ولقد أطلنا النظرة في الصورة، وأطلنا الحديث فيها، ونسينا يومها الفضاء وما جاء بنا إلى الفضاء، واستعرتها من صديقنا الأديب فأقمتها على مكتبي بحيث ألقاها في الصباح والمساء وأستقبلها كلما أخذت في القراءة والتفكير، ولو تألف الأشباح عينا تدمن النظر إليها قد بات يألفني هذا الشبح الشاخص عند ذلك الراحل الدفين، ولقد بات يصغي إلى مناجاة تهم بها شفتاي وفيها كل إعجاب، وليس فيها أثر مما يلوح عليها من ملام، وكأنه يسمعني في تلك المناجاة أسائله مساءلة المشفقين: أيتها الفتاة إلى أين! إلى القبر في هذه المسوح وفي هذه الكآبة وفي هذا المحيا الوضيء؟ عليك يا بنية سمة الملاحة وفيك مرتغب يا بنية للراغبين، ووراءك الدنيا يا بنية تفيض بالأفراح والأطماع، ويتسابق فيها المتسابقون على إرضاء الجميل، وتضحك لها الرياض عن نضرة الريحان، وتطلع عليها الكواكب باللمح والابتسام، وتنشدها الصوادح أناشيد الحب والرجاء، وأنت زينة من زينتها تهجرينها كلها، وتدبرين عنها كلها، وتقبلين على هذه الحجارة المركومة فوق ذلك الجسد المحطوم؟
نعم لو تصغي الأشباح إلى الناظرين، لقد كان يسبق إلى ذلك الشبح أنني أعجب له هذا العجب، وأناجيه هذه المناجاة، ولقد كان لعله يقول وهو يجيب جواب الأشباح:
إن من يذكر لينسى، وأي ذاكر لم ينس الدنيا وما فيها حين يقبل على الذكرى؟ وأي ذاكر لا ينسى الدنيا حين يرجع عما حوله إلى غابر كان حوله يوما، ثم طواه الزمان طي الفناء. ألا إنها هي الذكرى، ألا وإنها هي أعلى من الدنيا، وهي أعلى من الرياض والكواكب والأناشيد، وهي أعلى من الإنسان! بل هي أعلى من صاحب الذكرى، لو عاد من غابره المطوي إلى جوار الحياة!
ليسستراتا1
ليسستراتا هو اسم امرأة أثينية أثارت بنات جنسها على الرجال، فأقسمن ألا يقاربنهم أو يعقدوا الصلح الذي يردنه، ولكنهم لم يلبثن أن تركنها وارتمين في أحضان الرجال!
وليسستراتا هو اسم رسالة تبحث في موضوع المرأة الناقمة في هذا العصر وفي المستقبل، وهي إحدى رسائل تبلغ الخمسين يصدرها في إنجلترا بعنوان «اليوم وغدا» رهط من رجال الفكر والأدب والفن، يختارون لكل رسالة نبوءة عن المستقبل في بعض الشئون، ويتخذون لها اسما قديما من أسماء أبطال التواريخ والأساطير، فهي من الأمس في التسمية، ومن اليوم في التأليف، ومن الغد في موضوع النبوءة الذي تدور عليه.
صاحب هذه الرسالة التي نحن بصددها هو «ليودفتشي» أحد الحواريين النيتشيين الذين يدعون إلى مذهب المفكر الألماني في بلاد الإنجليز، وهو من المغربيين في النزعة وأسلوب التفكير، ولا غرابة في ذلك فهذا أوان الإغراب وعصر الإعلان الذي يكثر فيه إلحاح المؤثرات على حواس الناس، فلا يظفر منها بالالتفات إلا من بذ غيره في التنبيه والإزعاج، فإن شئت أن تسمي مدرسة العصر الحديث في العالم كله باسم يدل عليها، وعلى مكان الحقيقة من فلسفتها فسمها «مدرسة الإعلان» وانتظر عندها من البريق والزعيق ما تنتظره عند فن الإعلانات الأمريكية والحروف النارية التي يتلألأ بها الفضاء ثم يواريها الظلام بعد عمر طويل أو قصير، وكن سعيدا راضيا بالغنيمة إذا ظفرت تحت ذلك الإعلان «بمحل تجارة» تباع فيه بضاعة نافعة وصنف جديد.
من بريق هذه الرسالة وزعيقها نظرتها إلى المستقبل على ضوء الإعلانات الأمريكية والحروف النارية، فماذا يكون مستقبل المرأة الناقمة، وماذا يكون مستقبل الرجل المنقوم عليه؟ سترى عما قريب!
مستقبل المرأة الناقمة إذا صارت الأمور إلى أقصاها، أن تستغني عن الرجل وتستضعفه وتقضي بالموت على كل ذكر ينتج نسلا بغير الطريقة العلمية التي يستخدمها بعض العلماء في إلقاح الإناث بمادة الذكور. ذلك أن الآداب الفاشية بين الناس في هذا الزمان آداب تنكر الجسد وتزري بمطالبه ونزعاته، وتغلب ما تسميه بالأشواق الروحية على ما تسميه بالميول الحيوانية، فلهذا فترت رغبة المرأة في الحياة، وتمردت على الرجل، وأشاع الناقمات من النساء أن العلاقة بين الجنسين علاقة دنس وهوان خير منها التبتل والانفراد، وأصبحت المرأة الآن تؤثر الشهرة والخطر على العاطفة والخالجة النفسية، فهي سائرة إلى التألب والتآزر والمطالبة بالحقوق السياسية، والمزاحمة على أعمال الرجال في المصانع والأسواق، وسيعكف الرجال على الرياض العسكرية والمهارة في الألعاب، فينشأ منهم جيل سهل المقادة للنساء مذ كان هذا الطراز - طراز العسكريين واللاعبين - هم أطوع الرجال للمرأة، كما قال أرسطو في الزمن القديم، وستكون قوة التمرد ومرارة السخط ونخوة الحنق الأدبي أبدا في جانب المرأة، فهي بهذه القوة تقهر الرجال وتزحزح الجنس الغالب رويدا رويدا من مكان السيد إلى مكان الماهن الأجير، وسوف تزداد الأبدان ضعفا وتزداد الأمومة مشقة، وتزداد المسرات الجسدية نكرا وقبحا فيزداد التبتل شيوعا، ويجيء اليوم الذي يصبح فيه الرجل ولا شأن له في الحياة إلا الجندية وإنتاج البنين، فتأنف المرأة أن تعاشره لغير غرض إلا أن تلد له وتربي أولاده، وتتولى المعامل إلقاح النساء بالوسائل الصناعية، كما تتولى الآن إلقاح الأطفال بأمصال الجدري والحميات، ويأتي يوم يرتفع فيه سن الرضا في المرأة إلى الثلاثين أو الخامسة والثلاثين، أو ما فوق ذلك، فيقضى بقتل الرجل الذي يغري المرأة دون تلك السن أو بخصيه! وينظر إلى النساء الباقيات على سنة الطبيعة في الحمل والمعاشرة نظرة ازدراء واستهزاء ، وما هي إلا فترة ثم يستغنى عن الرجل الجندي، ويكمل إتقان الصناعات الآلية؛ لتصبح إدارتها في سهولة الترقيم على الآلة الكاتبة، أو غلي الشاي، فتحل البنات محل الشبان في الجيوش والمعامل، وينتهي الأمر بأن يحور الرجل، وقد فقد رجحان الروح والجسد، وفقد رجحان الزوجية والحب، وفقد رجحان المهارة الآلية والشجاعة الجندية، فيستكثر عدد الرجال ويستحيي منهم بالقدر اللازم لحفظ اللقاح الصناعي، وينحى على البقية قتلا كما تنحى إناث النحل على ذكوره، بحيث تقتصر النسبة بين الجنسين على خمسة من الرجال لكل ألف من النساء، وربما أغنى عن هذه المذبحة علم ما في الأرحام فتحفظ ذرية الإناث، ويكتفى بتربية نصف في المائة من ذرية الذكور في كل عام، وهكذا إلى خاتمة هذه الرؤيا السوداء التي تضل بها البصيرة في ظلام فوق ظلام! •••
هذه هي العاقبة إذا صارت الأمور إلى غايتها: ويقول المؤلف إنها رؤيا قد تظهر عليها مسحة الغرابة ولكنه يستحمق الإعراض عنها والاستخفاف بها لهذا السبب، ويحسب أنه يجد ولا يهزل، ويتأمل ولا يتخيل، حين جمح بالوهم إلى تلك العاقبة التي لم يحلم بمثلها حالم من أصحاب النبوءات الخارقة عن إرهاصات القيامة وعجائب آخر الزمان!
صفحة غير معروفة