حياته.
الفصل الرابع عشر
زعامة سعد وأثرها
يقول لنا علماء التوحيد: إن المعجزة الكبرى لنبي من الأنبياء هي المعجزة التي تطابق خلائق الأمة المبعوث فيها؛ فموسى بعث بالعصا الساحرة في أمة السحر والكهانة، وعيسى بعث بآية الشفاء في أمة المصابين والضعفاء، ومحمد بعث بالقرآن في أمة الفصاحة والبيان، فلكل منهم معجزة تطابق أحوال قومه وتستمد الإقناع من معدنه وأصله.
فما أصدق ما يقول العلماء فيما رأيناه في عصرنا من سير الزعماء! فغاندي كان خير زعيم على أهل الهند؛ لأنه ناسك من أمة الناسك، ومصطفى كمال باشا كان خير زعيم بين الترك؛ لأنه جندي من أمة الجنود، وسعد كان خير زعيم في مصر؛ لأنه فلاح من أمة الفلاحين. وحسبك أن تعمد إلى نموذج الفلاح المصري فتضاعف ما فيه من خلائقه وعاداته وخصائص بيئته لترى أمامه سعدا ماثلا في عظمته المصرية، قائما على مرتقى المثل الأعلى لتلك الخصائص القومية، وليست آية أفصح من هذه الآية على صدق النهضة السعدية وجريانها مع طبائع الأمور.
وقد اجتمعت لسعد من مزاياه الشخصية ومن توفيقات العصر في حياته صفة الزعامة الواجبة على المصريين، أو الزعامة الملائمة لأطوار النهضة الأخيرة في هذه الأمة.
فهو - لأنه كان فلاحا من أصحاب المراتب العالية - قد استطاع أن يجمع حوله السواد والعلية من أبناء الفلاحين، وهو قوام الأمة المصرية.
ولأنه كان صديقا لقاسم أمين على رأيه في تهذيب المرأة، قد استطاع أن يقود النهضة الأولى التي اشترك فيها الرجال والنساء، وشملت الأمة كلها؛ لأنها شملت البيت كله.
ولأنه كان يطلب الاستقلال من الترك كما يطلبه من الإنجليز، فقد استطاع أن يمحو الفوارق الدينية والعصبية المذهبية في الحركة الوطنية؛ لأن المسيحيين والإسرائيليين قد علموا أنهم شركاء في دعوة واحدة، وليسوا مسوقين مع حركة دينية يطلب دعاتها سيادة الترك لأنهم مسلمون، وإنما الحق أن يطلبوا السيادة المستقلة لأنهم مصريون.
ولأنه كان حاضر الفتوة، وافر الحماسة في الشباب والكهولة والشيخوخة، قد استطاع أن يقود الشبان المتلهبين كما يقود الشيوخ المحنكين، أو استطاع أن يجمع الجيلين في ثورة واحدة، وقلما يجتمعان.
قالت صحيفة التيمس وهي ترثيه:
مما عهد في الزعماء الشرقيين أنهم يعتزلون العمل قبل زملائهم الغربيين، إلا زغلولا؛ فإنه احتفظ بنشاطه الغزير إلى النهاية، وليس بين الثائرين المتطرفين في التاريخ إلا عدد قليل بقيت له عقيدته السياسية على شدتها وعنفوانها بعد الخمسين، ولكنه هو بلغ أقوى ما بلغ من السلطان على الجماهير عندما ناهز الستين، وكأنما كان تقدمه في السن يزيد من حماسة الشباب ونزواته! على أن مفاجآت طبيعته وأطوار حياته وتقلبه في تحصيل العلم بين الفقهاء العرب والأساتذة الفرنسيين، ومضاء عزيمته وفصاحته، وما كان من الأثر على تربية ذهنه لأناس بينهم من الاختلاف مثل ما بين جمال الدين داعية الجامعة الإسلامية واللورد كرومر؛ كل هذا لا يكفي لتفسير قبضته الغربية على شعب كثير التحول. فإن وراء كل هذا، وفوق كل هذه العوامل المؤهلة للنجاح قدرة خاصة قيضت له ذلك النفوذ على أبناء وطنه، ومغناطيسية شخصية تجذب إليه الألوف من التابعين.
وقد أدى البحث في أصل سعد إلى اختلاف الأقاويل بين قائل يزعم أنه من البدو، وقائل يزعم أنه من المغاربة، وقائل يزعم أنه ليس من هؤلاء ولا هؤلاء، ولكنه يشبه الترك في بعض الملامح والأخلاق، فليختلفوا ما شاءوا، وليعزز كل منهم أقاويله بما شاء؛ فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل الكثير أن صفات سعد التي لا شك فيها هي أصلح الصفات لزعامة المصريين، وأن مزاياه الشخصية وتوفيقات زمانه السياسية والاجتماعية قد جعلته الزعيم المصري الذي ليس بين معاصريه أحد أجدر منه وأولى بالزعامة، وذلك وحده كفيل بتقرير مكانه كما قرره لنفسه وقررته الأحداث والتوفيقات.
فهو في طبيعته العملية، وفصاحته المقنعة، وفكاهته المرتجلة، وعزيمته الماضية، وسماته المهيبة، ومنزلته الرفيعة، خير من ترشحه مصر لزعامتها من صميم تكوينها، وإنه لأصل في زعامة الشعوب ليس بعده رسوخ ولا عمق في الأصول.
كان ساحرا للفلاح الساذج وابن البلد الظريف؛ سمعه فلاح من قنا في الاحتفال بعيد النيروز فبكى، ثم أفاق لنفسه وهو شيخ لم يتعود أن يبكي إلا لحادث يصيبه في آله أو ماله؛ فطفق يعجب لنفسه ويسأل من حوله: ما بالي أبكي؟! أمات أبي؟! أماتت أمي؟! أغرقت مراكبي؟! أأجدب زرعي؟! وما لهذا الرجل يبكيني؟! أساحر هو؟! أفاتن هو؟! والله لا أدري! ولكن الفلاح الساذج الحائر في بكائه قد بين لنا أوجز البيان أن سلطان سعد على النفوس المصرية حادث كحوادث القضاء والقدر، أو هو من قبيل الحوادث التي تحرك تلك النفوس وتهزها في أعماقها، أو هو من قبيل تلك العوامل التي ظن الفلاح الساذج أنها هي وحدها خليقة أن تسيل الدموع من عينيه.
وسمعه مصري من أبناء البلد يخطب في نادي «سيروس» ويضحك ضحكته العالية من خصومه؛ فما تمالك أن صاح: «يا سلام يا باشا! ضحكتك حلوة، حلوة جدا الله! الله!» فما ترك سعد هذا التعقيب «البلدي» على ضحكته الساخرة أو الساحرة دون أن يشفعه بتعقيب من جنسه، وهتف بالحاضرين في طلب السكوت كما يناسب المقام: «سمع، سمع هس!»
فمواقف الخطابة أو مواقف الزعامة لم تكن عند هذا الزعيم إلا تيارا جارفا ينبعث من قرارة وجدانه، فيحتوي الحاضرين في غمراته ويردهم إلى عنصرهم الأصيل؛ فيشعرون على البديهة أنهم وهذا الزعيم من موطن واحد في الشعور وموطن واحد في الإرادة وموطن واحد في الجد والفكاهة، غير أنه يقدر من حيث لا يقدرون، أو يقدر وهم من ورائه تابعون.
والزعامة إذا بلغت هذا المبلغ من الأصالة كانت قوة مطبوعة - بل فرصة إلهية - لا تفرط فيها أمة رشيدة، ولا تقدر على التفريط فيها أمة ولو كان ديدنها التفريط؛ لأن الأمر في هذه الزعامات من وراء المشيئة والتدبير.
وقد يكون في الأمة عشرات أو مئات يقاربون ذلك الزعيم في جملة الصفات، أو يفوقونه في بعض الصفات، لكنهم لا يغنون ولا يعوضونه وهو واحد وهم عشرات أو مئات؛ لأن الفضل في الزعامة للدرجة والنوع لا للعدد والكثرة، والشأن هنا كالشأن في درجات الجمال؛ لو اجتمع ألف وجه على اعتدال في المحاسن لما بلغت كلها من الأثر والفتنة ما يبلغه الوجه الواحد الفائق في حسنه، ولا لوم على القلوب إذا هي آثرت أن تفتتن بذلك الوجه الواحد أضعاف ما تفتنها تلك الوجوه الشتى؛ لأن الطبيعة لا تحس إلا هكذا، ولا يحسن بها ولا ينفعها أن تنحرف عن سوائها، وكل إحساس مطبوع فهو قوة مطبوعة نافعة في إيقاظ قوى الأفراد وقوى الشعوب، ومتى كان سبب التأثير طبيعيا، فالتأثير لا جرم طبيعي لا اصطناع فيه، وإنما الآفة الكبرى أن تكون الزعامة من توليد الاصطناع والمواربة والتمويه والتواطؤ على الغش والمغالطة والانتفاع؛ فإنها تكون حينئذ كالصحة التي تصنعها المخدرات ليست من الصحة وليست من الشفاء، ولكنها من السقام.
لما نهض سعد بالدعوة الوطنية، لم تكن مصر خالية بطبيعة الحال من أولئك «المحكمين» الأزليين، أو أولئك المتحذلقين أحلاس القهوات الذين يخطئون كل عمل، ويخطئون كل رجل، ويخطئون كل رأي، ولا يحسبون الأمور في الدنيا تجري أبدا إلا على خلاف ما يحكمون ويستحسنون ... ثم لا يعرفون بعد ذلك أنهم هم المخطئون.
كان هؤلاء المحكمون الأزليون يرون كل إنسان في مصر صالحا للزعامة إلا الزعيم القائم بها في حينها؛ لأن أصول الصناعة تقضي بذاك، وإلا لم تكن هناك صناعة ولم تكن هناك قهوات ... ولم يكن هناك محكمون.
أفما كان زيد أولى بحل القضية المصرية لأنه مقرب من الإنجليز؟ أفما كان فلان أولى منهم جميعا لأنه خليفة فلان؟ ولعلهم لو طولبوا بالاتفاق فيما بينهم لما انتهوا إلى اتفاق؛ لأن الثرثرة لم تكن قط وسيلة الاتفاق، وإنما كانت وتكون أبدا وسيلة المحال والشقاق.
وأوجز ما يوصف به هؤلاء - على أحسن الظنون بهم - أنهم كسماسرة الزواج؛ كل خطيب عندهم غير أهل لخطيبته، وكل خطيبة عندهم غير أهل لخطيبها، إلا أن يكون لهم نصيب في الوساطة والمهر والوليمة؛ وعندئذ يكون كل خطيب وخطيبة في الدنيا على ما يرام.
وإذا حاورتهم باصطلاح سماسرة الزواج، فليس بالنادر أن يصيبوا من حيث يخطئ الأزواج والأصهار؛ فهذا الفتى الممقوت خير من جميع الفتيان؛ لأنه يملك المستقبل وينتظر الميراث، وهذه الفتاة الدميمة السقيمة خير من جميع الفتيات؛ لأنها تدخل إلى بيت قرينها والوظيفة معها بجاه أبيها أو ذويها، وهذا الشيخ خير من جميع الشبان؛ لأنه غدا يموت، وهذه المرأة النصف لا تضارع في بيت القرين؛ لأنها تغنيه ولا تحاسبه على ما يبقيه ويفنيه ... نصائح نافعة من حيث ينظر السمسار وأشباه السمسار، ولكن النصائح التي هي أنفع منها وأغلى هي النصائح التي يستمع إليها الناشئ الصغير بإلهامه والناشئة الصغيرة بإلهامها؛ لأنها هي النصائح التي توحي بها الفطرة الخالدة وتنوط بها بقاء الحياة وتقدم الأحياء.
وهذا الإلهام هو الذي استمعت إليه الأمة المصرية، ولم تستمع إلى حكمة السماسرة وأحلاس القهوات؛ فما كانت تلبية سعد إلى ندائه سبيلا إلى المنافع، أو سبيلا إلى الوظائف، أو سبيلا إلى الراحة والاطمئنان، ولكنها كانت على نقيض ذلك: مضيعة للمنفعة والوظيفة، مجلبة للمحنة والبلاء؛ فطاعتها هي من قبيل الطاعة التي يلهمها الناشئ والناشئة لصوت الفطرة ودعاء السريرة. يخطئ من يسمعها في بعض الأحايين من الوجهة الدنيوية، ويخطئ ألف مرة من يصم عنها أذنيه من وجهة الحياة الباقية والحكمة الخالدة، وإن كان خطؤه لا يظهر له ولا للآخرين؛ لأن الذي يفقد الكمال لا يشعر بفقد الكمال، أو لا يعترف بخسارته كما يعترف فاقد الخبز والحطام.
وإذا ظفرت الأمة بالزعيم الذي تكون طاعته من قبيل هذا الإلهام، فتلك هي الزعامة التي تنتظرها الأجيال بعد الأجيال، وتلك هي الفرصة التي يخشى عليها الضياع؛ لأن الزعامة التي تكون طاعتها من قبيل الاهتداء بحكمة السماسرة وأحلاس القهوات هي فرصة لن تضيع؛ إذ هي فرصة موجودة كوجود المنافع وعلم الحساب في كل مكان.
هذا الإلهام الفطري هو الأثر الأكبر لزعامة سعد زغلول، وهو شيء لا يدخل في الإحصاء والأرقام، ولكنه مع هذا شيء لا غنى عنه لكل منفعة أو مصلحة يدركها الإحصاء وتحصرها الأرقام.
والزعيم لا يحاسب في التاريخ بحساب الدفتر الذي يحمله الأجير؛ فلا يعطى فيه درهما إلا بما يقابله من عمل في ساعات النهار. إن الرجل الذي لا تظهر مآثره إلا بهذا الحساب لهو أنقص الناس من صفات الزعامة وقيادة الشعوب؛ لأنه إذن يعمل بيديه كما يعمل الآخرون، ويتلقى جزاءه كما يتلقاه سائر الناس، ويحاسب بمفرده بما يدعو الناس إليه؛ وإنما يحاسب الزعيم حساب الشمس التي تشرق على الحقول، أو حساب النهر الذي يجري بين الأعشاب والأشجار؛ لا يضرب كلاهما فأسا ولا يغرس جذرا ولا يخط سطرا بهندسة، ولا يبني جدارا على حوض أو خزان، ولكن الضاربين بالفئوس جميعا والغارسين للجذور جميعا والعاملين في الهندسة والبناء جميعا لا ينبتون سنبلة واحدة بغير الشمس والماء.
فإذا استطاع هذا الزعيم أن يبث هذا الروح أو يوقظه أو يجمعه حواليه، فكل ما تنشئه الأمة - وهي مأخوذة بهذا الروح - فهو من عمله وصنع يديه. أما إذا كان عمله كله هو ما يعمله بنفسه ويرسم عليه طابع يديه، فما هو بزعيم.
وسعد زغلول قد بث في مصر هذا الروح، أو هو قد أيقظه، أو هو قد جمعه حواليه؛ فكل ما نهضت به الأمة من اشتغال بالصناعات، أو مصارف الأموال، أو شركات التجارة، أو معاهد التعليم، أو مجامع السياسة مما لم يكن فيها قبل تلك النهضة، ففيه سهم لا ينكر لزعامة سعد زغلول.
هذه الزعامة هي التي التقى حولها المصريون فعلموا أنهم أمة، وعلموا أنهم مسلمون ومسيحيون ولكنهم أمة، وأنهم رجال ونساء ولكنهم أمة، وأنهم شيب وشبان ولكنهم أمة، وأنهم حضريون وريفيون ولكنهم أمة؛ فانبعثت للأمة حياة ماثلة إلى جانب حياة كل فرد وكل طبقة وكل طائفة وكل جنس وكل دين، ورأينا الأيام التي نسي فيها اللص أنه سارق ولم يذكر إلا أنه مصري من المصريين، ونسيت فيها البائسة الموصومة أنها متاع مهين ولم تذكر إلا أنها مصرية تطالب بقضية، وفهم حتى هؤلاء أن هنالك معنى من معاني الرفعة الإنسانية يسمى الشرف ويسمى الحياء، بل رأينا السنين التي لبث فيها المئات والألوف يسامون الخسار، فيقبلون الخسار ولا يقبلون المراء في العقيدة، ويخيرون بين منفعة النفس ومنفعة الأمة التي يدينون بها، فيختارون منفعة الأمة ولا يحفلون بمنفعة النفس ولا بمنافع الآل والبنين . وتلك غنيمة قومية لا تدخل في حساب الأرقام، ولكن الأمة التي تهملها وتبخس قدرها لا تدخل هي نفسها في حساب.
وسرى قبس من روح الوحدة المصرية إلى كل أمة في الشرق تعلم أن شأنها في طلب الحرية كشأن المصريين، وأن حاجتها إلى الوحدة الوطنية كحاجة المصريين؛ فظهر الوفاق بين الطوائف في بلدان، لم تعرف قط وفاقا ولا رغبة في وفاق، وأصبح سعد زغلول علما للنهضة الشرقية بأسرها لا للنهضة المصرية وحدها، ورمزا لدعوة الوحدة في كل بلد ممزق بين العصبيات الداخلية والمطامع الأجنبية.
روى موظف مصري أنه لقي المهاتما غاندي في لندن حين زارها لحضور المؤتمر الهندي فيها، فجرى الحديث بينهما عن القضية المصرية، واستطرد إلى ذكر سعد فقال المهاتما: «إنني تتبعت سيرة هذا الرجل القدير من سنة 1919 إلى الآن، ولا يزال له في نفسي أثر عظيم، وأنا أعده قدوة وأراه بمثابة أستاذ.»
قال الموظف المصري: «ذلك تواضع منك، ولا ريب أن الأمة المصرية أربعة عشر مليونا، وأنت قد شملت حركتك ثلاثمائة وخمسين مليونا من الناس.»
قال المهاتما: «على هذا التقدير يكون سعد هو صاحب الفضل في السبق والابتداء. ثق أن الحركة الهندية سارت على أعقاب الحركة المصرية، إني اقتديت بسعد في إعداد طبقة بعد طبقة من العاملين في القضية الهندية، فلا تعتقل طبقة منهم إلا لحق بها خلفاؤها على الأثر، وعن سعد أخذت توحيد العنصرين، ولكني لم أنجح بعد كما نجح فيه ... إن سعدا ليس لكم وحدكم ولكنه لنا أجمعين.»
وأيا كان نصيب هذه الرواية من الصحة، فالحقيقة التي لا تحتاج إلى إثبات ولا استشهاد هي أن الوحدة المصرية سابقة لكل وحدة في دعوات الشرق الوطنية، وأن الوحدة المصرية مدينة لسعد بمزاياه التي توافرت له أو توافرت حوله فجعلته - دون غيره - أصلح الزعماء للزعامة على جميع المصريين.
لقد كانت الزعامة بداهة فيه تقابلها التلبية البديهة من الجماهير. كان يدبر ويقدر ويأخذ الأمور بالروية والنظر البعيد، ولكنه لا يعول على التقدير والتدبير بعض تعويله على البداهة التي ترتجلها الشعوب في غير تكلف ولا استعصاء، وعنده أن العناية الإلهية تعمل في هذه البداهات المرتجلة ما ليس يخطر على بال؛ ومن ثم كانت كلمته التي يرددها كلما اتجهت الحوادث إلى غير اتجاهها المنظور، أو انفرجت الأزمات من غير مظنة الفرج المقدور: «إنها العناية، إنها العناية!» ويرفع بصره إلى السماء ولا يزيد.
أذكر في الأيام التي أعقبت عودته من المفاوضات مع مستر مكدونالد أننا زرناه وعنده الأستاذ حامد جودة المحامي يقترح عليه بعض الآراء.
فقال سعد بدعابته المعهودة: «يا حامد، أنا ختمت العلم! فهاتوا العمل الناجع، فلا حاجة بي إلى اقتراح.»
ثم قال: «ماذا تروننا صانعين في مواجهة الإنجليز؟»
قال أحد الحاضرين: «الإضراب العام يشترك فيه الموظفون حتى تجاب مطالب البلاد.»
فسأل الباشا: «وهل يقع هذا الإضراب؟»
فقال بعض الحاضرين: «يقع عاما.» وقال غيرهم: «يقع في بعض الجهات.» وخالفهم آخرون فقالوا: «إنه لا ينتظم ولا يطول.»
قال سعد: «الدليل على أنه لا يقع ولا يصمد طويلا - إن وقع - أنكم مختلفون فيه ... إن هذه الحركات لا تأتي إلا عفوا.» وقالها بالفرنسية
Spontanement ، وعندما يكون الجو مهيأ لن تختلفوا فيها، بل تجيبون بلسان واحد: «إنها أمر واقع لا ريب فيه».
ولتعويل سعد على هذه البداهة كان لا يكرب ذهنه كثيرا بهموم المستقبل، ولا يزيد على أن يعطيها حقها من التفكير والروية، ثم يدع البقية للمفاجأة أو للبداهة أو العناية كما يقول. واطمئنانه إلى المستقبل من هذه الناحية كاطمئنان التاجر الغني الوطيد المكان الذي يعمل عمل الرجاء، ولا يضيره أن تفاجئه السوق بالهبوط أو الكساد؛ لأنها كيفما تقلبت واضطربت لن تجده إلا على استعداد للصعود والهبوط، وغيره قد يطمئن إلى المستقبل مع هذا الاطمئنان فيضيع ويبور، أما هو فالثروة التي لديه ضمان لا يعتريه خذلان، فمن فضول الوهم أن يكرب نفسه طويلا بالوساوس والهموم.
كان لقومه مدد من عزمه، وكان لعزمه مدد من قومه، وكانا كالشحنتين الكهربائيتين كلتاهما بمفردها في سكون، ولكنهما لا يلتقيان حتى تندفع القوة الكامنة التي لا تندفع على انفراد.
ولم يكن أقدر منه على الاتجاه والتوجيه، إن لم يكن بوحي البداهة فبالكلام الذي يبلغ مبلغ البداهة من أخلاد سامعيه.
كان خصومه يدسون عليه في بيت الأمة أناسا من المشاغبين الذين لا خلاق لهم ليلغطوا في مواقف التأثير والاحتدام، فيفسدوا الخطاب عليه وعلى السامعين، وكان الجمهور يحار في تأديب هؤلاء؛ لأنه لا يدري هل يتركهم فيفوته حظ السماع، أو يجاوبهم فينقطع الخطاب. وتمادى سليط من هؤلاء يوما، فضاق الجمهور به ذرعا وأخذوا بتلابيبه وبهم إشفاق من ضياع الخطبة، فهم يترددون ولا يدرون كيف يصنعون: هل يضربونه فيقع الاضطراب، أو يرسلونه فيعود ويجترئ أمثاله السلطاء على مثل عمله ... وكخطف البرق تبدر الكلمة من سعد، فيكون فيها فصل الخطاب مع هذا السليط ومع من تحدثه نفسه من زملائه بركوب هذا المركب العسير، ويقول سعد: «لا يضرب في بيتي!» ويترك مقام الخطابة! وكخطف البرق يفهم الجمهور ما يريد ... وينقطع دابر هؤلاء السلطاء فلا يرجعون.
كتب سعد وهو في نحو العشرين من عمره في الوقائع المصرية - صحيفة الحكومة - يشهر بالاستبداد، ويحض الناس على دفعه، ويستشهد بقول النبي عليه السلام: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده.» ويختم كتابته بقوله: «إن شريعتنا شريعة سمحة، تأبى أن يتولى أمور ذويها من لا يراعون للشرع حرمة ولا يحفظون للسنة ذمة، وتوجب الشورى على كل من الرعية والحاكم جميعا؛ ذلك هو الحق، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.»
ويروى عن السيد جمال الدين الأفغاني أنه أمر تلاميذه بالكتابة في موضوع الحرية، فكان سعد - وهو أصغر التلاميذ سنا - أحسنهم كتابة في هذا الموضوع؛ فقال السيد: «إن من علامة نشأة الحرية في هذه الأمة ألا يجيد الكتابة فيها إلا ناشئ كهذا الفتى!»
حضرته أثناء الحرب العظمى يسمع قصيدة حافظ العمرية، فما استعاد ولا صفق فيها لأبيات كما استعاد أبيات الشورى وصفق لها، حتى مال إليه محمد محمود باشا يداعبه قائلا: «معلوم! وكيل الجمعية التشريعية.»
فكراهة الاستبداد في طبعه ...
وقيادة الشعوب في طبعه ...
ولو لم يكن حبه الحرية مصلحة عامة وعقيدة راسخة، لكان مصلحة خاصة تقوم عنده مقام العقيدة؛ فهو يذود عن كبريائه حين يقضي للفلاح بحق الحرية، ولا يرى فيه رأي الزملاء من حكام الترك الذي يقضون عليه بالخضوع، ويقضون لنفسهم بالسيادة. ومن اتفقت له كراهة الاستبداد والقدرة على دفعه، واستنهاض الشعب إلى صدع قيوده، والشعور مع الشعب بعزته وهوانه، فقد رشحته إرادة الغيب، ولم ترشحه إرادة الناس للزعامة والاضطلاع بهذه الأمانة، واصطلحت هداية الإلهام وهداية التفكير على تقديمه لهذا الأمير الكبير.
لقد وجدت الأمة المصرية نفسها على يدي سعد، ولم يكن لها قط وجود أكمل من وجودها إلى جانب هذا الزعيم، وهذا أثر لزعامته لا شك فيه! وهذا وحده في عالم السياسة أثر يعلو على جميع الآثار.
صفحة غير معروفة