إن صاحبنا «ليودفتشي» لم يخلص التلمذة لنيتشه في هذه النبؤة الجامحة، ولو أنه كان لأستاذه الكبير ذلك التلميذ النجيب الذي يريد أن يكونه، لعلم أن شطط الرؤيا إلى تلك النهاية مستحيل في الحقيقة وغير مقبول في الخيال، وأن المرأة قد تعرف قوة السخط الأدبي وقد تغلب بها أحيانا، ولكنها لا تنشئها ولا تثابر عليها جيلا بعد جيل بمعزل عن إيحاء الرجل وإمداده القريب، فالمرأة ما خلقت فيما مضى ولن تخلق بعد اليوم «قانونا خلقيا» أو نخوة أدبية تدين بها وتصبر عليها غير ذلك القانون الذي تتلقاه من الرجل، وتلك النخوة التي تسري إليها من عقيدته؟ ولو ظهرت في الأرض نبية بمعزل عن دعوة الرجال لما آمنت بها امرأة واحدة، ولا وجدت لها في طبيعة الأنثى صدى يلبيها إذا دعت إلى التصديق والإيمان، وإنما المرأة تؤمن بالرجل حين تؤمن بالنبي وبالإله، وتسخط سخط الرجل حين يسخط عن تدين واعتقاد، وليس بالمستحيل أن يتمرد النساء على الرجال، ويعلن النقمة والعصيان، ويطلبن الحقوق وشريعة المساواة، ولكن سخط العقيدة الذي يزعمه ليودفتشي ناصرا للمرأة على الرجل جيلا بعد جيل وطبقة بعد طبقة مستحيل لا يتخيله من عرف تاريخ المرأة فيما مضى، وعرف طبيعتها في كل زمان، وربما قيل: إن المرأة حين تسخط ذلك السخط إنما تسخط بقوة اهتمامها بالرجل وقوة حقدها عليه، فهي على كل حال تستوحي منه العقيدة، وهو على كل حال موضوع هذا الاعتقاد. قد يقال هذا وقد نستجيزه في بعض الأحوال الفردية التي تكون فيها الثورة على رجل، أو على رجال، وليست على «الرجل»، أو على «الرجال»: ولكنا لا نستجيزه في ثورة طويلة كالتي يتخيلها ليودفتشي تثابر عليها المرأة مئات السنين إلى ذلك الأمد البعيد. •••
ولكن لماذا لا نحسب تلك النبوءة على جانب الإعلان الذي قلنا إنه عنوان الفلسفة في هذا الزمان؟ احسبها أيها القارئ على جانب الإعلان، وانظر إلى البضاعة لعل فيها ما يستحق مؤنة البحث والاقتناء.
أما البضاعة في لبابها فهي أن غلو الآداب والأديان في احتقار الجسد قد عودنا أن نغتفر العيوب الجسدية، ونبيح الزواج بين الضعاف الذين لا يتذوقون فرح الحياة ومتعة الأشواق والأهواء، وأن هذه العادة قد أثارت طبيعة المرأة على الحياة، ورفعت هيبة الرجال من نفوس النساء فتطلعن إلى المساواة والاستقلال، وأضعن ميل الغريزة ورضا الأنثى بحظها في الحياة وجاءت أزمات المعيشة الحديثة فألجأت ألوف النساء إلى العزلة، وطلب القوت فشاع بينهن الغضب على الدنيا، وأشربت نفوسهن روح الثورة والانتقاض، فللمرأة في هذا العصر ثورة خلاصتها أنها ثورة أجساد مغبونة، ومعدات جائعة، وحب معكوس يتزيا بمظهر الحقد والبغضاء.
هذه هي خلاصة الحركة النسائية في مذهب ليودفتشي، وهي على ما نظن خلاصة معقولة تصلح للانتقاد.
إلا أننا نسأل: هل الآداب هي التي خلقت احتقار الجسد، وما زالت بنا حتى اغتفرنا عيوبا في الأبدان والأعضاء لم يكن يغتفرها الأولون؟ أو أن احتقار الجسد وسآمة اللذات، وأسبابا أخرى غير هذه الأسباب هي التي خلقت الآداب وأنشأت لنا معايير للتقويم والتقدير هي معايير الأبدان والأعضاء؟ والذي نرجحه نحن أن احتقار الجسد قد نشأ بعد أن أصبح الجسد حقيرا حقا عن ضعف أو عن ابتذال في عرف الكثير من الضعفاء والأقوياء، وأن العصر الحديث لا يدين لسلطان الأديان وآداب الوراثة والتقليد في كل ما يشعر به من آداب احتقار الحياة وسآمة الأفراح، وإنما هو ينطوي على عوامل كثيرة قادرة على أن تعيد هذه الآداب سيرتها الأولى لو بطلت اليوم كل الآداب الموروثة عن الأقدمين، فالعقائد لا تتهم بإضعاف الأبدان واحتقار الحياة، ولكنه هو ضعف الأبدان، وهي حقارة الحياة هما البادئان بإنشاء العقائد التي يحاسبها ليودفتشي على عيوب هذا العصر الحديث، وهيهات أن تكون لذات الجسد حقيرة في عقيدة مقبولة تسيغها الطباع لو لم تكن لذات الجسد حقيرة في الواقع المحسوس قبل أن تخطر تلك العقيدة على بال إنسان، ونظن أن ترف المدينة وإهمال الفاقة هما سر العقيدة التي نشأت في القدم، وتنشأ اليوم وبعد اليوم مبغضة في الحياة مزرية باللذات مغرية بالتشاؤم والأنفة من رق التكاليف. بل نظن هذه العقيدة بركة في بعض نواحيها وذخيرة أعدتها الطبيعة لمكافحة الابتذال، والتهالك على صغائر الحياة كلما أفرط الناس في الشهوات، وأمعنوا في ابتغاء اللذات، فهي علاج يناسب الداء وليست بداء يحتاج إلى علاج، وهي أصلح من الإيمان بالجسد وحده لإبقاء العصور التي تشكو الضعف، وتتبرم بحقارة الحياة؛ لأن الإيمان بالجسد وحده يزيد الضعيف غيا، ويدفع بالجوى إلى طريق الضعف والغواية أما إنكار الجسد - وهو تلك العقيدة التي تدخرها الطبيعة لمثل هذه العصور - فهو علاج عاصم يعين على ضبط النفس وكبح النزوات، وهما ملاك قوة القوي، وأحوج ما يحتاج إليه الضعيف. •••
وثم سؤال آخر وهو: هل يستطاع في حالة الحضارة أن نجعل المعايير الجسدية هي الحكم الفصل في قيم الرجال والنساء؟ ونقول نحن: لا، إن الحضارة أعرف بالقصد من الهمجية، وأدرى بوسائل الادخار والاستنباط، فالهمجية تستفيد بصفة واحدة في الإنسان، أما الحضارة فتستفيد بكل ما في الناس من الصفات والملكات، فمطالبها موزعة وصفات أبنائها موزعة كذلك على حسب تلك المطالب، وهي في حاجة إلى القوة والحيلة والذكاء والذوق والابتكار والجمال والأناقة والدمامة والخشونة، وكل ما تقوم به العلاقات المتشعبة بين الناس، وهي لا تقوم على عنصر واحد ولا يتاح أن يجتمع عناصرها كلها في فرد واحد، فمن هنا تختلف المقاييس ويتفاضل الناس بصفات كثيرة غير صفات الأبدان والأعضاء، فيرجح الذكي على من هو أقوى منه إذا كان هذا محروما من الذكاء، ويفلح الكبير النفس حيث يفشل من هو أصح في الجسم وأجمل في ظاهر الرواء، وتحفظ هذه الصفات الكثيرة بهذا التفريق في الميول وهذا التباين في الاختيار.
فالإيمان بالصفات الحيوانية وحدها ليس بالميسور في الحضارة ولا هو بالمشكور، والاختلاف في الملكات لا يكون إلا بتضحية محتومة يزيد فيها نصيب وينقص نصيب، وجهد ما نستطيعه في هذا الأمر أن نمنع المرض، ونحظر التناسل بين من لا يرجعون للأبوة والأمومة، أما اختلاف المقاييس فقضاء مبرم على الحضارة لا محيص عنه ولا داعية لاجتنابه.
لهذا نعتقد أن شكوى المرأة في الحضارة قديمة، وليست بالطارئ الجديد الذي أحدثته عقائد الأديان أو احتقار الأجساد، وإن أسباب الحركة النسائية عريقة في التاريخ، وجدت على درجات متفاوتة في الشدة والرفق، أو في الظهور والضمور، فإذا تغير منها المظهر والصيغة في عصرنا هذا فذلك مرجعه إلى سببين مقصورين على هذا العصر الحديث: أولهما أنه عنصر «الاجتماعات»؛ لأنه عصر المدن والصناعات، وثانيهما أنه عصر ديمقراطية تبث عقيدة المساواة بين جميع الأفراد، وتتلو عصر الفروسية التي ارتفع بالمرأة في أوربا إلى ذروة القداسة والتبجيل، فحركة النساء اليوم تبدو في هذا المظهر الجديد بما تأخذه من حقوق الديمقراطية وتراث الفروسية ودعاوى المساواة، وآلات التعاون والتنظيم، وطموحها إلى المساواة في الحقوق والواجبات لغط لا يدوم إلا ريث أن تسفر التجربة عن غايته المصطنعة، وغوره القريب.
ثاميرس أو مستقبل الشعر1
في بعض الأساطير القديمة عن التيوتون
صفحة غير معروفة