إنما يمتنع الوصول إلى الثاني من قبل الوصول إلى الأول في الشيئين الذين يكون أحدهما أدنى والأخر أقصى متى كان ذلك الأدنى موضوعا تحت ذلك الأقصى وليست السعادتان كذلك وبيان ذلك أنهما في موضوعين ليس أحدهما تحت الثاني ولكنه كالبعيد فيمن كان مسترقا لشهواته ومنصرفا بهمته إلى التمتع بلذاته وكانت أوقاته متمزقة بها وببلاياها وآفاتها أن يصل إلى العلوم الفاضلة الرفيعة الدقيقة التي لا يكاد يخلص إليها إلا من أخلص أوقاته لها وانقطع من كل شيء إليها ولم يلوث همته بشيء سواها وأيضا فإن الشره يؤدي إلى البلادة الغباوة وهذه العلوم لا تحصل بغير صفاء الذهن وجودة الطبع والفهم وبقوة الحفظ
ذكر الآفات المانعة من السعادة القصوى ومن استتمامها
قال أفلاطن الحكمة لا تنال إلا بأن ينقطع إليها من كل شيء ومن أكثر الأشياء التي يقال إنها خيرات كالثروة والكرامة والرياسة والإخوان والأهل والأولاد حتى الفضائل كالنجدة والعفة وصلة القرابة والعشرة قال لأن كل شيء من هذا يحتاج إلى زمان في اكبسابه وتربيته وفعله وإلى عناية بحفظه وصيانته ولا زمان عند طالب الحكمة ولا قلب ولا عناية لأن زمانه مصروفة في طلب الحكمة وعنايته مستغرقة في استنباط الحكمة وفي رعاية أمر الحكمة العلاج لذلك أن يعلم أن هذه الأشياء وإن كانت خيرات فإنها قد صارت شرورا عليه لما كانت عائقة له ومانعة عما هو خير منها وأفضل وقال سقراط لتكن عنايتكم بالنفس دائما وبالبدن بقدر ما تدعو إليه الحاجة وأما في الخارجات عن النفس والبدن فلا البتة قال وإن الحكيم لا يكون غنيا ولا ذا مقدرة وقال أرسطوطيلس إن الفلسفة لا تنال إلا بفقر وعناية بالغة وطبيعة جيدة قال سقراط وكل من قلت حاجته فإنه أقرب إلى الله لأن الله ليس بمحتاج قال وينبغي أن يعلم أنه لن يمكنه أن يصل إلى هذا الأمر العظيم إلا بأن ينسل من جميع ما يكون فيه وإن جل مقداره وشرف محله ولا يكفيه ذلك من دون أن يبعد مما ينسل منه ومن دون أن يتنحى من بين معارفه وأن يتوارى من كل ما يخاف أنه يقطعه عنها أو يشغله ثم يقبل على ما يحييه ويسعده ويجتهد في أن يسلم له في هذه الدنيا عيشه وأن يخرج منها إلى الآخرة وادعا آمنا بما قدم من الخير أمامه وقد يجب أن ينظر أنه كيف يجوز أن ينقطع السعيد عن العفة وهل يجوز أن يصل إلى الحكمة الشره وأقول وجه عندي أن العفيف لما كان إنما يتناول ما ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي كان المنقطع إلى الحكمة كثيرا ما ينقطع عن التناول في الوقت الذي ينبغي وكثيرا ما ينقطع أيضا عن تناول ما ينبغي فيكون انقطاعه عن العفة من هذا الوجه لا من قبل الشره وقال أرسطوطيلس الفاضل قد يترك بعض لذات العفيف وإن لم تكن رديئة لأن له لذات هي أفضل
ذكر آفة أخرى
قد قلنا فيما سلف إن الحكمة لا تنال إلأ بترك أكثر الخيرات والفضائل ومن فعل ذلك كان عند الناس على غاية البدعة والمذهب الغريب المنكر لأن ايثار هذه الخيرات والرغبة في فعل هذه الفضائل هي الإنسانية فمن زهد فيها فإنه يكون عند الناس أنه ليس بإنسان والناس إنما يعزون ويكرمون من رغب في المممدوحات وعمل الصالحات ووافق أهل الخير وكان على مثل سيرتهم ومن كان على خلاف ذلك أهانوه وأذلوه واستخفوا به وحقروه وربما قصدوه بالمكاره في نعمته وفيمن يتصل به وفي بدنه حتى الضرب والقتل ومن أعظم المحن عليه أنه ليس يمكنه أن يقنعهم بالحجة لأنه ليس بممكن مخاطبة من ليس معه الأمور الإنسية فضلا عن الألفة فأي حدث وأي شيخ يصبر على المهانة والمذلة وعلى الخوف الدائم من الإضرار والجسارة وعلى الغرامة والعقوبة والعلاج الجليل أن يعلم أن جميع الأمور شاقة وعسرة وفي السلوك إليها مخافة ومخاطرة وقال أفلاطن الحكمة لا تنال إلا بتحمل الكد والتعب وركوب الغرر والخطر عند الأعداء إذا وردوا وعند الأصدقاء إذا زجروا وقال أفلاطن إنه ما أضر على الإنسان من الرغبة في الحياة على كل حال فإنها إذا فعلت ذلك يعني النفس انقطعت عن جميع الخيرات الشريفة إذ كانت لا تنال إلا بركوب الخطر مع التزام التعب وذلك يكون بمجاهدة الأعداء وبالصبر على جفاء الأصدقاء في اكتساب الأمور الفاضلة
ذكر آفة أخرى
قال أفلاطن وأحد الآفات العظيمة ما يعرض بمن صبر على الحكمة عند ظهور آثار الفائدة وثمرات الحكمة وذلك بأن يتلقى بالكرامة ويرشح للرياسة ويمكن من الشهوة واللذة فيطرحوه مطرح الجهاد من هذه الجهة فإن لم يسلس خوفوه بأنواع المخافات فمن الذي يبقى بهذا الأمر الجليل الخطير الرفيع إلا النزر القليل بل الواحد من بين الكثير وذلك أيضا بأن تعينه السكينات وذلك بأن يوقع في قلبه شدة محبة الحكمة حى يختارها على كل شيء ولا يختار عليها شيئا وتعضده بالنصر الإتفاقات وذلك بأن يكون كبير الهمة ومدينته تكون مدينة صغيرة أو كان ممن لا يحتمل نفسه كد القيام بأمور الناس أو يكون نجدا فلا يجور ومحمود المنشأ فلا يتخدع وأما العلاج فأن يعلم أنه لا سبيل إلى استصلاح أمر مدينة قد غلبت على أهلها الأخلاق الفاسدة وتمكنت منهم العادات الرديئة إلا بالقهر والإستكراه وفي هذا من الصعوبة ما فيه وذلك أن السبيل فيه أن يقتلهم من غير أن ينزع أرواحهم وذلك بأن يتزعهم عن جميع ما قد ألفوه واستطابوه واستحسنوه وعشقوه ثم يحييهم بحسن التشبيه على الأخلاق المحمودة ومع هذا فإنه لن يمكنه ذلك إلا بأعوان مساعدين ومخلصين في المؤازرة وأنى له أن يفوز بهم فهل تكون حال من يوقع نفسه في مجاهدة قوم كثيرين أردياء جهال وعلى منابذة جماعتهم ومخالفتهم من غير أعوان وأنصار إلا حال من يوقع نفسه بين حيوانات ذوات سموم وضارية فيكون قد أهلك نفسه من غير أن ينفع غيره قال أفلاطن وأمر السلطان في هذا أعظم لأنه يكون محتشيا من الكيس الباطل والعقل الكاذب فمن الذي يطمع في أن يصدق مثل هذا عن نفسه وكيف يطيق استماع ما يقال له أن خاطر مخاطر فيه وإن أصغى إلى ما يقال له واستمرأه فأي مطمع فيمن احترشه وغلب عليه أن تركوه حتى يستقيم على طريقة السعادة وعندهم أن ذلك يحل بهم الهلاك والشقوة وبعد فإن الرئيس ليس يجوز له أن يكون غير راسخ في احكمة قال أبو الحسن يعني أنه ليس يجوز له أن يتقبل بأمر الرياسة إذا لم تكن راسخا في الحكمة وقد ذكرناه نحن في القسم الثالث من صفة الرئيس
ذكر آفة أخرى عظيمة
قال ومن الآفات العظيمة الجزع والقلق من امتداد تعب الطلب ومن تطاول الكد والنصب والسآمة والملامة من بعد المسافة ويزيد في ذلك صعوبة المنفذ ووحشة الإنفراد لعوز المساعد وحيرة الإلتباس لفقد الناصح وال[؟] ثم محادثة النفس بالإياس مرة وبالإقتصار على ما حصله مرة وبالإنصراف عنه إلى ما هو يوهم أنه أعود عليه مرة وبالإنجذاب إلى خفض العيش مرة وبالدعاء إلى فعل الصالحات والمحمودات مرة و العلاج أن يعلم أن شرف كل شيء إنما تكون في استكماله وأنه إن لم يمعن في السير إلى مقصده حتى يصل إلى غايته فقد ضيع أيامه التي أنفقها عليه وأخسر نفسه ما احتمله من النصب والتعب فيه وأنه يكون أكثرغبنا وأبخس نصيبا ممن لم يأخذ شيئا منه ولم يشرع فيه لأن ذلك قد ربح كل الرغبة وسلم من هجنة الخيبة وأمن من فساده بالآراء السقيمة والظنون الفاسدة التي لا يكاد يسلم منها الناظر فيه ولا سيما في أول أمره ومن قبل أن يبلغ إلى تمامه قال وينبغي أن يعلم أنه ليس شيء أعون على درك الحق من الصبر والصدق وذلك بأن يصدق في الطلب ويصبر على ما يقاسي من أنواع التعب والنصب وقال حكيم لشاب اصبر على تعب التعلم فإن احتمال تعب التعلم أهون مما يلحقك من الأذى والذل بالجهل وأيام أذى الجهل أطول وآفاته أكثر وقال أفلاطن نحن مركبون من أربعة إن ولاإن ونعم الآن وبئس الآن قال والحياة الطبيعية جعلتنا إن والموت الطبيعي جعلنا لاإن والإختيار للحياة جعلنا بئس الآن والإختيار للموت جعلنا نعم الآن [blank page]
القسم الثاني العوارض اللتي تعرض للإنسان في الحياة محمودة و مذمومة
صفحة غير معروفة