كلمات اللغة، مفردة ومركبة إنما هي في تجسيداتها أشياء من الأشياء، إنها نوع من الكائنات كأي نوع آخر من كائنات الأرض أو السماء، فهي في مادتها - إذا كانت منطوقة - موجات من هواء، وهي - إذا كانت مكتوبة - أجسام مشكلة من مداد أو من رصاص، أو من طباشير، أو ما شئت من مواد الكتابة، الكلمات أشياء من الأشياء، ولكنها أسرة عجيب أمرها عجبا لا ينقضي إذا تأملتها، فمنها العلم ومنها الأدب، ومنها السحر ومنها الخرافة، ومنها الغناء المطرب، ومنها الخطابة التي تلهب، ومنها معارك، ومنها حلو السمر بين الأحباء، والكلمات نوع من الكائنات كسائر أنواع الكائنات، فهي كجماعة الطير، فيها البلابل وفيها العقبان والنسور، وهي كجماعة الحيوان فيها الغزلان وفيها الأسود والنمور، أو هي كصخور الأرض فيها التبر وفيها التراب ... لكنها نوع عجيب متفرد وحده دون سائر الأنواع؛ لأن بالكلمات صار الإنسان إنسانا، لا من حيث هي مجرد موجات من الصوت، ولا من حيث هي مجرد جسيمات من مداد أو غير المداد نثرها الكاتبون على الورق، ولكن من حيث هي حاملات للمعاني، ورامزات إلى الأشياء لتكون مهمة من يتلقاها أن يزاوج بين تلك المعاني وهذه الأشياء، فإذا هو لم يفعل، كانت وكأنها وقعت منه على أصم وأعمى وأبكم، كلماتنا قلوبنا وعقولنا، خرجت من مكامنها إلى ملأ الناس في العلانية، وكلمات الله - جلت قدرته - في قرآنه الكريم، هي منهج «للعمل» نعلو به سادة على الأرض ظافرين من رب السماء.
عصر يبحث عن حرية الإنسان
عندما هممت بالكتابة عن حرية الإنسان، وكيف يتمخض بها عصرنا مخاض البركان يريد أن يتفجر بالحمم، أخرجت ورقاتي وأنرت المصباح وأمسكت بالقلم، لكنني لبثت على هذا الوضع فترة طالت معي على صورة لم أعهدها من قبل إلا قليلا، وذلك أني لم أعرف كيف أبدأ، وظللت طوال تلك الفترة الطويلة، أحدق بنظراتي إلى زجاج النافذة، كأنما أردت أن أنفذ بتلك النظرات خلال الزجاج، ولعل ما أعاقني هو رغبتي في أن أجد مدخلا ميسرا بسيطا، يشجع القارئ على البدء بالقراءة، ولكن، لماذا قدرت للقارئ أن يأخذه نفور فينصرف به عن قراءة ما سوف أكتبه؟ ربما جاء تقديري هذا من طبيعة الموضوع أولا، ومن ميل مسبق عند طائفة كبيرة من الناس أن يسيئوا الظن بعصرنا، أما عن طبيعة الموضوع - والموضوع هو حرية الإنسان - فهو يدور حول كلمة من تلك الكلمات التي تنتفخ في الخيال حتى ليتسع جوفها لكل صنوف المعاني، ومع ذلك فقلما يخرج معظم الناس منها بشيء اللهم إلا الكلمة نفسها التي بدأ بها، لماذا؟ قد يكون ذلك راجعا إلى ما يحيط بالحرية من هيبة وجلال، مما يميل بمن يكتبون عنها، نحو اختيار عبارات تتناسب هيبة مع هيبتها، وجلالا مع جلالها، وإنه لمن المفارقات العجيبة، أن حصيلة المعنى التي يخرج بها القارئ كثيرا جدا ما تتناسب تناسبا عكسيا مع ضخامة التعبير وفخامته؛ لأنه كثيرا ما حدث في تاريخ الكتابة الأدبية، أن لجوء الكاتب إلى التضخيم والتفخيم، إنما هو قرين ملازم لقلة علمه وضحالة خبرته، وهذا بعينه هو ما يحدث في حالات كثيرة، عندما يكون الموضوع الذي يكتب فيه هو الحرية أو ما يشبهها من كلمات.
ذلك عن الموضوع وطبيعته، وأما عن عصرنا وكراهية الناس لذكره، فربما جاءت تلك الكراهية من أن بلادنا جزء من العالم الواسع الذي وقع ضحية أو فريسة، فعصرنا يتميز بين ما يتميز به، بانفراج الزاوية انفراجا رهيبا بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير وبين طلائع العلم الجديد ومن هم لا يزالون في دنيا هذا العلم الجديد لكن يغمرهم الظل بظلامه، على أن المأساة في هذا كله تزداد أسى بكون الزاوية التي انفرجت بين الفريقين تزداد مع الأيام انفراجا، فلا غرابة إذن - أن تثار الكراهية في الصدور، عند كثرة كثيرة من مواطنينا - إذا أراد كاتب أن يذكر لهذا العصر الباغي فضيلة أو فضائل، لا سيما إذا زعم لهم ذلك الكاتب فضيلة للعصر في جانب من الحياة، هم لم يروا فيه إلا نقيض ما زعم، وهذا الكاتب يهم بكتابة يعتزم أن يقول بها للناس إن عصرنا ما ينفك باحثا لهم عن مسالك تؤدي بهم إلى حياة تسودها حرية الإنسان، وهو ما لم يروا منه - في ظنهم - إلا مرارة نقيضه.
أقول: إنه ربما كان ذلك الشعور هو الذي حدا بي إلى التأني في اختيار ما أبدأ به الحديث حتى ارتأيت آخر الأمر، أن أبدأ باللفظة نفسها لفظة الحرية لأصب عليها نور المصباح، فأبرز منها أمام الأبصار جانبا، هو فيما أعتقد - محجوب عن رؤية الناس، مع أنه فيما أعتقد كذلك لو أضيء ووضحت معالمه، انفتح الطريق أمام رؤية أنصع، وفهم أدق، وذلك الجانب الذي أعنيه هو أن اسم الحرية - شأنه في ذلك شأن طائفة كبيرة من الأسماء - إنما هو اسم لا يطلق على شيء محدد متعين، بل هو في الحقيقة اسم يشير إلى محصلة مفردات كثيرة، كل مفرد منها مأخوذ على حدة ليس حرية، على نحو ما نعنيه بكلمة مباراة في كرة القدم مثلا، فليس هناك شيء معين يكون هو المباراة، فكل لاعب من اللاعبين وهو على حدة ليس مباراة، إذ المباراة هي محصلة جزئيات من أفراد ونشاطهم الحركي توشك أن تستعصي على حصر عددها، إذا أردت حصرها.
ومن هذه البداية أبدأ حديثي، فإذا كانت جزئيات النشاط الحركي في مباراة الكرة تستعصي على الحصر لكثرتها، فإنه يمكن - برغم هذا - معرفة الاتجاه الذي يتجه به السير في مجراها، فكل فريق من الفريقين، في كل ضربة من ضربات أفراده للكرة، يستهدف الهدف المقصود، ومن محصلة تلك الضربات التي تعد بالألوف تأتي النتيجة للفريق نصرا أو هزيمة ... وهكذا الحال في معنى الحرية، فالحياة الحرة للإنسان الحر أو للشعب الحر ليست جزئية واحدة بعينها تشير إليها بإصبعك قائلا: هذه حرية، بل هي تعرف باتجاه جزئياتها نحو هدف معلوم، هنالك تاجر يبيع وزبون يشتري، هنالك مهندس يشرف على إقامة البناء وساكن يسكن، هنالك معلم يعلم وطالب يتعلم، هنالك طبيب يعالج ومريض يتلقى العلاج، هنالك وهنالك، إلى أن تبلغ بعدد الجزئيات إلى ملايينها، لكن هذه الكثرة الهائلة تتجه بتيارها اتجاها يجعلها حياة شعب حر، أو اتجاها آخر يجعلها حياة شعب مقيد، فبأي الخصائص - يا ترى - يتميز كل من الاتجاهين؟
إنك إذا نفذت ببصرك - عن طريق التحليل العلمي - خلال تلك التفصيلات الكثيرة التي يعيشها الناس في حياتهم اليومية العملية، رأيت إرادة رابضة وراءها تحركها في اتجاه يحقق لها آخر الشوط هدفا ما، فإذا كانت تلك الإرادة هي إرادتي وإرادتك، وإرادة الكثرة الغالبة من المواطنين، بقي علينا أن نسأل عن الهدف الذي في سبيله نتحرك، فإذا وجدناه هدفا يحقق لنا في نهاية المطاف أن نكون أكثر علما، وأيقظ وعيا بالعالم الذي نعيش فيه، كانت حياتنا حرة بمقدار ما استطعنا أن نحقق من الهدف المنشود، وأما إذا وجدنا الإرادة الرابضة خلف نشاطنا الحركي في شتى مجالاته مفروضة علينا من سوانا وليست منبثقة من عزائمنا الباطنية، كنا غير أحرار، حتى لو كانت الأهداف التي نحققها بذلك النشاط مما يمكن أن يكون أهدافا لنا، وكأني أسمع طالبا من طلابي يصيح قائلا: ماذا تكون هذه الإرادة الرابضة التي تتحدث عنها يا أستاذنا، وقد كنت تحاسبنا حسابا عسيرا على دقة الكلمات ما دمنا بصدد التعبير عن حقيقة عقلية؟ فأجيب السائل: بأن الإرادة الشعبية التي هي متوسط ما يحسه الأفراد في بواطن نفوسهم من رغبات حقيقية مقرونة بنوايا التنفيذ إذا واتتهم الظروف، أقول: إن مثل هذه الإرادة الشعبية يغلب أن نركن في إدراكها إلى مجرد الشعور بالتعاطف بين أفراد الشعب الواحد، دون أن تكون هنالك الوسيلة العلمية الدقيقة لرصدها وضبط مقدارها، فأحيانا يحس أفراد الشعب بروح المقاومة - مثلا - أو بروح التأييد، برغم كونها مكتومة في الصدور، بسبب أحكام عرفية، أو بسبب مراقبة خارجية تمنع التعبير الحر عما يدور في أخلاد الناس.
نعود إلى ذكر ما أسلفناه من أن الحرية اسم لا نطلقه على شيء واحد معين، كما نطلق مثلا اسم النيل على النهر الذي يجري في أرضنا، أو نطلق اسم المقطم على الجبل المشرف على مدينة القاهرة، بل الحرية اسم يطلق على محصلة عدد يتعذر حصره من جزئيات سلوكية يؤديها الفرد أو الأفراد المرتبطة بما يشعرون به من وجود العزيمة الداخلية التي تريد لنفسها ذلك السلوك، وما دام الأمر كذلك فالحرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأهداف وبالوسائل الموصلة لتلك الأهداف، وذلك يعني أن تكون حرية الفرد الحر، أو الشعب الحر مرتبطة أشد ارتباط بمدى علم ذلك الفرد أو ذلك الشعب بطبائع الأشياء التي لا بد له أن يلجأ إلى استخدامها، وسائل كانت أم أهدافا، فالجاهل بحقيقة شيء معين محال عليه أن يتخذه هدفا، أو أن يتخذه وسيلة لهدف؛ لأن الجهل بشيء معناه غياب ذلك الشيء عن دائرة الوعي.
فلئن كان التحرر من قيد ما أمرا ممكنا لأي إنسان قادر على تحطيم ذلك القيد، فليس الأمر كذلك بالنسبة للحرية التي تأتي مرحلة ثانية بعد التحرر من القيود؛ لأن هذا التحرر معناه إزالة العقبات التي تحول دون العمل والبناء، وأما الحرية التي تأتي بعد ذلك فهي الجانب الإيجابي في إقامة البناء أو في إنجاز العمل، ولا نتصور كيف يمكن لبناء أن يقام أو لعمل أن ينجز دون أن يكون هنالك علم بما نبنيه أو بما نؤديه، وهذا العلم - بالطبع - درجات بين الناس، وبالتالي كانت قدرات الناس متفاوتة في دقة العمل وكفاءته، ومع هذه الدقة والكفاءة تكون الحرية بمعناها الإيجابي المبدع.
علم الإنسان بطبائع الأشياء هو نفسه قدرة الإنسان على التمكن من تصريف تلك الأشياء على النحو الذي يريده لنفسه منها، ضع كتابا بين يدي قارئ ثم ضعه بين يدي أمي لا يقرأ، تجد فرقا بين الإنسان الذي يعلم والإنسان الذي لا يعلم، الأول حر في استخدام المادة التي بين يديه، وقادر بالتالي على التصرف اهتداء بها، فيغير من حياته وحياة الناس ما يريد أن يغير، وأما الثاني فلا فرق بين أن يكون ما بين يديه كتاب أو قطعة من الحجر، وليس في وسعه أن يشكل حياته بناء على شيء مما ورد فيه، اللهم إلا أن يسند بجسم الكتاب قطعة عرجاء من أثاث بيته، وأعط سيارة لمن يعرف كيف يحركها ويقودها ويصلحها إذا عطبت، ثم أعطها لمن لا معرفة عنده بشيء من ذلك، تجدك قد أمددت الأول بمصدر للقوة وسرعة الحركة، وأما الثاني فقد أمددته بكتلة صماء من الحديد، فالعلم بأي درجة من درجاته قوة وسيطرة على الشيء المعلوم، والجهل بطبائع الأشياء التي حولنا وبين أيدينا عجز عن تحريكها واستغلالها، ومن هنا كانت الصلة الوثيقة بين العلم والحرية، وبين الجهل والقيود، عندما نقول عن العلم إنه نور، فلسنا نقول ذلك على سبيل المجاز، بل نقوله على سبيل الحقيقة الواقعة، ففي تعامل الإنسان مع شيء يعرفه حق المعرفة فكأنما هو بتلك المعرفة قد أزاح عنه الظلام، فهو يفكه جزءا جزءا ثم يعيد تركيبه إذا شاء، إنه يألفه ولا يخشاه ولا يتهيبه، وأما من جهل شيئا مما حوله فهو أولا يقف حياله مكتوف اليدين لا يدري ماذا يصنع به، ثم هو ثانيا يخافه ويخشى سوء عواقبه، ومن هذه النقطة بالذات نشأت في تاريخ الإنسان خرافات وخرافات، حتى لقد دفعه وهم خرافاته إلى عبادة ما جهل طبيعته وحقيقته، فلقد عبد الفارسي القديم النار، وهذا مثل من ألف مثل، لأنه رأى ألسنة من اللهب تنبعث من أرضه ولا يعرف عنها أصلا ولا فصلا، فخشى عاقبتها وأراد اتقاء بطشها، فعبدها، وأرجح الظن أن تلك النار إنما كانت ناشئة عن البترول المخزون تحت أرض فارس (إيران)، ولم يكن بالطبع يعرف عن ذلك الأصل البترولي شيئا، أما وقد جاء إليه في عصره الحديث من يعلمه عن حقيقة أرضه ثم يخرج له ما في جوفها، فقد انتقل من عبادة نارها المشتعلة المجهولة إلى استخدامها وبيعها وكسب القوة منها، ولم يكن قد بقي له إلا أن يجد من يعلمه الحكمة أيضا ليحسن الانتفاع بما كسب.
صفحة غير معروفة