مقدمة‏

القسم الأول: مع العلم بعمق الإيمان‏

أنا المسجد والساجد‏

اقرأ باسم ربك‏

العقل يهدي ويهتدي‏

الأشياء والكلمات‏

عصر يبحث عن حرية الإنسان‏

اختلاف الرأي والرؤية‏

عالم عابد في مركبة الفضاء‏

القسم الثاني: من عوامل القوة‏

يموت الإنسان ليحيا‏

قنافذ وثعالب‏

أنا أريد - إذن - أنا إنسان‏

فالق الحب والنوى‏

صورة ريفية وأعماقها‏

للعصر الواحد صوت واحد‏

من الجذور‏

حياتنا الجديدة تصنعها أقلامنا‏

وهذه جزيرة أخرى‏

تقاليد وتقليد‏

الاقتصاد في الاعتقاد‏

القسم الثالث: من عوامل الضعف‏

صرخة‏

متطرف تحت المجهر‏

عصر الحنين‏

أزرع ولا حصاد؟‏

ظلال بين اليأس والرجاء‏

أهو شرك من نوع جديد؟!‏

هذا الصغير وصغائره‏

صانع الحروف‏

هؤلاء الآخرون!‏

فعل الزمن‏

حتى يغيروا ما بأنفسهم‏

القسم الرابع: دوائر الانتماء‏

عروبة مصر‏

حول مشكلة الانتماء‏

مقدمة‏

القسم الأول: مع العلم بعمق الإيمان‏

أنا المسجد والساجد‏

اقرأ باسم ربك‏

العقل يهدي ويهتدي‏

الأشياء والكلمات‏

عصر يبحث عن حرية الإنسان‏

اختلاف الرأي والرؤية‏

عالم عابد في مركبة الفضاء‏

القسم الثاني: من عوامل القوة‏

يموت الإنسان ليحيا‏

قنافذ وثعالب‏

أنا أريد - إذن - أنا إنسان‏

فالق الحب والنوى‏

صورة ريفية وأعماقها‏

للعصر الواحد صوت واحد‏

من الجذور‏

حياتنا الجديدة تصنعها أقلامنا‏

وهذه جزيرة أخرى‏

تقاليد وتقليد‏

الاقتصاد في الاعتقاد‏

القسم الثالث: من عوامل الضعف‏

صرخة‏

متطرف تحت المجهر‏

عصر الحنين‏

أزرع ولا حصاد؟‏

ظلال بين اليأس والرجاء‏

أهو شرك من نوع جديد؟!‏

هذا الصغير وصغائره‏

صانع الحروف‏

هؤلاء الآخرون!‏

فعل الزمن‏

حتى يغيروا ما بأنفسهم‏

القسم الرابع: دوائر الانتماء‏

عروبة مصر‏

حول مشكلة الانتماء‏

رؤية إسلامية

رؤية إسلامية

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة

سؤال طرحته على نفسي، حين ألقيت نظرة إلى خريطة العالم الإسلامي، في امتداد رقعته الجغرافية، من أقصى الجنوب الشرقي لقارة آسيا، حتى أقصى الغرب في معظم القارة الأفريقية، وما إن ألقيت السؤال، حتى أجريت القلم خلال ستة أشهر، بالفصول التي هي مادة هذا الكتاب، وكانت هذه الفصول كلها تحمل أطرافا مما يصح أن يكون جوابا عن ذلك السؤال.

وأما السؤال فهو هذا: ما الذي أصاب العالم الإسلامي، فتخلف حتى أصبح في مؤخرة الركب الحضاري في عصرنا هذا، بعد أن كانت له، ذات حين، قيادة وريادة؟ على أنني إذا أخذت أضع الجواب في قطرات متفرقة متتابعة، أنظر في كل قطرة فيها إلى الموقف من إحدى نواحيه، كانت نظرتي تنحصر في ذلك الجزء من العالم الإسلامي - الذي يكون الوطن العربي الكبير، ثم كانت تلك النظرة - أحيانا كثيرة - تعود فتزداد انحصارا - حتى تقف عند حدود وطني الخاص الذي هو مصر، وسيجد القارئ في القسم الرابع من هذا الكتاب تحديدا دقيقا لدوائر الانتماء الثلاثة، التي على أساسها يتدرج الانتماء، من حيث التبعات الاجتماعية، تدريجا يجعلني مصريا أولا، وعربيا ثانيا، وفردا من أبناء العالم الإسلامي ثالثا، وهو تدرج لا أقيمه على درجات «الأهمية» لهذه الأجزاء، بل أقيمه على الأمر الواقع الذي يجعل الإنسان مسئولا أمام القانون عن وطنه الخاص، قبل أن يكون مسئولا عن المجالات الأوسع نطاقا، والتي ينتمي إليها جميعا بدرجات.

وقسمت فصول الكتاب أربعة أقسام، ففي القسم الأول منها، حاولت أن أبين كيف يعود العالم الإسلامي إلى قوته، إذا هو جعل العبادة تتسع في معناها، حتى تشمل بكل جدية واهتمام محاولات الكشف العلمي عن أسرار الكون، كشفا لا يقتصر على مجرد العلم في ذاته بتلك الأسرار، بل يجاوز ذلك إلى تحويل العلم إلى عمل في مجالات التطبيق الذي ينشط به الإنسان في حياته العملية، وإلا فماذا تكون الدلالة الحقيقية لكون الأمر بكلمة

اقرأ

أول ما نزل به الوحي بالقرآن الكريم على نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام؟ ماذا تكون الدلالة في تلك الأسبقية، إذا لم تكن حثا على أن يكون «العلم» هو الركيزة الصلبة التي تقام عليها أركان الإسلام؟ فإذا كان سؤالنا الذي بدأنا به هو: ما الذي حدث للعالم الإسلامي، حتى بلغ من الضعف ما بلغ؟ وجدنا أول كلمة في الإجابة الصحيحة، كلمة «العلم»، فمع العلم تدور القوة وجودا وعدما، ولربما كان ذلك العلم - لو ترك غير ملجم - سبيلا يؤدي بالإنسانية إلى الدمار، ولكن قوته الذاتية كفيلة للإنسان بالسمو إلى التقدم، إذا هو ألجم العلم - في التطبيق - بالقيم الضابطة، والتي مصدرها الأول هو الدين بمعناه العام أولا، وبمعناه الإسلامي بصفة خاصة.

إن أداة الإدراك في مجال العلوم، إيجادا وتطبيقا - هي «العقل» بأجهزته القادرة على التحليل وعلى الاستدلال، وهذا «العقل» إنما هو بطبيعته يهدي ويهتدي في آن واحد، فهو يهدي إلى النتائج الصحيحة التي تستدل من الشواهد والمقدمات - ثم هو يعود فيهتدي في جانب التطبيق على عالم الأشياء، ومن الخير للإنسان أن يدور بعقله هذه الدورة كاملة؛ لأنه إذا وقف عند «المقدمات» و«الشواهد» في صيغها اللفظية، دون أن ينتقل منها إلى عمليات التحليل والاستدلال والتطبيق، وجد نفسه «حافظا» لنصوص، مع عجزه عن نقل تلك النصوص نفسها إلى دنيا العمل، وتلك هي حالنا - بصفة عامة - فترانا وقد أحاط علماؤنا بأصول ديننا «حفظا» وشرحا لذلك المحفوظ، تركوا العملية «العلمية» لسواهم، ثم ترتبت على تلك العملية العلمية حضارة، فلم نجد بدا من أن نقف من ذلك كله موقف المتسول، وكان في وسعنا أن نقلب الوضع، لو أننا أدركنا إدراكا واضحا، أن واجب المسلم هو أن يستمد من روح إسلامه قدرة على المشاركة الإيجابية في الكشوف العلمية، ثم في تحويل تلك الكشوف العلمية إلى شتى ضروب النشاط البشري في حياة الإنسان العملية.

والعلاقة وثيقة العرى، بين «علمية» الإنسان في موقفه من عالمه الذي يعيش فيه، وبين نصيب ذلك الإنسان من «الحرية»، فالخلط شائع فينا بين معنى «التحرر» من القيود على اختلاف أنواعها، وبين معنى «الحرية» التي لا تكون شيئا إذا هي لم تكن قدرة الإنسان الحر على أن يملك زمام الموقف الذي يجد نفسه فيه، على أن امتلاك الإنسان لزمام الأمر حيال أي موقف من مواقف الحياة، إنما يتفاوت قوة وضعفا بمقدار ما لدى ذلك الإنسان من «علم» بدقائق الموقف المذكور؛ حتى يستطيع التصرف فيه وهو على هدى، ومن هنا وجدنا شعوبا كثيرة فيما يسمونه بالعالم الثالث، قد «تحررت» من قيود مستعمريها، لكنها مع ذلك بقيت مفقودة «الحرية »؛ لأنها معتمدة في معظم شئون حياتها على أولئك المستعمرين السابقين أنفسهم، سواء أكان ذلك في نتائج العلوم التي تدرس في المعاهد والجامعات، أم كان أجهزة ومصنوعات، مما ينتج عند أصحاب تلك «العلوم».

لقد أوهمنا أنفسنا وهما «عجيبا»، قيد خطواتنا على طريق التقدم، وهو أننا توهمنا أن ثمة تناقضا بين أن يكون الإنسان مسلما بعقيدته الدينية، وأن يكون في الوقت نفسه ساعيا إلى ما يسعى إليه أهل الغرب، من إيجاد لعلم جديد، ثم إقامة حضارة جديدة على أساس ذلك العلم الجديد، وقد كاد الأمر يكون كذلك، لو أن إسلامنا لم يجعل «العلم» وتطبيقه ركنا أساسيا في بنائه، وإني لأتصور أن الأمة الإسلامية، لو كانت اليوم على مثل قوتها الأولى، لكانت هي التي ملكت زمام عصرنا هذا بكل ما فيه من علوم، ومن «تقنيات»، فالذي انتهى بنا إلى موقف المتسول المحروم في دنيا العلم والصناعات، ليس هو إسلامنا، بل هو أننا قد أخطأنا منزلة العلم بأسرار الكون، والانتفاع بذلك العلم في الحياة العملية، أقول إننا قد أخطأنا منزلة ذلك كله في العقيدة الإسلامية، تلك المنزلة التي من أجل رفعتها، كانت

اقرأ

أول ما نزل به القرآن الكريم.

تلك - إذن - هي النبرة التي يسمعها قارئ القسم الأول من هذا الكتاب، حتى إذا ما انتقل إلى القسم الثاني، سمع تنويعا آخر من النبرة نفسها، فالمحور واحد، والهدف واحد، والخط الفكري واحد، إلا أن مقالات القسم الثاني تتلمس مواضع القوة في حياتنا الفكرية كما هي واقعة الآن، لولا أنها مواضع تحتاج إلى تقوية وتنمية.

فنحن بغير شك نحس في بواطن نفوسنا، شعورا قويا باستمرارية الحياة بين ماضينا وحاضرنا، أو على الأقل نحس بوجوب مثل هذه الاستمرارية، ففي «يموت الإنسان ليحيا» عرض لما يؤيد ويؤكد ذلك المنحى، على ألا يتم هذا بأن نحيي الماضي كما كان حرفا بحرف وموقفا بموقف، على حساب المعاصرين، فهؤلاء المعاصرون لا بد لهم أن يبرروا وجودهم التاريخي بإثبات شخصياتهم وما يميزها، بحيث يكونون مع أسلافهم كقصيدتين من الشعر في ديوان شاعر واحد، وإنه لخطأ خطير أن نستمع إلى دعاة العودة إلى الماضي، عودة تنسخ وجودنا الحاضر، إذ إن ذلك يجعلنا كالقنافذ التي تتكور على نفسها في انتظار ما يأتيها من عوامل خارجية تؤثر فيها، وهي في حالة من السلبية التي لا حول لها ولا إرادة، في حين أن إيجابية الإرادة لها في العقيدة الإسلامية أولوية منطقية، حتى على الحياة العقلية نفسها؛ لأن لحظة «الإيمان» إنما هي لحظة تندرج أساسا تحت الحياة الإرادية للشخص الذي آمن، ثم تأتي الحياة العقلية بعد ذلك، لتصب تحليلاتها واستدلالاتها على ذلك الذي آمن به المؤمن، ولك أن تنظر في تعاقب المراحل الفكرية عند أسلافنا الأولين، فبينما القرن الهجري الأول لم يكد يشهد شيئا إلا دخولا في دين الله، ثم جهادا في سبيل ذلك الدين (ولنلحظ هنا أن دفعة الإيمان وعملية الجهاد كلتيهما تقعان في مجال الحياة الإرادية)، ثم بدأت حياة عقلية من القرن الهجري الثاني وما بعده، لتنصرف بجهدها إلى دراسات علمية تنفع المؤمن في فهمه للكتاب الكريم حق الفهم، كعلوم اللغة، والفقه، وعلم الكلام، وعلى هذا الأساس نقول إننا لو صغنا الوقفة الإسلامية في صيغة ديكارتية، قلنا: أنا أريد - إذن - أنا إنسان.

وبين مقالات هذا القسم الثاني، مقالتان توضحان من حياة الفلاح المصري على براءته وبساطته، ومن حياة الشجرة التي في فطرة بذرتها تعرف كيف تنمو وتزدهر؛ لنبين بهما أن أولوية الإرادة في حياة الإنسان، إنما هي أمر تحتمه طبيعة الحياة نفسها، فحينما قويت الإرادة في شعب، أو في فرد من أفراده، كان الأرجح له أن يوفق إلى تحقيق أهدافه، وذلك كما قال أبو القاسم الشابي في قصيدة مشهورة من شعره:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر

والعالم الإسلامي اليوم تنقصه تلك الإرادة، مع أن أولويتها هي من صميم الإسلام.

ولعل أهم ما يلفت النظر في موقف الأمة الإسلامية بجميع أقطارها اليوم، هو دعوة تسري في جماهيرها، بأن توصد أبوابها، وتصم آذانها عن حضارة العصر وثقافته، باعتبارها «غزوا ثقافيا»، في الوقت الذي نجد أنفسنا فيه مرغمين إرغاما، بضرورة الحياة نفسها، أن نأخذ عن العصر علومه وما ينتج عن تلك العلوم، ولكنه أخذ المتسول - كما ذكرت - يطلب الصدقة ممن يملك القوة والعلم معا، لا أخذ المشارك بجهده وبذهنه، مما يدل دلالة قاطعة على أن أحدا لا يستطيع أن يتمرد على عصره تمردا كاملا، إلا إذا أراد لنفسه الموت؛ لأن العصر الواحد - أيا كان موقعه من مسيرة التاريخ - إنما يكون له هدف واحد، فمن استهدفه مؤمنا به، كان له كيانه في عصره، ومن أدبر عنه، خرج من الحساب، حتى ولو استباح لنفسه أن يستخدم في حياته العملية ثمرات ذلك العصر الذي أدبر عنه، إذن تخرج لنا نتيجة واضحة من هذا الذي ذكرناه، وهي وجوب أن نأخذ - أعني العالم الإسلامي - بكل ما يمكن أخذه من مشاركة فعالة في بناء عصرنا، ولما كان الاحتمال قليلا بأن نستطيع إثبات وجودنا بما تستحقه أمتنا من وزن في دنيا العلوم والتقنيات، فهنالك جانب هو موضع رسالتنا في حياة العصر، وأعني جانب النقص الملحوظ في الحياة العصرية، إذ حصرت نفسها في «الواقع» وغضت النظر عما بعد هذا الواقع، فحدث ما حدث من علل أفقدت الإنسان المعاصر توازنه، وها هنا تأتي رسالة الإسلام لتضيف إلى حياة عصرنا ما قد نقص فيها، من إضافة حياة الجلد إلى حياة الدنيا العابرة، وهذا كله يعني أن حملة الأقلام من أبناء الأمة الإسلامية، ومنها الوطن العربي الكبير، وفيه الوطن الإقليمي، أقول: إن حملة الأقلام منا تقع عليهم التبعة الأولى، في أن يغيروا من المناخ الفكري السائد بيننا اليوم تجاه عصرنا، عسانا نخرج إلى العالم بما يجيز لنا أن نقول في عزة وشموخ: ها نحن أولاء ...

وينتقل القارئ بعد هذا إلى القسم الثالث من هذا الكتاب، ليجد نفسه في غرفة أخرى من مسكن واحد، وإن يكن لكل غرفة فيه ما يميزها، إلا أن الروح الشائعة فيها جميعا روح واحدة، ففي القسم الثالث إبراز أشد وضوحا لجوانب الضعف واليأس والخمول وضيق الأفق، التي لا يخطئها بصر في حياتنا الثقافية الراهنة، وعقيدتي هي أن إدراك مواضع العلة هو أول خطوة على طريق العلاج والشفاء.

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، نعم، ولكننا نحتاج إلى تحليل هذا الذي ما بأنفسنا لنغير فيه ما ينبغي له أن يتغير؛ حتى يتاح لنا بعد ذلك أن نضع بيئة جديدة يعاش فيها، دون أن تكون عقبة في سبيل ارتقائنا، وسيجد القارئ مقالة في هذا القسم الثالث حاولت مثل هذا التحليل.

وربما كان من أهم ما يجب أن يتغير في نفوسنا - ذلك «التطرف» في العقيدة تطرفا لا يسمح لصاحبه برؤية ما قد يكون عند أصحاب الاتجاهات الأخرى من حق ... ولقد كانت آخر مقالات القسم الثاني من هذا الكتاب عرضا لوجهة النظر التي أبداها الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد»، وفيه يبين الغزالي كيف يجب على المسلم أن يكون على شيء من الاعتدال في إيمانه بعقيدته؛ لأنه إذا تطرف فيها، بمعنى أن يسيء الظن بكل من خالفه بغير بحث ولا إمعان للنظر، كان بمثابة من ضيع على نفسه نعمة الرؤية المتروية المتزنة المنصفة، وفي موضع آخر من مقالات القسم الثالث، عرضت فكرة تساعد على الحد من طغيان النظرة المتطرفة عند أصحابها، وهي أن الحياة الثقافية للإنسان، لا تتجمع كلها في طريق واحد، فلا هي كلها «فن»، ولا هي كلها «علم»، ولا هي كلها «عقيدة إيمانية»، وهكذا تتعدد المجالات، ولكل مجال مقاييس الصواب والخطأ الخاصة به، مقاييس الجودة والرداءة، فلا يجوز - إذن أن أحكم به على قصيدة الشعر بما أحكم به على قانون علمي في مجال الكيمياء أو الفيزياء، كما لا يجوز أن أحكم على صواب حقيقة معينة في تلك العلوم أو على خطئها، بشيء مما يقع في دائرة الإيمان بالعقيدة، فلو أننا عرفنا كيف نجعل كل تلك الفروع بمثابة «النظائر» التي تلتقي كلها في الإفصاح عن الحق المطلق إفصاحا يجيء عند كل نظير من تلك النظائر بلغته الخاصة، لتوحدت حياتنا الفكرية وتخلصت من عوامل الصراع التي تمزق بنيانها.

إنه مما يلاحظ بنظرة سريع إلى حياتنا اليوم - إهمال كل فرد منا لما يقوله الآخرون، لا، بل إن الأمر أشد من ذلك سوءا، وهو أن كلا منا يكاد يجعله واجبا عليه أن يحطم هؤلاء الآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن هنا صغرت منا نفوس كثيرة، وفقدنا روح الكرامة والكبرياء.

وأما القسم الرابع والأخير، فيقتصر على فكرة الانتماء؛ ليبين عناصرها تحت ضوء التحليل، وقد أسلفت الإشارة إلى ذلك في هذه المقدمة.

أما بعد، فإن القلم حين أخذ على مدى ستة أشهر أو نحوها، يعالج ما يصح أن يكون جوابا عن السؤال الذي طرحته على نفسي، أو الذي طرح نفسه علي، عما أصاب العالم الإسلامي في جملته من ضعف، فإنما أخذ على نفسه عهدا ألا يكتب إلا ما يراه صدقا، فإذا وقع في خطأ هنا أو هناك، فشفيعه نية حسنة أرادت الخير والإحسان، وبالله يكون التوفيق.

زكي نجيب محمود

القسم الأول

مع العلم بعمق الإيمان

أنا المسجد والساجد

روى لي الراوي فقال: أتذكر روضة «ريجنت» في لندن؟ إني لأعلم كم أنفقت في أيامك الخوالي من ساعات في تلك الروضة الفسيحة الجميلة، وأعلم أنها كانت لك المنتزه، والملاذ، والمحراب، فلما أقيم المسجد على حافتها، ازدانت به الروضة، وازدادت وقارا على وقارها، ولأني أعلم عن صلتك بتلك الروضة، تعمدت أن أزورها، عندما قضيت بضعة أيام هناك - قضيتها في مزيج من راحة وعلاج - وما إن بلغت الروضة، حتى أخذت سمتي نحو الأماكن التي أعلم أنها كانت أثيرة لديك، بادئا جولتي ببستان الورد، وفي ركن ظليل من أركانه، جلست على الكنبة الخشبية، وهي الكنبة التي اعتدت أنت الجلوس عليها ... إنني يا أخي لا أعرف لذلك البستان - بستان الورد - في روضة «ريجنت» شبيها.

ولم ألبث في خلوتي تلك إلا دقائق، حتى جاء ليجلس معي على الكنبة رجلان هنديان ملتحيان، وأخذا يتحدثان بالإنجليزية، ولم أنصت، ولكن لم يكن في وسعي إلا أن تسمع أذناي، فلما سمعت في حديثهما كلمة «المسجد» تتردد أنصت لأرهف السمع، فكان ختام حديث الرجلين هذا السؤال وجوابه: - أذاهب أنت معي إلى المسجد؟ - يا صديقي أنا المسجد وأنا الساجد معا.

وانصرف صاحب السؤال - ولم تمض خمس دقائق، حتى انصرف كذلك صاحب الجواب، فماذا تظنه يعني بقوله إنه المسجد وإنه الساجد معا؟ فلولا أنني رأيت وجهه مضيئا بتقوى العابدين، لقلت إن الرجل إنما أراد أن يعفي نفسه من شيء لا يحبه، فماذا تقول في معنى عبارته تلك؟

قلت لصاحبي: لقد كان الرجل قوي التعبير واضح المعنى، فلقد أراد أن يقول لزميله إنه إنما يعبد الله أنى كان وأينما كان، إنه يعبد الله قياما وقعودا وعلى جنبه، نعم، إنه يؤم المسجد (المبنى) مع من يؤمه من المسلمين، لكنه حتى وهو في المسجد (المبنى) يجعل من ذاته مسجدا داخل المسجد، بمعنى أن يستغرق وجوده في عبادته، فكم هم كثيرون كثرة تذهلك، أولئك الذين يؤدون صلاتهم في بيت الله فترى الواحد منهم قائما بجسده راكعا بجسده ساجدا بجسده، وأما عقله كله وقلبه كله فشاردان هناك في الأفق البعيد يحسبان المكسب والخسارة ويكملان رسم الخطة التي يعدانها ليكيدا للخصوم، وعندئذ يتحول المسجد في حياتهم ليصبح مكانا كأي مكان آخر يرونه صالحا للتدبير والتخطيط، وأما صاحبنا الهندي بتعبيره القوي ومعناه الواضح، فقد أراد لبدنه أن يكون مسجده حتى وهو في المسجد؛ لكيلا يفلت منه زمام عقله أو تشرد الأهواء بقلبه، وحتى لو أخلص العابد لعبادته وهو في المسجد، مرخيا لنفسه العنان قبل ذلك، وبعد ذلك كان بمثابة من وضع عقيدته الدينية بين قوسين ... وأما فيما قبل القوس الأول وبعد القوس الأخير، فهو مطلق السراح، فيجيء التعبير الذي عبر به الهندي التقي عن ذات نفسه ليلفت أنظارنا إلى وجوب أن تستمر معنا تقوى الله، قبل المسجد وفي المسجد وبعد المسجد، ولكن كيف؟

قبل أن أعرض ما أريد عرضه، يحسن أن أضع بين يدي القارئ أمثلة قليلة تصور له السلبية المميتة، وما هو أشر من السلبية المميتة التي يريد لنا نفر من قادة الرأي أن نفهم إسلامنا على ضوئها.

أولا:

يجمل بنا أن نضع نصب أعيننا تلك الحقيقة المرة، وهي أن الرقعة الجغرافية المتصلة والممتدة من إندونيسيا شرقا إلى المغرب غربا مرورا بباكستان وأفغانستان وإيران والوطن العربي وأقطار من أفريقيا، هذه الرقعة الجغرافية بأسرها والتي هي الموطن الأساسي للشعوب الإسلامية، توشك أن تكون في مجموعها أقل بلاد الدنيا نصيبا من التقدم بأي مقياس نختاره لنقيس به من تقدم من الشعوب ومن تأخر، اللهم إلا إذا اخترنا «الإسلام» في ذاته على أنه هو نفسه «التقدم»، مهما يكن نصيب المسلمين بعد ذلك من التعليم، ومن الإنتاج الاقتصادي، ومن مستوى المعيشة، ومن الإبداع في الأدب والفن، ومن الإضافة الحقيقية إلى العلم وما يتفرع عنه ... فإذا رأينا أن تلك هي الحقيقة المرة، أفلا ينبغي لضمائرنا أن تتأرق لتدفعنا دفعا إلى جدية النظر وجدية التفكير وجدية العمل سائلين أنفسنا: لماذا؟ ثم ألا يجوز أن نجد بعض الجواب متضمنا في ذلك التعبير القوي، وهو أن المسلم لم يجعل من نفسه «مسجدا وساجدا» قبل المسجد وفي المسجد وبعد المسجد؟

ثانيا:

إنه بغير أدنى شك، لا بد للمسلم - شأنه في ذلك شأن أي مؤمن بأي عقيدة دينية أخرى - أن يكون «عابدا» بما تضعه له عقيدته من صور العبادة، وفي هذا الصدد نسأل - جادين ومخلصين - أفلا ينبغي للمسلم أن يتدبر في روية وفي عمق قول الله سبحانه:

وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؟ فما هو ذلك الجانب من حياة الإنسان الذي يظل قائما مع الإنسان، ما امتدت لذلك الإنسان حياة واعية؟ أيمكن أن يكون المقصود بالعبادة مقصورا على صور العبادة المعروفة من صلاة وصوم وغيرهما؟ نعم - إن هذه الصور المعروفة هي أركان الإسلام، لكنها موقوتة بأوقاتها، فماذا عسى أن تكون صورة العبادة قبل تلك الأوقات وبعدها؟ ماذا عسى أن تكون الصورة المقصودة بالعبادة، حين نعلم من القرآن الكريم أن الإنسان ما خلق إلا ليعبد؟ إن المسلم كاتب هذه السطور لا يرى - بكل التواضع الذي يستطيعه إنسان - لا يرى إلا أن تكون العبادة التي ما خلقنا إلا لأدائها إنما هي - إلى جانب الأركان المعروفة - اجتهاد في سبيل معرفة الإنسان لربه، عن طريق معرفته لمخلوقات ربه، فها هنا نستطيع أن نتصور صورة من الدأب الدءوب الذي لا يفتر لحظة على طول الحياة الواعية، محاولا أن «يعرف» ثم «يعرف مزيدا» ثم يعرف مزيدا من المزيد إلى آخر نفس يلفظه الإنسان المجتهد في تحصيل المعرفة إذا جاءه أمر ربه ... على أن هذه النقطة من نقاط حديثي هي التي سوف تكون إحدى ركيزتين أساسيتين سيكونان المحور الرئيس للموضوع كله.

ثالثا:

وهذه نقطة متصلة بما أسلفته لتوي، أذكرها راجيا أن تتسع صدورنا لما يقوله بعضنا لبعضنا، فكلنا طلاب حقيقة نسعى إلى إدراكها وإلى العمل بمقتضاها، ولا ضير في أن يصحح أحدنا الآخر، بل لا بد أن يصحح أحدنا الآخر لتتحرك حياتنا الفكرية نحو ما هو أصح وأكمل، وإلا فمن ذا الذي يدعي لنفسه سعة من العلم لا تنتهي حدودها، وعصمة من الخطأ لا موضع فيها للزلل والخطأ؟ وإني إذ أقول ذلك، فإنما أقوله وفي ذهني أمثلة حية مما قرأته أو سمعته لعلماء منا لا أشك لحظة في فضلهم وفي إخلاصهم وسلامة طويتهم، لكنني في الوقت نفسه أشك كل الشك في سداد ما يكتبونه أحيانا وما يذيعونه في الناس، وذلك حين أشعر في قوة ووضوح أن مؤدى ما يقولونه في موضوع «العبادة» قد يفهمه الآخذون عنهم على أنها عبادة السكون والقعود والزهد والرضا بالقليل من دنيا «العلم» ومن دنيا «العمل»، وكان آخر ما سمعته في هذا الباب ما أذاعه أستاذ جليل عن «القدس» وكيف تكون سبيلنا إلى تحريرها من قبضة إسرائيل؛ إذ قال إن الوسيلة هي «العبادة»، والشرط الذي اشترطه فضيلته لتلك العبادة هو أن تعم الأمة الإسلامية كلها لا تقتصر على نفر منها دون الآخرين، ولو أن فضيلته قصد ب «العبادة» ذلك المعنى الواسع الذي سأجعله موضوعا لحديثي بعد قليل، لكان قوله صوابا، لكنه قال قوله ذاك في سياق لا يجعل للعبادة معنى في أذهان السامعين إلا ما هو معروف من «أركان» الإسلام الخمسة؛ أي أنه يكفي المسلمين أن يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة، ويصوموا رمضان ويحج منهم من هو قادر على الحج، وذلك كله بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيخرج الإسرائيليون من القدس. لقد سبق لكاتب هذه السطور أن ذكر سامعيه (في محاضرة عامة ألقاها في تونس)، كما ذكر قراءه (في مقالة له)، ذكر أولئك وهؤلاء بأن أركان البناء لا بد أن تقام قوية وراسخة، لكن في البناء إلى جانب «الأركان» غرفا وجدرانا، ومن تلك الغرف والجدران أن يكون المسلم عابدا بعلمه وباستخدامه لذلك العلم في السلم إذا كان السلم وفي الحرب إذا كانت الحرب، وبهذا الجانب من العبادة تخلو القدس من الغاصبين.

ربما كنت بتلك النقاط الثلاث، قد مهدت الطريق إلى ما أريد عرضه تعليقا وتوضيحا لتلك العبارة التي قالها ذلك المسلم من أبناء الهند، حين أجاب صاحبه الذي سأله إن كان راغبا في مرافقته إلى المسجد إذ أجاب قائلا: يا صديقي أنا المسجد وأنا الساجد معا، لله سبحانه وتعالى ... عند المسلم كتابان: القرآن الكريم، وهذا الكون العظيم الذي يحيط بنا ونسكن كوكبا من ملايين كواكبه وأنجمه، وذلك لا ينفي أن يكون الكتاب الثاني محكوما بالكتاب الأول؛ بمعنى أن «الكلمة» تسبق فعلها، و«كن» يتبعها أن «يكون»، ومن القرآن الكريم يستمد المسلم - بين ما يستمده - المبادئ والقواعد التي يقيم حياته السلوكية على أسسها، ومن كتاب الكون يستمد المسلم «وغير المسلم» قوانين «العلم» التي على أساسها وفي حدود ما يعلمه منها يصنع الغذاء ويصنع الدواء وينسج الثياب ويبني المساكن، ويقيم الجسور ويصوغ المعادن أدوات لعيشه وسلاحا لحربه إلى آخر ألوف الآلاف من صنائعه إن كان لتلك الصنائع أثر، وكلا الكتابين مقروء للناس بمقادير ودرجات تتفاوت بتفاوت أفراد الناس في قدرتهم على القراءة، ولكل من الكتابين لغته التي لا بد أن تدرس دراسة دقيقة وعميقة؛ حتى يتمكن الدارس من استخلاص ما ظهر من مضمونها وما بطن؛ ولذلك كان لكل من الكتابين علماؤه المتخصصون الذين يجب أن يكونوا مرجعا يلوذ به من أراد العلم من غير المتخصصين، إلا أنه من المألوف للناس أن تكون لغة القرآن الكريم هي اللغة العربية، لكنه ليس من المألوف عندهم أن يقال إن لظواهر الكون لغاتها، وهي اللغات التي يحتال على قراءتها العلماء الباحثون عن أسرار تلك الظواهر؛ أي إنهم باحثون عن قوانينها، غير أن لغات الظواهر الكونية أقرب إلى ما يسمونه ب «الشفرة» أو هي أقرب إلى الكتابة بمداد غير مرئي للعين إلا إذا عولج بمواد معينة فيظهر للعين بعد خفاء، واحتيال العلماء على ظواهر الكون حتى يكشفوا عن أسرارها هو نفسه الذي نطلق عليه اسم «المنهج العلمي» في البحث، وإلا فكيف قرأ علماء الضوء ما استكن في ظاهرة الضوء بحيث استطاعوا آخر الأمر أن يطوعوه لأغراضنا، فكان لنا تلك المصابيح التي نستضيء بضوئها، كما كان لنا أجهزة أخرى كثيرة كالتليفزيون وغيره، وكيف قرأ علماء «الصوت» وعلماء «الكهرباء» وعلماء «الجاذبية» وعلماء هذا وعلماء ذلك، كيف استطاع كل هؤلاء العلماء، أن يقرءوا تلك الكائنات جميعا ليستخرجوا ما كان مكنونا من سرها فطوعوها، وأصبحت حياة الناس كما نراها بوسائلها وأجهزتها، ولم يعد في مستطاع أحد أن يتصور لنفسه حياة بغيرها ...؟ ولقد كان هؤلاء العلماء في جهدهم وجهادهم يعبدون الله الذي خلق الكون، وأمر عباده أن يتفكروا في خلقه ذاك، حتى يكشفوا ما استطاعوا الكشف عن كنزه المستور.

قل لي - بالله - يا أخي أين هو المسلم الواحد الذي لا يفخر ويفاخر بآبائه المسلمين فيما قالوه وما فعلوه خلال القرون العشرة الأولى من تاريخ الإسلام، والقرون الأربعة الأولى منها على وجه الخصوص؟ وإذا كان هذا هكذا - فتعال معا نحلل العوامل الأساسية التي جعلت تلك القرون الأولى مختلفة عما تلاها إلى يومنا هذا، إن الأسبقية الزمنية وحدها لا تكفي للتعليل، ولا بد أن يكون الفرق كامنا فيما أداه أولئك وما يؤديه هؤلاء، وإذا أذنت لي بأن أدلي بين يديك برأي عاجل، ولكنه شامل، لقلت إن الفارق الرئيس بين الفترتين إنما هو أن الأولين عنوا بالكتابين معا: القرآن الكريم والكون العظيم، معترفا لك بأن القرآن الكريم قد ظفر منهم بالاهتمام الأكبر، مما كان ينبغي أن يؤدي بنا إلى نتيجة هامة لو كنا حريصين على أن نكون مع أسلافنا استمرارية تاريخية إيجابية وفعالة، وتلك النتيجة هي أن نعتمد إلى حد كبير على دراساتهم القرآنية لنجعل لدراسة «العلوم» الكونية فرصة أوسع.

إننا حين نعتز بأسلافنا ترانا لا نقصر الأمر على فقهاء الدين منهم، بل نحرص على أن نضيف الأسماء اللامعة لعلماء الرياضة وعلماء الطب وعلماء الكيمياء وعلماء الفلك والمؤرخين والرحالة فضلا عن الشعراء والنقاد والفلاسفة، فهؤلاء جميعا قد وجهوا جهودهم نحو الكون، يقرءون ظواهره ليصفوها وليحللوها وليستخرجوا قوانينها، ثم أصابنا الجمود منذ القرن الخامس عشر الميلادي، ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا قبل ذلك لم تكد تتجه بنظرة واحدة نحو تلك العلوم، (وهذا الحكم منصب بالطبع على ما بعد العصر اليوناني) وكان أسلافنا المسلمون وحدهم هم فرسان الميدان، تحول الموقف تحولا حادا بعد ذلك التاريخ، فاتجهت أوروبا بكل عقولها وقلوبها نحو طبيعة الظواهر الكونية يدرسونها، ووقفنا نحن وقفة الأشل، فلم يتبق لنا من ميادين الدراسة شيء إلا أن يعيد الدارسون ما كتبه الأولون متصلا بالقرآن الكريم، فلا هم أضافوا شيئا في هذا المجال، ولا هم بالطبع أنفقوا من وقتهم ساعة واحدة يدرسون فيها ظاهرة من ظواهر الكون.

وإذا شاركتني هذا الرأي، انفتح الطريق أمامنا نحو الوسيلة التي ننهي بها مأساتنا، فهي - كما نرى - أن نجعل إسلامنا على نحو ما كان إسلام الأسبقين فيما يختص بالحياة العلمية، فقد كان عالم الرياضة أو عالم الطب أو عالم الكيمياء إلخ مسلما عالما، لا «مسلما وعالما» بإضافة واو العطف بين الصفتين، بمعنى أن اهتمامه بالفرع الذي يهتم به من فروع العلم الرياضي والطبيعي كان جزءا من إسلامه، أو بعبارة أخرى، كانت العبادة عنده ذات وجهين: بالوجه الأول منهما يعبد الله بالأركان الخمسة، وبالوجه الثاني منهما يبحث في خلق السموات والأرض وما بينهما كما أمره القرآن الكريم، وبهذه النظرة نفسها يكون مخرجنا من مأساتنا، وهي المأساة التي جعلت الأمة الإسلامية على حالتها من الضعف، كما أسلفنا القول في ذلك.

وإذا اتجه المسلمون بإيمان راسخ وعميق نحو دراسة «العلوم»، لا من حيث هي «مذكرات» تحفظ، بل من حيث هي ضرب من عبادة الله عز وجل لأنها نظر في خلق الله، لاستطاعوا أن يتميزوا في هذا المجال بالقياس إلى علماء الغرب، لماذا؟ لأنهم بحكم إسلامهم موجهون نحو «التوحيد» بكل معنى من معانيه، فتوحيد الله سبحانه وتعالى عند المسلم، لو أخذ مأخذا بصيرا - لاستتبع عند المسلم توحيدا لشخصيته هو وتوحيدا للكثرة الظاهرة في كائنات العالم، بحيث تنخرط كلها في «لون» واحد متكامل الأجزاء، وكلا الجانبين من التوحيد؛ وأعني توحيد الشخصية الإنسانية وتوحيد العلوم المختلفة التي تبحث في ظواهر الكون توحيدا يعود بها إلى مبدأ واحد، أقول: إن كلا الجانبين من التوحيد غائب أو كالغائب عن الحياة الفكرية في عصرنا التي هي حياة انفرد بها حتى الآن علماء الغرب، وما ينفك أدباء الغرب ومفكروه يشيرون إلى هذا النقص الخطير الذي أدى إلى كثير من أمراض العصر النفسية وعلى رأسها القلق والشعور بالاغتراب، وكأن الإنسان يعيش في غير بيته ومع غير أسرته.

نعم - لو أن المسلمين عبدوا الله من ناحية دراستهم لخلق الله بالإضافة إلى عبادته سبحانه وتعالى من ناحية الأركان الخمسة، لانتهوا إلى ما يصح تسميته بالعلم «الإسلامي»، فالعلم لا يصبح إسلاميا بهذا العبث الذي يطن في آذاننا كل يوم حين نسمع صيحات تقول: نريد علم نفس إسلاميا، ونريد علم اجتماع إسلاميا، ونريد علم اقتصاد إسلاميا، كلا؛ لأن كل علم من هذه العلوم الجزئية لا يستطيع إلا أن يكون علما لا تتغير صورته على أيدي علماء اختلفت أوطانهم وعقائدهم، وإنما يصبح العلم إسلاميا بالوقفة العامة التي ترتب بها العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحو ما نتوقع من المسلم الحق أن يوحد بين عناصره الداخلية العاقلة منها وغير العاقلة في ذات موحدة متسقة النغم متفقة الهدف، لكن هذا كله لا يؤديه المسلم في المسجد وحده، وإنما يؤديه - كما قلت - قبل المسجد، وفي المسجد وبعد المسجد، فهل رأيت الآن يا صديقي، كيف يمكن أن تفهم عبارة المسلم الهندي التي قالها لزميله حين قال: إنني أنا المسجد وأنا الساجد؟ هذا، ولم أقل «شيئا» عن الركيزة الثانية في حياة المسلم، ركيزة «الأخلاق» التي نزل بها القرآن الكريم، لينظم على أساسها أنماط سلوكنا في حياتنا منفردة كانت تلك الحياة أو مجتمعة، ويغفر لنا هذا الحذف ضيق المقام أولا، ووضوح هذا الجانب في أذهان الناس، إذ من الذي لا يعرف أن المسلم الحق يحمل مبادئه الأخلاقية في ضميره أينما كان، يحملها قبل دخوله المسجد وبعد خروجه من المسجد - كما يحملها وهو يؤدي صلاته في المسجد سواء بسواء.

اقرأ باسم ربك

في كتابه «الخصائص» يلفت «ابن جني» أنظارنا إلى ما يسميه هو بالاشتقاق الكبير، وكتاب «الخصائص» مؤلف ضخم يقع في ثلاثة مجلدات، يبحث في خصائص اللغة العربية، وهو - كما ذكرت عنه في مناسبة سابقة - أقرب شيء إلى ما نسميه اليوم بفلسفة اللغة، ولست أعرف في تراثنا العربي كله، ما ينافس «الخصائص» في موضوع بحثه، عمقا وإسهابا، وأحسب أن علماء اللغة قبل ابن جني، لم يعرفوا إلا ضربا واحدا من الاشتقاق، وهو ذلك الذي يتعقب الألفاظ التي يمكن أن تتولد من أصل لغوي واحد، فمن الأصل «كتب» تولد «كاتب»، «مكتوب»، و«كتاب» و«كتيبة»، إلخ، أما الاشتقاق الكبير الذي يلفت ابن جني أنظارنا إليه فشأنه شأن آخر، وخلاصته أن الأحرف الثلاثة التي يتركب منها الأصل الثلاثي، لتعطي معنى معينا، يمكن أن نغير في ترتيبها، فنحصل بذلك على كلمات أخرى، لكل منها معناها، لكنها جميعا لا بد أن تكون ذات صلات بعضها ببعض؛ لأنها تكون أشبه بأفراد الأسرة الواحدة، كل فرد منهم متميز بفرديته، لكن يظل الشبه الأسري قائما بينهم جميعا، ثم ضرب ابن جني أمثلة يوضح بها ما زعمه عما أسماه بالاشتقاق الكبير.

وعلى طريق ابن جني، وجدت نفسي مدفوعا إلى إمعان النظر في كلمة «اقرأ»، وذلك عندما أحسست في لحظة من لحظات التأمل، بأنه لا بد أن تكون هناك أبعاد بعيدة الأعماق؛ لأن يكون أول الوحي الإسلامي هو هذا الأمر الإلهي

اقرأ

وقد يكون هنالك من العلماء السابقين أو المعاصرين، من تقصى تلك الأبعاد، لكن ذلك - حتى إن وجد - لا يمنعني من متعة التفكير، بل من واجب التفكير؛ لأن عملية التفكير لمن يحسنها، واجب ومتعة معا، فكانت أول خطوات التفكير عندي، محاولة الإفادة بمبدأ ابن جني في الاشتقاق الكبير؛ لأن ذلك من شأنه أن يصوب الأضواء على ما يمكن أن يكون وراء الكلمة من الأبعاد التي نبحث عنها.

فمن الأحرف التي تتكون منها كلمة «قرأ»، يمكن استخراج كلمة «أرق» وكلمة «أقر»، فلننظر - إذن - إلى هذين اللفظين المستخرجين، ثم نعود بعد ذلك إلى الكلمة التي هي موضوعنا، وهي الأمر القرآني

اقرأ

وكونه أول ما نزل به الوحي.

وأبدأ بالأرق، وللأرق علاقة وثيقة وحميمة بالحياة، فالذي يتأرق هو الكائن الحي على وجه العموم، والإنسان على وجه الخصوص، فالمادة الموات لا تتأرق لشيء، الحجر لا يؤرقه أن تسفعه الريح العاتية سفعا، ولا أن ماء المطر يغرقه، ولا إذا شاءت له حرارة الشمس أن يلتهب وتتفتت أجزاؤه، فليس له في طبيعته إلا أن يتلقى ما يتلقاه، إنه ينفعل ولا يفعل ... ولا كذلك الكائن الحي على إطلاقه، فماذا تقول في الإنسان؟ ولقد كنت وقعت ذات يوم على تعريف للحياة - أغلب ظني أنني صادفته مرتين، إحداهما عند هربرت سبنسر، والثانية عند برتراند راسل - وخلاصة ذلك التعريف، هو أن الحياة إن هي إلا تعاقب مستمر بين حالتي التوتر والارتخاء في الكائن الحي، وذلك أن الكيان الحي ذو حاجات عضوية، من غذاء وماء وغيرهما، فإذا أحس ذلك الكيان الحي بالحاجة إلى غذاء توترت أجهزته العضوية، حتى إذا ما سرى فيه الغذاء المطلوب، استراح واسترخى، وهكذا دواليك طالما كان الكائن حيا، فإذا وجهنا أنظارنا إلى الإنسان، وجدنا تلك المراوحة لا تقتصر على الحاجات العضوية وحدها، بل يضاف إليها في هذا السبيل حاجات عقلية وحاجات وجدانية، أشد إلحاحا عليه وأقسى، فانظر كم تتأزم نفس الإنسان إذا افتقد «الحرية» فلم يجدها، وإذا طلب «العلم» فسدت أمامه الطرق، وفي كل حالة من حالات تأزمه لنقص فينا يشبع حاجاته العقلية والوجدانية، يتوتر كيانه كله، فلا يستريح إلا إذا أشبعت له حاجته الظامئة - وذلك هو الأرق الذي تتصف به كل حياة، وتتصف به حياة الإنسان بصفة أخص، وأدق، وأسمى.

ولم يعد الآن موضع لغرابة، إذا تناولنا اللفظ الثاني الذي استخرجناه من مادة «قرأ»، وهو كلمة «أقر»، فقد رأينا في الأرق أنه اضطراب يعقبه استقرار عندما تشبع الحاجة، وهكذا تكون كلمة «أقر» في معناه جزءا من «أرق» ومعناها.

فإذا عدنا إلى «قرأ»، رأينا في معناها ذلك العمق الذي ظهر من النظر إلى شقيقتيها السالفتين، ففي فطرة الإنسان التي خلق عليها، حاجة حيوية لأن «يعرف» ما استطاع معرفته عما حوله، وعما في نفسه، فتلك المعرفة عند الإنسان، ليست للزينة، أو للمفاخرة، بل هي لحياته ضرورة كضرورة الهواء يتنفسه، والماء يشربه والطعام يأكله، فما لم «يعرف» الإنسان ما لا بد من معرفته عن المكان الذي يسكنه وعن الزمان الذي يحيا فيه، لما استطاع العيش يوما واحدا، انظر إلى أهل الكهف حين استيقظوا، وسعوا في المدينة وهم لا يعلمون أن الزمان قد تغير عما ألفوا، فتعذر عليهم التفاهم والتعامل، وإنه لمصير محتوم على كل إنسان يبتر الروابط عن ظروف مكانه وظروف زمانه، سواء أجاء هذا البتر بإرادته أم جاء مفروضا عليه، فشرط الحياة للإنسان، حتى وهي في أبسط درجاتها، هو أن «يعرف» ذلك الإنسان في أي مكان هو، وبأي زمان يستظل، ثم تتدرج معرفة الإنسان لمكانه وزمانه، تدرجا يتفاوت فيه الصعود بتفاوت الأفراد، على أن صلاحية المعرفة المكسوبة - وأعني صلاحيتها كما وكيفا - مسألة لا تقاس بما يعرفه كل فرد على حدة، وإنما تقاس بما تعرفه مجموعة الأفراد معا في شعب معين، إذ المطلوب ليس هو أن يعرف كل مواطن كل شيء، بل المطلوب هو أن يكون حاصل جمع ما يعرفه أبناء الشعب المعين، فيه ما يكفي لحياته كما يريد لنفسه أن يحيا ...

هي فطرة الإنسان، التي لا تكلف فيها ولا تصنع، هي فطرته أن يكون على «معرفة» ما استطاع إلى ذلك سبيلا ... فإذا لم يشبع من فطرته تلك حاجتها من المعرفة «تأرقت» نفسه لذلك النقص الذي يحد من إنسانيته، بل يحد من قدرته على الحياة، وأما إذا أشبع تلك الحاجة «أقر» بذلك نوازع نفسه، ولكن ما وسيلته إلى تلك المعرفة التي هي من حياته بمثابة القلب والصميم؟ وسيلته إليها هي أن «يقرأ»، ومن هنا كان أول الوحي هو:

اقرأ .

القراءة أمر إلهي للإنسان، بل هي من الأوامر الإلهية أولها نزولا، فهل نخطئ إذا قلنا عن القراءة إنها عبادة؟ ولكن ما كل قراءة هي من ذلك القبيل الأسمى، بل إن من القراءة ما يضل ويفسد، إذن، فماذا تكون؟ وكيف تكون؟ إن الإجابة تتبدى في صيغة الأمر الإلهي نفسه:

اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم

و

اقرأ باسم ربك الذي خلق ، في كلتا الحالتين يأتي الأمر بالقراءة متبوعا باسم الله، فليست القراءة الواجبة - إذن - هي قراءة الآلي، وإنما هي القراءة التي تفك بها الرموز، فيكشف عن الكنوز المكنونة من معرفة لما كتبه قلم يحمل علما كان مجهولا للإنسان قبل قراءته «الحالة الأولى»، ومن معرفة لما خلقه الله، وذلك بدراسته ما وسع الإنسان أن يدرس ليعلم «الحالة الثانية».

هي قراءة مزدوجة، فرع منها يقرأ الكلمات، وفرع آخر يقرأ مخلوقات الله، والفرعان كلاهما يستهدفان هدفا واحدا، وهو، «المعرفة» بعد فك الرموز والكشف عما تعنيه، ولعل الأمر يزداد أمامنا وضوحا إذا ذكرنا محاولة من أهم محاولات الفلاسفة المسلمين الأولين، وهي محاولة قد وفقوا فيها إلى حد بعيد، وأعني محاولتهم أن يبينوا بأن الحقائق التي نزل بها الوحي قرآنا، هي نفسها الحقائق التي يصل إليها العقل علما، وربما كان أمتع وأنفع ما نقرؤه في هذا المجال، هو كتاب «حي بن يقظان» لابن طفيل، فهو «أمتع»؛ لأنه «أدب من حيث الشكل الروائي»، وهو «أنفع» لأنه وضع أمام قارئه إنسانا نشأ وحده على جزيرة ليس فيها إلا نبات وحيوان وكائنات مادية كالأرض والماء والشمس، فلما نما جسما، ونضج عقلا، استطاع من تأمل المخلوقات التي حوله، أن يستدل بعقله المحض على وجود الله، وطبائع الأشباه، وأريد للقارئ أن يتأمل الاسم الذي اختاره ابن طفيل لبطل روايته الفلسفية، إذا استخدمنا مصطلحات الأدب في عصرنا، وأحب هنا أن أضيف حقيقة إملائية، وهي أن القارئ إذا ما رآني قد كتبت «ابن طفيل» بحرف الألف في «ابن»، فذلك هو الصواب؛ لأن الألف في «ابن» لا تحذف إلا إذا جاءت بين اسمين كقولنا: «عمر بن الخطاب» - أعود إلى سياق حديثي، فأقول إنني أريد للقارئ أن يتأمل اسم «حي بن يقظان»، ليرى كيف أحسن ابن طفيل اختيار الاسم؛ لأنه إذا كان الإنسان المعزول وحده في جزيرة منذ ولد، قد استطاع بعقله أن «يقرأ» الكائنات من حوله، قراءة كشفت له عن الحق سبحانه، وعن حقائق الأشياء وطبائعها؛ فذلك لأنه لم يكن غافلا ولا لاهيا بما يسمع ويرى، أعني لم يكن غافلا ولا لاهيا عندما «قرأ» الذي قرأه فيما حوله، فذلك لأنه «حي» بكل معنى الحياة، ولأنه «يقظان» بكل وعيه وإدراكه ... فهذا الذي صنعه الفلاسفة المسلمون الأولون، حينما بينوا التقاء ما نزل به الوحي، وما يدركه العقل باستدلالاته وبراهينه، يوضح لنا ما قلناه عن القراءة بشعبتيها، وتلك هي القراءة العابدة؛ لأنها قراءة باحثة كاشفة عارفة.

ومن هذا الذي قدمناه، تتولد نتيجة أراها ذات أهمية كبرى في رؤيتنا الإسلامية من جهة، وفي تربية أبنائنا على تلك الرؤية من جهة أخرى، وأعني بها النظرة التي ننظر بها إلى الحلال والحرام، اللذين هما جوهر الشريعة، فالحلال حلال لأن شريعة الله قد أحلته، والحرام حرام لأن شريعة الله قد حرمته، وهما بغير شك مطاعان عند المسلم لمجرد أنهما شريعة الله، وهناك علماء من أفضل العلماء، يرون أن طاعة المسلم فيما حلل له وما حرم، يجب أن تؤخذ بغير أن يسأل: لماذا كان الحلال حلالا وكان الحرام حراما؟ والرأي عند كاتب هذه السطور هو - بكل التواضع الذي يقبل التصحيح بلا تردد إذا ظهر له أن في الرأي خطأ هو لا يراه، أقول: إن الرأي عند كاتب هذه السطور هو أن الخير كل الخير أن نسأله: لماذا؟ وأن نحاول الجواب والبيان.

وهذا الرأي أبنيه على ازدواجية القراءة التي أسلفت ذكرها، فإذا كان الأمر هو كما بينه الفلاسفة المسلمون الأولون، أن العقل يمكنه بالاستدلالات الصحيحة من وقائع العالم كما تقع لنا، أن يستنتج الأحكام التي نزلت وحيا، كان معنى ذلك هو أن الحلال والحرام هما النافع والضار فيما يدركه العقل، لو أنه تعقب حقائق الأشياء وطبائعها ونتائجها القريبة والبعيدة، فكل حلال إنما هو في حقيقته الواقعية، شيء يفيد فائدة مطلقة، لا يحتمل أن يشوبها ضرر مهما امتد حبل النتائج التي تترتب عليه، وكل حرام هو شيء ضار، قد يظهر ضرره فور وقوعه، وقد يكون ضررا كامنا تظهر نتائجه بعد حين قصير أو طويل، وأعتقد أن بيان ما هو حلال وما هو حرام، لمن نربيه على الإسلام، يزداد عمقا في نفس المتعلم - وفي نفس المسلم عامة - إذا «عرف» بعقله لماذا حلل والحلال وحرم الحرام، إن الأوامر والنواهي لا يتبدل فيهما شيء، عندما ينتقلان من مرحلة القبول الذي لا يسأل عن الأسباب، إلى القبول ومعرفة أسبابه، ففي تربية الوالد الرشيد لولده، يأمره بأفعال وينهاه عن أفعال، لكنه يمسك عن ذكر الأسباب إذا رأى طفله أقل قدرة على إدراك تلك الأسباب، لكن كلما نما ولده وازداد قدرة، اتسع المجال أمام ذلك الوالد، ليشرح لولده لماذا كان الأمر ولماذا كان النهي.

لكنه في الوقت الذي لا يتغير فيه شيء من الحلال والحرام، بين أن يكون الإنسان على علم عقلي بالأسباب، أو لا يكون على شيء من ذلك العلم، فإن الفرق كبير في الإنسان نفسه، بين أن يعلم تلك الأسباب وألا يكون على علم بها، فاستعداد الإنسان لقبول أحكام بغير علم بمبرراتها، قد يتسع مداه في حياته الإدراكية - دون أن يشعر بذلك - من دائرة الطاعة الصامتة في مجال الدين، إلى الطاعة الصامتة كذلك في مجال العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك علاقة الحكومة بالشعب، وعندئذ قد يطغى من يطغى، دون أن يكون من حق المحكوم أن يسأل لماذا؟ ... ثم قد يتسع المدى كذلك لينتقل الإنسان السلبي في طاعته، من دائرة الأحكام الدينية، إلى دائرة الاعتقادات التي لا هي من أحكام الدين فتطاع بغير سؤال من العقل، ولا هي من المعرفة العلمية التي محصها العقل وأثبت صحتها قبل قبولها؛ وأعني بتلك المجموعة الضخمة من الاعتقادات، التي لا هي من دين، ولا هي من علم، تلك «الخرافات» التي إذا شاعت ودامت مع الناس، رسخت في نفوسهم كأنها حقائق لا موضع فيها لجدل أو سؤال، لا سيما إذا كانت الأغلبية الغالبة من الشعب قد حرمت من الحد الأدنى من التعليم والتثقيف، ذلك الحد الأدنى الذي لا يسمح لصاحبه أن يقبل رأيا، أو فكرة، أو حكما أو صورة من صور السلوك، إلا إذا كان لها مبرر معروف.

وأرتفع بالمسألة المطروحة درجة، لأقول إن عقيدة المسلم هي أن الإسلام دين لكل زمان ولكل مكان، ومن الحكمة أن نبين للناس ذلك الأساس الذي يؤيد صدق عقيدة المسلم في دينه، والأساس هو استناد الإسلام إلى «العقل» ليكون هو أداة الإدراك كلما أريد للفكرة المدركة أن يكون لها ثبوت وثبات، وليس الإسلام هو المسئول، إذا نشأت جماعة من المسلمين على تربية تبيح لهم أن يبيعوا عقولهم من أجل خرافة ووهم، فالحقيقة العقلية وحدها هي التي تستطيع بحكم طبيعة تكوينها - أن يدوم لها صدقها مهما تغير بها المكان أو الزمان، وإذا قلنا الحقيقة العقلية فقد قلنا الحقيقة العلمية، إذ لا فرق - في الأساس - بين العبارتين، وهل يتأثر الصدق في قولنا «إن الاثنين نصف الأربعة.» مهما تغير المكان أو الزمان الذي تقال فيه؟

من هنا يكون الفرق بين أن تذكر لي أسلوبا معينا من أساليب العيش، قائلا لي إنه أسلوب جيد أو أسلوب رديء، وبين أن تذكر لي في الوقت نفسه «المبدأ» العقلي (أي التعليل) الكامن وراء ذلك الأسلوب من أساليب العيش ، فيجعله حسنا أو رديئا؛ لأن المبادئ العقلية، أو قل: الحقائق العلمية هي وحدها التي لا يتغير من صدقها شيء برغم تحولات المكان والزمان، وفي هذه المناسبة أروي عن سقراط، وقد كان في موقفه من تاريخ الفكر الإنساني، ينقل المفاهيم العامة والهامة في حياة الناس، ينقلها من حالات الغموض والإبهام إلى حالة التحديد العلمي؛ ليتبين صدقها أو بطلانها، فلقد صادف سقراط شابا في ساحة المحكمة، وسأله عما جاء به إلى هناك، فقال له الشاب (وهو أوطيفرون): جئت لأشكو أبي؛ لأنه قتل عبدا في المزرعة بغير حق، مما قد جاوز بالوالد حدود التقوى، فسأله سقراط، وما هي حدود التقوى؟ فأجابه الشاب بما معناه أنها هي الحدود التي جعلت أباه في قتله للعبد على باطل وضلال، وجعلته هو في رفع الأمر إلى القضاء، مع أن القاتل هو أبوه، على حق وهدى، فاعترض سقراط على تلك الإجابة، مبينا للشاب أنه إنما يحدد معنى التقوى بسلوك معين في موقف معين، مع أن التحديد لا تتوافر فيه الشروط العقلية - إلا إذا جاوزنا الموقف المعين، لنستخرج ما يكمن وراءه من «مبادئ»؛ لأن المبدأ هو الحقيقة العامة التي تتخطى جزئية السلوك الفردي في مكانه المعين وزمانه المعين، ليشمل كل سلوك لأي فرد، في أي مكان، وفي أي زمان ...

وهذه النقطة هي عندي بيت القصيد، فلقد كان الإسلام آخر الرسالات الدينية لهذا السبب نفسه، وهو أن الإسلام قد أوكل المشكلات التي قد تنشأ في حياة الناس، مما لا يكون قد ورد فيه حل قاطع، أو كلها إلى «العقل» الإنساني؛ أي أنه أوكلها إلى «العلم»، فكل مشكلة هامة تعترض حياتنا، هي بمثابة موضع يختص به علم معين، أو مجموعة علوم، إذ قد تكون من اختصاص علماء الطب أو علماء الاقتصاد أو علماء النفس والاجتماع، أو غير ذلك من سائر العلوم، بحسب طبيعة المشكلة المطروحة، وما دام الأمر في تدبير الحياة إذا ما أشكلت على الناس، قد أحيل (في الإسلام) إلى عقل الإنسان وعلمه، ففيم تكون الرسالات الدينية بعد ذلك؟

إنها رؤية إسلامية، تنظر إلى الإسلام من ناحية إقراره لعقل الإنسان وأحكام ذلك العقل في استدلالاته إذا ما التزم فيها منهج العلم، وهي رؤية أذكرها، لا لأضيف بها جديدا من حيث الأساس، بل لأذكر بها من نسيها أو تناساها والذكرى تنفع المؤمنين.

العقل يهدي ويهتدي

لم يكن الفتى الصغير قد تنبه، ولا تنبه أحد من ذويه بأن عينيه العليلتين تحتاجان إلى منظار، فما أكثر ما يغفل الإنسان عن حقيقة أمره، ويظل زمنا - قد يطول مع أفراد، وقد يقصر مع آخرين - يظل زمنا تتراكم له الخبرات فيه، قبل أن يدرك بأنه مختلف عن سواه في جانب هام من جوانب حياته، ولقد لبث فتانا أعواما لا أظنها تقل عن خمسة عشر عاما، لكي يدرك بعدها، ويدرك معه ذووه، أن بصره ليس كأبصار الناس وأنه لا بد له من منظار، فلما فحصت عيناه - وربما فحصتا لأول مرة في حياته - وجد أن إحدى العينين سليمة، أو هي تقرب من السلامة، وأما الأخرى فعمياء أو هي تقرب من العمى، وأعد له منظاره الأول، فكانت العدستان متفاوتتين في السمك تفاوتا بعيدا، فإحداهما رقيقة والأخرى ذات حجم ملحوظ، فكان أن قويت رؤيته لما يراه، حتى لقد أخذته للوهلة الأولى دهشة ممزوجة بالهلع، إذ أصبحت دنياه التي تحيط به، وفي انتقالة خاطفة، ليست هي الدنيا التي كان قد ألفها قبل أن يضع منظاره على عينيه لأول مرة، إلا أنه إلى جانب ذلك الكسب العظيم في اقتراب الصلة ووضوحها بينه وبين الناس والأشياء من حوله، خسر خسارة عظيمة كذلك، وكان الفرق بين الحالتين أن الكسب كان في جانب العالم الخارجي وكائناته، وأما الخسارة فكانت في جانب العالم الباطني ومشاعره، فلقد كان التباين الشديد بين العدستين، لافتا للأنظار، ومثيرا لسخرية الأنداد الصغار وعبثهم، والصغار لا يرحمون صغارا مثلهم ولا كبارا.

ودارت الأيام بالفتى دورانا يستحق التسجيل، فما قد حدث له بالنسبة لمنظاره من كسب في الرؤية الخارجية وخسارة في الرؤية الداخلية، أخذ يحدث له في تكرار عجيب، لا في مجال البصر ومنظاره، ولكن في مجال العقل وإدراكه، إلا أن الكسب والخسارة لم يكونا على اطراد واحد، بل كان الكسب مرة في جانب الرؤية الخارجية، ومرة ثانية في جانب الرؤية الداخلية، وعكس ذلك صحيح أيضا بالنسبة إلى ما خسره الفتى في كل مرحلة.

لم يصطدم الفتى بقضية عقلية تتحداه وتلح عليه، بل إنه لم يكن ليدرك كيف يمكن أن يصطدم أي إنسان بقضية فكرية تتحداه وتلح عليه، أليست هي دروسا يذاكرها ويحفظها طالب العلم، ثم يمتحن فيما ذاكره وحفظه، فيصيب من النجاح أو الفشل ما يصيب؟ فمن أين إذن تأتي تلك القضايا التي تتحدى وتلح؟ وكان إلى جانب دروسه وحفظها والنجاح فيها متدينا عميق التدين، إذا كان التدين معناه أن تؤدى شعائر الدين كما ينبغي لها أن تؤدى، وكما خلت دروسه من القضايا التي تؤرق الجنوب عند من يتعرض لإلحاحها، كان تدينه كذلك لا تعترضه مشكلة مما قد يشغل الفكر، وهكذا سارت سفينة الحياة بالفتى في بحر ساكن لا موج فيه، علما ودينا، عقلا وقلبا، حتى انتصف به الشباب، وأخذ يصعد نحو الرجولة ونضجها.

هنا فاجأ نفسه بسؤال وجده مطروحا في رأسه دون أن يدبر له أمرا، وكان السؤال يسأل: ما الفرق عند الإنسان بين حالتين، هو في الحالة الأولى يعالج تمرينا من تمرينات الهندسة، وفي الحالة الثانية يطالع قصيدة من الشعر؟ ألم تكن الحالتان كلتاهما - ذات يوم - درسين من الدروس التي تحفظ ويقضى فيها امتحان؟ لم يكن في أيام دراسته قد أحس فرقا بين الحالتين، وهل تحس الدابة طبيعة ما تحمله على ظهرها، أقمح هو أم حجر؟ وكذلك كان الفتى في دراسته لا يفرق بين نكبة ونكبة، فكلها نكبات، وعليه أن يكابدها حتى تبلغ به السفينة بر الأمان، لكنه الآن في نضج رجولته، يفاجئ نفسه بذلك السؤال العجيب: ما الفرق بين حالة يقول فيها الإنسان، افرض أن أ ب ج مثلث، فكيف تقيم البرهان على أن زواياه تساوي زاويتين قائمتين، وحالة أخرى يقول فيها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل؟ ولم يجد الرجل لنفسه مفرا من أن يفكر في الجواب، فما الذي يلزمه إلزاما لا مفر منه بأن يسأل وبأن يحاول الجواب؟ لا أدري، إلا أن شيئا في منظاره العقلي قد تغير، فما قد كان واضحا له وهو طالب علم، ولا يحتاج منه إلى سؤال، بات اليوم مشكلة تعترضه وتتحداه، فأخذ يفكر ويفكر، إلى أن جاءته لحظة، قال فيها ما قاله أرشميدس وهو في حوض استحمامه يلحظ ماء الحوض كيف ارتفع سطحه بحلول جسمه فيه، فأوحى له ذلك بجواب كان يشغله البحث عنه، فصاح: وجدتها ... وأصبحت بعد ذلك صيحة يصرخ بها كل من وجد جوابا لسؤال كان يبحث عنه، وهكذا قالها صاحبنا عندما أدرك الفارق الذي كان يبحث عنه بين الحالتين: إيجاد البرهان في نظرية ما، والتأثر النفسي لقراءة شعر ما، ففي الحالة الأولى نبدأ بفرض هو أن أ ب ج مثلث، وبفروض أخرى وضعناها أمامنا، بعضها «تعريفات» وبعضها «بديهيات» وبعضها الثالث هو ما يسمونه «مصادرات» - وكان الأصوب أن يقال «مصدرات»؛ أي أنها حقائق نختارها لنضعها في الصدر مع غيرها من الفروض، ثم نستدل النتيجة أو النتائج التي تتولد من تلك الفروض، فالمسألة كلها عقلية صرف، لا أثر فيها لحب أو كراهية أو فرح أو حزن، وأما في الحالة الثانية - حالة الشعر - فلسنا أمام فروض وما ينتج عنها استدلالا، بل نحن أمام رجل مر وهو في طريقه، على بقايا منزل كان مسكنا لحبيبته، والآن قد ذهب الحبيب وذهب المنزل إلا أطلالا متداعية، ولا يملك الرجل من ذلك الماضي الجميل إلا «ذكراه» التي كلما وجدت ما يثيرها دمعت عيناه بالبكاء: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» فكما كان الموقف في نظرية الهندسة عقلا صرفا، نرى الموقف هنا شعورا صرفا، ففي حالة العقل كل الناس يشتركون في البرهان، وفي حالة الشعور الذي أثارته بقايا المنزل ومن كان يسكنه، فالأمر ينفرد به صاحب الذكرى، وليس هناك ما يحتم على أحد آخر أن تدمع عيناه إذا مر بتلك الأطلال، فلماذا إذن نقرأ عن مشاعر الآخرين التي لا نشارك فيها؟ إننا نقرؤها لعلنا نتعاطف مع الشاعر في شعوره، فإذا حدث ذلك التعاطف، حدثت معه تربية وجدانية لأنفسنا.

وتدور عجلة الزمان مع صاحبنا، وإذا هو أمام قضية عقلية أعم من القضية الأولى وأشمل، وهي قضية خاصة بالرؤية العامة التي ينظر بها الإنسان إلى هذا العالم وطبيعته، وعلى الرؤية التي يختارها الإنسان لينظر إلى العالم على أساسها، تتوقف نتائج فرعية لا حصر لعددها، فماذا تكون تلك الرؤية التي يختارها؟ هنالك بدائل يمكن حصرها وعرضها ليجيء الاختيار مؤسسا على مقارنة بين تلك البدائل: فهذا العالم إما أن يكون كله تشكيلات من مادة ما، وفي هذه الحالة يكون علينا أن نفسر الظواهر الروحية والعقلية تفسيرا يوضح لنا كيف أنها تفريعات تفرعت عن أصل مادي، وإما أن نقول إن هذا العالم كله من روح وعقل، وفي هذه الحالة أيضا، يكون علينا أن نفسر الظواهر المادية تفسيرا يبين لنا أن تلك الظواهر إن هي في حقيقتها إلا تفريعات تفرعت من أصل روحي أو عقلي، وإما أن نجده عسيرا علينا أن نفسر الروح والعقل بما يبين أنهما من أساس مادي، كما هو عسير علينا كذلك أن نفسر الظواهر المادية تفسيرا يبين أن تلك التي ظاهرها مادة، إن هي في حقيقة الأمر إلا روح وعقل من حيث المصدر والأساس، فخروجا من هذا العسر يجيء افتراض ثالث، هو أن يكون هذا العالم كله ثنائي الجوهر، فهو مادة في جانب منه، روح وعقل في جانب ثان، وهو جمع بين روح ومادة في الكائن الواحد، في جانب ثالث.

عرض صاحبنا أمامه تلك البدائل الثلاثة، ولكل بديل منها أنصار ليرى أيها أصلح له ليكون أساسا لوجهة نظره، وماذا يحدد الصلاحية هنا؟ تحددها القدرة على فهم كبريات المسائل التي لا بد من قبولها في أي ثقافة، ففي ثقافتنا الإسلامية العربية جوانب أساسية، لا نستغني عنها، ولكن نريد تفسيرا لها، والتفسير لا يكون إلا برد ما نريد تفسيره إلى مبدأ عام، وباندراجه تحت ذلك المبدأ العام يتم التفسير، وقد رأى صاحبنا أن أقرب ما يمدنا بالرؤية الملائمة لنا، هو الافتراض الثالث الذي يرى - أن الروح والعقل ليسا أمورا من مادة، وأن المادة الخالصة لا هي من روح ولا من عقل، وأن الإنسان قد اجتمع فيه الجانبان، الروح والعقل من جهة، والجسم من جهة أخرى.

لكن صاحبنا لم يلبث أن رأى ضرورة شيء من التعديل، لكي تتم له صلاحية الرؤية التي اختارها، إذ يلاحظ أن الذين قالوا إن العالم كله مادة في مادة، قد وحدوا الكون تحت طبيعة واحدة، وكذلك الذين قالوا إن العالم كله روح وعقل، قد وحدوا الكون تحت طبيعة واحدة، وأن الذين قالوا إن العالم قوامه العنصران معا، فإما روح صرف، وإما مادة صرف، وإما كائنات تجمع بين الجانبين، لا بد أن يضاف إلى ما قالوه إيمان بوجود إله واحد هو خالق الكون بعنصريه، وبهذا وجد صاحبنا نفسه أمام إطار فكري يستريح له.

ثم تدور به الأيام دورتها، فتعترضه مسألة جديدة تلح عليه ليجد حلا لها، فقد كان منذ أول نضجه العقلي يرى أنه بينما الإنسان في وجوده الحضاري، لا غناء له عن جوانب كثيرة، كلها أساسي وجوهري لذلك الوجود، إلا أن جانبا واحدا منها هو الذي يتغير مع الزمن تغيرا يصحح به أخطاء نفسه، وذلك هو جانب العلم، وأما سائر الجوانب، ففكرة الخطأ ووجوب تصحيحه غير واردة فيها، فالعقيدة الدينية لها عند المؤمن بها كمال منذ لحظتها الأولى؛ لأنها جاءت وحيا، وبهذا يكون معيار القياس بعد ذلك، هو الأصل كما أوحى به، وعلى ذلك فلا يكون للزمن وامتداده قدرة على تكملة ما هو منذ أوله كاملا، وأما مجالات الإبداع في الفن والأدب، فهي كذلك لا يسهل علينا أن نفاضل فيها بين قديم وجديد، مفاضلة نفترض فيها أن ما هو جديد يكون بحكم الضرورة أصح وأكمل مما هو قديم؛ وذلك لأن الأمر فيها مرهون بموهبة الفنان أو الأديب، وليس ثمة ما يمنع أن تكون أقدم موهبة أعظم من أحدثها، فماذا يمنع ألا يكون في شعراء العرب المعاصرين، من يرتفع إلى مستوى شعراء الجاهلية؟ وماذا يمنع ألا يكون بين أدباء المسرح اليوم من لا ينافس سوفوكليز أو شيكسبير، وكذلك قل في فن الموسيقى وفن النحت وفن التصوير وفن العمارة ... واضح - إذن - أن هذه الجوانب كلها، التي هي من أي حضارة بمثابة الروح في الجسد، لا تخضع «للتقدم» مع ما يتقدم من جوانب الحضارة، أما الذي يتقدم بحكم طبيعته، بحيث يكون اليوم أصح منه بالأمس، فهو العلم.

رأى صاحبنا هذه الحقيقة منذ أول نضجه، لكنها حقيقة تترتب عليها نتيجة تدعو إلى بعض الحيرة، وهي أن العلم، الذي عليه وحده يتوقف الحكم على شعب بالتقدم أو بالجمود (لأن بقية الجوانب الحضارية لا يتوقف كمالها على مستحدثات التاريخ) أقول: إن العلم الذي تنصب فاعليته على «الظواهر» ليستخرج لكل ظاهرة منها قوانينها، تتعدد عنده مادة تلك الظواهر بتعدد العناصر، وليس لعنصر منها أفضلية على عنصر آخر، وإذن فلا بد من افتراض رؤية رابعة، تضاف إلى الواحدية المادية، والواحدية الروحية، وثنائية التكوين بين روح ومادة (يهيمن عليها إله واحد)، والرؤية الرابعة هي تعددية العناصر الكونية مع وحدانية الله - سبحانه وتعالى، وأصحاب التعددية في مكونات الطبيعة لا يقفون بها عند كثرة العناصر فحسب، بل إنهم ليستطردون في طريقهم، حتى يصلوا إلى الوحدات الذرية التي منها يتكون كل شيء، والتي كل ذرة منها مستقلة بكيانها عن سائر أخواتها، ولنا أن نضيف إلى تلك الكثرة في مفردات الكون، أفراد الإنسان، لاستقلال كل واحد منهم بفرديته المستقلة المسئولة.

أحس صاحبنا بشيء من الحيرة: كيف يحتفظ بهذه الكثرة من الأفراد والمفردات، لنحتفظ للعلم بقاعدته الراسخة، التي هي أن يذهب في التحليل إلى أقصى مداه، ثم يبني من الجزئيات ما يبنيه من جسيمات وأجسام وأنواع وأجناس، وأن يحتفظ في الوقت نفسه بوحدانية الكون، إذ أحس إحساسا بأن إيمانه بوحدانية الله تقتضي أن يكون العالم الذي خلقه موحدا كذلك على وجه من الوجوه، إن مثل هذا الإحساس بضرورة أن يتجلى الخالق في خلقه، موجود معنا حتى بالنسبة إلى أعمال البشر الإبداعية ، كما هي الحال في الأدب والفن، فللشاعر أبي الطيب المتنبي - مثلا - عدد من القصائد في ديوانه، لكننا بالرغم من اختلافها موضوعا ووزنا وقافية، إلا أننا نتوقع أن يكون بينهما روح واحدة تسري فيها جميعا، ويستطيع نقاد الفن أن يحكموا إذا كان عمل فني معين هو من أعمال الفنان الفلاني أو لم يكن حكما بما عرفوه عن أسلوبه الفني، فكيف بنا مع الخالق - جل وعلا - وما خلق؟

فأصبح السؤال الذي طرحه صاحبنا على نفسه، محاولا أن يجد لنفسه جوابا يقنعه، هو هذا: كيف نسلك العالم المتعدد في عناصره ومفرداته وأفراده، في وحدة توحده ليصبح وكأنه - رغم ذلك التعدد في مقوماته - كائن واحد؟ وبعد تفكير طال أمده، لجأ إلى فكرة «النظام»، لكن هذه الكلمة مضللة ببساطتها وكثرة دورانها على ألسن الناس، إذ هي في حقيقة أمرها بحاجة إلى تدبر طويل قبل تعريفها تعريفا دقيقا ومقنعا، فمتى نقول عن مجموعة من الأشياء إنها في «نظام»؟ افرض أنك نثرت على منضدة عددا من الحصى، فجاءت كما اتفق، فما الذي ينقصها لتصبح في نظام؟ أليس كل وضع لها هو أحد أوضاعها الممكنة؟ فماذا يكون الفرق بين وضع ووضع؟ الإجابة التي نقدمها هي أبسط من البساطة، وهي: كلما قلت الكلمات المطلوبة لوصف الوضع الذي أخذته أفراد المجموعة، كان فيها من النظام بقدر ما فيها من سهولة الوصف، فلو أنك أردت أن تصف بالكلمات، تلك الحصويات التي نثرتها فوق المنضدة كما اتفق، لاحتجت إلى جهد كبير، وإلى عبارة بالغة في طولها حدا بعيدا؛ لأنك مضطر أن تقيس المسافة بين حصاة وحصاة على نحو يبين حقيقة أوضاعها، لكن ضع هذه الحصويات نفسها في شكل دائرة أو مربع أو مثلث، فعندئذ يمكنك وصفها بكلمة واحدة، هي أنها دائرية، أو مربعة، أو مثلثة، وتستطيع أن تضرب لنفسك أي عدد شئت من الأمثلة، وستجد أن «النظام» في كل حالاته، هو أن الأفراد اتخذت وضعا يمكن وصفه في عبارة قصيرة، أو ربما في كلمة واحدة، فمثلا مجموعة الطلاب وهم مفرقون في فناء المدرسة، ثم حين يصطفون في صفوف، فهذه الحالة الثانية هي النظام؛ لأن وصفها يسهل ويقل عدد كلماته، فما عليك إلا أن تذكر عدد الصفوف، وعدد الطلبة في كل صف.

ونعود إلى الكثرة الهائلة التي هي قوام الكون، ما الذي جعلها توصف بالنظام، وهو وصف كفيل وحده بأن يقيم من تلك الكثرة وحدة موحدة؟ نقول: إن دليل النظام فيه، هو اندراج مجموعاته تحت قوانين العلم، فالقانون العلمي الذي يطوي تحت جناحيه أية مجموعة من الكائنات، إنما هو بمثابة وصف لسلوكها في صيغة قصيرة مركزة في عدد قليل من رموز الرياضة، أو عدد قليل من الكلمات، إذا كان ذلك القانون العلمي مسوقا في كلمات اللغة المألوفة، كما هي الحال في العلوم الإنسانية، فهذا النظام الشامل لأجزاء الكون على تعددها، والذي تدل عليه القوانين العلمية التي تضم ذلك التعدد مجموعات مجموعات، وكأنها حشود الجند قد اصطفت في صفوف، هو الذي أشبع في صاحبنا رغبته في أن يرى توحدا في خلق الله، تنعكس فيه واحدية الله وأحديته، جلت قدرته.

كان الفتى حين وضع منظاره أمام عينيه الضعيفتين لأول مرة، قد رأى الدنيا من حوله وكأنها ليست دنيا الناس والأشياء كما ألفها، إذ رأى من دقائق المرئي وتفصيلاته ما لم يكن قد رآه، فلو أنه عاش ومات وليس في صحبته إلا ذلك البصر المحدود، لذهب عن الدنيا واهما أنها كما رأتها عيناه، فإذا كان منظاره غير المتوازن في عدستيه، قد أثار سخرية الصغار، فذلك ثم قليل بالقياس إلى كسبه الضخم فيما عرفه عن دنياه، ولما دارت بالفتى أيامه وأعوامه، وخرج منه الرجل الناضج بعد أن اجتاز مرحلة الشباب، جاء ذلك الرجل بمنظار آخر أضيف إلى منظار البصر، هو منظار العقل، فهو لم يترك عقله لفطرته، بل اقتضاه أن يتكئ في كل خطوة يخطوها، على منطق الفكر الذي يؤدي به إلى نتائج صحيحة فيما يستدله من المعطيات التي بين يديه، إن العقل البشري هو الذي استخلص من عمليات التفكير مبادئ الاستدلال الصحيح وقواعده، استخلصها ليهدي بها من لا تسعفه فطرته، لكن ذلك العقل إذ يهدي إلى سواء السبيل، فهو في الوقت نفسه يهتدي بما هدى.

وما المنطق الذي نشير إليه في سياق حديثنا هذا عن الهداية والاهتداء؟ إنه في اختصار شديد تفريغ ما فكر فيه أولو السداد، تفريغه من مضموناته، لتبقى منه هياكله العظمية التي ليس فيها إلا الصور الخالية وركائزها وقوائمها، كأنها سقالات البناء بغير بناء، وعندئذ نرى في وضوح ماذا يجوز استدلاله وماذا لا يجوز؛ لأن مضمونات المعاني إذا وجدت، فهي قد تضلل الناس بسبب مشاعرهم الخاصة إزاء تلك المعاني، فمنهم من يحب هذا ومنهم من يكره ذاك، فضلا عما قد يكتنف تلك المعاني من سحاب الغموض وضبابه، ولقد شاءت المقادير لصاحبنا الذي بدأ بالمنطق التزاما منه بسلامة التفكير، ثم انتهى به أن يكون موضوع دراسته وتدريسه، يحاضر فيه ويؤلف الكتب.

ولقد رأيناه عندما اصطدم بأول قضية فكرية، وهي الفرق بين حالتين: موقف دارس الرياضة من موضوعه، وموقف قارئ الشعر وناقده، فكأنما جاءت تلك القضية في مجرى حياته بمثابة العتبة التي خطا فوقها ليصل إلى ما قد أصبح رؤية عامة لحياته الفكرية كلها؛ وذلك لأنه بعد دراسات ومقارنات بين وجهات النظر المختلفة، انتهى آخر الأمر إلى اتجاه اختاره مطمئنا بأنه اتجاه يخدم ثقافة قومه الموروثة والمجلوبة معا، فهي تصون واحدية الله - سبحانه وتعالى - وأحديته، وتقر وجود الروح ووجود المادة جوهرين مختلفين، وهي تضمن استقلالية أفراد البشر، ليكون كل فرد قائما برأسه، مسئولا عما يفعل، وأخيرا ليترك عناصر الطبيعة وظواهرها ومفرداتها وجزئياتها لتترك كل هذا في تعدده الذي هو عليه حتى يتناوله البحث العلمي بمناهجه التحليلية منتهيا إلى مجموعات القوانين التي تحكمها.

ولماذا قلنا إن التفرقة بين موقف الرياضي وهو يقيم البرهان على نظرية هندسية، تختلف عن قارئ: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، أقول: لماذا قلنا إن تلك التفرقة كانت لصاحبنا بمثابة العتبة التي أدخلته إلى حيث أصبحت له رؤية خاصة يطمئن لها؟ كان ذلك لأنها فرقت له تفرقة واضحة بين نظرتين: نظرة العالم ، ونظرة الواجد قلبه، في الحالة الأولى منطق يطرح كل عاطفة من حسابه، وفي الحالة الثانية عطف وتعاطف يطرحان منطق العقل من قائمة الحساب، في الحالة الأولى تلتقي البشرية العاقلة جميعا، الحاضرون منها والسابقون واللاحقون، على التفرقة بين ما هو صواب وما هو خطأ، وفي الحالة الثانية قد ينفرد فرد واحد دون سائر الناس بعاطفة معينة نحو شيء معين، لا يشاركه في ذلك أحد سواه، ومع ذلك فلا يحق لأحد أن يقول له: لقد أخطأت، في أحكام العقل يكون الصواب والخطأ أمرين واردين، بل إن قابلية الجملة لأن تكون صحيحة أو خاطئة هو العلامة الأولى على أنها جملة تملك جواز المرور إلى رحاب العلم، وأما في حالة الوجد، والعطف، والشعور، والانفعال، وسائر صنوف البضاعة التي يحيا بها الإنسان من داخل، فهذه كلها لا خطأ فيها، ما دام صاحبها قد كان صادقا مع نفسه، فإذا قال - صادقا - إنه مؤمن، إنه خائف، إنه عاشق، إنه كاره ... لم يعد في وسع أحد أن يكذبه.

ومنذ عرف صاحبنا كيف يفرق بين عقله، مستندا إلى منطق الفكر في استدلاله الأحكام من الشواهد والمقدمات، من جهة، ونبض القلب بالإيمان وبالحب وبنشوة الفن، من جهة أخرى، أقول: إن صاحبنا منذ عرف ذلك، بات يأخذه العجب الذي لا ينقضي، ممن يخلطون - عامدين متعمدين - بين ما هو علم، وما هو دين.

الأشياء والكلمات

شاء لي الله فطرة، وجاءت مع تلك الفطرة مصادفات الدراسة والتثقيف والتخصص العلمي، فاجتمعت هذه العوامل كلها على أن تميل بي نحو طريقة في فهم اللغة مقروءة أو مسموعة، فهما يبحث عن «المعنى» فيما يكتب وما يقال ... وكثيرا جدا ما يوقعني ذلك الإمعان في البحث عن «المعنى»، يوقعني في حرج مع الناس؛ لأن الكثرة الغالبة من هؤلاء الناس، لا ينتهجون هذا النهج في فهم المسموع والمقروء، فتتسع الفجوة بيني وبينهم كلما كان الأمر يهمني ويهمهم، ولست الآن بصدد لوم يوجه إليهم في نهجهم أو أوجهه إلى نفسي في نهجي، وإنما هو أمر واقع في حياتي الفكرية، أقرره قبل أن أمضي في الحديث، ولأضرب لذلك مثلا عابرا ورد في حديثي مع أحد معارفي، أخذ يقص علي نبأ زيارة مع طفله لحديقة الحيوان، ليذكر لي ملاحظات طريفة أبداها طفله كلما وقفا ينظران إلى حيوان في محبسه، فلما وقفا أمام النمر، سأل الطفل أباه: لماذا أحاطوا النمر بقضبان الحديد؟ فأجابه أبوه بقوله: لأنه مفترس وشرير. فأسرعت أنا بالتعليق على هذه الإجابة، قائلا: لقد أسأت هنا إلى ولدك؛ لأنك أجبت عن سؤاله بجملة ليس لها «معنى» ... فعجب الوالد لما قلته، وطلب شيئا من الإيضاح، فقلت له: الشر والخير صفتان لا يكتسبان معناهما إلا أن يكون هناك حياة خلقية محددة المعالم، فمن سلكها كان خيرا، ومن انحرف عنها كان شرا، والنمر حيوان خلقه خالقه ذا طبع مغروز في جبلته: كيف يهاجم وكيف يدافع، وماذا يأكل وما وسيلته للحصول على ما يصلح له طعاما، فهو لا يكون شريرا إذا سلك على طبعه؛ لأن الحيوان ليس ملزما بحياة خلقية معينة تشتمل على ضوابط وقيود يفرضها على نفسه ليحكم بها غرائزه: فلماذا تعلم طفلك ما ليس له معنى، وما يبث فيه الخوف والكراهية للحياة في إحدى صورها؟

سكت الرجل، لكنني كنت أدرك ما يدور في خلده، ولست ألومه، فربما كنت أنا أحق باللوم؛ لأنني قلت كلاما في غير موضعه، ولقد ذكرت هذا المثل العابر لأوضح به كيف أتعرض للحرج أحيانا، مدفوعا بفطرة فطرت عليها، وجاءت فيها عوامل لتقويها وتنميها، فلئن كان العالم اللغوي القديم الذي أخذ يتقصى كلمة «حتى» في مختلف معانيها، وبذل في ذلك البحث ما بذل من جهد حتى أوشك في فراش مرضه أن يلفظ آخر أنفاسه، فقال لمن كان يجلس إلى جواره عبارة أصبحت معروفة ومحفوظة، إذ قال: «أموت وفي نفسي شيء من حتى.» أي أنه لم يكن قد شفى من نفسه غليلها في دقة التقصي وشموله، أقول: لئن كان ذلك هو ما تمناه العالم اللغوي القديم عن قضية شغلته، فأحسب أني لو قلت شيئا عن نفسي، بالنسبة إلى قضية شغلت بها خلال الشطر الأعظم من حياتي العلمية، ولا أظنني قد وفيت من حقها في البحث عشر ما كانت تستحقه، لقلت: أموت وفي نفسي أشياء وأشياء عن العلاقة بين الأشياء والكلمات.

فأول ما أشير إليه في هذا الصدد هو ذلك البعد البعيد، والذي هو محتوم علينا ولا مفر لنا من الوقوع فيه، بين الشيء المعين الذي يحدث أن يكون مطروحا علينا لنتحدث عنه، وبين كلمات اللغة التي نستخدمها في الوفاء بهذا الغرض، فافرض - مثلا - أنك قد أطللت من شرفة دارك على نهر النيل، وألممت في لمحة بصرية سريعة بالمشهد الذي وقعت عليه عيناك، ثم أردت أن تصفه لصديق، فماذا أنت صانع إلا أن تظل تذكر له تفصيلات مما رأيته؟ فهنالك نهر منساب في مجراه، وبضع سفن وقوارب سابحة على سطحه، وجسر مزدحم بحركة المرور يصل شاطئيه أحدهما بالآخر، ومبان متفاوتة الارتفاع، متباينة الشكل قائمة على الجانبين يتخللها نخل وشجر، وقد تذكر شيئا عن أفراد الناس الذين شهدتهم هنا وهناك سائرين أو جالسين أو سابحين؛ شيء كهذا هو ما أنت قائله لصديقك عن مشهد رأيته ... ولكن أمعن نظرك بدقة في الفارق البعيد، بين ما شهدته بلمحة بصرية، وبين ما أوردته في وصفك لذلك المشهد بالكلمات، تجد أول ما تجد وأهم ما تجد، أن ما كان مشهدا «واحدا» تراه العين بلمحة، قد جاءت الكلمات لتفك أجزاءه، وتزيل عنه وحدته، وليس في وسع الإنسان شيء غير هذا، فاللغة جمل، والجملة كلمات، والكلمة حروف، وهي كلها «أجزاء» اختلقتها اللغة اختلاقا لتؤدي وظيفتها، فكان لنا بتفكيك الوحدة كسب وخسارة في آن معا، أما الكسب فهو أننا لولا هذه القدرة الفطرية فينا، وهي أن نحلل الواقع الموحد عن طريق الكلمات التي تسمى كل كلمة منها جزءا واحدا من أجزاء الكل الموحد، لما استطعنا أن نعرف حقائق الأشياء وهي فرادى، وكنا عندئذ لنقف عند رؤية الطفل الرضيع لما حوله، فلا يدرك الفواصل التي تفصل شيئا عن شيء، وتلك فائدة كبرى تأتينا عن كون اللغة بحكم كونها «كلمات» تحلل ما هو في طبيعته موحد، والتحليل عملية عقلية من أدق ما يميز الإنسان في إدراك عالمه الذي يعيش فيه.

ذلك هو الكسب الذي جاءنا عن طريق اللغة واستخدامها في نقل الخبرة الحسية من إنسان إلى إنسان، وأما الخسارة فهي أنه بات محتوما علينا ألا ننقل خبراتنا - حسية من الخارج، أو شعورا من الداخل - كما تقع لنا بالفعل، فإذا أحس أحدنا بحالة من الفرح، أو من الحزن، أو من الغضب، أو من الخوف، وإذا أكل أحدنا لونا من الطعام أحبه أو كرهه، وإذا عانى أحدنا من مرض يقسو عليه بشدة الألم، وإذا ... وإذا ... إلى أن تخص كل قطرة من بحر الحياة كما نحياها، وكل نبضة تنبض بها قلوبنا بوجدها ووجدانها، فليس في وسع اللغة أن ينقل بها الناقل إلى المتلقي ما أراد نقله من خبرته كما وقعت؛ لهذا السبب الكبير الذي ذكرناه، وهو أن كل خبرة تقع للإنسان، عن خارجه أو عن داخله، إنما هي حالة موحدة، واللغة بطبيعتها تجزئ ما هو في حقيقته حالة واحدة إلى أجزاء منفصل بعضها عن بعض، ولقد ذكر لنا المتصوفة كلاما كثيرا وعميقا وصادقا، في شكواهم بأنهم يشعرون بما يشعرون به، ثم يعجزون عن نقله إلى الآخرين، لعجز اللغة عن نقل ما هو بطبيعته خبرة موحدة، فإذا فككتها في جمل وكلمات، أفسدتها.

وفي حدود هذه المفارقة في العلاقة بين الأشياء والكلمات، مما يؤدي إلى كثير جدا من عدم التفاهم الصحيح بين متكلم وسامع، أو بين كاتب وقارئ، نستطيع أن نضع من القواعد والضوابط، ما يضمن لنا إلى حد كبير، دقة الالتقاء بعضنا مع بعض عند معان مشتركة بيننا، ولا بد لها أن تكون مشتركة، وذلك في مجال التفكير العلمي، وأول ما يهمنا ذكره في هذا السبيل، هو أن نلفت نظر القارئ بأقوى وأوضح ما يمكننا أن نلفته، إلى أن اللغة في أي وضع من أوضاعها، ليست هي الشيء، أو الحالة، أو الموقف، الذي جاءت تلك اللغة لتتحدث عنه ... هذه حقيقة غاية في البساطة، غاية في الوضوح ، غاية في الأهمية، ومع ذلك يصعب جدا على الإنسان، في استخدامه لكلمات اللغة مع الآخرين، أن يتنبه لها، ولا أظنني أغلو في القول بأي درجة من المبالغة، إذا قلت إن أهم سبب يؤدي إلى عدم التفاهم بين الناس، وبالتالي فهو الذي كثيرا ما يؤدي إلى أفدح الأخطار، ومنها الدخول في قتال حقيقي بين الأطراف المتنازعة؛ هو أنهم حين يكونون في واقع الأمر إنما يتحدثون عن «كلمات» يظنون خطأ أنهم يتحدثون عن الأشياء التي تشير إليها تلك الكلمات، والذي يساعد على حدوث هذا الخلط العجيب، هو سهوهم عن الحقيقة التي ذكرناها، وهي أن الكلمات ليست هي الأشياء المشار إليها بها.

فافرض - مثلا - أنك قد صادفت شخصين يتجادلان في «الحرية»، فيقول أحدهما: إن حق الحرية يقتضي أن يكون للفرد حق اختيار الدراسة التي يختارها لنفسه، فيرد عليه الآخر بقوله: إن الفرد لا حق له في مثل هذا الاختيار، بل هو حق للدولة باعتبارها راعية لمصالح الشعب ووسائل تحقيق تلك المصالح - فاعلم عندئذ أن موضوع الجدال بينهما هو «كلمة» الحرية، وكيف يكون تعريفها عند كل منهما، وإذا تتبعت مشكلات كثيرة في دنيا العقائد وفي دنيا السياسة، وفي دنيا النقد الأدبي والفني، وجدت الاختلاف غالبا ما يقوم على كلمة بعينها وكيف يكون تعريفها، لقد كثرت حوادث «العدوان» بين الدول، فالدولة المعتدى عليها تصرخ بالشكوى، والدولة المعتدية تجيب بأن ما فعلته ليس عدوانا، إنما هو دفاع عن النفس، مما اضطر الأمم المتحدة أن تشكل لجنة تبحث عن «تعريف» العدوان، وهكذا يترك الواقع الذي وقع، ويدور العراك حول كلمة ومعناها، وعندما غزت إسرائيل لبنان، وأسرت ألوف الفلسطينيين وعاملتهم أفظع معاملة وأقساها، فاحتجت بعض الهيئات الدولية على إسرائيل، وطالبتها بأن تعامل الأسرى في حدود ما يوجبه القانون الدولي في هذا الشأن، أجابت إسرائيل بأنهم ليسوا أسرى حرب - بل هم إرهابيون، ولم نر ثورة شعبية تطالب بالحرية من مستعمر، إلا وجدنا رءوس الثورة «أبطالا» في بلدهم - «مشاغبين» في البلد المستعمر الذي قامت الثورة لترده عما اغتصب، في كل هذه الحالات يبقى الواقع في واقعه، ويظل الكلام في كلماته.

وعند هذا المنعطف من الحديث، لا بد لي من وقفة قد تطول بنا قليلا، لكنني على يقين من أن التفرقة التي سأوضحها، بين موقفين فكريين يتصلان بما نحن بصدد الحديث فيه، وهو العلاقة بين الكلمات والأشياء، هي تفرقة مما ينبغي أن تكون واضحة للجميع؛ لأنها إذا ما وضحت، أنقذ الإنسان نفسه من مشكلات كثيرة، تندرج تحت روح التطرف والتعصب، فهنالك طريقتان في عالم الفكر، تختلفان باختلاف الموضوع الذي هو مدار ذلك الفكر، إحداهما أن تكون الفكرة المعروضة متعلقة بشيء قائم في عالم الأشياء خارج البناء اللفظي الذي نعرض به ما نعرضه، كأن تكون الفكرة المعروضة - مثلا - عن ضرورة الاستعانة بالمفاعلات الذرية مصدرا للكهرباء، وإذا كان ذلك متفقا عليه، فأين نقيمها، وأي بلد نستعين به على إقامتها ... في هذه الحالة وأمثالها يتم فض الاختلاف في الرأي، إذا نشأ اختلاف، بدراسة علمية موضوعية لا تغضب أحدا، لكن هنالك حالات كثيرة جدا في العالم الفكري، لا يكون مدار التفكير فيها شيئا من أشياء الواقع الخارجي، بل يكون في حقيقته شيئا فرضناه من عندنا فرضا، ثم بنينا على ذلك الفرض نتائجه، فها هنا تكون صحة تلك النتائج أو بطلانها متوقفا على سلامة استدلال تلك النتائج من الفرض الذي فرضناه، ولا شأن لها قط بشيء من عالم الواقع يمكن الرجوع إليه، فإذا طاب لأي شخص أن يفرض لنفسه فروضا أخرى ليستخلص منها نتائجها، كان له الحق في ذلك، دون أن يكون ثمة موضع لخلاف بين صاحب البناء الفكري الأول وصاحب البناء الفكري الثاني، ما داما لا يقيمان ما يبنيانه على فروض اتفقنا عليها معا، ويكون الموقف أشبه بمنزلين مستقلين أحدهما عن الآخر، اختار أحدهما منزلا وسكن فيه وأعجبه، واختار الثاني المنزل الآخر وسكن فيه وأعجبه.

والتطرف في الفكر وفي العقائد، ما هو؟ هو أن تختار مسكنا فكريا أو عقائديا لتقيم فيه راضيا عن نفسك، ولكنك لا تريد لغيرك أن يختار لنفسه ما يطيب له أن يسعد به من فكر وعقيدة، بل تلزمه إلزاما - بالحديد والنار أحيانا - أن ينخرط معك تحت سقف فكري واحد، فلو تعلمنا عن فهم واضح أن النتيجة التي تبنى على مبدأ اختاره من اختاره، لا تنقضها فكرة أخرى تقوم على مبدأ آخر، اختاره لنفسه شخص آخر، لرأينا أنهما لا تتناقضان لأنهما مستقلتان إحداهما عن الأخرى ... إذن التناقض يكون في البناء الفكري الواحد، حين تأتي نتيجة لا تترتب على المبدأ الذي فرضناه عند أول الطريق؛ وعلى هذا الأساس النظري نقول: إنه لا تناقض هناك بين العقائد الدينية إذا اختلفت نتيجة لاختلاف نقطة البدء، ولا تناقض بين المذاهب السياسية إذا اختار كل مذهب منها مبدأ يبدأ منه عملية تفكيره غير المبدأ أو المبادئ التي فرضها أصحاب المذاهب الأخرى، أقول: لا «تناقض»، ولكن بالطبع هناك بينها اختلاف، وليس كل اختلاف تناقضا، والفرق بين الحالتين هام، وهو أنه في حالة التناقض، لا يصح إلا أحد النقيضين دون الآخر، أما في حالة الاختلاف الذي ليس تناقضا، فليس صواب واحد منها دليلا على خطأ الآخر، ولا خطأ واحد منها دليلا على صواب الآخر؛ لأن كلا منها يستظل بمبدأ ليس هو المبدأ الذي يستظل به الآخرون - ومن هنا قد تختلف الشعوب في مواقفها وطرائق حياتها، ولا يقال إن شعبا منها على صواب، وإن صوابه دليل على خطأ الشعب الآخر، فلكل منها سقف خاص يستظل به ويحتمي، وفي هذه الحالات جميعا لا يكون البناء الفكري والثقافي المقام، مستمدا من شواهد الواقع، كالذي نراه في العلوم الطبيعية وهي تقيم قوانينها على شواهد الواقع، بل يقوم ذلك البناء على «مبادئ» نظرية اختارها الناس لأمر ما في تاريخهم.

وأنتقل الآن إلى خاصة أخرى لما بين الأشياء والكلمات من علاقة، ولعلها هي الخاصة التي أستهدفها، ومن أجلها هذا الحديث، وتلك هي أن الكلمات التي نستخدمها فيما نتبادله، متكلما مع سامع أو كاتبا لقارئ، ليس القصد منها هو أن نقف عندها، وكأنها مطلوبة لذاتها، اللهم إلا في تلك الحالات التي يراد فيها بالتركيبات اللفظية أن تحدث في آذان سامعيها نشوة كالنشوة التي تحدثها الموسيقى لبعض الشعر، ومع ذلك، فحتى في هذه الحالات يكون الهدف البعيد من تلك الأصوات المنغومة، أن تترك في نفس المتلقي حالة معينة أراد الشاعر لها أن تحدث في النفوس، ونعود إلى ما أسلفناه، من أن الأصل في الكلمات عند تبادلها بين متكلم وسامع، أو كاتب وقارئ، لينهض في اللحظة المناسبة فيحدث في دنيا الأشياء تغييرا يستجيب للرسالة التي جاءته مبثوثة في العبارة التي قالها المتكلم، فإذا قال ابن لأمه إنه جائع، لم يكن الهدف من قوله أن تسكن الكلمات في أذنها، أو أن تتغنى بوقع أنغامها في نفسها معجبة بفصاحة ولدها، بل الهدف هو أن تنهض من فورها مستجيبة للرسالة المحمولة على ظهور الكلمات فتعد طعاما لابنها الجائع، إن من يكتبون لنا الكتب والمقالات، ومن يذيعون فينا الأحاديث عن جوانب مختلفة من حياتنا: فهذا عن الاقتصاد، وذلك عن التعليم، وثالث عن نظام المرور في الطرق، ورابع عن الصحة، وهكذا - إنما يستهدفون أن تنتهي مجموعة الكلمات المقروءة أو المسموعة بسامعيها وقائليها بوجهة نظر معينة تحملهم على تغيير هذه الناحية أو تلك من حياتهم العملية تغييرا يحقق المعاني المبثوثة فيما تلقوه من كلمات، وإلا فلو قرأ القارئ ما قرأ وسمع السامع ما سمع، ثم تجاهله وكأنه ما قرأ وما سمع، كنا جميعا كأهل بابل في برجهم، اختلفت لغاتهم فلم يفهم أحد منهم عن أحد، وكان الأمر كله أخلاطا صوتية تصم الآذان وتشق الحناجر، ثم لا شيء بعد ذلك.

كلمات اللغة تأتيك ممن يوجهها إليك، لتوجب عليك أن تتجاوزها إلى ما وراءها من «معنى»، لتقوم بتنفيذ ما يراد تنفيذه، إلا إذا كنت معارضا فيكون التنفيذ هو الكف عن العمل، والكف عن العمل هو كالعمل، شيء من الإرادة.

وبعد هذا التمهيد، أنتقل إلى ما قد قصدت إليه بهذا الحديث كله، وهو الأوامر القرآنية الكثيرة التي لم يألف المسلمون أن يأخذوها على أنها «أوامر» إلهية واجبة الطاعة لتكون جزءا من عبادتهم لربهم، وقصروا فكرة العبادة على الأركان الخمسة: الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج لمن استطاعه، فلقد ألف المسلمون أن يقفوا من تلك الأوامر الإلهية موقف القارئ الحافظ المرتل المفسر، أما أن يفعلوا هذا كله ثم يتجاوزوه إلى التنفيذ فقلما رأيته في مسلم، في حين أنها أوامر يجيء تنفيذها في صميم الميادين التي من أجل تخلف الأمة الإسلامية في شئونها تخلفوا عن موكب الحضارة حتى أصبحوا أهون فريسة لمن أراد من أصحاب القوة.

وأسوق هنا مثلا واحدا، إذ ضربت أمثلة كثيرة أخرى فيما كتبته من قبل، وفي هذا الموضوع نفسه الذي نحن بصدد الحديث فيه، لقد أمرنا الله في كتابه الكريم أن سيروا في الأرض واضربوا في مناكبها، ولكن لماذا نفعل؟ أهو من أجل التنزه؟ من أجل «الفرجة»؟ من أجل الاصطياف هنا والتشتية هناك؟ لا، بل هو قبل أن يكون شيئا من هذا كله يريدنا أن نجوب كل مجهول من يابس وماء، مستطلعين كاشفين باحثين، نجوب الصحراء، ونصعد الجبال، ونشق البحر، ونطير في الهواء، نخرج من جوف الأرض حديدها ونحاسها وبترولها وذهبها وما فيها من يورانيوم ومنجنيز وفحم وماء، ونبحث في طبائع الأرض لنعلم كيف نخصب الجدب، وكيف نزرع الهواء بالماء، وكيف نحيل أجاج البحار والمحيطات ماء عذبا فنروي ونرتوي، ونغوص إلى قيعان تلك البحار والمحيطات نكشف عما أودعه الله فيها من الخيرات، أمرنا الله أن سيروا في فجاج الأرض، بحرها ووهدها برها وبحرها، لا لنقف عند ذلك في آياته الكريمة قارئين، حافظين، مرتلين، متبركين، وبعد ذلك لا جهاد ولا كفاح ولا علم ولا صناعة ولا عمارة ولا حضارة! ولو كنا في غنى عن هذه الثمرات كلها، التي تخرج للإنسان من اليابس ومن الماء ومن الهواء، لقلنا نعم ونعامى عين، ولكننا نفتقر إليها ونستجديها ممن يحصلون عليها، الذين يحققون ما أمر الله به المسلمين، وهم من غير المسلمين، فإذا كان الدعاة الأفاضل منا، ينقلون اليوم عن الدعوة بأن قراءة القرآن الكريم في ذاتها عبادة، حتى ولو لم يفهم القارئ معنى ما يقرؤه، فنحن نقول لهم: ليكن ذلك يا سادة، لكن هنالك عبادة أخرى في درجة أعلى وأكرم، وهي أن يكون قارئ القرآن على وعي بما يقرأ، وينهض فور قراءته بتنفيذ ما فيه من دنيا العلم والعمل، وبالطبع لا يطلب من كل مسلم فرد أن يضطلع منفردا بأمثال تلك الأوامر القرآنية، فليس كل مسلم مطالبا بأن يكون كل شيء، ولكنه مطالب بأي جزء من العلم ومن العمل يراه في مقدروه وفي مجاله، ومن مجموع القادرين العالمين في شتى ميادين الحياة تتكون أمة المسلمين.

كلمات اللغة، مفردة ومركبة إنما هي في تجسيداتها أشياء من الأشياء، إنها نوع من الكائنات كأي نوع آخر من كائنات الأرض أو السماء، فهي في مادتها - إذا كانت منطوقة - موجات من هواء، وهي - إذا كانت مكتوبة - أجسام مشكلة من مداد أو من رصاص، أو من طباشير، أو ما شئت من مواد الكتابة، الكلمات أشياء من الأشياء، ولكنها أسرة عجيب أمرها عجبا لا ينقضي إذا تأملتها، فمنها العلم ومنها الأدب، ومنها السحر ومنها الخرافة، ومنها الغناء المطرب، ومنها الخطابة التي تلهب، ومنها معارك، ومنها حلو السمر بين الأحباء، والكلمات نوع من الكائنات كسائر أنواع الكائنات، فهي كجماعة الطير، فيها البلابل وفيها العقبان والنسور، وهي كجماعة الحيوان فيها الغزلان وفيها الأسود والنمور، أو هي كصخور الأرض فيها التبر وفيها التراب ... لكنها نوع عجيب متفرد وحده دون سائر الأنواع؛ لأن بالكلمات صار الإنسان إنسانا، لا من حيث هي مجرد موجات من الصوت، ولا من حيث هي مجرد جسيمات من مداد أو غير المداد نثرها الكاتبون على الورق، ولكن من حيث هي حاملات للمعاني، ورامزات إلى الأشياء لتكون مهمة من يتلقاها أن يزاوج بين تلك المعاني وهذه الأشياء، فإذا هو لم يفعل، كانت وكأنها وقعت منه على أصم وأعمى وأبكم، كلماتنا قلوبنا وعقولنا، خرجت من مكامنها إلى ملأ الناس في العلانية، وكلمات الله - جلت قدرته - في قرآنه الكريم، هي منهج «للعمل» نعلو به سادة على الأرض ظافرين من رب السماء.

عصر يبحث عن حرية الإنسان

عندما هممت بالكتابة عن حرية الإنسان، وكيف يتمخض بها عصرنا مخاض البركان يريد أن يتفجر بالحمم، أخرجت ورقاتي وأنرت المصباح وأمسكت بالقلم، لكنني لبثت على هذا الوضع فترة طالت معي على صورة لم أعهدها من قبل إلا قليلا، وذلك أني لم أعرف كيف أبدأ، وظللت طوال تلك الفترة الطويلة، أحدق بنظراتي إلى زجاج النافذة، كأنما أردت أن أنفذ بتلك النظرات خلال الزجاج، ولعل ما أعاقني هو رغبتي في أن أجد مدخلا ميسرا بسيطا، يشجع القارئ على البدء بالقراءة، ولكن، لماذا قدرت للقارئ أن يأخذه نفور فينصرف به عن قراءة ما سوف أكتبه؟ ربما جاء تقديري هذا من طبيعة الموضوع أولا، ومن ميل مسبق عند طائفة كبيرة من الناس أن يسيئوا الظن بعصرنا، أما عن طبيعة الموضوع - والموضوع هو حرية الإنسان - فهو يدور حول كلمة من تلك الكلمات التي تنتفخ في الخيال حتى ليتسع جوفها لكل صنوف المعاني، ومع ذلك فقلما يخرج معظم الناس منها بشيء اللهم إلا الكلمة نفسها التي بدأ بها، لماذا؟ قد يكون ذلك راجعا إلى ما يحيط بالحرية من هيبة وجلال، مما يميل بمن يكتبون عنها، نحو اختيار عبارات تتناسب هيبة مع هيبتها، وجلالا مع جلالها، وإنه لمن المفارقات العجيبة، أن حصيلة المعنى التي يخرج بها القارئ كثيرا جدا ما تتناسب تناسبا عكسيا مع ضخامة التعبير وفخامته؛ لأنه كثيرا ما حدث في تاريخ الكتابة الأدبية، أن لجوء الكاتب إلى التضخيم والتفخيم، إنما هو قرين ملازم لقلة علمه وضحالة خبرته، وهذا بعينه هو ما يحدث في حالات كثيرة، عندما يكون الموضوع الذي يكتب فيه هو الحرية أو ما يشبهها من كلمات.

ذلك عن الموضوع وطبيعته، وأما عن عصرنا وكراهية الناس لذكره، فربما جاءت تلك الكراهية من أن بلادنا جزء من العالم الواسع الذي وقع ضحية أو فريسة، فعصرنا يتميز بين ما يتميز به، بانفراج الزاوية انفراجا رهيبا بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير وبين طلائع العلم الجديد ومن هم لا يزالون في دنيا هذا العلم الجديد لكن يغمرهم الظل بظلامه، على أن المأساة في هذا كله تزداد أسى بكون الزاوية التي انفرجت بين الفريقين تزداد مع الأيام انفراجا، فلا غرابة إذن - أن تثار الكراهية في الصدور، عند كثرة كثيرة من مواطنينا - إذا أراد كاتب أن يذكر لهذا العصر الباغي فضيلة أو فضائل، لا سيما إذا زعم لهم ذلك الكاتب فضيلة للعصر في جانب من الحياة، هم لم يروا فيه إلا نقيض ما زعم، وهذا الكاتب يهم بكتابة يعتزم أن يقول بها للناس إن عصرنا ما ينفك باحثا لهم عن مسالك تؤدي بهم إلى حياة تسودها حرية الإنسان، وهو ما لم يروا منه - في ظنهم - إلا مرارة نقيضه.

أقول: إنه ربما كان ذلك الشعور هو الذي حدا بي إلى التأني في اختيار ما أبدأ به الحديث حتى ارتأيت آخر الأمر، أن أبدأ باللفظة نفسها لفظة الحرية لأصب عليها نور المصباح، فأبرز منها أمام الأبصار جانبا، هو فيما أعتقد - محجوب عن رؤية الناس، مع أنه فيما أعتقد كذلك لو أضيء ووضحت معالمه، انفتح الطريق أمام رؤية أنصع، وفهم أدق، وذلك الجانب الذي أعنيه هو أن اسم الحرية - شأنه في ذلك شأن طائفة كبيرة من الأسماء - إنما هو اسم لا يطلق على شيء محدد متعين، بل هو في الحقيقة اسم يشير إلى محصلة مفردات كثيرة، كل مفرد منها مأخوذ على حدة ليس حرية، على نحو ما نعنيه بكلمة مباراة في كرة القدم مثلا، فليس هناك شيء معين يكون هو المباراة، فكل لاعب من اللاعبين وهو على حدة ليس مباراة، إذ المباراة هي محصلة جزئيات من أفراد ونشاطهم الحركي توشك أن تستعصي على حصر عددها، إذا أردت حصرها.

ومن هذه البداية أبدأ حديثي، فإذا كانت جزئيات النشاط الحركي في مباراة الكرة تستعصي على الحصر لكثرتها، فإنه يمكن - برغم هذا - معرفة الاتجاه الذي يتجه به السير في مجراها، فكل فريق من الفريقين، في كل ضربة من ضربات أفراده للكرة، يستهدف الهدف المقصود، ومن محصلة تلك الضربات التي تعد بالألوف تأتي النتيجة للفريق نصرا أو هزيمة ... وهكذا الحال في معنى الحرية، فالحياة الحرة للإنسان الحر أو للشعب الحر ليست جزئية واحدة بعينها تشير إليها بإصبعك قائلا: هذه حرية، بل هي تعرف باتجاه جزئياتها نحو هدف معلوم، هنالك تاجر يبيع وزبون يشتري، هنالك مهندس يشرف على إقامة البناء وساكن يسكن، هنالك معلم يعلم وطالب يتعلم، هنالك طبيب يعالج ومريض يتلقى العلاج، هنالك وهنالك، إلى أن تبلغ بعدد الجزئيات إلى ملايينها، لكن هذه الكثرة الهائلة تتجه بتيارها اتجاها يجعلها حياة شعب حر، أو اتجاها آخر يجعلها حياة شعب مقيد، فبأي الخصائص - يا ترى - يتميز كل من الاتجاهين؟

إنك إذا نفذت ببصرك - عن طريق التحليل العلمي - خلال تلك التفصيلات الكثيرة التي يعيشها الناس في حياتهم اليومية العملية، رأيت إرادة رابضة وراءها تحركها في اتجاه يحقق لها آخر الشوط هدفا ما، فإذا كانت تلك الإرادة هي إرادتي وإرادتك، وإرادة الكثرة الغالبة من المواطنين، بقي علينا أن نسأل عن الهدف الذي في سبيله نتحرك، فإذا وجدناه هدفا يحقق لنا في نهاية المطاف أن نكون أكثر علما، وأيقظ وعيا بالعالم الذي نعيش فيه، كانت حياتنا حرة بمقدار ما استطعنا أن نحقق من الهدف المنشود، وأما إذا وجدنا الإرادة الرابضة خلف نشاطنا الحركي في شتى مجالاته مفروضة علينا من سوانا وليست منبثقة من عزائمنا الباطنية، كنا غير أحرار، حتى لو كانت الأهداف التي نحققها بذلك النشاط مما يمكن أن يكون أهدافا لنا، وكأني أسمع طالبا من طلابي يصيح قائلا: ماذا تكون هذه الإرادة الرابضة التي تتحدث عنها يا أستاذنا، وقد كنت تحاسبنا حسابا عسيرا على دقة الكلمات ما دمنا بصدد التعبير عن حقيقة عقلية؟ فأجيب السائل: بأن الإرادة الشعبية التي هي متوسط ما يحسه الأفراد في بواطن نفوسهم من رغبات حقيقية مقرونة بنوايا التنفيذ إذا واتتهم الظروف، أقول: إن مثل هذه الإرادة الشعبية يغلب أن نركن في إدراكها إلى مجرد الشعور بالتعاطف بين أفراد الشعب الواحد، دون أن تكون هنالك الوسيلة العلمية الدقيقة لرصدها وضبط مقدارها، فأحيانا يحس أفراد الشعب بروح المقاومة - مثلا - أو بروح التأييد، برغم كونها مكتومة في الصدور، بسبب أحكام عرفية، أو بسبب مراقبة خارجية تمنع التعبير الحر عما يدور في أخلاد الناس.

نعود إلى ذكر ما أسلفناه من أن الحرية اسم لا نطلقه على شيء واحد معين، كما نطلق مثلا اسم النيل على النهر الذي يجري في أرضنا، أو نطلق اسم المقطم على الجبل المشرف على مدينة القاهرة، بل الحرية اسم يطلق على محصلة عدد يتعذر حصره من جزئيات سلوكية يؤديها الفرد أو الأفراد المرتبطة بما يشعرون به من وجود العزيمة الداخلية التي تريد لنفسها ذلك السلوك، وما دام الأمر كذلك فالحرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأهداف وبالوسائل الموصلة لتلك الأهداف، وذلك يعني أن تكون حرية الفرد الحر، أو الشعب الحر مرتبطة أشد ارتباط بمدى علم ذلك الفرد أو ذلك الشعب بطبائع الأشياء التي لا بد له أن يلجأ إلى استخدامها، وسائل كانت أم أهدافا، فالجاهل بحقيقة شيء معين محال عليه أن يتخذه هدفا، أو أن يتخذه وسيلة لهدف؛ لأن الجهل بشيء معناه غياب ذلك الشيء عن دائرة الوعي.

فلئن كان التحرر من قيد ما أمرا ممكنا لأي إنسان قادر على تحطيم ذلك القيد، فليس الأمر كذلك بالنسبة للحرية التي تأتي مرحلة ثانية بعد التحرر من القيود؛ لأن هذا التحرر معناه إزالة العقبات التي تحول دون العمل والبناء، وأما الحرية التي تأتي بعد ذلك فهي الجانب الإيجابي في إقامة البناء أو في إنجاز العمل، ولا نتصور كيف يمكن لبناء أن يقام أو لعمل أن ينجز دون أن يكون هنالك علم بما نبنيه أو بما نؤديه، وهذا العلم - بالطبع - درجات بين الناس، وبالتالي كانت قدرات الناس متفاوتة في دقة العمل وكفاءته، ومع هذه الدقة والكفاءة تكون الحرية بمعناها الإيجابي المبدع.

علم الإنسان بطبائع الأشياء هو نفسه قدرة الإنسان على التمكن من تصريف تلك الأشياء على النحو الذي يريده لنفسه منها، ضع كتابا بين يدي قارئ ثم ضعه بين يدي أمي لا يقرأ، تجد فرقا بين الإنسان الذي يعلم والإنسان الذي لا يعلم، الأول حر في استخدام المادة التي بين يديه، وقادر بالتالي على التصرف اهتداء بها، فيغير من حياته وحياة الناس ما يريد أن يغير، وأما الثاني فلا فرق بين أن يكون ما بين يديه كتاب أو قطعة من الحجر، وليس في وسعه أن يشكل حياته بناء على شيء مما ورد فيه، اللهم إلا أن يسند بجسم الكتاب قطعة عرجاء من أثاث بيته، وأعط سيارة لمن يعرف كيف يحركها ويقودها ويصلحها إذا عطبت، ثم أعطها لمن لا معرفة عنده بشيء من ذلك، تجدك قد أمددت الأول بمصدر للقوة وسرعة الحركة، وأما الثاني فقد أمددته بكتلة صماء من الحديد، فالعلم بأي درجة من درجاته قوة وسيطرة على الشيء المعلوم، والجهل بطبائع الأشياء التي حولنا وبين أيدينا عجز عن تحريكها واستغلالها، ومن هنا كانت الصلة الوثيقة بين العلم والحرية، وبين الجهل والقيود، عندما نقول عن العلم إنه نور، فلسنا نقول ذلك على سبيل المجاز، بل نقوله على سبيل الحقيقة الواقعة، ففي تعامل الإنسان مع شيء يعرفه حق المعرفة فكأنما هو بتلك المعرفة قد أزاح عنه الظلام، فهو يفكه جزءا جزءا ثم يعيد تركيبه إذا شاء، إنه يألفه ولا يخشاه ولا يتهيبه، وأما من جهل شيئا مما حوله فهو أولا يقف حياله مكتوف اليدين لا يدري ماذا يصنع به، ثم هو ثانيا يخافه ويخشى سوء عواقبه، ومن هذه النقطة بالذات نشأت في تاريخ الإنسان خرافات وخرافات، حتى لقد دفعه وهم خرافاته إلى عبادة ما جهل طبيعته وحقيقته، فلقد عبد الفارسي القديم النار، وهذا مثل من ألف مثل، لأنه رأى ألسنة من اللهب تنبعث من أرضه ولا يعرف عنها أصلا ولا فصلا، فخشى عاقبتها وأراد اتقاء بطشها، فعبدها، وأرجح الظن أن تلك النار إنما كانت ناشئة عن البترول المخزون تحت أرض فارس (إيران)، ولم يكن بالطبع يعرف عن ذلك الأصل البترولي شيئا، أما وقد جاء إليه في عصره الحديث من يعلمه عن حقيقة أرضه ثم يخرج له ما في جوفها، فقد انتقل من عبادة نارها المشتعلة المجهولة إلى استخدامها وبيعها وكسب القوة منها، ولم يكن قد بقي له إلا أن يجد من يعلمه الحكمة أيضا ليحسن الانتفاع بما كسب.

الحرية قوة وقدرة وإنجاز، وليست هي مقصورة على مجرد فك القيود، فالإنسان حر بمقدار ما قد أصبح في قدرته أن يصنعه، وبالطبع لم تشهد الدنيا يوما واحدا خلا من الإنسان الحر القادر بتجربته أن ينجز ما استطاع إنجازه إذا أراد ذلك، إلا أن الحرية القادرة هذه لم تكن دائما من حق الإنسان، كل إنسان، بل بدأت أول أمرها مجمعة في قبضة رجل واحد، هو الذي يحكم سائر الأفراد من أبناء جماعته، ثم يأذن لمن أراده من هؤلاء الأفراد بقدر من الحرية يحدده له كما شاء، ثم اتسعت الدائرة مع مر الزمن، فأصبح الأحرار فئة بعينها من الشعب دون سواها، فانقسم المجتمع بذلك - كل المجتمعات القديمة - إلى أحرار وعبيد، ثم اتسعت الدائرة مرة أخرى مع الزمن، حتى أصبحت الحرية من الوجهة النظرية حقا للأفراد جميعا كائنة ما كانت مكانتهم من المجتمع أو أنسابهم أو أجناسهم أو ألوانهم أو أنواع العمل الذي يؤدونه ... ونقول: إن هذا قد أصبح حقا شاملا لا يستثنى منه فرد من الناس، لكن ذلك من الوجهة النظرية وحدها، وأما من الوجهة العملية فليس في وسع قوى الأرض جميعا أن تجعل فردا من الناس حرا بالنسبة إلى عالم يجهل ما فيه، ونعود فنذكر القارئ بما أسلفناه، وهو أن حرية الإنسان إنما تكون في شيء يعرفه وبمقدار ما يعرف عنه، وإلا فماذا ينفع إذا ما تركوني وحدي في مكان القيادة من طائرة وهي تسبح في الفضاء الأعلى، أقول: ماذا ينفع عندئذ أن أصيح بملء فمي قائلا إنني إنسان حر؟! إذ أين تكون حريتي وأنا أمام أجهزة أجهل عنها كل شيء، وأظل أجهلها إلى أن تصطدم بي الطائرة فيما لا بد أن يكون قضاءنا المحتوم؟! ... الإنسان الحر يعرف ما هو حر فيه، ولا حرية لجاهل.

ولست في الحق أدري هل كان هذا المعنى الذي يربط الحرية بالعلم جزءا مما قصد إليه الشيخ محمد عبده، حين أعلن خطته في النهضة الوطنية بأن يكون تعلم الشعب هو الخطوة الأولى في جهاده لينال حريته، ومن ثم فقد عمل على إنشاء مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية لينقل فكرته من مجال الفكر النظري إلى مجال التطبيق، وإنني لأسأل هذا السؤال؛ لأنني حين ربطت بين الحرية والعلم، لم أقصد أن يكون ذلك العلم أي معرفة نلقنها للمتعلم كما اتفق، إذ لا تتم الرابطة بين الحرية والعلم إلا إذا جاء ذلك العلم متصلا بالميدان الذي يريد المتعلم أن يكون حرا فيه، ومن مجموعة الأحرار بهذا المعنى تتكون حرية الشعب، وإذن يكون الشعب حرا بمقدار ما لأبنائه قدرات عملية على التعامل مع مجالاتهم، كل منهم في المجال الذي تعلم أن يكون حرا فيه وبمقدار ما تعلم، وهل يصبح لكلمة الحرية أي معنى إذا قيل لشعب إنك أيها الشعب حر، في حين يكون أفراد ذلك الشعب على درجة من العجز إزاء أرضهم وبحرهم وسمائهم، بحيث لا يملكون صنع شيء لأنفسهم، حتى يجيء دخيل خارجي فينتج لهم ما عجزوا عن إنتاجه؟ أليست الحرية الحقيقية عندئذ هي حرية ذلك الدخيل؟ وأما الشعب الذي قيل له إنك حر، إذا أعمته الجهالة فعجز، فلن تكون حريته تلك إلا كلمة يضيع الصوت الذي يهتف بها مع عصف الريح.

وما أكثر الصفات التي نصف بها هذا العصر الذي نعيش فيه، ولنتفق مؤقتا على أن المقصود بكلمة عصرنا الفترة التي بدأت بنهاية الحرب العالمية الأولى (1918) وامتدت إلى يومنا الراهن - أقول: إنه ما أكثر الصفات التي نراها مميزة لعصرنا هذا، لكن الذي يهمنا منها الآن فيما له علاقة مباشرة بحديثنا هذا صفتان، إحداهما تحرر الشعوب التي كانت محكومة بغيرها، والأخرى هي الكم الهائل من المعرفة التي استطاع الإنسان بأجهزته الحديثة أن يجمعها عن هذا العالم وكائناته، إنه ربما استطاع بأجهزته تلك أن يجتمع في العام الواحد، ما لم تكن تستطيع جمعه آلاف السنين التي هي تاريخ الإنسان على هذه الأرض، إننا أبناء هذا العصر قد ألفنا بعض الحقائق عن دنيانا وما فيها حتى لنظن أنها لأهميتها الشديدة في حياتنا معلومة للإنسان منذ أقدم عصوره؛ ولذلك ندهش حين نعلم أن الإنسان حديث عهد بها، إلى حد قد لا نتصوره، وإن كاتب هذه السطور ليقرر عن نفسه أنه كاد لا يصدق حين عرف لأول مرة أن حقيقة كون الجسم الحي مكونا من خلايا لم تعرف للعلم إلا في آخر القرن الماضي! ولقد كان من الأمثلة الشائعة في كتب الفلاسفة المعاصرين (وتنبه إلى كلمة معاصرين هنا) كلما أراد هؤلاء الفلاسفة أن يضربوا أمثلة توضح ما يسمونه بالاستحالة التجريبية؛ أي الحقيقة التي هي ممكنة من الوجهة النظرية الصرف ولكنها مستحيلة الوقوع من الناحية العملية، أقول: إن من أشيع الأمثلة التي كانوا يسوقونها في كتبهم لتوضيح الاستحالة التجريبية أن يرى الإنسان الوجه الآخر من القمر، فمن المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون النصف الآخر، ولبث ذلك المثل يساق إلى منتصف هذا القرن العشرين، إذ من ذا الذي كان يتصور أنه سيحدث في تقدم العلم أن يدور الإنسان حول القمر؛ فيرى وجهه الخلفي الذي لا يواجه الأرض قط؟ لكن ما كان مستحيلا بالأمس بات في حدود الإمكان.

مرة أخرى أذكر الصفتين اللتين اخترتهما من صفات عصرنا، وهما تحرير الشعوب التي كانت من قبل محكومة بغيرها، والكم الهائل من المعرفة بحقائق الحرية، وكما أسلفنا القول، فإن التحرر من القيود وحده لا يعني الحرية، كالذي تفك عنه أغلاله، فيتحرر منها لكنه لا يصبح حرا بعد ذلك إلا بما يجيد العلم به، فيمهر في إنجاز ما يصنعه في المجال الذي أجاد معرفته، وهنا نجد السؤال يطرح نفسه: كم من الشعوب التي تحررت قد اكتسبت من خضم المعلومات العلمية وغير العلمية التي قدمها عصرنا ما يكسبها قوة وقدرة على الصنع والبناء لتصبح حرة بعد أن تحررت؟ كان الغرب بصفة أساسية هو الذي استعمر الشعوب التي قلنا عنها إنها تحررت من قبضته خلال القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة أي بعد سنة 1945، وكان ذلك الغرب هو نفسه الذي استطاع بعلمه وبأجهزته الجبارة أن يجمع ذلك الخضم من المعرفة بهذا الكون وكائناته، وهي معرفة تعرض نفسها علانية لمن يأخذ، فكم من الشعوب المتحررة قد أخذ، وكم أخذ؟ جواب ذلك يأتي في صورة أوضح إذا قلبنا السؤال فجعلناه إلى أي حد تجد تلك الشعوب المتحررة نفسها مضطرة إلى الاستعانة بالغرب في صنع ما تصنعه؟ فإذا جاءنا الجواب بأن الجزء الأعظم من حاجات الشعوب المتحررة لا يستغني عن صناعات الغرب أو عن مساعدات الغرب بأي وجه من الوجوه، مع أن ما يصنعه الغرب وما يساعد به مأخوذ كله من علمه ومن معرفته التي جمعها عن طبائع الأشياء من حوله، وهو علم وهي معرفة معروضان علانية لمن يأخذ، أقول: إنه إذا كان هذا هو الجواب عن سؤالنا، كانت النتيجة التي تفرض نفسها، هي أن الشعوب التي تحررت لم تستطع بعد أن تصبح حرة، ولقد كان التحرر نتيجة صراع مع المستعمر الأجنبي، وأما الحرية فلن تكتسب إلا نتيجة صراع تلك الشعوب مع نفسها.

إلا أن عصرنا هو العصر الذي عرف الحرية بمعناها الإيجابي المنشئ المبدع الخلاق، وهو العصر الذي جمع لتلك الحرية وسائلها من علم ومعرفة يسيطر بها على عالم الأشياء، وهو العصر الذي عرض تلك الوسائل أمام الناس جميعا، فمن أراد الحرية فليأخذ وسائلها لينعم في رحابها، وأما من وجد في مجرد التحرر من القيد شبعا وريا، تاركا للأحرار أن يعمروا له دنياه، فليرض بنصيبه العادل - وما نصيبه إلا أن يقف مواقف الأتباع الأذلاء حتى بعد أن يتحرر من قبضة سيده.

اختلاف الرأي والرؤية

إنني الآن في سبيلي إلى أن أعرض بين يديك تفرقة بين شيئين، لهما من الدقة الدقيقة ما تفلت به من أعين الناس، أو الكثرة الغالبة منهم، وسوف ترى في سياق هذا الحديث، كيف أن هؤلاء الناس لو أنهم تبينوها - حق بيانها - لألقوا عن ظهورهم أحمالا ثقيلة من التزمت والتعصب والتطرف، إلى آخر هذه الأسرة غير الكريمة، فأراحوا واستراحوا وهدأت لبحر الحياة مياهه.

وأما الشيئان اللذان أريد أن أفرق بينهما تلك التفرقة الدقيقة التي أشرت إليها، فهما: الموضوع الذي يثور حوله اختلاف الرأي - من جهة - والآراء أو المذاهب المختلفة نفسها، التي تتعلق بذلك الموضوع - من جهة أخرى - وإني لأسرع هنا فأذكر الحقيقة التي أسعى الآن إلى طرحها بين يديك، قبل أن أقدم على تحليلها وتفصيلها، لعل ذلك يعين على متابعة الحديث باهتمام أكبر، وبدقة أكثر، وتلك الحقيقة هي أننا واجدون في معظم الحالات، أن الآراء أو المذاهب، التي حسبناها متعارضة متضاربة، إنما هي آراء متكاملة؛ بمعنى أن كل رأي أو مذهب منها يتناول - في حقيقة أمره - جانبا من الموضوع المطروح، غير الجوانب التي تتناولها الآراء أو المذاهب الأخرى، وأنه من مجموع الآراء أو المذاهب، يتألف موضوعنا ذاك من شتى نواحيه، وأن الخير كل الخير للمتلقي أن يجمع في نفسه جميع تلك الآراء أو المذاهب، ليصبح أكمل إلماما بالموضوع الذي هو مدار البحث والنظر والاعتقاد.

وأبدأ الآن في تفصيل ما أجملته، مستعينا بأمثلة منوعة، أسوقها من ميادين مختلفة، وأبدأ بميدان الفكر الفلسفي في مذاهبه المتنازعة، فأقول - في إيجاز شديد - إن لذلك الفكر الفلسفي عند أصحابه، اتجاهين أساسيين، ثم يكون بعد ذلك لكل اتجاه منهما فروعه، أحدهما هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «المثالي»، والآخر هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «التجريبي»، والأصل في هذا الانقسام، مقابلة تقام بين «الأفكار» في ناحية، و«الأشياء» في ناحية أخرى، فأيهما يا ترى يكون هو الأصل الذي يشتق منه الآخر؟ أو يكون هو المرجع الذي يقاس إليه الآخر في مدى حظه من الصواب والخطأ؟ إنك لو طرحت هذا السؤال على متدين واع بعقيدته الدينية، لجاءك منه الجواب مسرعا، وهو: إن الفكرة تسبق تجسيدها في مخلوق متعين بخصائصه وصفاته، وكذلك إذا سألت من فيه طبيعة الفنان أو طبيعة الشاعر، أجابك بأن المعول عنده إنما هو ما يدور في نفسه، مهما يكن ذلك موصولا أو غير موصول أول الأمر بدنيا الأشياء، وإذا سألت فيلسوفا «مثاليا»، لكان جوابه أيضا هو أن صلته بالوجود في مجموعه، أو في أي كائن من كائناته، إنما هي ما «يعرفه» عنه، والذي يعرفه هو «أفكار» أو تصورات، أو غير ذلك مما هو في داخله ... كل هؤلاء - إذن - يرون للفكرة أسبقية على الشيء المجسد لها، لكن تحول بسؤالك إلى العلماء في أي ميدان من ميادين العلم: ميدان الفيزياء، أو الكيمياء، أو الأحياء، أو ما شئت، تجد جوابا آخر، فمن «الظواهر» المبحوثة، أي من «الأشياء» تستقي قوانين العلوم ومن ثم يجيء الانقسام في وجهة النظر، وهو انقسام قد يتسع ليجاوز الأفراد إلى الشعوب، بحيث نقول عن شعب ما، إنه في مجموعه يجعل الأولوية لما يدور في نفسه، أو في رأسه، أو في قلبه، على الأشياء المجسدة التي تدركها الحواس، ونقول عن شعب آخر، إنه يجعل الأولوية «للشيء» في الواقع المحسوس، وعلى أساسه تقام الفكرة أو السلوك، وقد يكون هذا الاختلاف العميق بين شعب وشعب، هو الذي يقام عليه الحكم بعد ذلك، بأن هنالك شعوبا «روحانية» وأخرى «مادية».

ونحن نسأل بعد هذا العرض قائلين: أيكون ما بين الفريقين، من قبيل «التضاد»؟ أم يكون من قبيل «التكامل»؟ والرأي الذي نراه في ذلك هو أن «الفكرة» و«الشيء» الذي يجسدها كطرفي العصا، أئذا قلنا عن رجل إنه يعني برأس عصاه أكثر مما يعني بأسفلها، كان معنى ذلك أنه استطاع أن يجتزئ الرأس من العصا، مستغنيا عن قاعدتها المرتكزة على الأرض؟ إنه حتى إذا صح أن شعوبا تعنى بالباطن بدرجة أكبر من عنايتها بالظاهر، وأن شعوبا أخرى تعكس هذا الترتيب - وهو صحيح بلا شك - فالذي يحدث بالفعل في تلك الحالة، هو أنهما يتبادلان النواتج، فالأولى تمد الثانية بشيء من روحانياتها، والثانية تمد الأولى بشيء من مادياتها، وإذا شئت فراجع حياة الناس في واقعها، فالغرب - عموما - الذي نشيع عنه أنه «مادي»، قد أخذ دياناته من منابعها في الشرق، والشرق الذي نقول عنه إنه «روحاني» يعيش كل فرد فيه، وفي كل لحظة من حياته، مستعينا بماديات ذلك الغرب.

وننتقل إلى مثال آخر، نأخذه هذه المرة من مدارس علم النفس - لنرى مرة أخرى، إذا كان بين تلك المدارس تضاد - كما قد يظن - أم أن الذي بينها تكامل، بحيث يجوز لنا القول، بأنه من الممكن للعالم الواحد من علماء النفس، أن يجمع كل تلك المدارس في مجال تطبيق واحد، فالموضوع الرئيس الذي يتناوله علماء النفس بالبحث العلمي، هو الصور السلوكية التي يتحرك بها الناس في حياتهم، وأرجو القارئ أن يتنبه جيدا، بأن تلك الصور السلوكية إنما هي ظاهرة تراها أعين المشاهدين الراصدين، كأي ظاهرة أخرى في دنيا الأشياء، يشاهدها مراقبوها وراصدوها، لكن علم النفس - كأي علم طبيعي آخر - لا يقف أمام موضوع بحثه كما يقف منه عابر السبيل، بل هو يحلله ليرتد به إلى ينابيعه، فمن أين جاء، وكيف جاء؟ وهنا نرى علماء النفس يختلفون، وهم في اختلافهم ينقسمون قسمين كبيرين، كل قسم منهما يتفرع بعد ذلك إلى فروعه، فقسم منهما يقف عند ظاهرة السلوك نفسها، لا يجاوزها، فمنها نجد النتيجة ومنها أيضا نجد القوانين العلمية التي تحكم تلك النتيجة، أي أن هذا الفريق من علماء النفس، يغضون النظر عما يجري في جوف الإنسان صاحب الصورة السلوكية المبحوثة، ويسمى هذا الفريق بجماعة «السلوكيين»، لكن هنالك أكثر من جماعة واحدة، ترى أن منبع السلوك الظاهر للعين، إنما هو في باطن صاحبه، وإذن فلا بد من تعقبه إلى مصادره هناك، وتلك الجماعات من علماء النفس، تعلم كلها بالطبع ما يعلمه بقية العلماء في سائر الميادين، وهو أن العلم يلتزم «الظاهر»، ولا شأن له بما يخفى عن حواس المشاهدة وأدواتها، إلا أن ذلك الذي يخفى عن العين والأذن، قد نستطيع استدلاله مما هو ظاهر، وعندئذ يصبح عملا مشروعا أمام المنهج العلمي، ومن هنا تأخذ تلك الجماعات في محاولاتها لاستدلال ما استبطنته النفس في غيبها، لتحرك به أطراف البدن الظاهرة بسلوكها، وعلم النفس بهذه المحاولات، يسمونه بعلم نفس الأعماق، ليقابلوا به موقف السلوكيين في عدم مجاوزتهم للأسطح الظاهرة.

وسؤالنا - مرة أخرى - وهو هذا: أحقا ذلكما اتجاهان متضادان بحيث يستحيل عليهما معا أن يجتمعا عند عالم تطبيقي واحد؟ أم أنهما وجهان يمكن لهما أن يتكاملا؟ فماذا يمنع أن نستخدم طريقة السلوكيين في تحليل السلوك إلى وحداته الصغرى، لكي نعيد بناء تلك الوحدات في أي صورة سلوكية أردنا؟ وأن نلجأ في الوقت نفسه إلى مناهج علماء «الأعماق» كلما وجدنا موقفا يقتضي ذلك، كما يحدث - مثلا - في معالجة مرضى النفس بطريقة التحليل؟ فللعلماء أن يوجهوا اختصاصهم نحو هذا الجانب أو ذاك، لكن الإنسان الذي هو موضوع البحث مشتمل على هذا وذاك معا.

وننتقل إلى مثل ثالث، نأخذه من مدارس النقد الأدبي، وأظن أن كثيرين ممن لهم اهتمام بالحركة الأدبية، يعلمون كم دار في حياتنا الأدبية من معارك نقدية، وربما يكون صليلها قد جلب الشهرة للمتبارزين، لكنها إذا ما فحصت جيدا، وجدناها معارك في غير معترك، فقد تدور المعركة - مثلا - بين ناقد يرى أن جودة المنتج الأدبي مرهونة بمقدار قدرته على الكشف عن حقيقة الأديب الذي أنتجه، فيرد عليه ناقد ثان، ليقول: إن مقياس الجودة لا يعول على استخلاص الصورة النفسية للأديب، بل يعول على صورة المجتمع كله وما يمكن أن ينتفع به من ذلك المنتج الأدبي، وقد يدخل ناقد ثالث فيقول: لا أنت على حق، ولا هو على حق؛ لأن الأدب تقاس جودته بكيفية بنائه، بغض النظر عما هو كامن في ثناياه من تصوير لمنتجه أو تصوير لمجتمعه ... فلو سئل كاتب هذه السطور: أي هذه المذاهب النقدية تختار؟ لما تردد في الإجابة بأني بحاجة إليها جميعا، فكلما ازدادت الجوانب التي أنظر منها إلى المنتج الأدبي، ازددت لها فهما وتقديرا.

وننتقل إلى مثل رابع، نأخذه من فلسفة الأخلاق، فهنالك ضروب من الفعل يكاد يجمع البشر جميعا على قبولها، وضروب أخرى يكاد الإجماع ينعقد على رفضها، وفلسفة الأخلاق من شأنها أن تبحث عن الفيصل الذي يميز هذا الضرب من ذاك، وقد حدث أن تفرق أصحاب الفكر الفلسفي في هذا الموضوع، فمنهم من انتهى به التحليل إلى القول بأن ذلك الفيصل هو مقدار المنفعة التي تعود على الإنسانية - في آخر المطاف - من الفعل المعين، فالأكثر نفعا أكثر فضلا، والضار مرفوض، ومنهم من لا يرى هذا الرأي، إذ يهديه تحليله إلى نتيجة أخرى، كأن يقول - مثلا - بل الفعل المقبول مرفوض علينا بحكم طبيعته ذاتها، سواء أجاءنا منه النفع أم جاءنا خسار، وهكذا تتعدد الاتجاهات، فيظن المتسرع أن هذا الاختلاف وراءه اختلاف آخر في صور الأفعال ذاتها، في حين أن البشرية كلها، تكاد تجمع - وعلى امتداد تاريخها - على الفعل الذي يكون فضيلة والفعل الذي يكون رذيلة، وينحصر موضع الاختلاف في عملية التحليل على المستوى النظري فقط، ومن طريف ما أذكره في هذا السياق أنني - بحكم وقفتي الفلسفية التي أقفها - أرى أن الألفاظ الدالة على فضائل أو على رذائل لا تصلح أن تساق في جملة علمية، ومجالها مجال آخر غير مجال العلوم، فنشر عني كاتب ذات يوم، أنني بمثل هذه الوقفة المنهجية أعد داعيا للخروج على الحياة الخلقية! فالذي أعوز ذلك الكاتب، هو التفرقة بين «موضوع» من جهة، وتحليله من جهة أخرى، وأكرر القول: إن الإنسانية كلها، بجميع شعوبها، وفي جميع عصورها، لا تكاد تختلف على ما هو فضيلة وما هو رذيلة، برغم اختلافها في عادات المعيشة اليومية، لكن ذلك الإجماع لا ينفي أن يتصدى مفكرون للبحث عن ينابيع القيم الأخلاقية أين وكيف، وفي عملية البحث تختلف السبل بالباحثين.

وننتقل إلى مثل خامس، نأخذه من السياسة، أو على الأصح من فلسفة السياسة، ولعلك تعلم أن الفرق بين موضوع معين وفلسفته، كاللغة وفلسفتها، والتاريخ وفلسفته، والفن وفلسفته، وهكذا، هو أنه بينما قوام الموضوع حين يساق في مستوى «العلم»، هو مجموعة قوانينه وقواعده، وأما حين ننتقل إلى «فلسفته»، فذلك يكون بالبحث وراء تلك القوانين والقواعد عن مبدأ عام يوحدها، ويكون هو المنبع الخفي الذي تنبثق منه تلك القوانين والقواعد، وهكذا الفرق بين «السياسة» حين تساق علما مع سائر - العلوم، ثم حين يرجع بقوانينها وقواعدها وطرق ممارستها، إلى مبدأ مضمر، وذلك المبدأ المضمر في مجال السياسة، هو - أساسا - تحديد العلاقة بين المجتمع المعين وأفراده ، تحديدا نستند فيه إلى ما نفترضه بقوة الفكر الخالص، أو بنفاذ البصيرة، ما نفترضه عن حالة الناس في أول نشأة المجتمع، كيف كانت قبل أن يتعاقد الناس على المشاركة في مجتمع موحد، ثم على أي أساس كان ذلك التعاقد، أو - ربما - اللاتعاقد؛ لأن هنالك من فلاسفة السياسة من يرد البناء الاجتماعي إلى إرادة زعيم قوي فرض سلطاته على الأفراد؛ لينخرطوا في نظام معين يضعه لهم، ويفرضه عليهم.

ومن فلسفة السياسة هذه، أستمد المثل الخامس من الأمثلة التي أريد بها البيان بأن معظم الحالات التي نظن أن الآراء فيها متضاربة متعارضة، وتكون حقيقة الأمر فيها هي أن الاختلاف هو نحو التكامل أقرب منه إلى التعارض والتضاد، ففي فلسفة السياسة خرج أصحابها بتيارين مختلفين في وصف العلاقة بين المجتمع وأفراده، فأما أولهما: فيجعل الحرية للأفراد، بحيث تكون الوظيفة الرئيسة للمجتمع ممثلا في «الدولة»، هي التنسيق بين تلك الحريات الفردية في مختلف أوجه نشاطها، ليحصل كل فرد على أقصى حد ممكن من الحرية، بعد أن يحسب حساب حريات الأفراد الآخرين، وبهذا تكون الدولة قد أقيمت لتنسق، لا لتسيطر، ذلك تيار، وأما التيار الآخر: فيرى أن المحور هو البناء الاجتماعي وليس أفراده، فالحر هو المجتمع، وحرية الفرد معناها أنه يعيش في مجتمع حر، وكيف تفهم عبارة «المجتمع الحر»، إلا إذا تصورناه وكأنه كيان عضوي متماسك الأطراف، متصل الأعضاء، على نحو يجعل حركة النشاط منسوبة إلى الجسم الاجتماعي وهو موحد، ولا يبقى للفرد الواحد بعد ذلك من حرية يستقل بها إلا بمقدار ما نرى مثل تلك الحرية منسوبة إلى عضو واحد في كائن حي، كأن تكون الذراع حرة، والكبد حرة وهكذا، والمعروف الشائع في عالم السياسة في يومنا الحاضر، هو أن غرب أوروبا ومعه الولايات المتحدة الأمريكية، وما جرى مجراهما من سائر الدول، يأخذ في فلسفته السياسية بالطراز الثاني، الذي يجعل الأساس هو حرية الدولة ممثلة للمجتمع.

ونجيء الآن إلى سؤالنا الذي كررناه في الأمثلة السابقة جميعا، وهو: أليست حقيقة الأمر هي أن بين الفكرتين تداخلا، إذا لم يكن بينهما تكامل تام؟ فانظر إلى دول الفكرة الأولى تجد حرية الأفراد مستحيلة التصور إلا في إطار عدد من القوانين قد يعد بالألوف، إن الأمر في سير الفرد، يشبه من يسير في متاهة كثرت فيها الحوائل والحواجز والسدود، فضلا عن استحالة قيام حياة فردية إلا وهي منتمية إلى جماعات صغيرة أو كبيرة، كالانتماء إلى الأسرة والقرية والمصنع، وإذن فهي حرية للفرد مقيدة بشبكة تلتف عليها الخيوط وتكاد لا تترك لها منفذا للفرار، وعكس ذلك صحيح بالنسبة إلى النمط الثاني، فكون الحرية منسوبة فيه للدولة لا للفرد، لا يمنع ذلك أن يمرح الفرد في دائرة واسعة من حياة يستقل فيها بميوله الخاصة وأوجه نشاطه الخاصة، ولو أخذت فردا من النمط الأول وفردا من النمط الثاني، وحللت حياتهما إلى تفصيلاتها، برز لك التشابه أكثر مما يبرز لك الاختلاف، والمسألة تنحصر في النسبة التي يضبط بها الجانبان: جانب الدولة وجانب الفرد، في كل من الحالتين، فواحدة تشرب الشاي باللبن، والأخرى تشرب اللبن بالشاي.

ولقد قدمت الأمثلة الخمسة السابقة، مأخوذة من ميادين للفكر مختلفة لأجعل منها تمهيدا يمهد الطريق إلى المثل السادس الذي نأخذه من المجال الديني، فهنالك اختلافات بين الديانات الثلاث الكبرى؛ وأعني اليهودية، والمسيحية، والإسلام، ثم هنالك في كل دين منها أقسام ومذاهب، فقد تكون فروع الاختلاف هنا كذلك قد ضخمتها أوهام التعصب، في حين أننا إذا أخذناها على حقيقتها، وجدنا أوجه الشبه أشد قوة من أوجه الاختلاف، إنني على هذه العقيدة، وأستغفر الله إذا كنت قد أخطأت سواء السبيل، فأما الديانات الثلاث، فحسبنا انتماؤها جميعا إلى سيدنا إبراهيم - عليه السلام - آمن بالله الواحد، فجاءت الديانات الثلاث مؤمنة بالله الواحد على اختلاف بينها في التعبير، ولست أريد الإسهاب في ذلك؛ حتى لا أتحدث فيما قد لا يكون لي به علم صحيح، لكنني أنتقل إلى الإسلام وأقسامه وفروعه وجماعاته، فربما عرفت هنا ما يكفل لي قدرا بشريا من صواب الرأي، والرأي في مجمله هو أن ظلال الاختلافات بين تلك التفريعات كلها، قد ضخمها الوهم الذي نبت - أساسا - في تربة من وطنية أو قومية ضيقة الأفق.

وخذ أوسع الفجوات من تلك الفروع والأقسام؛ وأعني أهل السنة من جهة، والشيعة من جهة أخرى، ولنسأل أنفسنا بادئ ذي بدء: ما الذي استهدفته الشيعة ليكون حجر الأساس؟ كان أول سؤال طرح، هو هذا: لقد نزل القرآن الكريم وحيا على محمد - عليه الصلاة والسلام - فإذا أشكل على الناس أمر أثناء حياة النبي، سألوه، فكان ما يجيب به قاطعا بصوابه، ولكن كيف تكون الحال بعد موت النبي - عليه الصلاة والسلام؟ من ذا يجيب بمثل هذا الصواب القاطع، إذا أشكل على الناس أمر؟ أنترك لكل مسلم فرد - حتى ولو كان من العلماء - حرية أن يجيب؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا نحن صانعون إذا جاءتنا إجابات مختلفة؟ إنه ليبدو - على ضوء هذا - أنه لا بد من إمام معصوم بوحي من الله، يكون له وحده حق الجواب أمام المشكلات الناشئة ... ذلك هو الأساس الأول، تفرع عنه فرع سياسي، عندما أرادوا تحديد من تحق له الإمامة المعصومة، فإذا نحن رددنا الخط الشيعي إلى حقيقته، ورأيناه ساعيا نحو حل تطمئن له القلوب لما عساه يشكل على الناس، ثم إذا نحن وجدنا أهل السنة بدورهم يشترطون شروطا لمن تحق له الإجابة عما يشكل على المسلمين في أمر دينهم، وجدنا زاوية الفرقة قد ضاقت بين الشعبتين، ومثل ذلك يمكن أن يقال فيما بين المذاهب الإسلامية من فروق.

إننا إذا نظرنا إلى خريطة العالم الإسلامي - والعالم الإسلامي يتجمع معظمه في رقعة متصلة على الخريطة الجغرافية - وجدنا، الشيعة مركزة في جانب، وأهل السنة مركزين في جانب، بل وأكثر من ذلك، وهو أن المذاهب الأربعة الكبرى داخل جماعة السنة تعود بدورها فيتركز كل مذهب منها بصفة رئيسة في قطر بعينه، فالمذهب المالكي سائد في كذا والمذهب الشافعي سائد في كيت، وكذلك مذهب أبي حنيفة، ومذهب أحمد بن حنبل، فماذا يدل عليه هذا التجمع الجغرافي للأقسام وللفروع؟ إننا نرجح أن يكون ذلك راجعا لعوامل البيئة المحلية في كل حالة، مضافا إليها مؤثرات التاريخ في كل قطر اختلفت ظروفه عن الظروف في سائر الأقطار، لكن هذه الاختلافات كلها والتقسيمات كلها احتفظت وراءها بأساس واحد مشترك، يكون به المسلم مسلما، وهو الإيمان بالوحي القرآني على محمد - عليه الصلاة والسلام - وأن هذا الأساس المشترك، لهو من الضخامة بحيث يكفل للمسلمين جميعا وحدة تغرق في ظلها كل ضروب التفرع والتشعب والانقسام.

اللهم هب لنا حكمة نرى في نورها أين تلتقي اختلافات الرأي والرؤية، قبل أن نرى أين تختلف.

عالم عابد في مركبة الفضاء

قل إنه خيال شارد جموح، أو قل إنه حلم رأيته في النوم، وجئت لأرويه للناس في الصحو، أو قل ما شئت عن هذه النعمة الكبرى، التي أنعم الله بها على بني آدم وبناته فوق هذه الأرض الدوارة في الفضاء، وهي أن تكون لهم القدرة على تحطيم حدود المكان وقيود الزمن، إنه هنا بجسده، لكنه هناك مع أقصى النجوم والسدم بخياله، وإنه حبيس اللحظة التي نسميها بكلمة الآن، لكنه حبيس فيها بسمعه وبصره وسائر حواسه، أما نعمة الخيال فقادرة على الطيران به إلى ما شاء من خط الزمان فيما مضى به إلى الأزل، وفيما هو آت منه إلى الأبد، ولولا تلك النعمة لما استطاع أن يتابع بكل وعيه ما يقال له عن أول الخلق كيف كان، وعن يوم البعث كيف سيكون، إنها نعمة انفرد بها دون سائر خلق الله من حجر وحيوان، ولست في الحق أدري إن كان يختلف بها كذلك عن الملائكة والجن؛ لأن هؤلاء كائنات بغير تاريخ.

وبهذه النعمة الكبرى تخيلت عالما حملته مركبة الفضاء، فاخترق بها ما وسع مركبته أن تجتازه من أجواز السماء، حتى جاوز بها دنيا المجموعة الشمسية بأسرها إلى حيث لا أدري من سدم الفضاء، نعم إن الصواريخ والمركبات التي أطلعتنا الإذاعات والصحف على أخبارها، كانت دائما تحمل في أجوافها ضروبا من ربابنة الفضاء، يعرفون كيف يوجهون مركباتهم وصواريخهم، وكيف يفكون الأجهزة المعقدة ويركبونها، لكنهم جميعا لم يكونوا أشباها للعالم الذي طيرته بخيالي بمركبته؛ لأنه ينفرد وحده دونهم بالتأمل في الماوراء، فإذا كان هذا هو ما يراه، وذلك هو ما يسمعه في رحلة فضائه، فهو فوق ذلك تواق أن يستدل بعقله ماذا عسى أن يكون هنالك وراء ما يرى ويسمع؟

ولقد جعلت ذلك العالم المغامر، يدون في مذكراته كل ما يعن له مما قد تأمله واستدله، فكانت فاتحة تلك المذكرات خاطرة خطرت له حتى وهو ما يزال رابضا في مركبته على أرضنا قبيل انطلاقها، وهي خاطرة تقول فيها ما معناه: ليست هذه أول مرة أسبح فيها عبر الفضاء في مركبة، إذ ماذا يكون الكوكب الأرضي الذي نسكنه والذي ما ينفك دائرا بنا حول نفسه مرة كل يوم وحول الشمس مرة كل عام، ماذا يكون هذا الكوكب الدوار إلا مركبة ركبناها لتدور بنا في الفضاء الفسيح دوران الأرجوحة الدوارة براكبيها من صغار الأطفال؟ لكن الفرق الكبير بين مركبة الأرض في سبحها، وهذه المركبة في طيرانها، هو أن كوكب الأرض تشده الشمس إليها بحبال خفية يسمونها الجاذبية، كأنما الشمس أم من أمهات الطير فرشت جناحيها لفراخها تحتمي بهما حتى لا تضل بها السبل، فكذلك فعلت شمسنا بأرضنا تشدها شدا إليها حتى تنحصر حركتها في الدوران حولها، لتأمن عليها من الضياع في ذلك التيه الذي لا تحده الحدود.

وعند هذه العبارة الأخيرة انطلقت المركبة بالعالم، فكانت مذكرته الثانية خاطرة استوحاها من تلك العبارة نفسها، فها هو ذا في سماء لم يعد يعرف لها حدودا تحدها، إنها اللانهائية في أروع مثال لها، فتأمل هذه الكلمة جيدا، تجدك وقد أوشكت على وقفة تشبه وقفات الصوفية التي قالوا عنها إنهم كانوا عندها في حالة شهود؛ أي أنهم أحسوا إحساسا قويا بأنهم تمكنوا من شهود الله - جل وعلا - وليس عندي، هكذا كتب العالم في مذكرته، ليس عندي ما يدعوني إلى تكذيب أولئك المتصوفة المؤمنين العابدين فيما كتبوه عما أحسوه بقلوبهم، لكنني لست الآن في مثل حالتهم الصوفية أركن إلى قلبي وما أحسه، بل إني أنظر نظرة العلماء وبمنهج العلماء، حين أقف وحين أدعوك لتقف معي عند هذه اللانهاية الكونية متأملا إياها تأمل العالم، لا تأمل الصوفي، وأعني أن تتأملها بعقلك ومنطقه، لا بقلبك في نبضه، فنحن لا نعرف اللانهاية في علومنا إلا من حيث هي مصطلح رياضي، وككل التصورات الرياضية البحت (أي التي ليست رياضة تطبيقية) لا يكون للتصور الرياضي وجود في الواقع الحسي، فأنت بالعقل الرياضي تتصور الصفر في الحساب وتتصور النقطة في الهندسة، تتصورهما وتقيم عليهما عملياتك الرياضية في ذهنك دون أن يكون لأي منهما وجود فعلي في الوجود الحسي، فالصفر هو اللاشيء وكل ما في عالم المحسوسات أشياء، والنقطة في الهندسة هو ما ليس له أبعاد لا طولا ولا عرضا ولا عمقا وكل ما في عالم المحسوسات ذو أبعاد، إنك لا تذهب إلى السوق لتشتري صفرا من القماش أو صفرا من الفاكهة، وما نسميه نقطة في عالم الحس ليس إلا مجازا منا لسهولة التفاهم لا لمراعاة الدقة الرياضية؛ لأنه مهما صغر حجم النقطة التي نرسمها على الورق فهي ذات أبعاد، بدليل أننا نستطيع أن نتصور أداة للرسم أدق من الأداة التي استخدمناها في رسم النقطة، فنحصل بالأداة الأدق على نقطة أصغر، وهذا الذي نقوله ينطبق على التصورات الرياضية جميعا، وبينها فكرة اللانهاية؛ وذلك لأن التصور الرياضي أيا كان إنما هو تعريف عقلي لما ينبغي أن يكون في الحالة المعنية التي نشير إليها بتصور رياضي معين، فنحن إذن نتصور تلك الحالة وهي في كمالها المطلق، لكن الأشياء التي نمارس حياتنا العملية بها، لا كمال فيها. إن الواقع المحسوس في جميع حالاته فيه خشونة وعدم استواء بدرجات تكبر وتصغر إلا أنها لا تنعدم، إذا قلنا عن قطعة أرض مثلا إنها دائرية الشكل، أو إن مساحتها خمسون مترا مربعا، فذلك كله على سبيل التقريب، لا على سبيل الدقة الرياضية المتضمنة في تعريفنا لأي مفهوم في العلوم الرياضية.

ولا يشذ عن هذا التعميم فكرة اللانهاية، فهي فكرة نعرفها في الرياضة، لكننا لا نعرفها قط في حياتنا العملية بين كائنات الدنيا وأشيائها ، فحبات الرمل في صحراوات الأرض، قد لا نستطيع عدها، لكننا مع ذلك نتصور أن لها عددا ما يعلمه من في مقدوره أن يقوم بعملية العد بوسيلة من وسائل العد والإحصاء، أما اللانهاية، فتصور آخر ليس هو التصور الذي نتصور به أعدادا ضخمة لا نستطيع أن نحصيها، وإنما اللانهاية بحكم تعريفها: ما لا يعد، ففي أي خط ترسمه نقط لا نهائية، وذلك مجرد تصور رياضي، إذ النقطة كما يتصورها الفكر الرياضي لا وجود لها في الواقع الحسي، وها أنا ذا - هكذا قال عالم المركبة الفضائية في مذكرته الثانية - ها أنا ذا أسبح بمركبتي في لا نهاية سواء نظرت إليها من ناحية التصور الرياضي أم نظرت إليها من ناحية إحساسي بحقيقة الواقع، فمن الناحية الأولى، نقاط المكان لا متناهية ولحظات الزمن كذلك لا متناهية سواء نظرت إلى ما مضى منها، أو إلى ما هو آت، فماضيها يمتد إلى أزل وآتيها يمتد إلى أبد، وأما من الناحية الثانية، فالكون الذي أسبح فيه هو كون بلا حدود، بمعنى أنه - كما يقول العلماء عنه - كون يمتد امتدادا لا ينقطع، فهو إذن بالنسبة لي كالأفق بالنسبة للمسافر على سطح الأرض؛ لأنه يتسع ويتراجع أمام المسافر حتى لكأن ذلك المسافر لم يتقدم من نقطة ابتدائه شبرا واحدا.

ومن ذا الذي يذكر هذه اللانهاية التي أسبح في رحابها، ولا يذكر معها الواحد الأحد الحي القيوم الله جل جلاله، واحد في ذاته، واحد في خلقه لا تحده حدود مكانا أو زمانا، وقد يختلط الأمر عند المبتدئ الصغير بين الواحد في هذا المعنى، والواحد في سلسلة الأعداد التي حفظها وعرفها في علم الحساب، لكن واحد الحساب بداية لسلسلة أعداد تأتي بعده في خط واحد، أما واحدية الله وواحدية الكون فمعنى آخر، هو المعنى الذي يجعل الواحد لا يجيء إلى جانبه اثنان لتضم واحدين في مجموعة، ولا ثلاثة لتضم ثلاثة في مجموعة ... الله واحد في ذاته، موحد في صفاته على كثرة هذه الصفات، ولقد تعب المفكرون الإسلاميون الأقدمون في التماس التصور الذي يجعل من كثرة الصفات وحدة لا تعدد فيها للذات الموصوفة بها، فهل كانوا - يا ترى - يقعون في الحيرة نفسها، إذا كانوا قد استعانوا على الفهم بنظرة ينظرون بها إلى هذا الكون اللانهائي، الذي هو كثير بكائناته وشموسه وسدمه ونجومه، لكنها كثرة ترتبط كلها برباط يجعل منها كونا واحدا يتصل كل ما فيه، بكل ما فيه حتى ليستحيل على عقل أن يتصور جزءا من تلك الأجزاء الكثيرة اللامتناهية في كثرتها، وقد انفصل وحده أين ينفصل؟ وكيف ينفصل؟ ومتى ينفصل؟

وانتقل عالم المركبة الفضائية بعد ذلك إلى مذكرته الثالثة، فبدأ بذكر جاجارين الروسي؛ الذي كان أول من شق الفضاء بصاروخ ثم عاد إلى الأرض، ليسأله سائل: هل رأيت الله؟ فأجابه بما معناه أنه بحث عنه فيما صعد إليه من السماء فلم يجده، ذكر ذلك عالم مركبتنا ليأخذه العجب من جاجارين هذا، وما الذي كان جاجارين يتوقع أن يراه ولم يجده؟ إن الصاروخ الذي صعد به، ما كان ليقام، وما كان ليطير به إلى حيث طار، ثم ليعود به إلى الأرض سالما، إلا إذا كان العلماء أقاموا حسابهم على افتراض متين مكين بأن الكون بكل ما فيه يسلك كما يسلك وفق قوانين محسوبة بدقة ليس بعدها دقة، ومن هنا طار الصاروخ سالما وعاد سالما، وليست القوانين التي تمسك أجزاء الكون مفرقة بعضها من بعض، ولا هي مستقلة بعضها عن بعض؛ وذلك لأنه كون واحد، له كيان عضوي واحد، وقوانينه، وإن تكن كثيرة، فهذه قوانين للضوء ومساره، وتلك قوانين للجاذبية، وثالثة قوانين للكهرباء وللمغناطيسية إلخ، إلا أنها حسبت كلها على نحو يجعلها موحدة برغم كثرتها، وإذا كان هنالك منها ما لم يستطع العلماء بعد أن يسلكوه في تلك الوحدة فهم في طريقهم إلى هذا الهدف، فحتى لو كان ذلك الجاجارين ممن لا يؤمنون بوجود الذات الإلهية، أفلم يكن في مستطاعه أن يرى الألوهية في ذلك الكون الموحد بقوانينه؟

ولقد رأى الفلاسفة الأقدمون - من اليونان ومن المسلمين على حد سواء - شبها دقيقا في بنية التكوين، بين الكون في كليته وفي توحده، وبين الفرد الإنساني في كليته وفي توحده، حتى لقد أطلق اليونان والمسلمون اسم الكون الكبير على العالم، واسم الكون الصغير على الإنسان، فكل منهما موحد الكيان برغم كثرة الأجزاء وكثرة ما يحكم تلك الأجزاء من قوانين.

وماذا تكون القوانين الممسكة بأجزاء الكون في كيان موحد واحد، إذا لم تكن عقلا؟ إن أهم وظيفة يؤديها العقل أينما كان أنه يرتب الأجزاء ترتيبا يوحدها ويجعل لها معنى، كما يجعل من الممكن أن تستدل النتائج من ذلك الكل المرتب، وأسوق لك مثلا صغيرا للتوضيح: افرض أنك رأيت هذه الكلمات مكتوبة: أخي كانت قابلت الساعة حين الثامنة، فماذا تفهم منها، وماذا تستدله؟ لا شيء، لكن رتبها لتكون: كانت الساعة الثامنة حين قابلت أخي، فهنا يكون الفهم ويكون الاستدلال إذا أردناه، لماذا؟ لأن مجموعة المفردات أصبحت تحمل فكرة عقلية بفضل ترتيبها على هذا النحو الجديد، وبعد ذلك فانظر - هكذا كتب عالم المركبة في مذكراته - فانظر إلى أي جزء من أجزاء الكون الكبير أو من أجزاء الكون الصغير، وسوف ترى عناصر اجتمع بعضها إلى بعض على صورة تجعلها عقلا فيفهم ويستدل منه، ولولا ذلك الترابط الذي يجعل للظواهر معناها، كما يجعل للكون في مجموعه الموحد معناه، لما استطعنا أن نستخرج قانونا علميا واحدا نسلك الظواهر على أساسه، ونعود إلى جاجارين لنسأله لو كان لا يزال حيا يسمع: ألم تر العقل مجسدا أمامك في أجزاء الكون كما ترابطت؟ فإذا كنت قد رأيته فلماذا لم تجب السائل بقولك: رأيت عقلا عظيما؟ ولو قلتها لكنت قريبا ممن يقول إنه رأى دليلا عقليا على وجود الله.

لقد كانت لمحة عبقرية من الإمام أبي حامد الغزالي، في كتابه «مشكاة الأنوار» الذي خصصه لتفسير آية النور:

الله نور السموات والأرض ...

حين فهم النور بمعنى الإدراك، والإدراك عقل، ثم أخذ يوضح كيف أن الإدراك المثبوت في أرجاء الكون يكون على صور مختلفة صورة المصباح في المشكاة، وصورة المصباح في زجاجة، وصورة الكوكب الدري، فالمصباح في المشكاة يقابل الجانب الإدراكي الذي يتمثل في إدراك السمع والبصر وسائر الحواس لما حولها، والمصباح حين تحيط به زجاجة فيجعل شعلة الضوء أكثر تحديدا وأقوى سطوعا، وأما الكوكب الدري الذي يضيء بذاته لا بمدركات تأتيه من سواه فهو ذلك الإدراك الذي يرى الحق برؤية مباشرة، وأحسب أن لو كان إمامنا الغزالي مع جاجارين في رحلة الفضاء، لفتح له عينيه لتريا وعيا إدراكيا عقليا ساريا في الكون سريان الأريج في الوردة، فإذا كان من حقه أن يسأل والوردة أمامه: أين الأريج؟ إني لا أراه، جاز له أن يقول - ودلائل العقل منشورة أمامه - أين الله؟ إني لا أراه.

الله هو الحي القيوم، أما أنه قيوم؛ فذلك لأنه سبحانه يقيم ذاته بذاته ولا يعتمد على كائن آخر خارج ذاته ليقيمه، وأما الكون المخلوق له، فهو مع كل ما يسري في أجزائه وأوصاله من نور العقل، فهو مستند في قيامه إلى إرادة الله - عز وجل - والله حي، وعن معنى الحياة حين تكون صفة من صفات الله يقول الإمام الغزالي في كتابه المقصد الأسنى: إن المقصود هو قدرة الإدراك وقدرة الإرادة، وليس يتبع صفة الحياة بالنسبة للخالق، ما يتبع تلك الصفة في مخلوقاته، من حيث ضرورة الغذاء والنمو والتكاثر، بل هي مقصورة على أنه عليم ومريد، والعلم عقل والإرادة فعل، وهاتان الصفتان قد انعكستا على كل ما هو موجود في الكون العظيم الذي أنا سابح الآن في أقطاره - هكذا كتب عالم المركبة الفضائية في مذكراته، فكل جزء بل كل جزيء بل كل جزء من جزيء في جنبات الكون، مرتب على صورة تجعله كالجملة المفيدة ذات المعنى - كما أسلفنا القول في مذكرتي هذه - وترتيبها هو نفسه جانب العقل منها، هل تذكر ما قاله عبد القاهر الجرجاني في إعجاز القرآن حين أخذ يحلل البلاغة ليقع على أسرارها؟ وإذا سر أسرارها - كما رآه الجرجاني - هو طريقة ترتيب المفردات في الجمل، فلو حاولت أن تغير في هذا الترتيب، بأن تزحزح لفظة من موضعها تقديما وتأخيرا، لفقدت الجملة البليغة شيئا من بلاغتها، لماذا؟ لأنه على دقة الترتيب تتوقف مطابقة الجملة لما يقتضيه منطق العقل، فللعقل أحكامه: ماذا يجب أن يسبق ماذا في ترتيب الكلام المعقول؟ وإذن فنحن لا نجاوز الحق في شيء، إذا نحن زعمنا ما زعمناه من سريان العقل في الكون سريان العطر في الوردة الفواحة بالشذى، وهل تذكر كذلك ما انتهى إليه فيلسوف هذا العصر في مجال العلم وفلسفته وهو برتراند رسل؟ إنه هو الآخر وقف وقفة طويلة عند المعنى في الجملة، من أي شيء ينبثق؟ وهنا نراه يعيد شيئا كالذي سبقه إليه عبد القاهر الجرجاني، ألا وهو الطريقة التي رتبت بها الكلمات، لولا أن الجرجاني كتب ما كتبه بلغة الأديب الذي تجيء ألفاظه موحية بالكيف لا بالكم، وأما برتراند رسل فقد أجرى تحليلاته على منهج العالم الرياضي الذي يستخدم رموزه على صورة توحي بالكم أكثر جدا مما تشير إلى مضمونات الألفاظ وكيفها، لكن هذا الاختلاف بين الرجلين لا يمنع أن يكونا قد اتفقا معا على سر المعنى وسر البلاغة حين يجيء ذلك المعنى في عبارة بليغة، وإني الآن - وهذا قول العالم في مركبته الفضائية - لأراني أمام كتاب عظيم تفتح لي صفحاته واحدة بعد أخرى لأقرأ، وإني لأقرأ فأجد المعاني الضخمة تنساق إلى ذهني معنى في أثر معنى، وإنها لمعان سيقت في بلاغة هي ذروة البلاغة لهذا الترتيب المحكم بين أجزاء الكون العظيم.

وأخيرا جاءت المذكرة الرابعة لعالم مركبة الفضاء، يقول فيها ما خلاصته: إنه لا بد أن يكون مصابا بالعمى والصمم مطموس القلب مفقود الذكاء، من لا يرى الربوبية في هذا الكون وفيما وراء هذا الكون، لقد كثر الكلام واختلف رجال الفكر على تعاقب العصور، في الصفة الجوهرية التي تميز الإنسان وحده دون سائر كائنات الأرض، فجعلها مفكرو اليونان القديمة، عقلا مضافا إلى سائر الصفات التي تصف الحيوان، ففي الإنسان كل ما في الحيوان ثم تميز بالنطق الذي هو إذا ما انتظمه منطق في ترتيبه واستدلالاته كان هو العقل، ثم جاء بعد ذلك من احتفظ للإنسان بالعقل، ولكنه وجد أولوية في طبيعة الإنسان لصفة أخرى هي الوجدان أنا وهي الإرادة أنا ثانيا وهي اللاعقل - أو اللاشعور - أنا ثالثا وهكذا، ولست بقدري الضعيف منافسا لأحد من هؤلاء، ولكنني في حيرة أتساءل كيف فاتتهم صفة القدرة على إدراك ما في الكون من ربوبية لتكون هي الصفة الأعمق جذورا والأدق تمييزا للإنسان؟ فها نحن أولاء نرى في عصرنا هذا تحليلا جديدا للعمليات العقلية كلها، فإذا هي تنحل إلى جزئيات في وسع آلة أن تؤديها، أو أن تؤدي كثيرا منها (كما نرى في الآلة الحاسبة)، وكذلك قد نجد ما يشبه دفعات الوجدان، وما يقترب من عزمات الإرادة في الحيوان، ودع عنك جانب اللاعقل فهو إلى صفات الحيوان أقرب، أما الذي نراه مميزا للإنسان حقا، مما يستحيل استحالة قاطعة على أن يكون للحيوان نصيب منه، فهو إدراك الربوبية في الكون ووراءه، ومن هنا كان الإنسان وحده دون سائر مخلوقات الله فوق الأرض، الذي يعبد الله، فالعبادة صفة لا يشارك الإنسان فيها كائن آخر من كائنات الدنيا، اللهم إلا الجن، إذ تقول الآية الكريمة:

وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وأستغفر الله أن أكون قد ضللت سواء السبيل حين خطرت لي خاطرة في هذا الصدد، وهي أنني تأملت هذه الآية الكريمة فقلت إن اسم الجن مشتق من الأصل اللغوي الذي معناه الخفاء، فنقول الجنن، ونقول جن الليل بمعنى أنه اظلم، وهكذا، فماذا يربط الجن والإنس برباط العبادة؟ قلت: ألا يكون هو الرابطة بين ما استتر، وما انكشف؟ ففي كتاب الكون العظيم قوى خافية، وامتياز الإنسان هو أنه كاشفها بعلمه شيئا فشيئا بتوفيق من الله، وعبادة الله واجبة على من حمل السر بأمر ربه، وعلى من كشف السر - ما استطاع - بأمر ربه أيضا.

وختم عالم المركبة مذكراته بعبارة شاع في كلماتها الأسف والأسى، إذ وردت على ذهنه المقارنة بين ما يستطيع به المؤمن العابد أن يعلو وأن يسمو بمقدار ما أراد الله له وللكون علوا وسموا، وبين ذلك الصغار الذي يلجأ إليه الدعاة بين أهل الأرض، حين لا يجدون ما يقولونه إلا أن الإنسان أصغر من أن ينافس ربه، كأن الخالق ومخلوقه في تنافس وسباق.

القسم الثاني

من عوامل القوة

يموت الإنسان ليحيا

منذ بضع سنوات، شاءت لي المصادفة ذات مساء، أن أفتح التليفزيون لأشهد حلقة من برنامج ديني، جيء فيه بمجموعة من أكبر أساتذة جامعاتنا في مجال العلوم، وروعي فيهم أن يكونوا ذوي تخصصات مختلفة، ودبر لهم أن يتجمع أمامهم عشرات المئات من طلاب الجامعة، وكان الموضوع الذي أعد ليكون مطروحا للعرض والمناقشة، هو أن يبين العلماء - كل في ميدان تخصصه العلمي - أن في القرآن الكريم من الحقائق العلمية، في كل ميدان من الميادين التي جاء الأساتذة الأجلاء ليمثلوها، ما يتطابق مع أحدث ما وصلت إليه تلك العلوم من نتائج.

وإنه ليتعذر على مثل كاتب هذه السطور، بتخصصه في الفلسفة، أن يناقش علماءنا الأفاضل في تخصصاتهم العلمية، فالمفروض أن تكون الكلمة الأخيرة لهم، فيما يمس موضوعات النبات، والحيوان، والفلك، وغيرها، مما جاء الأساتذة الكبار ليتحدثوا فيه، وليجيبوا على ما قد يوجه إليهم من أسئلة الطلاب، لكنني - مع ذلك - أشعر بأن واجبي العلمي يقتضي أن أشير بلمحة سريعة إلى ما أراه انحرافا خطيرا عن النظرة العلمية الصحيحة فيما قبل الأساتذة الجامعيون أن يشاركوا في مجاراة الرأي العام في اتجاهه؛ لأنه إذا سمع الجمهور - وسمع طلاب العلم - قولا من أكبر المتخصصين في العلوم عندنا يقرر بأن في الكتاب الكريم، من قوانين العلوم الطبيعية، ما يتطابق مع آخر صيحة عصرية في تلك العلوم، فمن الذي يجرؤ بعد ذلك أن يحاجهم في خطأ شاع في مرحلتنا الزمنية هذه بين الناس، ربما أكثر مما شاع في أي مرحلة سابقة، مع أن الفرض هو أن أمتنا تسير من الأجهل نحو الأعلم، حقا لقد انحرف علماؤنا هؤلاء انحرافا خطيرا عن النظرة العلمية في الأساس الذي اجتمعوا من أجله، وفي بعض التفصيلات التي سأبينها فيما يلي من هذا الحديث ...

أما من حيث الأساس، فالقرآن الكريم إنما نزل مع الوحي كتابا فيه عقيدة وشريعة، فإذا وردت فيه إشارات إلى حقائق مما قد نراه مندرجا تحت علم من العلوم، فإنما أقصد بها أي شيء مما يتفق مع سياق ورودها، إلا أن تكون قد جاءت بقصد أن تكون «علما» بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة عندما يراد بها العلوم الطبيعية في أي فرع من فروعها، وأقل ما يقال من ذلك، أن ما قد أنزل به القرآن الكريم إنما هو حق ثابت، وسيظل ثابتا ما بقي مكان وزمان فيهما إنسان، وإلا فما الذي يمكنه أن يتغير في عقيدة أن الله - سبحانه وتعالى - واحد أحد صمد، وما الذي يتغير في أي قيمة من القيم الأخلاقية الواردة في الكتاب والتي منها؟ يتكون إنسان كامل، إذا هو استطاع أن يذهب معها إلى حدها الأقصى؟ وأما «العلم» فهو بحكم طبيعته نفسها يصحح نفسه بنفسه عصرا بعد عصر، بمعنى أن الحقائق العلمية المقرر لها الصدق في عصر ما سرعان ما يتبين أن صدقها منحصر في دائرة محدودة من وقائع مجالها التطبيقي، فيحاول العلماء في إثر ذلك البحث عن صيغ جديدة للقانون العلمي الذي ثبت قصوره لكي تستطيع الصيغة الجديدة أن تغطي كل ما قد ظهر للإنسان من وقائع المجال التطبيقي، وهكذا تظل الوقائع تتكشف لنا ونظل نلاحقها بتغير القوانين العلمية من صيغ أضيق مجالا إلى ما هو أكثر سعة وشمولا ... فمن الذي يرضى لعقيدته الدينية أن توضع في هذا المنظور المتغير مع تعاقب العصور؟ أليس يكفينا من الإسلام أن يحيل الإنسان إلى «عقله»، وأن يحضه حضا على إعمال هذا العقل فيما يوسع علمه بحقائق الكون؟ فإذا كان علماؤنا الأجلاء قد طاب لهم العوم على الموجة الشعبية، فجاءوا إلى تلك الندوة ليقولوا لطلاب العلم المجتمعين أمامهم وإلى ملايين المشاهدين في طول البلاد وعرضها إن في القرآن الكريم «علوما طبيعية» تطابق آخر صيحة في تلك العلوم، فماذا عساهم - يا ترى - قائلين حين تجيء بعد الصيحة الأخيرة، صيحة ثانية تعقبها ثالثة ورابعة ...؟

فلم يكن علماؤنا الأجلاء على صواب، حين استجابوا لدعوة تحقق غاية في نفوس الداعين، لكنها يقينا تصيب التربة العلمية لطلابنا وللشعب كله بضربة في الصميم، هذا من حيث الأساس، وأنتقل إلى تفصيلات سمعتها ممن كان أول المتحدثين، وقد جعل موضوعه نشأة الحياة من مصدر لا حياة فيه؛ ليبين بعد ذلك لسامعيه مدى الصواب العلمي، في قول الله تعالى:

يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ، فوقع في خطأ لم نكن نتوقع مثله من مثله، فكلمة «ميت» «بالياء المشددة» وكلمة ميت «بالياء الساكنة» مختلفتان في المعنى اختلافا بعيدا، وذا صلة شديدة بالموضوع الذي كان الأستاذ يتحدث فيه، فالكلمة وهي بالياء المشددة كالتي وردت في الآية الكريمة التي كانت مدار الحديث، ليس معناها أن المشار إليه بها قد مات بالفعل، ولكن معناها أنه صائر إلى الموت، أي أن المشار إليه بهذه الكلمة المشددة ياؤها هو «حي» غير أن حياته إلى أجل. وهنا يكون اختلاف في معنى «الحي» حين تكون اسما من أسماء الله تعالى، وحين تكون مشيرة إلى الإنسان أو غير الإنسان من الكائنات الحية، فالحي سبحانه وتعالى حياته أزلية أبدية لم تبدأ عند لحظة معينة ولن تنتهي، وأما الكائن من الكائنات الحية المخلوقة لله فحياته لها أول ولها أجل تنتهي عنده صورتها الأرضية التي كانت عليها، وأما «ميت» ذات الياء الساكنة فهي التي يشار بها إلى من مات بالفعل، كالتي وردت في الآية الكريمة

أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه

والتي وردت في الآية الكريمة

حرمت عليكم الميتة ... .

وعلى هذا الضوء، ماذا يكون معنى الآية الكريمة التي جعلها الأستاذ في تلك الندورة مدارا لحديثه، وهي

يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ؟ معناها أن حيا يخرج من حي مصيره الموت، كما خرج هذا الحي الذي هو صائر إلى الموت من حي قبله؛ أي أن الله - سبحانه وتعالى - يخرج حيا من حي - من حي - من حي - في تسلسل يمتد إلى ما شاء سبحانه وتعالى، فالحي الفرد يموت، وكان قد خرج منه حي آخر قبل أن يجيئه الأجل، فهو يموت ولكن تظل الحياة في نسله ما شاء لها الله أن تبقى، وإني لأستغفر الله إذا كنت قد أخطأت الفهم، أما إذا لم أكن، إذن لقد كان حديث الأستاذ مقاما على خطأ، فلو فرضنا أن ما قاله عن مطابقة العلم الجديد في آخر صيحة له لما ورد في القرآن الكريم، كما دلت عليه الآية الكريمة

يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ، أقول: إننا لو فرضنا أنه كان على صواب فيما قاله فلقد كان ذلك الصواب متعلقا بموضوع غير الموضوع الذي طرحه ليتحدث فيه، إذ إن حديثه كان حول خروج حياة من موات.

وتسلسل الأحياء من حي، مع الإيمان بحكمة الخالق جلت قدرته، يرجح ألا يخفى علينا رؤية الحكمة في تسلسل أشباه تتساوى في كل دقائق التكوين، ويكفي أن نذكر أن الأحياء المتلاحقة - في النوع البشري - كان منها ما جاءته رسالة السماء فاهتدى، ومنها ما لم تبلغه أو بلغته ولم يهتد، والقرآن الكريم مليء بالقصص التي تبين «كيف تطورت» أقوام في مجرى التاريخ، وكيف جمدت أقوام أخرى أو انهار بنيانها لعلة خلقية أصابت أصحاب ذلك البنيان، ولست أظن أن أحدا في وسعه أن يفهم التاريخ حق فهمه، إذا هو افترض منذ البداية أن حلقات التسلسل جاءت متشابها بعضها ببعض كأنه نسخات مطبوعة من كتاب واحد.

فالأرجح عند العقل أن يكون تسلسل الأحياء - حيا من حي - في تيار متصل متضمنا فكرتين: فكرة التطور، وفكرة التقدم، والفكرتان ليستا بمعنى واحد، وإن تشابهتا، إذ إن التطور هو انتقال الكائن من طور إلى طور في تاريخه، لكن ليس حتما أن يجيء ذلك الانتقال مما هو أدنى مرتبة إلى ما هو أعلى، بل قد يكون الانتقال بين حالتين متساويتين، وقد يكون مما هو أعلى إلى ما هو أدنى، كما حدث بالفعل ويحدث بالنسبة إلى أفراد الناس وإلى مجتمعاتهم على حد سواء، إذن ففكرة التطور أن تجيء حركته الانتقالية إلى أعلى، وهذه هي فكرة، التقدم والفكرتان معا متضمنتان في خروج حي جديد من حي صائر إلى موت ، نعم، إن كل حي مخلوق صائر إلى موت، لا فرق في ذلك بين ما سبق وما تلاه، لكن المقابلة بين حي وميت «بتشديد الياء» فيها إشارة بليغة إلى حياة جديدة ولدت من حياة في طريقها الذي ينحدر بها إلى موت، فهي حركة ثم هي حركة صاعدة كما وكيفا في آن واحد، فالأحياء تتكاثر عددا، ثم هي بالنسبة إلى الإنسان على الأقل تتسامى ارتقاء من جهالة وضلال إلى معرفة وهدى.

حياة الإنسان «صائرة» دائما؛ أي إنها في «صيرورة» لا تنقطع عنها لحظة واحدة، فما هو قائم في الفرد الواحد وفي مجموعة الأفراد على السواء - ما هو قائم الآن لن يكون هو هو بعينه غدا، وبعد غد، ومن الوجهة النظرية الصرف قد يجيء الغد أو الذي بعد الغد أسوأ حالا مما هو اليوم، لكن المسيرة البشرية مأخوذة في مجموعها، إنما هي صيرورة دائمة إلى ما هو أعلى وأكمل، وانشر لخيالك جناحيه ليعود بك إلى ما نشط به الإنسان على اختلاف شعوبه ومكانه وزمانه، وانظر إلى الزارع يفلح الأرض الجدباء فيخصبها، وإلى الصانع يشكل المعدن ويشكل الحجر، فإذا هو يقيم العمارة أشكالا وألوانا ويشكل الآنية وينسج الثياب ويرصف الطرق ويقيم الجسور ... ثم انظر إلى الإنسان على مر العصور عالما، وانظر إليه فنانا، تجد عجبا، فهو لم ينفك يوما دائب الجهد ليفض الأختام عن أسرار الوجود، فإذا هو يشعل النار بعد أن لم تكن، فاستضاء في ظلمة الليل وطها الطعام ارتفاعا بغذائه عن مستوى الحيوان وصنع العجلة التي تدور، وما أدراك ما العجلة في تطويرها لحياة الإنسان من شيء يشبه الجمود إلى حركة خفيفة سريعة، النبات يتحرك إلى أعلى لكنه لا يتحرك يمنة ويسرة وأماما ووراء، والحيوان يتحرك في هذه الأبعاد لكن إلى الحدود التي تستطيعها أرجله، وأما الإنسان فلم يكفه هذا التحرك البطيء، وهم أن يطير فطار بخياله أول ما طار، ثم بدأت محاولاته أن يطير جسده وإن لم يكن ذا جناح، وهي محاولة صورتها الأسطورة اليونانية في «إيكاروس» وجاهد في سبيل تحقيقها ابن فرناس، وإنه لطريق طويل باعث على الأمل حتى عند أشد الناس تشاؤما، وأعني طريق العلم الذي سار عليه الإنسان منذ سواه الله إنسانا، ثم انظر إلى ذلك الإنسان فنانا ينطق بإزميله الحجر والنحاس ويرسم بريشته وألوانه ما يجعل دنيانا مزدانة بجمالها طبعا وفنا ... وبعد ذلك كله، وفوق ذلك كله، انظر إلى الإنسان مؤمنا عابدا، لتعلم أنه ما سار بحياته الدنيا كما سار زراعة وصناعة وعلما وفنا ليقنع بدنياه؛ لأنها مهما يكن أمرها فهي إلى موت وهو يستهدف حياة الخلد بعد أن عبر الزوال؛ ليظل مسلسل الحياة قائما ومتساميا من نقص إلى كمال حياة من حياة من حياة ... «حياة مقبلة تخرج من حياة مدبرة»، وهذه الحياة المقبلة بدورها ستخرج منها حياة وهي مدبرة وهكذا دواليك إلى أن يشاء الله أمره، وليست هذه الاستمرارية في تيار الحياة خلفا بعد سلف بمقصورة على الإنسان، بل هي تشمل كل الكائنات الحية جميعها، مضافا إليها التكوينات الاجتماعية التي تشبه في مراحلها مراحل الحياة كالحضارات وكثير مما يدخل فيها من نظم، فشجرة القمح تترك وراءها سنابلها محملة بحبات القمح لتنبت من بعد زوالها شجرات، والحيوان ينسل ما يكفل سير الحياة في نوعه، وقل هذا عن الحضارات، فالحضارة المعينة - كما قال ابن خلدون - تنمو ويقوى عودها وتسود ثم ينحني بها الطريق نحو الهبوط، ولكنها قبل أن تصل إلى مرحلة ضعفها تكون قد بذرت بذورا لتنبت حضارات أخرى تستأنف السير، وانظر نظرة شاملة إلى الطريق الحضاري كيف اتجه، تجده قد بدأ هنا في أرضنا وما يشبه أرضنا من وديان يسودها المناخ نفسه الذي يتميز بأنه لا هو من النوع القاتل بحرارته ولا هو من النوع القاتل ببرودته؛ وذلك لئلا يتعذر على الإنسان الأول سهولة العيش مع فرصة الإبداع الحضاري، فلما أكملت مصر «بصفة خاصة» دورها وكانت قد بذرت بذورها الحضارية عبر البحر الأبيض المتوسط قامت حضارة اليونان فحضارة الرومان، وعلى أسس من هاتين انتقلت إلى فرنسا وإنجلترا، لكنها ما بين مرحلة اليونان والرومان من ناحية ومرحلة الشمال الغربي لأوروبا من ناحية أخرى ظهرت الحضارة الإسلامية العربية، وبعد أن رسخت جذورها في الأرض اغتذت مما سبقها، ثم نقلت من لبابها إلى أوروبا ما نقلته فكان من أقوى العوامل التي أعانت حضارة الشمال الغربي الأوروبي على الظهور والازدهار، حتى إذا ما اكتملت نشأة المجتمع الجديد في القارة التي كشفها كولمبس بذرت بذور حضارة جديدة أخرى، وإنما جاءتها بذورها من المحصلة الحضارية الأوروبية، وأقول محصلة لأنها - كما رأينا - مصطفاة من اليونان والرومان والعرب وما سبقها، وتلك هي - في الأساس - حضارة عصرنا متميزة بما يغلب عليها من روح العلم بالمعنى الجديد لكلمة «علم»، ولم تلبث حضارة العصر طويلا حتى استقرت مبادئها وأسسها، وأخذ كل بلد بعد ذلك يشارك فيها بنصيب

يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي

حياة من حياة، من حياة ومن هذه الزاوية للنظر نستطيع أن نرى في الآية الكريمة ما يبلغ أن يكون قانونا عاما وشاملا لسير الحياة في عالم الأحياء جميعا، ومضمونه هو - في جوهره - أن يجيء السير «متطورا» و«متقدما»، ولقد أسلفت الإشارة بأن التطور وحده لا يكفي؛ لأن التطور انتقال مظاهر الحياة، من طور إلى طور، لكن ذلك لا يضمن لنا أن يكون الانتقال إلى أمام وإلى أعلى، في وقت واحد، وذلك هو «التقدم»، وإني لأعلم وأعجب أن هنالك من تزعجهم فكرة «التطور» وكأن التطور لا يجيء إلا على الصورة التي افترضها «داروين»، نعم، إن هذا العالم ذو فضل لا ينكر، في لفت عقولنا نحو أن ننظر إلى الحياة في كائناتها من منظور التطور، إلا أنه جعل ذلك التطور مرهونا، بعوامل البيئة الخارجية وما تستلزمه من تشكيل الحياة، وقد تغير المنظور كله خلال هذا القرن وأصبحت الفكرة هي أن الكائن الحي يعتمل من داخله لإحداث التغير الذي يلائم حياته، لكن النقلة من خارج إلى داخل في محور التغيير لا تلغي فكرة التطور من أساسها بل تضعها في منظور جديد.

وكذلك الحال في فكرة «التقدم»، فهي فكرة لم تظهر للناس في وضوح إلا في هذا العصر وما قبله بقليل، ولست أعني أن التقدم ذاته هو الذي لم يظهر إلا حديثا، ولكن قراءة الإنسان لحقائق الدنيا من حوله هي التي جاءته قراءة مغلوطة، ولم يصحبها في العصر الأخير، إذ كان الناظرون قبل ذلك ينظرون إلى وقائع التاريخ؛ فيظنون أن الإنسان في سيره التاريخي يبعد عن الأكمل والأفضل منحدرا نحو ما هو أقل كمالا وأقل فضلا، وتتبدى حقيقة الأمر بتحليل التاريخ تحليلا علميا أكثر دقة، وعندئذ نرى لم أخطأ القائلون بغير «التقدم».

والسؤال هنا يطرح نفسه وهو: بأي معيار ننظر إلى حركة التاريخ؟ فنقول إنها نحو الأمام ونحو الأعلى، وهو سؤال وارد بالطبع وله ما يبرره؛ لأنك إذا رأيت شخصا سائرا في الطريق فلن تستطيع الحكم على سيره أهو سير إلى الأمام أم هو سير إلى الخلف، إلا إذا عرفت هدفه الذي يقصد بلوغه، فإذا كان سيره نحو ذلك الهدف كان يتقدم وإلا فهو يبعد عن هدفه بالسير في اتجاه مضاد، وكذلك لا يحكم على سيره أهو نحو الأعلى أم هو نحو الأسفل إلا إذا عرفت ماذا يريد أن يحققه من بلوغه ذلك الهدف، والآن نعيد سؤالنا: بأي معيار نقيس حركة التاريخ؟ فنقول إنها حركة إلى أمام وإلى أعلى، وعند الإجابة تتزاحم أمامنا المعايير، ولكنني أكتفي منها بما أرى أنه أهمها جميعا، وهو معيار «الحرية»، فالإنسان في سيره الحضاري يزداد حرية وبذلك يتقدم ويعلو في آن واحد، والحرية قد تكون في مجال السياسة وهذه أمرها معروف، لكن الحرية البالغة من الأهمية أقصى حدودها والتي لا أظنها سريعة الورود إلى أذهان الكثيرين هي الحرية التي يحققها العلم بالنسبة للقيود التي تقيد بها طبيعة الأشياء حرية الإنسان.

لو ترك الإنسان للأشياء وطبائعها لكانت له في السير سرعة معلومة ومحددة، فجاء العلم بقطاراته وسياراته وطياراته، فضرب تلك السرعة الطبيعية في ملايين، ولو ترك الإنسان ليرى بعينيه مجردتين لامتد بصره إلى مدى معلوم الحدود، فجاءت العدسات المقربة والمكبرة فضربت ذلك المدى المحدود في ملايين، وهكذا جاء الرادار بالنسبة إلى سمع الإنسان الطبيعي، فأسمعه ما هو أوهى من دبيب النمل على أبعاد تقاس بمئات الكيلومترات، وبهذا تحطمت قيود المكان التي كانت تغل الإنسان بأغلال أصلب من الحديد، كان على الإنسان أن يحمل أثقاله على جسده، فعرف منذ قديم كيف يستغل بعض الحيوان في التحرر من ذلك الشقاء، وأخيرا جاءنا العلم الحديث بروافعه التي تحمل أطنان الأثقال وكأنها تحمل قبضة من النمل أو من حبات الرمل، ولقد قرأت يوما في إحدى الصحف لأجنبي رأى عمال البناء ما زالوا ينقلون على أكتافهم وظهورهم أكياس الحجر والرمل وما إليها من مواد البناء، فأشفق على ضرب من العبودية لا يزال قائما بعد أن أنتج علم العصر ما يحرر الإنسان منه ... الحرية بكل أبعادها هي المعيار، أو قل إنها من أهم المعايير التي يقاس بها تقدم الإنسان وسموه ...

هي حياة من حياة من حياة ... فإلى أين يتجه موكب الحياة إذ هو في تسلسله هذا الذي قضت به مشيئة الخالق في خلقه أن مسيرة الإنسان إنما تتجه به نحو أكمل صورة إنسانية مستطاعة، وليس هذا الكمال المنشود في أداة البدن وما يحل فيه من أداة العقل وأداة الشعور وغيرها من أجهزة ركبت في طبيعة الإنسان، ولكنه في استخدام تلك الأدوات إذ هي بطبعها قابلة لأن تسمو وتسفل، وإنه لتروى رواية عن اليوناني «ديوجين» وهو يديم الطواف في أثينا وفي يده مصباح مضيء حتى وهو في وضح النهار، وكان كلما سئل فيم هذا المصباح أجاب إنني أبحث عن الإنسان فلا أجده، فعن أي إنسان كان ديوجين يبحث والناس من حوله تملأ طرقات المدينة؟ لا - ليس هؤلاء، فهؤلاء بعد بهم نقصهم عن الكمال، وربما أصاب الرجل في حكمه على مواطنيه، لكن الذي يهمنا نحن في سياق حديثنا هذا أن نسأل ترى ما الذي كان ديوجين يتوقع أن يجده في مواطنيه فلم يجده؛ فاختار لنفسه أن يطوف المدينة بمصباحه باحثا عن الإنسان ليعبر بهذا عن حسرته وأساه؟ وهنا مرة أخرى يقوم السؤال وما هو معيار القياس تقدما وتخلفا؟ ربما لو سئل «ديوجين» هذا السؤال لأجاب: المعيار هو مدى احتكام الإنسان إلى منطق العقل في مواجهة مشكلاته، فلقد عرف اليونان الأقدمون برفعهم لواء العقل، ولم يكن يرضيهم إلا أن يوضح لهم من يلجون في فكرة من الأفكار أو في قيمة من القيم إلا أن يرتد صاحب الفكرة أو الداعي لقيمة من القيم الأخلاقية أن ترد إلى «المبدأ» العقلي الذي تستند إليه فكرته أو القيمة الخلقية المعينة التي يدعو إليها.

لكن الإنسان عقل وأكثر، هو عقل وهو شعور، وعاطفة ونمط، من السلوك يسلك به في حياته، واقترابه من الكمال يتطلب العناية بتلك الجوانب من حياته جميعا، فعقل يلتزم منطق التفكير السليم، وشعور حساس لآلام الآخرين، وعاطفة تنعطف نحو ما هو خير، وما هو جميل وسلوك متعاون، ينأى بنفسه عن مواطن الإسفاف.

وإن الحي ليموت ليحيا بعد ذلك حياتين، حياة في الدنيا بحياة خلفه وحياة في الآخرة يحددها يوم الحساب.

قنافذ وثعالب

ليس هذا العنوان من عندي، بل إنه لم يكن من المستطاع له أن يكون، إذ جاء عند صاحبه ليرمز إلى قسمة الناس صنفين من المزاج، وأسلوبين في التعامل مع العالم المحيط بهم، ولما كان صاحب هذا العنوان، قد أقام تلك القسمة، مستندا إلى التشبيه بالتضاد الذي رآه بين القنافذ والثعالب، ولما كان من الضروري لمن يجري هذه الموازاة بين خصائص الإنسان وخصائص الحيوان، أن يكون على علم دقيق بدنيا الحيوان، علما يستمده من المشاهدة المباشرة أو من القراءة، فلست بحكم النشأة والثقافة واحدا من هؤلاء، شأني في ذلك شأن الكثرة الغالبة من المواطنين، فنحن جميعا نعرف القنفذ، ونعرف الثعلب، لكنها في معظم الحالات لا تزيد على المعرفة الظاهرية التي يحصل عليها المتفرج في حديقة الحيوان، لا معرفة الباحث عن صور الحياة كما يحياها هذا الحيوان أو ذاك.

وإنما صادفت عنوان «القنافذ والثعالب» عند الفيلسوف الإنجليزي المعاصر «أزايا بيرلن»، وكان أستاذا في جامعة أكسفورد، لكنه كان كذلك، ولا يزال، مرموقا بفكره المبتكر الثاقب، وبأسلوبه المطواع الذي يتموج به قلمه تموجا يساير معانيه صلابة وليونة، وعندما كتب «بيرلن» تحت هذا العنوان، كان موضوعه هو التفرقة بين الفلاسفة الأقدمين، أو قل الفلاسفة الذين امتد بهم الزمن حتى أوائل هذا القرن، من جهة، وفلاسفة عصرنا هذا خلال القرن العشرين، من جهة أخرى ... إذ قد تغيرت الروح بين أولئك وهؤلاء تغيرا يلفت النظر ... وليست التفرقة هنا تفرقة يراد بها المفاضلة بحيث نقول هذا أحسن من ذاك أو أردأ، بل أساس التفرقة هو ملاءمة المفكر مع ظروف زمانه ملاءمة تجيء معه عن غير قصد وتكلف مصطنع، بل تجيء معه كما تجيء الأنفاس شهيقا وزفيرا، فإذا كان السابقون من الفلاسفة قد دأبوا على أن يحاول كل واحد منهم أن يقيم بناء شامخا يتفرد به، ويجعله شاملا لكل فروع المعرفة، ولكل وجه من وجوه الكون، فإن فيلسوف عصرنا - لأن عصرنا هو أساس عصر «العلم» - قد جعل الجزئية الواحدة مما يرجح أن يكون له انعكاس على الحياة العلمية، جديرة وحدها بالوقوف عندها والانصراف إليها، ومن مجموع ما يتناوله أفراد الفلاسفة من موضوعات يحللونها إلى أدق ما يمكن أن ترتد إليه من عناصر وجذور، أقول: إنه من مجموع ذلك تتألف فلسفة هذا العصر، بعد أن كان الفيلسوف الواحد يستهدف أن يقوم وحده بإقامة بناء واحد يشمل عصره كله، بل ويطمع له أن يشمل الدهر من أزله إلى أبده.

ومن هنا جاء تشبيه «أزايا بيرلن» للفيلسوف فيما سبق بالقنفذ، وللفيلسوف في عصرنا هذا بالثعلب، والفرق الجوهري بين هذين الحيوانين، هو أن القنفذ مكور على نفسه، في حين أن الثعلب يجوب المكان كله، يجري هنا ويتسلق هناك، ويربض حيثما أراد أن يتربص، القنفذ ثابت في مكانه، يرى العالم من وجهة نظر واحدة، والثعلب متحرك يرى العالم من عدة وجهات للنظر، يريد القنفذ أن تأتي إليه دنياه حيث هو قابع، وما لا يأتيه فليس هو من دنياه، ويريد الثعلب أن يسعى إلى الدنيا حيث هي، وما لا يقع عليه هنا فليبحث عنه هناك، للقنفذ محور واحد يلف حوله الأجزاء ليوحدها في مخبأ واحد، وأما الثعلب فلا يستوعب حياته محور واحد، فحيثما وجد الصالح النافع وقف عنده ريثما يفرغ منه، ثم يسعى ليعثر على شيء آخر صالح ونافع ...

وأشعر كأنما أرى شبها من بعض الوجوه، بين قسمة الناس إلى قنافذ وثعالب، على يدي أزايا بيرلن، وقسمتهم عند وليم جيمس إلى ذوي أدمغة صلبة وذوي أدمغة لينة، إذ يريد بأصحاب الأدمغة الصلبة أولئك الذين ينشدون الحقائق، ولا يهربون من الواقع مهما يكن خشنا غليظا، بل هم يواجهونه ليعرفوا دنياهم على حقيقتها، حتى إذا ما أرادوا أن يغيروا وجها من وجوهها، عرفوا ما الذي يغيرونه وكيف يغيرونه، ومن أمثلة ذوي الأدمغة الصلبة، علماء الطبيعة على اختلاف الظواهر التي يتخصص فيها كل منهم في ميدانه، وقادة الجيوش، ورجال الأعمال، وأما أصحاب الأدمغة اللينة فهم أولئك الذين يفرون من الواقع وقسوته ويصنعون لأنفسهم داخل رءوسهم عالما يفضلونه على مزاجهم يحيون فيه، وحتى إذا هم أقاموا في عالمهم ذاك ضروبا من المشكلات يتسلون بمحاولة حلها، فهي عندئذ مشكلات من خلق خيالهم لا شأن لها بالواقع ومشكلاته، ومن أمثلة هؤلاء: الشعراء، والمتصوفة والفلاسفة المثاليون الذين يرون أن العالم هو كما أقاموه داخل رءوسهم من تصورات وأفكار.

فالقنافذ عند أزايا بيرلن، هي ما يقابل أصحاب الأدمغة اللينة عند وليم جيمس، والثعالب هناك هي هنا أصحاب الأدمغة الصلبة، ففي الحالة الأولى يكون المعول على ما انطوت عليه الذات، بغض النظر عن واقع الأشياء، وفي الحالة الثانية يكون مدار النشاط هو وقائع العالم المحيط بالكائن الحي، بغض النظر عما يشعر به ذلك الكائن الحي من حب لتلك الوقائع، أو كراهية، ثم لم أكد أستعرض هذين التقسيمين أمام عقلي، حتى قفز إلى جوارهما تقسيم ثالث، هو تقسيم «يونج» أفراد الإنسان إلى «مطوي» على نفسه و«منبسط» فالطرفان هنا متقابلان تقابلا واضحا، مع قنافذ أزايا بيرلن وثعالبه، كما هما متقابلان بدرجة الوضوح عينها، مع ذوي الأدمغة اللينة وذوي الأدمغة الصلبة «بهذا الترتيب» عند وليم جيمس.

فهذه كلها أسماء اختلفت فيما بينها، لكنها توشك أن تتفق على ما تسميه، ففي جميع التقسيمات الثلاثة، نجد الناس صنفين: صنف منها يعطي لذاته هو ومزاجها، أن تقرر ماذا يكون صوابا وماذا يكون خطأ، أو ماذا يعد فضيلة وماذا يعد رذيلة، وأما الصنف الثاني فيترك الحكم في هذا إلى الواقع الخارجي، فواقع الأشياء والمواقف هو الذي يبين متى تكون فكرة ما صحيحة ومتى تكون خاطئة، أو متى يكون فعل ما مسددا نحو الهدف المنشود، ومتى لا يكون، على أن تلك التقسيمات المتشابهة كلها، إنما تلجأ إلى التبسيط بغية التوضيح وإلا ففي كل إنسان يجتمع الطرفان معا في كل تقسيم، وغاية ما في الأمر، أن طرفا منهما تكون له الغلبة على الطرف الآخر في شخص معين، في حين يكون العكس في شخص آخر، وليس ثمة ما يمنع أن يتعادل الطرفان في شخص ثالث.

وليس هدفي من ذكر هذا الذي أسلفته، هو التمييز بين أفراد الناس من حيث المزاج والطبع بقدر ما هو التمييز بين ثقافات الشعوب؛ لأن تلك التقسيمات جميعا إنما تصف خصائص الثقافات، بنفس القوة التي تصف خصائص الأفراد - أو هكذا أرى - فهنالك من الشعب من ترك نفسه ليعيش داخل نفسه، في أفكارها وتصوراتها وأوهامها دون أن تقيس ذلك الداخل النفسي على أشياء الواقع الخارجي، ليعلم إن كان داخله مطابقا لخارجه أو لم يكن، كما أن هنالك من الشعوب كذلك من ألف أن يجعل الواقع الخارجي مصدرا لما يخزنه في رأيه من أفكار وتصورات، وبذلك يجيء السلوك قريبا من الواقع، فيكون أقرب إلى نجاح السالك في مسعاه.

فأين تقع ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة من هذا التقسيم يا ترى؟ ... إنني أطالب نفسي الآن بأن تجيء الإجابة متروية متأنية لعلني أهتدي إلى جواب فيه الدقة وفيه الصواب، وإنه ليبدو لي أن خير وسيلة للوصول إلى ما أبتغيه هي أن أرتد ببصري نحو صورة الثقافة العربية في القرون الأولى، بعد ظهور الإسلام، حين كانت تلك الثقافة في أعلى درجاتها، ولعل قوتها عندئذ قد جاءتها من قوة الإسلام ... فربما وجدناه أيسر علينا بعد ذلك أن نرى - بمقارنة الظروف التي كانت بالظروف التي هي الآن كائنة - أن نرى حالة الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة على حقيقتها: أهي في خصائصها مجسدة لخصائص القنفذ في انكفائه على ذاته، أم هي مجسدة لخصائص الثعلب في سعيه وانتشاره وبراعة حيلته؟ أيكون العرب المحدثون والمعاصرون من ذوي الأدمغة الصلبة التي تقوى على مواجهة الواقع وما يقتضيه ذلك الواقع من نفاذ فكر ومضاء إرادة، أم يكونون من ذوي الأدمغة اللينة التي تغمض عينها عن الواقع إذا وجدته مرا عسيرا، لتلوذ بأوهامها فتطهو لها تلك الأوهام وجبة الطعام كما تشتهيها؟!

وأترك الحاضر - إذن - لأستعيد صورة الماضي، وأول ما أقدمه في سبيل تلك الصورة هو أن أذكر بأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجمع في حياته بين أرض وسماء، فمن السماء وحي إلهي يهدي، وعلى الأرض سعي يهتدي، ثم يجيء له بعد ذلك يوم للحساب، أما ما سوى الإنسان من كائنات، فهي إما هي سماوية خالصة كالملائكة، وإما هي أرضية خالصة كالنبات والحيوان، «وأقصر حديثي هنا على الكائنات الحية»، وتأمل معي صورة المؤمنين كما وصفهم القرآن الكريم، فهم أولئك الذين يؤمنون: «بالله وملائكته» و«كتبه ورسله» و«اليوم الآخر»، ولقد وضعت لك الأجزاء بين أقواس لترى الجوانب الثلاثة في إيمان الإنسان المؤمن، فأولها إيمان بغيب سبق وجوده، وثانيها إيمان بالوحي وبمن نزل عليهم ذلك الوحي من الرسل، وثالثها إيمان بغيب يظهر بعد وجوده وهو حي على الأرض يسعى، ومن تلك الجوانب الثلاثة تتبين صورة الحياة الإنسانية إذا ما توازنت أركانها فهي حياة تسعى في دنياها على الأرض مهتدية في سعيها ذاك بمبادئ وقواعد جاءته وحيا من ربه وخالقه، ولئن كانت له حرية التصرف في ظل تلك المبادئ والقواعد، فهو في مقابل تلك الحرية مسئول في اليوم الآخر عما فعل وقال ...

لكن الإنسان لا يستطيع حفظ التوازن لحياته بين أمر السماء وسعي الأرض، إلا وهو قوي بإيمانه قوي بعقله قوي بإرادته قوي بوجدانه، وهكذا كان العربي المسلم في القرون العشرة الأولى بعد ظهور الإسلام، وفي القرون الأربعة الأولى منها بوجه خاص، وبدفعة من تلك القوة استطاع أن يجمع في توازن، بين انطواء الصوفي والشاعر وانبساط الجندي والعالم، لقد كان له في كل ميدان ما يرتفع به إلى الذرا، لم يخش انطواء إذا اقتضى الأمر انطواء ولا خشى انبساطا إذا اقتضى الأمر انبساطا؛ لأنه إنسان واثق من نفسه؛ لأنه - كما أشرت - قد عرف كيف يجمع بين سمائه وأرضه: تلقى الوحي مؤمنا بربه، واجتهد وجاهد على الأرض واثقا من نفسه، ثم تعلق رجاؤه بحسن الثواب يوم الحساب، فلو سئلت عن ذلك السلف: أقنفذا كان أم ثعلبا؟ «بالمعاني المحددة لهاتين اللفظتين، كما نقلناهما عن أزايا بيرلن في تقسيمه» أجبت أنه كان كليهما معا، ولكل خاصة من الخاصتين عنده مساقها وظروفها؛ ولذلك إذا سئلت: أفكان ذلك السلف من ذوي الأدمغة الصلبة أم كان من ذوي الأدمغة اللينة؟ «بالمعاني المحددة هنا أيضا لهذه العبارات كما أرادها صاحبها وليم جيمس» لقلت: كان كليهما معا، فقد كان صلبا في مجال الحقائق العلمية، وكان لينا في مجال الوجد والوجدان، أو إذا سئلت أكان السلف منطويا على نفسه، أم كان منفتحا على العالم؟ «بتقسيم يونج» أجبت بأنه كان كليهما معا إذا كان يعكف على نفسه في عبادته، ساعيا في فجاج الأرض مجاهدا ومتاجرا ومتدبرا عظمة الله في خلقه.

قلنا: إنه في حالات القوة تتوازن حياة الإنسان بين ما أوحي له من السماء، وما هو ملاقيه في سبيله وهو ساع في مناكب الأرض، ثم ما هو موجه إليه من رجاء في رحمة الله وثوابه في اليوم الآخر، وهكذا كانت حياة السلف في مجموعها، إذا جعلنا مدار الحكم ما صنعوه وما خلفوه، وأما إذا لحق الضعف بالإنسان، فشأنه عندئذ شأن آخر، والضعف قد يلحق به من جانب واحد أو من عدة جوانب، فهو قد يجهل مبادئ الحياة القوية الكريمة كما أرادها له الله، فيضل به السبيل، أو هو قد يكون على علم نظري بتلك المبادئ والقواعد، لكنه يجهل كيف يكون تطبيقها الصحيح في مرحلة الحياة الدنيا ... وقد يكون على علم بهذه وتلك، ولكن قوة ظالمة غاشمة قد دهمته فحالت بينه وبين أن يحيا وفق ما يعلم، ففي حالة الضعف أيا كانت صورته، يغلب أن يحدث أحد أمرين: فإما أن ينصرف عن الدنيا وشئونها لينجو بنفسه على أمل في ثواب الآخرة، وإما أن ينغمس بكل وجوده في ملاذ الدنيا، يأسا من حياة تسمو به، وعندئذ تصدق التقسيمات التي أسلفنا ذكرها؛ لأن الفرد من أفراد الناس يقع في مصيدة: إما هذا وإما ذاك، إذ هو في حالة من الضعف يتعذر عليه معها أن يجمع الطرفين جميعا، وها هنا يصبح السؤال: أهو من قبيل القنافذ أم من قبيل الثعالب؟ أهو صلب الدماغ أم لين الدماغ؟ أهو منطو على نفسه أم منبسط على العالم؟

وبعد هذا الذي قدمناه، يحين حين سؤالنا عن العربي المسلم في تاريخه الحديث والمعاصر، وهو: ما محور ثقافته؟ ما نظرته إلى نفسه وإلى الدنيا من حوله؟ وهل تقيدنا التقسيمات المذكورة فيما أسلفناه؟ هل تفيدنا في الكشف عن حقيقته؟

إننا إذا افترضنا أن الفترة التاريخية المقصودة بالسؤال هي هذا القرن العشرون فيما مضى من أعوامه، وجدنا الإجابة تختلف باختلاف المراحل الزمنية داخل تلك الفترة، لكننا، ابتغاء التبسيط، سنغض النظر عن مواضع الاختلاف لنركز انتباهنا في الجوانب المشتركة المتصلة خلال الفترة كلها، فهي فترة لم ينقطع فيها الصراع بين شعوب هذه المنطقة كلها وبين الغرب على اختلاف أقطاره، وهو صراع كنا نحن فيه الأضعف وكان الغرب هو الأقوى، لكن ذلك التفاوت لم يمنعنا من الجهاد لنحقق لأنفسنا ما لا بد من تحقيقه إذا صينت كرامة الإنسان، وهو أن يكون الإنسان حر الإرادة ومسئولا عما يفعل، ولقد اتفقنا جميعا على ضرورة الجهاد في سبيل الكرامة المفقودة، فكان لا بد لنا - بالتالي - أن نتفق جميعا على أن تكون نقطة البدء هي أن نعمق في أنفسنا خصائص هويتنا الذاتية؛ لكي نشعر بأن لنا كياننا الخاص الذي من أجل صيانته نجاهد، وماذا تكون عناصر الهوية الذاتية إذا لم يكن في مقدمتها العقيدة الدينية مصحوبة بالأركان الأساسية في بناء الذات الإنسانية كاللغة وطائفة ضرورية من النظم والتقاليد؟ لهذا بدأت ثوراتنا هنا وهناك من سائر الأقطار العربية، بإحياء الروح الدينية وإحياء التراث.

لكننا إذا كنا قد اتفقنا جميعا على تلك البدايات ووجوبها، فلقد تشعبنا بعد ذلك، فمنا من رأى أن ذلك الإحياء بوجهيه كاف لتحقيق أهدافنا، ومنا من رأى ضرورة أن يضاف إلى ذلك الإحياء أخذ عن الغرب الجديد أصول حضارته وشيء من مقومات ثقافته، ولبثت هاتان الشعبتان جنبا إلى جنب على امتداد الفترة التي نضعها الآن موضع النظر الفاحص، لكن المقادير تفاوتت معهما ضعفا وقوة، فكانت القوة الأقوى للشعبة الثانية، وأعني تلك التي أرادت إحياء الروح الدينية وإحياء التراث، وأن يصحب ذلك الإحياء أخذ الغرب بكل قوة وإيمان، أقول: إن القوة الأقوى كانت لتلك الشعبة الثانية، وخفت صوت الشعبة المكتفية بمجرد الإحياء خفوتا حتى أوشك ألا تسمعه الآذان كلما جد الجد من أمور الحياة، ونستطيع مع قليل من التحفظ أن نقول إن تلك الحالة قد امتدت بنا من أول القرن إلى هزيمة 1967، برغم كل ما ظهر من تيارات تساند جماعة الإحياء المجرد، وأما الأعوام التي كانت تلك الهزيمة بدايتها فقد شهدت تحولا في ميزان القوى، فأخذت شعبة الإحياء المجرد تزداد قوة وارتفاع صوت، وها هنا نذكر عن هذه الجماعة حقيقة تدعو إلى العجب، فهم إذ يذيعون في الناس هذه الدعوة تراهم في حياتهم العملية لا يحرمون أنفسهم ولا أبناءهم من كل ما ينعم به إنسان مما أنتجته حضارة الغرب المرفوضة منهم، وجوانب ثقافتهم المنبوذة، وإننا لنحمد الله على تلك الازدواجية فيهم؛ لأنها كانت هي السر في أن حياتنا العملية تمضي في طريقها، وكأن تلك الشعبة وأنصارها ليست بذات وجود ...

لكننا مع ذلك نأسف، حين نرى الناس - والشباب منهم بخاصة - نراهم اضطربت الرؤية أمام أبصارهم، ولم يعودوا على بينة واضحة: كيف يسلكون ليرضى عنهم الله، ولتستريح منهم الضمائر؟ فلئن كان الإنسان - بحكم التربية والنشأة - إما أن يجيء مكورا على نفسه، مكبا على وجهه، كما تفعل القنافذ ، وإما أن يكون جوابا للآفاق، ساعيا في مناكب الأرض بحثا عن الصيد أينما وجد، كما تصنع الثعالب، أقول: إنه إذا كانت تلك هي طبيعة الإنسان في تأثره بالتربية والنشأة، فهنالك ثلاثة احتمالات ذكرناها فيما أسلفنا: أولها: أن يقف الإنسان من الحياة موقف القنفذ الخالص أو موقف الثعلب الخالص، كالذي رآه «أزايا بيرلن» عند مقارنته بين الفلاسفة السابقين والفلاسفة المعاصرين ... وثانيها: أن يجمع الإنسان في حياته بين انطواء القنفذ وانبساط الثعلب، بأن يجعل للانطواء أوقاته، وللانبساط أوقاته، كالذي رأيناه في أسلافنا من العرب إبان القرون الأولى من تاريخ الإسلام ... وثالثها: هو أن يظهر الإنسان أمام الناس وكأنه قد انطوى على عقائد تاريخه انطواء القنفذ على ذاته، لكنه في الوقت نفسه إذ هو على حقيقته أمام نفسه يدأب ساعيا وراء الصيد حيثما كان، كالذي نراه في حياتنا اليوم ...

لكن هذه الحياة المزدوجة التي يحياها السادة، الذين يقع في أيديهم اليوم معظم القيادة الفكرية للأمة العربية ويرتفع صوتهم ارتفاعا لا يستطيع أن يزاحمه صوت آخر، أقول: إن هذه الحياة المزدوجة التي يحياها هؤلاء السادة، بحيث يظهرون أمام الناس وكأنهم مدثرون بدثار السلف، ثم لا يفوتهم في الخفاء أن ينعموا بطيبات العصر وحضارته، قد أضرتنا ضررا بليغا، ففضلا عن اضطراب الرؤية الذي أصاب شبابنا، فهم كذلك بمثابة من جعلنا نقترب من عصرنا بنصف عزيمة، تملؤنا الريبة في حقيقته وطبيعته، مما نتج عنه أن ضعفت فينا روح المشاركة الإيجابية الفعالة في مسيرة العلم وما يلحق به، واكتفينا بأن نأخذه من علوم عصرنا وفنونه ونظمه، أخذ السارق لجهود غيره، لا أخذ المشارك في تلك الجهود ...

أنا أريد - إذن - أنا إنسان

قصة الإمام أبي حامد الغزالي مع نفسه، معروفة لكل من أسعده الحظ فانصرف بعقله وبقلبه حينا، إلى هذا العملاق العظيم، ليأخذ عنه شيئا من منهجه ومن فكره الذي نتج له عن ذلك المنهج ... وإنما عنيت بقصته مع نفسه ما قد حدث حين تأزمت به نفسه بسؤال لم يجد له الجواب المقنع، فأخذه القلق الذي لم يدعه لحظة ليستريح، فلم يكن له من سبيل إلا أن يترك بغداد، حيث كان يلقي دروسه، وحيث كان يقيم مع أسرته، فترك كل شيء وأخذ يرتحل ثم يرتحل ويحل إلى أن يفتح الله عليه بجواب عن سؤال؛ وذلك لأن السؤال لم يكن من تلك الأسئلة العابرة التي تطوف برأس صاحبها، ثم سرعان ما تختفي لتسقط في بحر النسيان سواء أوجد لها صاحبها جوابا يقنعه أم لم يجد، كلا، بل كان السؤال الذي ألح عليه، من ذلك النوع الذي يجيء ليبقى، وغالبا ما يصبح في حياة صاحبه نقطة بدء تضعه على منعرج في طريق حياته، فلقد دار في نفس الغزالي خاطر، هذا هو فحواه: إنني أثبت وجود الله «سبحانه وتعالى» بأدلة من آيات كتابه فيؤمن بها السامع كما أنا مؤمن بها؛ لأن كلينا كان قبل الإثبات على إيمان سابق بالكتاب، لكن ماذا لو أنني وجهت تلك الأدلة نفسها إلى غير مؤمن بالكتاب؟ إن أدلة الإثبات لا بد لها أن تستند إلى شيء في فطرة الإنسان من حيث هو إنسان، لا فرق في ذلك بين من آمن ومن لم يؤمن، فماذا عسى ذلك الشيء أن يكون؟

هذا هو السؤال الذي ضيق عليه الخناق حتى تأزمت نفسه فغادر بغداد، تاركا طلابه وأسرته وأخذ، وهو في أزمته تلك، يسافر ويقيم ثم يقيم ليسافر، إلى أن فتح الله عليه بجواب استراح له عقله كما اطمأن له قلبه في آن معا، وعندئذ عاد إلى بغداد ليستأنف ما قد كان فيه، ولكن شتان ما بين الحالتين، فالفرق بعيد بين رجل يقول ما يقوله لنفسه وللناس، وضميره يتأرق لشك يراوده، ورجل آخر يرضى ضميره عما يقول ...

وهناك في بغداد بعد عودته، كتب آيته الفريدة «المنقذ من الضلال»، وهو بمثابة ترجمة ذاتية، يروي فيها بدقة وصدق وإخلاص عن تلك الخبرة الداخلية التي خاضها، والتي لولا فضل الله عليه بأن هداه إلى ضالته، لضل هو نفسه وانحرف عن جادة الطريق، لكن الغزالي إذ ترجم لذاته، قد صور في الوقت نفسه أهم التيارات الفكرية التي سادت عصره ليرد على مزاعمها تيارا بعد تيار، مستهدفا أن يصل بالقارئ آخر الأمر إلى الوقفة الفكرية التي اهتدى إليها بعناية من الله ...

ولما كان مداره في وقفته الفكرية الجديدة هو الوسيلة التي يدرك بها الإنسان وجود الله سبحانه (وكلمة «الإنسان» هنا تعني أي إنسان، آمن أو لم يؤمن بدين الإسلام) أقول: إنه لما كانت وسيلة الإنسان في إدراك وجود الله إدراكا لا يحتمل الشك هي لب وقفته الجديدة، فقد اضطر في كتابه «المنقذ من الضلال» أن يستعرض وسائل الإدراك المختلفة وأدوارها في حياة الإنسان العقلية، ليبين لنا أن كل وسيلة منها ضرورية في مجالها، لكنها لا تسعف صاحبها بشيء من العلم الصحيح خارج ذلك المجال. وتلك الوسائل درجات تتفاوت صعودا فتتفاوت دقة، ويتبع ذلك أن يتفاوت الناس كذلك من حيث قدارتهم العقلية، فالأقل قدرة يكفيه الوسيلة الإدراكية الأقل دقة، وهكذا تتصاعد وسائل الإدراك مع تصاعد القدرات عند أفراد الناس، حتى تبلغ ذروة الوسائل عندما تبلغ ذروة الحق؛ وأعني وجود الله - جلا وعلا - وواضح أن تلك الذروة إذا كانت من نصيب الصفوة القادرة، فإن تلك الصفوة نفسها هي التي تنقل العلم الصحيح إلى من لم يكونوا قادرين على تحصيله بأنفسهم تحصيلا مباشرا.

وأدنى وسائل الإدراك التي أشرنا إليها، هي أن يحصل الإنسان معرفته عن طريق التواتر، بمعنى أن يكتفي الإنسان بما يسمعه شائعا بين الناس دون أن يقوم هو بإثبات صحة ما سمعه من أفواه الناقلين، ثم تتلو هذه الدرجة صعودا وثباتا ما يحصله الإنسان بحواسه تحصيلا مباشرا، فيكون هو الذي رأى الشيء بعينيه أو سمعه بأذنيه بغير وسيط ينقله إليه، ثم تتلو هذه الدرجة صعودا ودقة مرحلة «العقل»، فها هنا يكون إثبات صحة الحقيقة المعينة قائمة على الدليل العلمي القائم على منهج البحث العلمي، لكن هذه المرتبة العقلية العلمية المنهجية، إنما تقتصر قيمتها على ما هو ممكن للعقل أن يطبق عليه منطقه ومنهجه، ويبقى وجود الحق - سبحانه وتعالى - فوق هذه الدرجات كلها، ولا بد لإدراك وجوده من وسيلة أخرى، وتلك الوسيلة الأخرى هي الرؤية الباطنية، فتأمل ذات نفسك لترى كيف تعمل، وهناك سيلفت نظرك ما يحدث عندما تريد القيام بتحريك جارحة من جوارح بدنك، كأن تريد - مثلا - أن ترفع ذراعك أو أن تمدها أو تريد القيام بعد قعود، أو القعود بعد قيام، تأمل نفسك جيدا في أية واحدة من تلك الحالات، إنك لن «ترى» شيئا بمعنى الرؤية بالعين ولن تسمع شيئا بمعنى السمع بالأذن ... لكنك مع ذلك تحس في جوف ذاتك بالعزيمة التي تعزم بها أن تحرك البدن على النحو الذي «تريد»، فإذا تذكرت أن أقل حركة يتحرك بها جزء من البدن لرفع الذراع، أو القيام بعد قعود أو المشي ولو خطوة واحدة تقتضي أن تتناسق ألوف الألوف من الخلايا والأعصاب والعضلات إلخ إلخ ... فإنها همسة خاطفة غير مسموعة يعزم بها الإنسان، ففي لا زمن - لا تقل في «ثانية» أو في عشر معشار الثانية - لا، لا تقل ذلك لأن استجابة تلك الألوف من ألوف الأجزاء، تتناسق معا لأداء حركة واحدة «معا» تأتي في لا زمن، فالهمسة الإرادية الداخلية وما ينتج عنها وجهان لحقيقة واحدة، إنهما يحدثان معا ... ومن هذه الرؤية الباطنية نفهم معنى الخلق وكيف يتحقق وجوده استجابة للقول: «كن»، فكأنما الإرادة داخل الإنسان هي القائلة «بالعزيمة لا باللسان»: «كن»، فيكون ذلك التناسق بين ألوف الألوف من خلايا الجسد وأجزائه، وإذا كان الأمر كذلك في الإنسان على حدوده، فهو عند الله - جلت قدرته - في لا نهائيته المطلقة من كل حدود، وإذا شئنا أن نصوغ الوقفة الغزالية في مبدأ واحد مركز المعنى كانت الصيغة هي: «أنا أريد، إذن، أنا موجود قادر» ...

ولا بد أن تكون هذه الصيغة التي اخترناها لنصب فيها الوقفة الغزالية، قد ذكرتك بالصيغة الديكارتية المعروفة: «أنا أفكر، إذن أنا موجود» (وديكارت بعد الغزالي بنحو ستة قرون)، وحقيقة الأمر هي أن الشبه شديد من حيث «المنهج» - وليس من حيث المحتوى - بين الغزالي وديكارت، واقرأ عن خطوات المنهج الذي يؤدي بالإنسان إلى اليقين في كتاب «محك النظر» للغزالي، تجد نفسك على وشك أن تتساءل: وماذا بقي بعد ذلك لديكارت؟ إذ ربما كان ركن الأساس في المنهج عندهما واحدا، وهو ضرورة البدء بحقائق لا تحتمل أن يشك فيها بحكم طبيعتها المنطقية ذاتها، ثم هنالك بين الرجلين شبه آخر، لا يقل أهمية عن ركن الأساس الذي ذكرناه لتونا، وذلك الشبه الآخر هو أنه بالرغم من أن المبدأ الديكارتي يبدو وكأنه استدلال نتيجة من مقدمة، ففي كلمة «إذن» التي بين الطرفين ما قد يوحي بأن الطرف الثاني مستدل من الطرف الأول، إلا أن حقيقة الأمر عنده هي أن طرف «التفكير» وطرف «وجود المفكر» وجهان لحقيقة واحدة، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام الغزالي، فإذا كانت الإرادة هي بمثابة الأمر «كن» فتأتي الاستجابة، فها هنا كذلك يكون الطرفان وجهين لحقيقة واحدة، وبعد ذلك فلتنظر إلى باطن نفسك مرة أخرى وراقبها جيدا عندما تهم بعزيمتك على إحداث حركة بدنية كيف تجيء تلك الحركة المرادة بعد العزم بها في لا زمن، على أن ذلك - بالطبع - لا يمنع أن تتعلق إرادتك بفعل تريد له أن يتحقق بعد حين؛ فلا يكون هناك فجوة زمنية بين الإرادة من جهة والإرجاء من جهة ثانية ...

طريق طويل سرناه معا فيما أسلفناه، وكان كل أملي أثناء كتابتي للأسطر السابقة هو ألا يأخذك الملل فتترك القراءة قبل أن تصل إلى ما أكتبه الآن؛ لأنه هو الغاية المقصودة بالحديث كله، فلقد أردت أن أضع في رأسك فكرة تؤمن بصدقها، وتشكل سلوكك على أساسها طواعية منك واختيارا؛ ولذلك قدمت ما قدمته ليكون هو الأساس الراسخ المتين، الذي نقيم عليه فكرتنا هذه التي نقدمها الآن، وهي أنه إذا كان وجودك ووجودي، إنسانين من البشر المسئول عما يفعل أمام ربه وأمام ضميره، مرهونا بأن يكون الواحد منا «مريدا» أي أن تنبع إرادة الفعل المعين نابعة من عزيمته هو، من ذاته هو، من ضميره هو، ترتب على ذلك نتيجة حتمية، وهي أن ما يريده سواك غير ملزم لك، إلا إذا أحسست بأنه مطابق لما تريده أنت كذلك، وأن آدميتك إنما تقاس بمقدار ما أردت أنت لا ما أراده الآخرون، وأكرر مرة أخرى: إلا إذا كان ما أراده الآخرون مطابقا لما كنت تريده أنت لو كنت أنت البادئ بالإرادة وتنفيذها.

وما يتفرع عن هذا الأساس، يكون له من الصواب ما للأساس نفسه، وأول ما يتفرع عنه، مما يهمني ذكره، هو أنه إذا كانت إرادة فرد لا تلزم فردا آخر مجاورا له، فمن باب أولى ألا تكون إرادة أرادها أبناء عصر معين، ملزمة لأبناء عصر آخر، وأكرر التعليق نفسه مرة ثالثة فأقول: إلا إذا أحس أبناء العصر التالي أنهم كانوا ليريدون الشيء نفسه لو كانوا هم البادئين.

كان من الجوانب التي جاءت مشتركة بين الغزالي وديكارت أن كليهما أقام دليله على وجود الله، على الطريقة التي أثبت بها وجود نفسه، لكن الفرق بينهما في ذلك هو أنه بينما تعقب الغزالي في ذاته فاعلية «الإرادة»، كانت فاعلية «الفكر» هي التي تعقبها ديكارت، فكأنما يقول الغزالي إنه موجود ما دام كائنا مريدا، على غرار ما قاله ديكارت بعد ذلك إنه موجود ما دام كائنا مفكرا، فالمنهج واحد كما ترى والمضمون يختلف ... وإني لأذكر تلك الساعة البعيدة من حياتي، هي بعيدة بعد ما قد يزيد على أربعين عاما حين قرأت لوايتهد جملة وردت في سياق حديث له لم أعد أذكر في أي كتاب من كتبه، يقول فيها: «إن الإسلام يجعل الأولوية للإرادة»، وعند قراءتي لتلك الجملة تركت الكتاب مفتوحا أمامي وشردت بنظري إلى الأفق أسائل نفسي: هل هذا صحيح؟ وبعد لحظات أجبت نفسي: نعم إنه صحيح فيما يبدو، ولست أظن أن تلك الفكرة كانت قد امتلأت في ذهني بغزارة معناها، كما هي ممثلة به الآن.

فكل ما علينا - إذن - هو توليد النتائج التي تترتب على هذه الحقيقة الأولى: ومن أبرز ما يترتب عليها من نتائج، أن آدمية الآدمي تهدر بمقدار ما يخضع نفسه لنمط سلوكي مفروض عليه، دون أن يعلم لماذا يسلك ذلك السلوك النمطي ما دام هو سلوكا لم يكن وليد إرادة منه، ولا هو يشعر في ذات نفسه بأنه لو ترك ليريد حرا مختارا لإرادة، وهنا قد يقال: أيكون معنى ذلك ألا قواعد تتبع ولا قوانين تطاع؟ والجواب هو التأكيد بأن واحدية القاعدة أو القانون لا ينفي تعدد صور التطبيق بين الأفراد في العصر الواحد، ومن باب أولى أنها تتعدد بين الأفراد من أبناء العصور المتباعدة، إن واحدية القاعدة النحوية الموجبة لرفع الفاعل ونصب المفعول لا تعني أن جميع من يعملون بها يلتقون عند صورة واحدة من القول، والقواعد في لعبة كرة القدم واحدة، لكن لكل لاعب أسلوبه تحت تلك القواعد، وأسس البناء الموسيقي مشتركة، لكن كل شيء في التلحين الموسيقي ينفرد بطريقته ... ولنقف لحظة قصيرة عند كلمة «تلحين» هذه ... ألم يلفت نظرك معنى كلمة «لحن» وكيف أنها تعني معنيين يبدوان بعيدين كل البعد أحدهما عن الآخر، فالخطأ في نحو اللغة «لحن» وكذلك التشكيل الصوتي في الموسيقى «لحن»، والعلاقة بين هذين المعنيين، هي أن اللحن معناه خروج على النمط المألوف، فإذا كان النمط المألوف في اللغة هو أن يرفع الفاعل، كان نصبه لحنا، وكذلك يكون الخروج بالجملة المعنية عن الطريقة المألوفة في نطقها، وجعلها موسيقية لحنا ... وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأنه إذا كان هناك «نمط» سلوكي شائع في المجتمع أو موروث من السلف، جاز للفرد الواحد أن «يلحن» فيه بمعنى أن يحافظ على جوهر معناه، ولكن بطابعه الشخصي، أما الذي لا يجوز، فهو أن يلحن فرد في سلوكه على نمط معين، بمعنى أن ينحرف به نحو صورة تفسد معناه.

هذه الخصائص السلوكية التي تميز الفرد من أفراد الناس دون سائر الأفراد، هي في صميم الصميم من مكانة الإنسان وكرامته ومسئوليته؛ لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بحرية إرادته، نعم، إن هنالك في كل جماعة بشرية أنماطا سلوكية يجب على كل فرد من أفراد هذه الجماعة أن ينهج نهجها وإلا لانعدم انتماء الفرد إلى جماعته ... لكن حتى في هذه الحالة، لا يكون النمط السلوكي العام أكثر من «إطار» يجري سلوك الأفراد تحت مظلته، مع بقاء الهامش العريض الذي يسمح بالاختلافات الفردية، وفي هذا الهامش يجيء «اللحن» الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة ... فإذا جاء اللحن انحرافا عن النمط العام نحو الأعلى، كان صوابا أكثر من الصواب، وأما إذا جاء اللحن انحرافا بالنهج العام نحو الأسفل، كان هو اللحن الذي يعني الخطأ والضلال.

لقد أخذ «الإسلام» اسمه هذا، من وجوب أن «يسلم» المؤمن إرادته لإرادة الله، فهذا أمر واجب، لكن ما معناه؟ إنه يستحيل أن يكون المعنى هو أن يتجرد الإنسان من إرادته، وإلا لسقطت عنه المسئولية الخلقية، والمسئولية القضائية وكل مسئولية أخرى ... وهل يسأل النهر المتدفق من الجبل إلى بطن الوادي عن تدفقه؟ أو تسأل الريح العاصفة لماذا عصفت كما عصفت؟ فإذا كان ذلك كذلك فماذا يكون معنى أن يسلم المؤمن إرادته لمشيئة الله؟ لا بد أن يكون المعنى منصبا على المبادئ دون طرائق العمل في إطارها، فطرائق العمل في ظل مبدأ معين، متروكة لإرادات الأفراد، حتى تصح عليهم المسئولية الأخلاقية، وقد تضاف إليها أيضا مسئولية قضائية، وهذا لا يتناقض مع «علم» الله السابق لمجرى الأحداث كيف يسير، إنني إذا أردت السفر بسيارتي من القاهرة إلى الإسكندرية، وقلت للسائق عند بدء السير، اتجه بنا إلى الإسكندرية بالطريق الزراعي، كان ذلك بمثابة «المبدأ» الذي في إطاره يسلك السائق، لكن تفصيلات سلوكه بعد ذلك تترك لإرادته كيف يواجه مشكلات الطريق، ومتى يبطئ السرعة ومتى يزيدها، في أي الظروف يتجه بالسيارة إلى يمين الطريق، وفي أيها يسير بها إلى يساره، وهكذا، وبهذه الحرية يكون مسئولا عما يحدث من أخطاء.

وأتصور أن تكون الإرادة الإلهية العليا التي على الإنسان أن يلتزمها مع تفصيلات سلوكية تترك له الحرية فيها، وتقع عليه المسئولية فيما يترتب عليها، هي أن يسير الإنسان على النهج العام الذي يسير عليه الكون العظيم، كما خلقه الله وكما أراد له أن يسير ... فالأساس - إذن - هو: نظام لا فوضي، تعمير لا تخريب، بناء لا هدم، نماء لا ضمور، ازدهار لا ذبول، قوة لا ضعف ، تعاون لا تناحر، خير لا شر ... إلخ، على أن الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل في رسالاته السماوية مجموعة من الأوامر والنواهي، تتجه كلها نحو أن تعين على إقامة ذلك الإطار المبدئي العام، فالكون تحكمه قوانين، وعظمة الله إنما تتجلى في أن القوانين مطردة لا خلل في اطرادها، وحتى إذا ظهرت ظاهرة قد يظن أنها قد شذت عن القانون، كانت حقيقة الأمر فيها هي إنما خضعت لقانون آخر أعم وأشمل.

ومدى ما يستطيعه الإنسان إزاء تلك القوانين إذا أراد معرفتها - ولا بد له أن يريد ذلك طاعة لأمر الله في كتابه الكريم - أقول: إن غاية ما يستطيعه الإنسان في هذا السبيل، هو أن يحاول قراءة الظواهر الكونية - أي فهمها - بالكشف عن قوانينها، فهنالك «ضوء» يراه، فما هي القوانين التي تنظم مسارات الضوء؟ وها هنا يمكن أن يكون للعلماء في كل عصر طريقة يختلفون بها عن علماء العصر الذي سبق عصرهم، وذلك حين يتكشف لهم أن فهم السابقين لظاهرة الضوء لا تغطي كل الحالات التي شهدها الإنسان في مجال تلك الظاهرة، فتبدأ محاولة جديدة نحو قراءة جديدة، لعلهم يقعون على ما يفسر جميع الحالات التي صادفتهم في ظاهرة الضوء، وهكذا يتقدم العلم، لكنه في كل خطوة من خطوات تقدمه، لا يستغني عن افتراض مبدئي ضروري، هو أن هنالك «نظاما» ما ... ونحن البشر نبحث عن ذلك النظام، ولا يعقل أن يجد الإنسان نفسه مدفوعا نحو البحث عن قوانين الكون، أي البحث عن «نظامه»، ثم يكون هذا الإنسان قد بنى على الفوضى بغير أهداف، وبغير وسائل يحقق بها ما استطاع من تلك الأهداف.

وهل تعرف يا صاحبي، ماذا كان الجديد الذي طرأ على قراءة العلماء لظواهر الكون إبان القرن الماضي، فقيل: إن الإنسان قد دخل من مراحل تاريخه «عصرا» جديدا، وذلك العصر الجديد هو عصرنا هذا الذي نحيا اليوم في رحابه؟ إنك إذا أردت الدقة في التمييز بين قولنا «الحديث» وقولنا «المعاصر» فيما اصطلح عليه مؤرخو الفكر بشتى نواحيه، فاعلم أنهم قد اتفقوا على أن يكون «الحديث» هو ما امتد من النهضة الأوروبية في نحو القرن السادس عشر، حتى أوائل القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك التاريخ الذي انتهى عنده «الحديث» بدأ «المعاصر»، ونحن نسأل: ما الذي حدث في حياة الإنسان العلمية، فجعل حدا فاصلا بين عصر ذهب وعصر جاء؟ فقبل ذلك الحد الفاصل، كان أساس الفهم لأي حدث يقع، هو مبدأ القصور الذاتي في الأشياء، بمعنى أن الشيء لا يحرك نفسه، فإذا تحرك وجب البحث عن عامل خارجي أدى إلى تحريكه؛ وعلى هذا الأساس بنيت الرؤية العلمية كلها ... فلما وجد أن مثل هذا الأساس لا يفسر كل الظواهر كما تبدو للإنسان، فالشجرة - مثلا - لا تنمو لمجرد أن حولها عوامل الضوء والهواء والتربة والماء، فالحجر تحيط به تلك العوامل ذاتها ولا ينمو، إذن يجيء نمو الشجرة نتيجة اعتمال حيوي ينبثق من صميم طبيعتها، وإذا صح هذا، كانت الرؤية المعاصرة بمثابة من يجعل للإرادة أولوية على سواها، في الكون وفي الإنسان ... ونسأل: وهل يا ترى يقتصر الأمر في تحول الرؤية على هذا النحو، على الكائنات الحية وحدها؟ ويسرع إلينا الجواب: كلا ... إنه يشمل الكون كله، من حيث هو منظومة كبرى متصلة أجزاؤه بعضها ببعض، في كيان عضوي واحد، كما يشمل كل ذرة صغيرة على حدة، وانظر إلى ما يقولونه عن داخل الذرة من كهارب لا تكتفي بأنها في حركة دائبة، بل هي كذلك تقفز في حركتها تلك قفزات لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها ... فما معنى هذا كله؟ معناه أنه لا بد من إعادة النظر في الطريقة التي نفهم بها قوانين الكون ونظامه، وليس الذي تغير هو هذا النظام أو تلك القوانين، بل الذي تغير هو طريقة الإنسان في النظر.

ولو كان الإنسان مقيدا في حياته بقوالب من حديد، ومقيدا في تفصيلات سلوكه بأنماط أرادها آخرون لأنفسهم وعاشوها، لما كان في وسع الإنسان أن يواجه مفاجآت الطريق بمثل ما يقابل سائق السيارة الماهر مفاجآت طريقه ... إنها إرادة في فطرة الإنسان كما فطره خالقه، وهي حرية لتلك الإرادة، يكون الإنسان بسببها مسئولا عما يفعل، وبمثل هذه الإرادة الحرة في طبيعة الإنسان، عرف الإمام أبو حامد الغزالي ربه ... وسبحان العلي العظيم ...

فالق الحب والنوى

إنك لتنظر إلى حبة القمح، أو نواة التمر، فتحسب أنك إنما تنظر إلى قطعتين من الجماد الأصم الأخرس، كأنهما حصاتان ألقت بهما الأحداث، ثم أهملتهما على أرض يباب، وقلما يطوف بذهنك أن ما أمامك خزانتان اختزنتا طاقة حيوية جبارة القوى، تنتظران الظروف المواتية، ومعها مشيئة الخالق جلت قدرته وتدبيره وحكمته، وإذا بحبة القمح تتفتح عن عود حي يغتذي من الأرض طعاما، ويرتوي من ماء المطر شرابا، ويستمد من الهواء ومن الضياء فاعلية ونماء، حتى ينتهي إلى حمل من سنابل، تحمل كل سنبلة منها حبات من القمح تعد بالعشرات، وكذلك تتفجر نواة التمر عن عملاقة من النخل، ترفع رأسها لتبلغ ما بلغته الأبراج العالية، لولا أن هذه الأبراج البشرية مصمتة الصخر لا فعل لها ولا تفاعل، وأما النخلة السامقة فمن عناصر الأرض طعامها، ومن غيث السماء سقياها، تحمل في جوفها سر الحياة لتطرحه كل عام عراجين مثقلة بثمارها حمراء أو صفراء، كأنها عناقيد الياقوت والذهب ساطعة في ضوء الشمس، اللهم سبحانك أمن التراب ألوان بهية وطعوم فيها حلاوة؟!

فانظر يا أخي إلى الفارق البعيد، بين ما رأته العين حبة ونواة، كانتا في رؤية العين كأنهما جماد لا يحس ولا يعي، فإذا هما - وقد شاء لهما خالق الكون أن تواتيهما عوامل الغذاء والماء والهواء والضياء - تبديان العجب وتخرجان العجاب، فماذا أنت قائل - إذن - في ذرية بشرية، لم يكن الفارق بينها ساعة ميلادها وكأنها الفراخ العارية من الزغب والريش - ثم إذا رأيتها بعد ذلك وقد خرج منها رجال ونساء، أقول: كم يكون الفارق بين أن تواتيها في نمائها ظروف تستخرج كل ما أودعها ربها من مواهب وقدرات، وبين أن تهمل لتنمو بأجسادها طامسة في أجوافها ودائع الله فيها من كنوز المواهب؟ أرأيت يا صاحبي كم يكون الفرق بين آلة الموسيقى وهي ملقاة على الأرض في صمت، وبينها حين تلتقطها يد العازف ليخرج منها حلو النغم؟ لقد كانت في الحالة الأولى «آلة»، ثم أصبحت في الحالة الثانية «موسيقى»، وهكذا الإنسان إبان طفولته ونشأته، يكون أقرب إلى آلة بدنية عجماء إذا أهمل شأنه، ثم يكون ومضة فكر ونبضة وجدان إذا عرف ذووه كيف ينشئونه.

وقل عن أمة بأسرها ما تقوله عن كل فرد من أفرادها، فقد يشهدها التاريخ حينا وهي ترتفع في جو السماء مع العقبان والنسور، ثم قد يشهدها حينا آخر وهي على أديم الأرض مع بغاث الطير، فيسألون عندئذ ويتساءلون: لماذا؟ وما الذي أصابنا؟ والجواب عند حبة القمح ملقاة على الأرض، ثم مزروعة لتحيا وتنمو وتثمر، وعند نواة التمر تحسبها حطبة جافة ابتلعها ثنين الموت، فإذا هي تلقى حظها من العناية فتظهر على حقيقتها: كائنا حيا قويا ولودا، وعند آلة الموسيقى يصيبها الإهمال فتكون آلة وتنالها العناية فتشدو، على أن الطاقة الإبداعية في أمة، ليست مجرد حاصل جمع لطاقات أفرادها، بلى هي قد تزيد عن ذلك، وقد تنقص، فهي تزيد بالتعاون الصحيح، وهي تنقص بالتناحر الهدام، افرض - مثلا - أن مجموعة من الزملاء الأساتذة في كلية من كليات الجامعة، تعاونوا جميعا - كل بما تخصص فيه - على إيجاد حل نعالج به انخفاض المستوى العلمي في هذه الفترة الزمنية الراهنة، فعندئذ تجيء نتيجة جهدهم أفعل أثرا، مما لو استقل كل منهم بالتفكير من زاوية تخصصه، إذا ما تنافروا وتناحروا جاء الناتج خطوة إلى الوراء لا خطوة في سبيل الحل.

ونحن؟ من نحن؟ وأين نقع من هذا كله؟ أجب بما شئت من جواب، تجد إجماعا في الرأي على نقطة واحدة على الأقل، وهي أننا كنا ذات يوم في طليعة المسيرة الحضارية ولم نعد، هذا صحيح من حيث نحن مصريون، ومن حيث نحن جزء من أمة عربية، فمن حيث نحن مسلمون، فقد كانت مصر هي الطليعة الحضارية، ولم تعد كذلك، وكانت الأمة العربية هي سيدة الحضارة في حينها ولم تعد كذلك، وكانت الأمة الإسلامية صاحبة الكلمة المسمومة ولم تعد كذلك، فمن أي جانب أخذتنا وجدت انحدارا في المنحنى الحضاري والثقافي جميعا، وهنالك من لا يعجبه مثل هذا الصدق، فيسميه تشاؤما، كأنما التفاؤل هو أن تقول لرجل كان قويا وأصابته علة، إنه لا علة هنا، وما زلت قويا كما كنت.

يكون القول تشاؤما لو أننا زعمنا أن طاقة الإبداع فينا قد اقتلعت من نفوسنا اقتلاعا، لكن حقيقة الأمر فينا هي أن تلك الطاقة في كمون، يشبه كمون الحياة في حبة القمح، وفي نواة التمر، حتى إذا ما شاء لها فالق الحب والنوى أن تنزاح عن محابسها أقفالها توقدت الشعلة من جديد، وأول خطوة على الطريق هي أن تنفخ فينا إرادة أن نحيا، ثم يضاف إلى ذلك إرادة أن تكون حياتنا حياة السادة لا حياة العبيد: سيادة في العلم، سيادة في الفكر، سيادة في الأدب والفن، سيادة بالإباء وبالكبرياء.

أتسألني: وكيف يكون ذلك؟ ذلك يكون إذا تعلمنا الدرس من حبة القمح ونواة التمر، فنرى كيف ينتقلان من سبات إلى صحو، ومن خمود إلى نشاط، ومن أفول إلى سطوع بالحياة وبالنماء وبالإنماء، فارقب يا صاحبي وسجل: فأولها: أن يتهيأ مهد تستقر فيه البذرة مطمئنة لتغتذي من أثداء أرضها على مهل، ولترتوي بما يتسرب إليها في مهدها ذاك من فيض سمائها، وعندئذ تنفث من جوفها جذور حياتها، وثانيها: أن تحرص حبة القمح على أن تخرج قمحا مثلها في النوع، وليكن بعد ذلك نسلها أصح مما كانت هي وأقوى، وأن تحرص نواة التمر على أن تخرج البلح على نحو ما فعلت حبة القمح، طامعة في نسل أصح وأقوى، فلا يجوز لأي منهما - الحبة والنواة - أن تمسخ أبناءها وبناتها بأن يجيء نسل الحبة من القمح بطيخا وشماما، وأن يجيء نسل النواة أشجارا تثمر التفاح والرمان، وثالثها: أن يتعرض الجذع والفروع، إذا ما نبتت فوق سطح الأرض، للهواء وحرارة الشمس ... تلك هي أهم الدروس التي نتلقاها من الحبة ومن النواة، وهي الكفيلة بأن تخرج لنا أطيب الثمر.

والآن فلننظر كيف تكون الموازاة بين حياة الحبة والنواة - من جهة - وحياتنا من جهة أخرى، ونبدأ بالدرس الأول وما يستفاد منه، وهو ضرورة أن تستقر البذرة في مهد صالح، فيه المدد من أرضها ومن سمائها الذي يشبعها ويرويها، فكذلك الإنسان وهو في مهد الطفولة والنشأة الأولى، ينبغي له أن ينبض قلبه بمرجع انتمائه الوطني والقومي، وأكرر ذكر القلب ونبضه؛ لأن المرحلة الأولى لا تحتمل تحليلا ولا تعليلا، إننا نريد له هنا أن يحب وكفى ... أن يحب أرضا وأهلها لأنها أرضه ولأن الأهل أهله.

فماذا تكون تلك الأرض؟ ومن يكونون هم الأهل؟ البداهة تبدأ مع المصري بمصر، ومع العراقي بالعراق، وهلم جرا، تماما كما يبدأ الرضيع بأمه، وكما يبدأ القروي بقريته، وهكذا، ولكن سرعان ما يتبين بأن جزئية البدء محال أن تكفي ذاتها بذاتها، إذ لا بد من امتداد ما يشمل تلك الجزئية مع أخوات لها، فيكون السؤال عندئذ هو: إلى أي حد يذهب ذلك الامتداد؟ أيذهب مع المصري إلى حدود مصر ثم يقف هناك، ومع العراقي إلى حدود العراق، وهكذا؟ هنالك من يجيب: نعم، ومن يجيب: لا، وأما أصحاب الإيجاب فيركزون الحكم على أساس التميز العرقي وحده، غاضين النظر عن المشاركة في نمط ثقافي واحد (هذا إذا كان أهل البلد الواحد من عرق واحد، وغالبا ما يكون ذلك على سبيل الافتراض النظري لا على سبيل الواقع الفعلي)، وأما أصحاب النفي، فيؤسسون الحكم على أساس النمط الثقافي الواحد، الذي يضم من يعيشون في إطاره برباط قومي واحد، وإذا وجدنا القوم قد انشقوا على أنفسهم ولم يجتمعوا جميعا على أم واحدة، بالمعنى القومي لهذه الكلمة، امتنع عليهم عنصر من أهم العناصر الأولية التي تعمل على أن تنبت حبة القمح قمحا، ونواة البلح بلحا.

وذلك بالفعل هو ما نحياه اليوم في مصر وفي غير مصر من أجزاء الوطن العربي الكبير، فلقد وسوس في صدورنا وسواس خناس، فتشعب بنا الرأي في طبيعة انتمائنا، لا من حيث الجزئية الأولى التي ينتمي بها المصري إلى مصر، والعراقي إلى العراق ... إلخ، بل من حيث الامتداد وراء تلك الجزئية الأولى ، هل يكون أو لا يكون، فكان هذا الانقسام أول ضربة فرقتنا أشتاتا، فاشترينا ضعف التجزؤ بقوة التوحد، وكان مصدر هذا الإثم فينا هم رجال السياسة.

ولقد كان كاتب هذه السطور، خلال الشطر الأول من حياته الواعية، ممن وقفوا بانتماء المصري عند حدود مصر، لم يجاوزها مترا واحدا فيما يجاورها، لكنه رأى بعد ذلك رأيا آخر، وهو ألا حياة للمصري إلا في نمطه الثقافي الذي يميزه ويمتاز به، فإذا تبين أن ذلك النمط إنما هو بذاته النمط الذي نطلق عليه اسم العروبة، كان الصواب هو أن المصري عربي الرؤية الثقافية - جتى قبل أن يفتحها العربي عقب ظهور الإسلام، ومن طريف ما أذكره في هذا السياق، أن مذيعا سألني في حوار أداره معي ذات يوم عندما كنت خارج مصر قائلا: هل حدث لك في حياتك أن غيرت رأيك في فكرة كبرى؟ فأجبته بالإيجاب، ذاكرا له فكرة انتماء المصري إلى «العروبة»، من حيث أصوله الثقافية التي منها تتكون رؤيته العامة، ولقد حدث لي في عدة مناسبات سابقة أن حللت ذلك النمط الثقافي الذي أعنيه، وكان من أهم دعائمه «التدين» - قبل الإسلام وبعد الإسلام - فموقف «المتدين» عميق عميق في أهل هذه الرقعة من الأرض ... إلى آخر ما أدليت به من رأي في ذلك الحوار الإذاعي، ولم أكد أعود إلى مصر بعد رحلتي تلك حتى تلقيت خطابا، كان التوقيع فيه هو «مستمعة»، فقد أذيع ذلك الحوار، واستمعت إليه صاحبة الخطاب ولم يعجبها ما تغيرت به في انتماء المصري، رأيا بعد رأي - وأخذت في خطابها القصير تسدد إلي سهامها، وتنزع عني صفة «المثقف» ما دمت قد تحولت بالمصري إلى أن يكون عربيا، ولعل هذه المناسبة صالحة للتعليق من ناحيتي على ذلك الخطاب، فأقول: إن «المستمعة» لم تحسن الاستماع، ولو كانت قد أحسنته لما وجدت ما يبرر لها بعض ما أوردته في خطابها.

وما أسرع ما جاءتني المصادفات بمفاجأة جديدة بعد ذلك، وفي الموضوع نفسه الذي نحن الآن بصدد الحديث فيه، وتلك هي أن قادما من باريس زارني راجيا أن يدور بيننا حوار في بعض القضايا التي تشغل الناس، وحدث أن وردت في كلامي عبارة «الأمة العربية»، فاستوقفني ليسأل: وهل هناك ما يجوز تسميته «بالأمة العربية»؟ فانطلقت أشرح له كيف أنه لا رباط يشد القوم في قومية واحدة أكثر مما يفعله الرباط الثقافي، انظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية كم جنسا يدخل في تركيبها البشري؟ وكل جنس من تلك الأجناس، ذهب إليها بثقافته الأصلية، فانصبت الجهود نحو ما يسمونه هناك «بالأمركة»؛ لذلك الجمع المتنافر، وما تلك «الأمركة» المنشودة إلا أن يحيا الجميع في نمط ثقافي واحد، ولتتعدد بينهم الأعراق بعد ذلك ما شاءت أن تتعدد، فالمسألة - إذن - في وجود «أمة عربية» أو عدم وجودها، هي مشاركة شعوبها في رؤية ثقافية واحدة، فإذا نحن حللنا تلك الرؤية إلى عناصرها، فوجدناها العناصر نفسها التي تتركب منها رؤية المصري على امتداد تاريخه، كان المصري منتميا مع سائر من ينتمون إلى ذلك الركب الثقافي المعين، وإذا بقيت بعد ذلك بواق ينفرد بها المصري، كان المصري - شأن كل عربي آخر - منتميا إلى «العروبة» بما ينتمي به، منفردا وحده بما ينفرد به.

ذلك هو الدرس الأول، المستفاد من حبة القمح ونواة البلح؛ وأعني انتماءها في شعبها وفي ريها، إلى غذاء من أرضها وماء من سمائها، وعلينا - إذن - أن نعلم أوضح ما يكون العلم: أي أرض هي أرضنا، وأي سماء هي سماؤنا؟ وبعد هذا يأتي الدرس الثاني، وهو شديد الصلة بالدرس الأول، وموضوعه هو حرص حبة القمح أن تثمر قمحا من نوعها، حتى لو جاء الثمر أصح منها وأقوى، وكذلك حرص نواة البلح أن تثمر النخلة بلحا، وللثمر بعد ذلك أن يجيء ألذ طعما وأحلى مذاقا، وعلى هذا النموذج، تكون تربية الطفل وتنشئته إذا أردنا له يقظة تخرجه من هذا السبات العميق الذي يغط فيه، أي أن نربي طفلنا وننشئه تربية وتنشئة تخرجانه استمرارا لآبائه وأجداده، ثم يضيف إلى تلك الاستمرارية، ما يجعله أقوى منهم وأقوم سبيلا.

وماذا عسى أن يكون المعنى المقصود من قولنا بأن يجيء الحفيد استمرارا لأبيه وجده؟ إننا لا نريد أن يكون صورة كربونية لأحد، بل لا نريد لفرد كائنا ما كان موقعه من تيار الحياة الدافق أن يجيء صورة لفرد سواه، وإلا فقدت الفردية صميم معناها، لكن هناك بين أجيال الأمة الواحدة - أو يجب أن يكون هناك - أقول: إن هناك ضربا من العلاقة بين ما هو ثابت وما هو «متغير» في أي تسلسل يجري به نوع من الكائنات الطبيعية أو الكائنات المصنوعة، ولك أن تزور - مثلا - معرضا لتاريخ السيارات - كيف تطورت صناعتها على مر السنين، منذ اخترعت السيارة لأول مرة، وحتى يومنا هذا، وهنالك ترى بعينيك كم يكون الفارق بعيدا بين السيارة الأولى والسيارة الأخيرة في تلك الحلقات المتتابعة، كل حلقة منها تشبه سابقتها، مع شيء من اختلاف وتظل الاختلافات تتراكم جيلا من السيارات بعد جيل، حتى تبعد مسافة التباين بين الحلقة الأولى والحلقة الأخيرة، وهذا بعينه ما يحدث - أو ما ينبغي له أن يحدث - في تسلسل الأجيال في أمة واحدة، الذي بقي في سلسلة السيارات هو الجوهر الذي يجعل الشيء سيارة وليس قطارا أو سفينة، وكذلك في شعب مصر أو في الأمة العربية أو ما شئت من جماعات ذوات التاريخ المتصلة حلقاته، تظل الأجيال يختلف لاحقها عن سابقها في كثير أو قليل، تدول عليها دول وتأتي دول، وتزول عنها حضارات وتأتي حضارات، لكن شيئا جوهريا يبقى ليجعل المصري مصريا أو العربي عربيا أو من شئت، وقد تتداخل الدوائر بعضها في بعض، كما هي الحال بالنسبة إلى المصري حين نراه متميزا وحده بصفات ومشتركا مع سائر أبناء العروبة في صفات، ولست أعني الصفات العارضة التي نراها في كل إنسان من البشر أجمعين، بل أعني تلك الصفات الرئيسة التي تدخل في أساس الهوية الذاتية والقومية، وهي نفسها الصفات التي منها يتكون الإطار العام لرؤية متميزة للكون وللإنسان والنشأة والمصير.

وبقي لنا درس ثالث نتعلمه من الحبة والنواة، حين يبدوان وكأنهما ذهبت عنهما الحياة، وإذا بالطاقة الحيوية الكامنة فيهما تنطلق بإذن الله انطلاقة تأتي بالسنابل الغنية بحباتها، كما تأتي بالعراجين المثقلة بثمارها، ولئن كان الدرسان الأول والثاني قد أخذناهما من البذرة وهي - بعد - دفينة في أرحام الأرض، فهذا الدرس الثالث إنما نتلقاه بعد أن تنشق الأرض عن نبتة تنبثق منها لتعلو ما أراد لها نوعها أن تعلو ساقا أو جذعا، وما يخرج بعد ذلك من فروع وأزهار وثمار، فها هنا نتعلم كيف ينبغي للشجرة أن تعرض نفسها للهواء وللشمس ليكتب لها نماء وازدهار وإثمار، ها هنا نتعلم كيف يتحتم على الكائن الحي أن يأخذ ويعطي، وإلا فصور لنفسك - على سبيل التفكه - أن جماعة من فروع النخلة، اجتمعت هناك عند الرأس في أعلاها، لتحرض النخلة من جذرها إلى سعفها، أن تتصدى «لغزو» الهواء وأشعة الشمس، محتجة بأن تلك العوامل الدخيلة من شأنها أن تنحرف بالنخلة عن طبيعتها، فتصبح في دنيا الشجر مسخا من الأمساخ ... فماذا أنت قائل عندئذ لتلك الجماعة التي ذهب بها إخلاصها لطبيعتها النخلية إلى حد الانتحار؟ ألا تقول لها عندئذ: إن خطأها قد بدأ معها منذ أخطأت فهم نخلتها، ففاتها بعد ذلك أن تدرك كيف لا تنعم النخلة بمجرد الوجود إلا إذا خاضت مع محيطها عملية الأخذ والعطاء، تعطي من كيانها شيئا ينفع سائر الكائنات، وتأخذ من سائر الكائنات شيئا ينفعها.

هي دروس ثلاثة، نتعلمها من الحب والنوى: الدرس الأول: هو أن نوثق الصلة بين البذرة ومهدها، والدرس الثاني: هو أن تحرص البذرة على أن تنسل أشباهها، والدرس الثالث: هو ألا حياة لنباتها إلا إذا أخذ من دنياه وأعطى.

وبعد ذلك فلننتقل بدروسنا الثلاثة إلى التاريخ وعبرته لنرى في إيجاز شديد، كيف جاءت فترات القوة من تاريخنا بمثابة تجربة تطبيقية لتلك الدروس، وفترات، القوة بالنسبة إلى المصري تتشعب شعبتين: إحداهما فرعونية تضرب في عمق الزمن السحيق، والأخرى في السلف العربي الإسلامي وفي فتوته وقوته، أما الأولى: فقد وضعت لنفسها دستورها الحضاري في أقدم أثر فني دونه التاريخ المصري؛ وأعني أبا الهول، فمنذ تلك اللحظة السحيقة في القدم، قال المصري بلغة الإزميل في يد النحات: لقد اعتزم المصري أن يحيا حياة تربط أصولها بطبائع الأشياء ثم تسلم قيادها إلى حكمة العقل، فأبو الهول جسمه أسد ورأسه إنسان، أي أن الجسم هو طبيعة في أقوى صورة له والرأس تدبير في أحكم صورة له، وهكذا أعلن المصري بإزميله منذ فجر نشأته أنه سيظل موصولا بأرحام فطرته، ثم يجمع لتلك الفطرة معارف يدركها بعقله وخبرات يتمرس بها؛ لكي يضمن لنفسه سماء يستلهمها ويستوحيها، وأرضا يسعى في فجاجها ويعيش، ولو أننا لخصنا شريط التاريخ المصري خلال آلاف السنين التي حكم فيها الفراعنة، ولو لخصنا ذلك بنظرة طائرة، لقلنا إن المصري قد بدأ بالتمكين لنفسه في أرضه وبالصبر قرونا حتى رسخت له قواعد حضارته، ثم أخذ بعد ذلك يمد بصره إلى بعيد ليعطي وليأخذ، وما أكثر ما أعطى وما أقل ما أخذ؛ لأنه لو نطق بلسان الحال آنئذ لقال بملء فمه: أنا الحضارة والحضارة أنا.

وننظر إلى أصولنا الإسلامية العربية الأولى فنرى الحياة الحضارية والثقافية كيف تتابعت خطواتها، فإذا هي تنهج النهج نفسه؛ أي أنها انصرفت إلى جذورها حقبة من زمانها، وهي الحقبة التي دار فيها النشاط الفكري كله - أو معظمه - حول علوم اللغة، وأعقبتها مذاهب الفقه في استخراج أحكام الشريعة، حتى إذا ما أمن المسلم على قاعدة قوية في استيعاب عقيدته ولغته، انتقل إلى مرحلة الجذع والفروع من حياة الشجر، وهي مرحلة التعرض للهواء ولأشعة الشمس، وها هنا تطلعت إلى كل من كانوا حولها لتأخذ منهم وتعطيهم، وبهذا التفاعل تكونت العناصر التي نطلق عليها اليوم اسم «التراث».

إنه إذا كانت مصر مع سائر أجزاء الأمة العربية، بل وسائر أرجاء الأمة الإسلامية إذا أردت المجال الأشمل، أقول: إنها إذا كانت قد أخذتها غفوة طال أمدها بعض الشيء حتى ظن أن قد جمدت عروقها وتيبست أطرافها، فما ذلك كله - في يقين كاتب هذه السطور - إلا كذلك الذي تراه العين المجردة من حبة القمح ونواة النخل، فتحسبهما حصاتين من حصوات أرض مهملة، ثم يفجؤها أن تراهما وقد بدت فيهما حياة عارمة حين يأذن لها بذلك فالق الحب والنوى.

صورة ريفية وأعماقها

وضعت رأسي على الوسادة، لكنني لم أنم، فضربت بالمغرفة في دست الذاكرة لتخرج لي بصورتي، فتى في الثالثة عشرة من عمره وقد ذهب في إجازة الصيف إلى حقل أقربائه في الريف، زائرا ومتفرجا، فأشار له لداته إلى جذع شجرة كان راقدا على الأرض بين الساقية وحافة الطريق، ليجلس منتظرا حتى يفرغوا من عملهم في حوض الذرة القريب، وكان ذلك الحوض في مرأى البصر من موضع الفتى، وكان الفتى يرتدي جلبابا نظيفا أبيض ناصع البياض، وفوق الجلباب سترة وعلى الرأس طربوش، فتردد في الجلوس خوفا من التراب يلوث له ثيابه، فالتراب هناك لم يكن من الجفاف بحيث ينفض عن الثوب فيزول، بل كان كأنه مزج بشيء من الصمغ فيلتصق حيثما وقع، لكن الفتى - مع ذلك كله - لم يجد بدا من الجلوس، فأخرج منديله وفرش به مكان جلوسه من جذع الشجرة العتيق، وشخص ببصره إلى حيث دخل لداته بين أعواد الذرة، فماذا هم صانعون هناك يا ترى؟ وهل أصاب الفهم عنهم حين سمعهم يقولون له من بعيد إنهم سيقومون بشيء من تنقية الأرض من أعلاق العشب؟ فأي عشب وأي أعلاق؟ هكذا أخذ الفتى يتخيل ويتساءل، وهو شاخص ببصره إلى حيث اختفى لداته بين أعواد الذرة، وعندئذ تمنى لو لم تكن ثيابه في نظافتها تلك وفي بياضها ذاك، وود من عمق نفسه لو أنه ارتدى ثوبا كثيابهم، ليستطيع أن يشاركهم فيما هم فاعلوه ...

وذهبت عني تلك الصورة الريفية ذات العهد البعيد، ولم أجد بي حاجة إلى أن أدس المغرفة في دست الذاكرة مرة أخرى لتخرج لي بما اتفق لها من ذكريات؛ لأن تلك الصورة جرت وراءها - من تلقاء نفسها - صورة ثانية، والثانية جرت ثالثة، وكأنها كانت بكرة خيط لم يكد يفك عنها طرف الخيط، حتى أخذت تكر مناسبة بشريط من الصور، في سرعة كدت لا ألاحقها، بعضها حديث عهد وبعضها قديم ... ومن الحقائق العلمية المعروفة عن الصورة الذهنية التي تجري بها خواطر الإنسان إذا ما ترك لها عنانها حرا من ضوابط العقل، أنها إنما تجري على أسس، إذا ما حللناها وجدنا العلاقة الخفية التي تربطها جميعا في تسلسل واحد، فاشتدت بي الرغبة تلك الليلة، في ألا أسمح للنعاس بأن يتسلل إلى رأسي، حتى أفرغ من عملية تحليلية أفحص بها تلك الصور التي جاءتني متلاحقة، بادئة من جلستي تلك على جذع الشجرة، يدور بي الخيال في لداتي من الصبية وهم يؤدون ما لست أعرف ماذا بين أعواد الذرة.

لقد كانت الصور التي أخضعتها للمقارنة والتحليل، لعلي أجد ما يربط بينها، أقول إن تلك الصور كانت في ظاهرها شديدة التباين فيما بينها، فكيف يرجى أن يجدها أعضاء أسرة واحدة؟ لكنني مع ذلك لم أيأس - وذكرت نفسي بأن اختلاف الظواهر اختلافا بعيدا لا يمنع من انخراطها جميعا تحت قانون علمي واحد، وإلا فمن ذا كان يحلم بأن سقوط تفاحة من فرعها فوق الشجرة إلى الأرض، يندرج تحت قانون واحد - هو قانون الجاذبية - مع دوران الأرض حول الشمس، ودوران القمر حول الأرض، ومد البحر وجزره ... لا، لم أيأس من أن أقع على نقطة واحدة تلتقي عندها تلك الصور، برغم ما بينها من اختلاف، فأين صورة الطلاب يتزاحمون في قاعة الدرس في انتظار أستاذ لن يجيء، من صورة عشرات الألوف من أصحاب الملايين في شعب يقال إنه فقير؟ أين صورة المخدرات يتسع مجالها حتى تصل إلى صغار الشباب من صورة مجموعات أخرى من شباب لبسوا الجلاليب وأرسلوا اللحى؟! أيكون المسلم للمسلم، والعربي للعربي أخا أم يكون عدوا لدودا؟ هل نحن في نهضة فكرية، أو الصواب هو أننا نعيش في ثقافة الندوات التلفزيونية؟ أين قصور القادرين من أكواخ العاجزين؟ أين ما يعلنه أصحاب الأقلام في الكتب والصحف مما يهمسون به بعضهم في آذان بعض؟ ... كانت هذه الأضداد وأمثالها هي الصور التي أخذت تجري بها الخواطر المنسابة، فكيف نبع هذا الخليط من أصل واحد، هو الصورة الريفية البعيدة التي اغترفتها عرضا من مخزون الذكريات؟

بدأت عملية التحليل من النبع الأول، الذي هو صورة الصبية الصغار في الريف، يدخلون بين أعواد الذرة، لتنقية الأرض مما عساه أن يعرقل نمو الأعواد ليجود محصولها، فما هي إلا أن أشرقت على حقيقة غريبة، وهي أن تلك الصورة الريفية البسيطة المسرفة في بساطتها هي تجسيد حي لجانب من أهم جوانب الفكر الفلسفي المعاصر، نعم، ولا عجب، فماذا تكون الفلسفة إذا لم تكن إخراجا لما هو مستكن في حياة الناس من مبادئ وأهداف؟ وبين تلك المبادئ والأهداف ما يدوم ما دامت على الأرض حياة لإنسان، وكذلك منها، ما يتغير بتغير العصور وظروفها، ولنتذكر جيدا أن من الخصائص الإنسانية التي تدوم معه ما دامت له فطرته، ما انكشف للفكر القديم، ومنها ما لبث غامضا لم ينكشف إلا في عصر حديث، ولا بد أن يكون منها كذلك ما لم ينكشف بعد لأحد انتظارا لمن يفعل ذلك في مستقبل قريب أو مستقبل بعيد.

والخاصة الإنسانية التي نحن بصدد ذكرها الآن، والتي قلنا إنها تكون جانبا هاما مما كشفه الفكر الفلسفي المعاصر، ثم قلنا كذلك إنها مجسدة في ذلك الموقف الحي البسيط: موقف أبناء الريف يعملون على أن يكمل النماء أعواد الذرة كي تحقق لهم حصادا طيبا، أقول: إن الخاصة الإنسانية المتمثلة في هذا، إنما هي أن يكون مقياس العمل الصحيح أو الفكر السديد، هو مقدار ما ينتجه ذلك العمل أو هذا الفكر، فالعمل الذي لا ينتج شيئا لا يستحق أن يوصف بأنه «عمل»، والفكر الذي لا يرسم للناس طريق الوصول إلى تحقيق الأهداف ليس جديرا بأن نطلق عليه اسم «الفكر»، فالعمل إذا كان عقيما كان عبثا من العبث، والفكر إذا لم يكن قوة لصاحبه تمكنه من بلوغ الغايات، كان لغوا من اللغو، فانظر على هذا الضوء إلى الصورة الريفية التي بدأنا بها الحديث، فلو سئل زارع الذرة: لماذا زرعت؟ لكان جوابه هو أنه زرع ليحصد الثمار، ثم لو سئل: وفيم عناء صغارك بتنقية الأرض حول الأعواد؟ لكان جوابه إنهم إنما يفعلون ذلك لتجود لنا بالثمار، فماذا تقول الفلسفة البراجماتية المعاصرة إلا أنها صاغت تلك الصورة الريفية في مبادئ نظرية تبين ضوابطها وتفصيلاتها.

لكنني لن أدع هذه النقطة من حديثي لتمضي دون أن أستخرج للقارئ بعض كوامنها؛ لأنني لو تركتها لكان الأرجح أن يصفق لها قائلا: انظروا! إن ما جاء به فكر هذا العصر لم يزد على أن يكون حاشية تشرح ما يصنعه بالفعل صبية الريف عندنا، وإنه لكذلك حقا، لكن ما جدوانا إذا كنا لا نتعمق ما نصنعه بأيدينا؟ لا: بل إننا إذا عرفنا ما هو مضمر في أفعالنا صممنا عنه آذاننا؛ لأنه ينقض ما يدعونا إليه قادة الكفر منا، وأول ما أخرجه لك من مكنونات الصورة الريفية، هو «المبدأ» الذي يجعل «المستقبل» - لا الماضي - مقياسا بصحة العمل وسداد الفكرة، فإذا قلنا عن صاحب الأرض وأبنائه، إنهم أحسنوا صنعا فيما فعلوه، كان حكمنا هذا مؤسسا على ما قد ينتج عنه من محصول في لحظة مقبلة، إننا لم نحكم على الفعل هنا بأنه صواب، بأن أرجعناه إلى قول قاله سلف في لحظة من زمن مضى، بل أقمنا الحكم على ما «سوف» ينتج عنه، وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا نقصر هذا المبدأ على زارع الذرة وأبنائه؟ لماذا لا يكون هو المبدأ المأخوذ به في كل فكرة وإزاء كل عمل نؤديه؟

ويتفرع لنا عن هذا المبدأ العام، قواعد فرعية كثيرة لها كل الأهمية في تنظيم أفكارنا وأعمالنا، منها ألا ننتزع موقفا جزئيا من سياقه لنحكم عليه وهو منفرد لأن كل خطوة من خطوات السياق الواحد تستمد صحتها - إذا كانت صحيحة - لا من ذاتها، بل مما عساها أن توصلنا إليه من نتائج، فهي صحيحة بصحة ما سوف تستحدثه لنا من نتيجة ...

فلما فرغت من وقفتي الفاحصة للصورة الريفية على هذا النحو، انتقلت إلى سيل الصور التي استدعتها إلى ذهني تلك البداية، لأرى ما وجه الرباط الذي يجمع هذه إلى تلك في أسرة واحدة، وسرعان ما وجدته، إنه «واحدية الهدف»: متى تكون ومتى تنعدم في الحياة التي تستهدف هدفا محددا واضحا ، كالذي رأيناه عند زارع الأرض وأبنائه، فلما استدعت هذه الصورة الريفية أضدادها إلى ذهني، لم يكن في ذلك شرود ذهن ولا اضطراب تفكير، فكأنني بمثابة من وقف عند ذكرى الصورة الريفية متسائلا: أين وحدة الهدف ووضوحه هناك، من تشتت الأهداف وغموضها في حياتنا اليوم؟

وهل يمكن القول بأن أهدافا مشتركة هي التي تربط بين من يخفي القوت ليكسب من مخزونه الملايين، وبين من لا يملكون إلا القروش ويريدون الطعام؟ هل تكون الأهداف مشتركة بين دعوة الدعاة إلى اللحاق بموكب الحضارة في عصرنا وجمهور ملئت صدوره بدعوة أخرى تدعوه إلى الرجوع القهقرى؟ هل يستهدف العربي والعربي، أو المسلم والمسلم، هدفا واحدا، والعربي يخاصم العربي، والمسلم يقاتل المسلم؟ ... إن الباحث منا في حقائق أمورنا ليقع في حيرة عجيبة - بأي حكم يحكم على اتجاه سيرنا: أهو اتجاه إلى الأمام، أم هو استدارة برءوسنا ووجوهنا إلى الوراء؟ أم أنه جمود سمرت به أقدامنا في مواقعها من الأرض فلا هو أمام ولا هو وراء؟ وسر الحيرة هو أن ما يصدق على الأفراد من حيث هم أفراد، لا يصدق على الشعب مأخوذا في مجموعه كأنه كيان عضوي واحد، ولعل أوضح ما نشبه به موقفنا هو عقد اللؤلؤ انقطع خيطه فتناثرت حباته، فكل حبة ما تزال تحمل قيمتها في ذاتها إلا شيئا واحدا، وهو أن تكون مسلوكة مع غيرها في وجود مشترك، فإذا نحن سألنا المشرف على التعليم ما الخبر؟ أجابنا بأننا قد أعددنا كذا ألفا من الأطباء وكذا ألفا من المهندسين، وكذا ألفا من رجال القانون ومثلهم من رجال الاقتصاد ومن رجال العلوم ومن رجال الآداب ... إلخ إلخ، وإنه في هذا لعلى حق، فالحمد لله ما يزال المصري مدعاة للفخر في كل ميدان من ميادين العمل، نراه حيثما توجهنا في مختلف أنحاء الأرض، فلا نملك إلا أن تمتلئ قلوبنا زهوا، لكن انظر إلى كتلة الشعب في جملتها وقارن رؤيتها الثقافية اليوم برؤيتها الثقافية منذ مائة عام، تجدها إما جمدت على حالها وإما انحدرت بضع خطوات إلى الوراء، وذلك إذا جعلت مقياسك مدى استعدادها لقبول «الخرافة» أو رفضها، فقد كانت الرؤية اللاعقلية اللاعلمية منذ مائة عام تكاد تقتصر على من لم يظفر بشيء من نعمة التعليم، وأما الآن فهي تطوي بردائها من تعلم ومن لم يتعلم على حد سواء، وكثيرا ما قلت في هذه الظاهرة العجيبة، إنها ربما ترجع إلى الهزيمة وأثرها في نفوسنا، إنها حقا لظاهرة تلفت النظر: أفراد يلمعون بذكائهم وقدراتهم، وشعب قوامه هؤلاء الأفراد أنفسهم انطفأت جذوته وأسلم قياده لمن يضع على عينيه الغطاء، حتى لقد ألف الكلام، أمعن النظر في شتى صنوف التعامل السائدة بيننا اليوم، تجد نوعا من الفردية غير مألوف، فنحن إذا ما استعرضنا مذاهب الفكر المعروفة رأيناها تقسم نفسها قسمين، عند تصورها للعلاقة بين الناس في مجتمعاتهم، فإما أن تكون الأولوية لفردية الأفراد، بحيث لا يتنازل الواحد منهم عن شيء من حريته، إلا بمقدار ما ليس له بد من التنازل عنه لكي تقوم للمجتمع قوائمه، وإما أن تكون الأولوية للجماعة في نسيجها الشامل بحيث لا يعطى للفرد الواحد من الحرية إلا الحد الأدنى منها، في الحالة الأولى تكون الحرية صفة تصف الفرد قبل أن تصف الجماعة في شمولها، وفي الحالة الثانية تكون الحرية صفة تصف المجتمع قبل أن تصف الفرد الواحد من أفراده، ثم ظهر في عصرنا من رأى رؤية وسطا تجمع بين الطرفين، بمعنى أن يقال إن حرية الفرد لا تتحقق له إلا وهو في نشاط يشترك فيه مع سواه وذلك لأن عصرنا قد سادته أنواع من الاشتراكية لم يعد عنها غنى، حتى في البلاد التي يقال عنها إنها رأسمالية في المقام الأول.

لكن الفردية التي تسود بلادنا في عصرنا الراهن، لا تندرج تحت واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة، إذ هي فردية تشطر نفسها شطرين، بشطر منهما ينطلق كل فرد إلى حيث تقوده أطماعه، وكأنه يعيش وحده، يحصل لنفسه من المنافع ما استطاع الحصول عليه، لا فرق عنده بين مشروع وغير مشروع؛ ولذلك كان كل فرد بشطره هذا حرا حرية تعمل في الخفاء، وفي هذا المجال المتستر تتجمع الملايين عند أصحابها ويوصل إلى السلطة في كثير من الأحيان، وتدار السوق التي تسمى حقا بالسوق السوداء، وأما الشطر الثاني من شخصية الفرد، فهو يسلم زمامه لمن كان له الرواج عند الرأي العام من ناحية، وعند من بيده السلطان من ناحية أخرى، وفي هذا الشطر ليس ثمة ما يدعو إلى خفاء في سواد أو ظلام بل على العكس من ذلك، ترى الفرد يحرص على أن يزهو أمام الناس في أسطع ضوء ليعرف، وربما كان هذا الزهو الساطع في هذا الشطر من حقيقته عاملا مساعدا على تحقيق ما يريد تحقيقه في الشطر الأول.

إذا صح هذا التحليل، استطعنا على ضوئه تفسير الازدواجية التي انفرجت زاويتها خلال الأعوام الأخيرة لما قد طرأ علينا من ظروف، وهي ازدواجية تثير الحيرة الشديدة عند تعليلها، فهنالك موجة عاتية تغمرنا بالنزوع نحو موقف متطرف نميل به نحو السلف وتراثه، ومعها في وقت واحد قول لا يتردد في التمتع بطيبات هذا العصر، بل وبكثير من تفاهاته كذلك، ولقد أصبحت إحدى طرائفنا في حديثنا الذي نسمر به، أن نذكر ما أخذ فلاح القرية يغمر داره به من أجهزة أخذت تتسع معه حتى شملت «الفيديو»، لكن موضع العجب، هو أنك قد يصادفك الرجل وهو في أقصى درجات التطرف الذي يتعصب به للسلف وتراثه، لا لكي يضاف إليه عنصر آخر، بل ليظل قائما وحده خالصا صافيا لا تشوبه شائبة من شوائب هذا العصر المنكود، ثم يتركك لينعم بكل ما استطاعت يده أن تناله من منتجات العصر، وإذا قال له قائل - كما يفعل كاتب هذه السطور في معظم ما كتبه ويكتبه - إن الخير يا أخي هو في أن نبحث عن الصيغة الميسرة التي تجمع لنا تراث أسلافنا بكل قيمه المثلى، مع ما تميز به عصرنا من روح علمية صناعية ديمقراطية مغامرة محددة، تشنج صاحبنا وتيبست أطرافه، مصرا على أن يظل الجانبان كالخطين المتوازيين اللذين لا يتلاقيان مهما امتدا! لماذا؟ لأنه يضمر في نفسه أن يظهر أمام الناس بخط السلف والتراث، ثم يرتد إلى حياته الخاصة ليستضيء بنور الكهرباء، وليقضي ساعات فراغه مشاهدا للتليفزيون، مستمعا للراديو، متصلا مع ذويه وأصدقائه بالتليفون، وذلك كله بعد أن يكون قد حجز مكانا له ولأسرته على الطائرة ليعالج مما اعتل به عند الأطباء في أوروبا وأمريكا، ازدواجية تتعذر على الفهم، إلا إذا عرفنا أن فردية الفرد عندنا، وخلال المرحلة الأخيرة، قد اتخذت لها معنى جديدا فريدا، لا ينضوي تحت نموذج من النماذج المعروفة.

إن خير ما يدلك على وجهات النظر في العصور المختلفة هو فلسفاتها، فكثيرا ما أوضحت فيما كتبته طبيعة الفكر الفلسفي ما هي؟ فقلت: إنها على الأغلب تحفر تحت جذوع الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك السائدة في العصر المعين، لتستخرج المبادئ النظرية المختفية عند الجذور؛ لأنها هي التي منها تنبثق حياة الناس بأفكارها وقيمها، حتى ولو لم يشعر بوجودها هؤلاء الناس أنفسهم حتى تتعرى أمام أبصارهم ليشهدوها، فماذا قال فلاسفة العصور المختلفة عن المحور الذي تدور حوله فردية الفرد، كل في عصره الخاص؟ قال سقراط مخاطبا الفرد من الناس: «أيها الإنسان اعرف نفسك.» إذن فلا تتكامل للفرد فرديته على هذه الوجهة من النظر إلا إذا «عرف» كيف ركبت عناصره الداخلية التي جعلته إنسانا، ولاحظ أن «المعرفة»، بمعناها الصحيح، أداتها «العقل»: فالفرد فرد بمقدار ما «يعقل»، وهكذا كانت نظرة اليونان، وقال الإمام الغزالي في ذلك ما معناه أن جوهر الإنسان «إرادته»، أي أن الإنسان إنسان بمقدار ما تقوى فيه «الإرادة»، وهذه هي النظرة الإسلامية في جوهرها وأساسها، ومصداق ذلك أن نجد ابن تيمية عندما أراد أن يبين العنصر الأساسي الذي يجعل أفراد الناس «أمة» واحدة، وجد ذلك الأساس في مشاركة هؤلاء الأفراد جميعا في «فعل» واحد، والفعل - كما نعلم - هو الإرادة عند ظهورها، وكلنا يعلم قولة ديكارت المشهورة التي يبين بها جوهر الإنسان ما هو؟ إذ يقول: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» ... وفي عصرنا جاءت فلسفة في هذا الصدد تحمل تعبيرا عن حقيقة الإنسان من وجهة النظر في الظروف الجديدة، فقالت تلك الفلسفة: إنه لا بد أن يضاف إلى الوعي الداخلي - أيا كان محوره - شيء ما في العالم الخارجي يشير إليه ذلك الوعي، أي أنه لا يكفي الإنسان لتكتمل فرديته، أن يعرف نفسه كما أراد سقراط، ولا أن يعزم بإرادته عزيمة داخلية، دون أن يخرج تلك العزيمة في فعل خارجي، ولا أن يفكر مجرد تفكير في داخل نفسه كما أشار ديكارت، بل لا بد أن يتعلق ذلك التفكير بموضوع معين مما تطرحه علينا الدنيا من حولنا - وحاول بعد هذا العرض السريع أن تدرج ازدواجيتنا الحاضرة كما شرحتها تحت نموذج من هذه النماذج تجدها مستعصية، إلا إذا نسبتها إلى نموذجين في آن واحد، ينطوي تحت كل نموذج منهما أحد الشطرين اللذين أسلفت لك أن حقيقة المواطن في ظروفنا الراهنة تشطر بهما، وكأن لكل منا نفسين، يستخدم كلا منهما إذا توافرت لها ظروفها المناسبة.

وأعود بعد هذه الرحلة إلى الصورة الريفية التي صدرت بها هذا الحديث، إنها صورة أسرة اجتمع أفرادها على «فعل»، وكان مقياس نجاحها من وجهة نظرها، أن تجيء عن هذا الفعل أكمل النتائج وأجملها وأضناها، ولا أظنك واجدا في أفرادها - إذا ما بادلته الحديث - التواء بين هدفين متضاربين، وربما لو كان له هدفان لأنبأك أنهما هدفان وهو يريدهما معا، فالفرق بين العهدين، هو واحدية الرؤية في الحالة الأولى وازدواجيتها في الحالة الثانية، وعند كاتب هذه السطور أن لب العقيدة الإسلامية، الذي هو «التوحيد»، إذا ما كشفنا فيه ما استطعنا كشفه من أبعاد وأعماق، وجدنا من تلك الأبعاد والأعماق، أن يتوحد الفرد الواحد في شخصية واحدة تدور حول محور واحد، وأن ينظر إلى هذا الكون الفسيح المحيط بنا على أنه متصل الأجزاء في كيان واحد، وإذا نحن استطعنا أن نربي أنفسنا وأبناءنا على مثل هذه الوحدانية التي تجمع بين الشتات في حياة غير منقسمة على نفسها، فربما كان ذلك أهم ما نقدمه إلى عصرنا، إضافة إيجابية يكمل بها أخطر نقص في بنائه.

للعصر الواحد صوت واحد

كان الموعد المضروب هو اليوم الأول من هذا العام - عام 1986 - هو «رأس السنة» كما يسمونه، بعد أن اختفت في منتصف الليل أطراف القدمين من العام المنسحب، ولقد استبشرت خيرا أن يكون ذلك اليوم من فاتحة العام الجديد، هو موعد لقائي مع حشد كبير من طلبة الآداب وطالباتها، يسعدهم ويسعدني أن ينضم إلينا جماعة من زملائي الأكرمين، فلقد تحقق في ذلك اللقاء - أول ما تحقق - أن تجسدت أمام عيني تلك الصورة التي تصورها الفنان اليوناني القديم، حين رسم التقاء العامين عند تلك اللحظة الفريدة التي يدبر فيها عام ويقبل عام، فرسم رأسا بشريا، برز من عنقه الواحد وجهان، أحدهما يتجه إلى ناحية والآخر يتجه إلى الناحية المضادة، الوجه الأول لرجل شاخت مجسماته وتغضنت بشرته وطالت لحيته وتشعثت، وأما الوجه الآخر فهو لشاب في نضارة العمر، تشيع ابتسامة الأمل بين ملامحه، ولا عجب، فقد كان التضاد بين الوجهين، هو نفسه التضاد بين ماض ومستقبل تفصلهما تلك اللحظة الحائرة، التي يتجاذبها أنصار القديم من ناحية، وأنصار الجديد من ناحية أخرى، أقول: إن لقائي بطلاب الآداب وطالباتها في ذلك اليوم الفريد، قد جسد لي تلك الصورة، لولا أن الوجهين في هذه الحالة لم يكونا متضادين في اتجاه البصر، بل كان الجانبان ينظر أحدهما إلى الآخر، إذ جلس الراحل وجها لوجه مع من وقف في بداية الطريق، على عتبة مستقبل مجهول لكنه مأمول.

وكان حديثنا المشترك حول هذا العصر وسماته، فبأي شيء يتميز عما سبقه من عصور؟ وحين نقول: «يتميز»، فليست الإشارة هنا إلى ما بين العصور من «تفاضل»، بل هي مقصورة على مجرد الاختلاف، قبل كل شيء «يختلف عصرنا عن العصور السابقة جميعا»، على أن ذلك لا ينفي أن يكون هذا العصر أفضل مما سبقه، بل إن ذلك بالفعل هو الأمر الحاصل، من وجهة نظر الذين يؤمنون بأن التاريخ سائر بالناس - حتما - إلى ما هو أكمل، ومن أولئك الناس كاتب هذه السطور.

أعود إلى القول بأن موضوع الحديث بيننا، كان بحثا عن السمة التي تميز هذا العصر، لكننا لم نكد نبدأ حديثنا حتى وجدنا سؤالا أوليا يطرح نفسه علينا، هو: وما الذي يحدد عصرا ما ببداية هنا، أو بنهاية هناك؟ أوليس الزمن متلاحق الموج؛ فأمسه مؤد إلى يومه، ويومه ممهد لغده؟ وما أسرع ما اتفقنا على أنه بالرغم من أن الزمن نهره دفاق وموصول الماء، إلا أن هنالك من الأحداث الكبرى ما يجيء بداية لعصر جديد، حين يكون عصر سابق قد استهلك قدراته في مواجهة مشكلاته، ثم ولدت له مشكلة جديدة كبرى تحتاج مواجهتها إلى فكر جديد.

وبعد أن استعرضنا معا أمثلة من عصور سلفت، لنرى كيف جاءت وكيف ذهبت، انتقلنا إلى عصرنا لندير أبصارنا باحثين وفاحصين، وكان لا بد لنا - في ذلك السياق - أن نفرق بين «حديث» و«معاصر» تفرقة أقمناها على القاعدة نفسها، وهي أن يواجه الناس بسؤال جديد يملأ عليهم جو الفكر، لا يخلي بينهم وبين الراحة حتى يجدوا له الجواب، إذ يستعصي عليهم جوابه إذا هم أصروا على ما عندهم من معارف وعلوم، فأما ما يصح تسميته بالعصر «الحديث» فهو الفترة التي بدأت بالنهضة الأوروبية وامتدت إلى أوائل القرن الماضي (التاسع عشر) وأما ما هو «معاصر» فهو ما تلا ذلك وإلى يومنا الراهن، وكان الذي أسدل ستارا على الحقبة الأولى، هو أنها كانت تدير فكرها كله حول محور أساسي ربما جاز لنا أن نجسده ونلخصه، بالإشارة إلى ما قد تصوره «نيوتن» وتصورته من بعده الحقبة «الحديثة» كلها من «القصور الذاتي» في الأشياء، بمعنى أن كل شيء قاصر بذاته عن أن يغير من أمر نفسه، حركة أو سكونا أو اتجاها، فإذا كان شيء ما متحركا في اتجاه معين، ظل على حركته تلك إلى أبد الأبدين، لا يغيرها إلا عامل خارجي يصدمه لينحرف إلى اتجاه آخر، وكذلك قل في شيء ساكن، فهو يظل على سكونه ما لم يدفعه إلى الحركة عامل خارج ذاته، فإذا استطاع العلم أن يحسب لحركة الأجسام حسابها الرياضي الدقيق، استطاع بالتالي أن يتنبأ بكل ما سوف يطرأ من أوضاع ، وأن يسترجع - بالاستدلال الرياضي - كل ما قد حدث في الماضي: كأن يستدل متى حدث كسوف للشمس أو خسوف للقمر، ومتى سيحدث في مقبل الدهر من ذلك؟ فقد كان التصور العام للكون والكائنات إبان الفترة «الحديثة» هو أنه كالآلة الكبرى، محسوبة أجزاؤها حركة وسرعة واتجاها.

ظلت تلك النظرة الآلية السكونية للأشياء سائدة حتى نهاية القرن الثامن عشر، يقوم العلم على أساسها، وعلى أساسها كذلك تقوم أفكار الناس في شتى ميادين حياتهم، من سياسة وتجارة وغيرهما، فلما جرجر ذلك العهد أذياله إلى مغيب، ظهر على مسرح التاريخ عهد آخر، وكأنه كان على موعد مع قيام الثورة الفرنسية، وكانت بدايته ظهور تصور آخر للكون والكائنات لا تكون السيادة فيه لوجهة النظر الآخذة بمبدأ القصور الذاتي في الأشياء، بل لوجهة نظر أخرى تبث في الكون حياة أو ما يشبه الحياة، بحيث تأتي فيه الحركة من داخله تماما كما يحدث لأي كائن حي، فالشجرة - مثلا - لا تنمو بأن يضاف إليها من خارجها جذوع وفروع وأوراق، بل تنمو باعتمال ذاتي في داخلها، تستخدم فيه العوامل المحيطة بها من غذاء وماء وهواء وضوء، لكنها هي التي تنسج تلك العوامل على أنوالها بدفعة من حياتها ... وبهذا التغير في وجهة النظر، وما يستتبعه من تغيرات بدأت الحقبة «المعاصرة».

فالفرق بين ما كان وما أصبح، إنما هو شيء يشبه الفرق بين الجامد والحي، أو بين السلب والإيجاب، فبعد أن كان التصور في تفسير التغير، أينما وقع وحيثما وقع، يعزى إلى أسباب تأتي من خارج الشيء لتغييره، أصبح التصور هو أن الشيء يغير نفسه بفاعليته الذاتية مستعينا بما يأخذه أخذا مما هو متاح له: فالشجرة لا يفرض عليها ما تغتذي به، بل إنها هي التي تنقيه، بدافع من فطرتها، مما حولها، ودع عنك ما يستطيعه الحيوان، ثم قل ما شئت فيما يستطيعه الإنسان.

وماذا تكون - في ظنك - أول صفة يمكن أن نصف بها مخلوقات الله - جلت قدرته - في سمائه وفي أرضه؟ بناء على هذه النظرة الجديدة التي بظهورها ولدت لنا الحقبة «المعاصرة»؟ إن تلك الصفة الأولى فيما يبدو لي إنما هي الحرية: حرية الحركة في هامش يتسع أو يضيق باختلاف الأنواع، كانت الفترة «الحديثة» (القرنان السابع عشر والثامن عشر بصفة خاصة) ترى الكائن المعين صنيعة بيئته، بما في تلك البيئة من عوامل تشكل في طبيعة الكائن من نواح كثيرة، وانظر إلى كلمة «عوامل» نفسها تدرك كم كان الرأي السائد يرجع كل ما يصيب الشيء إلى «عوامل» تحدث ما يقع من ضروب التغير: فتحول العصر إلى رأي آخر، يضع في الكون ضربا من الحيوية التي تعتمل بذاتها فينتج لها ما ينتج، فعلوم الدنيا بأسرها لا تستطيع أن تتنبأ على وجه الدقة كم يكون عدد الفروع التي تنبت في شجرة معينة، وماذا على وجه الدقة تكون اتجاهاتها والتواءاتها، وكم عدد الأوراق التي تظهر في كل فرع منها، وقد كان ذلك كله ممكنا - من الوجهة النظرية على الأقل - في النظرة السابقة.

ومع هذه الحرية النسبية، تجيء صفة ثانية، وهي الصفة التي لا تخطئ إذا نحن زعمنا أنها هي أبرز ما يمكن أن يوصف به العصر الحاضر من صفات: ألا وهي صفة التطور، فلست أظن أن في دنيانا الآن رجلا واحدا من رجال الفكر، أيا كان نوع الفكر ومستواه، يجرؤ على تصور الكون بكائناته ساكنا ثابتا على حاله، وأن كل ما يحدث فيه من تغيرات لا يزيد على انتقال الأجزاء، من هنا إلى هناك، فمثلا تكون المادة حفنة من تراب هنا فتنتقل لتكون جزءا من نبات أو حيوان، وقد تنتقل من هذين لتكون جزءا من إنسان.

ولست أقول أي نوع من «التطور» هو الذي أصبحت وجهة النظر المعاصرة ترى الأشياء والأحياء على أساسه: بل أكتفي بأنه «التطور» أيا كانت صورته، فهو على اختلاف صوره نظريا يعني أن الكون بما فيه دائب التحول من طور إلى طور: من حالة إلى حالة، حتى ولو اقتضى كل تحول من تلك التحولات آلاف الملايين من السنين، ولكن بينما يمكن للعقل أن يتصور ذلك التطور دون الحاجة إلى معرفة اتجاهه ، أهو انتقال بالأطوار نحو الأسفل أم هي أطوار تتنوع دون أن يكون فيها ما هو أعلى من غيره ولا ما هو أسفل - أم أنه تطور نحو ما هو أفضل دائما؟ أقول: إنه بينما يجوز للعقل من الناحية النظرية أن يتصور ذلك التطور بغض النظر عن اتجاهه، فإن الإدراك الإنساني السليم يكاد يقطع بأنه ما دام في الكون وفي الكائنات تطور، فهو إذن تطور نحو ما هو أحسن وأفضل وأكمل، والتاريخ يؤيد ذلك؛ لأننا إذا تعقبنا مراحل التاريخ، في أي رقعة من رقاع الأرض، وجدنا حياة الإنسان تنحو باطراد نحو علم أكثر وقدرة أقوى، وحرية أوسع وأعمق.

وانتقل بنا الحديث - كاتب هذه السطور مع طلاب الآداب بجامعة القاهرة وطالباتها - إلى ذكر ما ظهر به القرن الماضي في أوروبا من أفكار ضخام، انطلقت كلها من الرؤية الجديدة إلى حقيقة الكون، لكنها كانت أضخم مما يستطيع أهل زمانها ازدراده في وقت قصير؛ ولذلك لبثت معلقة لا تنتقل من صفحاتها لتسري في شرايين الحياة العملية، إلى أن جاء هذا القرن العشرون بحروبه وثوراته، فأخذ يتفحصها لعله واجد فيها هاديا تستضيء به الأمم في انتقالها من حضارة كانت إلى حضارة ستكون، وكان أهم تلك الأفكار الضخام أربعا: جاء ماركس بمذهبه وبمنهجه، وداروين بنظريته البيولوجية في التطور، وفرويد بتحليله للنفس، ثم أينشتين بنظريته في النسبية، على أن تلك الأفكار الضخام الأربع، جاوزها وسايرها طريقة جديدة في البحث العلمي، أساسها الاستناد إلى أجهزة يبتكرها العلماء: لتصل بهم إلى دقة النتائج ومضاعفة قدراتهم على فك رموز الطبيعة لتنطق لهم بأسرارها، وكانت تلك الطريقة الجديدة هي ما يسمى بالتكنولوجيا (ومعناها الأصلي: علم البحث بالأجهزة).

انتقلت تلك الأفكار الأربع، وانتقلت معها طريقة البحث الجديدة، إلى هذا القرن العشرين، فأصبحت هي شغله الشاغل حتى هذه الساعة: فما من فكرة واحدة منها، إلا ولها أثر عميق على تغيير حياة الناس عما كانت عليه، وكذلك ما من فكرة واحدة منها إلا وقد أخذت هي نفسها تتطور على أيدي العلماء والباحثين، مما أدى إلى أن تكون الفترة الحاضرة التي تعيشها دنيانا سريعة التغير والتحول، ونتج عن هذا التقلب السريع أن بات هذا القرن العشرون، بعد الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، يجتاز مرحلة انتقال بين حضارتين بلغت أولاهما ذروتها في القرن الماضي، وأما الثانية فيرجى أن تكتمل صورتها في القرن الحادي والعشرين، ومن هنا نفهم لماذا اهتزت بنا القيم، وارتجت النظم، وكثرت الحروب والثورات، واتسع نطاق العنف، وغمضت الرؤية أمام الجميع. •••

وكان الطلبة والطالبات الذين شاركوا في اللقاء، قد أثيرت رغبتهم في السؤال عن جوانب ورد ذكرها في حديثنا معا، لكن الوقت لم يكن يسمح بامتداد الجلسة فترة أطول، فحملوني حزمة من أسئلتهم، فلما عدت إلى داري تصفحتها وبوبتها، وإذا أهم ما فيها أسئلة عن «الفلسفة» ذاتها ما طبيعتها، والحق أني لا أدري كم من السائلين كانوا من طلاب الفلسفة، وكم كانوا من طلبة الأقسام الأخرى، وجاءوا ليشاركوا، وهاك بعض ما ورد في تلك الأسئلة: وسأتبع كل سؤال منها بإجابة موجزة.

سؤال (1):

ما جوابك عن قول لفضيلة الشيخ بأنه لا مكانه للفلسفة في الإسلام؟

الجواب:

الدعاء بالرحمة لفلاسفة المسلمين: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن طفيل، وابن باجة، وابن رشد.

سؤال (2):

هل تستطيع الفلسفة أن تغير الواقع؟

الجواب:

إذا كان العلم يستطيع أن يغير الواقع، فالفلسفة تستطيع ذلك بنفس المقدار؛ لأنها هي والعلم امتداد واحد، وكل ما في الأمر أنها أكثر من العلم تعميقا وتجريدا، فمعرفة الإنسان قوامها ثلاث درجات تتصاعد في التعميم والتجريد، وهي الخبرات المباشرة بالواقع، كأن يعلم الإنسان العادي بخبرته أن الماء يغلي بحرارة النار، ثم يأتي العلم فيستخرج بتجاربه «قوانين» غليان الماء، وأخيرا يجيء الفكر الفلسفي باحثا عن مبدأ عام يضم في وحدة واحدة علم الحرارة مع غيره من العلوم.

سؤال (3):

نقرأ عن أن الفلسفة هي «محبة الحكمة» ... فما معنى ذلك؟

الجواب:

اسأل أولا عن معنى كلمة «حكمة» تجد جواب سؤالك، فالحكمة كلمة قريبة الصلة «بالحكم»، والإنسان يكون أقدر على حكم نفسه، كلما ازداد علما، ثم استخلص من ذلك العلم مبادئه الأولى التي من شأنها ضبط السلوك، والسير به على هدى، وفي القرآن الكريم إشارة تكررت عدة مرات - إلى الربط بين «الكتاب» و«الحكمة»، وهو ربط يتضمن العلاقة بين «العلم» و«العمل» بناء على ذلك العلم.

سؤال (4):

ما مدى قدرة العقل العربي على التفلسف؟

الجواب:

أولا يجدر الإشارة بأن القدرة على التفلسف هي نفسها القدرة على التحليل، إلا أن تحليل الفكر له نوعان: أولهما التحليل المنطقي الذي يسير مع الجملة سيرا أفقيا، ليرى العلاقات التي تربط أجزاءها بعضها ببعض، كأن ننظر إلى جملة تقول إن الشمس طالعة، فندرك أن فيها موضوعا دار حوله الحديث هو لشمس، وصفة نسبت إلى ذلك الموضوع، ثم هنالك كلمة «إن» للتوكيد، أما النوع الثاني من التحليل فتجاهه رأسي، وهو يتناول الفكرة المعينة ليتعقبها إلى العناصر الأولية التي هي قوام تلك الفكرة، كأن نتناول مثلا مفهوم «الفن» فنحلل محتواه إلى العناصر التي تجعله فنا، والفلسفة تحليل بالمعنيين، وأعتقد أن قدرة العقل العربي أظهر في النوع الأول منها في النوع الثاني.

سؤال (5):

نلاحظ أنك تكتب في اتجاهات كثيرة ومنوعة، فهل هناك وراءها اتجاه خاص؟ ... ثم ورد السؤال نفسه أو ما يقرب منه من سائل آخر يقول: إنه لا يرى فيما أكتبه وجهة نظر خاصة، ولا يرى فيه شيئا جديدا عما أنقله عن آخرين.

الجواب:

لقد أخرجت كتابا عنوانه «قصة عقل»، لأبين فيه على وجه التحديد ما هي وجهة النظر الخاصة التي حكمت كتاباتي منذ خمسين عاما، ولو قرأه السائلون لوجدوا كذلك أين الجديد الذي كنت فيه غير مسبوق بأحد، على أنني بغير شك درست كثيرا وقرأت كثيرا في الفلسفة، ولا شك أني خرجت من تلك الدراسة والقراءة بمحصول تمثلته حتى أصبح جزءا مني.

سؤال (6):

إننا نشعر بشيء من الغربة حين نجد أننا لا ندرس إلا نتائج غيرنا، فماذا ترى في ذلك؟

الجواب:

ليست الدراسة في أي جامعة من جامعات الدنيا إلا ما قد أنتجه آخرون غير الطالب الدارس، إلا أن تلك الدراسة لنتاج الآخرين إذا سارت على منهج سليم أدت حتما إلى قدرة على الابتكار والإبداع عند الطالب الدارس، بحيث يستطيع على ضوء تلك الدراسة أن ينتج بدوره شيئا جديدا، فتزول الغربة التي يشعر بها لو أنه اكتفى بحفظ نتاج الآخرين فقط.

سؤال (7):

أليس هو قصورا في الفلسفة أنها لا تقدم للناس حقائق ثابتة؟

الجواب:

أكرر القول بأن الفلسفة هي امتداد للعلم في كل عصر من العصور، فكلما انتقل العلم من رؤية معينة إلى رؤية جديدة انتقلت معه الفلسفة؛ لأنها متصلة به، فكما أن العلم يتغير مع العصور تغيرا يصحح به أخطاء نفسه ويزيد من قدراته على كشف حقائق الكون، فكذلك الفلسفة وبنفس المقدار تتغير كما يتغير هو وتزيد عمقا وتحليلا ليس فقط لحقائق الكون، بل هي تضيف إلى ذلك تحليلا لما قاله الفلاسفة السابقون لتبين أين وقع الخطأ وكيف جاء الصواب. •••

ذلك كان لقائي مع طلاب الآداب وطالباتها في جامعة القاهرة أول يوم من أيام هذا العام، وتلك كانت أسئلة الطلاب والطالبات أو قل إن تلك هي أمثلة مما وجهوه إلي من أسئلة، وواضح في تلك الأسئلة أن طلابنا ينطوون على قلق شديد انبعث في نفوسهم من الدراسة التي يدرسونها، فلا هم يجدون سبيلا إلى فهمها وهضمها، ولا هم يرون علاقة واضحة بينها وبين ما سوف يعملونه كسبا للعيش في حياتهم العملية، وليس في مثل هذا القلق غرابة، فقد سمعنا خلال الستينيات من هذا القرن، أي منذ نحو عشرين عاما، عن مثل ذلك القلق الشديد الذي استبد بطلاب الآداب بكل فروعها في فرنسا وفي إنجلترا وفي أمريكا وفي غيرها، إذ رأوا أن العلاقة مبتورة أو تكاد بين ما يدرسونه وما سوف يعملونه في مستقبلهم، لكن ذلك كله إذا انصب على الطالب ودراسته بالنسبة إلى الحياة العملية، فهو لا ينصب على الفكر الفلسفي في حد ذاته وهل هو ضرورة أو زائدة يستغنى عنها، وعن هذه النقطة أقول: إنه فضلا عن أن مثل ذلك الفكر هو جزء من فطرة الإنسان وتطلعه، ولن يكتمل تعبير الإنسان عن نفسه إلا إذا جاء ذلك التعبير مستوفيا لكل جوانب تلك الفطرة، فهو بفطرته يبحث في الأشياء ليعلم أسرارها وذلك هو العلم، ثم هو يتناول ذلك العلم نفسه ليبحث عما يوحده ليبين صلة أجزائه بعضها ببعض حتى يظل الإنسان كائنا موحدا، وإلى جانب العلم وفلسفته هنالك نواح أخرى للتعبير كالفن والأدب، وهما بدورهما يخضعان للفكر الفلسفي ليبين كيف أن الإنسان في أمة بعينها وخلال عصر بعينه هو أيضا إنسان موحد الكيان، فمن شأن الفلسفة أن تتناول نتاج الفن في عصرها ونتاج الأدب كذلك لتصب عليها تحليلاتها التي تكشف عن الوحدة الكامنة في نتاجها برغم تعدد أجزائه.

فإذا عرف طلابنا وطالباتنا الذين يدرسون الفلسفة في الجامعات أنهم هم المسئولون قبل غيرهم عن حراسة الحياة الثقافية في بلدهم أولا وفي العالم كله ثانيا، حراسة يستخدمون فيها ما قد دربوا عليه من تحليل للفكر وجوانبه من علوم وفنون وآداب ليروا مدى ما حققه للإنسان في العصر المعين من حياة اكتمل كيانها، فإذا رأوا شيئا من التمزق في تلك الحياة كانوا هم أول القادرين على الكشف عن موضع النقص ابتغاء الكمال.

من الجذور

لعلي قرأت في الفلسفة المعاصرة أكثر مما قرأت في أي مجال آخر من ميادين الفكر، وكان ذلك بحكم التخصص العلمي أولا، وبتوجيه دافع قوي عندي يدفعني إلى فهم البنيان الثقافي لعصرنا، وإنني في ذلك لعلى اعتقاد مرجح الصواب، وهو أنه لا يعدل الفكر الفلسفي فكر آخر، في الكشف عن روح العصر الذي قد تعين لنا أن نعرفه على حقيقته، ومن هنا كان لكل عصر فلسفته التي تتميز عما سبقها في عصر سبق، وعما لحقها في عصر لحق، وذلك لا ينفي أن يكون للفكر الفلسفي - على إطلاقه في كل عصوره - طابع ينفرد به دون سائر ضروب الفكر، والأمر في هذا مرهون بطبيعة المنهج الذي تسير على نهجه عملية التفكير في كل ميدان على حدة.

وأراني ملزما بتوضيح ذلك ما استطعت إلى الوضوح سبيلا؛ لأنني أستهدف غاية سيري القارئ مقدار أهميتها عندما نبلغها معا في نهاية المطاف، فلا بد لي من تمهيد الأرض؛ لنسير معا خطوة خطوة حتى نبلغ الهدف ونحن على تفاهم حسن، حتى ولو لم نكن على رأي واحد في كل تفصيلات الطريق، وأول ما أتناوله بالتوضيح، هو طبيعة الفكر الفلسفي وحقيقة منهجه، فأقول إنه فكر يبدأ طريق سيره مما هو واقع في حياة الناس، ففي حياة الناس الجارية بهم لحظة بعد لحظة، تفرقة بين الصواب والخطأ فيما يتبادلونه من أفكار، ولا نستثني من ذلك صغار الأطفال منذ تتحرك ألسنتهم بالكلام، فإذا قال الطفل عن الشباك إنه باب «صححناه» ليعرف الصواب ويتخلى عن الخطأ، وتستمر معنا التفرقة بعضنا لبعض بين ما هو صواب وما هو خطأ ما دام بيننا تعامل وتبادل ... وفي حياة الناس الجارية بهم لحظة بعد لحظة، تفرقة في أنماط السلوك بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، فإذا أوفى أحدنا بوعوده وعهوده، أجزناه وأبدينا له علامات الرضا، وإذا نكث آخر استنكرناه، وفي حياة الناس الجارية بهم لحظة بعد لحظة مواقف يبدون فيها إعجابهم بشيء يعدونه جميلا، ونفورهم من شيء آخر يعدونه قبيحا، وفوق هذا وهذا وذلك، فإن في حياة الناس دينا يؤمنون به، وعلوما يقيمونها ويعلمونها في المدارس، كما أن في حياتهم الجارية كذلك ضروبا من الفن، وألوانا من الأدب ... إلى آخر ذلك العالم الطويل العريض العميق، المعقد بكثرة أجزائه وتفصيلاته، والذي قد يطيب للمتكلم أو الكاتب أحيانا، أن يلخصه في كلمة واحدة، هي كلمة «ثقافة»، وذلك حين يقول - مثلا: «ثقافة اليونان الأقدمين» أو «ثقافة العرب الأولين»، مشيرا بذلك إلى عصور بأسرها، أو حين يقول: «الثقافة الإنجليزية» أو «الثقافة الهندية» مشيرا بذلك إلى شعوب بأكملها.

لكن الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية كيف يصف قولا معينا بأنه صواب، وقولا معينا آخر بأنه خطأ، فإنه برغم ذلك يظل بعيدا أشد البعد عن العلم بمواضع هذه التفرقة في دقة كالتي يتطلبها «العلم»، ومن ثم وجدنا من يتصدى للتفكير في تلك التفرقة، حتى يصوغ مبادئها وشروطها وقواعدها، التي ينبغي لرجال البحوث العلمية أن يلتزموها؛ لكي يطمئنوا إلى صحة ما ينتهون إليه من نتائج، فإذا حدث أن اضطلع أحد بمثل هذه المهمة، كان ما ينتهي إليه جزءا من الفلسفة هو ما يسمونه «بالمنطق» حينا، أو «بفلسفة العلم» حينا ثانيا، وكذلك نقول عن الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية، كيف يفرق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء، فإنه مع معرفته تلك، يظل بعيدا أشد البعد عن القدرة على بيان الأسس التي إذا توافرت في شيء ما كان ذلك الشيء جميلا، وإذا غابت عن شيء ما، كان ذلك الشيء مسلوب الجمال بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس، وقد يحدث هنا أيضا، أن يتصدى للمشكلة مفكر موهوب في عمق التفكير ودقته فيتناول هذه التفرقة بين الجمال والقبح حتى يصوغ أسسها ومبادئها وشروطها، وعندئذ يقال عن مثل هذا المفكر إنه فيلسوف، كما يقال عما يكتبه في هذا الموضوع، إنه «فلسفة الجمال» - ولنلحظ هنا أن عملية «النقد» في مجال الفن والأدب إنما هي فرع يتفرع عن فلسفة الجمال؛ ولذلك فقد يختلف النقاد في الأساس الذي يقيمون عليه نقدهم باختلافهم في المذهب الفلسفي الذي يناصرونه، وعلى تلك الوتيرة نفسها، التي رأيناها في الحالتين السابقتين، وأعني الحالة التي رأينا فيها كيف جاء قسم من أقسام الفلسفة، وهو «المنطق» تطويرا وتدقيقا لما يمارسه الإنسان العادي من تفرقة بين الصواب والخطأ، والحالة التي رأينا فيها كيف جاء قسم آخر من أقسام الفلسفة وهو النظرية الجمالية تطويرا وتدقيقا لما يمارسه الإنسان العادي من تفرقة بين الجمال والقبح، أقول: إنه على الوتيرة نفسها ننتقل إلى حالة ثالثة، نرى فيها الإنسان العادي على معرفة واسعة بما يفرق بين ما هو فضيلة وخير من أفعال الناس، وما هو رذيلة وشر من تلك الأفعال، ولكن الإنسان العادي، برغم معرفته الواسعة تلك يظل بعيدا بعدا شديدا عن إدراك الأسس التي تكمن وراء ما هو فضيلة وخير، والتي إذا غابت عن فعل معين، كان ذلك الفعل رذيلة وشرا ، بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس، وها هنا أيضا - كما رأينا في الحالتين السابقتين - قد يتصدى للأمر مفكر موهوب في دقة التحليل ونفاذ البصيرة، فيصوغ تلك الأسس التي على وجودها تبنى الفضيلة، وعلى غيابها تبنى الرذيلة، فإذا تحقق لمثل ذلك المفكر ما أراده، عددناه فيلسوفا، وعددنا ما كتبه «فلسفة للأخلاق»، ويجمل بي في هذا الموضع من سياق الحديث، أن أوضح نقطة أراها عظيمة الأهمية في إقامة رؤية صحيحة عند «المثقف»، وهي أن شعوب الأرض جميعا، على اختلاف عصورها، واختلاف ثقافاتها وعقائدها، تكاد كلها تكون على اتفاق فيما يعد فضيلة وما يعد رذيلة، فليس في هذا يكون الاختلاف بين شعب وشعب، أو بين عصر وعصر، وإنما يكون موضع الاختلاف مضمرا يخفى على أعين الناس بصفة عامة، وينكشف عندما يكشف «فيلسوف الأخلاق» تلك الأسس التي يرى أنها كامنة في نيات الأفعال؛ وذلك لأن الشعوب المختلفة - وإن اتفقت جميعا على أفعال بعينها لتكون من الفضائل - فهي تختلف في أعماقها عن السبب الذي من أجله تكون الفضيلة المعينة فضيلة، فمثلا، هنالك إجماع بين أفراد البشر جميعا، على أن الوفاء بالعهد فضيلة واجبة، فإذا سألنا: لماذا؟ (ومثل هذا السؤال هو الذي يطرحه الفيلسوف في بحثه عن الأسس المضمرة) جاءتك إجابات تختلف باختلاف الشعوب والعصور والثقافات، فمنها إجابة تقول: إنها خبرة الإنسان في حياته العملية على امتداد الزمن، هي التي علمته أن الوفاء بالعهود من شأنه أن يصون كيان المجتمع، وإجابة ثانية تقول: بل إن الوفاء بالعهد إنما كان فضيلة بحكم العقل ومنطقه الفطري، الذي يرفض الفكرة إذا تبين أنها تنطوي على تناقض، والوفاء بالعهد فضيلة لأننا لو كنا اخترنا للفضيلة أن تكون نكثا للعهود لما استطاع إنسان أن يثق في إنسان، وبذلك يفنى المجتمع وتفنى البشرية كلها بفناء المجتمع، وإجابة ثالثة تقول: إن الوفاء بالعهد إنما هو فضيلة لأن الأمر به قد جاء توجيها من السماء فيما نزل من وحي على الرسل والأنبياء ... وهكذا تتعدد وجهات النظر إلى الأسس، برغم اتفاقها على وجوب صورة معينة في ظاهر العقل، على أن ذلك الاختلاف على الأسس هو الذي يكشف عن موضع التباين بين الشعوب في رؤيتها العامة - وتلك الرؤية العامة هي عماد الموقف الثقافي لشعب معين أو لفرد معين.

ونكتفي بالأقسام الثلاثة التي ذكرناها لنسوق بها أمثلة توضح طبيعة الفكر الفلسفي، وكيف أنه فكر يبدأ مما هو قائم ومتداول بين الناس في حياتهم اليومية العادية، أو في حياتهم العلمية، أو في حياتهم الأدبية والفنية، فمن هذا الواقع الفعلي يبدأ الفيلسوف راجعا بالفكرة التي يختارها، حتى يصل بها إلى المبدأ الأساسي، الذي هو مضمر فيها، ولا ينكشف لعين الإنسان المجردة إلا بعد تحليل يظهره ويخرجه من الخفاء إلى العلن، والأقسام الثلاثة التي ذكرناها، هي: علم المنطق الذي يستخرج أسس الصواب في عملية الفكر، وعلم الأخلاق الذي يرد الفضيلة إلى الأصل الذي انبثقت منه، وعلم الجمال الذي يوضح العوامل التي إذا توافرت في شيء أو في فن أو في أدب، صار جميلا، وإن تلك الأقسام الثلاثة التي نريد الاكتفاء بها في سياق حديثنا هذا، إنما هي المجالات التي تقابل القيم الكبرى الثلاث ... وهي قيمة الحق «متمثلة في علم المنطق»، وقيمة الخير «متمثلة في علم الأخلاق» وقيمة الجمال «متمثلة في علم الجمال»، وتحت مظلة الحق والخير والجمال تندرج القيم الإنسانية جميعا فروعا لها ...

ولقد ذكرنا هذا كله عن طبيعة الفكر الفلسفي لكي نسير معا - القارئ والكاتب - في خطوات نلتقي عند كل خطوة منها على فهم مشترك، حتى أصل بك إلى الغاية التي أنشدها، ولعلك تذكر ما زعمته لك عند فاتحة هذا الحديث من أنني أجد في قراءة الفلسفة - في أي عصر من عصورها - أفضل وسيلة للكشف عن حقيقة المناخ الثقافي الذي يسود عصرا بذاته، فقراءة الفلسفة اليونانية تكشف لنا بوضوح عن أهمية المعاني الأخلاقية في المجتمع اليوناني، وذلك حين نرى شطرا كبيرا من الموضوعات التي أدار سقراط حولها حواره كانت موضوعات أخلاقية، وحين نرى أن عددا كبيرا من محاورات أفلاطون كان المدار فيها مفهوما إنسانيا يتصل من قريب بسلوك الإنسان، حتى لقد جعل أفلاطون مثال «الخير» هو قمة المثل جميعا، تتجه نحوه كل المعاني على اختلاف ميادينها، وتنتقل إلى الفلاسفة المسلمين الأولين فتجد في قراءة فلسفتهم ما يدلك أقطع دلالة على أن الاهتمام الأكبر، الذي كان بمثابة قطب الرحى في حياة الناس الفكرية عندئذ، هو المعاني الأساسية التي وردت في غضون العقيدة الإسلامية، فانصب التحليل على المعاني الإسلامية الأساسية كالتوحيد، والخلق، والعدل وغيرها، فضلا عن النظرة الشاملة والعميقة إلى الإسلام ليجد فيه الفيلسوف المسلم أنه دين لا يتناقض مع «العقل»، إلى الحد الذي يمكن معه أن نرى الحقيقة الواحدة، قد وردت في فلسفة اليونان بلغة الفلسفة، وفي نصوص الإسلام بلغة الشريعة، مما يدل على أن خط الشريعة وخط العقل الخالص متوازيان، وإذا شئت فاقرأ في ذلك ابن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال» ...

إن صورة الحياة لأي شعب في أي عصر، تنعكس فيما تجري به الأقلام، وفيما تؤديه النظم والمؤسسات، على أن كل ميدان من ميادين التخصص يتكلم عن تلك الحياة بلغة تخصصه، فإذا كانت الحياة سوية ومتكاملة، جاءت صنوف الكتابة المختلفة باختلاف التخصص وكأنها فصول من كتاب واحد، وأما عندما تكون الحياة مضطربة متنافرة العناصر، فإن ميادين النشاط المختلفة تنعكس صورها بحيث يحسبها من يطالعها أنها إنما جاءت من عصور مختلفة أو من شعوب متباينة، ففي تلك الصورة التي تصور حياة الناس في شعب معين وتقدم الفلسفة نصيبها من تلك الصورة بلغة الأفكار، ويقدم الاقتصاد نصيبه بلغة المال والإنتاج، ويقدم التعليم نصيبه بلغة المناهج الدراسية ونظم التعليم، وتقدم السياسة نصيبها بلغة الأحزاب ومذاهبها وجودا وعدما ... وهكذا تتعدد لغات الميادين المختلفة، إلا أنها برغم تعددها هذا، يستطيع صاحب النظرة التحليلية أو صاحب البصيرة الثاقبة، أن يرى تلك الصورة وكأنها ترجمات مختلفة لأصل واحد، وأما حينما يقل الانسجام أو ينعدم في جماعة، إبان فترة معينة، تعذر أن تجد النقطة الواحدة التي تلتقي عندها جوانب النشاط في حياتها.

أظن أن الفكرة التي أردت إبرازها، قد باتت الآن واضحة، وهي أن من يقرأ لفلاسفة شعب معين في فترة معينة، يعرف من خلالها كيف كانت صورة الحياة في ذلك الشعب إبان تلك الفترة، ولقد زعمت لك في أول هذا الحديث أنني أطلت القراءة في الفلسفة المعاصر، لا بحكم التخصص العلمي فحسب، بل كذلك رغبة مني في معرفة روح هذا العصر الذي نعيش فيه ...

والآن فلنستعرض معا، بنظرات سريعة خاطفة نفرا من فلاسفة هذه الفترة الراهنة من عصرنا - وأعني هذا القرن العشرين على وجه التقريب - لنرى في أي شيء كتبوا ويكتبون، وما هي صورة الحياة التي نستشفها وراء تلك الكتابة، وأبدأ بالفيلسوف الإنجليزي المعروف «برتراند رسل» فهو من أعلاهم قامة، ومن أشدهم حذرا في قبول ما كانت العصور الماضية قد أخذته مأخذ التسليم ... فيروى عنه - أو هو يروي عن نفسه - أنه بدأ في سن الحادية عشرة يدرس هندسة إقليدس بمعاونة شقيقه الأكبر، وتلك الهندسة - كما نعلم جميعا مما درسناه منها في المدرسة الثانوية - تبدأ بما يعد «مسلمات»، أي أنها بضعة تعريفات وبدهيات ومصادرات، نسلم بها بادئ ذي بدء، لنأخذ بعد ذلك في استخراج النظريات بناء عليها، لكن رسل الطفل سأل أخاه: ومن أين جاءت هذه المسلمات؟ وضاق أخوه بالسؤال؛ لأنه مما لا يصح إلقاؤه بالنسبة إلى «المسلمات» وإلا لما استحقت تلك المسلمات أن تسمى باسمها هذا ... وأصر الطفل على أن يعرف على أي أساس فرضت علينا، وهدده أخوه بأن يكف عن معاونته، وسكت الطفل على مضض، لكن سؤاله لم يبرح ذهنه، حتى إذا ما أصبح شابا يدرس الرياضة في جامعة كمبردج، شغل نفسه بسؤاله القديم، ومن تلك البداية، دخل عالم الفلسفة من باب الرياضة؛ وذلك لأن سؤاله ينقله من علم الرياضة إلى فلسفة الرياضة، ثم أخذت الخيوط تتشعب بين يديه حتى انتهى به الأمر إلى إقامة فلسفة شاملة، جاءت في نهاية المطاف واحدة من أكثر الصور العقلية توضيحا لروح هذا العصر، وحسبنا أن نعلم أنه أعظم من أسهم بنصيب في إقامة منطق جديد يتناسب مع ضرورات الحياة العلمية في صورتها الجديدة.

وننتقل إلى شامخ آخر هو: ج. أ. مور، الذي يصفونه بأنه «فيلسوف الفلاسفة»؛ وذلك لأنه جعل محور اهتمامه تحليلا لما كتبه فلاسفة آخرون، ليرى إذا كان فيما كتبوه اتساق، أم أنه ينطوي على تناقض فيرفضه ... ولقد انتهى به تحليله البارع القدير إلى نتائج، كان أهمها رفضه للفلسفة «المثالية» التي تجعل العقل النظري الخالص مصدرا للمعرفة، وذهب إلى أن ما يدركه الإنسان بحسه الذي يشترك معه فيه سائر الناس يجب أن يكون مقبولا على أنه إدراك سليم.

وهنالك جماعة من علماء الرياضة وعلماء الطبيعة، أخذتهم رغبة في أن ينظروا إلى الفلسفة من خلال علومهم، فانتهوا إلى نتائج مهمة صححت كثيرا من أخطاء الماضي، كان من أهمها التفرقة بين هاتين المجموعتين من العلوم - الرياضية والطبيعية - في معايير الصواب والخطأ، فلكل مجموعة منها معيارها الخاص بها، بعد أن كان الظن فيما مضى أن للصواب العلمي معيارا واحدا، ومن نتائجهم المهمة كذلك، أن الطريقة التي تبنى بها الجملة المزعوم لها أنها جملة علمية، كافية وحدها للتدليل على صلاحيتها للعلم من حيث الشكل، أو على عدم صلاحيتها، وذلك عن طريق التحليل المستند إلى طبيعة اللغة ذاتها، فمن الجمل اللغوية ما يصلح للمنهج العلمي، ومنها ما لا يصلح، ويطلق على تلك الجماعة اسم «جماعة فينا» ...

وهنالك فلاسفة كان مدار بناءاتهم الفلسفية فكرة «التطور»، لا بالمعنى البيولوجي الذي قدمه داروين في القرن الماضي، بل بمعنى أوسع يشمل الكون كله دفعة واحدة، إذ الكون عندهم قد أخذ على الزمن يتطور من مرحلته الأولية الأولى، ليعلو درجة بعد درجة، وله في كل درجة صفات تزداد تركيبا، وتزداد - بالتالي - ارتقاء، وكان من أشهر هؤلاء صموئيل إسكندر وألفريد نورث هوايتهد.

وهنالك، إلى جانب أولئك وهؤلاء، فلاسفة كثرت الكتابة عنهم عندنا، فعرفهم المثقفون منا، منهم الوجوديون والبراجماتيون، والماركسيون، لكن الذي يلفت النظر بحق هو أن هنالك فئة كبيرة وجهت اهتمامها إلى فلسفة اللغة، وهم جديرون بأن يعرف عنهم المثقفون العرب أكثر مما يعرفونه الآن.

وبعد هذا العرض السريع لبعض اتجاهات الفكر الفلسفي في عصرنا ... نسأل: أين نجد روح العصر من هذه الأشتات؟ كيف نستخرجها من هذا الخليط؟ والإجابة التي أقدمها عن هذا السؤال هي أننا لا نكاد نلقي نظرة على تلك التشكيلة المنوعة من الاتجاهات؛ حتى يتبدى لنا في وضوح أن الاهتمام كله قد انصب على الكون في طبيعته التي نحيا بين جنباتها، فكأنما الإنسان في عصرنا هذا، قد اتجه بفكره نحو بيته الذي يقيم فيه، يحاول معرفة ما فيه، وأما ما سبق إقامة البيت، وما سوف يلحق البيت بعد زواله، فلم يظفر من فلاسفة العصر بنظرة، لا إثباتا، ولا نفيا، ولا تعليقا، إلا القليل النادر، ومن هذه الزاوية استحق عصرنا أن يوصف به كثيرا، وهو أنه عصر «مادي»، بمعنى أنه لا يجاوز حدود واقعه الذي يعيش فيه إلى خالق ذلك الواقع بكل ما فيه ومن فيه، وهو «سبحانه» مالك يوم الدين حين تفنى الدنيا ويكون الحساب.

وها هنا نصل إلى النتيجة المهمة التي أسلفت لك منذ أول الحديث، بأننا بالغوها، وهي التي من أجلها قدمنا ما قدمناه من شروح تمهد طريق الوصول إليها، وتلك النتيجة هي أنه حيث قصر الغرب، يقع واجب المفكر الإسلامي، وهو إذا أدى واجبه هذا، كان ذلك إضافة منه إلى ثقافة العصر، وإلى حضارته، التي تبنى على تلك الثقافة، فلست أظن أن أحدا يستطيع بمثل ما يستطيع المسلم أن يزود الطائر المهيض، بجناحيه المفقودين: جناح ما قد كان «قبل هذا الوجود» وجناح ما سوف يكون «بعده»؛ لأن في العقيدة الإسلامية من التفصيلات في ذينك الجانبين، ما هو كفيل بأن يسد النقص في صورة الحياة العصرية كما هي قائمة.

إن الجزء الأكبر مما قاله فلاسفة الغرب المعاصرون عن «البيت» الدنيوي من الداخل ليس فيه - كما أرى - ما يحمل المسلم على رفضه بحكم عقيدته، وإلا فمن الذي يرفض تلك التحليلات الرياضية التي انتهت إلى المنطق في صورته الجديدة؟ من الذي يتردد أمام نظرات تصحح خطأ وقع فيه الإنسان، حين انبهمت أمامه الفواصل، بين العلوم المختلفة، فانبهمت - بالتالي - معالم المنهج العلمي في التفكير؟ لكن المسلم إذ يقبل الجزء الأكبر مما قيل عن «البيت» من داخل، يرفض رفضا قاطعا أن تكون جدران البيت هي أوله وهي آخره؛ لأنه يعتقد أنه بيت إلى زوال كان قبله أزل، وسيكون بعده أبد الخلود، وما البيت - على أهميته كلها - إلا الوسيلة التي تؤدي بالإنسان إلى أي النوعين من الخلود هو صائر، أهو خلود الثواب، أم خلود العقاب؟

على أن هذه الإضافة الإسلامية إلى صورة الحياة في عصرنا، لا يكفي فيها أن تضاف إلى حافة الصورة من خارج، بل لا بد من سريانها في العروق؛ لأنها هي بمثابة الوقفة الأخلاقية التي لا تنفصل عن الإنسان كلما رفع ذراعا في عمل، أو خطا بقدم ليمشي، لكن من أراد أن يتغلغل بمبادئه الأخلاقية تلك في جسم الحياة العصرية، لن يكون له مندوحة عن معرفتها والمشاركة فيها مشاركة إيجابية فعالة: بالعقل متمثلا في الإبداع العلمي، وبالقلب متمثلا في الإبداع الفني والأدبي ... فهل نحن فاعلون؟

حياتنا الجديدة تصنعها أقلامنا

آيات التنزيل بينات، بأنه لا إلزام للخلف بأن يحذوا حذو السلف في أسلوب الحياة إذا هم وجدوا ذلك السلف، على صورة من الحياة في ماضيهم لم تعد تتفق مع عصر آخر جاء بعد عصرهم، وهو إنما جاء - إذا جاء - بجديد لم يكن للآباء عهد به.

وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا (سورة الأعراف).

أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (سورة البقرة).

أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (سورة المائدة).

تلك آيات، هي بعض ما جاء به الكتاب الكريم، فيمن تمسكوا بما كان عند الآباء، حتى ولو كان عصر الآباء قد انقضى، وتلاه عصر آخر، ثم جاءتهم هداية ترشدهم إلى سبيل أقوم، يسلكونها في الحياة الجديدة لذلك العصر، فهذه الآيات الكريمة، وإن تكن قد نزلت في مناسباتها، إلا أن لها نورا يضيء أمام أبصارنا طريق الرشاد، بالنسبة إلى كل دعوة تقتضيها حقائق الحياة في عصر جديد، فطالما كانت أركان الدين قائمة جاز لنا، بل وجب علينا، فيما يختص بأوضاع الحياة المتغيرة، وفي اتجاهات الفكر والذوق، أن نلائم بينها وبين ما استحدثته الظروف في زمن رحل، بعد سابق له رحل.

كان حديث كهذا، هو ما مهدت به الطريق، إلى إجابة مستفيضة، أجبت بها على سؤال هام ألقاه علي ضيف كريم، وهو فقيه وعالم، وأديب، تفضل بزيارتي لأول مرة مقتنعا بأن الأخذ والرد في حوار مباشر، خير له ألف مرة من كتابة وقراءة ثم كتابة للرد، تتباعد فيها كل خطوة عن الخطوة التي تليها ثلاثة أسابيع أو أكثر، فيجيء الرد على الفكرة المعروضة، بعد أن تكون الفكرة نفسها قد بهتت معالمها، ... هكذا قال لي الضيف الوقور في حديثه الهاتفي مستأذنا في زيارة، ليناقش معي موضوعا له عنده أهمية كبرى.

وكأنما كان ضيفي حريصا على ألا تضيع منا دقيقة واحدة فيما ليس يجدي، فلم يكد يجلس على كرسيه حتى واجهني بقوله: إنك يا أخي تكثر من ذكر الفوارق بين العصور، حضارة وثقافة، وتلح على أن يكون للعصر الجديد ما يلائمه، كما كان لكل عصر من العصور ما هو ملائم لظروفه التاريخية، وهذا كلام معقول في ظاهره، لكنه أثار في نفسي سؤالا لا أظنني قد وقعت له عندي على جواب مقنع، وهو: ما الذي يفصل عصرا مقبلا عن عصر مدبر؟ أليس تيار الزمن سيالا، تشرق فيه الشمس صباح اليوم كما أشرقت صباح الأمس؟! إنك قد ترى الظل والنور متجاورين متميزين، لكن قرب منهما النظر، تجده عسيرا أن ترسم الخط الحاد الذي يفصل هذا عن ذاك، فما بالك بفترات الزمن حين نميز فيها عصرا عن عصر؟ هل في مستطاعك - يا أخي - أن تحدد لنفسك، متى على وجه التحديد أدبرت طفولتك، ليحل محلها شبابك؟ ومتى على وجه التحديد كذلك أسدل الستار على مرحلة الشباب، ليرتفع عما بعد الشباب من مراحل الحياة؟ فإذا كان من المتعذر علينا أن نقيم الفواصل بين المراحل في أمثال هذه الحالات الواضحة وضوحا نسبيا، فكيف يمكنك إقامة الفواصل بين عصور التاريخ، لتبني على ذلك تلك النتيجة الخطيرة ، وهي أن عصرا ما قد ذهب بحضارته وثقافته، وقام بعده عصر يريد بدوره أن تكون له حضارته وثقافته؟ - فأجبته قائلا: لقد أثرت بسؤالك هذا موضوعا، لا حدود لأهميته عند من يريد لنفسه فهما دقيقا وواضحا لحركة التاريخ الفكري، ومثل هذا الفهم الواضح الدقيق ضروري؛ لأنه إذا لم يتحقق لأحد منا - أو لجماعة من الناس، سبق إلى أوهامهم أنه من الممكن والجائز أن يعيش إنسان في مرحلة فكرية لاحقة في ترتيب الزمن، على نحو ما كان الناس يعيشون في مرحلة سابقة في ذلك الترتيب، ثم تظل حياته رغم ذلك الرجوع موفورة الخصب قادرة على الإبداع.

ولهذه الأهمية التي أعلقها على دقة الفهم ووضوحه فيما يميز العصور بعضا عن بعض، ولاحقا عن سابق، أرجوك يا سيدي أن تأذن لي بشيء من بسط القول وتبسيطه بقدر المستطاع، فيقال عن عصر ما إنه قد أذن بالزوال، إذا كانت حياته قد استقرت زمنا على أفكار معينة فيها كل الحلول المطلوبة لما ينشأ له عادة من مشكلات، ولكنه يفاجأ بأحداث جديدة لم يكن قد عهدها من قبل، وبالتالي فهو لا يملك لها أسلوبا خاصا يواجهها به، فعندئذ تتأزم الصدور وتتعقد مسيرة الحياة اليومية، التي يراد لها أن تكون حياة «جارية» وكأنها ماء النهر يتدفق في سيولة سلسة لا تتطلب من الناس وقفة يفكرون فيها، وهكذا - على وجه الإجمال يا سيدي - يدبر عصر ويقبل عصر جديد، فحلقات السلسلة تتعاقب على هذه الصورة الآتية: حياة مستقرة على نمط سلوكي لا تعرقل سيره العقبات، ثم مفاجأة بأحداث كبرى غير مسبوقة بما يشبهها، فضرورة تحتم على الناس أن يجدوا لذلك الجديد ما يلائمه من ردود فعل جديدة، ونمط سلوكي غير الذي ألفوه، يتكيفون له، على أنه ليس مستحيلا على الإنسان من الناحية الجسدية والنفسية معا، أن يرفض عن عمد وإرادة، مواجهة الأحداث الجديدة بما يلائمها، مؤثرا المضي في صورة حياته المألوفة، لكن مثل هذا العناد الحضاري لا بد له من ثمن باهظ يدفعه العنيد من لحمه ودمه (بالمعنى الحرفي أحيانا لهاتين الكلمتين)؛ وذلك لأنه في حالة كهذه، يصبح أمرا مؤكدا أن يبسط صاحب الحضارة الجديدة سلطانه على من تشرنق في حضارة قديمة، والأمر العجيب هنا، هو أن من أصبح سيدا ذا سلطان، يهمه أن يظل العنيد المنهزم على عناده، ليدوم للقوي سلطانه على الضعيف ...

ولقد ضربت لي أمثلة - يا سيدي - تبين صعوبة التمييز للفواصل التي تقام بين مرحلتين، فضربت مثلا بالظل والنور يتجاوران، ثم ضربت مثلا بمراحل الحياة في الفرد الواحد، طفولة وشبابا وما بعد الشباب، وأنا متفق معك في وجود الهامش الغامض بين المرحلتين حين تكون المراحل أقساما متعاقبة لظاهرة هي بطبيعتها مستمرة استمرارية النقط في الخط، أو استمرارية الماء في النهر، لكن هذه الهوامش الغامضة بين المراحل - لا تنفي أن لكل مرحلة وسطا تستقر فيه وتتضح معالمها، وهذا بعينه هو ما يحدث في مراحل التاريخ الحضاري. - قال الشيخ في هدوء وقاره: هلا أوضحت قولك هذا بأمثلة حقيقية من تاريخنا نحن؟ وأعني تاريخ مصر من حيث هي مصر، أو تاريخها من حيث هي جزء من التاريخ العربي بصفة عامة، أو من حيث هي جزء من تاريخ الإسلام بصفة أعم وأشمل؟ لك أن تختار المجال الذي تنتزع منه المثل، فأصارحك القول، بأني - بعد كل ما عرضته علي - لا أتصور تصورا واضحا، كيف أطالب بأن أحيا على نمط عقلي وذوقي وسلوكي يختلف عن نمط السلف الأولين، ثم أظل رغم ذلك - كما أريد أن أكون مصريا عربيا مسلما - إن المسألة يا أخي إنما هي مسألة النماذج المثلى من أي حياة نختارها، لندنو منها ما استطعنا ولنربي أبناءنا على استهدافها.

قلت: لقد أعطيتني بقولك هذا مادة أستخدمها هي نفسها في الجواب! إنك تريد - وأريد معك أن تظل كما أنت - مصريا عربيا مسلما، وذلك من حيث النموذج الأمثل الذي تحاول الحياة على هداه، مهما يكن من أحداث جديدة طرأت في دنيانا، فأسموها «العصر الجديد»، وأنا بدوري أطرح بيننا هذا السؤال، وسترى أنه سؤال شديد الإيضاح لما أقوله، والسؤال هو: ما هي العناصر التي إذا ما توافرت في إنسان، صح لنا وصفه بأنه «مصري عربي مسلم»؟ وأرجوك ألا تسرع إلى القول بأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى سؤال، وأستأذنك بأن أسترسل في الحديث فأقول: إنه لو طرح سؤال كهذا في أي عصر مضى، وحاول أصحاب النزعة العلمية أن يجيبوا عنه، لكانت طريقة البحث عندهم، كما كانت عند الأقدمين جميعا شبيهة جدا بالطريقة المتبعة في الفكر الرياضي، فماذا يصنع الرياضي إذا رسمت له مثلثا، وطلبت منه أن يقيم البرهان على أنه مثلث؟ إنه يلجأ إلى التعريف العقلي الصرف، الذي يحدد المثلث وحقيقته، حتى ولو لم يكن في العالم كله مثلث واحد مرسوم بصورة فعلية على الأرض، أو على الورقة أو على أي جسم آخر، فللمثلث حقيقة حددها الفكر الرياضي، غير مستمدة من مثلثات فعلية موجودة في الطبيعة المادية، وهي التي يقاس إليها بعد ذلك ما عسانا مصادفوه في دنيا الواقع من أشكال، لنعرف إذا كان ما صادفناه مثلثا أو لم يكن.

هذه نقطة منهجية في أقصى درجات الأهمية والخطورة، ولها أثرها العميق في موضوعنا هذا الذي نتحدث فيه، وهي - مرة أخرى - أن الأقدمين، وحتى منتصف القرن الماضي، كان يغلب عليهم النهج الرياضي في التفكير، مهما تكن طبيعة المشكلة المعروضة، بمعنى أن «يفترضوا» للموضوع المطروح للبحث، تعريفا يحددونه، دون أن يؤخذ هذا التعريف من الموضوع نفسه كما هو واقع بالفعل في دنيا الأشياء، وكان ذلك عند الأقدمين ظنا منهم بأن التفكير لا سبيل أمامه إلا هذا السبيل، حتى حدث في منتصف القرن الماضي ما قد حدث من تغيرات أساسية وجوهرية في علم الرياضة ذاته، مما أظهر في جلاء، أنه إذا كان موضوع الدراسة شيئا من أشياء الواقع الطبيعي، كانت الطريقة العلمية في دراسته مختلفة أشد اختلاف عن الطريقة المتبعة في دائرة الرياضة أو ما ينهج نهجها من مجالات أخرى.

وموضوعنا الآن - يا سيدي - هو المصري العربي المسلم: ما هي العناصر والمقومات التي لا بد أن تتوافر فيمن يصبح من حقه أن تطلق عليه هذه الصفة؟ ها هنا لا يتوقف البحث على «افتراض» نفترضه ونبني عليه، بل لا بد من دراسة على الواقع الفعلي، وفي أي عصر من التاريخ نختاره، فإذا فعلنا ذلك، وجدنا أنفسنا أمام خصائص كثيرة جدا، كلها كانت مما يمكن أن تكون ماثلة فيمن هو مصري عرب مسلم، فماذا نحن صانعون بتلك الخصائص الكثيرة، التي لا يشترط لها أن تتحقق كلها معا في كل مصري على حدة، بل يكفي أن يتحقق منها بعضها دون بعض! وفي مستطاع الباحث المدقق أن يستخرج من تلك الخصائص الكثيرة جانبا يرى فيه الضرورة والدوام، وجانبا آخر يتغير بتغير الظروف في العصور المختلفة. - سألني الضيف الفاضل مبتسما: لقد درنا وعدنا إلى المشكلة الأولى، وهي: كيف أعرف أن عصرا ذهب وعصرا أتى لأتكيف له؟ - قلت: صبرا، فذلك سوف أنتقل إليه الآن، لقد كان لا بد لي أولا أن أبرز هذا الجانب الهام من موضوع حديثنا، وهو أن هنالك في هويتنا التي نريد لها أن تبقى مصونة من التشويه والانهيار، أقول: إن هنالك في هويتنا ما يجب أن يدوم مهما يكن في العصر الجديد من تغيرات، لكن هنالك أيضا من مقومات تلك الهوية ما هو بطبيعته قابل للتغير مع تغيرات الزمن، هذه واحدة، وأما الأخرى، فهي أن الحديث الضخم الذي وقع فأنهى عصرا، وألزم الناس بأن يدخلوا معه في عصر جديد، أو أن يهلكوا إذا هم عاندوا فرفضوا، والتهلكة قد تتخذ صورا كثيرة، منها أن يقعوا في ذل التبعية للأقوياء، ذلك الحدث الضخم الذي جاء فاصلا بين عصرين هو ظهور علم من نوع جديد، استدعى منهجا علميا جديدا، وكان من نتائج ذلك هذا الذي نراه محيطا بنا حتى أصغر كوخ في أقصى قرية، فعلم هذا العصر بمنهاجه الجديد، هو الذي ملأ البر والبحر والهواء بأجهزة وآلات لم يعد على الكوكب الأرضي إنسان واحد لم يتأثر بها كثيرا أو قليلا.

ودخولنا في هذا العصر الجديد - يا سيدي - لا يتحقق أبدا بكوننا ننتظر حتى ينتج الغرب علما، وحتى يصنع الغرب بذلك العلم أجهزة وآلات فنتقدم نحن إليه، فننقل عنه علوما لتدريسها في معاهدنا وجامعاتنا، ثم نشتري منه تلك الأجهزة والآلات التي ابتكرها بناء على علومه، لا، بل إن دخولنا في العصر الجديد لا بد له من تشرب المنهج الجديد الذي من شأنه أن يؤدي إلى تلك النتائج كلها، وإذا نحن فعلنا ذلك، فلن يقتصر الأمر في حياتنا على دراسة العلوم الجديدة، وعلى صناعة أجهزة وآلات عليها بصماتنا، بل سرعان ما نجد أن نسيج حياتنا كله قد تأثر ابتداء من الحرص على دقة التوقيت، بحيث نحسب حساب الزمن بدقائقه وثوانيه؛ لأنها مسألة جوهرية في دنيا الأجهزة والآلات، وستنتقل منها إلى الحياة العامة، أقول: إن هذه الحياة العامة في شتى أوضاعها سرعان ما تتأثر وتتغير، نتيجة للنظرة الجديدة، ابتداء من حساب الزمن بدقائقه وثوانيه، وانتهاء بما ليس له نهاية.

سألني الضيف المهذب الوقور: ومن ذا الذي تظنه قادرا على إدخالنا في العصر الجديد، بالصورة التي بينتها؟ وكيف يكون هذا؟

فأجبته قائلا: أشكرك على سؤالك، أنه يتيح لي فرصة الحديث عن موضوع كان بودي أن أتحدث فيه إلى قرائي منذ زمن طويل، إن أول ما يرد إلى خواطرنا إذا ما طرح علينا سؤالك هذا، هو أن مثل ذلك التحول في الرؤية العامة، إنما تحدثه العلمية التعليمية كلها، مضافا إليها في يومنا هذا، العملية الإعلامية، بكل فروعها، لكنني إذ أسلم بتلك الإجابة بالطبع؛ لأن صوابها مقطوع به ولا ريب، إلا أنني أوثر هنا أن أقصر حديثي على جانب واحد من الجوانب التثقيفية التي من شأنها أن توصلنا إلى اكتساب الرؤية المطلوبة، وذلك الجانب الذي سأقصر حديثي عليه الآن، هو «الكاتب»، وإذا قلت «الكاتب» فإنما أعني صنوفا كثيرة مختلفة من نتاج القلم، فهناك «الأدب» بكل فروعه، من شعر، ورواية، وقصر ومسرحية ومقالة، وهناك إلى جانب الأدب الخالص دراسات مما يقع في نقطة وسطى بين الدراسات العلمية الخالصة من جهة والإبداع الأدبي من جهة أخرى، فالكاتب بهذا المعنى، وسيلة لعلها أقوى الوسائل جميعا، في إعداد العقول والقلوب إعدادا جديدا ، وليس هو من قبيل الشطح في التعليل، أن يقال في الثورة الفرنسية إن أهم العوامل التي أدت إلى قيامها، هو مجموعة الكتاب الذين تولوا حركة التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، وكان أبرزهم فولتير، ولا هو من قبيل الشطح في التعليل، أن نقول عن حياتنا في هذا التاريخ الحديث والمعاصر، إن أهم العوامل التي أدت إلى قيام الثورة العرابية، تلك الدعوة إلى الحرية بمختلف أنواعها، والتي أثارها الطهطاوي ومحمد عبده، وإن أهم العوامل التي أدت إلى قيام ثورة 1919 ما كتبه النديم، ولطفي السيد، ومصطفى كامل، وأن أهم العوامل التي أدت إلى قيام ثورة 1952 هو ما كتبه لبيان حقوق الإنسان ذلك الرعيل الكريم من الأعلام خلال العشرينيات والثلاثينيات، ثم امتداده فيما كتبه الكاتبون في النصف الثاني من الأربعينات بعد أن بلغت الحرب العالمية الثانية ختامها.

ولقد كان يمكن لتلك الأقلام نفسها، أن تعمل على إدخالنا في روح عصرنا بدرجة أكبر مما فعلت، لولا أن مشغلتها الأولى، التي استنفدت جهدها - كانت المطالبة بالحريات - سياسية واجتماعية، فلم تركز على إقامة المناخ الحضاري الجديد، وتركته ليكون قضية جانبية، وربما كانت الفرصة المناسبة أمام «الكاتب» ليضطلع بالجانب الحضاري، قد حانت له بعد أن استقرت الحياة على أسس ثورة 1952، لكن ذلك لم يحدث، وإن حدث، فبدرجة خافتة الصوت ولم تسمعها الآذان، لا، بل الذي حدث هو عكس ذلك تماما، إذ نشأت ظروف في العلاقة بين مصر - والوطن العربي في جملته - حملت كثيرين جدا من رجال الفكر والأدب، ومن شبابنا، على أن يرتابوا ريبة شديدة في الغرب وحضارته وثقافته، وكان يكفيهم في تبرير ريبتهم تلك أن قامت إسرائيل على الأرض العربية بتلك الصورة التي قامت بها وبتلك الحرارة التي أيدتها بها دول غربية هي أقوى الدول، فأدرك العرب جميعا - مصريين وغير مصريين - بأن الغرب ليس في جانبهم، وهنا اضطرمت في الصدور نار الكراهية للغرب وثقافة الغرب وحضارة الغرب، وأخذت الأبصار والأسماع تتجه إلى حيث يجد العربي مصادر هويته الأصيلة وهي في عز قوتها، فاتجهت إلى السلف تلوذ به وكأنها ودت لو استطاعت أن تطوي بساط الزمن وراءها لتجد نفسها هناك، مع أسلافنا الصالحين.

وإذا كانت تلك هي العاصفة واتجاهها، فماذا تكتب الأقلام إذن؟ إلا أن يئن الشاعر بحزنه وإحباطه، وأن يعرض الروائي صورا من جهاد الشعب في ثورته على ما هو غربي أيا كان، وأن يصور الفنان ما عساه ينطق بروح المقاومة ... مقاومة من؟ مقاومة أولئك الذين هم في حقيقة الأمر صناع العصر الحاضر بمعظم مقوماته وأهمها.

كان ذلك كله نتائج طبيعية للأحداث، فإذا كنا قد أحجمنا فيما سبق عن الدخول في عصرنا بقلوبنا وعقولنا مرة، فقد أصبحنا منذ الخمسينيات نحجم عن ذلك مرتين، فلو كان الأمر أمر عاطفة وما تمليه علينا، فمن ذا الذي يلومنا على هذا التقوقع في ماضينا وفي تاريخنا، إزاء عالم يناصبنا العداء؟ لكن السؤال الأهم هو: أنترك للعاطفة الثائرة الكارهة أن تتحكم فينا؟ إننا لو فعلنا ذلك لما فعلنا عندئذ إلا أن زدنا أنفسنا ضعفا على ضعف، وزدنا أعداءنا قوة على قوة.

وإنما الوقفة الصحيحة للكاتب العربي، أينما كان في طول الوطن العربي وعرضه، هي أن يفصل في ذهنه بين ما توحي به العاطفة من جهة، وما يوجبه العقل من جهة أخرى، والذي يوجبه العقل هو أن تجند الأقلام جهودها في التعبئة الثقافية التي تحمل جمهور الأمة العربية على التسلح بثقافة الغرب وأدواته الحضارية، وأقل ما نقوله في هذا التوجه هو أن نصبح به أقدر على مواجهة الغرب ذاته، ومع ذلك، فمن ذا الذي أوهمنا بأن تشرب روح العلم الجديد، بكل ما يستتبعه من نتائج، يتنافى مع هويتنا الأصيلة، بالجوانب الثلاثة التي نراها مقومات لتلك الهوية، وأعني، التدين، والوطنية المصرية، والقومية العربية؟! إن تاريخنا شاهد بأننا قد عشنا صناع حضارات، بما تقتضيه تلك الحضارات من دين، وعلم، وفن، ونظم، وقوانين، دون أن نجد شيئا من هذا قد وقف عقبة في سبيل الوطنية المصرية أو القومية العربية، وعلى أقلامنا تقع التبعة الكبرى، في أن نهيئ النفوس لتدخل مطمئنة في عصرها الجديد.

وهذه جزيرة أخرى

لم أعد أذكر، أكنت في صدر شبابي قد قرأت «ثورة الملائكة» - وهي رواية لأناتول فرانس - في ترجمة عربية كاملة لها، أم كان الذي قرأته مقالة عنها؟ ولقد كان أناتول فرانس ممن قدمه إلى قراء العربية أعلامنا الكبار، الذين كتبوا عنه وعن أدبه، فتصورناه نحن شباب العشرينيات، عملاقا فارع القامة، وإني لأذكر حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها، كيف وقعت في نفسي - ذات يوم منذ ستين عاما - تلك العبارة التي افتتح بها الدكتور محمد حسين هيكل مقالة له عن أناتول فرانس، إذ بدأ مقالته بقوله: «مات أناتول فرانس؛ لأنه أراد أن يموت!» (وكان موته سنة 1924 فيما أذكر)، إنني عندئذ لم أقل لنفسي كيف استحل الكاتب أن يجعل موت الرجل رهن إرادته! لا، بل إن خاطرا كهذا لا أظنه قد طاف برأسي عندئذ، وإنما كان الذي وقع لي هو أن حلق خيالي إلى ما يمكن لإنسان عظيم كأناتول فرانس أن يرتفع إليه، وأحسب أنني استطعت ساعتها أن أجاوز في غير تكلف ولا عناء، أن أجاوز حرفية المعنى، إلى اللباب الذي أراده الكاتب بعبارته، والذي من شأنه أن يشعل الخيال ويحفز الهمة إلى طموح وثاب.

كلا، لم أعد أذكر: أقرأت في تلك الأيام البعيدة «ثورة الملائكة» لأناتول فرانس، في ترجمة عربية كاملة أعتقد أني اطلعت عليها ذات يوم، أم كان الذي قرأته مقالة عنه وعنها؟ لكن الذي رسخ في الذاكرة مما قرأته - كاملا أو موجزا - هو بعض المعاني التي ختمت بها الرواية، فأذكر أن الملائكة عادوا آخر الأمر فترفعوا عن الدخول مع الشيطان في حرب كانوا أزمعوها أول الأمر، قائلين ما معناه: إن الحرب لا يتولد عنها إلا حرب أخرى، وإن النصر في ناحية يستتبع هزيمة في ناحية أخرى، وإذا هزم الملائكة، أصبحوا في أعين الناس هم الشياطين، وإذا انتصر الشياطين، أصبحوا في أعين الناس هم الملائكة، وأولى من الدخول في حرب، أن نحصن نفوسنا فلا جهالة نبقى عليها، ولا خوف، ومن محا في نفسه كل ما يغشاها من خوف وجهالة ، رأى وكأن الشياطين قد ذوت وانقضت من تلقاء نفسها، فليس في مستطاع شيطان أن يقهر أحدا ظفر في دخيلة نفسه بقوة الروح.

استيقظت في ذاكرتي هذه الذكرى، لكنني حين تذكرت ما تذكرته من حديث الملائكة في حربهم مع الشيطان، وجدتني أقرأ ذلك الحديث قراءة جديدة، فليس بنا حاجة تدعونا إلى أن ننصت لما يقوله الملائكة في ثورتهم على الشياطين، كما تخيلها أناتول فرانس، عن حقيقة واقعة نراها بأعيننا، ونلمسها بأيدينا، كل يوم في حياة الناس الجارية، ويهمنا في هذا المجال، أن نركز انتباهنا على عنصري «الجهالة» و«الخوف»، فما من هزيمة لحقت بنا أفرادا أو جماعات، إلا كانت علتها جهالة، أو خوفا، أو كليهما معا، وما من نصر ظفرنا به أفرادا أو جماعات، إلا وكانت السبيل إليه قدرا من معرفة تعلمناها، وقدرا من ثقة بالنفس، يتناسب مع مقدار النصر الذي ظفر به من ظفر، فردا كان أو جماعة، وإننا نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ألف ألف مرة كل يوم، كلما تلونا شيئا من الكتاب الكريم، فإنما نعوذ به من ضلالة تصرفنا عن العلم بما ورد في الكتاب، والضلالة جهالة، وإذ نعبد رب البيت الحرام، فإنما نعبده لما أنعم به علينا، ومن تلك النعمة أن أمننا من خوف، لكننا إذ نردد بالألسنة والشفاه ما نردده في هذا السبيل، لا نحرص على أن تتسلل هذه المعاني إلى نفوسنا، فنظل على جهالة ونظل في خوف.

هذان - إذن - مفتاحان تفتح بهما الأبواب المغلقة في أوجه من أرادوا أن يغيروا ما هم فيه من هزيمة إلى نصر، من هبوط إلى ارتقاء، من ركود إلى صحوة، من خيبة رجاء إلى أمل يتحقق، والمفتاحان هما: العلم والثقة بالنفس، فلا جهالة ما استطعنا إلى نور العلم سبيلا، ولا خوف ما وسعتنا الحيلة إلى طمأنينة نفس عرفت طريقها ... وماذا أقول؟ أأعيد على نفسي قصصا طويلة عريضة، وقعت أحداثها في خبرة حياتي، من أفراد صادفتهم على الطريق أو صادفوني لم يكن بيني وبين أي منهم صلة إلا أنني أبذل الجهد وهو لا يبذله، فيجعل مشغلته أن يضع العوائق في طريقي؛ خشية أن أصادف نجاحا يريده لنفسه، وعبثا أقيم الدليل فوق الدليل، على أنني دءوب على تحصيل العلم رغبة فيه، جاءني منه النجاح أو أفلت، وأحمد الله أن هداني إلى لذة المعرفة فلم أكترث بعوائق الشياطين، ومضيت على حكمة الملائكة فيما كتبه أناتول فرانس، وهو أن الشيطان ليس جديرا بحرب معلنة، فهو يقتل نفسه بنفسه، إذا أنت محوت من نفسك شيئين: الجهالة والخوف.

هذان مفتاحان تنفتح بهما أبواب، وتنغلق أبواب، فأما الأبواب التي تنفتح فهي المؤدية إلى نور المعرفة وإلى طمأنينة النفس الواثقة بذاتها، وأما الأبواب التي تنغلق فهي أبواب الظلام، ظلام الجهل، والخوف الذي ترتعد به قلوب الجبناء، حتى من الأشباح، ولو كنت ذا قدرة لأرسلت لقلمي عنانه حتى يكتب كتابا كاملا عن أوضاع الحياة بشتى صورها وتفصيلاتها، كيف تصبح إذا عاشت أمة بكل أفرادها، حياة تلقي بزمامها إلى «العلم»، وتعمر قلوبها «بالإيمان» الذي من شأنه أن يقتلع الخوف من جذور جذوره، وماذا يخشى المؤمن الحق إلا أن يخشى ربه؟ أيخشى كبيرا وهو يعلم أن الله أكبر؟ أقول: إنني لو كنت ذا قدرة لأنشأت بخيالي «جزيرة» مثلى، كتلك الجزر الخيالية التي أنشأها ذوو القدرة من الفلاسفة والمفكرين، وأذكر - بهذه المناسبة - أني بينت في مناسبة سابقة، كيف أن الخيال «الطوباوي» قد تدرج بأصحابه على امتداد التاريخ الفكري، بادئا أول الأمر بأن جعل «المدينة» هي ما يصلح لإقامة الحياة المثلى، ثم تدرج من ذلك فجعل «الجزيرة» هي أصلح مكان لإقامة حياة مثلى، ثم توسع آخر الأمر بأن وجد أن الحياة المثلى لا يصلح لها إلا أن تعم الكوكب الأرضي بأكمله، ولو كنت ذا قدرة لاخترت أن أقف مع أصحاب الجزر بجزيرتي؛ وذلك لأني أحس بأن الحياة على جزيرة نائية في أطراف المحيط، توحي بسكينة وهدوء، أما «المدينة» في ناحية و«كوكب الأرض» بأسره في ناحية أخرى، فيوحيان بالتلوث والضجيج، ذلك فضلا عن أن المدينة الواحدة أقل من أن تتسع لحياة كاملة، وكوكب الأرض أوسع من أن يكون وحدة اجتماعية واحدة، وفي هذه المناسبة نذكر أن الملك فيليب المقدوني كان قد عهد بتربية ابنه إسكندر (الذي صار فيما بعد «الإسكندر الأكبر») إلى الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو، أخذ المعلم في درس من دروسه يشرح للغلام التلميذ، كيف أن الوحدة السياسية لا ينبغي لها أن تزيد على مدينة واحدة في حجم أثينا، فاستمع إليه الغلام وهو يبتسم؛ لأنه كان قد عقد النية منذ حداثته، أنه إذا ما تولى الملك بعد أبيه فسوف يزحف بجيشه حتى يكتسح المنطقة كلها، والتي كانت هي العالم المعروف عندئذ: من مصر ثم شرقا إلى الهند، ذلك من ناحية المدينة الواحدة، وهل تكفي لقيام المجتمع الأمثل أو لا تكفي، وأما أن كوكب الأرض في مجموعه، وهل يصلح أن يكون وحدة سياسية واحدة أو لا يصلح، فلا أظن أن العالم قد نضج النضج الذي يقوى به على هذه السعة كلها، وإذا لم تصدقني فاسأل هيئة الأمم المتحدة.

كان أهم من اختار أن تكون «المدينة» الواحدة مكانا للمجتمع الكامل، أفلاطون في محاورة «الجمهورية»، والفيلسوف الإسلامي «الفارابي» في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وكان الأساس الأول الذي يجب أن تقوم عليه المدينة المثلى، هو «العدالة» عند أفلاطون، والعدالة هي هنا بمعنى أن يوضع كل مواطن في الموقع الذي يتفق مع قدراته وملكاته، وهو معنى يشمل عنده أن تسود حياة الناس ثلاث صفات، كل صفة منها تخص فئة من الفئات الثلاث التي إليها ينقسم أهل المدينة: صفة الحكمة للفئة الحاكمة، وصفة الشجاعة لفئة المدافعين عن أرض الوطن، وصفة العفة للفئة العاملة في مختلف ميادين العمل، وأما فيلسوفنا الفارابي، فيبدو أنه قد قصد بمدينته المثلى أن تضيف إلى الأبعاد الأفلاطونية الثلاثة بعدا رابعا، هو أن تكون الرئاسة والريادة في يدي «إمام» معصوم؛ وذلك بناء على نظرية الإمامة كما عرفها شيعة الإمام «علي» كرم الله وجهه.

وأما «فكرة الجزيرة» التي أرادت أن تكون الوحدة السياسية المثلى جزيرة، فأهم اثنين من أنصارها هما «تومس مور» في كتابه «يوتوبيا »، و«فرنسيس بيكون»، في كتابه «أطلنطس الجديدة»، وإذا أردنا معرفة الأساس الأول الذي تقام عليه الحياة المثلى في جزيرة تومس مور، فربما كان الصواب هو أن المساواة بين المواطنين هي ذلك الأساس، في حين كان الأساس عند «بيكون» في جزيرته هو العلم، ولقد وفق ذلك الرجل توفيقا شديدا في كتابه ذاك الصغير، أن يرسم الخطوط الأولية في بناء المجتمع والدولة، إذا أردنا لهما حياة علمية إلى أبعد آماد مستطاعة، وحسبنا أن نشير بجملة واحدة إلى الهدف البعيد كما رآه صاحب «أطلنطس الجديدة»، إذ هو أن تتحول الدولة من السيطرة على مواطنيها إلى السيطرة على الطبيعة، وأن تتحول الوزارات والإدارات، من حصر اهتماماتها بالسياسة وتنفيذها، إلى العلوم وبحوثها فتكون وزارات الدولة هي: وزارة الفيزياء ووزارة الكيمياء ... وهكذا إلى سائر العلوم ... وأما فكرة أن تكون الدولة المثلى هي تلك التي تقام على كوكب الأرض بأكمله، فلست أجد أحدا قالها إلا «ه. ج. ولز» في كتابه «يوتوبيا حديثة».

وقد أسلفت القول بأنني إذا كنت ذا قدرة، لاخترت أن أكون من أصحاب الجزر، واخترت لجزيرتي أن يقام مجتمعها على أساس الصفتين اللتين أجراهما أناتول فرانس على ألسنة الملائكة في روايته «ثورة الملائكة»، والصفتان هما: التخلص من الجهالة، والتخلص من الخوف، أو قل - من الجانب الإيجابي - إنهما العلم والثقة بالنفس.

لست أدري على وجه الدقة، ولا أظن أن أحدا يدري، كيف تتجمع اللحظات الهامة في حياة الطفل منذ أول وعيه، كيف تتجمع تلك اللحظات بما تركته من آثار، لتصبح «موقفا» يغلب أن يكون بعد ذلك هو الموقف الذي يتخذه ذلك الطفل، وقد أصبح شابا فرجلا مكتمل النضج؟ إنه لا بد أن يكون الأمر في هذا شبيها بالروافد الصغيرة الكثيرة عند منابع النهر، تلك الروافد التي تأخذ على امتداد الطريق في أوائله، في التجمع اثنين اثنين، فثلاثة ثلاثة، وهكذا، حتى تنتهي آخر الأمر إلى أن تصبح نهرا موحد المجرى، وإن تلك اللحظات المتفرقة في حياة الطفل، والتي تشبه روافد النهر في أوائل طريقها، لتظهر أوضح ما تظهر في أحلام يقظته حتى بعد أن يكبر، ولو استطاع أحدنا - إذا شاء ذلك - أن يتعقب أحلام يقظته لأمكنه بعد ذلك، أو على ضوء ذلك أن يعرف كثيرا جدا عن العوامل المتفرقة في اللحظات المتباعدة أو المتقاربة على طريق حياته، التي تجمعت فأصبحت خطوطا رئيسة في بناء شخصيته، ولأمكنه - بالتالي - أن يعرف لماذا يختار في ثيابه لونا دون لون، ولماذا يختار في مذاهب الرأي مذهبا دون مذهب، ولماذا يميل في أذواق الفن إلى اتجاه أكثر مما يتجه إلى سواه، وأما الشيء الوحيد الذي يظل صامدا كصخرة الجرانيت، لا تتأثر بتلك العوامل ولا تميل مع الهوى، فهو ما يدركه العقل مؤسسا على دليل كاف أو برهان حاسم، فإذا كنت اخترت لجزيرتي الوهمية أن يقوم مجتمعها على أساسين، هما العلم والثقة بالنفس، فلا بد أن يكون هذا الميل راجعا إلى شيء بعيد من تلك العوامل، التي تتألف معا في تشكيل الرؤية عند الإنسان.

وإن سريرة الإنسان لتكشف له عن سرها في استحياء وخفاء، وهي تفعل ذلك في أحلام النوم وفي أحلام اليقظة على السواء، وإذا كانت أحلام النوم في حاجة إلى خبراء النفس ليؤولوها، فأحلام اليقظة أيسر منالا لغير الخبراء، فاليقظان الحالم حين يغترف ما يغترفه من خبرات ماضيه، كثيرا ما يرسم لنفسه بتلك الصور التي يسترجعها من مكامنها - وقد تكون تلك المكامن غائرة في الماضي حتى تصل إلى طفولته الباكرة - أقول: إنه كثيرا ما يرسم بتلك الصور مشاهد يؤلفها في لحظة حلمه تأليفا جديدا؛ لتجيء على هواه وليشبع بها حاجة طالما تمنى إشباعها في ساعتها، لكن الفرصة أفلتت منه في حينها، فجاء الآن في حلم يقظته ليشبعها بوهم أحلامه، على أن الأفراد يتفاوتون في قدراتهم على ذلك الإبداع الحالم، فمنهم من تقل قدرته في ذلك، حتى تراه لا يعدو خليطا من صور تتتابع في مخيلته وكأنها تجري بلا هدف، ولكن منهم كذلك من ترتفع قدرته حتى تبلغ به أن يقيم لنفسه تصورا مركبا متسق الأجزاء، وكأنه فنان يصور لوحة، أو أديب يحكي رواية محبوكة السرد موصولة الأطراف، وربما جاز لنا أن ندرج كتاب المؤلفات الطوباوية في هذا الفريق ولو إلى حد محدود، ثم يجيء العقل الواعي عندهم ليضع لمساته ليصبح البناء الفني أشد إحكاما وتناسقا.

ولقد أتيح لي أن أكتب عن حياتي ما يشبه القصة، تعقبت فيها جريان مشاعري من الباطن تجاه الحوادث أكثر جدا مما تعقبت الحوادث نفسها كما حدثت في الواقع الخارجي المرئي والملموس، فكان مما وقعت عليه في مخزونات الذاكرة منذ طفولة الأعوام الخمسة الأولى، فما بعدها بقليل أو كثير، صور من أحلام يقظتي رأيتني فيها محاولا أن أجد لنفسي مكانا قصيا ألوذ به فلا يراه أحد ولا يراني، وكنت في تلك المحاولات أبدل في أجزاء الصورة وطريقة تركيبها، فأقيمها على وضع معين حينا، ثم ألحظ فيها قصورا يجعلها ممكنة الانكشاف لمن أراد، فأبدل شيئا من أجزائها أو شيئا من طريقة تركيبها. وبالطبع لم أكن أخرج في ذلك كله عما قد وقع لي بالفعل في خبرتي، وهذا بديهي وواضح، إذ من أين يجيء الفنان أو الأديب المبدع إلا مما وقع له في خبرته، وكل ما في الأمر أنه يحلل ذلك الذي وقع له في الخبرة تحليلا يمكنه من نقل العناصر الجزئية من أماكنها إلى أماكن أخرى، فقد يصور إنسانا فيجعل له عينين من طراز كان رآه في وجه ما، مع أنف كان رآه في وجه آخر ... وعلى هذا النحو، كنت أقيم مخابئي في أحلام يقظتي منذ طفولتي فما بعدها، وكان بين الصور الكثيرة التي ابتدعتها لذلك، صورة جزيرة نائية في عرض المحيط، لا سيما بعد أن تلقيت الدروس الأولية في الجغرافيا، وعرفت منها ماذا يكون المحيط وماذا تكون الجزيرة.

ولم يكن المكان المختار للتخفي إلا بمثابة إعداد المسرح الذي تجري عليه الحياة بتفصيلاتها، كما يشاء لها خيال الحالم أن تكون، وهنا قد يسبق إلى الظن بأنني - أو أي حالم في يقظته - كنت أتخير بخيالي ما عساه يعود بالمتعة من مسكن وملبس وطعام وغيرها، وحقيقة الأمر غير ذلك، فقد يكون هذا وقد لا يكون، إذ ما أكثر ما كنت أتعمد بقوة خيالي أن أجعل ظروف حياتي في مخبئي معاكسة وقاسية، ألتمس فيها الطعام فلا أجد ما أطعمه، ومهما يكن من أمر في هذا الشأن، فحلم اليقظة إنما يقيمه الحالم على الصورة التي يهواها الحالم، ممتعة كانت أو مؤلمة، وربما اختار الحالم لنفسه، أن يكون وحيدا في مخبئه المختار، ولكنه كذلك ربما اختار أن يجيء بآخرين ليعيشوا على مقربة منه أو مبعدة، وهنا تراه لا يبقي أولئك الآخرين على حقائقهم التي عرفهم عليها، بل هو يشكلهم تشكيلا جديدا يرضي هواه، يرفع منهم من يرفع ويخفض من يخفض، يسعد منهم من يسعد، ويشقي منهم من يشقي، إنه هنا سيد نفسه وسيد الآخرين، لا بمعنى أنه يضع نفسه فوق رءوسهم، لا، ليس ذلك لأنه قد يختار لنفسه أن يكون خادما أو جائعا مشردا، فالمهم هو أنه يشكل نفسه ويشكل الآخرين كما تملي عليه الدوافع التي لا يعلم مصادرها إلا من خلقنا بشرا فسوانا.

وإننا لنجد في أحلام اليقظة «صورا» أكثر جدا مما نسمع «كلاما»، ومن هذه الناحية يجيء حلم اليقظة أشبه شيء بالسينما الصامتة، أو بالحكايات التي ترسم للأطفال في كتبهم صورا صامتة بغير كلمات، ومن أمثال هذه الصور ينشئ الحالم في يقظته القافية أي حياة يريد لنفسه وللآخرين.

هكذا كانت حالتي مع أحلام يقظتي، فلما تقدمت بي الأيام، تعلمت وطالعت ما طالعت مما كتبه الكاتبون، شغفت ذات مرحلة من مراحل العمر بالكتب التي يصور فيها أصحابها ما يظنونه صورة المجتمع الأمثل، ولقد أصبحنا نطلق على مثل هذا التصوير اسم «المدينة الفاضلة» (جريا على سنة أبي نصر الفارابي في ذلك) لكن ذلك المجتمع الأمثل لم يكن دائما على صورة «مدينة» - كما أسلفت القول، بل كان التصور بالمدينة هو المرحلة الأولى في تاريخ هذا النوع من التصوير الأدبي أو الفكري، إذ تدرج بعد ذلك ليكون جزيرة ثم ليكون في عصرنا الحالي كوكب الأرض مأخوذا بجملته، فإذا كنت قبل تلك القراءات قد ابتدعت لنفسي مخبأ الجزيرة لأعتزل فيه بخيالي، فلم يبق أمامي، بعد تلك القراءات لكتب الطوباويات إلا أن أعمر جزيرتي بمجتمع أرضى عنه ويرضى عني، لكنني لم أركز الانتباه مرة، لأرى إن كنت أستطيع أن أكمل صورة المجتمع الأمثل - كما أراه - أو لا أستطيع، ولعلي لم أعن بتركيز انتباهي في ذلك؛ لأني أحس في طوية نفسي أنني لا أملك القدرة على مثل ذلك الإبداع.

ولو كنت استطعت، لجعلت محور المجتمع الأمثل في جزيرتي - كما قلت فيما أسلفته - العلم الذي يطارد الخرافة حتى يمحوها محوا، والذي يسعى سعيا دءوبا نحو التفكر فيما خلق الله، ولكن لا ليكون ذلك «التفكر» شبيها بتهويم العاجز في قعوده الكسيح، بل ليكون جهدا مبذولا على النهج الذي عرفته عصور العلم الكاشف المنتج، حتى إذا ما فاض ذلك العلم من علمائه نورا على جمهور الناس، وجد هذا الجمهور نفسه وقد كسب «نظرة علمية» ينظر بها إلى ما يعترض طريقه من مشكلات الحياة اليومية الجارية، وأما المحور الثاني للمجتمع الأمثل في جزيرتي فهو مطاردة «الخوف» الكامن في صدورنا تملؤها أشباح تثير فينا الرعب والفزع، والخوف فينا هو الوجه السالب من موقفنا من دنيانا موقفا تقل فيه الثقة في أنفسنا حتى تنعدم.

الجهل والخوف هما العلتان اللتان حصنت منهما جزيرتي، وإن معنى «الجهل» ليتسع ليشمل كل موقف يغيب فيه «الحق» عن ضمائر الناس، وعقولهم وقلوبهم فيما يعرض لهم من مواقف ومسائل، وإذا كان «الحق» بمعناه المطلق غير المحدود هو من صفات الله - عز وجل - فإن الحق في صوره الجزئية المحدودة هو ما يجب على الإنسان أن يسعى نحو إدراكه والعمل بمقتضاه، وحينما انكشف للإنسان جانب من جوانب الحق، غابت أباطيل الجهالة وطارت خفافيش الوهم والخرافة، وكذلك يتسع معنى «الخوف» ليشمل كل حالات الحذر الذي يزيد على حده المعقول، بحيث يغري صاحب السلطان بالبطش خوفا على سلطانه، ويغري صاحب المنصب بأن يختلس ويرتشي خشية أن تفلت الفرصة السانحة من يديه، فيخرج من منصبه فقيرا كما دخله فقيرا، ويغري الإنسان العادي من جمهور الناس أن ينافق مواطنيه فلا يبوح لغيره بما يراه، اللهم إلا إلى خاصته المقربين، فتصبح أمورنا العامة نهبا لكل من أراد كما أراد.

وأعيد هنا ما ذكرته في مناسبة سابقة، وهو أني وقفت يوما عند قول الله تعالى في كتابه الكريم: ... فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف

فرأيت فيه أن العبادة وجبت على عباد الله، لهاتين النعمتين اللتين أنعم بهما الله على الناس، وهما أن أطعمهم من جوع، وأنه آمنهم من خوف، لكنني وسعت من معنى الجوع ليشمل كل حاجة للإنسان، من شأنها إذا ما سدت أن تبقي عليه حيا أولا، وأن يرتقي بتلك الحياة ثانيا، وكيف يرتقي الإنسان بحياته إذا هو لم يكن على علم كاف بأهدافه وبالوسائل الموصلة إلى تلك الأهداف؟ وكذلك وسعت الأمان من الخوف، ليشمل كل ضروب الخوف وكل طريق الأمان من حدوثها، فرأيت في هذين الشطرين معا وهما: إشباع الحاجات من جهة، وأمان الحياة من عوامل الخوف من جهة أخرى، أقول: إني وجدت فيهما الدعامتين اللتين لا بد منهما لأي حضارة تقام لتزدهر، وعلى الدعامة الأولى يقوم الجانب المادي من الحضارة، وعلى الجانب الثاني - جانب الأمان - ينهض الجانب الروحي الذي هو في صميم ما نطلق عليه اسم «الثقافة».

وعلى هاتين الدعامتين أقيم الحياة المثلى في جزيرتي، لو كنت ذا قدرة تعرف كيف تكمل الصورة بكل تفصيلاتها.

تقاليد وتقليد

ظاهر هاتين اللفظتين أنهما تحملان معنى واحدا، يجيء مفردا في إحداهما، ويجيء جمعا في الأخرى، فالتقليد عمل يحاكي به إنسان إنسانا آخر، كالطفل يوضع له نموذج من الكتابة ويطلب منه أن يكتب على غرار النموذج، وذلك ما صنعوه لنا ونحن أطفال، حين أرادوا أن يعلمونا الخط العربي، بل هو ما صنعوه لنا ونحن أكبر قليلا، حين أرادوا أن يعلمونا كتابة «الإنشاء»، إلا أن النموذج في دروس الخط العربي يقلد في رسمه، وأما النموذج في دروس «الإنشاء» فكان المطلوب فيه أن يقاس عليه، بأن يكتب التلميذ موضوع إنشائه على صورة تشبه النموذج الذي قرأه أو الذي قرئ أمامه، وللتقليد صور كثيرة في الحياة العملية، فكثيرا ما تصنع خرزات بخسة الأثمان، تقليدا للؤلؤ، والماس، والفيروز، والمرجان، ليلبس الفقراء أشياء تشبه ما يلبسه الأغنياء، وما دمنا بصدد هذا المعنى فأحب أن أذكر أمرين كان لهما دلالة كبيرة عندي، كل في لحظته التي وقع فيها، أما أولهما فهو نبأ طريف كنت قرأته في بلد خارج مصر، عن أميرة مصرية ضاق بها العيش وهي في غربتها، فلجأت إلى عقد من اللؤلؤ النفيس، وأخذت تبيع حباته بعضا بعضا، وكلما باعت بعضا منها، ملأت مكان الحبات المفقودة بحبات من تقليد اللؤلؤ رخيصة الثمن، ولم يلحظ أحد أن شيئا تغير في عقدها، فالوهم الأول الذي يحاصر عقل الرائي وذوقه، هو أن مثل تلك الأميرة لا تزين الصدر والعنق إلا باللؤلؤ «الحر»، ثم تكمل الأضحوكة حين يستطرد النبأ في روايته، ليقول إن إحدى السيدات اللائي اشترين منها بعض لؤلؤاتها الحرة، ووضعتها عقدا أو أقراطا ... أو لست أدري ماذا كانت، لم يصدقها أحد بأن يكون ما عليها هو من ذلك اللؤلؤ النادر؛ لأن مثلها لا يملك السبيل إلى مثله.

ذلك أحد الأمرين اللذين أردت أن أستطرد بالحديث إليهما، بمناسبة ما يلجأ إليه الفقراء تقليدا «للأغنياء»، وأما الأمر الثاني، فهو أبعد دلالة من الأميرة ولؤلؤات عقدها، وذلك أن اليابان حين صنعت الحرير الصناعي لأول مرة، راعت في صناعته أن يكون شبيها بالحرير الطبيعي الذي عرف به الناس من طبقة المحاربين، وكانت تلك الطبقة عالية المكانة في المجتمع الياباني، فلما أن شاع الحرير الصناعي في ثياب عامة الناس، وكان مما يتعذر على العين المجردة أن تفرق بينه وبين ما كانت طبقة «الساموراي» (طبقة المحاربين) قد تميزت به وامتازت، كان ذلك من العوامل التي يقول عنها المؤرخون: إنها عملت على سرعة انتشار الروح الديمقراطية في المجتمع الياباني.

قلت: إن «التقليد» له أمثلة كثيرة في حياة الناس العملية، وأريد أن أدخل في تلك الحياة العملية، تقليد الآيات الروائع مما أبدعه عباقرة الفن بمختلف أنواعه، ولا يكاد يمضي صيف واحد، دون أن أقرأ أنباء غريبة عن قطع من الفن في أعلى درجاته، يقلدها مقلدون، ثم يتولى المزورون عملية دسها في سوق الفن، فتباع بمئات الألوف من الدولارات أو من الجنيهات، بل قد تباع بملايينها، إذ تبلغ فيها براعة التقليد حدا ينخدع به كبار النقاد في أسواق الفن، الذين يزودون أشهر متاحف الفن بمعروضاتها حتى إذا ما انكشف التزوير في حالة من حالاته، سمعت الضجة الكبرى ترتج لها الصحف والإذاعات في أرجاء العالم.

ذلك عن التقليد، وقد يعرف القارئ عن أمثلته في دنيا الصناعات والفنون أكثر مما أعرف، وأما «التقاليد»، فهي لا تقتصر على أن تكون صيغة الجمع لكلمة «تقليد»، بل أكسبها الاستعمال معنى آخر، وهو معنى إن يكن مشتملا على فكرة «التقليد» إلا أنه يضيف إلى تلك الفكرة أبعادا أخرى، تكفل له أن يصبح معنى متميزا قائما بذاته، فالتقاليد في معناها المباشر، ما يقلد به الأجيال لاحقا لسابق، ولولا أن جيل القوم اللاحق يقلد سابقه في الجزء الأكبر من شئون الحياة الجارية، لتعذر عليهم التفاهم، بل لتعذر عليهم العيش نفسه، فاللغة يأخذها اللاحق عن السابق في الجماعة الواحدة، تقليدا في المفردات، وفي طرائق التركيب، وفي النطق، وفي الكتابة، بل وفي نبرة الصوت حين تتشكل ارتفاعا وانخفاضا، تبعا للظروف المختلفة التي تقال فيها الكلمة أو الجملة، على أني لا أترك هذه المناسبة تمضي، دون أن أضيف إضافة هامة، وهي أن التقليد في مجال اللغة، حين يأخذها جيل عن جيل، لا ينفي خاصة بشرية عجيبة، عميقة الدلالة عمقا ليس له حدود، وتلك هي أن كل فرد من أفراد الناس، ومنذ المرحلة الأولى التي يتلقى فيها الطفل لغته عن أبويه أو من يتولون أمره، يبدي قوة إبداعية في تشكيل العبارات اللغوية، بمعنى أن كل فرد من البشر، في حدود حصيلته من لغته، لا يتقيد بصورة معينة يكون ملزما بصب تعبيراته في قوالبها الحديدية، بل هو حر في طريقة التعبير، طالما هو يؤدي بطريقة تعبيره المعنى المحدد الذي يريد أن يؤديه، فلئن كانت اللغة تنتقل عبر الأجيال تقليدا، إلا أن هامشا عريضا من الإبداع الفردي يظل باقيا، من حيث اختيار المفردات واختيار الطريقة التي ترتب بها، وسوف أعود إلى هذه الخاصة الإبداعية في غضون هذا الحديث.

وليست اللغة وحدها، هي التي تمثل جانب «التقليد» من «التقاليد» الاجتماعية، بل هنالك من جوانب التقليد في حياة المجتمع عدد كبير يدركه كل من أراد أن يدير البصر في عناصر حياته مع سائر مواطنيه، فالطعام وألوانه وطرائق طهوه، وماذا يؤكل منه في الصباح عادة، وماذا يؤكل في وجبة الغداء أو العشاء، وما الذي يميز الطعام في رمضان، وفي عيد الفطر، وفي عيد الأضحى، وفي عاشوراء، وفي ليلة النصف من شعبان، كل هذه التفصيلات يقلد فيها اللاحقون من سبقوهم، بحيث ينتهي الأمر بالشعب الواحد إلى روح واحدة تميز طعامهم، وهكذا قل في الملابس، وفي وسائل التسلية في أوقات الفراغ، وما إلى ذلك من جوانب الحياة اليومية في الجماعة الواحدة، وكلها جوانب من «التقاليد» الاجتماعية، و«التقليد» هو وسيلة انتقالها من جيل إلى جيل.

لكن كلمة تقاليد - كما أسلفنا - لها دلالات أخرى غير جانب التقليد من معناها، وهذه الدلالات الأخرى هي بيت القصيد في هذا الحديث.

فما قصدنا بهذا الحديث إلا أن يجيء شارحا لما نعنيه بكلمة «تراث»، عندما نقول إن إطار حياتنا الثقافية والحضارية الجديدة، إنما هو - أو ذلك ما ينبغي له - دمج عضوي تام بين تراثنا من جهة، ومقتضيات هذا العصر من جهة أخرى، فماذا نعني بهذه الكلمة الهامة والخطيرة: كلمة «تراث»؟ إنني ما زلت أذكر تلك اللحظة الفاصلة من حياتي الفكرية، لحظة أن جلست في مكتبة الجامعة حين صح مني العزم على أن أكثف جهدي - وهل أقول: أكثف جهادي - في أن أسد نقصا خطيرا أخذت أزداد شعورا به في تكويني الفكري يوما بعد يوم، وأعني به ما كان يعوزني من روابط أربط بها الحقائق المفككة المتناثرة التي كانت قد اجتمعت لي مما قرأته من التراث وعن التراث، على مدى بضع عشرات من السنين، نعم، إن ما كان يعوزني عندئذ - في أوائل الستينيات - ليس هو «الحقائق» المفردة عن التراث، بل هو ما يربط تلك الحقائق في لوحات متماسكة المحتوى، وأحسست في نفسي بذلك النقص الخطير، الذي لا يجيز لي قط أن أحكم بأي حكم على شيء من تراثنا، وكيف أحكم والصورة المتكاملة الأجزاء والأطراف غائبة عني؟ من هنا صحت عزيمتي على أن أكلف نفسي بما كلفتها به من تحصيل ومراجعات، واصلت فيها ساعات العمل دون أن أحس مرورها، حتى تكامل لي الحد الأدنى من الصورة المتماسكة التي أردتها.

وعندئذ كانت جلستي التي أشرت إليها، حين أشرت إلى لحظة فريدة وأنا جالس في قاعة المراجع من تلك المكتبة، وسألت نفسي - قبل أن أهتم بالعمل في ذلك اليوم - ماذا تعني «بالتراث»؟ أهو مجموعة كتب وغير الكتب من صنوف المدونات، بحيث تكون قد ألممت بذلك التراث، إذا أنت قرأت كل ما تحويه المكتبة العربية، أو قرأت أكثره، أو بعضه؟ وإذا كان ذلك كذلك ففيم العناء؟ إن الكتب موجودة في خزائنها في هذه المكتبة وغيرها من مكتبات، لا تعد ولا تحصى في شتى أرجاء الأرض، لا، محال أن يكون مطلوبك هو أن تكون مكتبة تمشي على قدمين، إذن ماذا تعني بالتراث؟ هل يكفيك منه اللغة وعلومها؟ فقه الفقهاء؟ شعر الشعراء؟ نقد النقاد؟ هل تريد ما كتبه المتصوفة؟ ما كتبه المتكلمون؟ ما كتبه الفلاسفة؟ وهنالك في التراث أيضا تاريخ كتبه مؤرخون، ورحلات كتبها رحالة، وعلم كوني وعلم رياضي كتبه علماء هذه الفروع، فماذا تريد من «التراث» الذي من أجله رفعت لواء الجهد والجهاد؟

كلا، إن ما أريد هو «روح» تشيع في هذا كله، روح تتمثل في كل سطر من كل كتاب، وفي كل بيت من كل ديوان، فإذا وقعت ببصيرتي على لمحة من لمحات ذلك الروح سواء وقعت عليها من قليل قرأته أم وقعت عليه من كثير، وسواء جاءتني تلك اللمحة من نثر أو من شعر، فهي التي تحقق مرادي بقدر ما جاءت كثيرا بكثير، وقليلا بقليل، ولكن أليست كلمة «الروح » هنا حين تقول إن مرادك هو الإلمام بروح التراث، كلمة يكتنفها غموض؟ فماذا أردت بها؟ ... وأجبت نفسي على سؤالها هذا بقولي: إنني أعني بها التقاليد الأساسية في كل ميدان من ميادين التراث، التي ترى الشاعر، أو الكاتب، أو العالم، أو الفقيه، أو الفيلسوف، أو من شئت من أعلام التراث، قد التزمها في عمله وكأنها جزء من طبعه، لا تكلف فيه ولا تصنع.

تراثنا بهذا المعنى، هو مجموعة تقاليدنا، ولكن - وبهذه الكلمة، كلمة لكن - أريد أن أستدرك استدراكا عظيم الشأن في موضوعنا هذا، لو أفلت منك فقد أفلت الموضوع كله - أقول: إن تراثنا هو مجموعة تقاليدنا، ولكن بعد أن نطرح من معنى كلمة تقاليد «في هذا الموضع من السياق، جانب التقليد»، وبعد طرحنا لجانب التقليد من معنى التقاليد «يكون باقي الطرح من معنى التقاليد» هو بالضبط ما يعنيه بالتراث الذي نريد له أن يندمج دمجا عضويا مع مقتضيات العصر ليتكون من عملية الدمج مواطن عربي معاصر، لكن هذا القول الموجز يريد منا شرحا طويلا يوضح معناه، وفيما يلي بعض هذا الشرح المطلوب:

وأول مثل أسوقه في سبيل الشرح، أستمده من اللغة وطبيعتها، وتستوي في ذلك اللغة العربية وكل لغة أخرى من لغات البشر، وربما أفادنا أن نمهد لما نريد عرضه، بتشبيه يوضح حقيقة الموقف، فتصور معي إنسانا صاحب أعمال، وضع ماله في مصرف ليسحب منه أي مبلغ من المال أراد، عند قيامه بعمل من أعماله، فالرصيد المالي المودع في المصرف، لا يدل بذاته على العملية التي سوف يؤديها الرجل غدا أو بعد شهر أو بعد عام، رصيد المال هناك، ينتظر رغبته وإرادته وما ينشأ له في مجرى حياته من أعمال يريد إنجازها، فأما رصيد المال في هذا التشبيه، فهو اللغة، وأما كل سحب من هذا الرصيد لقضاء ما يراد عمله، فهو بمثابة أي جملة أو مجموعة جمل يستخدمها صاحب اللغة ليقضي شأنا من شئونه، فكما أن رصيد المال ليس هو التجارة، أو الصناعة أو إقامة أي مشروع معين، فكذلك اللغة وهي في معاجمها، أو في قواعد نحوها وصرفها واشتقاقها، ليست هي قصيدة الشعر يقولها امرؤ القيس، أو يقولها المتنبي، أو أحمد شوقي، ولا هي موطأ مالك، أو مسند أحمد بن حنبل، ولا كتاب الأم للإمام الشافعي، لا، ليست اللغة وهي في معاجمها وقواعدها هي أي كتاب كتبه مؤلفه في تاريخ، أو فلسفة، أو فلك، وإنما تلك الكتب المؤلفة كلها، هي التي تقابل عمليات السحب من الرصيد المالي المودع في المصرف ليكون رهنا برغبة صاحبه ... ومن أين جاء رصيد اللغة المودع في المعاجم وفي كتب النحو وغيره من علوم اللغة؟ إنه جاء على النحو التالي: كانت هنالك جماعة من الناس يكلم بعضها بعضا، وفيهم من ينظم شعرا، ومنهم من يثبت على الورق أي شيء يريد إثباته، ثم جاء من جاء في عصور تالية، من رجال أرادوا أن يجمعوا المفردات اللغوية التي استخدمتها تلك الجماعة في حياتها، ورجال أرادوا أن يستخرجوا من الطرق التي تكلمت بها تلك الجماعة، ما عساه يكون فيها من ضوابط استخدام تلك اللغة عند أصحابها، فإذا تصورنا ما قد جمعه هؤلاء الرجال، وما استخلصوه من قواعد، فقد تصورنا بهذا لغة الجماعة المذكورة، إذ تكون في رصيدها الذي يختزنها، لمن شاء من أصحاب ذلك الرصيد أن يأخذ ما يريده ليستخدمه لما يريد.

وعلى ضوء هذا التصور الذي أسلفنا، لا يكون أي إنسان واحد ممن استخدموا لغة ما، هو اللغة «لم يكن المتنبي أو المعري، هو اللغة العربية»، ولا كان هو اللغة العربية أي رجل ممن استخدموها، اللغة كعين الماء التي لا تنضب، ولكل من أراد أن يغترف منها فليغترف، ولأي غرض أراده، وبأية وسيلة اختار، فهذا ينضح ماءه بدلو، وذلك ينضحه بكوب أو فنجان، وهذا يريد ماءه ليطهو طعاما، وهذا يريده ليشربه، وثالث يريده ليستحم أو ليغسل ثيابه، كل واحد من هؤلاء ينضح من عين الماء، لكنه ليس هو عين الماء.

وهكذا نقول عن التراث، فهو هناك مخزون في مكتباته وخزائنه، ولكل من شاء أن يغترف منه ما شاء وكيفما شاء بحسب ميدان تفكيره أو مجال نشاطه، لكن الاغتراف نوعان: فقد يغترف دارس منه شيئا ليحفظه حفظا أهم عن ظهر قلب ليتظاهر به، أو لا أدري ماذا يصنع به، وقد يغترف منه مبدع أراد أن يلتمس فيه إلهاما يقدح به شرارة الإبداع، فأما الحفاظ فهم الكتب ذاتها، وقد أصبحت تمشي وتأمل وتجلس وتنام، بعد أن كانت مخزونة في خزائنها ومكتباتها، فليسوا هم - أعني حفاظ الكتب - التراث، بالمعنى الذي نريد به للتراث أن يشتعل حياة ينبض بها عصرنا وتنبض به، وأما الذين يلتمسون في مخلفات السلف إلهاما توقد به المشاعل، فهؤلاء هم الذين يسحبون من الرصيد ما يحولونه في دنيا الأعمال تجارة وصناعة وكل نشاط مما تموج به الحياة.

إن أحياءنا لتراثنا لا يكون بحفظ نصوصه وتسميعها كلما نشأت مناسبة للتسميع، إن إحياءنا للتراث لا يتحقق بنقله من خزائنه الخشبية إلى جماجم رءوسنا نصا بنص، فهذه الرءوس لم تخلق لتنافس الخزائن، وكذلك إحياؤنا لتراثنا لا يكون بتقليده، إذ المقلد ليس محسوبا في النبتة الصغيرة كيف تلتمس ماءها وغذاءها، كما تراه في أصغر حيوان كيف يظفر لنفسه بمكان آمن إذا أحاط به الخطر، بل إن إحياءنا لتراثنا إنما يكون بالتزام تقاليده لا بتقليده، فليس فقيه الدين هو من حفظ ما قاله الفقهاء السابقون، بل هو من درس ما قاله هؤلاء الفقهاء، ليصوغ لنفسه فقها كما صاغوا، ولتكون له رؤية كما كانت لهم رؤى، فهو يدرسهم ليتذوق الرحيق لكي يتسنى له أن ينخرط في تاريخ الفقه فقيها، وليس الشاعر هو من حفظ دواوين الشعراء السابقين، لكنه هو الذي يتذوق الشعر العربي في تلك الدواوين لكي يتسنى له - بموهبته الفطرية - أن ينخرط في تاريخ الشعر العربي شاعرا، وليس الناقد الأدبي هو من قرأ كل ما كتبه نقاد الأدب في الماضي، ثم قرأ فوق ذلك كل ما كتبه نقاد الأدب في الحاضر، بل الناقد الأدبي هو من درس هؤلاء وأولئك ليقف على سر المهنة كي يتاح له أن ينخرط في سلك النقد الأدبي أو الفني ناقدا، إني لأشعر بالقلق الخلقي، كلما وجدتني مضطرا إلى شرح ما تدركه البديهة الإنسانية بفطرتها، وماذا هو أكثر بداهة من قولك: إن الشاعر العربي عليه أن يكون شاعرا عربيا، وإن الناقد الأدبي مطالب بأن يكون ناقدا أدبيا؟

قس كل جانب من جوانب التراث، وما يكون موضعه من حياتنا الراهنة، بالمقياس الذي قدمناه بلغة، فاللغة رصيد في المعاجم وقواعد التركيب، ثم يأتي كل مستخدم لها في أي عصر من التاريخ، ليبدع - أكرر: ليبدع، وأقولها مرة ثانية: ليبدع - يأتي من يستخدم تلك اللغة ليبدع ما لم يسبق إليه سابق، الطفل في أول نشأته، لا يكاد يجمع شيئا من مفردات اللغة، مع الذوق الخاص في تركيبها، حتى تسمعه يصوغ عبارات على نحو لم يسبق أن صاغ أحد على صورته، لكن ذلك الطفل ما كان ليبدع صياغته إلا بعد أن يملك من مادة اللغة ما يمكنه من ذلك، وهكذا يكون الأمر بالنسبة لكل مبدع في أي مجال، يبدع الفقيه بوحي من دراسة الفقه عند القدماء، ويبدع الشاعر بوحي ما أنتجته القريحة العربية من شعر القدماء، وهكذا في كل شيء، هل يمكن لمهندس العمارة أن يبدع تصميما لمسجد إذا هو لم يكن قد رأى في حياته مسجدا؟ وربما سألتني عمن صمم أول مسجد، فأجيبك إن الناس لم يمسوا ذات ليل ثم أصبحوا مع فلق الصبح ليروا مهندسا يقيم مسجدا محسوبا في فن العمارة من لا شيء، بل إن الأمر ليحتاج إلى بداية ساذجة، ثم تظل تلك البداية تتطور لتوغل في مجالها الفني على امتداد التاريخ.

علاقتنا بتراثنا هي أقرب شيء إلى اكتساب كل ذي موهبة، حسا تاريخيا فيما يتصل بمجال موهبته، فهو إذ ينتج ما ينتجه إبداعا غير مسبوق إليه إنما يفعل ذلك وهو ممتلئ بشعوره بالانتماء لا إلى جيله وحده، بل بالانتماء إلى كل من ظهروا في التاريخ مبدعين في الميدان الذي جاء هو بدوره ليبدع فيه، فالفقيه المعاصر ينتمي إلى الفقه متمثلا في جميع من شهدهم تاريخ الإسلام من فقهاء، والشاعر العربي المعاصر ، يرتد انتماؤه إلى الشعر العربي لا في جيله وحده، بل منذ عرفت الحياة الإنسانية شعرا ... وهكذا في أي مجال آخر للإبداع في الفكر والأدب والفن.

حقيقة الموقف الإبداعي في أي فرع من فروع الثقافة والعلم بكل ما يشتملان عليه من فروع هي أن توضع اللحظة الراهنة في خطها التاريخي، وإلا فكيف تتاح لها أن تجد مكانها؟ هل يمكن لعالم الرياضة ألا يكون على علم بما وصل إليه علماء الرياضة قبله، وكيف وصلوا؟ هل يمكن للخياط أن يعرف كيف يجيد صناعته، قبل أن يعرف أصولها؟ «قف لحظة عند كلمة أصول»، إنه لا سبيل أمامك إذا أردت أن تأتي بجديد في أي مجال، نظريا كان أم عمليا في فن أو في صناعة، إلا إذا عرفت أصوله «لتعرف عندئذ كيف تنبثق الفروع» الجديدة من أصولها.

فالمطالبة لحياتنا بصيغة جديدة، تدمج فيها عناصر العصر مع عناصر التراث لا تعني أن نضع شيئا من هنا إلى جانب شيء من هناك، بل يعني - بكل بساطة - أن يبدع منا من يبدع، وماضينا كله فيما يختص بمجال إبداعه ماثل في وجدانه؛ لأن انتماءه الفني أو العلمي لا يقتصر على جيله الحاضر بل يمتد ليشمل تاريخ مجاله ليتشرب تقاليده، دون أن يقلد أحدا.

الاقتصاد في الاعتقاد

«الاقتصاد في الاعتقاد» كتاب لأبي حامد الغزالي، كانت له في حياتي قصة: فلقد كان المجال الدقيق الذي تخصصت في دراسته وتدريسه في الجامعة، هو مناهج البحث العلمي، أو إذا شئت فقل «منطق العلوم»، والهدف الأخير من ذلك المبحث هو إيجاد الجواب عن هذا السؤال: كيف نستوثق من أن نتيجة معينة وصل إليها الباحثون في مجال علمي معين هي نتيجة صحيحة؟ ولقد يبدو السؤال في ظاهره هينا ميسور الجواب، إذ قد يتسرع مجيب فيجيب بقوله: إن صحة النتيجة العلمية مرهونة بإمكان تطبيقها، لكنه إذا تريث قليلا وتروى، وجد جوابه هذا ينقصه الشيء الكثير، فأولا: هناك علوم بأسرها، ومنها «الرياضيات» لا تجعل التطبيق معيار صدقها؛ لأنها في حقيقة أمرها، تصورات عقلية مشتقة من تصورات عقلية أخرى، أي أن الفكر الرياضي يبدأ داخل الرأس، وينتهي داخل الرأس، وثانيا: حتى في العلوم الطبيعية التطبيقية ذاتها، قد نصل إلى ما نظنه قانونا صحيحا صحة شاملة ومطلقة، لأننا كلما طبقناه على الواقع وجدناه قد انطبق، لكننا بعد ذلك قد نفاجأ ذات يوم بموقف مما يدخل في مجال ذلك القانون كما حسبناه يستعصي معه التطبيق، وعندئذ نستيقظ لنعلم بأن القانون الذي ظنناه صحيحا في ميدانه صحة شاملة ومطلقة، إنما هو أقل اتساعا من أن يشمل ميدانه كله، فمثلا، كان الظن لفترة طويلة، هو أن قانون الجاذبية كما صاغه نيوتن، صحيح صحة تشمل كل ما في الكون من أجسام، حتى انكشف للناس في أواخر القرن الماضي أن الذرة - التي هي أصغر ما يصل إليه تحليلنا للمادة - إنما هي مجموعة منسقة من كهارب، تتحرك في جوفها، كل منها في فلك خاص به، لكنه قد يقفز من فلكه إلى فلك آخر، وهو في هذه الحركة لا يخضع لقانون الجاذبية كما صاغه نيوتن، ثم أضيف إلى ذلك انتقال الضوء في الأبعاد الفلكية، فها هنا أيضا لا تتم الحركة وفق الجاذبية كما صاغ نيوتن قانونها المعروف، إذن كان الأمر بحاجة إلى إيجاد صيغة جديدة، لقانون الجاذبية تتسع لتشمل مجالها السابق ومجالها اللاحق جميعا، ومعنى ذلك هو أنه على الرغم من صحة التطبيق لقانون نيوتن، إذ هو في مجاله المحدود، فلم يتنبه العلم إلى قصوره إلا بعد أن تكشفت لهم حالات في الواقع الطبيعي لم يكونوا قد حسبوا لها حسابا.

فسؤالنا - إذن - ما زال قائما وهو: متى نكون على يقين بأن نتائجنا العلمية صحيحة؟ ومحاولة الإجابة عن هذا السؤال، هو ما يسمونه في التخصص الفلسفي «علم مناهج البحث» أو «منطق العلوم»، وذلك هو جانب رئيس فيما تخصصت في دراسته وتدريسه والتأليف فيه، وبين التفصيلات الكثيرة التي تساق في محاولات تحديدنا لشروط «المنهج» في أي بحث علمي، تفصيلة نقول فيها إنه إذا حدث لنا أن وقعنا على فرض معين، يمكننا به وحده أن نفسر إحدى الظواهر تفسيرا كاملا من الناحية العلمية، ويصبح من غير الجائز للباحث أن يتبرع بفرض آخر يضيفه إلى الفرض الأول، وكأن الظاهرة المراد تفسيرها، محتاجة في ذلك إلى الفرضين معا، كأن يحدد لنا العلم ميكروبا معينا في تعليله لمرض ما، فنجيء نحن ونضيف إلى ذلك الميكروب فعل الجن ... ويسمى هذا الجانب في علم المناهج، بالاقتصاد في الفروض.

فلما صادفت اسم الكتاب الذي ذكرناه للإمام الغزالي، وهو: «الاقتصاد في الاعتقاد» - ولم أكن قد رأيت الكتاب بعد - تساءلت في حيرة: أيكون موضوع هذا الكتاب متصلا بما نقول عنه في علم مناهج البحث: الاقتصاد في الفروض؟ ولم أكن في تساؤلي ذلك مغاليا ولا شاطحا؛ لأن للغزالي مؤلفات كثيرة، وثيقة الصلة بمناهج التفكير، لكنني - بالطبع - لم أقطع لنفسي بجواب، وكل ما رأيته حتى تلك اللحظة هو بطاقة في مكتبة الجامعة تحمل اسم الكتاب، ولست مختصا من الناحية الأكاديمية الخالصة في «الفلسفة الإسلامية»، نعم، إن الأستاذ في مجال ما من مجالات العلوم، وإن يكن تخصصه منحصرا في دائرة ضيقة من ذلك المجال، إلا أن أجزاء المجال الواحد يتشابك بعضها مع بعض تشابكا يفطر معه الأستاذ أن يجاوز حدود تخصصه الضيقة، ليستطلع ما هو متصل بها من سائر موضوعات المجال الدراسي الذي ينتمي إليه، فأستاذ القانون الدولي في كلية الحقوق - مثلا - لا يجهل جهلا تاما كل شيء عن القانون المدني أو القانون الجنائي، وأستاذ الفيزياء في كلية العلوم، لا يجهل جهلا تاما كل شيء عن الرياضة أو عن الكيمياء، وهكذا، فأستاذ مادة معينة من مواد المجال الفلسفي، لا بد أن يكون على بعض العلم بسائر الجوانب في هذا المجال، وعلى هذا النحو، كانت صلتي بالفلسفة الإسلامية، ومن هنا، كنت أبحث عن شيء خاص فيما كتبه أبو حامد الغزالي، حين صادفتني بطاقة تحمل اسم «الاقتصاد في الاعتقاد» للغزالي، فتساءلت كما تساءلت، وأسرعت إلى من هو مختص في الفلسفة الإسلامية، وسألته: أيكون موضوع كتاب الغزالي «الاقتصاد في الاعتقاد» متصلا بمبدأ الاقتصاد في الفروض، كما نعرفه في مناهج البحث العلمي؟ فلم يتردد دقيقة واحدة في أن يجيب بأن الأمر هو كذلك، ولم يفته أن يفاخر فيقول: إن كل شيء مما قد تظنه جديدا، موجود فيما كتبه الفلاسفة القدماء، وكذلك لم يفتني أن أرد مصححا، لأنبهه بأن فكرة الاقتصاد في الفروض، ليست جديدة، بل ترجع في أصلها إلى رجل من رجال الدين في أوروبا إبان العصور الوسطى، ولكنه كان من أوائل البشائر التي عملت على النهضة العلمية الحديثة، وهو «وليم أوكام».

وعدت مسرعا إلى المكتبة، واستعرت كتاب الغزالي: «الاقتصاد في الاعتقاد»، وما كدت أبدأ قراءته حتى تبينت حقيقة موضوعه، فليس هو بذي صلة كائنة ما كانت بمبدأ «الاقتصاد في الفروض»، ومع ذلك فقد رأيت في مادته موضوعا هو أهم عندي من الاقتصاد في الفروض، إذ وجدته متصلا برفض الفكر المتطرف في مجال الاعتقاد الديني، ولم أترك الكتاب إلا بعد أن ملأت منه وعائي، لا بدقة الدارس وحدها، بل بما دونته منه في مذكراتي، وعن هذه المذكرات أنقل ما يأتي:

الفكرة الرئيسة التي يدور حولها هذا الكتاب، هي وجوب استخدامنا لعقولنا عند فهمنا لنصوص الشرع، وذلك بأن نلتمس بين الطرفين طريقا تصان فيه أحكام الشرع وأحكام العقل معا، فلا يصح - من جهة - أن نجمد النصوص جمودا يجعلنا في تناقض مع منطق العقل، كما لا يصح - من جهة أخرى - أن نذهب مع منطق العقل إلى حد خروجنا على النصوص القاطعة، ولقد ختم الغزالي كتابه بفقرة تلخص موقفه هذا، إذ قال في تلك الفقرة الخاتمة لكتابه: «ولنختم الكتاب بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد، وحذفنا الحشو والفضول المستغنى عنه، الخارج عن أمهات العقائد وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه، على الجلي الواضح، الذي لا تقصر أكثر الأفهام عن دركه» ... وكان من أهم العبارات دلالة ومن أقواها توضيحا لموقفه، وهي كذلك من أهداها لنا نحن في عصرنا هذا، الذي أخذنا نتخبط فيه بين غلو المتطرفين وإسرافهم في تضييق الخناق على أنفسهم وعلى الناس جميعا، هذه العبارة: «... فالمعرض عن العقل، مكتفيا بنور القرآن، مثاله مثل المتعرض لنور الشمس ، مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور ...»

وهكذا أخذ الإمام الغزالي في كتابه هذا، يعاود القول مرة بعد مرة، في وجوب التوفيق بين نصوص الشرع، من جهة، وبين مقتضيات العقل، من جهة أخرى، قائلا: إن ذلك التوفيق بين العقل والشرع، هو طريق أهل السنة، مؤكدا: «أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وقد عرف أهل السنة أن من ظن من «الحشوية» وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر، ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل من الفلاسفة، وغلاة المعتزلة، في تصرف العقل، حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر، فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط، بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد، ملازمة الاقتصاد، والاعتماد على الصراط المستقيم، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.»

تلك فقرات مما ورد في كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» للإمام أبي حامد الغزالي، الذي شاعت عنه، عبر التاريخ الإسلامي من بعده، صفة «حجة الإسلام»، «فكلا طرفي القصد ذميم» كما قال بحق، وعلينا الآن أن نصب ما استطعناه من ضوء التحليل، على ذينك الطرفين اللذين قال عنهما «حجة الإسلام» إن كليهما ذميم، وإن التوفيق بينهما في وسط تجمعهما معا في نظرة واحدة، هو واجب محتوم، والطرفان هما - ونعيد ذكرهما زيادة في الوضوح - الجمود عند فهمنا لنصوص الشرع جمودا يؤدي بنا إلى تناقض أو إلى تضاد مع أحكام العقل، من ناحية، أو الذهاب مع مقتضيات العقل إلى الحد الذي نصادم فيه قواطع النصوص الشرعية، من ناحية أخرى ... ويبدو لي أنه لن تكتمل لنا الرؤية الواضحة في هذا الصدد، ما لم نقف وقفة نستطرد فيها لنحدد ما يمكن أن تعنيه كلمة «عقل» في هذا السياق.

وفي سبيل تحديدنا لمعنى «العقل» في هذا السياق من حديثنا، لا بد للقارئ أن يستحضر إلى ذهنه نقطتين أساسيتين في هذا الصدد: أولاهما هي أنه لكي يكون هنالك ما يدعو إلى استخدام «العقل » يجب أن تكون بين أيدينا «مشكلة» ما يراد لها حل، سواء أكانت تلك المشكلة عملية، أم كانت مشكلة نظرية، فلا فرق بين أن نحاول إقامة البرهان على نظرية هندسية، وأن نحاول عبور خندق صادفناه في الطريق أثناء السير، ففي كل من هاتين الحالتين، مشكلة يراد حلها، وأقول ذلك لكثرة ما يملأ حياتنا من مواقف نظن فيها أننا على خلاف في الرأي بعضنا مع بعض، فإذا أمعنت النظر، وجدت الموقف لا إشكال فيه يتطلب رأيا، فضلا عن أن تختلف فيه الآراء، وإنما الأمر كله «لغو» بأدق معنى لهذه الكلمة، إذ اللغو هو أن تعيد الشيء نفسه مرة ومرة وثالثة ورابعة، دون أن تضيف إليه جديدا، فما تقوله أنت، هو نفسه الذي يقوله خصمك، وإذن فلا إشكال بينكما، وبالتالي فلا رأي، ولا تفكير، ولا «عقل».

تلك إحدى النقطتين الأساسيتين اللتين أردت للقارئ أن يستحضرهما قبل أن نمضي معا في تحديدنا لمعنى «العقل» في سياق حديثنا هذا، وأما النقطة الثانية، فهي أنه حتى إذا وجدت مشكلة معينة تريد لها حلا، فلا بد - لكي يكون الحل مبنيا على «عقل» - أن تكون هناك حركة ننتقل بها من شواهد معينة، أو من مقدمات محددة، إلى النتائج التي تؤدي إليها تلك الشواهد أو المقدمات، وأقول ذلك؛ لأن هنالك مواقف كثيرة في حياة الإنسان يستشكل فيها أمر، فيجيئه الحل بلمعة من لمعات البصيرة، أو الحدس، أو القلب، أو الوجدان، أو ما شئت فسمها، ففي هذه الحالات يأتي الحل المطلوب مباشرة وبغير وسيط من شواهد أو مقدمات، وهنا لا يكون الموقف مما ندرجه تحت فاعلية «العقل»، ومرة أخرى نقول: إن العقل هو «حركة» يسير بها الإنسان بين طرفين، أحدهما شواهد، والآخر نتائج أو أحكام، لكنها حركة قصيرة بقواعد تضبط سيرها لنضمن بها صحة النتائج أو الأحكام، ولا تنس أن كلمة «عقل» في أصلها اللغوي، معناها «قيد».

أما وقد فرغنا من هاتين النقطتين، فعودة بنا إلى الموضوع الرئيس لحديثنا، الذي هو ضرورة أن نجمع بين «الشرع» و«العقل»، ونريد أن نعرف كيف يكون ذلك، فنقول: إن أهم ما وصل إليه «العقل» البشري، بحركته الاستدلالية التي أشرنا إليها، هو «العلوم». وماذا يكون أي علم إلا مجموعة أحكام، أو قوانين، استدلها الباحثون من الظواهر التي تقع في مجاله؟ فإذا كان هنالك نص شرعي، فيه ما يتصل من بعيد أو من قريب، بموضوع ذلك العلم، فإن «العقل» يقضي بألا يتناقض فهمنا للنص الشرعي مع ما قد قرره جانب العلم، وإلا كان العقل هنا بمثابة من يحكم بالصواب للنقيضين معا وفي آن واحد، وقد لا تكون المقابلة المطروحة بين أيدينا، مقابلة بين نص شرعي في ناحية، وقانون أثبته العلم من ناحية أخرى، بل ربما كانت - وكثيرا جدا ما تكون - مقابلة بين نص شرعي في ناحية ومشكلة اجتماعية أو فردية، في ناحية أخرى، بحيث لا تجد تلك المشكلة حلها العقلي - أي حلها العلمي - متفقا مع ما يدل عليه ظاهر النص الشرعي، فماذا نحن صانعون؟ هنا تجيء فتوى الإمام الغزالي بوجوب «التوفيق» بين الطرفين، غير أنه من حق أي سائل أن يسأل: وكيف يكون هذا التوفيق بين الطرفين، إذا كانا ضدين أو نقيضين؟

لعله من الخير أن أترك الإجابة للشيخ محمد عبده، فهاك نص ما كتبه جوابا عن سؤال كهذا: ... إنه إذا تعارض العقل والنقل «أي تعارض حكم العلم مع نص شرعي» أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول، مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في عمله، والطريق الثانية تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل. (كتاب الإسلام والنصرانية، ط6، ص59)

لقد كان لفكرة «التوفيق» بين طرفين يبدوان كأنهما متعارضان، أهمية كبرى في تاريخ الفكر الإسلامي، وإذا نحن لم نعطها حقها من الاهتمام، ومن اللجوء إليها في حياتنا الفكرية بشتى جوانبها، كنا بمثابة من يهدر جانبا كبيرا من تراثنا الفكري، فكلنا يعلم أنه لم يكد قرنان من الزمن يمضيان بعد نزول الإسلام، حتى انكب المسلمون انكبابا، كله الصحة والقوة والثقة بالنفس، على ثقافات أخرى، ينقلونها، ويدرسونها، ويجرونها في شرايين حياتهم الفكرية، وكان طبيعيا أن يتجه اهتمامهم أول ما يتجه إلى النظر فيما نقوله، وفي مقارنته بأصول دينهم، ليروا أين يتفقان إذا اتفقا، وأين يختلفان إذا اختلفا، ولقد كانت المادة المنقولة - بالطبع - مصبوبة في صورة تختلف في «ظاهرها» أشد اختلاف عن الصورة التي جاءت عليها ديانة الإسلام، فلم يصدهم هذا الاختلاف في الظاهر، عن البحث وراءها وفي جوفها، ليروا إذا كان الطرفان من حيث المضمون، متفقين أو مختلفين، وإلى أي مدى؟ وقد كان أن وجدوا تشابها في مواضع كما وجدوا تباينا في مواضع، وها هنا أعملوا عقولهم في عملية «التوفيق» كلما وجدوا التوفيق ممكنا، وليس معنى التوفيق أن يحذف المفكر المسلم من المادة المنقولة ما يراه متعارضا مع عقيدته، منقبا على ما هو متفق معها، كما ذهب إلى ذلك أستاذ جليل فيما كتبه عن هذا الموضوع؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، فكأن المسلمين ما نقلوا عن غيرهم شيئا، ولقد كنت أبديت في بعض ما كتبته تعليقا على ما ذهب إليه الأستاذ الجليل في معنى التوفيق، فرد ليبدي دهشته وعجبه من التعليق، ولكي أوضح ما أراه في معنى التوفيق، أقول افرض أن ما عندي يمكن الرمز له بالحروف أ، ب، ج، وأن ما نقلته عن الآخرين يمكن الرمز له بالحروف س، ب، ج، فهنالك بين ما عندي وبين ما نقلته تشابه في حرفين، هما ب، ج، فلا إشكال فيهما بين أصيل ومنقول، والمشكلة تتركز في الجزء الباقي، فمهمة الباحث عندئذ أن ينظر في س الوافدة، هل تتعارض مع أ تعارضا يستحيل معه أن يتجاورا؟ أو أن الاختلاف بينهما ظاهري ولا يمس الجوهر؟ فإذا كانت الثانية بحثت عن صورة جديدة ابتكرها ابتكارا، لتضم أ، س معا في فكرة واحدة، فينتج عن هذا كله مخلوق ثقافي جديد، فيه بعض الملامح الأصلية عندي، وفيه كذلك ملامح جديدة استحدثت بعملية الدمج الذي أجريناه على أ، س، ولولا هذه الجدة في التركيبة الجديدة، لما جاز لنا أن نقول عن الفلسفة الإسلامية، حين تناولت الموضوعات التي نقلت عن الفلسفة اليونانية، إنها قد جاءت بشيء جديد في عروضها، فالتوفيق هو دمج للطرفين دمجا يلد لنا مخلوقا جديدا، لا هو الطرف الأول كما كان، ولا هو الطرف الثاني كما كان.

وأغلب ظني هو أن مصدر الخطأ - إذا كان هناك خطأ نخطئ به في موقفنا من عملية «التوفيق» - فأساس ذلك الخطأ هو صعوبة التفرقة - في حالات كثيرة - بين فكرتين: متى تتعارضان، ومتى تتكاملان دون أن يكون بينهما تعارض، وإذا شئت فاصحبني في رحلة قصيرة، نستعرض فيها ضروبا من اختلاف الرأي، كيف يغلب عليها ألا تكون اختلافا حقيقيا بقدر ما هي أفكار يمكن أن تتكامل معا في موقف واحد، وخذ مثلا مذاهب الفلسفة في عصرنا، ولقد شاءت لنا المصادفة أن يجد كل مذهب منها من بيننا أنصارا، وتسمع هؤلاء الأنصار للمذاهب المختلفة يتجادلون، أو تقرأ لهم ما يكتبون، فيخيل إليك أن الهوة سحيقة بين تلك المذاهب، بحيث لا أمل في لقاء، وواقع الأمر أنها وجهات نظر نحو حياة عصرية واحدة، اختارت كل وجهة فيها جانبا من تلك الحياة، تاركة سائر الجوانب لسائر المذاهب، وإذا نحن ضممنا المذاهب كلها معا، لظفرنا بصورة واحدة متكاملة لهذا العصر في علومه، وفي سياساته، وفي أخلاقياته.

وانتقل معي إلى مذاهب النقد الأدبي والفني، فهي الأخرى اتجاهات، وجد كل اتجاه منها بيننا مناصرين، وكلنا يذكر كيف اشتعلت المعارك بين الفئات المختلفة، وواقع الأمر هو أن كل مذهب نقدي اختار طريقة يفهم بها الأدب الذي يقرؤه، أو الفن الذي يطالعه، على أن كل طريقة للفهم، يمكن أن تضم إلى أخواتها، فيزداد الناس فهما، إذ بدل أن يروا العمل الأدبي أو الفني من جانب واحد، فهم سيرونه من جوانب متعددة بتعدد طرائق النظر.

فهل يكون التوفيق بين الشرع والعقل، الذي رآه الغزالي، وكان الأشعري قد رآه من قبله، ورآه محمد عبده من بعده، ورآه كثيرون آخرون، عبروا به عن موقف أهل السنة، أقول: هل يكون التوفيق بين الشرع والعقل، في حقيقته، ضربا من رؤية الشيء الواحد من جانبين، يتكاملان ولا يتعارضان؟ وذلك بالمعنى الذي رآه الغزالي حين وجه النقد إلى فئتين تطرفتا في اتجاهين: فئة «الحشوية» جمدت عند فهمها للنص، حتى لكأنها قلصته من شدة الجمود وبرودته، فجعلته لا يتسع لكل ما يمكن أن يتسع له، وفئة المعتزلة مطت النص مطا حتى أصبح يتسع لما ليس يتسع له، وكان الصواب أن يفهم النص فهما يستثمر كل إمكاناته لا زيادة ولا نقص، وبهذه الوقفة المتزنة، التي لا زيادة فيها فوق ما يجب ولا نقصان فيها عما يجب، يتحقق لنا الاقتصاد في الاعتقاد.

القسم الثالث

من عوامل الضعف

صرخة

تقدمت الفتاة بخطو ثابت نحو قضاة الرأي في مسائل الدين، وذلك فيما يختص بالشباب وما يعترض حياته من مشكلات، تقدمت فقالت بصوت مهذب صادق أمين إنها تتحدث عن نفسها، ونيابة عن زميلات لها كثيرات، وكلهن طالبات «طب وجراحة» - كما قالت - وقد تأرقت فيهن الضمائر، فهن مؤمنات ويردن الصواب فيما يجوز لهن وما لا يجوز في حكم الدين: ماذا يحل لهن أن يبصرنه وماذا يحرم عليهن، إذا ما دخلن إلى درس التشريح وكان موضوع الدرس جثة عارية لرجل؟ ... فتولى الإجابة عالم فاضل لحظت فيه وهو يجيب أنه ينتقي كلماته في حذر شديد، فكان كمن يمشي على حبل مشدود في الهواء، ينقل القدم بعد القدم مع تفكير وتدبير؛ لأنه أراد - فيما بدا لي - أنه يود لو وقع حديثه على المشاهدين السامعين موقع المجدد في رأيه، كما أراد في الوقت نفسه أن يحسب عند أقرانه محافظا ملتزما نصوص الشريعة وسلوك السلف الصالح، وبين هذين البرزخين أراد أن ينفذ من مضيق ضيق وهو بمأمن من الخطأ والخطر، ولست أدري إن كانت السائلة - طبيبة المستقبل القريب - قد خرجت لنفسها ولزميلاتها بإرشاد واضح مفيد.

لكن الذي أدريه حق الدراية، أنني ضربت كفا على كف، صارخا لنفسي صرخة مكتومة، لأقلق نفسي بصرختي ولا أقلق أحدا سواي، على غرار ما نسمع عنه هذه الأيام من مسدسات كاتمات للصوت، ليقتل من يقتل في صمت لا يزعج الجيران. صرخت لنفسي صرخة كتمتها في كبدي، لأصيح بها قائلا: يا فضيحتنا عند أبنائنا وأحفادنا، حين يحكي لهم الحكاءون في زمانهم، عن قوم عاشوا في الربع الرابع من القرن العشرين، كانت فيه الطبيبة الجراحة تسأل كما يسأل كذلك الطبيب الجراح: هل يحل لها أن تنظر إلى جثة رجل مكشوفة العورة في دروس التشريح أولا، وفي شئون التطبيب ثانيا؟ وهل يحل له أن يتولى معالجة امرأة إذا كان الأمر يقتضي كشفا لمستور؟ ... ولعلي لم أخطئ السمع عندما تفضل العالم الجليل بالجواب، إذا زعمت أنه قد أورد في جوابه تساؤلا يقترح فيه بأن تكون أمثال هذه المعالجات في ظلمة الليل! ... يا فضيحتنا عند أبنائنا وأحفادنا، حين يحكي لهم الحكاءون عن آباء لهم وأجداد، كانوا ذات عهد من تاريخهم أيقاظا بمجدهم ثم ناموا، فلما أرادوا لأنفسهم يقظة بعد نوم، كانت وسيلتهم هي أن يتجرعوا من أكواب التثقيف شرابا ينيم اليقظان!

صرخت لنفسي تلك الصرخة المكتومة، أريد لنفسي السلامة والعاقبة من حراب الذين امتلأت صدورهم الطيبة بالهواجس، حتى لقد صورت لهم أوهامهم أن أرضنا بكل طولها وبكل عرضها، إنما هي مخدع كبير، يموج بأشباح ذكور تطمع في إناث، وإناث تفزع من ذكور، وحول هذا المحور الواحد الوحيد دارت لهم هموم، وقلقت بهم مضاجع! ... لكنني لم ألبث أن اتجهت إلى نفسي بلوم وتقريع، سألتها: لماذا تريدين لهذه الصيحة المذعورة أن تبقى مكتومة في حشاك؟ لم لا ترسلينها مدوية في الآفاق؟ إن الأمر لم يعد مقصورا على طبيبة شابة وطبيب شاب مع أقرانهما وقد ملأ الخوف قلوبهم، ومع خوف القلوب ذهب صواب الرءوس، نعم، فإن هنالك خوفا وخوفا ... فهنالك الخوف من الوقوع في الخطأ بدافع من همة وثابة طموح، وهو خوف ليس فيه عيب يعاب، ولكن هنالك كذلك خوفا من الوقوع في الخطأ، يؤدي إلى جمود صاحبه - أو صاحبته - فتشل أطرافه دون فورة الشباب وطموحه، ومن هذا الصنف الحائر الجبان، رأيت الطبيبة الجراحة، والطبيب الجراح، وهما في أول درجة من مدارج الحياة العلمية العملية ، وهما يسألان قضاة الرأي الديني عن موقفهما من عورات الجنس الآخر، ماذا يكون أثناء قيامهما بواجبات الطب والجراحة؟! ... أقول: إني اتجهت إلى نفسي بلوم وتقريع، سائلا إياها لماذا لا ترسلين الصيحة مدوية؟ ولم يعد الخوف الجبان مقصورا على طبيبة شابة وطبيب، بل هو خوف عم وانتشر حتى أصبح علامة على حياة هذا الجيل كله، متذرعا بذريعة الصلاح والتقوى، والله يعلم بما تخفيه تلك الذريعة من ضعف في الهمة وخور في الطموح، لماذا - يا نفسي - تكتمين الصيحة في جوانحك، ومم تخافين وممن؟ أهو إرضاء لجمهور الناس، وجمهور الناس هم الأحق بالإرشاد؟ أهو خوف على كيس نقودك أن تقل جنيهاته مائة أو مائتين؟ وهل يليق مثل هذا الخوف برجل وهن عظمه وتأهب للرحيل، إلا أن يكون هدفه هو أن يزداد مشيعوه رجلا أو رجلين؟ لا ... بل اجهر يا رجل بصرختك واجعلها في آذان الناس كصيحة البجعة عند زفرتها بأواخر أنفاسها قبيل موتها، هي عندها صرخة ألم، لكنها في آذان السامعين تغريدة الشادي بالغناء، أو اجعل صرختك في آذان السامعين باعثا على حيرة، كحيرة أبي العلاء المعري حين سمع هديل الحمامة على فرع غصنها المياد، فتساءل: أهو غناء ذلك الهديل أم هو بكاء؟!

إنك أيتها الطبيبة الناشئة، وإنك أيها الطبيب الناشئ، سألتما عن حكم الدين في موقف معين من مواقف العلم، ولست أدري عن وقع الإجابة عندكما، من الاقتناع أو الارتياب، فهل تريدان أن تعرفا بماذا كنت أجيب لو توجهتما بالسؤال إلي؟ إنني سأملي عليك الجواب، فاكتب يا قلم: ... لقد سمعت ذات يوم عن عالم في علوم الطبيعة من علماء عصرنا هذا، أنه إذ كان يعرض نتائج علمه على من اجتمعوا ليستمعوا إليه، أنه ختم حديثه بأن قال ما معناه: إن رؤية العلم للكون أصدق من رؤية الفلسفة ومن رؤية الدين! ... فما إن قرأت عبارته تلك، حتى ألقيت بالكتاب جانبا، لأراجع بفكري هذا القول العجيب من عالم في مثل مكانة من كنت أقرأ له أو - على الأصح - أقرأ عنه، وبعد أن تساءلت: ولماذا أسقط من حسابه رؤية الأدب، ورؤية الفن؟ إذن فلأضفهما من عندي إلى العبارة المذكورة، ثم أنظر فيها لأرى كم بعدت تلك العبارة عن الصواب.

وكان السؤال الأساسي الذي وضعته بين يدي، هو هذا: أهي رؤية واحدة للكون، أم عدة رؤى؟ أيمكن للإنسان السوي في العصر الواحد، أن تكون له رؤى كثيرة ومتعارضة للكون الذي يحيط به؟ لست أظن ذلك، حتى ولو تعددت زوايا النظر، فالإنسان - كل إنسان وأي إنسان - قد يكون لنفسه تصورا للعالم، يستخلصه مما قد نشأ عليه من عقيدة دينية، فهل - يا ترى - لو أن ذلك الإنسان نفسه، قد ارتفعت به درجة العلم بالعالم، أو بجزء منه، يمكنه أن يكون لنفسه رؤية مضادة لرؤيته من زاوية عقيدته الدينية؟ ثم هل يمكنه أيضا أن يضيف رؤية ثالثة للعالم، تكون هي الرؤية الفلسفية إذا حدث له كذلك أن ارتفعت به درجة دراسته في هذا الميدان؟ ويظل معنا السؤال نفسه قائما بالنسبة إلى الرؤية من زاوية الأدب، والرؤية من زاوية الفن، ذلك لو كان ذلك الإنسان أديبا أو دارسا للأدب، وفنانا أو دارسا للفن ... إن تعدد الرؤى على هذا النحو، وعند الإنسان الواحد المعين، تستحيل معها حياة سوية مفكرة، مبدعة، منتجة؛ لأن لكل رؤية إشعاعاتها وانعكاساتها على طريقة التفكير وطريقة العمل وطريقة التفاعل بين الأفراد بعضهم مع بعض، والتفاعل بينهم وبين العالم الذي يعيشون فيه.

وإنني حقا لأعجز عن التصور الذي يفتت الإنسان الواحد إلى عدة أفراد في جلد واحد: فرد منهم للدين، وفرد آخر للعلم، وثالث للفلسفة، ورابع للفن والأدب، وليس رفضي لهذا التعدد داخل الإنسان الواحد، قائما على أساس أن الإنسان الواحد لا يستطيع الجمع بين عدة فروع، لا؛ لأن هذا التعدد في الفروع ممكن، بل هو قائم بالفعل في كل فرد من الناس، مع تفاوتهم بعد ذلك في مدى الكثرة ومدى العمق، لكن رفضي منصب على الظن بأن تلك الكثرة في الفروع، تظل هكذا متفرقة، لكل منها رؤيته التي يختلف بها عن رؤى الفروع الأخرى، فذلك التمزق في اتجاهات الرؤية لا يكون إلا عند غير الأسوياء، الذين أصابهم مرض من أمراض النفس التي أصبح لها طب خاص بها، وأما الفرد من الأسوياء الأصحاء، فلا بد فيه من التقاء الفروع المختلفة عند رؤية واحدة للكون، أو للحياة الاجتماعية، أو أي مجال أردت الرأي فيه، على أن يكون لكل فرع من الفروع لغته الخاصة به في تعبيره عن تلك الرؤية الواحدة، وينتج عن ذلك بطلان القول الذي أسلفنا ذكره منسوبا إلى أحد علماء الطبيعة المعاصرين، وهو قوله بأن رؤية العلم أصدق من رؤية الفلسفة ومن رؤية الدين لحقيقة الكون؛ لأنه - ابتداء - لا تعدد في الرؤى عند الإنسان الواحد ما دام سويا، ولأن الفروع التي ذكرها، إذا اختلفت، فاختلافها في طريقة التعبير عن الرؤية الواحدة المشتركة، إذ لكل مجال طريقته التي ينفرد بها فتميزه عن سائر المجالات، وإذا كان هذا هكذا، فمن باب أولى ألا يقال عن العلم إنه أصدق رؤية من الدين أو من الفلسفة، أو من الفن، كما لا يقال عن أي ميدان من هذه الميادين أصدق من العلم، فالحق واحد لا يتعدد بتعدد طرائق الوصول إليه.

كان السؤال الذي طرحته الطبيبة الناشئة على قضاة الرأي في الدين سؤالا عن موقف معين في مجال العلم، ولو كنت أنا المسئول، لرفضت منذ البداية مشروعية السؤال، بناء على ما قدمته من استقلالية الفروع في طرائقها وممارساتها، برغم كونها جميعا تنضوي تحت رؤية واحدة، للفرد الواحد، والأمة الواحدة، وكثيرا ما تكون كذلك بالنسبة إلى العصر الواحد، ولعل الطبيبة الناشئة تعلم أن العرب المسلمين الأوائل، حين ترجموا عن اليونان القدماء فلسفتهم وعلومهم إلى اللغة العربية، أخذوا يوازنون بين مضموناتها ومضمون العقيدة الإسلامية، وانتهوا إلى اتفاق الطرفين في الجوهر، فكيف حدث ذلك الاتفاق، مع أن أحد الطرفين فلسفة وعلم، والطرف الثاني دين؟ ... الجواب هو أن الاختلاف إنما يكون في طريقة التعبير، فللدين طريقته، وللفكر الفلسفي أو العلمي طريقته، ومع اختلاف الطريقتين ليس ثمة ما يمنع أن يكون المعنى في جوهره واحدا، افرض - مثلا - أن فلسفة اليونان قالت فكرة تصف بها طريقة الخلق كيف كانت، وقال الدين فكرته عن طريقة الخلق، فاللغتان تختلفان؛ أعني أن كلا منهما يقول الفكرة بطريقته، لكنهما قد يتفقان على فكرة واحدة في الموضوع الواحد.

إن فكرة «النظائر» قديمة جديدة معا؛ وذلك لأنها فكرة مبثوثة في حقائق الكون وكائناته، وهي واردة على نطاق واسع في دنيا الفكر النظري وفي عالم الفن والأدب، ومؤداها بسيط، وهو أن كائنا ما يكون «نظيرا» لكائن آخر، أو موقفا لموقف، أو فكرة لفكرة، إذا اتفق الاثنان في طريقة البناء، فمربع من الخشب يكون نظيرا لمربع من الحديد؛ لأن كلا منهما يحيط به أربعة أضلاع مستقيمة ومتساوية، وزواياه الأربع قوائم، والخريطة الجغرافية نظيرا للرقعة التي تصورها تلك الخريطة؛ لأن كل نقطة على الخريطة لها ما يقابلها على الواقع المصور بالخريطة، وقد استطاع شامبليون أن يفك رموز الكتابة الهيروغليفية لأول مرة في التاريخ الحديث، حين وجدت فقرة معينة مكتوبة بثلاث لغات على «حجر رشيد»، فاللغات الثلاث مختلفة الأحرف والكلمات، لكنها «نظائر» لاشتراكها في أداء معنى واحد ... ولما كان شامبليون عالما بإحدى تلك اللغات، اتخذ منها مفتاحا يفك بها أسرار ما يناظرها، وإذا توسعنا في التطبيق، وجدنا أمثلة للتناظر لا حصر لعددها، فيمكن القول بأن الذرة الصغيرة، بما فيها من كهارب تدور في أفلاكها حول مركز، إنما هي نظيرة المجموعة الشمسية، مركزها الشمس وتدور حولها كواكب المجموعة، كل كوكب منها في فلكه، والإنسان الواحد - بوجه من الوجوه - هو نظير للكون كله من حيث البنية التي تجعله مادة وروحا، والشطران في المعادلة الرياضية متناظران، فالمقدار الرياضي في كل من الشطرين مساو للمقدار في الشطر الآخر، برغم ما بين الشطرين من اختلاف الرموز ... وهكذا وهكذا ...

وكذلك يكون الدين، والعلم، والفلسفة، والأدب، والفن، في الأمة الواحدة أو في العصر الواحد، ما دامت الأمة موحدة الكيان، وما دام العصر الواحد متجانس الأجزاء، كلها نظائر يقول الواحد ما يقوله الآخر من حيث المضمون في جوهره، والذي يختلف هو طريقة الأداء، ولنأخذ العلم والدين، ثم قد ننتقل إلى التطبيق على المجالات الأخرى، وليكن حديثنا عن الدين منصبا على الإسلام، فرسالة الإسلام هي التوحيد، وأيا ما كانت وجهة النظر في تفسير مصطلح «التوحيد» فهو فضلا عن إشارته إلى واحدية الذات الإلهية وأحديتها، فهي تشير بالتالي إلى أن كل ما في الكون من جزئيات وتفصيلات وأفراد ومفردات، إنما هي مترابطة معا في مجموع واحد، كل جزء فيه متصل ومتفاعل مع سائر الأجزاء، فإذا انتقلت بالنظر إلى ميدان العلم، أو العلوم، وجدتها - في ظاهر الأمر - مفرقة بين موضوعات تخصصاتها، لكل منها مجموعة من قوانين، وليس أي علم فيها مطالبا بأن يطل على غيره من العلوم، فقد يحدث ذلك وقد لا يحدث، وهنا تجيء «الفلسفة» لتكون إحدى مهامها الأساسية، إيجاد الصلة التي تربط كل العلوم المتفرقات في نقطة التقاء واحدة، ولا يستقر لفيلسوف من الأعلام الشوامخ قرار، إلا إذا وجد الجذر المشترك الذي تنبثق منه الشجرة بكل فروعها، وفي هذا «التوحيد» - من حيث المبدأ - يكون التناظر في الرؤية بين العلم والدين.

ولا يشذ عن هذا المنحى العام أدب وفن، فقد يخيل إلينا للوهلة الأولى أن ألوف الألوف من قصائد الشعراء، ومن لوحات الفن ومبدعاته المختلفة، لا سبيل إلى جمعها في «وحدة» واحدة، لكن حقيقة الأمر في ذلك، هي أنه - في كل عصر واحد على الأقل - يستطيع الناقد القدير أن يضرب بتحليلاته إلى الأعماق، ليخرج لنا بالروح الواحدة، التي تجمع العصر الواحد في أدبه، وفي فنه، فيجيء هذا التوحد ضميمة تضم إلى فكرة التوحيد في الدين والعلم، وربما جاز لنا أن نقول إن مثل هذا التوحد في الرؤية، مهما اختلف الفرع المعين من فروع العقيدة والعلوم وغيرهما، إنما هو خير مقياس نستعين به على معرفة ما قد ظفر به عصر معين، أو أمة معينة، أو فرد معين، من توازن واتزان، فإذا غاب البناء الموحد، كان غيابه علامة على انهيار الجانب الذي غاب عنه.

وإني لأخشى أن يظن قارئ بأنني قد خلطت خلطا معيبا بين «التوحيد» كما نفهمه في الدين، وبين وجوده الذي أشرنا إليه في الفروع الأخرى، وأقل ما يمكن أن يعترض به مثل ذلك القارئ، هو أن عقيدة التوحيد هي رسالة الإسلام على وجه التحديد، فكيف عممناه ليكون خاصة من خواص الدين على إطلاقه؟ وعلى اعتراض كهذا يكون الرد هو أن التوحيد الذي هو خاص بالإسلام، إنما هو وحدانية «الذات» الإلهية بالصورة التي أخذ بها الإسلام، والتي تناولها بعد ذلك فلاسفة الإسلام وفقهاؤه بالتحليل والشرح، وإلا فلا أظن أن ثمة عقيدة دينية تخلو من مبدأ يوحد على أساسها الكون بصورة من الصور.

ويكفيني هذا التوضيح المسهب، لأعود بعده: أولا - لعالم الطبيعة المعاصر الذي سبقت الإشارة إليه، وثانيا - للطبيبة الناشئة التي ذهبت إلى فقهاء الدين تلتمس عندهم رأيا خاصا بموقف معين في دائرة العلم، فأما صاحبنا عالم الطبيعة المعاصر «وقد يكون هو ماكس بورن، أو اسم قريب من هذا الاسم»، فقد كان في قوله: «إن رؤية العلم أصدق من رؤية الفلسفة ومن رؤية الدين» أكثر من وجه واحد من وجوه البطلان، أولها: افتراضه تعدد الرؤى في حياة الإنسان الواحد، أو العصر الواحد، تعددا يساير تعدد مجالات النظر، وحقيقة الأمر أنها رؤية واحدة، تتوحد بها شخصية الإنسان السوي، أو الأمة السوية، أو العصر السوي، مع اختلاف وسائل الأداء في التعبير عن تلك الرؤية الواحدة باختلاف الفرع من فروع المعرفة أو العقيدة.

والوجه الثاني: من أوجه البطلان في قول عالم الطبيعة المعاصر، هو في استخدامه لاسم «فلسفة»، وكأنما يتصورها شيئا مبتور الصلة بالعلم، في حين أنها لا تكون شيئا إذا هي لم تدر مع علم عصرها، أو قل مع محاور ثقافته، دورانا يجعل موضوعها نفسه هو نفسه موضوع العلم، أو أي محور آخر من المحاور الأساسية في عالم الفكر يحدث له أن يكون هو المحور السائد في عصر بذاته، وكل ما في الأمر من اختلاف بين ما هو علم وما هو فلسفة في العصر الواحد، هو درجة التعميم والتجريد، فإذا وقف العلم عند مجموعة قوانينه، جاءت الفلسفة لتستأنف السير بتلك القوانين العلمية ذاتها، نحو «مبدأ» يضمها جميعا، ويكون - بطبيعة الحال - أكثر منها تعميما وتجريدا.

وفي خطوتنا الأخيرة، نعود إلى الطبيبة الناشئة التي ذهبت إلى قضاة الحكم الديني لتسألهم ماذا يكون موقف الأنثى من دراسة الطب والجراحة «وشركها في سؤال شبيه طبيب ناشئ» أما جثة رجل بكل أعضائه أثناء درس التشريح؟ ... أهو حلال لها أم حرام عليها أن تشارك في النظر والبحث؟ ولتلك الفتاة أقول - مع الأسف والأسى - إن موقفها ذاك، بكل ظروفه وتفصيلاته، قد كان له في نفسي وقع الصاعقة؛ لأنه دليل على خلط، ودليل على انعدام الثقة بالنفس، ودليل على أن أملنا في حياة علمية قوية يتبدد مع الريح ...

متطرف تحت المجهر

لا أذكر من هو الشاعر، ولا من هو الخليفة أو الأمير الذي قال الشاعر شعره بين يديه، لكنني أذكر بيتي الشعر اللذين تبادلهما الشاعر والأمير، فوضع كل منهما وجهة نظره في بيت الشعر الذي ارتجله من وحي الموقف، فيبدو أن الأمير (أو لعله كان الخليفة المنصور) كان متسرعا يعجل الفعل قبل أن يتدبره في روية وأناة: فوجه إليه الشاعر النصح في بيت من الشعر، مؤداه أن صاحب الرأي من واجبه أن يتدبر رأيه قبل أن ينتقل به إلى مجال التنفيذ، إذ لا يفسد الرأي إلا أن يتعجل صاحبه إلى الفعل قبل أن يستيقن من صواب ذلك الرأي، وهنا أسرع الأمير (أو الخليفة) بالرد في بيت من الشعر، أجراه على منوال البيت الذي قاله الشاعر، إلا أنه أخذ فيه بوجهة نظر مضادة، إذ قال: إن صاحب الرأي ليس في حاجة إلى التدبر بقدر ما هو بحاجة إلى العزيمة، إذ ليس ما يفسد الرأي هو الإسراع به نحو التنفيذ، وإنما يفسده أن يتردد صاحبه في تنفيذه، وهذان هما البيتان:

قال الشاعر:

إذا كنت ذا رأي، فكن ذا تدبر

فإن فساد الرأي أن تتعجلا

فأجاب الأمير:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا

وأذكر أني في ساعة من ساعات الفراغ، أخذت ألهو في هذين الموقفين من الحياة ، فأيهما يا ترى أقرب إلى الصواب؟ وهما موقفان كثيرا جدا ما نراهما يقسمان الناس صنفين: صنفا يتروى قبل التنفيذ، وصنفا آخر لا تكاد فكرة تطوف بخاطره حتى يسرع إلى تنفيذها، والأغلب أن يكون الصنف الأول ممن أنضجته خبرة السنين، وعرف أن الرأي المعين في الموقف المعين، كثيرا جدا ما تقابله وجهات نظر أخرى تستحق الالتفات إليها، والموازنة بينها، قبل الانتهاء إلى قرار أخير، والأغلب أن يكون الصنف الثاني ممن لا يزال محكوما بانفعالاته وعواطفه من الشباب أو من هم في حكم الشباب، فليست العبرة هنا بعدد السنين، وإنما العبرة بغزارة الخبرة المحصلة أو ضحالتها.

وبعد مراجعات أقارن فيها بين الموقفين وأوازن: لمع الذهن بحل يجمع بين وجهتي النظر في موقف واحد: فليس الصواب هو أن نجعل الأمر بديلين، علينا أن نختار أحدهما وأن نترك الآخر: فإما أن نتدبر الرأي ونتروى قبل العمل، وإما أن نعزم عزيمتنا مسرعين إلى العمل بلا تردد بين جانب الخطأ منه وجانب الصواب، فحقيقة الأمر - كما بدا لي - هي أن الطريق إلى العمل ذو مرحلتين: أولاهما مرحلة للتدبر، وثانيتهما مرحلة للعزيمة التي تهم بالفعل بناء على ما وصلت إليه المرحلة الأولى: فإذا رأينا الناس وكأنهم منقسمون صنفين في هذا الصدد، فما ذلك إلا أن صنفا منهم يقف عند المرحلة الأولى وحدها، وكأن إمعان التدبر قد أصابه بالشلل، وأما الصنف الثاني فهو الذي يتجاهل المرحلة الأولى، ويجعل نقطة البدء والانطلاق معا في المرحلة الثانية، وكلا الرجلين نصف إنسان.

ولأمر ما، تواردت في رأسي عند تلك اللمعة الذهنية، ذكريات لا حصر لها، لمواقف كثر فيها اللغو بيننا، في التفرقة بين ما نطلق عليه اسم «الكليات النظرية» و«الكليات العملية»، وهو تقسيم لا يجري بدقة مجرى التقسيم الذي باعد المسافة بين الشاعر والأمير، إلا أنه برغم ذلك يمت إليه بسبب؛ لأن شيئا شبيها بما قلناه عن وجوب الجمع بين تدبر الرأي وعزيمة تنفيذه، ليكونا مرحلتين لا بد أن يتكاملا معا في الإنسان الواحد، نقوله كذلك فيما هو «نظري» وما هو «عملي» من ضروب العلم، فكل «علم» عرفته الدنيا من أول التاريخ الذي عرف فيه الإنسان كيف يفكر على نهج العلم، هو «نظري» أولا، وعملي ثانيا، إذا قسم «للنظرية» أن تجد من ينقلها إلى مجال التطبيق: وإلا فكيف يكون؟ أيبدأ الإنسان بالخبط هنا والتخبط هناك بغير «فكرة» في فكره؟ أم أنه يبلور خبراته المتفرقة في «فكرة» يقتنع بصوابها ثم يهم بتنفيذها: فإما طاوعه الواقع على فكرته، فتكون فكرته صحيحة، وإما استعصى الواقع على فكرته فتكون فكرة خاطئة؟ ولعل ما أضلنا عند القسمة إلى «نظري» و«عملي» في كليات الجامعة هو خلط فكري أفدح: إذ حسبنا دراسة العلوم الإنسانية أدخل في باب «النظري»، غافلين عن أن النظري هو ما يستند إلى «النظرية»، والنظريات بهذا المعنى، تعرفها العلوم الطبيعية أكثر مما تعرفها العلوم الإنسانية؛ لسبب واضح - هو أنه قرينة الدقة عندما تعلو درجاتها، وإذا شئت فراجع ما شئت من بلاد الدنيا، لترى كيف تقسم فيها أنواع الدراسات، ولن نجد - فيما أعتقد - أحدا سوانا نقل صفة «النظري» من موصوفها الحقيقي، وهو العلوم الطبيعية، إلى غير موضوعها الأساسي المباشر، وهي العلوم الإنسانية، فهذه علوم مختلف على منهجها حتى اليوم: هل يكون في نفسه منهج البحث في العلوم الطبيعية، أو يكون لها منهج خاص؟ وذلك لأن «النظرية» في أي علم، إذا ما وجدت سبيلها إلى دقة الصياغة، وغالبا ما تكون الصياغة الدقيقة في صورة رياضية، كان ذلك دليلا على أن ذلك العلم قد بلغ مرحلة متقدمة من الدقة والقدرة على التنبؤ الصحيح في مجاله.

ثم انعرجت بي الخواطر نحو الكليات الجامعية وأسمائها، فرأيت كم تعجل أولئك الذين أطلقوا تلك الأسماء على غير مسمياتها؛ فالتي أطلقوا عليها اسم «كلية الآداب» لا تدرس آدابا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، ولا كان مقصودا بها أن تفعل - وإنما هي تدرس علوما اجتماعية، أو علوما إنسانية، فلماذا لم يسموها باسمها؟ و«كلية التجارة» لا تدرس تجارة، بل تدرس محاسبة وإدارة، فلماذا لم يسموها باسمها؟ وكلية «الحقوق» تدرس القانون، فلماذا لا تسمى كلية القانون كما هي الحال في سائر بلاد الدنيا؟

ولكنني سرعان ما أوقفت هذه الخواطر متهكما، قائلا لنفسي: هذه الأسماء كلها، وإن أطلقها من أطلقها على غير مسمياتها، فهي حتى وإن اختلف الناس حول معانيها، فلن يؤدي بهم ذلك الاختلاف إلى قتال تسفك فيه الدماء، وماذا أنت قائل في مجموعات أخرى من الأسماء يفهمها الناس على أوجه مختلفة، ثم ينتهي بهم انقسامهم في الفهم إلى عراك، ينشب بينهم بالكلمات أول الأمر ثم يتحول العراك إلى ساحات الحرب ونيران المدافع؟! فاسم «الديمقراطية» يطلقه فريق على نظام تتعدد فيه الأحزاب لتعدد وجهات النظر، ويطلقه قوم آخرون على نظام الحزب الواحد لواحدية الرأي الذي لا يجوز له عندهم أن يتعدد، فإذا قال الأولون: هذه هي الديمقراطية، رد الآخرون بقولهم، بل الديمقراطية هي هذه، وعلى العرافين، والمنجمين، وقراء الكف والفنجان، أن يكشفوا للناس وجه الحق بين الفريقين، قبل أن ينتقلا بالخلاف إلى لغة الحديد والنار، وكل إنسان على كوكب الأرض يرفع لواء «الحرية»، وهل شهد التاريخ كله حاكما واحدا يعلن عن نفسه أنه يحكم لغير الحرية؟ إنه يقتل من أجل الحرية، ويزج في السجون من أجل الحرية، ولكن تعال فانظر إليهم، كيف يفهمونها على معان تختلف باختلاف العصور وباختلاف الشعوب في العصر الواحد، تجد عجبا، إننا هنا لا نريد أن نسيء الظن بأحد، فكل يحب وطنه وأهله إلى حد العشق والهيام، لكن العلة هي في فهم الناس للكلمات، فواحد يقول إن الحرية أساسا هي حرية الفرد، وهي نفسها الحرية التي جاءت رسالات السماء لتقررها لكل فرد حيث يكون مسئولا حقا عما قدمت يداه وهو بين يدي الله يوم النشور، لكن قوما آخرين يتعجبون إذ هم لا يرون كيف تكون حرية إلا لكتلة الشعب معجونة كلها معا في عجينة واحدة، إن الحرية عند الأولين هي آخر الأمر أن يعبر المواطن عن نفسه فكرا وعقيدة وسلوكا ولا تقيده في ذلك إلا ضوابط تستهدف في نهاية المطاف أن يتاح للإنسان الحر أن ينعم بذلك التعبير عن ذات نفسه، وأما الآخرون فلا يخجلهم أن يقولوها صريحة، وهي أن الحرية في آخر التحليل - هي أن يأمن كل مواطن على رغيف الخبز ...

جاءت معي تلك المقارنات استطرادا طبيعيا، في تلك الجلسة الهادئة التي بدأتها بموقف المناظرة الشعرية التي دارت بين الشاعر والأمير (أو لعله الخليفة) حول أن يكون صاحب الرأي ذا تدبير أو أن يكون ذا عزيمة، ثم أخذ تعاقب المعاني ينتقل بي من موضوع إلى موضوع، وكان الرابط بين مختلف الموضوعات التي طرقتها، هو اختلاف الناس في فهم الكلمات التي يستخدمونها، ثم ما هم إلا أن ينقلهم الوهم إلى الاعتقاد بأنهم إنما يختلفون على حقائق الواقع، وحقائق الواقع هي هي، لكن كلا منهم يريد أن يأخذ جانبا منها دون جانب، ويظن مع ذلك أنه أخذها جميعا واستوعبها من شتى أطرافها ... ولبثت خواطري تلك تنساب بي من مجال للحديث إلى مجال، انسيابا طليقا لا يقيده هدف محدد أبتغي الوصول إليه، لكن الله العليم الخبير شاء لي أن يتحول معي ذلك الانسياب الحر إلى موقف جاد وحاد: وكان ذلك عندما طرق على الباب زائر عاد لتوه من سفر، ولا أعرف ماذا كانت مناسبة الحديث التي ظهرت فيها فكرة التطرف الديني، وقد يكون زائري نفسه هو الذي افتعل ظهورها افتعالا: ليقول لي في شيء من الرعشة العصبية المكشوفة: لست أفهم كلمة التطرف يوصف بها متدين، فالمتدين الحق متمسك بدينه، لا زيادة ولا نقصان، إنه إنسان يلتزم الخط الديني، وخط الدين خط واحد، والأمر بعد ذلك يكون في أفراد الناس هو: إما سائر على هذا الخط وإما منحرف عنه، فأين يكون في هذه الصورة الواضحة من هو معتدل ومن هو منحرف؟ قلت لزائري: قد فاتتك تفرقة مهمة بين طرفين، هما «الدين» كما هو مثبت في كتابه المنزل من جهة، و«المتدين» بذلك الدين من جهة أخرى، فبينما الكتاب «واحد»، فإن المتدينين به كثيرون، وليس هو من الأمور الشاذة في طبيعة الناس، أن يختلفوا في طريقة فهمهم لنص واحد قرءوه: وهذا هو ما حدث بالفعل للمسلمين (كما حدث مثله في أتباع الديانات الأخرى جميعا)، فالمسلمون متفقون على الكتاب الكريم، لكنهم مختلفون في فهمهم لبعض آياته: ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة، ومن ثم يكون معنى التطرف يا صاحبي هو أن يأخذ المسلم بطريقة معينة في الفهم، أو قل: بمذهب معين، ثم يعلن أنه هو وحده الصحيح، وقد أخطأ الآخرون، ولو وقف أمره عند هذا الحد، لما كان عليه غبار؛ لأن معنى أن يأخذ إنسان بمذهب معين دون سائر المذاهب، هو أنه قد رأى الصواب في جانب المذهب الذي اختاره، لكنه ينقلب «متطرفا» إذا هو أراد أن يحمل الآخرون بالقوة - كائنة ما كانت صورة القوة - على مشاركته فيما اعتقد.

بدأت حديثي مع الزائر هادئ النبرة: ثم شعرت في داخلي بالحرارة تزداد معي شيئا فشيئا، كأنما أحسست بأن موضوع التطرف في حياتنا أكثر أهمية وأشد خطورة، من أن يؤخذ بهذا الهدوء، فقلت لزائري - وكان قد هم بالرد على شيء مما قلته - اسمع يا أخي، إنني بحكم فارق السن بيني وبينك - على الأقل - أستأذنك في مواصلة حديثي؛ لأفتح عينيك على حقيقة: «المتطرف» في مجال الدين أو في أي مجال غير الدين:

أولا:

ليس ما يؤخذ على المتطرف أنه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الأفكار والمواقف من خلالها، لا، فهذه - على العكس - علامة نضج، وكذلك ليس ما يؤخذ عليه أنه يحاول إقناع الآخرين بمشاركته في وجهة نظره؛ لأن تلك المحاولة منه إنما هي علامة إيمان بصدق ما رأى، لكن الذي يؤخذ عليه حقا هو إرهابه للآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، ففي ذلك الإرهاب جوهر التطرف.

ولأضرب لك مثلا على ذلك من التاريخ: فإنه لما نشبت الحرب بين الإمام علي - كرم الله وجهه - وبين معاوية، على الحق في إمارة المؤمنين لمن تكون، كان الموقف يتضمن رأيين في أحقية الخلافة، أولهما: أن آل النبي - عليه الصلاة والسلام - أحق من غيرهم بها، وفي هذه الحالة تكون الأحقية لعلي، فضلا عن أن عليا قد بويع بالفعل ، والرأي الثاني : هو أن أحقية الخلافة جائزة لكل ذي أصل عربي، سواء أكان من آل بيت رسول الله

صلى الله عليه وسلم

أم لم يكن، وفي هذه الحالة لم يكن ثمة ما يمنع أن يتولاها معاوية إذا توافرت له البيعة، فلما ثارت في قلب المعركة مسألة الاحتكام إلى الكتاب الكريم، في فض الخلاف بين الفريقين المتحاربين، تطورت الحوادث تطورا سريعا أدى إلى أن يعلن بعض أنصار الإمام علي - كرم الله وجهه - خروجهم عليه؛ اعتقادا منهم بأنه لم يكن حاسم الرأي في مسألة الاحتكام إلى الكتاب، وأطلق على هؤلاء المعارضين اسم «الخوارج».

ولم يلبث هؤلاء الخوارج أن كونوا لأنفسهم وجهة نظر شاملة، كان منها رأي في أحقية الخلافة، فلا هم سلموا بأولوية آل البيت في ذلك الحق على سواهم، ولا هم وافقوا على أن يقصر ذلك الحق على من كان ذا أصل عربي من بين المسلمين الأكفاء للخلافة، وخرجوا برأي ثالث، هو أن كل مسلم له حق الحكم ما دام ذا قدرة معترف بها، دون أن يكون بالضرورة من أصل عربي، أو أن يكون بالتفضيل من آل البيت: فإذا ضممنا هذا الرأي إلى غيره من آرائهم، ونظرنا إليها في ذاتها، فربما وجدنا وجهة نظر الخوارج خالية مما يؤخذ عليهم، فهي وجهة نظر لا تقل عن سواها من وجهات النظر: إذن فلماذا نفرت منهم الأمة الإسلامية، ولا تزال تنفر من مجرد ذكرهم؟! كانت العلة في تطرفهم بالمعنى الذي أسلفته عن التطرف؛ وهو اللجوء إلى القسوة العنيفة، إرهابا لكل من وقعت عليه أيديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإن لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها، ولا بد أن نضيف هنا حقيقة عنهم لتكتمل الصورة أمام القارئ، وهي أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة، ويديمون الصلاة، حتى لقد كانوا يعرفون بما كانت تتقرح بهم جباههم من السجود على حصباء الأرض العارية، فالخوارج - كما ترى - قد أغضبوا الأمة الإسلامية على طول التاريخ الإسلامي كله، لا لمجرد أن لهم وجهة نظر إسلامية خاصة، ولا لأنهم قصروا في عبادة الله، بل هم أغضبوها بتطرفهم حين يكون معنى التطرف لجوء صاحبه إلى الإرهاب، فلا هي الموعظة الحسنة وسيلتهم، ولا هي الجدل بالحجة تقارع الحجة، ولا هي الحكمة: وتلك الوسائل الثلاثة هي وحدها المذكورة في القرآن الكريم.

ثانيا:

إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم، هو العلامة الحاسمة التي تميز المتطرف عمن سواه، كان محالا أن يلجأ إليه إنسان قوي واثق بنفسه وبعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أية صورة من صوره، لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحس في نفسه ضعفا، تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائف آخر، ترى المتطرف هلعا جزوعا، يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع قبل أن تتسع الفرصة أمام ذلك الخصم، وليس هذا النزوع العدواني مقصورا على المتطرف في الدين، بل هو نزوع نلحظه في كل ضروب التطرف الأخرى، فإذا أحدثت جماعة انقلابا في بلدها، تولت على أثره مقاليد الحكم في ذلك البلد، فإنها على الأرجح لا تتريث قبل أن تنزل على من تتوخى فيهم المعارضة، كل ضروب التنكيل والتعذيب تخلصا منهم أولا، ليكونوا عبرة لغيرهم ثانيا.

ثالثا:

لا يتطرف بالمعنى الذي حددناه للتطرف: إلا من حمل على كتفيه رأسا فارغا وحاويا، اللهم إلا أضغاثا دفع بها إلى ذلك الرأس، عن فهم أو عن غير فهم؛ وذلك لسببين يأتيان على التعاقب في خطوتين: فمن جهة أولى، لا تكون الأفكار التي شحن بها رأسه علمية بأي معنى من المعاني، إذ الفكرة العلمية لا هي تتطلب أن يتعصب لها أحد بالتطرف فيها، ولا الأخذ بما يشعر في نفسه بأي حافز يحفزه إلى ذلك؛ لأنها ما دامت فكرة علمية فهي مقطوع بصوابها من ناحية، وخالية من أية شحنة انفعالية، من ناحية أخرى، وهنا ننتقل إلى الخطوة الثانية: وهي أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمت إلى العلم بصلة فلا بد - إذن - أن يكون فيه الخصائص المضادة لخصائص العلم، ومنها حرارة الانفعال، وغموض المعنى ، واحتمال أن تتعدد فيها وجهات النظر في فهمها وتأويلها واغتراف جانب من جوانبها مع إهمال الجوانب الأخرى.

وهذه الخصائص كلها لا غبار عليها، إذا كان رأس حاويها فيه القدرة الناقدة، وموضوعية النظر، بحيث إذا تقدم إليه ناقد بنقد شيء مما في رأسه، لم يقابله بالثورة الغاضبة، وبالتهديد بالقتل أو بالضرب، بل أنصت إلى نقده بعقل مفتوح، وما دمنا قد حددنا معنى التمرد باقترانه بالإرهاب الأهوج، تحتم أن يكون رأس المتطرف قد خلا من الضوابط التي تمكنه من مخالفة الآخرين لوجهة نظره.

رابعا:

لقد تساهلنا فيما أسلفناه، حين جعلنا التطرف في أي مجال، وجهة نظر؛ لأن من كانت له وجهة للنظر ثبت عليها ورأى كل شيء من خلالها ... لكن التطرف في حقيقته الدفينة «حالة» من حالات التكوين النفسي، تجعل صاحبها معدا لأن يتطرف وكفى: فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حد ذاته، ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة من تطرف في فكرة إلى تطرف في الفكرة التي تناقضها: فنراه اليوم - مثلا - متطرفا في رؤية إسلامية معينة، ثم نراه غدا متطرفا في رؤية شيوعية، مع أن الإسلام والشيوعية ضدان لا يلتقيان.

إن المريض بالتطرف لا يعرف وهو بالتالي لا يعترف بأنه مريض، شأنه في ذلك شأن المرضى بسائر الأمراض النفسية، وإذا كاشفت المتطرف الديني مثلا بحقيقة حالته، أجابك بأنه إنما يسير على الخط الديني، فماذا يعني التطرف فيمن يتمسك بدينه ويلتزم أوامره ونواهيه؟ قال زائري: هذه إشارة إلى ما قلته لك عن نفسي في أول الحديث، نعم إنني ملتزم خط الدين، وفق ما تعلمت وما علمت بأنه الدين الصحيح، فقل لي ماذا تريد أن أفعل؟

قلت: لا أريد لك أن تغير من أمر نفسك شيئا، إلا أن تتذكر كلما رأيت أحدا يلتزم دينه مع اختلاف في تفصيلات الرؤية والفهم والتأويل، بأنه هو الآخر يمارس دينه كما تعلم وعلم بأنه الخط الصحيح، فإما تركته وشأنه وضميره، وإما دخلتما معا في حوار هادئ، منتج، أمين.

عصر الحنين

كانت رباعيات الخيام، في ترجمة السباعي لها عن الإنجليزية، مما قرأته في مرحلة الشباب، وكنت ألحظ أن لتلك الرباعيات عندي وعند من قرأها من جماعة الأصدقاء، وقعا جميلا وأثرا عميقا، حتى كأنها في نفوسنا مجموعة من قواعد السلوك الحكيم لمن أراد أن يحيا حياته سعيدا، ولقد علمت فيها بعد ذلك، أن المرحوم أحمد رامي ترجمها عن الفارسية، لكني لم أصادف تلك الترجمة، فلم أقرأ منها شيئا، وفي أول الخمسينيات، أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر، ترجمة للرباعيات عن الفارسية، للشاعر عبد الحق فاضل، الذي قدم لها بدراسة مستفيضة، عرفت منها لأول مرة أن رباعيات الخيام ليست مجموعة محددة معروفة ومحققة الانتساب إلى صاحبها، بل الذي حدث هو أن شعراء كثيرين بعد ذلك، أخذوا ينشئون رباعيات على غرار ما نظمه الخيام، فتضاف إليها وكأنها منها، ومع مر الزمن لم يعد أحد يعلم على التحقيق ما الذي قاله الخيام وما الذي لم يقله، وكانت ترجمة عبد الحق فاضل - عندي - أكثر جمالا من ترجمة السباعي، ففضلا عن أنها منقولة عن أصلها الفارسي مباشرة، فإن لغتها جاءت في انسياب سهل لا تكلف فيه، مع دقة في نسج خيوطه، بالقياس إلى التصنع عند السباعي في اختيار ألفاظه، فكان بين الترجمتين فارق يشبه الفارق الذي رآه شاعر بين حسناء المدينة وحسناء البدو، فبينما الأولى تجلب جمالها من وسائل التجميل، ترى جمال الثانية بسيطا ومن صنع الطبيعة البدوية.

ثم حدث لي بعد ذلك أن قرأت رباعيات الخيام مترجمة إلى الإنجليزية، وهي الترجمة المعروفة للشاعر فيتزجرولد، ومن تلك الترجمة تعلمت درسا في كيف ينبغي أن يترجم الشعر من لغة إلى شعر في لغة أخرى، وكانت المصادفة وحدها هي التي علمتني ذلك الدرس، وذلك أني صادفت الرباعيات في أكثر من ترجمة واحدة لفيتزجرولد نفسه، وبالمقارنة السريعة، وجدت أن الرباعية الواحدة قد تظهر في صورتين لا تشتركان في شيء، وكأن إحداهما ليست الأخرى، اللهم إلا مشاركة في الروح من بعيد، ومن ذلك عرفت أن الشاعر وهو يترجم شعرا من لغة أخرى إلى لغته، إنما ينقل الأثر المتروك في نفسه، بغض النظر عن النص المترجم في تفصيلاته، وعندئذ تذكرت شيئا كنت أعرفه لكنني لم أكن قد تنبهت إلى مغزاه، وهو ذلك الفرق البعيد بين إلياذة هومر في ترجمتها إلى الإنجليزية عند شاعرين: تشابمان، وبوب.

وأعود إلى قراءة الرباعيات أيام الشباب، فأذكر أن من بين أبياتها التي لصقت في أذهاننا - جماعة أصدقائي وأنا - هذا البيت الذي يقول: «ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها.»

ولا أدري لماذا اجتذبنا هذا المعنى، مع أننا جميعا لم نكن ممن تلهيهم لذة الساعة التي نحن فيها، بل كنا ممن يجاوزون بأملهم العريض مرحلة الحياة القائمة، أملا في مرحلة قادمة تحقق لنا رجاءنا في أنفسنا، لكنها رباعيات الخيام وسحرها الذي يخيل لقارئها أنها إنما وقعت على ما يصح أن يتخذ قانونا للحياة عند من أراد أن يكون سعيدا، ومن ذا الذي لا يريد؟!

إن البيت المذكور للخيام، لا يصدق إلا في حالتين: إحداهما أن يكون حاضر الناس مزدهرا، مما يستحق أن ينعم به أصحابه، وأما الحالة الأخرى فهي أن تستبد بالناس حالة من الضيق واليأس، فيخرجون على قيود الأخلاق، ويستهترون، انغماسا في لذائذ الشهوات ما استطاعت لهم وسائلهم، وربما كانت هذه الحالة الثانية هي ما يعيشه اليوم سكان الأرض جميعا، ونحن في مصر جزء من هؤلاء، ولعل ضيق الناس بحاضرهم ويأسهم منه، ورغبتهم في تغييره، هو الباعث على العنف الذي يملأ أرجاء العالم، غربيها وشرقيها وشماليها وجنوبيها جميعا، فلم تعد لغة التفاوض والتفاهم لتغني عن البؤس واليأس شيئا، فاندفع الضحايا إلى لغة أخرى يصرخون بها، هي لغة القنابل تفتك بالأبرياء، وخطف الطائرات فيتعذب الأبرياء، وغير ذلك من أسباب الفزع التي يراد بها أن توقظ الغافلين عن حقوق الإنسان في كل ألوانه وعقائده وشعوبه.

لا ... إن قول الخيام: «ولك الساعة التي أنت فيها» لا يصلح أن يكون هو المبدأ، بالنسبة إلى الأكثرية العظمى من سكان الأرض، في هذه المرحلة الراهنة من هذا العصر؛ لأن كل هؤلاء يريدون أن يفروا من الساعة التي هم فيها، ولكن إلى أين يفرون؟ هنا تختلف الإجابات باختلاف «الحنين» ووجهته ... إنه حقا «عصر الحنين»، إلا أن بعضا يجد حنينه متجها إلى هدوء الماضي وبساطته ونظافته، فيما يصورونه لأنفسهم، وأما بعضهم الآخر فيريد أن يشق جدران هذا الحاضر الكريه، ليسرع الخطى إلى مستقبل رسمه لنفسه على هواه، وليكن لكل إنسان منا ما يرى، فمن حقك أن ترى رؤية القرون السابقة كلها، من أن الحياة الكاملة تحققت صورتها عند بداية الطريق، وكل ما جاء بعد ذلك تدهور وابتعاد عن ذلك الكمال الذي مضى، ولكن من حق غيرك كذلك أن يرى الرؤية التي لم تتبلور وتنضح أبعادها، إلا في القرن الماضي، وأعني بها أن العالم يتقدم مع مر الزمن، وأن سير تقدمه متجه إلى الكمال الذي لم يكن قط وإنما نحن في طريق تكوينه، أو إن شئت الدقة فقل إننا في طريق الاقتراب منه أبدا؛ لأنه كالأفق، تقترب منه فيبتعد عنك ليظل أمام عينيك أفقا تسعى إليه، لقد كان «ستيفن سبندر» - الأديب الإنجليزي المعاصر - قد طرح فكرة وأخذ يدافع عنها، وهي أنه لا يتصور الأديب - والشاعر بصفة خاصة - إلا وقد بحث له عن ركن من حياة القدماء في الماضي ليلوذ به في خياله؛ لأن انغماس الشاعر في الحاضر وتفصيلاته قد يصلح مادة للناثر، لكنه لا يلهب الخيال بشعلة الفن الرفيع، وكاتب هذه السطور يفهم «سبندر» في قوله هذا، على أن الشاعر إذ يختار من الماضي الذي يختاره ملاذا، فإنما هو يفعل ذلك ليتخذ من ملاذه ذاك «برجا للمراقبة» - بلغة المطارات - لتسهل عليه رؤية الحاضر في قبحه ومواضع نقصه، فيستلهم ذلك الماضي وهو يستبق بخياله مستقبلا جديدا.

وليكن الأمر في ذلك ما يكون، ولنعد بأنظارنا إلى حاضرنا - وسوف أحصر حديثي الآن في مصرنا الحبيبة - وكيف أن حاضرنا، كما هي الحال مع الكثرة الغالبة من أهل الأرض جميعا، إنما هو بمثابة عصر للحنين، مع اختلافنا بعد ذلك فيما نحن إليه ، أهو ماض نعود إليه لنسكن ونستقر، أم هو مستقبل جديد نبدعه من قلوبنا وعقولنا إبداعا؟

الفارق الحاد بين الماضي والحاضر في تصور الإنسان لحياته، هو الفارق بين السكون والحركة، أو بين الثبات والتغير، فإذا استثنينا آحادا من رجال الفكر في الماضي، وآحادا من رجال الفكر في الحاضر، وجدنا الماضي كله على رؤية واحدة، وهي أن حقائق الأشياء ثابتة، وما على من يريد أن يرسم لنفسه صورة للعالم على حقيقته، إلا أن يبحث في كل شيء عن جانبه الذي هو ثابت فيه، ثم - إذا استطاع - عليه أن يجمع تلك الحقائق الثابتة عن الأشياء، لا ليكومها جميعا في كومة كما اتفق، بل لينسقها في بناء يظهر الصلة بينها، فما هو منها فرعي يوضع في أسفل البناء، وما هو أساس وعام يوضع فوقه، ثم يأتي الترتيب صعودا بأنه يسير في البناء إلى الأعم فالأعم وهكذا، وبهذا يستطيع الإنسان أن يرسم بفكره صورة للعالم كما هو قائم في حقيقته، وكانت هذه الرؤية للأشياء في ثباتها، تقتضي أن يكون لكل نوع من أنواع الكائنات - بما في ذلك النوع الإنساني - تعريف يحدد جوهر حقيقته، لا في عصر معين، ولا في عدة عصور تتوالى، بل هي حقيقته الثابتة إلى الأبد ... فللإنسان - مثلا - صفته المميزة والثابتة معه أبد الدهر، وهي أن فيه كل ما في الحيوان، مضافا إليه «العقل»، وكذلك للدولة صفاتها إلى الأبد، وكذلك حجم المدينة، ونظام الطبقات وطريقة نظم الشعر، وبناء المسرحية ... إلخ إلخ.

وكان من أهم نتائج تلك النظرة، التي تبحث عما هو ثابت في الشيء لتجعله جوهرا لحقيقته، أقول: إن من أهم نتائج تلك النظرة وانعكاساتها، أن قسم المجتمع إلى طبقات، يكون لكل طبقة منها حقيقة ثابتة، وما دامت هي كذلك فمن الخلط في الأمور أن ينقل فرد من انتمائه إلى طبقة، إلى طبقة أخرى، مهما كان لديه من صفات يتميز بها عن سائر أفراد طبقته، وقسمت الأعمال بين طبقات المجتمع، فما هو عمل الطبقة العليا بطبيعتها، لا يجوز أن يشارك فيه أفراد من الطبقة الدنيا ، والعكس صحيح أيضا، وكان أساس التقسيم بصفة عامة، هو أن الأعمال التي يؤديها الإنسان ببدنه، كالزراعة والصناعة، وحتى الألعاب الرياضية، إنما هي مقسومة للطبقات الدنيا، وأما العليا فمجالها ما يؤديه الإنسان وهو جالس، كالتفكير العقلي والإبداع الشعري، وأهم من ذلك تولي مناصب الحكم.

هذه «الخانات» الحديدية القوالب، والتي كان يقسم فيها الناس كل بحسب طبيعته المزعومة، ومنذ ولادته، إنما جاءت تفريعا خطيرا للرؤية العامة التي سادت العصور القديمة، وهي الرؤية التي ترى الأشياء وسائر الكائنات على اختلافها، ذات حقائق ثابتة، قد تطرأ عليها الطوارئ المتغيرة، كأن ينمو الطفل ليصير شابا، وأن ينمو الشاب ليصير رجلا، لكن وراء تلك التغيرات الطارئة جوهرا ثابتا هو الذي يحدد حقيقة ما بقي له وجود، ولقد جاءت الأديان جميعا لتغير ما هو خاص بالإنسان في تلك الرؤية العامة والشاملة، لتجعل الإنسان متساويا في جميع أفراده، وجعل الإسلام الفارق الوحيد بين فرد وفرد هو التقوى، لكن الرؤية القديمة كانت في كثير جدا من الحالات، أرسخ جذورا في نفوس الناس من أن تغيرها رسالات الأديان، وإلا فلماذا أصر أولو الأمر في الدولة الأموية، وهي أول نظام سياسي نشأ في التاريخ الإسلامي بعد الخلفاء الراشدين، أصروا على ألا يتساوى المسلمون الذين هم من أصل عربي، مع المسلمين الذين هم من أصول أخرى - كالفرس وغيرهم - وأسموهم بالموالي، وحتموا أن يكون لذوي الأصل العربي مناصب الحكم والحرب، وأما أعمال الحياة الجارية فمن نصيب الآخرين.

ولم تبدأ في الظهور رؤية أخرى إلى حقائق الأشياء، بما في ذلك الإنسان ونظمه الاجتماعية، إلا في القرن الماضي، ولم يكن ذلك انتقالا عشوائيا من قديم إلى جديد، بل جاء نتيجة طبيعية وضرورية لكشوف علمية جديدة، ولنظرات فكرية نافذة، مكنت الإنسان من رؤية العالم بكل ما فيه في إطار غير الإطار الذي كان، فلقد رأى السابقون الأشياء وكأنها ثابتة، لكل منها طبيعته التي لا تتغير، والتي على أساسها تقام القوانين العلمية التيقنية الثابتة، التي في إطارها يحدث للكائن المعين ما يحدث له، فوجد أهل القرن الماضي أن الأمر ليس كذلك، وأبدأ بالنظر إلى الذرة اللامتناهية في صغر حجمها، والتي من تجمعاتها تتألف الأشياء، فبينما كان تصور العلماء والمفكرين للذرة التي إليها يرتد كل كائن أيا ما كان نوعه، هو أنها جسم مصمت، ساكن، ثابت، لا يتحول من مكانه إلا بدافع خارجي، أشرق على علماء القرن الماضي ومفكريه، تصور آخر للذرة، هو أنها لا تعرف سكونا ولا ثباتا، فضلا عن أنها ليست مادة بقدر ما هي طاقة، تطوي في داخلها حركة لا تسكن ولا تفتر، وتجيء حركة كهاربها وكأنها حرة لا تتقيد بقانون حاسم وحتمي، ومن هنا استعصت حركتها على التنبؤ العلمي المحدد الدقيق، ومن هذا الأساس الأولي الصغير، تغيرت وجهة النظر، فلم يعد في الكون - كما كان الظن قبل ذلك - تلك الحتمية الصارمة التي تصورها الأسبقون.

وفي هذه الحالة، أيضا، كان للرؤية العامة إلى الكون وكائناته انعكاساتها على الإنسان ونظم حياته، فجاءت نظرة جديدة مضادة للنظرة السابقة، فبينما كان الأسبقون يرون أن خطوط الحياة مرسومة لكل فرد من أفراد الناس، ولكل طبقة من طبقاتهم، بحيث لا يستطيع من وضعته طبيعته في جماعة العاملين، أن ينتقل منها إلى طبقة الحاكمين، جاء المعاصرون ليزيلوا تلك الجدران الحاجزة بين الأفراد والطبقات، وأصبحت القدرة وحدها هي التي ترفع أصحابها أو تنزل بهم، وإن لم يتحقق ذلك بصورة كاملة في دنيا الواقع لعوامل أخرى، فهو أمر مأخوذ به من الوجهة النظرية، على الأقل، تضعه الشعوب في دساتيرها ليكون ملزما للجميع، فالفرق كبير بين حياة كانت مطردة اطرادا رتيبا لا يتغير منها شيء ولا يتبدل، بحيث كان من مستطاع أي إنسان أن يتنبأ على وجه التقريب بما سوف يجتازه من مراحل حياته مرحلة بعد مرحلة، تماما كما كانت الشجرة لتروي مراحل حياتها قبل وقوعها، ذلك لو كانت الشجرة لتعي وتنطق، فكأن الإنسان في التصور القديم كان أقرب إلى عالم النبات منه إلى عالم الإنسان، لكن قارن ذلك الاطراد القديم بشدة التغير وسرعته في حياة الناس اليوم، حتى لقد استحال الآن على أي إنسان أن يتنبأ بسيرة حياته على وجه التقريب قبل وقوعها، فقد يبدأ الفرد حياته فقيرا معدما، ليصبح في مرحلة وسطى من سيرته صاحب الملايين، والعكس صحيح كذلك، فكم هم أولئك الذين بدءوا حياتهم في مراتب العز، وإذا بأحداث الدنيا تدور دورتها لتردهم أشد المعوزين، إنه لو بعث أفلاطون من قبره اليوم، وهو الذي ظنه من مستحيلات الطبائع أن يصعد عامل إلى مراكز الحكم، أقول: إنه لو بعث اليوم لأفزعه أن يرى من القوة والسيطرة في أيدي العمال، ما ليس في أيدي سواهم، حتى لقد ضمن لهم الدستور عندنا حدا أدنى من حق الكلمة، في حين لم يضمن لغيرهم في ذلك الصدد شيئا.

جاء عصرنا هذا متميزا بما لم يتميز به عصر سواه، وهو أنه عصر كثرت فيه الثورات التي غيرت كثيرا جدا من أوجه الحياة كما عرفها القرن الماضي - والقرن الماضي يعد جزءا من «العصر» - فبعد أن كانت القاعدة في القرن الماضي أن يكون الحكم للرجل الأبيض، وأما سائر الألوان فعليها أن تخضع وتنقاد، حدثت ثورات لونية في كل أرجاء الأرض لتغير تلك الأوضاع الجائرة، وشهد هذا القرن العشرون وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، استقلال الشعوب الملونة شعبا في أثر شعب، ولم يبق إلا رواسب قليلة هي الآن في سبيلها من الجهاد الوطني إلى تحقيق استقلالها، بل إن اللون الأصفر لم يكفه أن يحقق لنفسه السيادة، وإنما بسط الطموح بجناحيه العريضين، ليبلغ من القوة والوفرة والثراء والقدرة على المنافسة حدا أرغم به من كان ألف السيطرة والكبرياء أن يخشع، ولقد نتج عن ثورة اللون وانتصاره، ثورة أخرى هي ثورة الثقافات، فكما كان للرجل الأبيض «في الغرب» الريادة في دنيا السياسة، كانت له كذلك الريادة ينفرد بها في دنيا الثقافة، فكانت الثقافات المتباينة بتباين الشعوب في سائر أرجاء الأرض، تقاس تقدما وتأخرا بدرجة اقترابها أو ابتعادها عن ثقافة الرجل الأبيض، فهو وحده المعيار: الأدب الحق هو أدبه، والفن الحق هو فنه، والموسيقى الحق هي موسيقاه، وكذلك أصبح لكل ثقافة شأنها وقيمتها ، لكن بقيت للرجل الأبيض في الغرب مكانة ما زال منفردا بها، يوشك ألا يشاركه فيها أحد من الشعوب الأخرى، اللهم إلا الشعوب الصفراء إلى حد ما، وتلك هي مكانته في التقدم العلمي، بما يتبعه من عالم الآلات والأجهزة، ثم مكانته - في بعض شعوبه - في ممارسته للحرية وللديمقراطية بدرجة لم تستطع تحقيقها سائر الشعوب، لكننا لا بد أن نستدرك هنا استدراكا له مغزاه البعيد، وهو أن تلك المكانة في العلم وفي الاختراع، قد شارك فيها مواطنون ذهبوا إلى تلك الشعوب البيضاء ليصبحوا جزءا منها، فالولايات المتحدة الأمريكية التي تمسك بعجلة القيادة في التقدم العلمي، إنما هي خليط من شعوب وألوان كلها يشارك في الإبداع العلمي وغير العلمي هناك، مما يدل أقطع الدلالة على أن المواهب الخلاقة ليست مرهونة بلون أو جنس، وإنما هي مرهونة بنظام اجتماعي يشحذها أو يميتها.

تغيرت الأفكار والأوضاع في عصرنا تغيرا شاملا وعميقا، ولكنه تغير انبثق من ينبوع واحد، هو ما أحدثته الرؤية العلمية الجديدة من اختلاف في وجهة النظر إلى العالم بكل ما فيه، فما قد كان ذا ثبات وسكون - كما أسلفنا القول - قد أصبح في الرؤية العلمية الجديدة متطورا ودائب الحركة، كان ذلك في كل شيء، من الذرة الصغيرة فصاعدا، إلى أن نصل إلى الكون الكبير في وحدته، فهل يمكن إزاء هذا التغير الشامل أن يتحدث فينا متحدثون ليقولوا: إلا الإنسان فلا يجوز له أن يغير من حياته شيئا؟

إن عصرنا هذا بالنسبة إلى أهل الأرض جميعا، إنما هو «عصر الجنين»، فكل إنسان أرهفت حواسه واستيقظ وعيه، لا مفر له من أن يأخذه قلق عميق، لا من جوانب الإبداع في عصره، من علوم وفنون، وصناعات، ونظم، ولا من كسب الإنسان لكثير من حقوقه في الحرب، والديمقراطية، والعدالة، والتعليم، وحصوله على الحد الأدنى من ضرورات العيش في صحة وفي أمن وفي أمل، أقول: إن عصرنا هذا هو عصر الحنين، الذي يدفع الناس إلى القلق من أن يكون عصرنا هذا - إلى جانب حسناته - مثقلا بسيئاته ، مما أشاع في أهله ما لم يشهد له مثيلا في تاريخه، من سخط وغضب وقسوة وعنف، حتى بات كل فرد عاقل واع حساس من أفراده، «يحن» إلى اجتيازه إلى ما عداه، ولكن إذا كان لكل إنسان أن يحن على الصورة التي يهوى، فهل يتساوى الرشاد بين من يتجه بحنينه ذاك إلى الماضي ليعيده كما كان، ومن يتجه بحنينه إلى مستقبل جديد يبدعه من عقله ومن قلبه إبداعا؟

وعودة بنا إلى بدء، فلقد سحرني الخيام، وسحر سائر أصدقائي منذ كنا في أوائل شبابنا، والتقطنا نحن كلنا البيت الذي وجدناه في ترجمة السباعي للرباعيات، يقول: «ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها» ... لكن نظرة أخرى بمنظار العصر إلى هذا البيت، يتبين أن الخيام كان على صدق بمنظار عصره، أما نحن فقد أخطانا حين توهمنا أن هذه الصورة نفسها تصلح لتصوير الحياة في العصر القائم، والخطأ يشمل الأجزاء الثلاثة التي يتألف منها البيت.

أما ما مضى من تاريخنا فلم يفت، بالرغم من أننا نستنكر أن نجده ونجمد عنده، كأن حياتنا لا يجوز لها أن تعرف سواه، فما مضى لا يزال حيا في لغتنا، وفي عقائدنا، وفي مبادئنا، وفي طابعنا القومي، إلا أن هذه جميعا لا تحول بيننا وبين أن نتخذ منها أطرا ندرج فيها كل ما تظله روح عصرنا؛ لكي نظل مع الأحياء أحياء، هذه - إذن - واحدة، وأما الثانية القائلة عن المؤمل إنه غيب، فتلك قولة لا يقولها إلا من لا يعرف للإنسان قدرته على الحساب، فالمجانين وحدهم هم الذين إذا أملوا، جاءت آمالهم خبطا كخبط الأعمى، ولنذكر هنا عن عمر الخيام حقيقة قد لا يعرفها كثيرون، وهي أنه من أعلام العلماء في علوم الرياضة، ثم نجيء إلى الثالثة التي تمس موضوعنا مسا مباشرا، وهي استئثار الساعة التي نحن فيها بكل اهتمامنا كما يوصينا الخيام، فحقيقة الأمر بالنسبة إلى ساعتنا الراهنة، هي أنها مصدر قلق شديد في صدورنا، نعمل جاهدين على اجتيازها، على أن يكون ذلك الاجتياز متجها لوجهة نحو مستقبل نقيمه نحن على قواعد نرضاها، ولن يتحقق لنا مثل هذا الأمل، إلا والماضي مصدر إلهامنا، لا عصا لتأديبنا ...

أزرع ولا حصاد؟

كان اليأس قد استبد بي في فترة من حياتي، حتى أحسست كأنما القلب لم يعد ينبض كما كان ينبض، ولا الرئتان تتنفسان كما كانتا تتنفسان، وإنني لأذكر تلك الأيام السوداء، بعد أن انقضى عليها خمسة وثلاثون عاما، فلا أغفر لنفسي قط أن اختلت موازينها إلى ذلك الحد الذي يخلط بين وقائع الحياة المختلفة وأوزانها، بحيث تخف الكفة بما هو في حقيقته ثقيل، وترجح الكفة بما هو في حقيقته خفيف، إنه لا حكمة لمن يزن حياته ومقدارها، لظروف لحظته الراهنة؛ لأنها ليست إلا حلقة في سلسلة طويلة، سبقتها حلقات وستلحق بها حلقات، وإلا كان كمن يرى الليل قد جاء فلف العالم بظلامه، فيظن ألا شروق للشمس بعد حين، لكن هذه حكمة من لا تلسعه النار، إنها حكمة ما بعد الأزمة التي تحيط بالمأزوم فلا تترك له طريقا للنجاة، وكانت أزمتي في تلك الفترة الحالكة، هي أزمة مظلوم، بذل كل ما يستطيع بشر أن يبذله، فتؤخذ ثمرات جهده، ثم يقال له: انصرف يا أخانا، فليس لك عندنا جزاء، وأذكر أني في تلك الضائقة قد هدأت يوما، لأحلل الموقف إلى كل عناصره، لعلي أقع على موضع الخطأ من حياتي فأصححه، ووجدت الموقف يبدو لي وكانه ذلك الحصان «اللعبة»، الذي اكتملت فيه الأجزاء كلها، لكن الطفل صاحب اللعبة لا يعرف ماذا يصنع فيه ليسير كما كان المفروض له أن يسير، فحمل الطفل حصانه وجاءني مستغيثا، فقلبت معه الحصان من جوانبه جميعا لأرى أين موضع القصور، ولم أجد، فأعدته إليه، متمتما بعبارة لو سمعها لما فهمها - إذ قلت فيها: إن حصانك يا بني هو كحياتي، أعددت لها أجزاءها، لكنها مع ذلك «بلطت» في الخط لا تريد أن تتزحزح خطوة إلى أمام.

وعندما أذكر ذلك كله اليوم، لا أغفر لنفسي ذلك الضيق الذي ضاقت به؛ لأن تلك النفس عندئذ قد نسيت أمرين مهمين: أولهما أن الجهد الذي كانت قد بذلته، هو من النوع الذي يحمل في صلبه جزاء نفسه، فالدراسة في ذاتها متعة - أو هكذا وجدتها دائما، ولا أزال أجدها - فلماذا لا تنظر إلى تلك المتعة ذاتها وكأنها الجزاء إذا ما عز الجزاء يأتيها من الآخرين؟ وأما الجانب الثاني فهو أن تلك النفس عندئذ أيضا قد فاتها أن القوس المشدودة بين يدي الفارس، قد يبدو عليها السكون، مع أنها في حقيقتها تختزن العزيمة حتى تجيء اللحظة المناسبة فتطير إلى هدفها، فالذي ينقصها هو حركة خفيفة تتحرك بها أصابع الفارس فتنطلق.

وليست هذه الصورة بالنادرة الحدوث في حياة الناس العملية، ففي مواقف كثيرة يظن صاحب الموقف أنه تجمد ولم يعد له أمل في حياة ما ظن به الموت، حتى يرى بعينه أن حركة خفيفة تأتي من خبير، وإذا بالذي كان قد تجمد، سرت فيه الحياة، رأيت ذلك منذ قريب في جهاز التليفزيون الذي عندي، فقد ذهبت عنه الحياة، لا صوت ولا صورة، وأشار علي صديق بمن يصلحه، وأعطاني رقم تليفونه، وجاء الرجل فور استدعائه، يرافقه مساعد يحمل حقيبة العدة، ولبث الرجل نحو ثلاث ساعات «يلغوص» في جيوب الجهاز وفي أمعائه، وانتهى إلى الحكم «بألا فائدة» وعلي أن أحمله إليه في «الورشة»، والحقيقة أني لم أكن قد استبشرت خيرا عند أول رؤيتي للرجل؛ لأنه أنيق الثياب، مصفوف الشعر، لامع الوجه، حتى لتحسبه من رجال الدولة الكبار، وعلى أية حال فليس من المستطاع لمن هو في ظروفي - أن ينتقل بجهاز التليفزيون إلى أي مكان - حتى ولو كان ذلك المكان هو الغرفة المجاورة، فأهملت الأمر كله يائسا، ثم أراد الله بي خيرا، وأرسل إلي أحد أقربائي زائرا، وكان ممن يحسنون التصرف في هذه المواقف، فقبل أن يشير برأي، نظر إلى الجهاز مدة دقيقة واحدة، وحرك على وجه الجهاز شيئا لا أدري ما هو، وإذا بالتليفزيون تعود إليه حياته كاملة، وإلى يومي هذا، صورة وصوتا كأكمل ما تكون الصورة ويكون الصوت.

وهكذا قد نيأس من حياتنا، مع أنها لو امتدت إليها يد ماهرة فربما تستقيم لها الأمور بعزمة واحدة من إرادة قوية التصميم، فنحن إذا دققنا النظر فيما يحيط بنا اليوم من أسباب تشدنا إلى الأرض شدا، وجدنا ما قد يبرر لليائس أن يشتد يأسا من أن ينزاح الكابوس الجاثم على صدورنا، وهو كابوس كثيرا ما ضلت أعين الناظرين إليه، فظننت أنه كامن في هذا المظهر أو ذاك، مما قد ملأ حياتنا بالصعاب العملية التي تزهق الروح، أما كاتب هذه السطور، فالرأي عنده هو أن تلك الصعاب العملية، من تليفونات ومواصلات ومرافق وغير ذلك من هذا القبيل، فأمره يهون؛ لأنه سرعان ما يعالج فيزول، لكن الكابوس الرازح الذي شل حياتنا حقا، ولا يسهل زواله إلا إذا أخذتنا عزيمة صادقة من إرادة مصممة، فهو انحراف في اتجاه النظر؛ لأنه إذا أراد مسافر أن يذهب من القاهرة إلى الإسكندرية وأخطأ القطار الصحيح، وركب - وهو لا يدري - قطار الصعيد، فربما وجد في عربة القطار صعابا، في المقعد الذي اختاره للجلوس، أو في طريق الوصول إلى دورة المياه، أو في قذارة القفف والبؤج التي تزحم المكان بحيث لا يستطيع أن يحرك قدميه ... لكن ذلك المسافر المنكود الحظ، برغم تلك الصعاب كلها التي يشكو منها، قد فاته أن يقع على الخطأ الأكبر، وهو أنه قد ركب القطار الذي لن يصل به أبدا إلى حيث أراد أن يصل، وإذن تكون خطوة الإصلاح الأولى، هي أن يترك قطاره في أقرب محطة، ليركب القطار الصحيح.

ولكي ألخص موقفنا في أوجز عبارة ممكنة، أقول: إننا ركبنا القطار الصحيح مدة لا تقل عن قرن ونصف القرن، وكان كل عيبه أنه بطيء السير، وأعني بذلك القطار تلك الصيغة الموفقة التي رسمناها لتسير عليها حياتنا، وهي صيغة مثلثة الأضلاع: أحدها يمثل ما نحييه من تراثنا، والثاني يمثل ما ننقله من الغرب، الذي هو ممسك بزمام العصر، والثالث يمثل ما نبدعه نحن إبداعا يحمل طابعنا وشخصيتنا وهويتنا، مستلهمين فيه ما قد أمدنا به الضلعان الآخران، كانت تلك هي الصيغة، حتى حلت بنا هذه الفترة الأخيرة، وأصابنا فيها من الضعف ما أصابنا، فوجدنا من غير لنا تلك الصيغة الأولى، ليرفع لنا شعارا آخر، هو أن نزرع الماضي في أرض الحاضر، لا ليكون معه جزءا من حياتنا، ويترك الجزء الباقي لضرورات الحياة في ظروف عصرنا، بل لقد زرعه في الأرض، مريدا له أن يستوعب الأرض كلها، فنتج التناقض الذي شبهناه بمسافر أراد الانتقال إلى الإسكندرية فركب قطار الصعيد ... إنه لا موضع في حياتنا الراهنة إلى يأس من ذلك النوع المتشائم القاتل، فكل ما في الأمر هو أن ننتقل من قطار خطأ إلى قطار صحيح.

لقد سألني ذات يوم من أخطأ طبيعتي وحقيقتي، قائلا: لماذا أنت على تشاؤم ويأس فيما تكتب؟ فأجبته بقولي: لو كنت على تشاؤم ويأس كما تقول، لما كتبت، لكنني أكتب على عقيدة مني بأن المحنة قريبة عهد بنا، ولا بد كذلك من أن تكون قريبة موعد بزوالها، إننا لا نريد أن نخلق أمة من عدم، فالأمة - بحمد الله - باقية بكل كيانها، كانت هنالك أمم أخرى تجاورها في عهود قديمة، وزالت واحدة بعد أخرى، وبقيت أمتنا أرسخ أساسا من رواسخ الجبال، وإنما الذي حدث، هو أنها لفتت وجهها في اتجاه لا يحقق لها رسالتها، وعلينا أن ندعوها إلى لفت وجهها إلى اتجاه أصح وأنسب، ولم تكن هذه هي أول مرة يدعوها من يدعوها إلى تغيير اتجاه رؤيتها فيضل عن الطريق الصحيح، بل حدث لها بعد الفتح العثماني، أن أدير رأسها جهة الشرق والجنوب، فاستدارت ليكون ظهرها إلى البحر الأبيض المتوسط، مع أنها في تاريخها كله، كانت لها صلات بالشمال الأوروبي لم تنقطع، فلما أدارت ظهرها إلى شمال، واتجهت بوجهها إلى جنوب وشرق، انقطعت عنها شرايين الحياة، وأظلمت دنياها من الناحية الفكرية والحضارية ثلاثة قرون كاملة، حتى شاء لها الله من الأحداث ما تعود به سيرتها الأولى، وهنا بدأت سيرها على طريق النهوض، مهتدية بالصيغة الثلاثية التي أشرنا إليها، ثم لحقها هذا الخطأ العارض في أعوامها الأخيرة، وذلك يعني أن المطلوب لإصلاح الخطأ ليس من الفداحة بالقدر الذي يظنه المتشائمون.

إننا الآن في حكم من يزرع ثم لا يحصد بمقدار ما زرع، وإذا كان أمرنا كذلك، وجب البحث عن مواضع القصور في عملية الزرع، التي أدت إلى فقر الحصاد، ففي ميدان التعليم تبذل جهود مخلصة، مهما قيل في نتائجها فلا بد أن يقال إنها أنتجت أفرادا ممتازين في ميادين تخصصاتهم، يعدون بعشرات الألوف، فهم الذين يقيمون لنا العمران في كل أركانه، وهم الذين بثوا ويبثون معظم الحياة الجديدة في الوطن العربي الكبير طولا وعرضا، ولكن هل ازداد «المجتمع» المصري، من حيث هو مجتمع لا مجموعة أفراد، قوة وارتفاعا في مضمار الحضارة العصرية التي هي مقياس يقاس به من تقدم من الشعوب ومن تأخر؟ إنها لمفارقة عجيبة، كانت جديرة بأن تستوقف أنظارنا لنتناولها بالجدية التي تستحقها، وهي - مرة أخرى - زيادة المتعلمين زيادة عددية، وجمود المجتمع في جملته حضاريا وثقافيا معا، فكيف أمكن لكائن حي، أن تقوى مفردات أعضائه عضوا عضوا، ثم يظل في مجموعه على ضعفه الذي كان عليه منذ مائة عام، إن لم يكن أضعف مما كان؟ بدليل أنه الآن مجتمع لا يقوى على تقبل الجديد، بمثل ما كان يقوى على ذلك منذ قرن كامل أو ما يزيد على قرن، فالموقف في عبارة مختصرة هو أننا نكبر حجما، ولكننا لا نتطور.

وما قلناه عن التعليم ونتائجه، نقول مثله عن الاقتصاد وعن السياسة معا، فالأفراد في المجال الاقتصادي قد ازداد معظمهم دخلا، ولكنهم في الوقت نفسه ازدادوا خفضا في مستوى معيشتهم، أضف إلى ذلك انحرافا خطيرا في محاور الدخل، إذ أصبح معظم الدخل مصبوبا في جيوب من لم يظفروا بدرجة من التثقيف تدعوهم إلى الارتفاع بمستواهم الحضاري بما يتناسب مع زيادة كسبهم، وأصبحت العلاقة عكسية بين درجة العلم والثقافة من جهة، والقدرة المالية من جهة أخرى، فالأعلم هو الأفقر، والأجهل هو الأغنى، مما كان له الأثر الملحوظ في انخفاض «المجتمع» في جملته حضارة وثقافة، وبدل أن ترتفع القرى إلى مستوى المدن، انخفضت المدن إلى مستوى القرى .

وفي ميدان السياسة أحس شيئا كهذا، وإنما عنيت بالسياسة - هنا - حقوق الإنسان في المقام الأول، لا من حيث هي أسماء تكتب وتقال، ولكن من حيث هي صور من الحياة الفعلية، تمارس وتعاش، فها هنا كذلك نجد المفارقة نفسها التي رأيناها في ميدان التعليم، بمعنى أن نجد الأفراد على شيء والمجتمع - في جملته - على شيء آخر؛ لأننا إذا أخذنا الصحافة مرآة للمجتمع في جملته، رأينا على تلك المرآة صورة تقرب من الكمال في الإحساس بضرورة الحرية وضرورة المساواة بين المواطنين وضرورة العدل، لا بمعناه القضائي فقط، بل بمعناه الاجتماعي الشامل، الذي من شأنه أن يجد كل فرد نفسه في الموقع الذي يتناسب مع مواهبه وقدراته، وهكذا وهكذا، لكن اترك تلك المرآة الصحفية جانبا وانظر إلى الحياة الفعلية كما تجري ممثلة في الأفراد، تجد عجبا من حالات الضغط على حريات هؤلاء الأفراد، ومن حالات الإجحاف الصارخ الذي يضع القادر تحت إمرة العاجز، ومن حالات التسلط الذي كثيرا ما تقصر قيود القوانين على الضعفاء دون الأقوياء بنفوذهم وسعة حيلتهم، وإذن، فها هنا أيضا ليس المجتمع حاصل جمع أفراده، بل هو في مجموعه شيء، وفي أفراده - في أثناء ممارستهم لحياتهم العملية - شيء آخر، وأرجو من القارئ أن يتسع لي صدره دقيقة واحدة، لأضرب له مثلا واحدا، عن حرية الأفراد في الرأي والعقيدة كيف تصان عند أمة متقدمة في رعاية حقوق الإنسان بالفعل لا بالكلام، سأضرب هذا المثل الواحد، وأترك للقارئ أن يراقب نفسه من الداخل جيدا، فإذا وجد نفسه على شيء من الشعور بالغضب والمقاومة، علم كم هو في حقيقة نفسه يريد للأفراد الآخرين من مواطنيه حق الحرية أو لا يريد.

والمثل الواحد الذي أسوقه، صادفني خلال هذا الصيف (1985) فيما علمته من أخبار دولة أوروبية قصدت إليها للعلاج، والنافذة التي يطل منها مريض على المجتمع الذي يقيم بين ظهرانيه، هي وسائل الإعلام فيه، ووسيلتي الوحيدة الآن: الأذن، أسمع بها ما يذيعه الراديو، فسمعت أن لجنة كانت قد شكلت بصورة رسمية، قدمت تقريرها ، فإذا بإحدى المواد المعروضة التي يراد لها أن تسن وتصاغ قانونا من قوانين الدولة الخاصة بحريات الأفراد في الرأي والعقيدة، أن يحرم على من يعرض شيئا عن الديانة التي يؤمن بها، أن يجرح أية عقيدة دينية أخرى، فهو مسموح له أن يشيد كيفما شاء بعقيدته دون أن يتعرض لعقيدة دينية أخرى بتجريح ... إلى هنا وقد لا يثير الأمر دهشة عندنا، برغم أننا من الناحية التطبيقية عاجزون عن تنفيذه، لكن ما يشد الانتباه بعد ذلك، هو أن أعضاء الندوة التي عرض عليها ذلك التقرير لمناقشة مواده قبل عرضها على البرلمان، وجدوا أن ثمة نقصا يجب تلافيه؛ لأننا إذا اكتفينا بالنص على ألا يتعرض أنصار ديانة معينة لديانة أخرى بتجريح، فربما فهم من ذلك أنه من الجائز أن يجرح من اختار لنفسه أن يكون بغير دين، فلا بد من إضافة ما يحمي هؤلاء في حريتهم لما اختاروه ... ذلك هو الحرص من مجتمع يريد صادقا أن يكون لأفراده حق الحرية في الرأي والعقيدة.

وهكذا تستطيع أن تدور ببصرك في جوانب حياتنا، وسترى في كل جانب أن هناك فجوة تتسع بين الوطن في مجموعه من ناحية، والمواطنين - من حيث هم أفراد - من ناحية أخرى، فما تصف به الوطن قد لا يصدق بنفس الدرجة على المواطنين الأفراد، والعكس صحيح، أي أن ما يصدق على الأفراد من صفات، قد لا تجده بالدرجة نفسها في الوطن مأخوذا بجملته، فأفراد بأعداد ضخمة، قد أصبحوا في عداد الأغنياء حتى بالمقاييس العالمية، وملايين من عمال الأرض وعمال الزراعة باتوا على قدرة شرائية لم نكن نحلم لهم بها مهما شطحت بنا الأحلام، ولكن الوطن، في جملته فقير بأي مقياس مما يستخدمه المختصون في قياس درجات التقدم والتخلف في الشعوب، انظر إلى مجموعة الأفراد الذين نبغوا في دنيا الفن والأدب وفي كثير من الدراسات المنهجية، تجدنا في حالة من الثراء بحيث استطعنا أن نجول في أنحاء العالم المتقدم جميعا، وحيثما كنا، وجدنا من أبنائنا أفرادا تفاخر بهم وبقدراتهم كل أمة من الأمم ، وهؤلاء الأبناء في معظمهم تلقوا تعليمهم في جامعات وطنهم مصر، ومع ذلك فمصر متخلفة في العلم وفي الثقافة تخلفا جعلها من بلاد يسمونها تأدبا «بالنامية» حين يريدون بها معنى التخلف.

وهنا نقف لنلقي سؤالنا، فقد زعمنا في الفقرات السابقة أن موقفنا على ما فيه من تناقض، أو ربما بسبب ما فيه من تناقض بين ما يوصف به الأفراد ولا يوصف به الوطن، ليست مشكلته من الفداحة بالدرجة التي يتوهمها اليائسون، بل هي مشكلة حلها قد يتحقق في حركة خفيفة نغير بها الاتجاه، والسؤال هو: ماذا عساها أن تكون تلك اللعبة الجديدة؟

هل سمعت قصة الأعمى والمقعد؟ تحكي أن مقعدا شلت رجلاه فلا تقويان على حمله، التقى مع أعمى سليم الرجلين، فهو قادر على المشي لكنه لا يرى الطريق، فاتفقا على أن يجلس المقعد على كتفي الأعمى، فيكون عليه أن يرشد إلى الطريق، وعلى الأعمى أن يمشي برجليه إلى حيث يريدان، ولما كان كل إنسان سليم فيه ما في الاثنين معا، فهو قادر على الوظيفتين: يرى طريق السير، فيمشي برجليه إلى الهدف، وبهاتين الوظيفتين معا تتكامل للإنسان حياته، وما التعليم والتربية معا للناشئ الذي نعلمه ونربيه، إلا هاتان الوظيفتان: فالتعليم هو تزويد الفرد بمجموعة «أفكار» نضعها في رأسه، لتكون له بمثابة الإبصار، والتربية هي تزويد من نربيه بعادات يتحرك بها إلى حيث تهديه أفكاره التي حصلها، وباسمين آخرين نقول: إن الأفكار الهادية إلى الأهداف هي العلوم، وإن العادات المحركة نحو الأهداف هي القيم، ونحن إذ نصف فردا ما، أو شعبا معينا، بأنه مزدهر مبدع ناجح، كان معنى ذلك أن في حصيلته أفكارا هي له بمثابة خطط مرسومة للسير، وأن لديه العزيمة والقدرة على أن يخرج تلك الخطط إلى عالم التنفيذ، ومن هنا نفهم قول الفيلسوف «ليبنتز» للأمير الذي كان يحكم الإقليم الذي يقيم فيه، وكانت حالة الناس في ذلك الإقليم لا تعجبهما معا، فقال ليبنتز للأمير: سلمني مقاليد التعليم والتربية، أغير لك وجه الأرض في جيل واحد من الزمان، وقد صدق ، إذ ماذا يريد قوم يعيشون حياة قوية مزدهرة، إلا «أفكارا» هادية إلى أهداف و«قيما» تدفع الناس إلى تحويل الأفكار إلى أعمال، والأفكار - كما أسلفنا - «تعليم» و«القيم» تربية.

وسر النكسة الحضارية التي نجتازها اليوم، هو أننا إذ نملأ رءوس الناس بأفكار، لا تكون هي الأفكار الحية التي يمكن تحويلها إلى بناء حضاري متعدد الطوابق والأركان، وإذ نبث فيهم ما نبثه من قيم، لا تكون هي القيم التي تدفعهم إلى السير الناجح في هذه الدنيا - واللمسة الخفيفة التي قلت عنها إنها كافية لإصلاح حالنا، هي أن نجعل الأفكار التي نملأ بها رءوس الناس «علوما»، وأن نقصر القيم على جهاز التحريك فتعتدل الكفتان ويتعاون المقعد والأعمى، إذ العلوم بغير دوافع للعمل بمقتضاها، هي بمثابة مبصر كسيح، وكذلك القيم الدافعة إذا وضعت في فراغ، هي بمثابة الرجلين السليمتين عند مكفوف البصر، فلا يعرف إلى أي اتجاه يسير.

المصدر الرئيس للمعرفة العلمية هو المدارس والجامعات، والمصدر الرئيس للقيم الموجهة للسلوك هو الدين، والحياة السوية شرطها أن يتوازن المصدران، فبالمصدر الأول نعرف حقيقة العالم الواقع، وبالمصدر الثاني نعرف الحدود الجائزة في التعامل مع ذلك الواقع الذي عرفناه، وينشأ الخطأ في حياة الناس حين يتوهمون أنهم بأحد المصدرين هم في غنى عن المصدر الآخر، فربما كان خطأ الغرب اليوم هو ارتكازه على معرفة الواقع بغير ضوابط تضع حدود التعامل مع ما عرفوه، وربما كان خطؤنا وخطأ أمثالنا هو الارتكاز على ضوابط القيم، وأما معرفتهم بحقيقة الواقع فهم حتى إذا درسوها، فإنما يدرسونها بنصف عقولهم، كأنها زائدة لا ضرورة لها، فتبقى لهم ضوابط القيم وكأنها طاحونة تعمل في فراغ، ولا عجب أن يزرعوا زرعهم، ولكن لا حصاد.

ظلال بين اليأس والرجاء

كنت في مطارح الغربة حين اكفهرت السماء بسحاب غاضب، وأظلمت الدنيا في عز الظهر وكأنها قد انتقلت إلى قلب الليل في لمحة سريعة من لمحات الزمن، فقفزت إلى ذاكرتي رواية «ظلام في الظهيرة» لآرثر كبستلر، وهي رواية قوية التصوير ناصعة البيان، كتبها كاتبها في لحظة تحوله من يسار السياسة إلى يمينها، كان شيوعيا متطرفا، وشارك في الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر الثلاثينات على ذلك الأساس، وكان يحلم مع سائر الحالمين بأن جنة الله قد أوشكت على الظهور فوق الأرض، لكنه لم يلبث على أحلامه تلك إلا قليلا، حتى اسودت سماء السياسة في وجهه، وأظلمت الدنيا ساعة الظهر، وذاق مرارة الاعتقال ورأى ظلمة السجن، لغير ذنب يعرفه، وعن تلك الخبرة كتب روايته «ظلام في الظهيرة» التي قفزت إلى ذاكرتي، عندما اكفهرت السماء بسحاب أقتم غاضب، وكان الوقت لم يزل في ساعة الزوال من منتصف النهار.

إنني هنا على أرض ليست هي أرضي، وسماء ليست سمائي، ويفصلني عن مصر لا أدري كم ألفا من آلاف الأمتار، ولكني مع ذلك أطير على أجنحة الخيال إلى أرضها وسمائها ثم أعود، وأطير وأعود في تلاحق سريع، وتلك هي نعمة الخيال، يحطم به الإنسان حواجز المكان وحواجز الزمان، مهما بعدت المسافة وطال الزمن، ومع ذلك فأنا حريص هنا أن أضع مقعدي بحيث أواجه حائط الزجاج، الذي ينحرف قليلا عن جهة الجنوب الشرقي، وهو الاتجاه إلى مصر، وكأني بذلك أساعد الخيال على الطيران في الاتجاه الصحيح، وفي جلستي تلك يعن لي آنا بعد آن، أن أستوي إلى منضدة صغيرة لأكتب ما عسى أن يفيض به الخاطر، وإني لألصق المنضدة في الحائط الزجاجي، لعلي أظفر بمزيد من ضوء النهار، يضاف إلى مصباحين يصبان نور الكهرباء على الورق صبا قريبا مباشرا، فلما أعددت نفسي لأثبت على الورق فكرة كانت برأسي، اكفهرت السماء بسحابها الأسود الغاضب.

كانت الفكرة التي أعددت لها الجهاز الضوئي لتنزلق من مكمنها إلى سن القلم فيخطها على الورقة المنشورة أمامي، فكرة يخالطها عبوس، لم تكن مستبشرة ضاحكة إلا في قليل منها، وأما في معظمها فهي قنوط ويأس، واسودت السماء فانصرفت إليها عن الورقة والقلم، ونفذت ببصري - أعني بما بقي منه - خلال الحائط الزجاجي، لأرى وأسمع ما يشبه ثورة الجن، فخيوط البرق تلمع في رعشات عصبية مخيفة، لتعقبها زمجرة الرعد بما تحس معه كأنها تهز أطباق السماء، وانهمر المطر غزيرا قوي القطرات في وقعه على ألواح الزجاج، حتى لتخشى أن يتحطم هشيما من الشظايا تحت ضرباتها، وهنا تذكرت «لير» مشردا وحده في شيخوخته المحزونة والمجنونة، إذ هو في الخلاء المكشوف مشعث الشعر مهلهل الثياب عريان الصدر، فاتجه إلى السماء وهي ثائرة فوق رأسه ببرقها وبرعدها، وبما تصبه من جام غضبها، فخاطبها بأخلاط من اللفظ المخزون المجنون اليائس قائلا فيما قاله: زمجري يا سماء وصبي ما ملأت به أمعاءك من غضب، حتى يتعادل داخلي مع خارجي نقمة وسوادا.

تذكرت «لير»، لكن ... لا ... لا ... لم أكن قط في مثل ما كان فيه، فقد كان الرجل ملكا نزل عن أرضه لبناته، على أن يحفظن له كرامته ومأواه، ووعدنه بما أرضاه، لكنهن غدرن به حتى ولو كان والدا، فعند الجشع الجائع للمال والسلطان، لا مكان لأبوة وبنوة، فأين أنا منه، فلا ملك ولا بنات، وكل ما في الأمر أن خطابا ورد إلي من شاب لا أعرفه - ولا أعلم من أين عرف عنوان إقامتي، إذ هو من طبعي أن أتسلل كالظل، صامتا متسترا، جاءني ذلك الخطاب ليسألني الشاب عما عساه أن يصنع، فهو يريد أن يحيا بالعلم والثقافة، للعلم وللثقافة، ولعله أحسن الظن في شخصي، فطلب شيئا من الإرشاد والنصح، كنت - إذن - أمام هذا السؤال، أفكر بماذا أجيب لو كنت لأجيب، عندما أزحت المنضدة الصغيرة نحو الحائط الزجاجي، لأكون أقرب إلى ضوء النهار، وأعددت الورقة والقلم، لكن السماء اكفهرت بسحابها الأقتم الغاضب، وبدأ الجن في ثورته أو في قتاله بمشاعل البرق وطبول الرعد.

كانت النفس عندئذ قد غشتها ظلال تقع بين اليأس والرجاء، فلا النفس في حالة من اليأس الخالص الذي لا رجاء فيه، ولا هي في حالة الرجاء الذي لا يأس فيه، فيكفيني أملا أن أرى شابا كهذا الذي أرسل إلي سؤاله، وهو في أول طريقه ينذر نفسه للعلم وللثقافة، لكن موضع حيرتي هو وقفتي بين ما يكون وما ينبغي أن يكون، فبين هذين الطرفين في حياتنا زاوية منفرجة واسعة الانفراج، يسألني الشاب: ماذا صنعت أنت بنفسك؟ وشكرا لك يا بني مرة أخرى على حسن ظنك، لكنني - وأقولها صادقا - إذ عشت حقا بالعلم والثقافة، للعلم وللثقافة، ويمنعني طبعي أن أمد يدا أستجدي بها العون، حتى لو اجتمع لي الفراعنة، والأكاسرة، والقياصرة، والأباطرة، والملوك، كان لزاما علي أن أعيش من العمر ثمانين عاما، قدمت فيها ما أظنه قد لقي شيئا من القبول عند كثيرين، لكنه ظل إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه السطور، قبولا مكتوم الأنفاس، أو هو كالمكتوم، إذ لم يخل الأمر من صوت ارتفع حينا طويلا بعد حين طويل، لكنني لم أيأس قط؛ وكان ذلك لسبب بسيط، وهو إذا لم أنفق أيامي في دراسة أتعلم بها، وفي كتابة أعبر بها عما يفيض به خاطري، ففيم كنت أنفقها؟ لكن الأعوام الثمانين قد أسمعت آخر الأمر آذانا فيما وراء الحدود، والحمد لله على نعمته، فإذا كنت يا بني على استعداد نفسي، للعمل المتصل الذي لا يفتر، والذي - في الوقت نفسه - قد لا يعود عليك بما يتكافأ مع الجهد المبذول فيه، مكتفيا بأن ترضى عن نفسك وترضى عنك نفسك، فهيا إلى جهاد طويل، لا أوصيك فيه إلا بشيء واحد، وهو أن يكون لك هدف واضح في رسالة تؤديها لوطنك ومواطنيك، متوخيا الصدق مع نفسك ومع الناس.

غير أن أمانة القول تقتضيني أن أضيف الوجه الآخر للموقف في حياتنا على حقيقته، وهو أن حب الظهور يملأ خياشيم عدد كبير منا، ولعل لهم عذرهم في ذلك؛ لأن «ثقافتنا» الشعبية الأصيلة تسير بجمهور الناس في خطين معا، فهم لا يصفقون إلا لمن استطاع أن يظفر بقدر ملحوظ من القوة في كثير من جوانبها: قوة النفوذ، قوة الصوت، قوة المال، قوة المنصب إلى آخر هذا الخط الطويل، لكن جمهورنا مع ذلك يكن التقدير الصامت لمن نذر نفسه للعلم وللثقافة كما تريد أنت أن تفعل، فإذا كنت نزاعا بطبعك إلى قوة الجاه، فلا سبيل أمامك سوى أن تأخذك الكبرياء حتى ولو كانت كبرياء النفخة الكذابة، فلا تتواضع لأحد؛ لأن جمهورنا سريع الخلط بين التواضع والضعة، اشمخ بأنفك حتى لو لم يكن لك أنف تشمخ به، وابرز بصدرك إلى الأمام، حتى لو لم تسعفك في ذلك رئتاك.

لقد كتبت بالأمس عن «الإرادة» وموضعها في النظرة الإسلامية، وكان مضمرا في نفسي أن أهم ما ينقصنا هو تربية الإرادة القوية في أبنائنا وبناتنا؛ لأنه إذا كان قد أصابنا ضعف في نواح كثيرة فأساسه فتور الإرادة وتراخيها، وإذا رغبنا في استعادة مجدنا فسبيلنا إلى ذلك هو إرادة قوية لا تلين أمام الصعاب.

فلما جاءتني رسالة الشاب، كان أول خاطر سبق إلى ذهني هو أن أوجه السؤال لنفسي على هذا النحو: لقد كتبت عن الإرادة وأنها هي صاحبة الأولوية في النظرة الإسلامية، وها هي ذي فرصة قد حانت لنكمل الحديث، فبأي شيء نريد للإرادة أن تتعلق؟ ولعل في الإجابة ما يكون في الوقت نفسه جوابا مفيدا للشاب صاحب الخطاب، فلم ألبث بضع ثوان حتى أجبت نفسي: أول ما أود لعزيمتنا أن تمتد إليه، فتمحوه من الوجود محوا هو «الخوف»، إن من طبيعة الإنسان أن يتحصن بشيء من الخوف على سبيل الحذر من المجهول، لكن الخوف - شأنه في ذلك شأن جميع الظواهر النفسية - يصبح مرضا إذا بولغ فيه، وقد زاد عن حده المعقول في حياتنا وأصبح مرضا، فيخاف الإنسان فينا من ظله، كما نقول، نخاف من صاحب النفوذ، ومن صاحب القوة بكل أشكالها، ومن هنا ترانا نكتم الحق خوفا من إعلانه، إذا كان في إعلانه ما يغضب أصحاب القوة، فكانت النتيجة المحتومة لذلك أن نحيا - كما نحيا - بازدواجية القيم، فحياة نحياها في الظاهر بالقيم التي تصادف الرضا، وحياة أخرى نحياها في الخفاء، ليسر بعضنا لبعضنا الآخر همسا في الآذان، عما يراه حقا، فإعلان الحق ضرب من الجهاد، كثيرا ما يصيب المجاهدين في سبيله العناء والعنت والأذى، مما يتطلب من أولئك المجاهدين في سبيل الحق وإعلانه، اللجوء إلى الصبر، ولكن الناس يظلون في خسر إلى أن يظهر فيهم من تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ...

أمة تخلو من الخوف والتخويف، إلا بالقدر الذي تتطلبه طبيعة الإنسان - هذا هو أول ما يجب أن تتعلق به الإرادة، ولا يكون ذلك إلا بتربية تبث في الناشئ ثقته في نفسه، مع احترامه للآخرين، إنه مطلب يسير في وصفه والتعبير عنه، لكنه عسير في تحقيقه تحقيقا يجعله طريقة عيش وأسلوب حياة عند كل فرد من أفراد الشعب، فالحياة عندما تتخذ في الإنسان صورتها المثلى تصبح مغامرة يغامر بها الفرد ابتغاء الوصول إلى مثل أعلى يراه في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحياة، فقد يتجه المثل الأعلى بصاحبه نحو أن يكون عالما بحاثة يكشف عن حقائق الوجود، أو يتجه به نحو إبداع في الفن والأدب، أو نحو قوة الحكم أو قيادة الجيوش أو ما شئت من سبيل، لكن أيا ما كان السبيل المختار، فهنالك طريقتان للتربية من أجل تحقيق غاية منشودة: طريقة توحي بالمغامرة والكشف والتحديد وإرادة القوة، وطريقة ثانية تبث في الناشئ روح الخوف والانكماش والمحافظة والبعد عن الخطر والمخاطرة، والطريقة الأولى تكون لها السيادة في الشعوب عند نهضتها، والطريقة الثانية تخنق الرقاب وهم في مرحلة الضعف والتخلف والجدب والجمود، في الحالة الأولى إقدام وجرأة، وفي الحالة الثانية، جبن وحذر وخوف، والأغلب في الحالة الأولى ألا يضغط الرأي العام على حرية الفرد إلا بالحد الأدنى الضروري لسلامة المجتمع، أما في الحالة الثانية فيغلب أن يبطش الرأي العام بأي فرد من أفراده تأخذه الجرأة فيحاول تغيير المألوف، وأخشى أن يكون المسيطر على حياتنا في مرحلتنا الراهنة هو مناخ الخوف والهزيمة.

نعم إن الحياة المزدهرة لا بد لها من «أمن»، لكن المهم دائما هو تحديد المعاني التي لها قوة التأثير على تشكيل الفكر والسلوك، فبأي معنى نفهم «الأمن»؟ أما الخائف الضعيف المهزوم، فلا يفهم من الأمن إلا أنه ضمان استمراره فيما هو فيه، وأما صاحب العزيمة القوية، الطموح الجريء البحاثة الرحالة الطائر في أجواز الفضاء، الغائص إلى أغوار المحيط، فمعنى «الأمن» عنده أن تصان له حريته وظروفه التي تساعده على أن يحيا تلك الحياة المخترقة للآفاق، ولقد سبقت لي الإشارة في مناسبة سابقة إلى مغزى العنوان الذي اختاره الإدريسي لكتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» فهو يدل على روح الشعب العربي الإسلامي إذ كان في مرحلة قوته، فقوته لم تكن في إغلاق النوافذ خوفا من لفحة البرد، بل كانت قوته في اختراق الآفاق.

ولطالما وقفت متأملا قول الله - جلت قدرته:

فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف

والإشارة هنا كانت إلى قريش الذين هيأ لهم الله سبل السفر المطمئن في رحلاتهم التجارية إلى الجنوب شتاء، وإلى الشمال صيفا، فللحياة المزدهرة ركيزتان أساسيتان: وفرة في الجانب الاقتصادي من جهة، تسانده سكينة نفس من جهة أخرى، وتستطيع أن تفهم من الوفرة الاقتصادية كل ضروب النشاط الإنتاجي مع كل ما يؤدي إليه ويتفرع منه، كما تستطيع أن تفهم من النفس التي أمنت من الخوف واطمأنت، كل ما قد تنتجه تلك النفس الهادئة المطمئنة من علم وفن، بل ووسائل الحياة المهذبة في ساعات الفراغ، من يسرت لهم حياة فيها الركيزتان: الازدهار في ضرورات العيش الكريم من جهة، والنفس التي أمنت عوامل الخوف، فقد حقت عليهم عبادة الله الذي هيأ لهم السبيل.

وحديثي الآن، إنما هو عن الخوف الذي أراه قد ملأ صدورنا، فسدت أمامنا أبواب الفكر الحر والنشاط المغامر الجريء، ولست أقصر قولي على الخوف في حياتنا السياسية، بمعنى ألا يكون بين الحكومة والشعب إلا تلك العلاقة التي أشار إليها سعد زغلول في زمانه، ووصفها بأنه نظرة الطير للصائد، لا نظرة الجند للقائد، لا، بل إني في حديثي عن الخوف أنظر نظرة أشمل، ومن العجب أنها هي النظرة التي لا تزال ترى الصدق في عبارة سعد زغلول، مع جعل العلاقة التي تكون موضع الحديث، علاقة الرأي العام عندنا اليوم مع أفراد الشعب، فقد عبئ هذا الرأي العام تعبئة مالت به إلى نوع غريب من الخوف، وأعني الخوف من كل فكرة تثار، ويكون من شأنها أن تجيء مخالفة في كثير أو في قليل للمادة التي عبئ بها حتى انسدت بها أوعيته الدموية جميعا، موضع العجب هنا هو أن الخائف قد بلغ به الخوف حدا جعل منه طاغية على من يجرؤ على فتح باب أو نافذ في جدران البرج الأصم الذي بناه بيديه ليضع نفسه فيه ...

وانتهى الأمر بالرأي العام عندنا اليوم إلى سطحية ساذجة، ومعذرة إذا قلت إنه قل أن يكون لها نظير حتى في مجموعة العالم الثالث، الذي كنا نستكبر في أول الأمر أن تكون مصر جزءا منه، من الناحية الحضارية والثقافية، وقد سرنا في هذا التدهور على خطوتين: كانت أولاهما أن نفخنا في أبواق الفزع من شيء أسموه بالغزو الثقافي، ثم لم يريدوا أن يفهموه بما كان يجب أن يفهم به، فإذا قصد بمقاومة الغزو الثقافي أن نحصن أنفسنا ضد العوامل التي تمحو هويتنا الذاتية، فأين هو الفرد الواحد الذي لا يوافق على مقاومة الغزو الثقافي مأخوذا بهذا المعنى؟ أما أن تتسع الدائرة ليصبح المعنى شاملا لتيارات الفكر والفن والأدب ونظم التعليم ونظم السياسة، ونظم التجارة ... إلخ ... إلخ، فذلك هو الانتحار الحضاري بعينه، وسره هو «الخوف»، وسر الخوف فينا هو ما قد أصابنا من هزيمة وضعف وخيبة رجاء، وقد أضيف أنه لا بد أن يكون بيننا صاحب مصلحة في إثارة ذلك الخوف في نفوسنا، كأن تكون قوته وارتفاع قدره وكثرة ماله مستمدة من أن تدوم فينا حالة الفزع من الهواء والنور.

وأروي للقارئ هذا النبأ، لنرى معا ماذا ينطوي عليه من مغزى، وهو أنني بينما كنت في رحلتي العلاجية إلى إنجلترا في صيف عام 1984، تصادف أن جاء عيد الأضحى أثناء إقامتي، وفي ليلة الوقفة، سمعت حديثين في الإذاعة البريطانية، كما شهدت في التليفزيون برنامجا، بمناسبة وقفة عرفات ... أما الحديثان المذاعان بالراديو، فكان أحدهما لرجل من كبار رجال الدين في تلك البلاد، وأما الحديث الثاني، فكان لباكستاني مسلم، وكان المتحدث في البرنامج التليفزيوني مصريا، ماذا قال رجل الدين البريطاني؟ أخذ يشرح كيف أن اليهودية والمسيحية والإسلام ديانات ثلاث، تنتمي كلها إلى سيدنا إبراهيم - عليه السلام - مما لا بد أن يعني أخوة أصيلة بين أتباع الديانات الثلاث جميعا، وأما الباكستاني المسلم فقد أدار حديثه حول المشكلة التي أصبحت تستدعي النظر عند المسلمين، وهي تزايد أعداد الحجاج تزايدا بلغ بهم الملايين، وهو في تزايد مستمر، ما دام سكان العام يتزايدون، ومنهم بالطبع جماعة المسلمين، فماذا يكون الحل عندما يصبح مستحيلا على عدة ملايين أن تجتمع كلها في وقت واحد وفي مكان واحد محدود المساحة؟! إن المملكة السعودية تبذل كل مستطاع في إيجاد الوسائل، بما تقيمه من الكباري العلوية ونحو ذلك، لكنها وسائل مهما بلغ المبذول فيها من جهد، فمصيرها أن تضيق بالحجاج ذات عام لا نراه بعيدا، وكانت تلك المشكلة هي التي طرحها المتحدث الباكستاني، وجاء دور المواطن المصري، يتحدث على شاشة التليفزيون، فركز حديثه على ما رآه من نعمة الإسلام على المسلمين، فما الذي أورده من جوانب تلك النعمة؟ ... كان أهم ما قال في ذلك أنه لولا الإسلام علينا لما اهتممنا بغسل أقدامنا في الوضوء، ولا تنبهنا إلى ضرورة الاستحمام، فالإسلام علم المسلمين النظافة، كما حث الغني على أن يتصدق للفقير ... وسار المتحدث في هذا الخط من الكلام، ولنلحظ هنا في انتباه أن المتحدث يتحدث إلى قوم يأخذون النظافة مأخذ التسليم، وينظرون إلى تأمين العيش للفقراء بنظم شاملة من التأمينات الاجتماعية، فهل أفادهم ذلك المتحدث عن الإسلام بما كان ينبغي له أن يفعل؟! فلولا أنه معبأ بما انتهى به إلى درجة مخيفة من السطحية الساذجة، لقدم الإسلام عن طريق القصيدة في لبها وأساسها، فشرح لهم «التوحيد» الإسلامي ما معناه وما مداه في توجيه النظرة الإنسانية نحو الأكمل، وفي تشكيل السلوك نحو الأقوم ... لكنه لم يفعل شيئا من ذلك كما رأيت، وأكاد أوقن أنه لو حدث مثل هذا الحديث فيما قبل هذه المرحلة التي نجتازها، ثم اختير من رجالنا العلماء من يتحدث في مثل تلك الظروف، لعرف كيف يكون الحديث عن الإسلام، لكنها سطحية علم، وسذاجة رؤية، وبراءة كبراءة الأطفال، هي التي تسودنا اليوم، وكان مبعث سيادتها أن دبت فينا روح الهزيمة، والخوف، وتسلم القيادة الفكرية في معظم حياتنا، من رأى أن النجاة إنما تتحقق لنا بأن نلف أنفسنا في غطاء جلودنا، فلا تفتح منا عين لترى، ولا تصغي أذن لتسمع ...

وكيف نبدأ العودة إلى مصادر النور؟ الخطوة الأولى هي أن نفتح الأعين لترى، وأن نصغي بالآذان لتسمع، وماذا نرى ونسمع؟ إن ذلك يتم من ناحيتين في آن واحد: الناحية الأولى أن نزيل الغشاوة عن عقولنا لندرك مواضع القصور في حياتنا الفكرية، وعندئذ نرى أننا قد جمدنا إلى حد لن نغفره لأنفسنا عندما نفيق، تصوروا يا سادة أنني كتبت يوما لأندد بكتاب أخرجته مطبعة مصرية، يقيم فيه صاحبه البراهين على بطلان القول بكروية الأرض، زاعما أنه باطل مقصود من جانب المستعمرين! فتصلني رسالة بعد ذلك المقال، أشكر صاحبها على أدبه في اختيار لفظه، لكنه يناشدني أن أتقي الله في الدفاع عن هذا الباطل! ... وبعد الناحية السلبية التي قلت إننا نبدأ بها فنفحص مواضع النقص الخطير في حياتنا الفكرية، تأتي ناحية إيجابية نكفل بها حرية الفكر وحرية التعبير، لكل فرد من أفراد الشعب لم يثبت أنه مصاب بمرض في عقله، وأود لفت الانتباه في هذه المناسبة إلى أننا لكثرة انشغالنا بالمسائل السياسية، أصبحت المطالبة بحرية التفكير وحرية التعبير، تعني أول ما تعنيه عند الناس، أن تكون تلك الحرية في مجال الفكر السياسي، ومع إدراكي - بالطبع - لأهمية تلك الحرية في مجال السياسة، إلا أن اهتمامي الأقوى متجه نحو مجال أسبق وأشمل وأخطر من ذلك، وأعني حياتنا الفكرية حين تجعل مدارها وجهة نظرنا إلى العالم الذي نعيش فيه، فنحن في هذا العالم، بعد أن كنا نطمع في خطوة نخطوها إلى الأمام، أصبحنا ندعو إلى خطوة نخطوها إلى الوراء، وبينما نعطي حرية القول لأصحاب هذه الدعوة، نخاف إذا أخذ هذا الحق نفسه دعاة يدعون إلى السير نحو الأمام، ومع دعاة الرجوع رأي عام معبأ، بات كفيلا وحده أن يكتم أنفاس المخالفين.

وإلى صاحب الرسالة التي جاءتني من شاب يسأل كيف يكون السبيل ... أقول: إنني حين هممت بكتابة هذه السطور، كانت السماء قد اكفهرت وثارت ثورتها بالبرق والرعد والمطر، واستجابت لها نفسي بشيء من اليأس، وها هي ذي السماء قد صفت وتقشع سحابها، عندما فرغت من الكتابة، فاستجبت لها بنفسي امتلأت بالأمل والرجاء ...

أهو شرك من نوع جديد؟!

«أشهد أن لا إله إلا الله» شهادة هي أول كلمة في إسلام المسلم، يقول «أشهد» لتدل صيغة الفعل على أنه لمتكلم فرد مفرد فريد مسئول عما يقول: إنه لا يقول «نشهد» لينضم بشخصه إلى غيره من أبناء أسرته أو أمته؛ لأنها شهادة يحملها مفردا، حتى ولو لم يكن معه إنسان آخر من أهل الأرض جميعا، كلمة «أشهد» دالة وحدها، منذ أول حرف من حروفها - حرف «الألف» - على أن الإيمان بالدين من شأن كل مؤمن على حدة، يدفعه إليه ضميره، وحتى حين يفرض عليه دينه بعد ذلك أن يجتمع مع شركائه في الدين، أن يجتمع معهم في جهاد، أو في صلاة، أو في حج، فذلك إنما يجيء بعد أن قال - أصالة عن نفسه، لا ينوب عنه أحد ولا ينوب هو عن أحد - «أشهد» بصيغة المتكلم المفرد، والصيغة تبقى هي هي، إذا كان ذلك المتكلم المفرد رجلا أو امرأة، حاكما أو محكوما، غنيا أو فقيرا، حرا أو مقيدا، فانظر إلى حرف «الألف» الذي هو أول حرف في أول كلمة، أول جملة يدخل بها المسلم في دينه، دين الإسلام، انظر إلى هذا الحرف الواحد، كم يتضمن من مواثيق تضمن للإنسان فرديته، ومسئوليته، إلا أنه أسلم، وليكن بعد ذلك ذا مال أو ذا متربة، صاحب سلطان أو مجردا من كل سلطان.

وبماذا يشهد الشاهد في شهادته أن لا إله إلا الله؟ إنه يقرر شيئين في وقت واحد، أحدهما بالسلب، وثانيهما بالإيجاب، وهو يبدأ بقراره السالب أولا، إذ هو يبدأ بأن يمحو الباطل، ثم يعقب على هذا بأن يثبت الحق، فهو ينكر وجود آلهة أخرى، لينتقل بعد هذا الإنكار إلى إثبات وجود «الله »، لا إله - إلا - الله، وليس هذا التعاقب بين سلب الباطل قبل إثبات الحق، أمرا جاء في الشهادة مصادفة، أو عن غير قصد، بل إنه هو نفسه التعاقب الذي يحتمه منطق العقل في كل منهج للتفكير السليم، بل إنه تعاقب نلحظه في حياة الناس العملية إذا ما توافرت لهم أركان الفطرة السليمة، فتراهم يزيحون الأنقاض قبل أن يقيموا البناء الجديد، وينظفون البيت قبل تأثيثه بفرش نظيف، وأما في منهج التفكير العلمي، فهذا التعاقب بين إزالة الأخطاء القائمة قبل عرض الفكرة الجديدة، أمره معروف للباحثين، فتراهم يبدءون باستعراض ما قد قيل فيما سبق عن الموضوع المطروح للبحث، ليرد الباحث تلك الآراء السابقة، رأيا بعد رأي، مقيما رده على بيان مواضع بطلانها، حتى إذا ما خلت له الأرض، أقام هو فكرته مقرونة بأدلة صدقها، وعلى هذا التعاقب نفسه جاءت شهادة الشاهد بأن لا آلهة لها وجود إلا «الله».

كانت الآلهة الباطلة التي جاءت بشهادة المسلم لتنفي عنها الوجود، أول ما جاء الإسلام، أصناما لها أسماء، فهذا الصنم هو «اللات» وذلك هو «العزى»، وهكذا دار بنا الزمان قرونا تتلوها قرون، حتى بعد العهد بتلك «الآلهة» بعدا أصبح مستحيلا معه أن يرتد عابد عن عقيدته، ليعبد «اللات» أو ليعبد «العزى»، لكن ذلك الزمان نفسه الذي دار بقرونه ما دار، إنما هو كالوحش الكاسر، يتربص بفرائسه أن يدب في أنفسهم دبيب الضعف فيفتك بهم فتكا لا رحمة فيه، فلئن استحال على الناس، حتى وهم في حالة الضعف، أن يرتدوا إلى عبادة اللات والعزى، فضعف نفوسهم - إذا ضعفت - كفيل أن يوسوس لهم في صدورهم بما يحملهم على خلق أرباب أخرى من دون الله، ولتلك الأرباب عندهم أسماء، ولن أذكر هنا شيئا عن رب عندهم اسمه «الذهب» ولا عن رب اسمه «السلطان» أو رب اسمه «الشهوة»، فتلك وغيرها صنوف من الآلهة عرفها الناس منذ أقدم قديم في تاريخهم، وجاءت الأديان، وجاء المصلحون، ليوقظوهم من تلك الغفلة، لكنها غفلة إذا استحكمت في الغافي، فهيهات له أن يفيق ، وإنه لفي مستطاع الإنسان، إذا كان قوي الروح، مؤمنا بالله الواحد، واثقا في نفسه، عاقلا، حرا، مسئولا أمام ضميره وأمام الله الذي هو مؤمن به، أقول: إنه لفي مستطاع الإنسان أن ينزع عن تلك الآلهة الزائفة شوكتها، بحيث لا يكون لها هي القوة في أن تملك عليه زمامه وتتحكم فيه، بل يبقيها أدوات في يديه، يوجهها كما يشاء لها هو، لا كما تشاء هي له، وعندئذ لا يعاب فيه ذهب، أو سلطان، أو رغبة؛ لأنها لم تعد الأرباب التي كانت يوم أن ذل لأحكامها وخشع.

لا، لن أذكر هنا شيئا عن تلك الآلهة الزائفة، لأن أمرها في حياة الإنسان الضعيف معروف، لكنني سأذكر إلها جديدا ظهر حديثا في حياة الناس، وهو - بدوره - ذو وجهين، فهو بوجه منهما لا عيب فيه، بل إنه ضرورة مطلوبة، وذلك إذا نزعت عنه شوكة التأله، ولكنه بوجهه الآخر، الذي يتسلح فيه بتلك الشوكة الرهيبة، ينقلب إلى طاغية يسحق فردية الأفراد سحقا، ليحيلهم إلى أشباح من ظلال، وأعني بذلك الإله الزائف الجديد، شيئا اسمه «الرأي العام»، ولهذا الرأي العام نحني رءوسنا طاعة وإجلالا، على شرط واحد، وهو ألا يكون في معنى من معانيه، حرمانا لأي فرد أراد أن يختلف بفكره المستقل، عما أعلنه الرأي العام، حتى ولو جاء ذلك الإعلان نتيجة سليمة لاستفتاء صحيح ومشروع؛ لأن ذلك الفرد - إذا كان مسلما - كان قد التزم حين شهد، بوصفه فردا مفردا فريدا، أن لا إله إلا الله ...

إن وجود فرد واحد، لا يرى الرأي الذي هو «رأي عام»، ينفي عن الرأي العام عموميته، وحتى لو كان من حق الرأي العام أن يضغط بقوته العددية في اتخاذ القرارات، وفي انتخاب النواب الذين ينوبون عنه - وهو حق للناس لا نشك فيه - فليس له ذلك الحق نفسه في منع الآراء والأفكار التي لا تعجب جمهوره، إن الذي يربط أفراد الجمهور بعضهم ببعض في تكوين رأي عام، يغلب أن يكون هو «الانفعال» لا «العقل»، فالانفعال ينتقل من فرد إلى فرد بالعدوى، وأما الفكرة العقلية فينقلها صاحبها إلى متلقيها بالإقناع، والإقناع بحكم طبيعته عملية فردية وليست عملية جماعية، وحتى إذا استطاع صاحب فكرة عقلية أن يقنع بها جمهورا من الناس، فذلك إنما يتحقق حين يقتنع كل فرد على حدة، بينه وبين نفسه، بصدق الفكرة التي تلقاها، أما «الجمهور» من حيث هو كذلك، فليس العقل هو الوسيلة إليه، ألم تر إلى الآية الكريمة التي فصلت الوسائل الثلاث في الدعوة إلى سبيل الله؟ إنها ذكرت: «الموعظة الحسنة» و«الحكمة» و«المجادلة بالتي هي أحسن»، إنها وسائل مختلفة، ويظهر اختلافها عند تدبرها وتحليلها، واختلافها هذا يقابل تفاوت الناس في الطريقة التي تناسب الدرجة الثقافية التي لكل منهم، فعامة الناس - عادة - لا يتحملون «البرهان العقلي» ويكفيهم أن تضرب لهم الأمثلة الموضحة للفكرة التي تعرضها عليهم، ويحسن أن تساق إليهم تلك الأمثلة في أدب خطابي يثير انفعالهم، ليحرك قلوبهم وتلك هي الموعظة، وأما «الحكمة» - حين تساق في معرض الدعوة والإقناع - فشأنها شأن آخر؛ لأنها طريقة لا تبني النتيجة على «فروض» يفرضها عارض الفكرة الجديدة، إنما هي تبدأ مع المتلقي من «الصفر» وكأنهما - عارض الفكرة ومتلقيها - يبدآن المعرفة من أول وجديد، وهنا يسير عارض الفكرة مع المتلقي خطوة خطوة، ولا ينتقل من خطوة إلى التي تليها إلا إذا أقام على الفكرة الأولى برهان صدقها، كما ترانا نفعل في علم الحساب أو علم الهندسة، وواضح أن منهاج «الحكمة» هذا، لا يناسب إلا الصفوة التي ظفرت بتدريب عقلي أكسبها القدرة على إقامة البراهين، وأخيرا تأتي طريقة «المجادلة بالتي هي أحسن»، فلئن كانت الموعظة الحسنة أصلح الوسائل إلى «قلوب» الجمهور العريض، ثم كانت «الحكمة» أنسب الوسائل إلى «عقول» الصفوة، فهنالك وسط بين الطرفين، فلا هو من الصفوة الممتازة بقدرتها العقلية العلمية، ولا هو من عامة الناس الذين لا يطيقون الاستماع إلى البراهين العقلية في بطء سيرها، وفي دقة لفظها، إنما هو وسط بين بين، فهؤلاء يناسبهم، لا أن تبدأ معهم من الصفر، بل أن تبدأ معهم بنص معين، أو بفكرة معينة، تعلم أنهم على استعداد لقبولها بلا نقاش، ثم تستخرج لهم من تلك المقدمة المسلم بها نتائجها التي تلزم عنها لزوما منطقيا، فلا مفر عندئذ من قبولها ... فالآية الكريمة حين جعلت لكل درجة من درجات القدرة العقلية وسيلتها إلى قبول الفكرة الجديدة، تضمن فيها أن ما يدركه فرد من الناس، قد لا يستطيع إدراكه فرد آخر أو أفراد آخرون، والذي يهمنا في سياق حديثنا هذا، هو أن نخلص إلى حق الفرد الواحد في أن ينفرد وحده بفكرة معينة، حتى ولو كانت تلك الفكرة مستعصية على الآخرين، وحسبه في ذلك أنه «فرد» ضمنت له «الألف» التي هي أول حرف في «أشهد أن لا إله إلا الله» أن تصان فرديته حتى ولو خالفه سائر أفراد البشر جميعا.

على أن هذا الحق الذي يبيح للفرد أن يتفرد بفكره وبعقيدته لا يمتد به إلى دنيا العمل تطبيقا لذلك الفكر أو لتلك العقيدة؛ لأن دنيا العمل هي على الأغلب دنيا الناس، اللهم إلا إذا حصر صاحبنا نفسه في عالم مغلق لا شأن لأحد به، أما ما دامت دنيا العمل شاملة لأفراد آخرين، فها هنا يصبح لكل منهم نفس الحق الذي هو لصاحب الفكرة أو العقيدة، الذي انفرد وحده بما رأى وما اعتقد، فدنيا الناس المشتركة، والتي هي مجال الحياة العملية، من حقها أن تسير وفق متوسط الرأي عند معظم الجمهور - وذلك هو الرأي العام - دون أن يكون في ذلك حرمان للفرد المختلف برأيه من الدعوة إلى فكرته بالوسائل المشروعة، لعل يوما يجيء، تحل فيه الفكرة الجديدة محل الفكرة القديمة، وتصبح بدورها هي «الرأي العام».

إنني ما ذكرت مرة هذه المفارقة العجيبة بين الرأي الفردي والرأي العام، إلا وذكرت معها موقفا رائعا لسقراط، وهو في سجنه على وشك أن ينفذ فيه الحكم بالموت، وهو حكم قضت به محاكم أثينا، استجابة «للرأي العام» الذي وجد في سقراط خطرا على تقاليدها الفكرية، وكانت المحكمة التي أصدرت عليه حكمها بالموت، قد طلبت منه أن يعارض هذا الحكم باقتراح من عنده، لتحدث الموازنة بين الحكمين، ثم يكون الرأي الأخير النافذ، فأجابها سقراط بسخريته المعروفة - إن اقتراحي هو أن تنفق علي أثينا؛ لأنني أعلمها ما فيه خير لها، أقول: إنه حين دنا موعد تنفيذ الحكم بالموت مسموما، أنبأه بعض الأثرياء من أتباعه، بأنهم قد مهدوا الطريق لفراره من السجن، حتى يخرج من أثينا سالما، فعجب لأمرهم، ولم يتردد في رفض ما عرضوه قائلا لهم: إنه إذ يحاول جهده أن تغير أثينا من قوانينها وتقاليدها ما من شأنه أن يعرقل سيرها نحو ما هو أفضل، إلا أنه يظل ملتزما بالعمل في ظل تلك القوانين، إلى أن تتغير عن اقتناع من أبنائها.

ذلك هو المثل الأعلى في العلاقة بين الرأي الفردي والرأي العام، فللفرد حريته الكاملة في عرض الفكرة التي يراها صالحة ومصلحة لحياة الناس، ولجمهور الناس حق القبول والرفض، دون أن يتعرض صاحب الفكرة للأذى، إن للرأي العام حرمته وقيمته، لكن ليس له شيء من التقديس الذي يتوهمه له من يتوهم، فليس الرأي العام تنزيلا من التنزيل، بل هو رأي ينقد، ويتغير إذا ألزمته الظروف المستحدثة أن يتغير، أما قيمته التي أشرنا إليها، فهي أنه صمام للأمان من العثرات القاتلة، فليس كل جديد تأتي به الحضارة الجديدة في أي عصر تنشأ فيه حضارة غير الحضارة التي يكون لها السيادة عندئذ، أقول: إنه ليس كل جديد مقطوعا له بالصواب منذ أول ظهوره، بل الأمر مرهون بالتجربة خلال الممارسة العملية، فإما ثبت ذلك الجديد، وإما أهمل وترك ليزول، وهنا يكون للرأي العام قيمته الحضارية؛ لأنه رأي بطبيعته أميل للتمسك بما هو قائم، فهو - عادة - يبادر برفض القادم الجديد، حتى إذا ما أخذ ذلك القادم الجديد يتسلل في حياة الناس قطرة قطرة، ويقابل بالرضا شيئا فشيئا، أرخى الرأي العام قبضته الحديدية على القديم، تلك هي القيمة الكبرى للرأي العام وجموده النافع، إلا أنه لا بد في الوقت نفسه للجديد أن يتسلل ولو خلسة، لكي يوضع تحت الامتحان، فمن الذي يفتح له الثقوب التي يتسلل منها خلال الجدران المصمتة؟ إنهم أفراد أخلصوا للفكر إخلاصهم لشعبهم الذي هم من أبنائه، ولعلنا نلحظ خلال القرن الأخير كله، ظواهر تدل على قيام الحالة التي وصفتها لتوي، وهي أن جديدا يتسلل إلينا، رذاذا أحيانا، وغيثا منهمرا أحيانا أخرى، وهذا وذاك يقابله الرأي العام بالرفض الشفوي من ناحية، وبأخذه واستخدامه في الحياة العملية من ناحية أخرى، ولست أشك لحظة في أن النصر آخر الأمر هو للجديد النافع، وستذهب صيحات الرفض أدراج الرياح.

حدث لي في إحدى اللجان الرسمية التي كنت عضوا من أعضائها، أن كان الموضوع المطروح هو مطالبة الدولة بأن تكفل حرية الفرد في التعبير عن فكره، فأبديت رأيا أعلق به على الحوار الدائر، فقلت: إنها ليست الدولة التي تكمم الأفواه عن الفكر الحر، بقدر ما هو «الرأي العام»، وهذا الرأي العام لا يفك عنه الجمود قوانين تصدرها الدولة، بل يفعل ذلك بعلم وإعلام، ولعلني قلتها في مناسبة سابقة مما كتبته، وأعني تلك الظاهرة العجيبة في حياتنا الثقافية، وهي أن التعليم قد ازداد اتساعا، والأفراد الأفذاذ قد ازدادوا عددا في كل ميدان من ميادين حياتنا، مما يشهد بنجاح نسبي لحركة التعليم في بلادنا، لكن الأمر الذي يدعو إلى العجب حقا، هو أن «الرأي العام» لم يكد يتقدم قيد أنملة في أواخر القرن عنه في أوائله؛ ولذلك، فقد يحدث أن ترى العالم من علمائنا قديرا في علمه وهو في ميدانه، لكنه ما إن يفرغ من واجبه إزاء تخصصه العلمي، حتى يسرع الخطى لينخرط مع الرأي العام فيما هو غارق فيه من تهاويم قد تبلغ أحيانا كثيرة حد الخرافة العمياء.

وسر ذلك هو أن الفكرة، إذا جاء بها إلى الناس فرد يحمل رؤية حضارية معاصرة، لم يستطع أن ينفذ بها إلى عامة الجمهور، وبين تلك العامة - من الناحية الثقافية - أعداد ضخمة ممن تلقوا تعليمهم في المدارس والجامعات، كاملا أو منقوصا، إذ كانت عامة الجمهور في شبه احتكار لجماعة وجدت مكانتها وأرزاقها وشهرتها ومناصبها في الدعوة إلى بعث الماضي لتعيش فيه، لا لمجرد استلهامه وتشرب قيمه المبثوثة في نصوصه، ولكي يزيدوا موقفهم رجحانا وقوة، مزجوا ذلك بسلامة الإيمان الديني، وبحرارة الشعور الوطني في آن واحد، نعم، إنه لا مراء في أن إحياء الروح الديني وقيم الأسلاف ضرورة لا غنى عنها في ترسيخ الشعور القومي، وتثبيت الهوية الخاصة بنا، لكن أبناء النصف الأول من هذا القرن عرفوا كيف يضيفون إلى ذلك الأساس الضروري، أقباسا قبسوها من ثقافة العصر، فكاد الميزان الثقافي الجديد تعتدل له كفتاه، لكن جاءت هذه الموضة التي تغمرنا اليوم، والتي أزعم أنها قد استمدت قوتها من هزيمة 1967 التي زعزعت فينا الثقة بالنفس، أقول: إن هذه الموجة الجديدة جاءت لتحذف من المركب الثقافي ذلك الجانب العصري، ولتشكك الناس في طواياه ونواياه، حتى لقد أصبح الفرد السابح بثقافته مع توازن النهضة في العشرينيات والثلاثينيات إنما يسبح ضد التيار، ويعرض نفسه لغضب الرأي العام وسخطه، فتراه في معظم الحالات يلوذ بالصمت وإيثار السلامة، متجاهلا - أمام غضب الجمهور العام - أنه فرد مسئول أمام ضميره وأمام ربه، بحكم قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله.»

المسلم مسلم لكونه أسلم إرادته لمشيئة الله، وإننا لنخطئ خطأ خطيرا، إذا أخذنا الظن بأن معنى ذلك هو أن يتجرد الإنسان من إرادته، لأنه لو فعل، لأصبحت عبادته لله ذاتها معدومة القيمة، إذ هي في هذه الحالة عبادة تحولت إلى حركات يتحرك بها من لا إرادة له، في حين أننا نعلم أن إعلان العابد لنيته بأن يعبد، نقطة جوهرية في أداء تلك العبادة؛ لأن إعلان النية مقدما، كأن يقول القائم للصلاة: نويت الصلاة، وأن يقول المتأهب للصوم: نويت الصوم، أقول: إن إعلان النية مقدما معناه أن العابد يؤدي عبادته عن إرادة واعية واختيار حر، إذن لا بد أن يكون إسلام المسلم لإرادته لمشيئة الله، ذا معنى آخر، وهو أن المسلم يسخر إرادته لتحقيق ما أمر الله بأن يتحقق، كما يدعونا إخلاصنا للوطن - مثلا - أن نوجه إرادتنا إلى فعل ما هو صالح للوطن.

على أن تسليم المسلم لإرادته، لتتجه نحو ما يرضي الله - سبحانه - لا يشمل فيما يشمله من معان، تسليم المسلم لعقله؛ لأننا لو زعمنا ذلك كنا ننقض أنفسنا بأنفسنا، وشرح ذلك هو أن الإرادة وظيفتها أن تضع الأهداف، كأن يقول القائل: أريد بناء مسجد بما أنعم الله به علي من مال، فإذا ما وضع الهدف، بدأ العقل مسيرته في سبيل الوصول إلى ذلك الهدف، من شراء للأرض الملائمة لبناء المسجد، والاستعانة بمهندس معماري قادر، وإنفاق على عمال البناء ... إلخ، وهذه كلها خطوات من تصميم «العقل» في خدمة ما وقع عليه اختيار «الإرادة»، وواضح من هذا أن القوة العاقلة في الإنسان تفقد مبرر وجودها، إذا هي لم تصب فاعليتها على رسم الخطوات المؤدية إلى تحقيق الأهداف، فإذا لم يكن لمجتمع الناس في وقت معين، أهداف معلومة وواضحة، تبعثرت قوته العاقلة في لت وعجن لا ينتهيان بالناس إلى رغيف من الخبز، وكذلك إذا رأينا مجتمع الناس في مرحلة معينة ذات أهداف معلومة وواضحة، لكن عقولهم كالمخدرة بنعاس أو بيأس أو بضلالة وجهالة، ظلت تلك الأهداف معلقة وكأنها أحلام النائمين!

المجتمع الذي يريد أن يخرط أفراده بمخرطة تسوي بينهم جميعا في الفكر والسلوك، كما يخرط النجار قوائم المقاعد والمناضد على مخرطة واحدة، كي تصبح «طاقما» واحدا، هو مجتمع يبعثر في الهواء هبة الله لعباده، فإذا سألتني: وكيف - إذن - تريد للأفراد الذين اختلفت أهواؤهم أن يصبحوا «أمة» واحدة؟ أجيبك بأن العلاقة كما أتصورها بين مختلف الأفراد وما يوحدهم في أمة واحدة - مصرية، أو عربية، أو إسلامية - هي أن تكون «الوحدة» بمثابة «إطار» وأن يكون كل فرد بمثابة عجينة خاصة متميزة تنصب في ذلك الإطار، فالصورة القومية واحدة، والمضمونات الفردية متمايزة، ويطوف بخاطري الآن تشبيه جيد، وهو أن تكون العلاقة بين الطرفين كالعلاقة بين الصورة الرياضية في علم الجبر، وما يملأ تلك الصورة نفسها من قيم عددية لتتعين وتتحدد فتصبح جزءا من علم الحساب، وبالطبع لا حصر للمضمونات العددية التي يمكن اختيارها لتملأ الصورة الجبرية المفرغة، فمثلا خذ هذه الصورة برموز الجبر: (س + ص)

2 = س

2 + 2 س ص + ص

2 ، فها هنا تستطيع أن تستبدل بالرمزين س، ص أي عددين أردت، فتتحول الصيغة الجبرية المفرغة لتصبح صيغة حسابية محددة كأن تختار - مثلا - العددين 2، 3 بدل الرمزي س، ص الصيغة التي أمامك (2 + 3)

2 = 4 + 12 + 9 = 25، فالعلاقة بين الإطار الصوري في الجبر، ومضموناته العددية التي يمكننا أن نملأ بها ذلك الإطار والتي لا حصر لها، هي كالعلاقة بين إطار قومي وأفراده، فالإطار واحد، والأفراد الداخلون به متمايزون، وبهذا يحقق كل فرد فرديته الكاملة دون أن يخرج على الروح القومية الواحدة، التي تجمع في ظلها جميع الأفراد، وبهذه الفردية المنتمية إلى أمتها، يتحقق للإنسان المسلم ما كان متضمنا في قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» ...

هذا الصغير وصغائره

كانت جلستي هذه المرة مع نفسي، آخذ منها وأعطيها، ولقد بدأ الحديث بيننا حين دفعت الأحداث بين أيدينا بصورة ذلك الرجل الصغير الكبير، فهو صغير بأوهامه وأحلامه، وهو كبير بعمره ومناصبه، وهو صغير بتفاهاته التي يعيش بها وعليها، وهو كبير في أعين قوم قلبت أمام أعينهم درجات القيم، وربما كان للرجل عذره في صغاره؛ لأنه يريد الوصول إلى أعلى البناء، فماذا هو صانع بنفسه، إذا كانت أيامنا قد حكمت بألا يكون الأعلى للحق قبل الادعاء؟ ماذا هو صانع بنفسه، إذا كانت حياتنا قد أسلمت أسواقها للعملة الزائفة قبل العملة الصحيحة؟ أئذا ركب صاحبنا الصغير الكبير ظهور الموج مع اتجاه الريح، كان أحق باللوم، أم كان أحق بالثناء؟

وسمعت نفسي سيل هذه الهواجس مني، فانتفضت لتعترض قائلة في همس المختنق: كفى، كفى يا صاحبي، إن صغيرك الكبير هذا، حقيق بأن يلقي العقاب على صغاره، وعقابه يكون بإهماله فلا يذكره الذاكرون، حتى يتعلم الشعب أن يكون الفرق بين صغير وعظيم، لقد اختلطت على الناس أمورهم واضطربت الموازين، فمتى يعود إلينا يوم لا يعلو فيه جهل على علم، ولا مهارة الحواة على كدح العاملين؟ لقد راقبت صغيرك الكبير على تعاقب السنين، فإذا هو يقيم بناءه من قش هش هزيل، لكنه يطليه بزخارف الألوان، فيخطف به أبصار البلهاء، الذين لا يكادون يركلون البناء بأقدامهم حتى يتهاوى قبل أن يعودوا بأقدامهم إلى حيث كانت، إنني لفي عجب منك يا أخي ومن أقرانك، الذين يظنونه خلقا كريما أن تخفت أصواتهم أمام زيف خادع، وأرى الناس في بساطتهم يسألون في الصحف كل يوم: لقد دب في حياتنا ضعف، فأين يا خبراء مواطن الضعف؟ وأول موطن من مواطن الضعف بين أصابعهم ولا يحسونه، وهو أن القوس لم تعد تعطى لباريها، فبات فينا عالما، من علمه قد انحصر في «أبجد هوز» أو ما يشبهها، وأصبح فينا أديبا من أدبه قد اكتفى بركاكة اللفظ واختفاء المعنى، وأضحت شجاعة الرأي هي التهجم الغشوم الأجوف، وأمست حكمة الحكماء هي في مخادعة المنافق الجبان ... رحمك الله يا أبا الطيب، لقد أنشدتها كلمة حق، حين قلت: إن من كان به صغار، عظمت في عينه الصغائر، وأما العظيم حقا، فهو ذلك الذي تصغر في عينه العظائم؛ لأن له وراء أي هدف عظيم، هدفا أعظم منه، وهكذا تعلو همته علوا يشده صعدا إلى عظيمة فوق عظيمة، فلعلك يا رفيقي لم تنس بعد بيت المتنبي الذي أشير إليه، والذي يقول:

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم - قلت لنفسي: بارك الله فيك يا نفسي ... ولقد ذكرتني بأبي الطيب المتنبي، فتعالي يا نفس نعش في ظل شموخه بضع دقائق، فإن دقيقة واحدة يعيشها إنسان مع ذلك الطامح، الأبي، الجبار، لكفيلة بأن تنقذه من صغائر الصغار، ومن قناعة الضعفاء بما هم فيه من غث رخيص، ولنجعل مأوانا من ديوان المتنبي، تلك القصيدة التي كان البيت الذي أشرت إليه يا نفس، هو ثاني أبياتها ...

كان بنو كلاب قد عاثوا في ناحية من البلاد تدميرا وتخريبا، فسار إليهم سيف الدولة، وفي صحبته أبو الطيب المتنبي، وأدركهم وحصرهم في مأزق بين جبل وماء، وأوقع بهم ليلا، فقتل من قتل وغنم ما غنم، ثم اتجه نحو ثغر كانوا قد خربوه، وقصد إلى بنائه من جديد، فخط له الأساس وحفر أوله بيده؛ ابتغاء مرضاة الله، لكن أهل المدينة كانوا قد أسلموها إلى من يدعي «بالدمستق»، فجمع له هذا الدمستق جيشا جرارا من خمسين ألفا من الفرسان، كانوا خليطا من جموع الروم، والأرمن، والروس، والبلغاريين، والصقالية، وغيرهم، ولم يكن مع سيف الدولة إلا خمسمائة مقاتل، فهجم بهم وهو على رأسهم، وكتب له الله نصرا مبينا، قتل فيه من جيش عدوه ثلاثة آلاف، وأسر عددا من خيرة فرسانه، ثم انصرف بعد نصره إلى بناء المدينة بعد دمارها، ويقال: إنه لبث حتى وضع بيده ما يكون خاتمة العمل عند اكتماله.

وكان أبو الطيب المتنبي يصاحبه في ذلك كله، فلما كتب للمهمة ما حققته من نصر وتعمير، كانت تلك هي المناسبة التي أنشد فيها قصيدته، التي أعتقد أن مطلعها وبعض أبياتها مألوف لكثيرين؛ لأنها كثيرا ما تورد بين المحفوظات في المدارس، ومع ذلك فإني أفضل أن أعرض مضمونها نثرا، لسببين: أولهما أنهم قليلون أولئك الذين يصبرون على قراءة الشعر وهو في صورته المنظومة، وثانيهما: أنني سأحل لنفسي أن أسوق المعنى المنثور، مشروحا بإضافات وتعليقات؛ لأن هدفي هو أن أشرك القارئ في تلك الجلسة التي انصرفت فيها أنا ونفسي إلى قراءة تلك القصيدة للمتنبي، لنظفر منها بشيء من عظمة الروح، يخفف عنا ما يحيط بنا من صغائر الصغار، فهاك نفحة مما عشته مع نفسي في ظلال المتنبي وقصيدته التي أشرنا إلى مناسبتها:

ماذا تكون الحياة بغير إرادة تعزم، وعمل ينفذ؟ وإن الناس لتتفاوت أقدارهم بتفاوتهم في العزيمة وقوتها من ناحية، وفي تفاوتهم في دنيا الكفاح والعمل من ناحية أخرى، إنهم ليتفاوتون في هذا وفي ذلك تفاوت الماء وهو عند صفر التجمد أو ما دونه من درجات، ثم وهو عند مائة الغليان، وعند أسفل الدرجات ترى صغائر الصغار، وعند عليا الدرجات ترى عظمة الإنسان كيف تكون، ولكن ما كل إرادة تستوي مع كل إرادة، حتى لو تكافأتا في قوة التصميم، فقد تتعلق إرادة إنسان بمال يجمعه حتى يعد بالملايين، وقد تتعلق إرادة إنسان آخر بمناصب النفوذ النافذ الذي يخترق صلابة القوانين فلا يحاسبه أحد ، أو تتعلق بمظاهر الجاه ذي الهيل والهيلمان الذي تنخلع له القلوب من بطش سطوته، لكن لا هذه ولا تلك هي التي عنيناها عندما تحدثنا عن تفاوت الأقدار في ناحية الإرادة وفي ناحية الجهاد من أجل تحويلها إلى عمل، وإلا فهل رأيت صحائف التاريخ قد شغلت بسطر واحد من صفحة واحدة، برجل لتقول عنه إنه كان ذا ثراء ثم لا شيء بعد الثراء؟ أو رأيتها شغلت بسطر واحد من صفحة واحدة، برجل لتقول عنه إن كل بضاعته هالة من هيلمان؟ وحتى هي إذا قالت ذلك عن إنسان مضى، فإنما تقوله بحروف في مدادها قطرة من ازدراء، لا، إنما نعني إذ نتحدث عن تفاوت الناس في ناحية الإرادة وفي ناحية تنفيذها، أن يكون معيار التفاوت هو مقدار الجوهر الإنساني في الإنسان، فليس الناس - صغارهم وكبارهم - كلهم سواء في الصفات الأساسية التي تجعل من الإنسان إنسانا، ومن هنا كان أبو الطيب موفقا توفيق شاعر عبقري، حين جعل التقابل - في البيت الأول من قصيدته - بين «العزائم» و«المكارم»؛ فبالعزائم تمضي الإرادة نحو العمل، وليس أي عمل، بل العمل الذي يجيء مكرمة، فيبني للناس جزءا من صرح الحياة ويعلي البناء، وفي أمثال هذه الإضافات الحقيقية الحيوية يتفاوت الناس، تفاوتا يسفل به الصغير بصغائره ويعلو العظيم بعظائمه، فحقا: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وتأتي على قدر الكرام المكارم ...

وإذا ما انتهت عزائم الناس - في تفاوت درجاتها - إلى دنيا العمل، اختلف نزلاء الدرجات السفلى عن نزلاء الدرجات العليا في شيئين: أولهما نوع الهموم التي تشغل حياتهم، فأصحاب الحظ القليل من العزيمة ينشغلون بتوافه الأمور التي لا تغني أحدا عن فقر، ولا تضيء لأحد طريقا من ظلام، في حين ينشغل أصحاب الحظ الموفور من العزيمة، بما يترك أثرا على وجه الحياة المحيطة بهم، لا تمحوه الأيام، بل يصمد حتى يجيء ذو عزيمة قوية آخر فيضيف إليه ذلك جانب، وأما الجانب الآخر في اختلاف الفريقين، فهو أن الصغير يستعظم صغائره حتى ليحسبها مما يخلد به الرجال، وأما العظيم فهو من علو النفس وشرف الطموح، لا ترضيه الإضافة العظيمة التي يضيفها، فيسعى نحو ما هو أعظم وأسمى، فتبعد مسافة الخلف بينه وبين الصغير، بعدا فوق بعدها، فالصغير يلهو على الأرض بتوافهه، والعظيم ماض، يعلي البناء طابقا على طوابقه، وهكذا تعظم في عين الصغير صغارها، وتصغر في عين العظيم العظائم ...

ولما أردت الانتقال مع نفسي إلى البيتين الثالث والرابع من قصيدة أبي الطيب، ووجدتهما تتحدثان عن سيف الدولة، قلت: هل نتخطى هذين البيتين يا نفس؟ فأجابتني في غضب: لا ... في مستطاعنا أن نسقط «سيف» فتبقى لنا «الدولة» وبذلك ربما وجدنا الموقف قد تحول بهذا الحذف، فأصبح وكأنها مصر تخاطب أبناءها في أيامنا هذه، وما نخوضه فيها من صعاب، فاقرأ ...

وقرأت أول البيتين، فوجدت وكأن الدولة حين أثقلتها همومها الجسام، توجهت إلى أبنائها ليحملوا عنها همومها، بيد أننا كما رأينا كم يتفاوت الناس في عزائمهم، ما بين صغير فاتر العزيمة، لا يحتمل إلا أوهن الأعباء، ورأينا الناس يتفاوتون كذلك في مكارمهم، ما بين التافه الذي يكفيه من الأعمال صغائرها، والجليل الذي لا يرضيه إلا أن يزحزح الجبل، إذا رأى الجبل يسد على الناس طريق التقدم، ثم رأينا - في البيت الثاني - كيف تتسع المسافة بين الصغير الذي تعظم في عينه الصغائر، والعظيم الذي تصغر في عينه العظائم، فكذلك نحن الآن - في البيت الثالث - أمام تفاوت من نوع ثالث، هو تفاوت الناس في أنواع الهموم التي يهتمون لها، فلقد باتت الهوة واسعة وسحيقة، بين هموم «الدولة» وكانت في القصيدة «سيف الدولة» من جهة، وهموم أبنائها من جهة أخرى، وكأنها ليست هي الأم، وكأنهما ليسوا هم الأبناء! لكن «الدولة» إذ تستمد عظمة طموحها، من عظمة تاريخها، تهيب بالأبناء أن يطاولوها همة وهموما ...

وننتقل إلى البيت الرابع، فنجد «سيف الدولة» أعني أننا (في حالتنا نحن) نجد «الدولة» أو قل إننا نجد مصر، تطلب عند الناس ما عند نفسها، شأن كل عظيم عندما يتوقع مثل عظمته من أوساط الناس، فلأنه يفيض عظمة بفطرته، لا يتكلف ولا يتصنع، يحسب أن تلك هي فطرة الإنسان - كل إنسان - وهو ضرب من الطموح لا يعرفه بين كائنات الدنيا إلا الإنسان ... وأما في عالم الحيوان، فالليوث تدرك بغريزتها أنها من قوتها وسطوتها، في منعة لا ترتقي إليها الغزلان والحملان، فالقوة التي رآها المتنبي في سيف الدولة، والتي نريد أن نرى شبها لها في مصر اليوم، وهي القوة التي يراد لها أن تنتقل من الدولة إلى أبنائها، ليست قوة الغابة، وإنما هي قوة الحضارة، قوة الدين، قوة العلم، قوة الفن، إنها قوة الريادة، والقيادة «ويطلب عند الناس ما عند نفسه، وذلك ما لا تدعيه الضراغم.»

قالت لي نفسي: هيه يا رفيقي ... في حلو أيامي ومرها، امض فيما أنت قارئ، ولنجعل مصر نصب أعيننا فيما نقرؤه، اقرأ، قلت لنفسي: إن أروع ما يستوقف النظر، هو أن أبا الطيب، في هذه القصيدة، لا يفوته قط أن عظمة الإنسان الحقيقية، إنما هي في البناء، فإذا أقام إعجابه بشجاعة أميره في ذلك القتال الذي واجه فيه «الدمستق» وفرسانه في عشرات ألوفهم، فهو سرعان ما يشفع ذلك بالهدف البعيد الذي من أجله لجأ سيف الدولة إلى الحرب، وذلك الهدف البعيد، هو بناء المدينة التي كانت عامرة فدمروها، فانظري - يا نفسي - كيف بدأ هذا البيت بعبارة: «بناها فأعلى» قبل أن يذكر ما كان يحيط بذلك الجهد في عملية البناء: «بناها فأعلى، والقنا تقرع القنا، وموج المنايا حولها يتلاطم»، فإذا نحن عدنا مرة أخرى إلى اسم «سيف الدولة» فأسقطنا عنه السيف، لتبقى لنا الدولة، التي هي مصر، وجدنا الصورة التي نريدها فيما نخوضه اليوم مع العالم الذي نعيش فيه، فهو عالم يضطرنا اضطرارا، حين نمضي في جهود البناء الحضاري، الذي عرف بنا وعرفنا به آلاف السنين، أن ندجج أنفسنا بأقوى السلاح، الذي نريد له أن يكون من صنعنا، وابتكارنا، ومؤسسا على علمنا؛ لكي نواصل عملية البناء، حتى ولو كان «موج المنايا حولها متلاطم»، نعم، فسماء الدنيا امتلأت بجوارح الطير، «أحداثها والقشاعم» وهو طير لا يخشى شعوبا خلقت بغير مخالب ... أتذكرين يا نفسي - ذلك الشاعر الإنجليزي، الذي أدار البصر في «الطبيعة» فهاله أن يراها «ملطخة بالدماء نابا ومخلبا»؟ فقد فاته أن مجتمع البشر، في يومنا هذا على الأقل، قد بات ينافس الطبيعة ولوغا في الدماء!

إننا - يا نفس - نقرأ هذا الذي نقرؤه لأبي الطيب المتنبي، لنستمد منه روح الشجاعة، والهمة، والطموح، والأمل، والثقة بالنفس، لعلنا نبرأ مما أصابنا من شعور باليأس، والقصور، والهزيمة، ونبرأ قبل هذا كله من التفاهة، والصغار، والعبث اللاهي في ظروف تقتضي الجد والجهد وقوة البأس، والتسامي إلى أوج نحن به جديرون، لقد هزأ الشاعر بذلك «الدمستق» الذي اجترأ على مواجهة الأسد، فعجب كيف لم تسعفه حواسه فتنبئه بالهول الذي هو مقدم عليه، مع أن ريح الليث تشم من بعيد: «أينكر ريح الليث حتى يذوقه؟ وقد عرفت ريح الليوث البهائم»، ولنختم - يا نفس - لقاءنا مع المتنبي، بهذه اللوحة الرائعة، التي جلس فيها الظافر، ينظر إلى الأسرى من أبطال عدوه، موصيا - يا نفس - بأن توجهي انتباهك إلى أن الظافر في جلسته تلك، كان في جلاله متكافئا مع نصره، وجهه وضاح، وثغره باسم:

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى

إلى قول قوم أنت بالغيب عالم «العظيم» اسم من أسماء الله - جل جلاله - وهو اسم يحمل صفة المسمى به، وكان اسم «العظيم» في أول الأمر - كما يقول الإمام الغزالي في شرحه للأسماء الحسنى - إنما أطلق على الأجسام، ليدل على امتداد الجسم، في الطول والعرض والعمق (وليلحظ القارئ أن كلمة «عظيم» متصلة بالعظم في هياكل الأجسام)؛ ولذلك كان «العظيم» في مدركات البصر، هو ما لا يدرك البصر أطرافه، ومن هنا نقول عن المحيط إنه عظيم، وكذلك عن الصحراء وعن السماء بنجومها، وغير ذلك من امتدادات المكان، ثم انتقل معنى «العظيم» من وصف الأجسام التي لا يدرك البصر أطرافها، ليصف مدركات العقول والبصائر إذا تحقق فيها العمق والاتساع، ومنها ما تستطيع العقول الجبارة إدراكها، ومنها ما يستعصي إدراكه الكامل على الإنسان؛ وعلى هذا الأساس يكون العظيم من العباد، هو ما تعذر على عامة الناس إدراك أبعادهم وأعماقهم إلا بالدرس، وواضح أن عظمة الإنسان تقاس إلى من دونه من البشر، وأما عظمة الله سبحانه فهي لا متناهية ومطلقة.

قالت لي نفسي: ماذا أردت بهذا التحليل لمعنى «العظيم»؟! هل أردت أن تعلل انشغالنا بصغائر الأمور، بغياب «العظيم»؟ فأجبتها: إن ذلك جزء مما أردته، ولو اقتصر الأمر على غياب العظيم، لما كان الخطب فادحا؛ لأن حياة الناس منذ كان في الحياة ناس، لم تشهد عظماءها في كل عصر من عصورها، وفي كل شعب من شعوبها، بل كانت العظمة بمعناها الصحيح، كالشهب تسطع في السماء حينا بعد حين، ويظل وهج الشهاب هاديا للناس فترة طويلة بعد غيابه، قبل أن يسطع في سمائهم شهاب آخر، لكن فداحة الخطب في حياتنا الآن، هو في هذا الخمول الفكري الذي نحياه، يخيم علينا بوخمه فنتثاءب فيأخذنا نعاس، ثم ما هو أفدح، إذ يختلط علينا الأمر فنظنه عظيما من تشيطن فمشى على حبل مشدود مشية البهلوان، أو نعده عظيما من تكاثرت ملايينه في بلد يعد حصيلته بالقروش، فيأخذنا الذهول، ونهتف: ألا إنه لعظيم ... صنوف كثيرة من «الشطارات» يظهر بها أصحابها، وكل بضاعتهم سفاسف وتفاهات، فندرجهم في قائمة العظماء، فأين هذه السذاجة البلهاء، من المقياس الصحيح، الذي يضن بلقب «العظيم» على رجل مثل نابليون، قائلا: إنه مهر فيما لا يدفع بحضارة الإنسان إلى الأمام، قد محا ممالك وأنشأ أخرى، وخلع ملوكا وتوج ملوكا، ثم مرت الأعوام وعاد كل شيء كما كان، فكأنك يا زيد ما حاربت ولا غزوت، العظمة في العباد إنما تكون للأنبياء والعلماء والمبدعين لروائع الفن والأدب، وللمصلحين الذين تتحول بهم شعوبهم حالا بعد حال ...

إن لشكسبير حكمة مشهورة، يقسم بها العظمة بين ثلاثة رجال، إذ يقول ما ترجمته: «بعض العظماء يولد عظيما، وبعض يبني عظمته بيديه، وبعض ثالث تدفع إليهم العظمة دفعا» - ولست أدري من ذا قصد إليه في القسم الأول، فإذا كان قد أراد ملوكا يولدون ملوكا لأن آباءهم ملوك، فقد أخطأ لأن التربع على عرش الملك ليس - في ذاته - دليلا على عظمة، وإنما عظمة الإنسان فيما يقيمه لتتقدم به حياة الناس، والصواب فيمن يولد عظيما، هو الموهوب بفطرته في دنيا العلم والفن وإصلاح ما فسد أو ضعف من حياة الناس.

قالت لي نفسي وقلت لها: وهكذا ظللت آخذ منها وأعطيها، وقد بدأ حوارنا - كما رأيت - بتذكر صغير كبير، كبرت سنه، وعلا موقعه، ولم تزل حياته نسيجا من صغائر، ثم سار بنا الحوار مستهدفا - بنفحة من أبي الطيب المتنبي - أن نلهب العزائم حتى يولد العظماء ...

صانع الحروف

لقد دار الفلك بصاحبنا دورته، وجاءه اليوم الذي ينساه لأنه يخشاه، إنه في حياته يوم لا ككل يوم، إنه ينساه ليذكره، ثم يذكره لينساه، فهو من يومه ذاك كمن يحاوره ويداوره، لا يريد له الظهور فيظهر، إنه دون سائر الأيام يوم ذو لون وطعم ورائحة، ففي مثله بدأت القصة فصولها، والله أعلم أهي قصة في صفحاتها مأساة أم هي مسلاة وملهاة؟ إنه يوم يشبه أن يكون صورة مصغرة ليوم الحساب، ففيه يصر صاحبنا على أن يقيم لنفسه الموازين، لا عن عام واحد مضى، بل عن شريط أعوامه منذ كانت له أعوام: ماذا صنعت يا أخانا لتغير من حياة الناس؟ فلما أن طرح السؤال على نفسه هذا العام، كما كان يطرحه في موعده من كل عام، جاءه الجواب - ربما لأول مرة - بأنه لم يصنع سوى كلمات.

فلقد كانت حياته كلها كلاما في كلام، كالذي قاله هاملت عن نفسه، حين رآه من رآه وهو يقرأ كتابا، فسأله: ماذا أنت قارئ يا هاملت؟ فأجابه ساخرا: إنها كلمات، كلمات، كلمات.

كانت الحياة قد تأزمت بأبي الطيب المتنبي وهو في مصر، أيام كافور الإخشيدي؛ لأنه لم ينل من كافور ما جاء ليناله منه، فلما حل يوم العيد، نظم قصيدته التي هجا فيها كافور، ووجه إلى مصر عتابا لائما.

وقد بدأت تلك القصيدة بتوجيه خطابه إلى يوم العيد في نغمة مرة ساخرة: «عيد! بأية حال عدت يا عيد؟ ... بما مضى؟ أم - لأمر - فيك تجديد؟» والمتنبي ذو كبرياء، إذا وجد في حياته قصورا، فمحال أن يكون منه هو ذلك القصور، في سلوك الآخرين تجاهه، وأما صاحبنا الذي أروي عنه الحديث، فهو مهما بلغت به كبرياؤه، فإنها لا تبلغ حدا يلوم عنده الآخرين على ما يراه من قصور، إنه تقصير وليس قصورا، إن صاحبنا شديد القسوة على نفسه، إذ هو على اعتقاد جازم بأن الإنسان صنيعة أفعاله وأقواله، فإذا أخفق فقد أخفق لأنه لم يحسن الفعل والقول، ولا شأن في ذلك لأحد سواه، إنه العاجز هو الذي ينسب عثراته إلى سواه، ليست النجوم هي التي تملك للإنسان سعده ونحسه: «إن نجومنا - أي عزيزي بروتس - هي طي نفوسنا» كما ورد في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، وما تقوله في ذلك عن الأفراد، قل مثله عن الشعوب، فخائب الرجاء هو الذي قل عقله وضعفت عزيمته فانحدر وانهار، قال: إنها الصهيونية وإنه الاستعمار، فقلة العقل وخور العزيمة هما طي نفوسنا، أي عزيزي بروتس! ونقول ذلك عن كل من تعثرت قدماه فصرخ وقال إنها الظروف وإنهم الأشرار، حتى ولو كان القائل هو أبو الطيب المتنبي.

ذلك هو موقف صاحبنا من نفسه، كلما حاسب نفسه عن عام مضى، ولقد أخذ يقص علي كيف انتهى به الحساب يوم الحساب من هذا العام، فقال فيما قال، وفي سياق حديثه بأن «الكلمات» هي صناعته: إنه لمن عجب أن شيخوختي هذه ما تزال تحمل في إهابها كل مراحل عمرها، فهي تحمل الطفل الذي كانته، وتحمل المراهق، والشاب، والرجل المكتمل، فقد يخرج له الطفل من مكمنه ليلهو بالمزاح البريء، وقد يفاجئه المراهق بأحلامه الجامحة وعاطفته الملتهبة وحيرته بين طرق الحياة وأيها يسلك، وقد يتصدى له الشاب بآماله العراض، على ظن منه بأن المستقبل ما زال أمامه ممدود السنين، وقد يجيء إليه الرجل القوي الذي لا يعرف في عمله كللا ولا مللا، فكأن الجلد الشائخ في صاحبنا مجرد غطاء يخفي وراءه جمهورا متفاوت الأعمال ، وهو بهذه الصفة يصلح أن يكون مرجعا يركن إليه إذا ما أردنا مراجعة الحياة، كيف كانت في كل مرحلة من مراحل القرن العشرين! لكن تلك الشيخوخة - كما قال لي صاحبها - كثيرا جدا ما تضيق بهذا العبث من أولئك الصغار الرابضين لها في جوفها، فهي مكدودة مهدودة بفعل السنين، لا طاقة لها بلهو الطفل، وتهاويم المراهق، وطموح الشاب، وجهد الرجولة القوية، فتهم بأن تضع الشكائم وتشد اللجام، ليثوب هؤلاء الصغار إلى واجبهم إزاء جسد منهوك، ولكنها قد تخيب فيما أرادت، وكثيرا جدا ما تخيب، فصغارها هؤلاء لا يسهل أن يكبح لهم جماح، فعندئذ تأوي إلى فراشها لتنام ...

ومضى صاحبي في حديثه عن نفسه، فقال: ... وهذا هو ما قد حدث لي منذ بضعة أيام - هي أربعة أيام على وجه التحديد - عندما هممت أن أقيم لنفسي موازين الحساب عن عام مضى، وما سبقه من أعوام، فلما أن عبث بي الصغار على نحو ما ذكرته لك، ضقت بهم ذرعا وآويت إلى فراشي، وكانت الساعة مبكرة في أول المساء، فلم يأخذني النعاس، واسترسلت خواطري بغير قيد ولا ضابط، ولأمر ما كان أول ما خطر لي هو قصة «ألس في بلد العجائب»، و«ألس» هذه طفلة حملتها قدماها إلى نفق، فما هي إلا أن وجدت نفسها بين مجموعة من الحيوان رأت فيها عجبا، واستطرد صاحبي ليقول عن تلك القصة: إن ذاكرتي كثيرا ما تخون، فإن صدقت هذه المرة فقصة «ألس في بلد العجائب» التي هي الآن من عيون الأدب الإنجليزي - في أدب الطفولة - إنما كانت في أصلها حواديت حكاها عفو الخاطر أستاذ للرياضيات بجامعة أكسفورد، ولقد حكاها لأطفال أستاذ زميل له في الجامعات كان يسكن جارا له، وأحبه الصغار، فكانوا يلحون عليه كلما وجدوه، أن يحكي لهم «حدوتة»، فيطلق أستاذ الرياضيات العنان لخياله ويحكي، ومرارا ما سمعه والد الأطفال ذاهلا لتلك القدرة العجيبة عند زميله، ورجاه أن يكتب ما حكاه لينشر، وتحقق الرجاء فكان كتاب «ألس في بلد العجائب»، قال صاحبي: لأمر ما كان ذلك الكتاب أول ما ورد في تيار الخواطر المرسلة ...

وسرعان ما امتزجت قصة «ألس» في مخيلتي بقصة علاء الدين ومصباحه، من حكايات ألف ليلة وليلة، واندمجت القصتان معا في صورة واحدة، وجدتني على أثرها - وكنت ما أزال في يقظة مسترخية تنساب فيها الذكريات والصور، من حيث أدري ولا أدري - أقول: إني قد رأيتني وكأنما انحدرت بي قدماي إلى نفق، تماما كما حدث للطفلة «ألس» وكما حدث للفتى «علاء الدين»، لكن ما رأيته في عمق النفق لم يكن كالذي رأياه، إذ وجدتني في مدينة عامرة بأهلها ونشاطها، فهنالك الدكاكين المنوعة مصفوفة شوارع شوارع، وهنالك المصانع كبيرة وصغيرة، وهنالك دور اللهو رفيعة وخفيضة، وهنالك كل ما يجعل المدينة مدينة نابضة بالحركة والحياة، أخذت أطوف بها حتى استوقفني شارع الصناعات الصغيرة وهو شديد الشبه بخان الخليلي في القاهرة، هناك رأيت صناعات تطرق النحاس وأخرى تصنع التحف الخشبية الجميلة، وثالثة تصوغ الذهب والفضة، وهكذا، إلى أن وصلت إلى مصنع كتب على بابه أنه يصنع الحروف.

ومضى صاحبي ليقول: هنا وقفت طويلا، لأرى العاملين في مصنع الحروف وهم يصبون الرصاص المنصهر في قوالب تشكله على هيئة الحروف، ولكل حرف قوالب عديدة لتخرجه في صور مختلفة، فحرف الباء - مثلا - له صورة والباء مستقلة وحدها، وصورة وهي في أول الكلمة، وثالثة لها وهي في وسط الكلمة، ورابعة لها وهي موصولة بآخر الكلمة، ثم تختلف صورها كذلك باختلاف أحجامها منها الكبير والمتوسط والصغير.

هنا وقفت، لا لأطيل النظر إلى الحروف الرصاصية تخرجها القوالب أشكالا وأحجاما، فذلك على أية حال أسلوب للطباعة قد ذهب وانقضى! بل وقفت لأسترجع بالذاكرة فترة طويلة من حياتي وهي في أوج نشاطها، عندما كان الطريق بين بيتي والمطبعة هو «مشواري» كل يوم، رائحا وغاديا، أروح ومعي أصول كتاب جديد، أو مقال، وأغدو ومعي التجارب المصححة لأزيدها صحة بمراجعتها، فلم يحدث لي قط أن تركت كلمة واحدة بغير مراجعة ثم مراجعة للمراجعة، وكنت أوثر من عمال المطبعة «عم علام» ليتولى طباعة كتبي وقد عرف طبعي وعرفت طبعه ! وتلك أيام لم يكن يطوف لي فيها بخاطر أن ستأتي بعدها أيام أخرى لا أقرأ فيها ما أكتبه قبل دفعه إلى المطبعة، ولا أرجع شيئا مما طبع، ولا أظن أحدا يا صديقي (هكذا وجه إلى صاحبنا حديثه) لا أظن أحدا يستطيع أن يقدر كل التقدير، كم أشقى بحسرتي حين أراني وقد حيل بيني وبين ما أكتبه، ودع عنك ما يكتبه الآخرون ... لا علينا، فليس ذلك هو موضوعنا، فموضوعنا الآن، هو ما استثارته الحروف الرصاصية في مصنعها الصغير، من تأملات وأفكار ضاربة في حياتنا إلى أعمق جذورها.

تلك الحروف هي «أفكار» إذا هي رتبت بصماتها على الورق لتكون أفكارا لكنها مجرد قطع من الرصاص، لو بقيت مكومة في صناديقها، وليس الفرق كبيرا بين أن تبقى مكومة في تلك الصناديق وبين أن تنثر على الورق نثرا لا يحمل معه معنى، وحتى إذا هو حمل المعنى فمعناه هذا لا يحدث أثرا في حياة الناس كائنا ما كان هذا الأثر، ومثل هذه الحالة من بعثرة الحروف على الورق هي طريقة مألوفة في كثير مما نراه منشورا في الكتب والصحف.

الأصل في الكتابة بهذه الحروف وأمثالها، هو أن تجيء «التركيبة» المطبوعة صورة تصور للقارئ «صورة» لأشياء الواقع كيف وقعت، حتى لقد كانت الكتابة في عصورها الأولى تصويرا حقيقيا لما يراد تصويره، فترسم شجرة لتعني شجرة ويرسم عصفور ليعني عصفورا وترسم سمكة لتعني سمكة وشمس لتعني شمسا، وهكذا، وكان ذلك أيام لم يكن الإنسان قد وقع بعد على فكرة «الحروف» فلما أن تقدمت بذلك الإنسان حضارته وكثرت أشياؤه التي يريد أن يسجل عنها بالكتابة لم يعد في وسعه أن يشير إلى كل شيء برسم صورته، وبهذا نشأت في نفسه حاجة شديدة إلى مخرج من هذا المأزق، والحاجة - كما يقال لنا بحق - هي أم الاختراع، فهنا تفتق ذهنه عن الفكرة العبقرية التي هي أن يصور الأشياء، لا برسمها على نحو ما تراه العين منها، بل أن يصورها بما يرمز إليها، لكننا لو وقفنا بالأمر عند هذا الحد لبقيت المشكلة القديمة قائمة، إذ يتعذر أن يستوعب رموزا بعدد الأشياء استيعابا يمكن الأفراد من تبادل الأفكار؛ لأن هذا التبادل يقتضي أن يكون الكاتب والقارئ معا على اتفاق فيما يرمز إليه كل رمز على حدة، فما هي إلا أن أشرقت على الإنسان فكرة «الحروف»؛ لأن عددا قليلا منها يكفي أن يركب ويفك على عدد لا نهاية بحصره، فالأمر فيها شبيه بعلبة الألوان عند المصور، يكفيه أن يكون فيها الألوان السبعة الأساسية لكي يمزجها في تشكيلات لا نهاية لعددها، بحيث يستطيع أن يرسم على لوحته أي لون تقع عليه العين في دنيا الأشياء، ولتعلم أن اللون الأساسي الواحد - كالأخضر مثلا أو الأحمر - يمكن أن يجيء في دنيا الأشياء على ظلال متفاوتة قد تعد بالألوف، وهكذا الأمر في «الحروف» عند الكاتب فهو - كما قلنا - يفكها ويركبها، لتخرج له ألوف الألوف من التركيبات، التي هي مفردات اللغة ومركباتها، لكن هذا كله لا ينسينا الأصل الذي من أجله فكر الإنسان في حروف يستخدمها في عمليات «التصوير» لما شاء أن يصوره من عالم الكائنات، وهو العالم الذي يعيش فيه مع آخرين، يريدون أن يتبادلوا الكتابة والقراءة عن شئون دنياهم، وما معنى هذا في جملة واحدة؟ معناه أن الكتابة التي لا تدل قارئها على ما جاءت تلك الكتابة لتصوره، إنما هي حروف كومت على الورق، على نحو ما تكون حروف الرصاص في صناديقها.

ومع ذلك، فالمسألة فيما بين الكتابة ومدلولها ليست بهذه البساطة كلها؛ لأن الإنسان في ارتقائه لا تكفيه الأشياء التي في دنياه ليجعل منها شغله الشاغل، بل يضيف إلى تلك الأشياء المجسدة «أفكارا»، والأفكار كائنات عقلية وليست كالأشياء أقيمت من حجر وخشب وحديد، وإذا كانت الأشياء المجسدة تبلغ من الكثرة حدا يجاوز الحصر، فالأفكار في رءوس الناس أكثر منها عددا؛ لسبب واضح وهو أن الأشياء يحكمها أنها موجودة بالفعل، وأما الأفكار، فمنها ما هو مرتبط بتلك الأشياء القائمة ارتباطا مباشرا أو غير مباشر، ومنها كذلك ما هو أفكار عن «الممكن» الذي لم يوجد بعد وليس ما يمنع أن يوجد ذات يوم، فضلا عن الممكنات التي قد لا تجد طريقها إلى التجسد حتى أبد الآبدين ... هذه الأفكار كلها بشتى ضروبها قد يراد لها أن تكتب، ووسيلة كتابتها هي الحروف، فإذا كانت الحروف - كما قلنا - هي أدوات تصوير، قريبة الشبه جدا في أدائها لوظيفتها بمجموعة الألوان عند الرسام، فقد ينشأ عن قارئ سؤال: وهل يمكن تصوير الأفكار بمركبات الحروف، كما يصور الرسام منظرا ما بمزج الألوان؟ وجوابي (هذا ما تحدث به صاحبي إلي في غمرة انفعاله)، جوابي هو أن الفكرة المكتوبة إذا لم يتصورها قارئها، فهي ليست شيئا على الإطلاق، والذهن إذا تصور فلا بد أن يكون ثمة «صورة» يتصورها، هذا بالطبع إذا كان المتلقي متكافئا في قدرته مع المستوى الذي يتلقاه.

أعجب عجيبة في كائنات الدنيا بأسرها هي هذه الحروف، فالحرف الواحد منها وهو منفرد على حدة يكاد يستحيل على الإنسان أن ينطق به، فحاول - مثلا - أن تنطق بحرف الباء وحده، تجدك قد زممت شفتيك ولكن لا صوت، وأرجوك ألا تظن أن قولك «باء» هو نطق بالحرف وحده لأنك في هذه الحالة قد أضفت إليه ألفا وهمزة لتتمكن من النطق، لا، إن الحرف وحده يتعذر النطق به ما لم تضف إليه حركة ليست منه، ومع ذلك فهو إذا انضم إلى غيره من زملائه الحروف، ليكون كلمة أو جملة أصبح قوة أين منها قوة الزلازل والبراكين؟! فالحرب تستعر بكلمة، والحب يشتعل بكلمة، والعلم مجموعة كلمات، والأدب تكوينات من حروف ... ولا تقل: إن المهم هو ما وراء الحروف من حالات نفسية وأفكار عقلية؛ لأن تلك الحالات والأفكار ما كانت لتكون لها قوتها، بل ربما هي لم تكن لتثبت وجودها إلا إذا أسعفتها الحروف ... الكلمات نكتبها أو ننطق بها، هي الهدى وهي الضلالة هي العلم وهي الجهالة، هي الحب والبغض ... إنها هي الإنسان.

هل يعقل بعد هذا كله أن نجعل منها عبثا ولهوا نجريه على الورق؟ لقد نظرت إلى صف المصانع الصغيرة التي يقع بينها مصنع الحروف، وذلك فيما سرحت به في أحلام يقظتي (هكذا استأنف صاحبي حديثه معي) وسألت نفسي أمام مصنع النحاس: هل يعقل أن يشكل الصانع نحاسه ليكون «لا شيء»؟ وأمام صانع الخشب: هل يعقل أن يشكل النجار الخشب ليصبح «لا شيء»؟ وأمام صانع الذهب والفضة: هل يعقل أن يشكل الصائغ معدنه ليخرج به «لا شيء»؟ أليس صانع النحاس يصنع الأكواب والأواني والطشوت والأباريق؟ أليس النجار يصنع المقاعد والمناضد والصناديق والخزائن؟ أليس الصائغ يصوغ الأقراط والأساور والمدليات فلماذا لا يحذو حذوهم صانع الكلمات من الحروف؟ إن تكوين الكلمات والعبارات هو ضرب من صناعات التشكيل، ولا بد للتشكيل أن يخرج ما هو نافع في حياة الإنسان العملية والفكرية والوجدانية جميعا، ولقد حدث في ألمانيا الغربية منذ سنوات قلائل، أن أراد اتحاد الكتاب هناك الانتفاع بمزايا النقابات الصناعية، فقام بحملة قلمية ينادي فيها بأن الكاتب إنما هو «صانع» كلمات وعبارات يشكلها على نحو ما يشكل النحاس والحداد والنجار والصائغ مادته، وما دام الأمر هو صناعة وتشكيل إذن لا بد أن تتجه صناعة الكاتب نحو أن يقدم للناس ما يحيون به.

قلت لصاحبي: وهل ترى أقلام كتابنا سيالة بما لا ينفع الناس؟ فأجابني صاحبي - وقد اشتد انفعاله - نعم، إني أرى ذلك في كثير من الأحيان، لكن قولي هذا يريد ضبطا وتحديدا؛ لأن سؤالا هنا يجب أن يقام وهو: ما هو مقياسنا الذي نميز به ما ينفع؟ إذ قد ينطق الناطق بما هو أقرب إلى التخليط الذي يضر ولا ينفع، ثم يزعم لكلماته هداية ونفعا، وتحديد النفع مرهون حتما بالهدف، والنافع هو ما يكون خطوة تقرب السائر من هدفه، فإذا قلنا إن الهدف في سير الحضارات لا بد أن يكون - آخر الأمر - مستقبليا وجديدا ومتساميا بالإنسان في عمله وفي فنه، وفي معيشته، وفي إبداعه، وفي حقوقه وواجباته ... إلخ، كان حتما علينا أن نقيس صناعة الكاتب بما هي فاعلته نحو دفع الإنسان إلى ذلك المستقبل المأمول، وأزعم أن كثيرا جدا مما يكتبه الكاتبون يشد الناس إلى الوراء، أكثر مما يدفعهم إلى الأمام ... إن معظم ما كتبه حملة الأقلام منا في قرن كامل، لم يستطع أن يزحزح الجمهور في وقفته ليلفت وجهه في اتجاه عينيه، بدل أن يظل مشدودا إلى قفاه، فلئن كنا قد نجحنا في تغيير الأفراد من حيث هم أفراد ذوو مهن وحرف ومعرفة، فنحن يقينا لم نوفق إلى نجاح مثله بالنسبة إلى الجمهور مجتمعا، إذ ما يزال نكفيه إشارة بأصبع واحدة من رجل واحد أن انظر وراءك يا جمهور الناس، ليسرعوا إلى تلبية النداء ...

قال صاحبي: فلما أفاقت خواطري السارحة من أحلامي يقظتي، عدت فواجهت اليوم الموعود من كل عام، الذي أحاول دائما أن أنساه لأنني أخشاه، وأخشاه لأنه يوم تحاسب فيه النفس ذاتها ماذا صنعت؟ إنني رجل صناعته الحروف معلما وكاتبا؟ يجمعها ويفرقها، ثم يجمعها من جديد، لعلها تحمل إلى الناس نصيبها من رسالة التغيير والتجديد، فإلا تكن فعلت اليوم، فربما تحقق لها ذلك غدا أو بعد غد.

هؤلاء الآخرون!

لم أصدق «توم لاندو»، عندما قرأت كتابه منذ لا أدري كم من عشرات السنين، وكان كتابه ذاك عن فن التعامل بين الناس، وقد كنت استعرته من صديق أوصاني بقراءته، لم أصدقه حين وجدته لا يكف - صفحة من كتابه بعد صفحة - لم يكف عن التحذير من صعوبة التعامل مع الآخرين، وأن الأمر في ذلك ليس من البساطة واليسر الذي يظنه الناس، فهؤلاء الناس كثيرا ما يعيشون مع غيرهم، وهم على وهم بأن معاملة الآخرين تجيء مع الفطرة في سهولة وكأنها شربة ماء، إنها لو جاءت مع الفطرة لهان خطبها، فهي مع الحيوان تجيء مع فطرته؛ ولذلك قلما يعترك حيوان مع حيوان من نوعه، وحتى إن فعل، جاء اعتراكه أقرب إلى ممازحة اللعب فيها إلى جد القتال، كما نرى أحيانا بين القطط والكلاب، وأما أفراد الناس فشأنهم في التعامل بعضهم مع بعض عجب من عجب، إن النمر لا يضمر الشر بالنمر ثم يبدي له الصداقة ليلهيه، ولا الضبع يتودد إلى الضبع وفي نفسه ما في نفسه من كيد، وأما الإنسان فقد أفسد غرائزه الطبيعية - التي هي غرائز حيوانية في أساسها - أفسدها بما أضافه من «ثقافات».

ولأن ذلك هو الإنسان على حقيقته، أخذ «لاندو» يعرض على قارئه تحليلاته العلمية، وما استخرجه من قوانين وقواعد، هي التي يجب على من يريد لنفسه حياة هادئة آمنة، أن يهتدي بهديها، ولم أصدقه في كثير مما ذهب إليه من طبيعة الإنسان، وكيف أصدق تلك النظرة السوداء؟ وكان الله قد أنعم علي بمجموعة من الأصدقاء وجدتهم نعم الأصدقاء، نتنافس، نعم، ونتعاتب، نعم، ونتخاصم حينا بعد حين - نعم، لكن ذلك كله كان معنا كما لو كان الواحد منا ينافس نفسه، ويختصم مع نفسه، وحقا جاءت صداقتنا مصداقا لقول شكسبير: «الصديق مرآة لصديقه»، وبأي معنى هو مرآته؟ بمعنى أنه يرى حقيقة نفسه في انعكاس سلوكه على سلوك صديقه، وانظر إلى بلاغة اللغة العربية حين بثت صفة «الصدق» في كلمة «صديق»، فالصدق هو جوهر الصداقة وصميمها، فلا صداقة بغير أن يصدقك الصديق بما يكنه في نفسه، ومن هنا تحقق الصداقة للصديقين أن تتواصل النفسان حتى لتصبحا وكأنهما نفس واحدة، فتتسع الآفاق لكل منهما، وتغزر خبرة أحدهما بإضافة خبرة صديقه إليها، أما إذا أحسست فيمن ظننته أول الأمر صديقا، أنه يسمع منك ما تنفضه إليه من نفسك، ثم يكتم عنك ما في نفسه، فاعلم أنه لا صداقة بينكما، وأنه قد يأتي يوم يستخدم فيه ذلك الآخر ما كان سمعه منك عن حقيقة نفسك، بارودا يقاتلك به فيرديك صريعا، إذا استطاع، ولم يكن شيء من ذلك بيني وبين مجموعة الأصدقاء التي أنعم الله علي بها ونحن في مرحلة الشباب؛ ولهذا لم أصدق «توم لاندو» في نظرته السوداء.

لكن أعوام العمر أخذت تكر، وأخذت معها الخبرة بالناس تزداد، فكنت كلما ازددت خبرة بالناس مع تعاقب السنين، تنقشع السحب التي تحجب عني ضوء الشمس شيئا فشيئا، وشيئا فشيئا أحس كأنني «بالذاكرة أقرأ توم لاندو» مرة أخرى، وأقلب صفحة من كتابه بعد صفحة، فلقد صدقت رؤيته، وتبين لي كم هو ضروري أن يتدبر الإنسان كيف يتعامل مع الآخرين، ليظفر منهم بنعيم الصحبة، وينجو بنفسه من جحيم العداوة والعدوان، لقد ختم جان بول سارتر إحدى مسرحياته - ولعلها - مسرحية «الذباب» - بعبارة تقول: «لجحيم هي الآخرون»، لكنني أصحح عبارته تلك لأجعلها تقول: «جنة الإنسان وجحيمه على هذه الأرض هما هؤلاء الآخرون»؛ لأنهم - حقا - مزيج من جنة وجحيم.

وما لي أسافر بعيدا لأسقط ما قاله هذا وذاك، في وجوب العناية والحذر عند التعامل مع الناس، وعندي حديثان شريفان فيهما الإرشاد والتوجيه، أما أولهما فهو قوله: «الدين المعاملة»، وأما ثانيهما فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، وإننا لنكرر هذه الأحاديث الشريفة، ولكننا قل أن نقف منها موقف المتدبر لمعانيها، ففي القول بأن الدين هو المعاملة، إشارة هادية إلى أنه لو لم تكن المعاملة بين الناس عسيرة المأخذ، كثيرة العثرات، لما اقتضت أن تنزل من السماء ديانات لتنظيمها وهداية الناس في مسالكها، ولو كان أمرها مكفولا بالفطرة الغريزية وحدها، لما احتاج الأمر إلى وحي وتنزيل، والذي يدعونا إلى التفكير هنا هو الإنسان فيه ما في الحيوان من غرائز، فلماذا كان ما أنتجته تلك الغرائز عند الحيوان، ألا يأكل حيوان لحم أخيه الذي من نوعه، فلا يأكل النمر نمرا، ولا الضبع ضبعا، في حين أن الغرائز نفسها وهي عند الإنسان لم تهده هداية الحيوان؟ إنه لا بد - على ضوء هذه المقارنة - أن تكون العلة المانعة هي ما أضيف للإنسان فوق غرائزه من قدرة على التفكير والتدبير، فكانت تلك الإضافة نعيما وجحيما في آن واحد، وصدق الله العظيم في قوله عن النفس البشرية:

ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها

فالأداة واحدة، لكن استخدامها يختلف بين الخير مرة والشر مرة، ومن هنا لزمت الضوابط الخلقية لتقيد سلوك الإنسان، تقييدا يصرف ذلك السلوك في طريق الخير وحده دون طريق الشر، وذلك هو الدين، وأما الحديث الشريف الثاني الذي يقول في وصف المسلم الصحيح، بأنه هو من سلم الناس من لسانه ويده، فهو - إلى حد ما - يفصل ما أجمله الحديث الأول، بذكره الوسيلتين الرئيستين اللتين يستخدمهما الإنسان في التعامل مع الآخرين، فيهتدي إلى الصواب والخير مرة، ويزل في الخطأ والشر مرة أخرى، والوسيلتان: الفعل والقول، والقول إنما هو ضرب من ضروب الفعل لكن تختلف الصورة عندما يكون الفعل باليدين، وعندما يكون الفعل بنطق اللسان، وتستطيع أن تضيف إلى فعل اليد عملية الكتابة، وفي هذه الحالة يكون المسلم كاتبا بقلمه، أو متحدثا بلسانه، هو من كتب أو تكلم ليهدي لا ليضل الآخرين ... ولولا أن الإنسان في جبلته من القدرة على التفكير والتدبير، ما قد يتوجه بهما نحو الوقيعة والغدر، لما احتاج الأمر إلى آيات قرآنية كريمة ترشد، وإلى أحاديث نبوية شريفة تنبه الغافلين.

اختلفت خبرتي بالآخرين بين مرحلة شبابي، ومرحلة ما بعد ذلك، رأيت في المرحلة الأولى ما كان في ظني صفاء ونقاء برغم ما يجيء ويذهب من قطع السحاب، ووجدت فيما بعد ذلك رجحانا للغدر والوقيعة، ولأنني نشأت على طبع يجبن دون المصارعة والقتال، ويسبق إليه تصديق الآخرين، قبل تكذيبهم، كنت الفريسة في حلبة التعامل مع أولئك الآخرين تسع مرات من كل عشرة لقاءات توهمت فيها صداقة في صدقها وإخلاصها، وكثيرا ما أقدم العزاء لنفسي، بأن أذكرها بموقف للراهب الفيلسوف «توما الأكويني» - وكان أعظم من شهدته أوروبا من فلاسفة في عصورها الوسطى - فقد كان سريع التصديق لما يقوله الآخرون إذ كان يغلب عليه الظن ... بخيرية الإنسان وطيبة عنصره، فحدث يوما أن ضحكت عليه جماعة من زملائه الرهبان، وكانوا قد عرفوا فيه تلك البساطة البريئة، فصاحوا به قائلين: أسرع يا توما لترى تلك الأبقار الطائرة بأجنحة في جو السماء، فأسرع توما إلى حيث وقف زملاؤه عند النافذة، ونظر إلى السماء، فقهقه الزملاء سخرية بسذاجته، وهنا نظر إليهم توما في هدوء ثم قال: علام الضحك؟ فلأن أصدق بأن أبقارا تطير، أهون على نفسي من أن أرى رهبانا يكذبون!

ذلك هو الإنسان الذي خلقه الله ذا نفس ينفتح أمامها طريق الفجور كما ينفتح طريق التقوى، ولها أن تختار، وعليها تقع التبعة فيما اختارت، وإذا استثنيت جان جاك روسو، الذي كتب ليقول إن الإنسان إذا نشأ على فطرة الطبيعة، جاء ذا نفس طيبة بخيرها خيرا لا تمازجه شرور، وإنما الحضارة هي التي أفسدت عليه طبيعته، فكان من خبثه وشره، ما كان، أقول: إنك إذا استثنيت روسو، وجدت الأعلام فيمن تناولوا طبيعة الإنسان بالتحليل، قبل أن يخرج من حياة الغابة، ليدخل في حضارة تتلوها حضارات، وجدت هؤلاء الأعلام يجمعون على أن الفرد من الناس، كل فرد، هو عدو للآخرين عداوة إذا هو أخفاها في تعامله مع هؤلاء الآخرين، فإنما يخفيها حتى يحين له الحين، فينقض على فريسته، وأحسب أن أوضح وأعمق من نقرأ لهم في بيان الطبع الإنساني على حقيقته العارية، هو توماس هوبز في كتابه «التنين الجبار».

ولا علينا من ذلك كله - صدق أو كذب، اقتصد في القول أو أسرف - فالذي همني عندما بدأت هذا الحديث، هو خاطر خطر لي في صورة سؤال، عندما أخذت ذاكرتي - كعادتها - تلف أمامي مواقف حياتي خلال مراحلها، فكان ما عرضته علي هذه المرة، تلك المقارنة بين خبرتي مع أصدقاء الشباب، وخبرتي مع أصدقاء ما بعد ذلك، وهنا خطر لي الخاطر في صورة سؤال يسأل: أهو اختلاف بين المرحلتين في حياتك أنت، أم هو يا ترى اختلاف بين مرحلتين في حياة الشعب كله؟ فبينما كانت ضوابط التعاون في المرحلة السابقة راجحة في ميزان التعامل، انحلت هذه الضوابط في مرحلته الراهنة، فانطلق مع الطائر جناح الفجور وانخفض جناح التقوى، وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد للظاهرة من تعليل؛ لأنه تناقض يلفت النظر بين أن تشتد الدعوة الدينية كما لم تشتد في أي يوم شهدته، فيما مضى، وبين أن يعنف الصراع بين أفراد الشعب، كما لم يعنف في أي وقت مما وقع لي في خبرتي، وربما كان الأمر في هذا قد اتسع حتى شمل العالم كله، ونحن جزء منه، لا فرق بين شعب وشعب، ولا بين دين ودين، فالمسلم يقاتل المسلم حتى الموت، والمسيحي يقاتل المسيحي حتى الفناء.

إنه لمن أغرب النقائض في عصرنا، أن تبلغ الدعوة إلى التآخي بين الشعوب وبين الأفراد ما لم تبلغه خلال التاريخ الماضي كله، وأن تهبط علاقات الإخاء بين الشعوب وبين الأفراد إلى حضيض لم تهبط إلى مثله خلال التاريخ الماضي كله أيضا، فنحن في عصر تعاقدت الأمم فيه على أن تلتقي في جمعية متحدة، وأحسب أن لقاءات تلك الجمعية منذ نشأت في أول لقاء لها سنة 1946 - بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية في صيف 1945، أقول إني أحسب أن لقاءاتها منذ ذلك الحين، ومؤتمراتها، ولجانها ومطبوعاتها ومحاضرها لا تستطيع حصرها إلا الأجهزة الإلكترونية الحاسبة، ومع ذلك تشعبت الأمم أكثر جدا مما اتحدت، فقد انقسم الشعب على نفسه شرائح، تريد كل شريحة منه أن تستقل أمة وحدها، مهما صغر حجمها وقل عدد سكانها، ثم تنافر الأفراد حتى في الشريحة الواحدة من الشعب الواحد، حتى لكان كل فرد بات يتمنى لنفسه أن يكون دولة وحده وانسدت في حياة الناس قاطبة طرق التفاهم، فالمتكلم لا يكلم سامعا، وإذا أنصت له السامع جعل يفكر في دخيلة نفسه وهو يسمع، كيف يرفض وينقض هذا الذي يسمعه قبل أن يسمعه! ولا عجب - إذن - أن ينشأ في عصرنا ويشيع ما أسموه بالأدب اللامعقول، أو أدب العبث، الذي جاء هو - وكثير غيره من الفنون - انعكاسا لعدم التفاهم السائد في عالم اليوم، وفي الأدب العربي المعاصر مشاركة في تلك الموجة شارك بها توفيق الحكيم بمسرحيته «يا طالع الشجرة».

لقد أصابنا نحن من تلك الحمى المجنونة شرر وشر، فتعثر التفاهم وتعسر وتعذر؛ لأن مصالح الأفراد والجماعات تباعدت وتنافرت، ويكتب الكاتبون ويذيع المذيعون، ويعظ الواعظون، ويعلم المعلمون، فلا تتحرك في الأبدان شعرة لأنه إذا تعددت أهداف المواطنين بحيث لا تلتقي، فإنها لا تتحد وتلتقي بكلمات تكتب وتقال، ولكنها تتحد وتلتقي في اقتلاع الجذور التي أنبتت فروع الخلاف، افتح عينيك جيدا ترى في تعالي بعضنا على بعض عجبا، إننا نتصارع على درجات السلم، نتدافع ونتدافع بالأذرع والأرجل، فيصعد منا من هو أقوى وأمهر ، ويسقط منا من هو أضعف بنية، وأضيق حيلة، ولا علاقة قط في ذلك الصعود والهبوط بالمواهب والقدرات، ولكن ماذا تصنع القدرات والمواهب أمام قوة السلطان في أيدي الصاعدين؟ فإذا ما استقر الصاعد والهابط كل على أرضه، رأيت لعبة غريبة يلعبونها في صمت: فالهابط يحاول أن يكتسب شيئا من رائحة النجاح، فيتقرب من الصاعد، والصاعد بدوره يبعده، بالسياسة والكياسة، آنا، وبالمصارحة القاسية الجارحة آنا آخر، حتى لا يقترب منه فيظن الناس أنهما تقاربا مكانا فتقاربا مقاما، الحق أني لم أشهد في أي بلد آخر من الدنيا التي خبرتها، من ينافسنا في لعبة المسافات، وكان من أشد ما رأيته إثارة لدهشتي، أن رأيت ذات يوم في بلد ما وزيرا وساعيا يقفان في طابور واحد، وفي المكان الذي يعملان فيه، وقفا انتظارا لدورهما ساعة الشاي بعد الظهر، وكان الساعي أسبق من الوزير في صف الانتظار، فلا تململ الوزير من موقعه، ولا عرض الساعي أن يترك موقعه، وأذكر أني بنيت على تلك الواقعة مقالة صورتها في صورة أدبية، وقلت عندئذ - وكان ذلك في أواسط الأربعينات - إن مأساتنا الحقيقية فيما يتصل بمعاني الديمقراطية والمساواة ليست في أن الوزير يتعالى على الساعي ومن إليه من جمهور الناس، بقدر ما هي في القلق الذي يصيب الساعي ومن إليه إذا رأى نفسه وقد وضعته المصادفات في مواقف المساواة مع الوزير.

ومرت بعد تلك الواقعة أربعون عاما، وتغيرت مواقع الأفراد، وارتفع من ارتفع وانخفض من انخفض، لكننا مع ذلك احتفظنا بالطابع القومي في لعبة المسافات، ثم أضافت إليها في هذه المرحلة الزمنية التي اضطربت لها الأوضاع في سائر أنحاء العالم - ونحن جزء منه - أن صار أفراد الشعب الواحد وكأن كل فرد منهم قد انفرد وحده في برج مغلق، لا شأن له بسواه، وإن صورة برجية كهذه كان قد تصورها «ليبنتز» (القرن 17) وهو يتصور حقيقة الإنسان، أو على الأصح، وهو يتصور طبيعة الكائنات الحية جميعا، إذ تصور أن كل كائن حي إنما هو في حقيقته كيان منطو على نفسه، ومستقل عمن سواه وعما سواه، فهو يشبه أن يكون في برج مسدود ليس فيه نافذة تنفتح على أي شيء مما حوله، وسيرة حياته تتم بأن ينبسط ما هو منطو في البذرة التي أنشأته، ويظل ذلك المنطوي من حقيقته ينبسط شيئا فشيئا حتى يتم سيرة حياته، ثم يذبل ويموت، فكأن الكائن الحي يعيش وحده في هذه الدنيا، وليس له إلا ما هو مضمر في بذرته، فهو في ذلك أشبه بشريط سجلت عليه قصة، أو مسرحية، وأخذ الشريط يبسط من نفسه ما انطوى، جزءا جزءا، فإذا ما بلغ نهايته، انتهت مع نهايته القصة أو المسرحية المسجلة عليه.

لكن هذا التصوير الذي قدمه «ليبنتز» لطبيعة الكائنات الحية، بما في ذلك أفراد الإنسان، يختلف اختلافا بعيدا عن أبراج اليوم التي يسكنها الأفراد لينعزل كل منهم في برجه عن الآخرين، وموضع الاختلاف بين الحالتين هو أن ليبنتز أكمل صورته بأن أضاف إليها أن رعاية الله وعنايته، أرادت للأفراد أن تتناسق الحياة بينهم، برغم انفراد كل فرد عن بقية الأفراد، فيتحقق بذلك اتحاد خطوات السير، وكأنهم يتجاوبون بعضهم مع بعض عن وعي منهم وإرادة، ثم أخذ ليبنتز يسوق تشبيهات جميلة يبين بها ما يعنيه، فقال في تشبيه منها، إن الأمر في حياة الأفراد وتناسقها برغم انعزالهم، كل في برجه المغلق، يشبه فرقة موسيقية لكل فرد منها آلته الموسيقية الخاصة، وقد وضع كل منهم في غرفة وحده، ثم ضبط لهم التوقيت، فبدءوا العزف، كل على آلته الخاصة، فنشأ عن مجموعهم سيمفونية موحدة، دون أن يكون أي مهم على علم إلا بالدور الذي أداه والرابطة التي ضمنت هذا التناسق بينهم، هي اشتراكهم في مدونة «نوتة» موسيقية واحدة، وتلك المدونة المشتركة هي التي تقابل عناية الله ورعايته.

وأما الأبراج البشرية التي تتحرك على مسرح حياتنا اليوم، والتي انعزل في كل برج منها فرد عن بقية مواطنيه، ليطلق لنفسه العنان فيما يفعله وما لا يفعله، بلا رقيب عليه ولا حسيب، فهي أبراج لا تعزف على مدونة موسيقية واحدة، ولا عليها أن يصدر عنها خليط صوتي نشاز.

وتشبيه جميل آخر ساقه ليبنتز لتوضيح رؤيته لحقيقة الإنسان، كيف كانت لكل فرد من الناس فرديته الكاملة؟ وكأنه يقيم في برج مغلق لا نافذة في جدرانه تنفذ إلى العالم الخارجي من حوله، ومع ذلك فهنالك تناسق كامل بين مجموعة الأفراد، وهي مشكلة يستند في حلها إلى تناسق منذ الأزل، دبرته عناية الله ورعايته، وذلك يشبه ألوف الألوف من «الساعات» الدالة على الزمن، يحملها أفراد الناس، وكل ساعة منها مستقلة وحدها عن سائر آلات الزمن، فكيف أمكن لهذه الآلات المتفرقة المتباعدة أن تتفق كلها على قياس الزمن على صورة واحدة؟ الجواب هو أنها استطاعت ذلك؛ لأن صانع الساعات صنعها على تكوين إرادة لها، في تروسها وسائر أجهزتها بحيث تتحرك كلها في موازاة لا خلل فيها، وهكذا أيضا تكون رعاية الله وعنايته لأفراد الناس.

وقياسا على هذا التشبيه، أقول: إنه إذا كان المثل الأعلى في حياة المجتمع الإنساني وأعضائه، هو أن يكون للفرد حريته الكاملة في تطوير حياته بما يتفق مع استعداداته الطبيعية، شريطة أن يجيء نموه متناغما مع سائر الأعضاء ونموهم، إذن فالظاهر في مجتمعنا اليوم، أن الأفراد قد حملوا ساعات مختلفة في سرعاتها وفي اتجاهات سيرها، فبعض الأفراد قد حملوا ساعات تشير إلى الزمن بما يسمونه التوقيت العربي، وبعضهم يحملها أفرنجية التوقيت، وبعض ثالث جعلوا ساعاتهم على توقيت صيفي، وبعض رابع اختاروا التوقيت الشتوي، وهكذا، فإذا سألت جمعا منهم: كم الساعة الآن؟ جاءتك إجابات تتراوح بين الواحدة والثانية عشرة، وهكذا انسلخ كل فرد منا ليعيش في سبيله، سائرا به نحو هدفه، وليس السبيل متفقا عليه مع سواه، ولا الهدف نفسه هو ما يستهدفه سائر أفراد المجتمع.

لقد كنا ذات يوم قريب، نصب اهتمامنا على التفكير في تشخيص العلة التي أصابت المصري في المرحلة الأخيرة، من تاريخه، بحيث اختفت عنه صفات كان متميزا بها، ومنها تعاونه التلقائي مع أهل أسرته وقريته أولا، ومع أبناء وطنه بصفة عامة، وكان لكاتب هذه السطور رأي أبداه وهو أن العلة الطارئة على المصري في علاقته مع وطنه ومواطنيه، أساسها ضعف شديد في إحساسه بالآخرين، فتراه يتصرف وكأن لسان حاله يقول: وهل هناك آخرون؟ على غرار ما قاله «بلفور» حين رسم خريطة وهمية لفلسطين، التي كانت عندئذ (1917) تحت الانتداب البريطاني، وكان بلفور وزيرا في الحكومة البريطانية، وأراد أن يعلن وعده المشهور لليهود بوطن على أرض فلسطين، فرسم تلك الخريطة التي أشرنا إليها ليبين عليها كيف يكون التقسيم، فسأل من عرض عليه خريطته تلك: وأين يذهب سكان هذه المنطقة التي حددتها وطنا لليهود؟ فأجابه: وهل هناك سكان؟! سؤال استنكاري يثير الدهشة والغضب ...

لم يعد المواطن المصري - لظروف طارئة - يحس بوجود «الآخرين»؛ ولذلك فهو لا يحسب حسابهم، إذا ما خطط لنفسه طريق حياته، حتى يصطدم اصطداما فعليا بهؤلاء الآخرين، لأن كل واحد منهم - بدوره - قد خطط لنفسه طريقا للحياة، لم يوضع في ميزانها أن هنالك على أرض مصر أناسا آخرين، ونتج عن هذا الموقف الشاذ أن هبط التعاطف الحقيقي بين المواطنين، بعد أن كان ذلك التعاطف أقوى سمة تميز المصري في علاقته بوطنه.

ويلفت النظر أن ذلك الموقف مزدوج الاتجاه، فبينما الفرد من ناحيته يدير ظهره نحو المجتمع ليتصرف وكأنه لا مجتمع، ترى ذلك المجتمع هو الآخر قد شاعت فيه روح سلبية نحو أبنائه، فهو لا يأبه لأي فرد من هؤلاء الأبناء، يغض النظر عنه إذا احتاج إلى مؤازرته وكأن ذلك الفرد المهمل ليس واحدا من أبنائه، أو هو يهاجمه ويقلل من قيمته علنا، وكأن قيمة المجتمع ليست هي حاصل جمع القيمة في أفراده، ومع ذلك كله، فبين مصر وأبنائها من الجذب ما قد يدهش له الغرباء، فلئن كان «الآخرون» الآن هم لفرد منهم جحيمه، بما يحاولونه لهدمه وخفض قدره، فهم هم الجنة ونعيمها ...

فعل الزمن

دق الهاتف، فلما استجبت سمعت زميلا أعرفه، وأعرف أنه يهاتفني آنا بعيدا بعد آن بعيد.

قال: لم أسمع صوتك منذ زمن طويل، فكيف حالك؟

قلت: حالي في هذا الصباح عجب من عجب.

قال: وكيف ذلك؟

قلت: يا أخي كأنما الدنيا تجمدت حولي، وترفض أن تدور دورانها المألوف.

قال ضاحكا: اشرح.

قلت: ذبلت الزهور على حداثة عمرها، ولم يبق منها إلا أنفاس خافتة من عطرها، وأبى المفتاح أن يفتح بابه لأننا تركنا الباب مغلقا لفترة من الزمن، وأخرجت من خزانة الأوراق وثيقة أردت الاستعانة بها في أمر هام، فوجدتها قد اصفرت مع طول الزمن، وجفت حتى أوشكت أن تتمزق بين أصابعي، بل إنها قد تمزقت بالفعل عند ثنياتها، فلما أخذني الضيق، عزمت على الخروج لأتنفس الهواء الطلق، بعد أن قضيت أياما بين الجدران، وهم السائق بإدارة مفتاح السير، زمجرت السيارة زمجرة سمعت فيها صوت الغضب والرفض، وأبت أن تسير، ولقد عدت إلى بيتي فسمعت دقات الهاتف ...

قال: وفيم العجب يا صديقي من كل ما ذكرته؟ إنه الزمن وفعله في الأحياء والأشياء.

قلت: نعم إنه الزمن وفعله، عبارة نقولها مصدقين، ثم نرفض أن نحيا ذلك المعنى، الذي صدقناه.

قال: آه! إنك في قولك هذا قد أمسكت بطرف خيط طويل، فأنا أعرفك وأعرف مراميك ... لكن الهاتف لا يسعف، فهل لديك ما يمنع قدومي إليك ليتسع بيننا مجال الحديث؟

قلت: أبدا، أبدا، تفضل على سعة ورحب.

وجاءني الزميل، ثم ما هي إلا بضع دقائق قضيناها في تحية نتبادلها، حتى عدنا بحديثنا لنبدأ من حيث انتهينا على الهاتف، فقال الزميل: لماذا أخذك العجب من أحداث جاءت كلها نتائج طبيعية لما يفعله الزمن بالأشياء؟ الأزهار تذبل وتموت كما تذبل وتمرض الأحياء بكل أنواعها لتموت، والمفتاح يبطل فعله إذا لم يواصل عمله، وكذلك تفعل السيارة إذا تركت، وهو ما يحدث للآلات بشتى أنواعها، بل إنه ليحدث للقلم إذا تراخى الكاتب ولم يواصل الكتابة، إنما يصدأ المخ، ويتبلد العقل، وتتجمد الأفكار كما يحدث للماء في صقيع الشتاء، وانظر إلينا - أنت وأنا - لترى كيف تغضنت جلودنا، وتثلمت حواسنا، فلا العين تبصر كما كانت، ولا الأذن تسمع، ولا اللسان يفرق بين الطعوم، فلم يعد الحلو على حلاوته التي كانت، ولا المر على مرارته، أترانا نضحك كما كنا نضحك، أو نبكي كما كنا نبكي؟ ألم تتحول القهقهة إلى ابتسامة، كما جفت دموع الحزن فلم تعد تسيل، ليتحجر الحزن في صدورنا فلا ينصرف ولا ينزاح؟ لقد فترت العاطفة يا صديقي من همود القلب، وخمدت الشعلة مع الإحباط، ووهنت العزيمة مع تراكم الهموم ... إنه الزمن وفعله كما ترى، إن في بيتي سلما ذا درجات عشر، كنت أقفز فوقها قفزا كلما انتقلت من الطابق الأعلى إلى الطابق الأسفل، أو صعدت من الأسفل إلى الأعلى، فانظر إلي الآن كيف أهبط أو أصعد درجة درجة، متكئا على حاجز مثبت فوق الحائط، وأحس كأن الدرجات العشر قد باتت مائة، وأن المسافة بين الدرجة والتي تليها قد ضوعف مقدارها ... إنه الزمن وفعله، وإنك لتعلم ذلك ففيم كان العجب؟

أجبته - وبدا عليه أنه سيترك لي حبل الحديث بلا حوار - أجبته قائلا: نعم إني لأعلم ذلك، لكن المسافة بعيدة بين الحقيقة المعينة يعرفها الإنسان، وبينها هي نفسها وذلك الإنسان يحياها، إن الزمن ليفعل الأعاجيب بالكائنات، فيحكى أنه في ماضي الكون السحيق، انتثرت من لهب الشمس قطعة صغيرة، فاستقلت وحدها، لكن بقي انتماؤها لأمها الشمس ظاهرا في دورانها حولها، ثم بردت مع الزمن الطويل تلك القطعة النارية المنسلخة، فإذا هي هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش فوق سطحه، نزرع، ونصنع، ونتكاثر حتى تضيق بنا موارد العيش، فنشعلها حروبا يقتل فيها بعضنا بعضا. ثم يحكى أنه قبل أن تبرد تلك الكتلة التي تمردت على أمها الشمس فانفصلت، عادت قطعة منها تتمرد بدورها فتنفصل، ولا يبقى من ولائها لأمها (الأرض) إلا احتفاظها بالدوران حولها، فكانت تلك القطعة، التي بدأت - كأمها - نارا ثم بردت بفعل الزمن، هي القمر الذي لبث يسبح في الفضاء وحيدا صامتا لا يؤنسه في وحشته حي ناطق، حتى صعد إليه إنسان هذا العصر بجبروت علمه، وسار على صخره وترابه، نعم يا أخي، إنه الزمن وفعله، وهل بقيت أرضنا على حالها التي كانت عليها عندما بردت قشرتها وصارت «أرضا»؟ كلا، إنها لبثت تظهر من مادة جوفها صنوفا شتى تفاوتت من خسيس إلى نفيس، ومن نفائسها أن صنعت ماسا وذهبا وأحجارا أسميناها نحن بعد ذلك أحجارا كريمة؛ لندرتها وكمال صنعها ... أتدري ماذا كان الخاطر الذي طاف برأس كيميائي عربي عظيم، هو جابر بن حيان، عندما أراد أن يخرج ذهبا من نحاس؟ إنه سأل نفسه: إذا كانت الأرض قد استطاعت على مر الزمن أن تصنع من مادتها الجوفية ذهبا، فهل يستحيل على الإنسان أن يدرس الخطوات التي سارت عليها الأرض حتى أنتجت ما أنتجته، ثم يسير تلك الخطوات نفسها لينتج النتائج نفسها؟ لكنه إذا أفلح في بلوغ الهدف، كان الفرق بينه وبين ما فعلته الأرض بمادتها، هو أنه استطاع أن يختصر الزمن الذي تتحقق فيه تلك النتائج؛ إذ لا بد أن تكون الأرض قد أنتجت ذهبها في ملايين السنين، أما الإنسان الكيميائي (أو السيميائي كما يريد علماء الكيمياء المحدثون أن يسموا أسلافهم ليفرقوا بين أهداف السيميائي فيما مضى، وأهداف الكيميائي في الحاضر) أقول: أما الإنسان فلا بد له أن يختصر الزمن لينتج الذهب في أقل من عمر رجل واحد.

نعم، هذا هو الزمن وما يفعله، مسرعا حينا ومبطئا حينا، وذلك بحسب ما تقتضيه الحال، فيحكى أن الشمس الجبارة القاهرة، التي كانت قد حملت الناس في قديم الزمان - حملتهم بجبروتها المشتعل - على أن يعبدوها، حتى جاءتهم من الله الهداية فاهتدوا، أقول: إنه لمما يحكى عن الشمس على ألسنة طائفة من العلماء، أنها وهي تغمر الفضاء بحرارتها، فإنما هي تفقد مخزونها قطرة قطرة، وشعاعا شعاعا، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، وألف ألف عام بعد ألف ألف عام، إلى أن يأتي يوم تتساوى فيه الحرارة في أجزاء الدنيا جميعا، فلا يعود هناك جزء أشد حرارة من جزء آخر، وعندئذ لن يكون اختلاف في الحرارة بين شمس وأرض، فتقف الحركة وتهلك الحياة، فاختلاف الحرارة بين شمس وأرض، هو الذي يبخر الماء سحابا، وينزل من السحاب ماءه مطرا على اليابس فينبت النبات، ويشرب الحيوان ويأكل ... كل ذلك ينتهي، هكذا تحكي لنا طائفة من رجال العلم ، وأظن أن طائفة أخرى قد تحوطت فقالت: إن حركة النار في جسم الشمس تعود فتولد حرارة قد تعوض ما كانت بعثرته في أرجاء الفضاء، فإذا فرضنا صدق الحساب عند الطائفة الأولى، ألا تنبعث منا آهة تتساءل في عجب: من ذا يصدق أن امتداد الزمان قد يبلغ بفعله كل هذا المدى؟ وإن مناسبة هذا الحديث لتغريني أن أروي لك عن موقف للشاعر عبد الرحمن شكري، الذي كان زميلا للعقاد والمازني في اتجاه شعري واحد، وذلك أن عبد الرحمن شكري كان قد دفعه شيء من اليأس إلى التزام داره بالإسكندرية، لا يغادرها قط، وامتنع عن جمع مجموعة كبيرة من شعره لم يكن نشرها، فذهب إليه صديق، وسأله: لماذا يتردد في نشر شعره وإنه لشعر جدير بالبقاء؟ فابتسم له الشاعر ابتسامة ساخرة وتمتم وهو يشير بإصبعه إلى أعلى، وقال: بقاء؟! إن للشمس يوما تبرد فيه فتزول، وسبحان من له وحده البقاء.

على أن الزمن - يا صديقي - كما يهدم ويمحو، فهو يبني وينشئ، إنها دورة عجيبة تتناول الأحياء والأشياء والمواقف والحضارات وكل ما يخطر لك ببال، فمع مر الزمن ينمو الطفل رجلا أو امرأة، ومع مر الزمن كذلك ينحدر الإنسان إلى شيخوخة فموت، وعلى تعاقب الأعوام تنهض أقوى الحضارات بأسا وأغزرها علما وفنا، وعلى تعاقب الأعوام كذلك، يضعف ما قد كان قويا حتى يزول، وربما كان في مستطاع الإنسان - بقوة إرادته، وتقدم علمه ورفعة فنه - أن يدوم حينا من الدهر فيزداد قوة وازدهارا، ويظل في صعوده أمدا قد يطول، إلا أن شيئا هاما في طبيعة الزمن يبقى ولا حيلة للإنسان فيه، وهو أن الزمن كالحياة - يسير في اتجاه واحد لا يقبل الرجوع، فمع مر الزمن تصير البذرة شجرة، ومحال على الشجرة أن تكر راجعة لتعود إلى البذرة التي كانت، على أنها تنتج بذورا، كل بذرة منها يمكن أن تنبت شجرة من نوعها، لكن هذه الشجرة التالية هي كائن جديد.

ولقد اختلفت الثقافات عند الشعوب المختلفة في نظرتها إلى العلاقة بين الإنسان والزمن، وإنه لاختلاف يشمل فيما يشمله، فكرة الناس عن الثبات والتغير: فما الذي يجب أن يبقى ثابتا من جوانب حياتهم، وما الذي يجوز أن يتغير؟ وعند هذا السؤال يبرز الفرق واضحا بين السلفي الذي يفتنه الماضي فيثبت عنده، والمستقبلي الذي ينجذب إلى أمام، فإذا هو أيقظ في نفسه شيئا من ماضيه، فإنما يفعل ذلك ليستعين به على قوة الوثبة نحو غد وبعد غد، فالسلفي إذا تطرف، أميل إلى أن يدرج كل أوجه الحياة فيما يجب أن يبقى ثابتا، فلا فرق عنده بين ماض وحاضر، كأنه واقف عند نقطة معينة، والزمن أمامه كالنهر الذي لا يرى أين نبع وأين ينتهي، أي أنه يخرج نفسه من التيار ليقف على شاطئ النهر متفرجا، وأما المستقبلي - إذا تطرف - فهو أميل إلى أن يرى أوجه الحياة جميعا مما يجوز أن يتغير، فليس هناك ما هو ثابت بالضرورة وبحكم المبدأ، وإنما كل شيء مرهون بأحداث الزمن، وإننا لنحمد الله حمدا كثيرا، أن هنالك بين الطرفين فريقا ثالثا، هو الذي تعقد عليه آمال الناس - غالبا - بأن يمسك بزمام الحياة لتتقدم، مبقية من تلك الحياة على ثوابتها، ومغيرة منها ما لا بد له أن يتغير مع الزمن.

إن في «القدم» شيئا يبهر، ولا بد لنا من وقفة قصيرة هنا قبل المضي في الحديث، أقول: إن بقاء الشيء المعين على مر الزمان الطويل، يكسبه عظمة ووقارا، حتى لقد أصبح مجرد القدرة على الصمود في وجه أحداث الزمن، قيمة في ذاته، فقد يخرج لنا علماء الآثار كسرة من إناء فخاري قديم، فنفسح لها مكانا بين معروضات المتاحف، ومن ذا الذي يقع على كراسة قديمة كانت كراسته يوم أن كان طفلا في أعوام الدراسة الأولى، فيمزقها غير عابئ؟ وليس الأمر في هذا مقصورا على الحنين إلى ماض ذهبت أيامه، بل إنه ليجاوز ذلك إلى ما هو أهم من الحنين، ألا وهو معنى «الدوام» الذي يذكرنا بالخلود، ويخرجنا من محدودية اللحظة الزمنية القصيرة العابرة، إلى اللامتناهي في انطلاقه، وشيء من هذا المعنى قد جعل قابلية الشيء لطول البقاء، إحدى صفات الفن العظيم والأدب الرفيع، إن الفنان الذي شيد معبد الكرنك، والفنان الذي نحت تماثيله من الجرانيت، والرسام الذي صور لوحاته بألوان لا تبهت على مر الزمن، وشاعر معلقة من معلقات الشعر العربي في الجاهلية، وكل فنان غير أولئك وهؤلاء، ممن بقي أثره الفني على الزمن، يستحق الخلود لخلود أثره؛ لأن مجرد القدرة على البقاء كاف وحده ليكفل البقاء لمن أبدع الأثر الذي صمد في وجه الأيام وتقلباتها.

نعم، فإن «للقدم» في ذاته هيبة ورهبة، كما أن «للحداثة» في ذاتها جذبا للنظر وتنشيطا للروح، ولقد تعرض أبو حيان التوحيدي لهذه الجوانب من القديم ومن الجديد في أول الجزء الأول من كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، فكان مما قاله في الموازنة بين موقف الإنسان من الجديد، وموقفه من القديم: إن الجديد يثير في النفس التعجب والإعجاب، وأما القديم فله في النفس إجلال وتعظيم، ومن أطرف ما ذكره في سياق حديثه، تعليقه على معنى كلمة «عتيق» التي تؤخذ وكأنها مرادفة لكلمة «قديم»، فبين لنا أبو حيان أنها تضيف إلى معنى القدم جانبا، وهو الإشارة إلى «الكرم، والحسن، والعظمة»، هذه كلمات التوحيدي، وهذه المعاني موجودة في قول العرب «البيت العتيق»، وبالطبع يتبادر إلى أذهاننا سؤال هنا، هو: هل يوجد هذا الجانب من المعنى في عتق العبد من عبوديته؟ فيقول عمن أعتقه سيده إنه «العتيق»، ويجيب أبو حيان التوحيدي بأن هذه الكلمة تدخل في المعنى نفسه، حتى في استعمالها هذا؛ لأن من كان عبدا قد أكرمه العتق بأن ارتفع به عن العبودية.

معذرة فقد استطرد بي القلم، لكنني أردت أن أقول: إنه ربما كان لمن جذبه الماضي فوقف عنده، عذره، لأن للقدم هيبته ورهبته وجلاله وعظمته، إلا أنه إذا كانت لهذه المشاعر الشريفة فتنتها، فلا ينبغي لتلك الفتنة أن تذهب بأصحابها إلى أبعد من النشوة والحنين، بحيث لا يضحون في سبيلها واجب السير إلى أمام ... ... وهنا جاءت لحظة صمت بيني وبين صاحبي، الذي جلس يستمع إلى حديثي بأذن مصغية إصغاء توترت به جلسته، وكان صاحبي هو الذي خرج بنا من لحظة الصمت، فقال: إنني عرفتك منذ زمن بعيد، ولهذا استطعت إدراك ما ترمي إليه منذ بدأت حديثك هذا عن الزمن وفعله، وأخذت تشرح لي كيف يكون فعل الزمن في الأشياء وفي الأحياء جميعا، هادما جاء ذلك الفعل أم جاء بانيا، ثم بينت الرابطة بين فعل الزمن وفكرة الثبات والتغير، فلقد أدركت أنك تشير إلى من يتملك الوهم ظنونهم، فيحسبون أن في مستطاعهم أن يجمدوا الزمن فلا يسير ولا يترك في الحياة بصمة إصبع، فيصبح وكأنه لم يكن، أو كأنه لحظة واحدة تحجرت على حال واحدة، فلا فرق عندئذ بين أن تقول عن تلك اللحظة إنها الماضي - أو إنها الحاضر - أو إنها المستقبل، إذ استقلت هي وحدها بالزمن كله، وإن أعجب ما تعجب له في هذا الوهم، أن أصحابه يحيون حياتهم اليومية كما يحياها سائر عباد الله، لا يختلفون عن سواهم إلا فيما توهموه في رءوسهم، دون أن يلحظوا ولو للحظة واحدة، أن ذلك الذي يتوهمونه ليس هو الذي يحيونه، لا صحوا في ساعات النهار، ولا حلما في نعاس الليل، فهم إذ يتحدثون عن ضرورة البقاء مع السلف في حياة واحدة، مسقطين من الحساب فعل الزمن، تراهم في شئون حياتهم اليومية، يحيون على غير ما يتمنون له أن يكون، ونحن بهذا القول لا ننحي بلائمة على أحد، لأننا نعلم كم يحتاج الأمر إلى إرادة جبارة، إذا أراد صاحب دعوة أن يعيش ما يدعو إليه، إذا كان الذي يدعو إليه مضادا للعواصف العاتية، فليس في أفراد البشر عشرات مثل غاندي، حين خاصم بريطانيا في جبروتها، ثم عاش خصومته تلك في حياته العملية، فارتدى ثوبا من غزله ونسجه، واغتذى بلبن عنزته، فلم يعد بحاجة إلى شيء من مصانع مانشستر وليفربول، وليس في أفراد البشر عشرات مثل تولستوي، يدعو إلى تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبدأ بنفسه فتنازل عن معظم ما يملك، وإنه لمن أغنياء الروسيا في عهده، فقليلون جدا هم الدعاة الذين ينعمون بإرادة قوية تعينهم على أن يحيوا على النموذج الذي يدعون الناس إلى احتذائه ... لا، إننا لا ننحي باللائمة على أحد، حين نقرر أمرا واقعا، هو أن الداعين إلى النمط السلفي في حياتنا، تضطرهم ظروف العصر بقوة دفعها، إلى أن يمارسوا شئون الحياة الجارية كما يمارسها سائر عباد الله، فهم - والحمد لله - لا يفوتهم - ما استطاعوا - أن ينعموا بثمرات الحضارة الجديدة، فيسكنون البيوت المشيدة على هندسة العمارة الحديثة، ويذهبون بمرضاهم إلى طب جديد بأجهزته ووسائله، أينما وجدوه، ويرسلون أبناءهم إلى مراكز العلم الجديد حيثما كان، وهم لا يقصرون في استخدام سبل العيش الحديثة، بسياراتها، وطياراتها، وثلاجاتها، وهواتفها، وأنوارها ... واختصارا هم يحيون في ظلال الحضارة الجديدة، ما امتدت أمامهم تلك الظلال، وهكذا اتسعت المفارقة بين الصورة الكلامية التي يرسمها السلفيون بما يدعون الناس إليه، وبين ما اضطرتهم قوة التيار الحضاري الجديد إلى ممارسته في حياتهم العملية، وإلى هنا وليس ثمة من ضرر حقيقي يحيق بنا، لولا أن الدعوة حين وقعت على آذان الشباب، بالقوة التي وقعت بها، اهتزت لها نفوسهم، وغمضت الرؤية أمام أبصارهم، ولم يعودوا يفرقون تفرقة واضحة بين خطأ وصواب في دنيا السلوك العملي.

ومضى صاحبي في الحديث على هذا النحو، كأنما أراد أن يتكلم عني بلسانه، فيقول ما كنت لأقوله لو أمسكت بزمام الحديث، إلا أنه أخذ يعلو بصوته وبشدة انفعاله معا، خصوصا عندما قال في ختام حديثه: إنهم يريدون - يا أخي - أن يوهموا شبابنا بأن تيار الزمن بين حاضرنا وماضينا قد تجمد وسقط من الحساب.

قلت: هون على نفسك، فليس الفارق بيننا حين ننادي بوجوب الدمج بين حاضر وماض في صيغة حياتية واحدة، وبين الدعاة إلى سلفية، حين يجدون أنفسهم مرغمين على أن تكون تلك الدعوة في واد، والحياة العملية في واد آخر، أقول: إن الفارق بيننا ليس كما نظن من البعد البعيد، ففي كلتا الحالتين ينتهي الأمر بنا إلى حياة فيها درجة من الدمج المطلوب، يتفاوت مقدارها بتفاوت الأفراد، يقرها بعضنا وينكرها بعضنا الآخر إنكارا يوقعه في الازدواجية التي أشرنا إليها بين قول وفعل.

إن المدار الصحيح، الذي يجب أن تتجه إليه الدعوة بالنسبة إلى الماضي والحاضر، وكيف تكون العلاقة بينهما، هي أن ندعو إلى أن يكون لقاء الطرفين في كيان الفرد الواحد، وبالتالي يكون في كيان المجتمع كله، فالماضي الذي نريد له أن يحيا، إنما هو يحيا في كائن حي يفكر ويشعر ويسلك، فيجيء فكره وشعوره وسلوكه محصلة واحدة من روافد تربوية، جاء بعضها من المصادر الموروثة، وجاء بعضها الآخر من مصادر الحاضر، وبمقدار ما يتحقق لنا التوازن بين الجانبين في حياة موحدة يكون التوفيق إلى جادة الطريق.

وسكتنا لحظة، ثم قلت لصاحبي: أتذكر يا صديقي ما قلته لك هذا الصباح عما أحاط بي من عوامل الضيق؟ فالزهور وجدتها ذابلة على حداثة عهدها، ومفتاح الباب أبى أن يدور في قفله، والوثيقة القديمة بحثت عنها فوجدتها وقد اصفر وجهها وتمزقت أركانها، والسيارة من طول ما تعطلت رفضت أن تسير، ولكن فلتعلم يا صديقي أن الزهور الذابلة ستخلي مكانها لزهور ناضرة، وأن مفتاح الباب سيزول عنه الصدأ، ويدور في قفله لينفتح الباب، والوثيقة سأعطيها لمن ينسخها بأحرف ناصعة على ورق أبيض، وسيارتي سيصلح عطبها فترغم على أن تسير، فإذا صح منا العظم، انفتح لنا الطريق.

حتى يغيروا ما بأنفسهم

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

صدق الله العظيم.

هذه آية كريمة نتلوها مع ما نتلوه من كتاب الله، لكن هل وقفنا عند الشرط المشروط علينا فيها، إذا نحن أردنا أن يغير الله ما بنا؟ وما بنا مما نحتاج له أن يتغير، قد كثر حتى لقد ضعفنا بعد قوة، وذللنا بعد عزة، وتخلفنا بعد أن كنا الطلائع التي يقتفيها من أراد أن يتقدم.

والشرط المشروط علينا في الآية الكريمة هو أن نغير ما بأنفسنا، مطلوب منا أن نغير الداخل ليتغير الخارج، مطلوب منا أن نعيد النظر في ترتيب جهازنا النفسي من باطن، فتتبدل دنيانا، ليرتد ضعفنا قوة، وذلتنا عزة، وتخلفنا ريادة، ولكن نقطة البدء في هذا كله ، هي الإجابة عن هذا السؤال: كيف يغير المرء ما بنفسه؟ وما «القوم» إلا مرء، ومرء، وثالث ورابع.

لو كانت «النفس» آحادية العنصر، لما كان في الأمر إشكال، إذ ما علينا إلا أن نغير ما قد فسد من ذلك العنصر الواحد، كما تزيل الصدأ - مثلا - عن مفتاح لم يعد قادرا على الدوران في القفل، فأصبح عاجزا عن السيطرة عن ذلك القفل فتحا وإغلاقا، لكن الأمر في «النفس» أعقد من ذلك، فهي جهاز متعدد العناصر، وأتحفظ هنا فأقول: إن هذا الاسم متعدد المعاني في مجالات استعماله، فقد تراه مستخدما في سياق ما بمعنى، ثم تراه مستخدما بمعنى آخر في سياق آخر؛ وعلى ذلك فقد تكون رؤيتي لمعنى هذه الكلمة، في هذا السياق، مختلفة عن رؤية آخرين، وأما رؤيتي فهي أن تكون «النفس» التي يراد منا أن نغيرها، ليغير الله ما بنا، جهازا متعدد الأجزاء، بحيث تشترك تلك الأجزاء معا في توجيه صاحب تلك النفس نحو ما يفعله وما لا يفعله، ما يقوله وما يسكت عنه، ما يسر له وما يحزن له ... إلخ، وليست هذه المقالة بحثا علميا نتوقع منه أن يتقصى المعنى بكل دقة وبكل شمول، بل يكفينا هنا أن نبرز عددا قليلا ومؤثرا، من أجزاء الجهاز الذي من أجزائه تتكون «النفس»، لنقف عندها وقفة متأملة، لعلنا نهتدي إلى طريقة تغييرها إذا كانت في حاجة إلى تغيير.

وأول ما يهمني ذكره من جوانب النفس، هو مجموعة «الأفكار» التي نملأ بها رءوسنا، والتي هي ذات شأن في تشكيل سلوكنا، فلنقف هنا وقفة، حتى إذا ما فرغنا من عنصر «الأفكار»، انتقلنا إلى عنصر آخر.

تعالوا نبدأ من البداية فنسأل: ما هي الفكرة؟ ولكي أجيب إجابة بسيطة وخالية من التعقيد، أقول: إنه كما يكون لكل حيوان طريقته التي يحمي بها نفسه حماية سلبية بالدفاع، أو حماية إيجابية بالهجوم، فإن وسيلة الإنسان في ذلك هي «أفكاره»، إنه قلما يلجأ في دفاعه وهجومه، إلى أظافره وأنيابه وعضلاته، لكنه «بالأفكار» يصنع السلاح، ويضع الخطط، ويرسم طريقة السلوك التي تنتهي به آخر الأمر إلى حماية نفسه هجوما أو دفاعا، «فالفكرة» لا تكون فكرة، إلا إذا كانت منطوية على شيء يصلح أن يكون أداء لحياة أقوى وأكمل، إن الله لم يخلق الإنسان ذا عقل «يفكر» ليجيء الإنسان فيجعل من أفكاره فقاقيع فارغة كفقاقيع الصابون ... تبدو براقة وشفافة وجميلة التكوين، وكثيرا ما تزدان بألوان فيها الأزرق والأخضر والبرتقالي، مما يخطف البصر في لمحة سريعة، ولكنها - وا أسفاه - لا تكاد تمس الهواء أو يمسها الهواء حتى تنفجر وتختفي كأن لم تنتفخ بلمعتها وألوانها منذ لحظة يسيرة، نعم، إن الله - جلت قدرته وحكمته - لم يجعل الإنسان كائنا عاقلا، ليجيء الإنسان فيجعل من عقله ذاك أداة يعبث بها ويلهو، وإنه ليصبح ذلك العابث اللاهي، إذا ما شحذ عقله شحذا، ليلد له عقله تصورات تبدو له وكأنها «أفكار» يدافع بها عن حياته ويهاجم، وإذا هي في حقيقتها تنتسب إلى أسرة الفقاقيع الصابونية الخالية في أجوافها حتى من الهواء، والفرق بين «الفكرة» التي هي أداة للحياة القوية المزدهرة، والفكرة التي تشبه الفكرة ولكنها ليست منها، هو هذا، الأولى ترسم لك طريقا تسلكه إلى ما هو أنجح وأقوى وأحكم، والثانية إما أن تهوى بك إلى ما يشبه الموت إذا لم يكن هو الموت نفسه، وإما هي - في أهون حالاتها - تقعد بك قعودا لا فعل فيه ولا حركة ولا مقامرة ولا إنتاج.

ونحن إذ نزدهر حينا ونذبل حينا، فإنما نزدهر بأفكار من النوع الأول تبث فينا، فتكون هي الموجهات لنا في حياتنا العملية، وتذبل بأفكار - أو قل أشباه أفكار - تقع منا مواقع القيود والأغلال، لا تسمح لحياتنا بحركة مؤدية إلى شيء، ولا يفوتنا أن نلحظ في الحالة الأولى عوامل تدعو الناس إلى أمل في مستقبل مزدهر، وأما في الحالة الثانية فالأغلب أن يكون في حياتنا ما يدعو إلى يأس من مستقبل ناجح، وإني لأخشى ألا أكون مخطئا، إذا زعمت بأن الفترة الراهنة التي كانت بدايتها هزيمة 1967، قد أخذت تميل بنا شيئا فشيئا نحو ذلك المناخ الفكري الذي يملأ جو السماء وصخور الأرض «بأفكار» الجمود والفقر واليأس من الحياة، وإذا صح هذا النظر، لم يكن لنا بد من أن نغير ما بنفوسنا ليغير الله ما بنا، وأول ما نغيره هو تلك الأفكار، التي أشرت إليها، لنملأ رءوسنا بغيرها مما يؤذن بالأمل.

وسأضرب أمثلة قليلة من الأفكار، التي هي في حقيقتها أشباه أفكار، والتي - واعجباه - تنفتح لها أبواب الأجهزة الإذاعية والصحفية انفتاحا لتنصت إليها الملايين، فتملأ بها أوعية دمائها، ولا تلبث أن تكون هي «الرأي العام»، فمن ذلك ما يلح به علينا أصحاب الكلمة العليا، يلحون علينا بالكلمة المسموعة المذاعة، وبالكلمة المقروءة في الصحف، يلحون على آذاننا وعلى أبصارنا، في الصبح وما بعد الصبح من ساعات النهار، وفي العشية وما بعد العشية من ساعات الليل، إن ماضينا يجب أن يعود إلى الحياة ليكون هو حاضرنا، هكذا يقولونها بغير تدقيق ولا تحليل، فيتلقاها الجمهور السامع والجمهور القارئ، فلا يعرف كيف يفهمها إلا أن يأخذها بظاهر حروفها، وعندئذ ترى عجبا عند التطبيق، ولو أن حقيقة الصلة بين حاضر الإنسان وماضيه، عرضت على الناس في صورتها الصحيحة والقوية، لاستبدلنا بالفكرة المريضة فكرة سليمة، فليس على سطح الأرض مخلوق من البشر، بقيت له في رأسه مسكة عقل، يريد أن يخلع على نفسه ماضيه، كأن ماضي الإنسان قميص يخلعه إذا شاء ويرتديه إذا شاء، لكن المسألة هنا هي «كيف»؟ كيف نبث ماضينا في حاضرنا؟ إننا لو تصورنا بأن المطلوب هو أن يجيء الحاضر مصبوبا في قالب الماضي بكل حذافيره، لكان هذا الحاضر قد جاء زائدة دودية ليس لها إلا أن تقتلع من جسد التاريخ لتفنى، هذا إن كان في حدود المستطاع أن يبعث ماضي الإنسان في حاضره كما يتصورون، إن حقيقة الموقف يمكن توضيحها باللغة، فنحن نستخدم لغة السلف، لكن إذا كانت «الأداة» واحدة ومشتركة بيننا وبين أسلافنا، فهل نطالب أبناء الحاضر ألا ينطقوا أو يكتبوا بتلك اللغة إلا ما نطق به الأولون أو ما كتبوه؟ وهل تشابه السابقون أنفسهم فيما قالوه وكتبوه هم؟ لا بد لنا من أن نبقى على لغتنا العربية حية وقوية، وإلى هنا يظل الماضي حيا في الحاضر، لكن البون شاسع بين ما قالوه بتلك اللغة وما نقوله، وقد يكون الماضي أفضل في قوله من الحاضر في قوله أحيانا، وقد يكون الحاضر أحيانا أخرى أفضل من الماضي.

وعلى هذا الغرار، تكون صلة الماضي بالحاضر في كل مواقف الحياة العقلية والوجدانية والعملية، فقد كان من أسلافنا من برع في علوم الرياضة وعلوم الطبيعة وغيرها، فيصبح ماضينا حيا في حاضرنا إذا حافظنا على مكاننا في الريادة العلمية، لكن أحدا لا يتصور علماءنا اليوم وقد وقفوا بعلومهم عند الحدود التي وقف عندها علماء الأمس، إذ هو محال أن يجيء يومنا كأمسنا في الطب والهندسة والرياضة والفلك إلخ إلخ، وما نقوله عن الحياة العقلية، نقول مثله في الحياة الوجدانية، فليس حتما لشاعر عصرنا أن يفرح ويحزن ويفخر ويهجو، لكل ما فرح له الشاعر القديم وحزن وفاخر وهجا، وهل كان في القديم شاعر واحد، ذو موقف واحد، لكي أحاكيه وجدانا بوجدان؟ مرة أخرى أقول: إن الماضي يظل موصولا بالحاضر بالمشاركة اللغوية أولا، وبشيء من الروح السارية في النغمة العربية.

والحقيقة نفسها تتمثل في الحياة العملية وأوضاعها، فبينما يتحتم على الحاضر أن ينشط في حياته العملية، مهتديا بإطار القيم التي احتكم إليها أسلافنا في سلوكهم، إلا أنه من غير المعقول أن يجيء السلوك نفسه ... المنضبط بقيمة معينة، صورة مكررة من سلوك السالفين، ومرة ثانية أقول: إن هؤلاء السالفين لم يكونوا رجلا واحدا في موقف واحد، حتى أجعل منه نموذجا أحاكيه، فمثلا إذا كان السالفون قد رفعوا من شأن إكرام الضيف، ونجدة المأزوم، والشجاعة في مواجهة المخاطر، فنحن كذلك يجب أن نربي أبناءنا على تلك النماذج «القيمية»، لكن صور السلوك التي تندرج تحت تلك القيم ليست بالضرورة هي نفسها صور السلوك في عصر ذهب بذهاب ظروفه.

كلام بسيط وواضح، لو وجد سبيله إلى رءوس شبابنا، لما رأينا شبابا من شباب الجامعة يفكر جادا في أن يغير ثيابه وفي أن يوجه مطالعاته نحو أن يحاكي صورة قدمها إليه السادة مسموعة ومقروءة، فللشباب أن يرتدي من الثياب ما يوافق ظروفه كما ارتدى الأقدمون ثيابا تتفق مع ظروفهم، وللشباب أن يوجه مطالعاته ودراساته وجهة تعينه على القوة والنجاح، كما كان الأقدمون يفعلون ما يفعلونه ابتغاء القوة والنجاح.

ونأخذ فكرة أخرى مما يحرص السادة على تبليغها إلى الناس، وهي قد بلغتهم وصدقوها وعاشوا على منهاجها، لكن الأرجح أن ينتهي بهم الطريق إلى ضعف وفقر وهزيمة، وهي فكرة أن الإنسان لا حول له في أمور نفسه ولا قوة؛ وذلك لأن أموره إنما تجري بمشيئة الله، وها هنا - كما في المثل السابق - نقول: إنه إذا تلقى الجمهور السامع والجمهور القارئ كلاما كهذا بغير تدقيق وبغير تحليل وتوضيح، لجاز على كثيرين أن يحدوا من نشاطهم وأن يتركوا انتصارهم وهزيمتهم، نجاحهم وفشلهم، قوتهم وضعفهم لمشيئة الله، وكأنه لا جهد ولا اجتهاد ولا جهاد، فليس هنالك على وجه الأرض مخلوق واحد من البشر المؤمن بدين، إلا ويعلم أن وراء جهده واجتهاده وجهاده، مشيئة إلهية، لكن الفرق بعيد بين أن «أعلم» هذه الحقيقة الثابتة، وبين أن تتأثر إرادتي بما قد علمته عنها، فواجب الإنسان هو أن «يريد» وأن يسعى إلى تحقيق ما أراده، ويكون لله - جل شأنه - مشيئة في أن يوفق ذلك الإنسان إلى تحقيق ما أراده أو لا يوفق، فإذا كان السادة لا يقصدون بإلحاحهم على ضعف الإنسان وعجزه وقلة حيلته، أن يكف ذلك الإنسان عن أن يكون ذا طموح وصاحب عزيمة قوية يعمل بها على تحقيق ذلك الطموح، فهل يكون السداد في تربية أبنائنا، هو أن نبث فيهم ما يقوي إرادتهم ويشعل فيهم روح النشاط والعمل؟ أو أن نجعل محور الارتكاز هو تذكيره بضعفه وعجزه وقلة حيلته؟ إني أرجو ألا يساء فهم ما أقوله، فأنا أكرر مرة أخرى، أنه ليس في الدنيا من لا يعلم - وأكرر «يعلم» - أن مشيئة الله فوق كل إرادة، لكن «العلم» بحقيقة ما، وإن يكن واجبا إلا أنه «علم» لا يراد له أن يحد من أن تكون للإنسان إرادته وسعيه واجتهاده، فالأمر كما قال شاعر قديم هو أن «علي أن أسعى، وليس علي إدراك النجاح»، فواجب الإنسان أن يسعى جهده، كما لو كان النجاح مضمونا، ولكن إدراك النجاح بالفعل إنما أمره مرهون بمشيئة الله، فإذا كنا لنغير ما بأنفسنا من أسباب الضعف والهزيمة رجاء أن يغير الله ما بنا، كان بين ما نغيره في تربيتنا لأبنائنا أن يكونوا على «علم» بقدرة الله ومشيئته، وأن يكونوا في الوقت نفسه على طموح نحو القوة والنجاح والنصر، وعلى إرادة تتكافأ مع ذلك الطموح.

وأكتفي بالفكرتين اللتين أسلفت ذكرهما، لأوضح بهما ماذا نغيره مما بأنفسنا، ليغير الله ما بنا، لأنتقل إلى جانب آخر من جوانب النفس - غير جانب «الأفكار» - مما يجب أن نغيره، ليغيرنا الله حالا بعد حال، والجانب الذي سأختاره هذه المرة، هو العلاقات الإنسانية التي يجري التعامل بين المواطنين على أساسها في هذه الفترة الزمنية التي نحياها، وهي علاقات يستحيل عليها إلا أن تكون طارئة بحكم ظروف استحدثت في حياتنا، نحتاج في تفصيلها وبيانها إلى بحوث علمية دقيقة؛ لأنها لو كانت كامنة في طبيعتنا، لما كان للمصري دوام على امتداد التاريخ، ولما استطاع أن يقيم ما أقامه من حضارات، وحسبنا في حديثنا هذا، أن نشير إلى جانبين فقط من تلك العلاقات:

أولهما: هذا الإرهاب الفكري العنيف، الذي يضغط به الرأي العام على حرية الفرد في اختياره لوجهة النظر التي يختارها لنفسه، لينظر من خلالها إلى ما يعرض له من قضايا، خصوصا إذا كانت تلك القضايا مما يمس الدين - عقيدة وشريعة - من قريب أو من بعيد، فهنالك اليوم ما يشبه القيادة الفكرية في هذا المجال، وهي قيادة أخذت تبث في جمهور السامعين والقارئين إطارا من التفكير، حتى خيل لذلك الجمهور أنه هو الإطار الذي لا إطار سواه، وها هنا ألتمس من قارئ هذه السطور شيئا من سعة الصدر ومن حسن الاستماع، كما ألتمس منه قليلا من الثقة أحدنا في الآخر، حتى ولو لم تدم تلك الثقة المتبادلة أكثر من دقائق معدودات، لأقول لذلك القارئ بعد ذلك: إن المبدأ الأول والأساسي الذي يجب أن يعتمد عليه كلانا في الحوار والتفاهم، هو أن يثق أحدنا في سلامة العقيدة الدينية عند أخيه، وأود أن أذكره - بهذه المناسبة - أن حاجة الإنسان إلى دينه، هي جزء من فطرته التي لا حياة إلا بها، وحتى إن خيل لفرد من الناس أنه ليس به حاجة إلى ذلك الجزء من فطرته، فهو - بكل بساطة - إنسان لا يعرف نفسه، وليست هي بالحالة النادرة القليلة الحدوث، أن تجد من الناس من لا يعرف نفسه على حقيقتها، حتى يبصره بها من هو أكثر دراية وعلما، فليس الاختلاف بين فرد وفرد، أو بين جماعة وجماعة، هو «دين أو لا دين» إنما الاختلاف هو: كيف تكون الظواهر التي يتخذها الدين؟ وإننا لنعلم جميعا أنه ما من دين، إلا ويحدث بين المؤمنين به أنفسهم اختلافات في طريقة الفهم والرؤية، ومع ذلك تبقى الجماعات المختلفة كلها تحت مظلة ذلك الدين، ففي الإسلام - مثلا - شيعة وسنة، وفي كل من الشعبتين مذاهب، ولم يقل أحد، بل لم يجرؤ أحد على القول، بأن الإسلام مقصور على تلك الشعبة دون هذه ... أو أنه مقصور على هذا المذهب دون ذاك، وتستطيع أن ترى ذلك في أجلى وضوح، إذا طلبت من مؤرخ مختص أن يؤرخ للإسلام، فماذا نتوقع منه عندئذ إلا أن تجيء روايته للتاريخ شاملة لكل ما شمله تاريخ الإسلام من وجهات النظر في الفهم والرؤية، وهذا طبيعي، بل هو علامة خصوبة وغنى؛ لأن الاختلافات لا تمس جوهر الرسالة، بحيث نرى شعبة تأخذ بالتوحيد، وأخرى لا تأخذ به، إنما تبدأ الاختلافات، عند تفريع النتائج من ذلك الجوهر؛ لأنه ميدان قدرات عقلية قد تتفاوت واجتهادات بشرية قد لا تلتقي.

لكن هذا التفريع نفسه، لا يقف عند حد الأقسام الكبرى والمذاهب المتعددة التي تندرج تحت كل قسم منها، بل إنها قد تتسلسل حتى تصل إلى فروع الفروع، فيختلف الرأي بين الأفراد، دون أن يكون من الحق أو من الإنصاف ، أو من الصالح للحياة الاجتماعية والعملية نفسها، أن يحكم مختلف على مختلف بالخروج على دينه، فتلك تهمة كبرى يجب التردد ألف مرة قبل إلقائها، ومع ذلك فانظر إلى ما قد شحنت به العقول في جمهور السامعين والقارئين، وكيف تحول الأمر حتى أصبح من لا يجري على غرار الجمهور في شحنته تلك، موضع اتهام قد لا ينجيه من التعرض للأذى، مما يميل بكثيرين من أصحاب الرأي أن يلوذوا بالصمت إيثارا للسلامة والعافية، وفي ظل هذا المناخ، الفكري، أو قل في ظلمة هذا المناخ وظلمه، تضيع كرامة الأفراد، وحريتهم في التفكير وإعلان الرأي، فتحرم الأمة من مصابيح كان يمكن لها أن تضيء الطريق.

ذلك جانب من حياتنا كما هي قائمة في يومنا، وجانب آخر يستحق الذكر في هذا الموجز السريع، وهو جانب ربما يكون عاما في بلاد العالم الثالث كلها أو معظمها، وأعني به ذلك الشعور الغامض، الذي يوهم صاحبه بأن النظام الاجتماعي - وأهم عناصره هو الناحية الاقتصادية - إنما هو إلى زوال سريع، وليس هو بالنظام المقدر له أن يستقر قرنا كاملا من الزمان، وأظن أن مثل هذا الشعور الغامض بسرعة الزوال، ينشأ عادة بعد الثورات؛ وذلك لأن التغيرات التي تحدثها ثورة ما ليس لها ذلك الثبات لحالة تجيء نتيجة تطور طبيعي على امتداد فترة طويلة، حتى لقد قال باحث تناول الثورات الكبرى التي حدثت في التاريخ، ليستخرج منها ما يمكن أن يكون شبيها بالقوانين العلمية في طبائع الثورات وخصائصها، قال ذلك الباحث: إن التاريخ قد شهد ثورات كثيرة، جاءت ثم ذهبت ولم تخلف وراءها إلا تبديلا لأسماء عدد من شوارع المدن وميادينها.

إذن فقد كان طبيعيا للشعوب التي تغير فيها ما قد تغير - من بلاد العالم الثالث - أن يشيع في صدر الناس ذلك الشعور الغامض بزوال سريع لما قد استحدث في الحياة من تغيرات، وإذا كان الأمر كذلك، فلينهب الناهبون قبل الزوال، وليظفر الظافرون بالغنائم قبل السقوط ...

أفكار، وحالات، ومواقف، هي هي نفسها التي نجملها معا في حزمة واحدة ، ونشير إليها بكلمة «النفس»، ونفوس الناس - بهذا المعنى - هي التي لا يغير الله ما بنا اليوم، حتى نغير نحن أولا ما بها.

القسم الرابع

دوائر الانتماء

عروبة مصر

ثلاثة خطوط، مستقل كل خط منها عن الخطين الآخرين، تقاطعت معي في نقطة واحدة، وفي فترة لم تزد على ساعة واحدة، فجاءت مصادفة من تلك المصادفات التي تقع في حياة كل إنسان حينا بعد حين، والتي يكون في وقوعها شيء من غرابة التوافق في الحدوث، حتى ليحس صاحبها أنه لا بد أن يكون وراءها قوة مدبرة، لا نراها فنقول عما حدث إنه مصادفات ... وأما الخطوط الثلاثة التي تلاقت وتقاطعت في نقطة واحدة، فسأذكرها بإيجاز، ثم أعقب على الإيجاز بشيء من التفصيل:

كان أحدها تلك المقدمة التي تستوقف النظر بعقمها وبصدقها، وهي المقدمة التي قدم بها الأستاذ الدكتور أحمد قدري، رئيس هيئة الآثار المصرية، للترجمة العربية لمؤلفه الإنجليزي، الذي صار عنوانه في الترجمة: «المؤسسة العسكرية المصرية، في عصر الإمبراطورية، 1570ق.م-1087ق.م»، ولقد ذكر ما يفيد بأن هذا الكتاب إنما هو (في صورته العربية) حلقة أولى من سلسلة سوف تبلغ حلقاتها مائة، كلها يستهدف وعيا حضاريا معاصرا، والمشروع لوزارة الثقافة، ممثلة في هيئة الآثار المصرية، وكان من أهم ما سعدت به في تلك المقدمة، ما ورد فيها عن البحوث العلمية التي أثبتت الخصائص المشتركة بين لغة المصريين الأقدمين، وسائر اللغات السامية (بتشديد الياء) في هذه المنطقة التي نطلق عليها اليوم اسم الشرق الأوسط، وسأعود إلى استئناف الحديث عن هذا الموضوع بعد قليل.

وكان سر سعادتي بما وجدته في مقدمة الأستاذ الدكتور أحمد قدري، في هذا الصدد، هو ما كنت كتبته تحت عنوان «قضية تستحق النظر»، وهو منشور في كتابي «في مفترق الطرق»، وهنا أنتقل إلى الخط الثاني من الخطوط الثلاثة، التي قلت إنها تقاطعت معي على صورة المصادفة الغريبة، وذلك أني لم أكد أفرغ من قراءة مقدمة الأستاذ الدكتور أحمد قدري، حتى دق التليفون من متحدث ليس بيني وبينه إلا ما يكون بين قارئ وكاتب، فلقد قرأ المتحدث ما كتبته في فصل «قضية تستحق النظر»، وفيه عرضت مسألتين مرتبطة إحداهما بالأخرى، وكلتاهما متصلة بانتمائنا الوطني والقومي، أما المسألة الأولى منهما: فهي ذلك القلق العميق الذي يضطرب في صدر المصري المسلم، حتى وإن تركه مكتوما في نفسه ولم يعبر عنه، ومصدر القلق هو التوتر الناجم عن قوتين تجذبانه في اتجاهين متضادين، فمن حيث هو مصري يريد أن يشعر بفخر الانتماء إلى عصور الفراعنة بكل أمجادها، ومن حيث هو مسلم تأخذه الربكة حين يجد فرعون مغضوبا عليه في القرآن الكريم، ولقد كنت وجدت حلا لتلك المشكلة في أن المغضوب عليه من الفراعنة فرعون واحد، هو فرعون موسى «رمسيس الثاني»، وليس طغيان حاكم واحد يسيء إلى عدة آلاف من السنين، شهدت من الحكام الفراعنة عشرات.

تلك مسألة، انتقلت منها إلى المسألة الثانية، فأما وقد أزلت عن نفسي حيرتها إزاء المسألة الأولى، فماذا أنا صانع في حيرة أخرى، هي هذه المرة بين أن يكون المصري مصريا، وأن يكون في الوقت نفسه عربيا؟ لكنني هنا كذلك اهتديت إلى حل، هو أن «العروبة» - في آخر التحليل - ليست إلا نمطا ثقافيا معينا، يعيشه أهل هذه البقعة من الأرض، التي هي في التسمية الحديثة تسمى بالشرق الأوسط، وعندئذ أخذت أحلل ذلك النمط الثقافي المزعوم إلى عناصره، من تدين إلى لغة (من حيث خصائصها الشكلية)، إلى مبادئ حياة خلقية، وغير ذلك، ولقد أحسست بمزيد من الرضا عما كنت قد انتهيت إليه من نتائج، عندما وجدت النتائج نفسها مثبتة بأبحاث علمية قام بها متخصصون في الآثار المصرية الفرعونية، بما في ذلك قراءة النصوص الهيروغليفية وتحليلها كما ذكر لنا الدكتور قدري في مقدمته التي أسلفنا الإشارة إليها، والذي يعنيني هنا الآن، هو أن القارئ الذي فاجأني بحديثه التليفوني، عقب قراءتي لمقدمة الدكتور أحمد قدري، أراد أن يستجلي بعض ما غمض عليه، في الفكرة التي كنت عرضتها، وهي أن «العروبة» يمكن فهمها على أنها نمط ثقافي معين، شارك فيه المصري منذ أقدم عصوره، وشاركت فيه شعوب هذه المنطقة كلها، وبهذا التعريف للعروبة، نكون قد أخرجنا من معناها الأصل العرقي، وتقلبات السياسة، ونكون في الوقت نفسه، قد وضعنا الأساس الذي تبنى عليه عروبة مصر، منذ ما سبق الفتح العربي بزمان طويل.

ثم اكتملت معي غرابة المصادفات، حين جمعت بين يدي ثلاثة خطوط، من مصادر مختلفة كل الاختلاف في موضوع واحد، خلال فترة قصيرة من صباح واحد، إذ لم تكد ساعة واحدة تمضي على الحديث التليفوني، حتى جاءني البريد يحمل فيما يحمله، خطابا من قارئة كريمة، وقعت على حوار أجرته معي مجلة عربية، ورد عني فيه قولي بأن مصر كانت عربية، حتى قبل الفتح العربي، مرتكزا في هذا القول، على تعريف العروبة بأنها نمط ثقافي ذو خصائص تميزه، فكتبت السيدة القارئة - وهي السيدة هبة الله عزى - تقول:

لقد فاجأتني بقولك إن عروبة مصر، كانت قائمة حتى قبل الفتح الإسلامي، وذلك في إطار مفهومك للعروبة، وهو أن العروبة نمط ثقافي ذكرت ركائزه وأهم عناصره، وليست مستندة إلى أصل عرقي معين، وإنه ليبدو لي أن فرعونية مصر وعروبتها مشكلة ستظل قائمة، تعاني منها الأجيال القادمة، كما تعانيها أنت، بل ربما ازدادت حدة، واشتدت إلحاحا علينا، في ظل الظروف العربية الراهنة، إنني واحدة ممن يوصفون بأنهم «جيل الثورة»، صحوت من أحلامي الجميلة الرومانسية على هزيمة 1967، لأجد أن كل ما عشت فيه وآمنت به، إنما كان سرابا وأوهاما، لأجد حقيقة فاجعة تنتظرني بواقعها الأليم، وذلك أني رأيت أمة ممزقة بالهزيمة، وعلى عكس ما توقعته من الشعوب العربية، وجدت منها شماتة بمصر، وتجريحا لها وإذلالا، ومصر هي مصر الإسلام ومصر العروبة! فكان من الطبيعي لمصر أن يكون رد فعلها، هو أن تقوقع شخصيتها على نفسها، باحثة عن بديل لعروبتها الممزقة الجريحة، فكان البديل هو فرعونيتها المسلمة، وتتوالى الأحداث بمصر، من مبادرة السلام إلى كامب ديفيد، ليزداد الهجوم وتزداد القطيعة، ثم أجد من ينادون بمصر العربية! كيف؟ كيف؟ والعرب يقاطعوننا ولا يريدون الاعتراف بنا، وذهب مع الهواء ما صنعنا، وذهب مع الهباء ما ضحينا! ... إنني أم لطفلين في الثامنة، وكنت على وشك أن ألقنهما درسا في أصولهما الفرعونية، وكيف ينبغي لهما الاعتزاز بما يجري في عروقهما من دم فرعوني أصيل ... لولا أن أوقعتني المصادفة على كتاب «هموم داعية» للإمام الغزالي، فوجدت إمامنا يقول في صفحة 42 من ذلك الكتاب: إن إبعاد العرب عن الإسلام خيانة وطنية، إلى جانب كونها «ردة دينية» ... فأمسكت عما كنت اعتزمته مع ولدي؛ حتى أستيقن حقيقة الأمر من فقهاء الدين والعقيدة ... وما إن فرغت من قراءة الإمام الغزالي، حتى وقعت على كتاب «ما قبل السقوط» للدكتور فرج فودة، فوجدته يطالبنا - بعقلانية وواقعية شديدتين - بألا نستمع إلى دعوة تقول للمسلم المصري بأن المسلم في الهند أقرب إليه من القبطي المصري، وها أنت ذا تنادي بأن العروبة ما هي إلا نمط ثقافي متميز بخصائصه، وأن مصر كانت تقيم حياتها على ذلك النمط الثقافي حتى قبل الفتح العربي ... فهذه آراء ثلاثة، فأيها نصدق؟ ...

تلك كانت الخطوط الثلاثة التي تلاقت عندي فيما يقرب من ساعة زمنية واحدة، فما كان مني إلا أن جلست أفكر فيها متدبرا مترويا، ومتسائلا: ترى هل تخرج منها بما يؤيد وجهة نظرك في حقيقة العروبة؟ أو أن الأمر أصبح في حاجة إلى مراجعة؟ ورأيت عندئذ أن أبدأ بما ورد في رسالة السيدة القارئة التي أخذتها الحيرة بين ما ظنت أنها آراء ثلاثة متعارضة، وهي تريد أن ترسو بسفينتها على بر تطمئن له بين تلك الآراء؛ لأنها سترتب على ذلك نهجا تربي عليه طفليها، والرأي عندي هو ألا تعارض هناك بين الآراء الثلاثة التي وقفت السيدة القارئة إزاءها حيرى، وقبل أن أبين ذلك، يحسن بي أن أبرز الجانب الذي قد يفلت من عين الرائي، فيختلط عليه الأمر وتصعب الرؤية.

هنالك صفتان، تتلاقيان حينا، وتفترقان حينا، وهما: العروبة، والإسلام، فنحن فيهما أمام احتمالات ثلاثة: الأول: هو أن نجد الصفتين وقد تلاقتا في شخص واحد، فيكون ذلك الشخص عربيا مسلما، والاحتمال الثاني: هو أن يكون المسلم غير عربي، كما هي الحال مع مسلمي إندونيسيا، والملايو، وباكستان ، والهند، وإيران، وأفغانستان، وتركيا، وغيرهم، والاحتمال الثالث: هو أن يكون الشخص عربيا غير مسلم، كالمسيحيين في مصر، ولبنان، وفلسطين، وفي سائر الأقطار العربية، فإذا كانت السيدة صاحبة الرسالة قد وجدت الإمام الغزالي يحذر من أن نباعد بين العربي وإسلامه، أو بين المسلم وعروبته، فهو إنما يتحدث عن فئة واحدة من الفئات الثلاث التي ذكرناها، وهي فئة الاحتمال الأول، وإنني إذ أتكلم عن الإمام الغزالي في هذا الصدد، فإنما أقيم كلامي على «افتراض» أن السيدة قد أحسنت الرواية عما قرأته للغزالي في ذلك؛ لأنني لم أقرأ له الكتاب الذي قرأته هي، وجاءت منه بما جاءت، ومحال أن يكون الإمام الغزالي قد ربط بين العروبة والإسلام ربطا لا يتسع لوجود الاحتمالين الآخرين، وهما: أن يكون المسلم غير عربي، وأن يكون العربي غير مسلم؛ لأننا حتى لو قصرنا صفة العروبة على أبناء الجزيرة العربية، التي كانت مهبط الوحي الإسلامي، فقد كان في الجزيرة العربية ذاتها عرب قبل نزول الإسلام، ومن هؤلاء العرب من لم يدخل دين الإسلام فظلوا عربا كما كانوا عربا، برغم احتفاظهم بعقيدتهم الدينية التي كانوا عليها.

ذلك إذن هو ما روته السيدة عن الغزالي، أي أنه قصر كلامه على من اجتمعت فيهم عروبة وإسلام، ولم يذكر شيئا - فيما روت السيدة - عن الاحتمالين الآخرين، فإذا انتقلنا إلى ما نقلته السيدة عن الدكتور فرج فودة، من أن الرابطة بين المسلم المصري والقبطي المصري، لها أولوية على الرابطة بين المسلم المصري والمسلم الهندي، فالحديث هنا يتناول موضوعا آخر، غير الموضوع الذي ورد ذكره فيما نقل عن الغزالي، فبينما الغزالي يتحدث عن المباعدة بين صفتي العروبة والإسلام، فيمن هو عربي مسلم، نجد حديث الدكتور فودة قائما على مقارنة بين نوعين من الروابط، ليرى أيهما تكون له الأولوية على الآخر بالنسبة إلى المواطن المصري، إنهما موضوعان مختلفان كل الاختلاف، بحيث نستطيع بكل اليسر أن نقول عن الرأيين فيهما إنهما صادقان معا، لأن أحدهما لا ينقض الآخر، ففي الوقت الذي لا يجوز لنا فيه أن نباعد بين العروبة والإسلام، فيمن هو عربي مسلم، يجوز أن نقول أيضا عن ذلك العربي المسلم أنه أوثق ارتباطا بمواطنه غير المسلم، منه بمسلم ينتمي إلى وطن آخر، فأين يكون موضع الحيرة بين هذين الموقفين؟

وبقي الموقف الثالث، الذي يجعل موضوعه «تعريف» العروبة، ماذا تكون عناصره؟ فإذا كان كاتب هذه السطور، قد رأى أن تعريف العروبة هو أنها نمط ثقافي معين (وبعد قليل سأذكر عناصره الأساسية) فلا هو يتعارض بالضرورة مع ما قاله الغزالي في وجوب عدم الفصل بين العروبة والإسلام، في العربي المسلم، ولا هو يتعارض بالضرورة مع ما قاله الدكتور فرج فودة في ترتيبه للأولويات، ولنضرب مثلا آخر لعله يزيد الفكرة وضوحا: فافرض أن الصفتين اللتين نتحدث عنهما، واللتين تلتقيان أحيانا وتفترقان أحيانا، هما صفة «مصري» وصفة «جامعي» فهنا يكون أمامنا احتمالات ثلاثة: الأول: أن يكون الشخص مصريا جامعيا، والثاني: أن يكون مصريا غير جامعي، والثالث أن يكون جامعيا غير مصري، فإذا سمعنا أحدا يقول عن المصري الجامعي، إنه لا يجوز له أن يباعد بين مصريته وجامعيته، بمعنى أنه لا يفرط في شيء من مصريته بسبب أنه جامعي، ولا في شيء من جامعيته بسبب أنه مصري، ثم سمعنا أحدا آخر يعطي تعريفا «للجامعي» بأنه الشخص الذي يواصل الدرس بعد المرحلة الثانوية، فهل نقول عندئذ: إننا في حيرة من أمرنا، لا ندري أيهما نصدق؟ إن موضوع الحديث عند المتحدث الأول ليس هو موضوع الحديث عند المتحدث الثاني، فمن أين تجيء الحيرة؟ فإذا وجدت السيدة صاحبة الرسالة نفسها أمام رجال ثلاثة، قدم لها كل منهم رأيا في جانب معين، مما يتصل بصفتي العروبة والإسلام، فليس في الأمر ما يدعوها إلى حيرة في تربيتها لطفليها، فهما مصريان مسلمان؛ أي أنهما عربيان مسلمان (بتعريف العروبة على أساس الجذور الثقافية)، إذن لا يجوز محاولة الفصل بين صفتي العروبة والإسلام فيهما «بناء على قول الغزالي»، ثم إذا حدث تعارض في الروابط بينهما من جهة، وقبطي مصري من جهة أخرى، أو بينهما من جهة، ومسلم هندي من جهة أخرى، وجب أن تكون الأولوية للرابطة التي تربطهما بمواطنهما القبطي، إذ هما قد يقاتلان في صف واحد مع مواطنهما القبطي، كلهم على استعداد أن يضحي بروحه، إذا داهم الوطن عدو معتد، لكن أحدا لا يطالب هنديا في تلك الحالة أن يضحي بنفسه في سبيل مصر، حتى لو كان ذلك الهندي يدين بالإسلام.

وهنا أنتقل إلى ما قلت عنه إنه نمط ثقافي معين، هو الذي يجعل العربي عربيا، فما هي عناصره في إيجاز؟ أول تلك العناصر، إحساس ديني عميق ينبض به قلب الإنسان من حيث يدري ولا يدري، وجوهر ذلك الإحساس شعور الإنسان شعورا قويا، بأن هذا الواقع الذي يعيش الناس حياتهم فوق أرضه وتحت سمائه، وراءه غيب خلقه ويخلقه، ودبره ويدبره، ونقول «وراءه» على سبيل المجاز؛ لأن ذلك الحق الذي خلق ويخلق، ودبر ويدبر، بالنسبة إلى هذا الواقع الذي هو مسرح نشاطنا، لا هو «وراء» ولا هو «أمام»، فقل عنه أيا من هذه العلاقات المكانية، قل عنه إنه «فوق» الواقع الكوني أو «تحته» أو إنه مبثوث فيه، فكلها تصويرات صادقة كاذبة معا، ولا حيلة لصاحب الإحساس الديني في ذلك، إذ ليس في وسعه إلا «لغة» يحرك بها لسانه، وشتان شتان بين لفظة تنحدر بين شفتيك، وحالة وجدانية نبض بها قلبك أيا ما كانت تلك الحالة: من حب الإنسان للإنسان، صعودا إلى حب الإنسان لله، هو - إذن - هذا الإحساس الديني قد تميز به إنسان هذه الرقعة الجغرافية من كوكب الأرض، لا من حيث «النوع»، وإلا فلم تشهد الدنيا إنسانا واحدا لم يحس بفطرته مثل ذلك الإحساس، ولكن تميزنا بغزارته، وبالقدرة على التعبير عنه تعبيرا تكونت من تفصيلاته حضارة بأسرها أو عدة حضارات، كما تكونت من إشعاعاته ثقافة طويلة عريضة، أو عدة ثقافات، وإن هذا الإحساس الديني في عمومه، لهو بالنسبة إلى الديانات النوعية المتمايزة، لهو بمثابة الجذر من الشجرة تعددت فروعها وكثرت ثمارها، أفلا يلفت أنظارنا أن كل الديانات المنزلة بوحي من الله تعالى، إنما نزلت هنا على هذه المنطقة؟ أفلا يلفت أنظارنا أن الديانات الثلاث الكبرى: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وهي التي كان لها شأن أي شأن في أرجاء هذه المنطقة أول تاريخها، ومنها انتشرت إلى سائر بقاع الدنيا، أقول: أفلا يلفت أنظارنا أن تلك الديانات الكبرى الثلاث، قد أراد لها موحيها - جل وعلا - أن ترتبط بمصر ارتباطا خاصا؟ فموسى - عليه السلام - ولد هنا، وتعرض للخطر وهو وليد، لكنه نجا بإذن الله، وعيسى - عليه السلام - ولد في فلسطين، لكنه كذلك تعرض لخطر العدوان من أعداء ولادته، فلاذت معه أمه مريم بمصر، فنجا بإذن الله، وأن نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام - فضلا عن زواجه من مارية القبطية، كان هو الذي وصف مصر بأنها كنانة الله، والكنانة هي عدة السلاح في خزائن الفرسان.

والعنصر الثاني في بنية النمط الثقافي الذي نزعم له أنه هو معنى «العروبة» في مصر وفي غير مصر، من أجزاء هذه الرقعة من الأرض، هو اللغة، فبالرغم من تعدد الفروع اللغوية في أقطار هذه المنطقة قديما، إلا أنها جميعا تشترك في طابع مميز، بما فيها لغة المصريين القدماء، وهنا ألجأ مع القارئ إلى ما أورده الدكتور أحمد قدري في مقدمته التي أسلفنا ذكرها، ففيها يشير إلى البحوث في علم أصول اللغات، وما قام به «إدوارد ماير» من تحليلات علمية للوثائق الهيروغليفية، لينتهي آخر الأمر إلى نتائج - أكدها من جاءوا بعد من علماء اللغات - كان من أهمها مشاركة اللغة المصرية القديمة مع سائر لغات المنطقة، في المفردات وفي قواعد التركيب، فهي مثلها تتميز باستخدامها لصيغة المثنى، وباستخدام تاء التأنيث، وصفة النسبة، والجذر الثلاثي للفعل، وإهمال كتابة الحروف المتحركة، وإن كاتب هذه السطور ليضع أهمية كبرى في خاصة «الجذر الثلاثي»؛ لأنه يرى فيها انعكاسا للنظم الاجتماعية في أعمق أسسها؛ وذلك لأنه كما تنبثق من «الثلاثي» مفردات أسرة لغوية بأكملها، يتجمع أبناء الأمة الواحدة، أو القبيلة، أو الأسرة، أو القرية، تحت رئاسة رجل واحد، يكون هو الفرعون، أو الملك، أو الوالد، أو شيخ القبيلة، أو عمدة القرية .

ومن الخاصتين اللتين ذكرناهما ، الإحساس الديني، واللغة في طرائق اشتقاق مفرداتها وتركيب جملها، تنتج نتائج عظيمة الأهمية في حياة الناس، وتشكيلها وتوجيهها، وحسبنا أن نذكر منها قيم الأخلاق، فهذه القيم تلزم لزوما مباشرا عن العقيدة الدينية، وعن المضمونات المعنوية المكثفة في مفردات اللغة وفي طرائق تركيبها، مما قد ذكرت بعضه في مناسبات كثيرة سابقة، وإن المصري المعاصر ليحتاج إلى تربية جديدة، توقظ فيه الوعي بتاريخه وعيا ناضجا رشيدا، لا يكفي له حفظ المذكرات ونجاح التلاميذ في الامتحان، بل هو وعي يسري في الدماء مع الدماء؛ لكي يعلم من هو، فيكون على يقين من أنه وليد حضارات اختلفت ظروفها مع متغيرات الزمن، لكنها برغم ذلك اشتركت كلها في عدد من الركائز والدعائم، هي هي الركائز والدعائم التي تميز هذه المنطقة «العربية» كلها، وإن المرء ليتساءل في هذا السياق: ترى هل كان شيء من هذا المعنى، هو الذي راود علي مبارك، حين علل ضعف الأمة الإسلامية، والأمم الشرقية عموما، بما يعيبهم من نقص ملحوظ في وعيهم بالتاريخ؟

حول مشكلة الانتماء

ذات يوم من عام بعيد، قرأت مقالا في مجلة أمريكية لكاتب ساخر جعل عنوانها: «من أنا؟»، وجاء جوابه لنفسه عن نفسه قائمة من أرقام، كأن يقول مثلا: ولدت عند تقاطع خط عرض 42 مع خط طول 63، عمري 47، طولي 175 سنتيمترا، وزني 75 كيلوجراما، أسكن رقم 19 شارع 74، بطاقتي الشخصية رقمها 3189، ورقم سيارتي 8549، ورقم حسابي في البنك 63817، وهكذا أخذ الرجل يرص أرقاما حتى ملأ المساحة الورقية التي خصصتها المجلة لمقالته، جاعلا كلمة الختام قوله: «هذا هو أنا» ...

وكان واضحا أنه إنما يسخر، لا من شخصه فقط، بل يسخر من العصر كله، من حيث تحويله للناس إلى أرقام، فمدير المصنع لا يعرف عن أي عامل في مصنعه إلا قائمة من أرقام، حتى لقد أصبح اسم الرجل مجرد رمز لا يشير إلى إنسان بذاته، يفرح ويحزن، ويصح ويمرض، وله أسرة يعولها ويحمل همومه وهمومها إذا أمسى به المساء، أو أصبح به الصباح، لا، بل هو مجموعة أرقام رصدت في «ملفه»، قد لا تعني شيئا قط إذا قرأتها زوجته، أو قرأها جاره في السكن، لكنها تعني كل شيء عن العامل بالنسبة إلى صاحب العمل، وقد يكون ذلك هو كل ما هو المطلوب عن العامل، على نحو ما يكفي إدارة التليفونات أن تعرف أرقامها مقرونة بأصحابها، أو يكفي إدارة المرور أن تعرف أرقام السيارات مقرونة بمالكيها، وغير ذلك من الدوائر التي تحصر معاملاتها مع الأرقام، لا مع ما يعانيه أصحابها أو ما ينعمون به، ونتوسع قليلا في هذه الظاهرة العددية من عصرنا، فنرى كل جوانب الحياة قد تحولت في أيدي أولي الأمر إلى إحصاءات ومتوسطات، وهذا - بالطبع - أدنى إلى الدقة، لكنه في الوقت نفسه أعمى وأصم وأبكم بالنسبة للإنسان المبين بشخصيته المفردة ذات الظروف الخاصة التي قد لا تشاركها فيها شخصية أخرى، فنسمع - مثلا - عن مواطن خطف فتاة من الطريق العام، واعتدى عليها عنوة، ثم أصابها بما أصابها، فيصرخ الرأي العام في الصحف، وهنا يجيء الرد المطمئن من أولي الأمر، بأنه لم يحدث ما يدعو إلى القلق؛ لأن أمثال هذه الحوادث لا تزيد نسبتها عن نصف في المائة من السكان، نعم، هذا صحيح من ناحية الإحصاءات والمتوسطات، لكن ماذا عن شعور الفتاة المصابة وذويها؟ إن الأمر بالنسبة إلى هؤلاء هو مائة في المائة؛ لأنه يتصل بصميم حياتهم، وربما امتد معهم الأثر ما بقي لهم من حياة.

كان الكاتب الساخر - إذن - يسخر من العصر كله في هذا الجانب المعين من جوانب الحياة فيه؛ لأنه اكتفى من حقيقة الإنسان بالسطح العددي، فسقط من حسابه ما هو وراء تلك الأعداد، على أن ذلك «الماوراء» هو عند صاحبه كل شيء يستحق أن يعاش من أجله، وإذا نحن دققنا النظر في العناصر الماورائية في حياة الإنسان، وهي العناصر التي يعيش ذلك الإنسان من أجلها ويموت من أجلها، وجدنا من أهمها انتسابه إلى فئة بعينها، أو - في واقع الأمر - إلى عدة فئات تتدرج في القيمة درجات، فلقد سأل الكاتب الساخر نفسه: من أنا؟ وأجاب بقائمة من أرقام ، وهو يعلم أنه يسخر ، لكننا إذا ألقينا السؤال نفسه على عابر طريق: من أنت؟ لجاء جوابه مختلفا كل الاختلاف، فهو بعد أن يذكر اسمه، يبين أنه ابن فلان، ووالد فلان وفلان، ويعمل كذا إلى آخر هذا الخط، وهو خط كله علاقات تربطه بأطراف مختلفة، وتلك هي نواة الانتماء، فالفرد المعين من أفراد الناس، لا يستطيع أبدا أن يكتفي بذاته هو، أي بما هو مستكن داخل جلده، في تعريف الناس بحقيقته، بل لا بد له من أجل الوفاء بذلك التعريف من ذكر الشبكة التي جاءت حياته الفردية طرفا من أطرافها، فلسنا نجاوز الحق مجاوزة بعيدة، إذا ما قلنا إن أي إنسان ما هو إلا مجموعة علاقات تربطه بعدة أطراف، منها ما هو أحياء ومنها ما هو أشياء، ومنها - وهو ذو أهمية كبرى - ما هو معان اجتمع عليها هو والآخرون الذين التقوا تحت لواء انتماء واحد.

فما هي «المعاني» الكبرى التي يجيب بها المصري: من أنت؟ وعند هذه النقطة يبدأ الإشكال، فأول الإجابة بديهي وسهل، لكن تأتي الصعوبة التي كثيرا ما يثور حولها الخلاف، عندما نريد أن نمتد بعد تلك الخطوة الأولى بضع خطوات، فأنا أقرر عن نفسي - أنا كاتب هذه السطور - أنني لم أتردد منذ الوهلة الأولى في أن أرتب خطوات الانتماء بعد مصريتي بذكر عروبتي، فإسلامي، بحيث أقول: أنا مصري، عربي، مسلم، ولم أكن أحسب أن مثل الترتيب لخطوات الانتماء يثير اعتراضا من أحد؛ وذلك - على الأقل - لأنه ترتيب يمليه المنطق، إذ هو يسير من الخاص إلى العام، فمصر جزء من الوطن العربي، وهذا الوطن العربي جزء من مجموعة أوطان يدين معظم أهلها بالإسلام، وأذكر أنني أوردت هذه الوحدات الثلاث، مرتبة هذا الترتيب، في سياق شيء مما كتبته، فجاءني خطاب من قارئ ليصحح لي خطأ هذا الترتيب، قائلا: إن الإسلام يأتي أولا في تعريف المسلم لنفسه، ثم يأتي بعد ذلك ما شاء من صفات، وكأن أخانا حسب الأمر في هذا مرهونا بأهمية الصفة في ذاتها، مستقلة عن الشخص وعناصر هويته بالنسبة لسائر أفراد المجتمع الذين يعايشونه في حياة مشتركة واحدة، فعليه يقع واجب الضريبة، وواجب التجنيد، وواجب القتال إذا نشبت حرب، وواجب التزام القانون المصري، وهكذا وهكذا، يقع عليه كل ذلك من حيث هو مواطن مصري، وقد لا ترد في شيء من هذا كله، مناسبة، يطلب فيها معرفة عقيدته الدينية ما هي؛ لأن مصريته وحدها توجب واجبات المواطن كما تحق حقوقه.

كان ذلك واضحا لي، ومع ذلك فإني أقرر أنه منذ جاءني ذلك الخطاب، وقد جاء منذ عامين على أقل تقدير، وأنا مشغول الذهن بقضية طرحتها على نفسي، وهي كيف يكون ترتيب الصفات التي منها تتكون هدية المواطن من حيث الأساس الذي قد تضاف إليه بعد ذلك فروع، لقد طالبت نفسي بألا يكون الترتيب جزافا، بل لا بد أن أقيمه على أساس يشبه الأسس العلمية؛ حتى لا يبقى أمام الناس موضع لخلاف، فهل يصدقني القارئ إذا أنبأته بأن المشكلة لم تجد لها عندي حلا مقنعا إلا منذ قريب؟ وعندما تحل أمثال هذه القضايا الفكرية، كثيرا ما يقول الناس: يا أخي إن المسألة أوضح من أن تكلفك كل هذا العناء، فهذا الذي تقوله، إنما هو مما تدركه البديهة في لمحة، فليكن ما يكون من تعليقات وردود، فالأمر الواقع هو أن النتيجة التي سأذكرها الآن، قد جاءتني بعد إمعان في الفكر، كلما وردت القضية إلى ذهني، مدة لا تقل عن عامين؛ لأنني كنت كلما رضيت عن حل ما، وجدت في الحال ما ينقضه، فلو أنني - مثلا - وضعت مصريتي قبل إسلامي لسألت نفسي: أي هاتين الصفتين أيسر في التنازل عنها، لو فرضنا - جدلا - أن جاء الظرف الحاسم الذي يطلب فيه الاختيار؟ فلم أجد عندي ذرة من التردد في أن التنازل عن مصريتي في مثل هذه الحالة، أيسر ألف مرة من التنازل عن إسلامي، ولا أظن أني أنفرد بهذا الجواب، بل هو - على الأرجح - موقف الإنسان أيا كان وطنه وأيا كانت ديانته، والذين نسمع عنهم أنهم أعلنوا عن أنفسهم تنازلا عن دين وقبولا لدين آخر، يغلب جدا أن يكون التغيير ظاهريا دون أن يمس إيمان القلوب، وإنما أعلنوا ما أعلنوه قضاء لمصلحة معينة في حياتهم العملية.

كان مثل هذا التساؤل يعترض طريقي، لكنني أعود فأجد في الموقف جوانب تقتضي هذا الترتيب أو ذاك، وإنما نشأت لي تلك الحالة المترددة، بسبب أنني لم أكن قد وقعت بعد على فيصل حاسم، فلما وجدته استقام لي الأمر، ومؤداه أن الصعوبة كلها قد نشأت من عدم التفرقة بين زاويتين يتم منهما الوصول إلى هذه النتيجة، أو تلك، وإحدى هاتين الزاويتين هي أن ننظر إلى الموضوع من خارج الذات، والزاوية الأخرى هي أن ننظر إليه من داخل الذات، أما النظرة الأولى فتقدم إلينا ترتيبا يقرره واقع الحياة الاجتماعية بكل ما تتضمنه تلك الحياة من دستور وقوانين، ونظم مختلفة، ويضاف إليها بعض التقاليد التي ارتضاها المجتمع في تنظيمه للعلاقات بين أفراده، وأما إذا نظر الفرد إلى الموضوع من ناحية ما يحسه هو في دخيلة نفسه، ماذا يحب وماذا يكره، فقد يجيء الترتيب عندئذ بعيد الاختلافات عن الترتيب الذي ينتج عن ضرورات الواقع الخارجي.

فالدستور والقوانين، والنظم، والتقاليد، تفرض على المواطن - أحب هو ذلك أو كره - كثيرا جدا من الواجبات التي لا اختيار له في القيام بها، كما أنها كذلك تقرر له كثيرا جدا من الحقوق، التي لا اختيار للآخرين في إقرارها له، وهي تفرض عليه تلك الواجبات، وتقرر له هذه الحقوق، دون أن يكون لنوع عقيدته الدينية دخل في الأمر، وإذن فمصرية المصري هي الأساس، إذا كانت زاوية النظر مرتكزة على العوامل الاجتماعية التي ذكرناها.

ولكن هل يمنع ذلك أن نجد مصريا يعبر لنا عن شعوره الحقيقي الداخلي، فإذا به قد ضاق بمصريته تلك، وأخذ يفكر فعلا في هجرة عسى أن تنتهي به إلى التخلص من جنسيته واكتساب جنسية أخرى؟ فمثل هذا الإنسان، لو طلبنا منه أن يرتب صفات هويته كما يشعر هو لا كما هو مفروض عليه من خارج ذاته، لما وضع مصريته في أول الدرجات.

إنهما زاويتان للنظر ، لا زاوية واحدة، قد يتسع البعد بين الحكم بإحداهما عن الحكم بالأخرى، فتختلف صورة «الانتماء» عند المنتمي في وقوعه بين الحالتين، على أن المثل الأعلى للمجتمع السوي، هو أن نجد ما يشعر به المواطنون من داخل ذواتهم، في ترتيبهم لدرجات انتمائهم متطابقا مع ما تتطلبه منهم الدساتير والقوانين والنظم والتقاليد، فإذا ما تحققت لنا تلك الحالة المثلى، جاءت مصرية المصري صفة أولى عن حب ورضا وطواعية، وبمقدار ما تضيق الزاوية أو تتسع بين أولويات الانتماء في نفوس المواطنين، من جهة، وبين تلك الأولويات في حساب المجتمع متمثلا في الدولة، من جهة أخرى، يمكننا قياس الاستقامة أو العوج في ظروف الحياة القائمة، وما ينبغي عمله من إصلاح في النظم الاقتصادية والتعليمية، والقضائية وغيرها ... فليست المسألة متوقفة على وعظ نلقيه على الناس عبر قنوات الإعلام، قائلين لهم بالكتب والنشرات والخطب والمقالات والأغاني والمسلسلات: إن انتماء المصري لمصر واجب، نعم: هو أوجب الواجبات، كما يعلم ذلك كل مصري علم بالفطرة ذاتها، إن لم يكن بحكم ما اكتسبه المصري من تعلق طبيعي شديد بأرض الوطن، لكن ذلك كله تتغير موازينه في قلوب الناس، وتأخذ المقومات الأخرى في مزاحمة الروح الوطنية على الأولوية والصدارة، كما حدث بالفعل بالنسبة إلى مئات الألوف من مواطنينا، من هاجر ومن لم يهاجر.

الوضع الطبيعي في البناء الاجتماعي السليم، هو أن تجيء مشاركة المواطنين في وطنهم، بالواجبات وبالحقوق، أسبق من مشاركتهم أو عدم مشاركتهم في الدين، وإني لأرجو من القارئ ألا يتسرع بانفعاله، ويعترض صارخا: كيف يكون هنالك ما هو أسبق من الدين؟! فالمسألة هنا ليست تفاوتا في درجات «الأهمية» - كما أسلفت القول - فالعقيدة الدينية أيا كانت، هي عند صاحبها في قرة عينه وصميم قلبه، تلازمه أينما كان، أما إذا وجهنا أنظارنا، لا من داخل المؤمن بدينه وما يشعر به - بل من جهة البناء الخارجي الذي يسكن فيه ذلك المؤمن مع ملايين من مواطنيه، فالحكم في ترتيب الأولويات يختلف، وربما اتضح الأمر إذا شبهنا حياة المواطنين معا في وطن واحد ، بركاب سفينة تسافر بهم في وسط المحيط، فبأي منظار ينظر قائد السفينة إلى سلوك الركاب من حيث المفاضلة بين شيء وشيء، أو من حيث خطأ السلوك وصوابه؟ إنه ينظر بمنظار سلامة السفينة بركابها، وأما العقيدة التي يؤمن بها كل راكب على حدة، فمتروكة لصاحبها، وهذا هو المعنى الذي عبرنا عنه في ثورة 1919 بعبارة شاعت حتى استقرت في الصدور، وهي عبارة تقول: الدين لله، والوطن للجميع.

وأسبقية الولاء الوطني على الشعور الديني، أمر لا جديد فيه، فوقائع التاريخ تقدم إلينا ما شئنا من أمثلة، وأبدأ بمثلين من التاريخ الإسلامي، حين لم يكن مضى أكثر من قرن واحد بعد ظهور الإسلام، وأحد المثلين مأخوذ من الحياة السياسية، والآخر مأخوذ من الحياة العلمية، أما أول المثلين فهو عن المشكلة التي ثارت في القرن الثاني الهجري، وأطلق عليها اسم «الشعوبية»، وهي تعني أن كلا من الشعبين العربي والفارسي، برغم أنهما كانا يعيشان معا تحت مظلة الإسلام، قد أخذ يفاخر الآخر بمزايا قومه على القوم الآخرين، ولم تقف تلك المفاخرة عند التشدق بكلمات الزهو، بل جاوزت ذلك لتصبح تدبيرا وتخطيطا للوقيعة بالخصوم، وإننا لنعرف كيف استثمر العباسيون هذا العداء القومي بين الفرس والعرب في الأمة الإسلامية الواحدة، بأن ناصروا الفرس سرا ليستعينوا بهم في هدم دولة الأمويين، لتقوم بعدها دولة العباسيين، حتى إذا ما انتصر العباسيون في خطتهم، ومكنوا للفرس جزاء ما عاونوهم به، جاءتهم الفرصة المناسبة ليعيدوا تعادل الميزان.

وأما المثل الثاني الذي نأخذه من الحياة العلمية، فهو أن علماء اللغة، حين انكبوا على دراسة اللغة العربية دراسة مستفيضة وعميقة، باعتبارها الخطوة الضرورية الأولى لفهم القرآن الكريم فهما مؤسسا وموثقا، رأينا هؤلاء العلماء وقد انقسموا مدرستين مختلفتين في وجهة النظر: إحداهما كانت في البصرة، ومن أبرز أعضائها سيبويه الفارسي الأصل، وأما الثانية فكانت في الكوفة، وكان رجالها عربا خلصا، فعلى الرغم من أن موضوع الدراسة علمي بحت، إلا أن الروح القومية تسللت إلى عملهم، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وكان مدار الخلاف بين الجماعتين، هو ماذا يكون مرجعنا في تمييز ما يجوز وما لا يجوز في اللغة واستعمالها استعمالا صحيحا؟ أما علماء الكوفة فلم يترددوا في أن يكون المرجع في الحكم هو ما قاله العرب الأقدمون وما لم يقولوه، فاللغة لغتهم، وعنهم يأخذ الخلف، فما استعملوه يعد صحيحا، وما لم يستعملوه لا يجوز لمن جاء بعدهم أن يجيزوا استعماله لأنفسهم، لكن علماء البصرة كانت لهم نظرة أخرى، وهي أن نترك للعقل المحض أن يشتق من الأصل اللغوي ما «يمكن» اشتقاقه من مفردات، وما دامت هي مشتقة وفق القاعدة فهي صحيحة حتى ولو لم نجدها مستعملة عند الأقدمين فيما تركوه من شعر ونثر، لا، بل إنه ليجوز لعلماء الخلف أن يصفوا بالخطأ ما قد استعمله أحد الأقدمين، إذا كان قد جاوز فيه القاعدة العقلية في استدلال الفروع من الأصول، فإلى هذا الحد يبلغ أثر الروح الوطنية حتى ليظهر ذلك الأثر في مجال العلم، وليس بخاف على أحد، أن علماء اللغة في البصرة وفي الكوفة جميعا، كانوا يدينون بالإسلام، بل وكان دافعهم الأول إلى البحث في اللغة هو خدمة الكتاب الكريم، لكن تلك المشاركة في الدين لم تمنع أن يتأثر كل فريق بما يعلي من شأن قومه، فعرب الكوفة يعلون من شأن الأصول العربية، والمتأثرون بالفرس بالبصرة، يلجئون إلى منطق العقل، ليكون المعنى الضمني في ذلك ألا فضل للعربي على سواه حتى في موضوع اللغة العربية ذاتها.

وانظر إلى العالم الإسلامي في يومنا هذا تجد روح الأخوة والمساندة قائمة بين شعب مسلم وشعب مسلم آخر، لكن الشعبين لا يترددان في أن يخوضا أهوال الحرب، أحدهما ضد الآخر، إذا اقتضت سلامة أوطانه أن تنشب الحرب، فإيران والعراق شعبان مسلمان، والمغرب وأهل الصحراء الغربية شعبان مسلمان، وباكستان وبنجلاديش شعبان مسلمان، لكن حدث في تلك الحالات كلها ما ظنه أبناء الشعبين المتخاصمين خطرا على سلامة الوطن، فأصبحت الأولوية أمرا مقطوعا به بين الانتماء للوطن والانتماء للدين المشترك.

على أن أولوية المشاركة في الوطن على المشاركة في الدين، وهي أولوية تكون خافية في وقت المصالحة، ثم تظهر إذا ظهرت دواعي المخاصمة، غالبا ما تكون الدعامة التي تستند إليها، هي قوة الدولة التي من شأنها أن تصون للوطن الواحد وحدته، أما إذا انهارت أركان الدولة في وطن ما، أو ضعفت ضعفا يدنو من الانهيار، فالأغلب هنا أن تطفو الانقسامات الدينية، ما دام السقف القومي الذي كان يظللها ويحميها قد زال فتعرت رءوسها، وإن لبنان في حربه الأهلية الراهنة لخير مثل يساق على ذلك، فقد ضعفت سلطة الحكم، فانكشفت انقسامات الدين لا بين المسيحيين والمسلمين فحسب، بل بين الطوائف المسيحية بعضها مع بعض، والطوائف الإسلامية بعضها مع بعض كذلك.

أظنني الآن قد وفيت المشكلة حقها من التوضيح، فيما يختص بطرفي المشاركة في الوطن، والمشاركة في الدين، ولكني مع ذلك وقد ألفت أن يقرأني كثيرون بأنصاف عقولهم، فيخرجون من قراءتهم بفكرة مغلوطة، فإني أوجز تسلسل التفكير فيما أسلفته، فأقول: إنه في الحالة السوية للبناء الاجتماعي، يكون هنالك - مبثوثا في صلب الحياة نفسها - عدة انتماءات للفرد الواحد، منها انتماؤه لمصريته، ومنها - في الوقت نفسه - انتماؤه لعقيدته الدينية، وعندئذ لا تظهر فكرة الأولويات بين تلك الانتماءات لأنه لا يكون ثمة داع لظهورها، لكن ذلك البناء الاجتماعي نفسه قد يصيبه خلل ما، مما يستدعي أن تنشأ المشكلة بأي الولاءين يبدأ المواطن، إذا ما جاء الموقف الذي يضطره إلى اختيار، وهنا أقول: إن الأولوية يجب أن تكون للانتماء القومي، ولقد بينت فيما أسلفته، أن تلك الأولوية في الحياة الاجتماعية التي هي شركة بين المواطنين جميعا، لا تنفي وجود ترتيب آخر يكنه الفرد الواحد في نفسه، فزاويتا النظر، من الخارج ومن الداخل قد تتباعدان في الفترات الشاذة، والمثل الأعلى هو أن تجيء الحياة الاجتماعية على صورة لا تثير الفارق في حساب الأولويات بين باطن وظاهر! إن الجسم الصحي السليم، لا يشعر صاحبه بوجود أجهزته؛ لأن تلك الأجهزة تؤدي وظائفها كلها معا كما يجب أن تؤدي، فالإنسان لا يحس بوجود عينه أو أذنه أو معدته، إلا إذا أصابتها العلة، وأما وهي سليمة فهو لا يدري أن له عينا ترى وأذنا تسمع ومعدة تهضم الطعام.

ولم أقل شيئا حتى الآن عن ترتيب الأولوية في الانتماء، بين مصرية المصري وعروبته؛ لأنها في الحقيقة واضحة ولا تحتاج إلى شرح طويل، وإني لأعجب ممن يجعلون منها مسألة تنتظر الجواب، وكنت أنا من هؤلاء حتى سنة 1956، ثم تبينت الحقيقة في وضوحها، ومنشأ الوضوح هو أن المصرية والعروبة تسيران في خط واحد، وكل الفرق هو ما بين الخاص والعام، فهنالك شبه في البنية المنطقية بين قولنا، الشعب المصري جزء من الأمة العربية، وقلنا مؤلفات الحكيم جزء من الأدب العربي، فللجزء الأصغر صفات تميزه ولا شك، لكن هذا التمييز لا ينفي عنه وقوعه جزءا من كل يحتويه، ولولا تعدد السيادات والقيادات في أجزاء الوطن العربي الكبير، لظهرت الحقيقة صارخة، بأن في هذا الوطن، من أقصاه ذات الشرق إلى أقصاه ذات الغرب، كيانا يتنفس ويتغذى من جذور ثقافية واحدة، حتى وإن تعددت الديانات بين بعض فئاتها، ولا غرابة، فكلها فروع انبثقت من أب واحد، هو إبراهيم - عليه السلام.

صفحة غير معروفة