مضى على تلك الموقعة الهائلة والجرم الفظيع أربع سنوات، أصبح في غضونها ذلك القائد الوحشي أميرالايا وزوجا لأرملة ذلك النبيل أرمان دي كركاز.
وكان فيليبون يصيف مع امرأته وابنها في قصر له في كرلوفان، وهى من أحسن قرى بريطانيا، وكان هذا القصر من قبل لعائلة أرمان دي كركاز، فانتقل بعضه بالإرث إلى أرملته وبعضه بالوصية إلى ذلك الغادر، وهو واقع عند حدود فيتر على شاطئ البحر، تحيط به من أكثر جهاته غابات كثيرة الأشجار.
2
وكان ظاهر القصر يدل على قدمه، وهو محاط بسور تدل آثاره أنه من عهد الصليبيين، ومزدان من الداخل بأجمل التصاوير التاريخية، وقد جاء إليه فيليبون مع امرأته في أواخر أبريل عام 1836، ومعهما ولدهما الذي كان يدعى أرمان باسم أبيه القتيل، فكان قد حصل على لقب كونت عندما خمدت نار الثورة، فكان يعيش عيشة العزلة والانفراد مع تلك المرأة التعيسة التي أصبحت بعدما علمت بوفاة زوجها أرمان، شاحبة اللون ساهية الطرف نحيلة الأعضاء، بعد أن كانت من أجمل نساء عصرها كما شهد لها بذلك كل من كان يراها في بلاط نابليون العظيم.
فبينما كانت يوما منذ أربعة أعوام جالسة في منزلها تنتظر عودة زوجها بملء الجزع، وتتسلى على فراقه المؤلم بمداعبة ولدها الصغير، دخل عليها فيليبون وهو بملابس الحداد.
ولا بد لنا أن نذكر أن هيلانة كانت تكره هذا الرجل كرها شديدا، وتؤنب زوجها لموالاته وتحذره منه، غير أن أرمان كان طاهر القلب صافي السريرة، فلم يعر امرأته أذنا صاغية ولم يرعها سمعا، واستمر على مودة صديقه، فكان ذلك يزيد هيلانة نفورا من هذا الرجل وبغضا له، حتى إنها كانت تتشاغل عندما يزورهم أو تتمارض كي لا تجتمع به ولا تراه.
فلما رأته داخلا عليها بملابس الحداد، وهيئته تنذر بالمصاب، وقفت منذعرة، وقد ارتعدت فرائصها من الخوف، فدنا منها وأخذ يدها بين يديه وهو يتكلف البكاء، وقال: لا حيلة لنا يا سيدتي بقضاء الله، فلقد فجعت بزوجك، وفجعت بخير صديق لي، فلنستوف البكاء إذ نحن في المصاب سواء.
ولم يمر على ذلك بضعة أيام حتى علمت الأرملة بوصية زوجها القائلة بوجوب زواجها بعده بفيليبون، غير أن كره الأرملة لفيليبون كان شديدا، فعصت في بادئ الأمر إرادة زوجها ورفضت الزواج بصديقه الخائن.
أما القائد، فإنه أظهر انذهاله لوصية صديقه، وأنه غير أهل لها، وكان واسع الصدر كثير الصبر شديد اللين، فتوسل إلى الأرملة أن تقبله كصديق لها ولطفها فقبلته، وبقي بقربها ثلاثة أعوام يتظاهر بالحشمة والوقار، ثم جعل يستعطفها بملء التودد والحنان إلى أن أخذت تراجع نفسها في سابق حكمها عليه، وكانت قد سمت رتبته في البلاط الإمبراطوري، وأملت لولدها خيرا بواسطته لما رأت من علو منزلته واستحالة أخلاقه، فرضيت عنه بعض الرضى، وركنت إليه بعض الركون، فاغتنم تلك الفرصة، وجعل يزيد من تذلله وتصببه، وما زال بها إلى أن رضيت به بعلا وأشهر قرانهما.
ولكنها لم تلبث بعد ذلك القران التعيس أن عادت إلى سابق كرهها له ونفورها منه؛ لما رأته من شراسته وقسوته التي كانت كامنة في صدره كمون النار، ولما كان يظهر في الانتقام من تلك الأرملة الضعيفة، فرجعت إلى عزلتها فرارا من ذلك المفترس الذي كان يبسم لها أمام الناس ابتسام الحب والاحترام، ويبلوها بأشد العذاب عند اختلائهما.
صفحة غير معروفة