وقل عن أمة بأسرها ما تقوله عن كل فرد من أفرادها، فقد يشهدها التاريخ حينا وهي ترتفع في جو السماء مع العقبان والنسور، ثم قد يشهدها حينا آخر وهي على أديم الأرض مع بغاث الطير، فيسألون عندئذ ويتساءلون: لماذا؟ وما الذي أصابنا؟ والجواب عند حبة القمح ملقاة على الأرض، ثم مزروعة لتحيا وتنمو وتثمر، وعند نواة التمر تحسبها حطبة جافة ابتلعها ثنين الموت، فإذا هي تلقى حظها من العناية فتظهر على حقيقتها: كائنا حيا قويا ولودا، وعند آلة الموسيقى يصيبها الإهمال فتكون آلة وتنالها العناية فتشدو، على أن الطاقة الإبداعية في أمة، ليست مجرد حاصل جمع لطاقات أفرادها، بلى هي قد تزيد عن ذلك، وقد تنقص، فهي تزيد بالتعاون الصحيح، وهي تنقص بالتناحر الهدام، افرض - مثلا - أن مجموعة من الزملاء الأساتذة في كلية من كليات الجامعة، تعاونوا جميعا - كل بما تخصص فيه - على إيجاد حل نعالج به انخفاض المستوى العلمي في هذه الفترة الزمنية الراهنة، فعندئذ تجيء نتيجة جهدهم أفعل أثرا، مما لو استقل كل منهم بالتفكير من زاوية تخصصه، إذا ما تنافروا وتناحروا جاء الناتج خطوة إلى الوراء لا خطوة في سبيل الحل.
ونحن؟ من نحن؟ وأين نقع من هذا كله؟ أجب بما شئت من جواب، تجد إجماعا في الرأي على نقطة واحدة على الأقل، وهي أننا كنا ذات يوم في طليعة المسيرة الحضارية ولم نعد، هذا صحيح من حيث نحن مصريون، ومن حيث نحن جزء من أمة عربية، فمن حيث نحن مسلمون، فقد كانت مصر هي الطليعة الحضارية، ولم تعد كذلك، وكانت الأمة العربية هي سيدة الحضارة في حينها ولم تعد كذلك، وكانت الأمة الإسلامية صاحبة الكلمة المسمومة ولم تعد كذلك، فمن أي جانب أخذتنا وجدت انحدارا في المنحنى الحضاري والثقافي جميعا، وهنالك من لا يعجبه مثل هذا الصدق، فيسميه تشاؤما، كأنما التفاؤل هو أن تقول لرجل كان قويا وأصابته علة، إنه لا علة هنا، وما زلت قويا كما كنت.
يكون القول تشاؤما لو أننا زعمنا أن طاقة الإبداع فينا قد اقتلعت من نفوسنا اقتلاعا، لكن حقيقة الأمر فينا هي أن تلك الطاقة في كمون، يشبه كمون الحياة في حبة القمح، وفي نواة التمر، حتى إذا ما شاء لها فالق الحب والنوى أن تنزاح عن محابسها أقفالها توقدت الشعلة من جديد، وأول خطوة على الطريق هي أن تنفخ فينا إرادة أن نحيا، ثم يضاف إلى ذلك إرادة أن تكون حياتنا حياة السادة لا حياة العبيد: سيادة في العلم، سيادة في الفكر، سيادة في الأدب والفن، سيادة بالإباء وبالكبرياء.
أتسألني: وكيف يكون ذلك؟ ذلك يكون إذا تعلمنا الدرس من حبة القمح ونواة التمر، فنرى كيف ينتقلان من سبات إلى صحو، ومن خمود إلى نشاط، ومن أفول إلى سطوع بالحياة وبالنماء وبالإنماء، فارقب يا صاحبي وسجل: فأولها: أن يتهيأ مهد تستقر فيه البذرة مطمئنة لتغتذي من أثداء أرضها على مهل، ولترتوي بما يتسرب إليها في مهدها ذاك من فيض سمائها، وعندئذ تنفث من جوفها جذور حياتها، وثانيها: أن تحرص حبة القمح على أن تخرج قمحا مثلها في النوع، وليكن بعد ذلك نسلها أصح مما كانت هي وأقوى، وأن تحرص نواة التمر على أن تخرج البلح على نحو ما فعلت حبة القمح، طامعة في نسل أصح وأقوى، فلا يجوز لأي منهما - الحبة والنواة - أن تمسخ أبناءها وبناتها بأن يجيء نسل الحبة من القمح بطيخا وشماما، وأن يجيء نسل النواة أشجارا تثمر التفاح والرمان، وثالثها: أن يتعرض الجذع والفروع، إذا ما نبتت فوق سطح الأرض، للهواء وحرارة الشمس ... تلك هي أهم الدروس التي نتلقاها من الحبة ومن النواة، وهي الكفيلة بأن تخرج لنا أطيب الثمر.
والآن فلننظر كيف تكون الموازاة بين حياة الحبة والنواة - من جهة - وحياتنا من جهة أخرى، ونبدأ بالدرس الأول وما يستفاد منه، وهو ضرورة أن تستقر البذرة في مهد صالح، فيه المدد من أرضها ومن سمائها الذي يشبعها ويرويها، فكذلك الإنسان وهو في مهد الطفولة والنشأة الأولى، ينبغي له أن ينبض قلبه بمرجع انتمائه الوطني والقومي، وأكرر ذكر القلب ونبضه؛ لأن المرحلة الأولى لا تحتمل تحليلا ولا تعليلا، إننا نريد له هنا أن يحب وكفى ... أن يحب أرضا وأهلها لأنها أرضه ولأن الأهل أهله.
فماذا تكون تلك الأرض؟ ومن يكونون هم الأهل؟ البداهة تبدأ مع المصري بمصر، ومع العراقي بالعراق، وهلم جرا، تماما كما يبدأ الرضيع بأمه، وكما يبدأ القروي بقريته، وهكذا، ولكن سرعان ما يتبين بأن جزئية البدء محال أن تكفي ذاتها بذاتها، إذ لا بد من امتداد ما يشمل تلك الجزئية مع أخوات لها، فيكون السؤال عندئذ هو: إلى أي حد يذهب ذلك الامتداد؟ أيذهب مع المصري إلى حدود مصر ثم يقف هناك، ومع العراقي إلى حدود العراق، وهكذا؟ هنالك من يجيب: نعم، ومن يجيب: لا، وأما أصحاب الإيجاب فيركزون الحكم على أساس التميز العرقي وحده، غاضين النظر عن المشاركة في نمط ثقافي واحد (هذا إذا كان أهل البلد الواحد من عرق واحد، وغالبا ما يكون ذلك على سبيل الافتراض النظري لا على سبيل الواقع الفعلي)، وأما أصحاب النفي، فيؤسسون الحكم على أساس النمط الثقافي الواحد، الذي يضم من يعيشون في إطاره برباط قومي واحد، وإذا وجدنا القوم قد انشقوا على أنفسهم ولم يجتمعوا جميعا على أم واحدة، بالمعنى القومي لهذه الكلمة، امتنع عليهم عنصر من أهم العناصر الأولية التي تعمل على أن تنبت حبة القمح قمحا، ونواة البلح بلحا.
وذلك بالفعل هو ما نحياه اليوم في مصر وفي غير مصر من أجزاء الوطن العربي الكبير، فلقد وسوس في صدورنا وسواس خناس، فتشعب بنا الرأي في طبيعة انتمائنا، لا من حيث الجزئية الأولى التي ينتمي بها المصري إلى مصر، والعراقي إلى العراق ... إلخ، بل من حيث الامتداد وراء تلك الجزئية الأولى ، هل يكون أو لا يكون، فكان هذا الانقسام أول ضربة فرقتنا أشتاتا، فاشترينا ضعف التجزؤ بقوة التوحد، وكان مصدر هذا الإثم فينا هم رجال السياسة.
ولقد كان كاتب هذه السطور، خلال الشطر الأول من حياته الواعية، ممن وقفوا بانتماء المصري عند حدود مصر، لم يجاوزها مترا واحدا فيما يجاورها، لكنه رأى بعد ذلك رأيا آخر، وهو ألا حياة للمصري إلا في نمطه الثقافي الذي يميزه ويمتاز به، فإذا تبين أن ذلك النمط إنما هو بذاته النمط الذي نطلق عليه اسم العروبة، كان الصواب هو أن المصري عربي الرؤية الثقافية - جتى قبل أن يفتحها العربي عقب ظهور الإسلام، ومن طريف ما أذكره في هذا السياق، أن مذيعا سألني في حوار أداره معي ذات يوم عندما كنت خارج مصر قائلا: هل حدث لك في حياتك أن غيرت رأيك في فكرة كبرى؟ فأجبته بالإيجاب، ذاكرا له فكرة انتماء المصري إلى «العروبة»، من حيث أصوله الثقافية التي منها تتكون رؤيته العامة، ولقد حدث لي في عدة مناسبات سابقة أن حللت ذلك النمط الثقافي الذي أعنيه، وكان من أهم دعائمه «التدين» - قبل الإسلام وبعد الإسلام - فموقف «المتدين» عميق عميق في أهل هذه الرقعة من الأرض ... إلى آخر ما أدليت به من رأي في ذلك الحوار الإذاعي، ولم أكد أعود إلى مصر بعد رحلتي تلك حتى تلقيت خطابا، كان التوقيع فيه هو «مستمعة»، فقد أذيع ذلك الحوار، واستمعت إليه صاحبة الخطاب ولم يعجبها ما تغيرت به في انتماء المصري، رأيا بعد رأي - وأخذت في خطابها القصير تسدد إلي سهامها، وتنزع عني صفة «المثقف» ما دمت قد تحولت بالمصري إلى أن يكون عربيا، ولعل هذه المناسبة صالحة للتعليق من ناحيتي على ذلك الخطاب، فأقول: إن «المستمعة» لم تحسن الاستماع، ولو كانت قد أحسنته لما وجدت ما يبرر لها بعض ما أوردته في خطابها.
وما أسرع ما جاءتني المصادفات بمفاجأة جديدة بعد ذلك، وفي الموضوع نفسه الذي نحن الآن بصدد الحديث فيه، وتلك هي أن قادما من باريس زارني راجيا أن يدور بيننا حوار في بعض القضايا التي تشغل الناس، وحدث أن وردت في كلامي عبارة «الأمة العربية»، فاستوقفني ليسأل: وهل هناك ما يجوز تسميته «بالأمة العربية»؟ فانطلقت أشرح له كيف أنه لا رباط يشد القوم في قومية واحدة أكثر مما يفعله الرباط الثقافي، انظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية كم جنسا يدخل في تركيبها البشري؟ وكل جنس من تلك الأجناس، ذهب إليها بثقافته الأصلية، فانصبت الجهود نحو ما يسمونه هناك «بالأمركة»؛ لذلك الجمع المتنافر، وما تلك «الأمركة» المنشودة إلا أن يحيا الجميع في نمط ثقافي واحد، ولتتعدد بينهم الأعراق بعد ذلك ما شاءت أن تتعدد، فالمسألة - إذن - في وجود «أمة عربية» أو عدم وجودها، هي مشاركة شعوبها في رؤية ثقافية واحدة، فإذا نحن حللنا تلك الرؤية إلى عناصرها، فوجدناها العناصر نفسها التي تتركب منها رؤية المصري على امتداد تاريخه، كان المصري منتميا مع سائر من ينتمون إلى ذلك الركب الثقافي المعين، وإذا بقيت بعد ذلك بواق ينفرد بها المصري، كان المصري - شأن كل عربي آخر - منتميا إلى «العروبة» بما ينتمي به، منفردا وحده بما ينفرد به.
ذلك هو الدرس الأول، المستفاد من حبة القمح ونواة البلح؛ وأعني انتماءها في شعبها وفي ريها، إلى غذاء من أرضها وماء من سمائها، وعلينا - إذن - أن نعلم أوضح ما يكون العلم: أي أرض هي أرضنا، وأي سماء هي سماؤنا؟ وبعد هذا يأتي الدرس الثاني، وهو شديد الصلة بالدرس الأول، وموضوعه هو حرص حبة القمح أن تثمر قمحا من نوعها، حتى لو جاء الثمر أصح منها وأقوى، وكذلك حرص نواة البلح أن تثمر النخلة بلحا، وللثمر بعد ذلك أن يجيء ألذ طعما وأحلى مذاقا، وعلى هذا النموذج، تكون تربية الطفل وتنشئته إذا أردنا له يقظة تخرجه من هذا السبات العميق الذي يغط فيه، أي أن نربي طفلنا وننشئه تربية وتنشئة تخرجانه استمرارا لآبائه وأجداده، ثم يضيف إلى تلك الاستمرارية، ما يجعله أقوى منهم وأقوم سبيلا.
صفحة غير معروفة