وهكذا كان، وخرج سعد في ذلك اليوم إلى جانب الملك يفتتحان البرلمان الأول، وتلاحمت الجماهير والجند بين قصر عابدين ودار النيابة. وسمع لأول مرة هتاف الجماهير بحياة الملك وسعد في صوت واحد، وكان شعار ذلك الموكب «يعيش الملك ويحيا سعد»، وهي كلمة لم تسمع قبل ذلك في أنحاء وادي النيل؛ إذ كان الحجاب كثيفا بين القصر والرعية، ولم يزل كذلك إلى أن عاد سعد من منفاه، فعود الجماهير كلما هتفوا بحياته أن يجيبهم قائلا بل نادوا: «لتحي مصر، وليحي الملك»، فكانوا يجيبون عليه موفقين بين الأمرين: «يعيش الملك ويحيا سعد»، وكذلك كان هتافهم يوم اجتمع الملك وسعد في موكب واحد، ومن عجائب التقادير أن هذه البدعة الناشئة لم تقع من المسامع الملكية موقع الاستحسان.
الفصل الحادي عشر
في رئاسة الوزارة
كان سعد باشا يقول إذا ذكرت وزارة الشعب الأولى وأزماتها ومعضلاتها:
إن عيبنا الأكبر في تلك الوزارة أننا أخذناها جدا وصدقنا أننا مستقلون!
وهذا عيب من وجهة النظر الإنجليزية لا شك فيه؛ لأن الذي كان مطلوبا من سعد - على ما يظهر - هو أن يصدق أنه رئيس حكومة مستقلة ولكن بمقدار ما يؤدي ثمن الاستقلال، ويحمل ما فيه من المغارم والتكاليف، ثم ينسى الاستقلال كلما كان للسياسة البريطانية مطلب تبتغيه، وهو وشأنه بعد ذلك في تمثيل هذا ا الدور ذي الوجهين.
لكنه يخلف لتمثيل دور ذي وجهين في رواية طويلة كرواية الاستقلال، فاكتفى بتمثيل الدور من جانب واحد وهو جانب الاستقلال الصحيح، ومضى في وزارته كما يمضي كل رئيس حكومة في أمة مستقلة، وترك للسياسة البريطانية أن تقنع بهذا الدور الصريح، أو تعلن أغراضها الخفية من وراء الظواهر والمراسم، فتقوم هي بتمثيل الدور ذي الوجهين.
بدأ وزارته بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين، وألغى نفقات جيش الاحتلال الإنجليزي التي كانت تدرج في الميزانية المصرية، كأن بقاء الاحتلال مطلب من مطالب البلاد!
ورجع بالموظفين الإنجليز إلى حدودهم القانونية التي ترسمها لهم صفتهم الرسمية؛ وهي صفة المستشارين والخبراء الفنيين، الذين هم موظفون يخدمون الحكومة المصرية لا الحكومة الإنجليزية، يسألون فيجيبون بما يعلمون، ويتركون الرأي الأخير للوزير المسئول.
وأصبح هؤلاء الموظفون خاضعين للقوانين بعد أن كانت إرادتهم وحدها هي القانون. فلما ظهر الخلل في أعمال بعضهم بوزارة المالية ووزارة المواصلات أمر بتحقيق التهم المنسوبة إليهم، وقدم واحدا منهم إلى مجلس التأديب، وأصر على تقديمه للمحاكمة على الرغم من احتجاج دار المندوب.
صفحة غير معروفة