فقد يحدث أن يبدو في القطيع المتشابه فرد متميز، فيتبعه الباقون، وينتقل التعاطف والتقليد والبصيرة إلى ذلك الفرد، ولكن التعاطف يصير إعجابا، والتقليد يصير طاعة، والبصيرة تصير إدراكا واعيا، ولكنها مهما تنوعت مظاهرها فإنها إيحاء. ولما كان الإيحاء مصدره العقل الباطن فقد استنتج الباحثون أن هذه الخاصية الأصيلة في القطيع، والتي تجعله يؤدي أعماله تأدية آلية سليمة في صمت وهدوء، يمكن استغلالها بين الشعوب، وفي ذلك تنحية للنزاع الذي لا ينتهي بين الحاكم والمحكوم، وقد أخذ المحققون كذلك يبحثون في تأثير «الكلمات» في الشعوب فانتهوا إلى أن الشخصية هي التي توحي لا الكلمة. •••
إذا كان علم النفس قد وصل إلى هذا الحد من البحث، مرجعا البحث في السلوك إلى الغريزة والغريزة وحدها، بل الغريزة الأصيلة، فما المانع من تتبع الدوافع التي تؤثر فيها وتغير مظهرها، ألا يجوز أن المجتمع يمرض كما يمرض الفرد سواء بسواء، ما دمنا قد قررنا مبدئيا محو الفرق بينهما، إن الفرد يمرض جسميا ويمرض نفسيا، والمرض النفسي أهم ما فيه الكبت، فهل الشعوب تكبت؟ أجل، تكبت. والساسة في هذا والأطباء سواء بسواء، أكثرهم يعالجون مظاهر الكبت ولا يلتمسون علله الدفينة، وأكثرهم يصفون ملطفات بدل التقصي للأسباب الحقيقية، وهناك مرضى يهربون من الحقيقة وأطباء يسيئون التشخيص لأنهم لا يريدون مواجهة الحقيقة.
ها أنتم سادتي ترون فائدة هذا البحث الجليل فأرجوكم أن تتبعوا الجديد في علم النفس الاجتماعي، والسلام.
رسالة القصة
تحدثت كثيرا عن رسالة القصة، وأنا لا أعيد ما قلته سابقا، فالذي يبدو لي أن سنة واحدة غيرت مجرى تفكيري، وفي هذا العصر من لم يتغير في سنة واحدة يعد جامدا، وتمر عليه الأحداث دون أن يدري، ذلك لأن القصة كأي لون من ألوان الأدب يجب أن تساير العصر وإلا اندثرت ، وقد ساءني أننا متخلفون جدا عن الركب الحديث، ولقد كتبت «فرجينيا دولف» مقالا عن القصة الحديثة، فبينت أن أقطاب القصة الذين نجلهم أمثال «جالسورتي» و«لونراد» و«أرنولد بنيت» يعدون متأخرين، بالرغم من الروائع التي خطتها أقلامهم والتي نقشت نقشها نقشا في سجلات التواريخ الأدبية، إذا كان هذا هو الرأي في هؤلاء العباقرة، فأين نحن إذن من هؤلاء؟ ولقد كتب أخيرا القصاص الذائع الصيت «أوفولن» في مجلة المستمع الإنجليزية التي هي لسان حال الإذاعة البريطانية في هذا الصدد، فانتقد القصصي الإنجليزي الحالي والقصصي في العالم عامة نقدا مريرا ساخرا.
على أني يجب أن أفرق أولا بين القصة القصيرة والقصة الطويلة وأقرر مبدئيا أنهما يختلفان تماما، وإن كانت بينهم وشائج وأرحام، ولأبدأ أولا بالقصة الطويلة.
قليل من الكتاب في مصر هم الذين يحاولون القصة الطويلة، وأكثرهم يحاولون القصة القصيرة؛ لسبب بسيط، هو أن الأولى تحتاج إلى «نفس»، وجهد، وتفصيل، ومعاناة، وفهم ودراسة، وسبك، ومبدأ ونهاية، وعقد وحوار وحبكة ... إلخ. حقيقة؛ إن لكل شخص «حكاية» وحكاية طويلة يمكنه أن يجلس ليدونها، وإذا اجتمعت بأي إنسان تنهد وقال لك: إن عندي قصة طويلة، طويلة جدا ومؤثرة جدا، وأريد أن أكتبها، وإذا كنت ناشرا أو رئيس تحرير لمجلة، وجدت في البريد هذه القصة الطويلة المؤثرة، ولكنها حين تصل إليك وحين تقرؤها تتردد في نشرها، وقد يكون أسلوبها جيدا ووقائعها حقيقية، فما السبب في ترددك؟ أليست القصة مهما اختلفت ألوانها «حكاية»؟ أليست كل قصة مكونة من وقائع؟ والجدير بالتسجيل منها هو المستمد من واقع الحياة، ولكنك تتردد في نشرها بالرغم من سلامة لغتها وإشراق أسلوبها وديباجتها، وقد تردها «مع الشكر» لصاحبها فيعجب كل العجب لأنك رددتها إليه. وحينما كنت محكما في وزارة المعارف في مسابقة القصص، كنت مكلفا بقراءة القصص المرسل للمباراة، فقرأت أكداسا وأكداسا، فلم أستخلص مما يصلح إلا القليل، القليل جدا. تتساءلون الآن ولا شك: هل الحكاية الجيدة السرد المستمدة من الحياة لا تكون قصة؟ إذا كان هذا لا يكون قصة فماذا يكونها إذا؟
أجيب على ذلك بأنك تستمع إلى اثنين يقصان عليك قصة واحدة، هي هي بعينها، وقائع وتجارب وتفاصيل، ولكنك تغط في النوم وأنت تستمع إلى الأول، بينما يستأثر الثاني بلبك حتى تلقي ما بيدك مهما يكن هاما لتصغي إليه إصغاء تاما. السبب في ذلك أن الأول «يحكي كل شيء» فيضيع عليك كل شيء، والثاني يحسن شيئين؛ الاختيار والترتيب
Selection & Arrangement ، ومعنى الاختيار أنه يعرف ماذا عليه أن يترك قبل أن يعرف ماذا عليه أن يقول، وهذه حكمة النضوج والفهم والتجربة، لا في القصة وحدها، بل في أي عمل أدبي على الإطلاق، وقد كان «تشيكوف» يؤلف القصة في 100 صفحة أولا ثم يحذف منها بالتدريج حتى تصل إلى صحيفة أو صحيفتين.
أما الترتيب، فهو ما نعبر عنه «بكيفية العرض»، فأنت قد تقدم فصلا على آخر أو جملة على أخرى، أو شخصية على أخرى، أو كلمة على أخرى فيفسد الجو كله، والعبرة هنا لا شك بالذوق الأدبي، ويتبين ذلك على أتمه لا في القصة على الخصوص، بل في الشعر، فإنك أخذت البيت الرائع وبدلت في كلماته، محافظا في نفس الوقت على المعنى وجدت بيت الشعر قد فقد طعمه، ولم يعد شعرا ولا نثرا، وقد كان أحد أساتذتنا مغرما بقلب القصائد الكبيرة على هذا المنوال، أي بمجرد نقل كلمة مكان أخرى وتقديم الواحدة على الثانية أو تأخيرها، ووضعها أولا أو وضعها أخيرا، ولماذا نذهب بعيدا، خذوا الآية المشهورة:
صفحة غير معروفة