وأهجن من هذا لفظًا وأقل من البيان حظًا قوله:
أديبُ رستْ للعلمِ في ارضْ صدرهِ ... جبالُ، جبالُ الأرضْ في جنبها قفٌ
) جوادُ سمتْ في الخيرِ والشرُ كفهُ ... سمُوًا فَود الدُهر أن اسمه كفُ (
) فليس بدونٍ يرْتجَى الغيثُ دونه ... ولا ينتهي الجودُ الذي خلفْهَ خلفُ (
وقوله:
) واغتفارُ لوْ غَيرَ السخُط منهُ ... جعُلتْ هامهُمُ نَعالَ النعالِ (
وقوله في وصف الغيث:
) لسَاحيهِ على الأجداثِ حَفْشىُ ... كأيدْي الخيلِ أبصرتِ المَخالي (
وإنما اغتره قول زهير:
. . . يحْفشىُ الأكْم وايلُه
لم يذكر البيت.
فأما أن يستقي مستسقٍ للقبور غيثًا يحفش تربها وينبث ثراها، فلم يقله أحد. وإنما يستقى لديار الأحبة ولقبور الأغرة لتكلأ تلك الأرض، وتعشب تلك البلاد فتنتجع. فيتذكر أهلوها ويترحم على من واراه الترب فيها. وينتج كل من نأي عنها ثم يحترسون في السقيا من أن تدرس مغانيها وآثارها كما قال طرفة:
فسقى دياركَ غَيرَ مفسدهاِ ... صَوْبُ الربيعِ وديمةُ تهْمي
وقال الآخر:
سَقىَ اللهُ سُقيا رحمةٍ أهل بلدةٍ
احترس بقوله:) سُقيا رَحْمةٍ (احتراسا لطيفًا. فأما أن يستقي غيثًا لها يعفي الأثر وقعه كوقع أيدي الخيل تضرب الأرض، حتى يهدمها ويحفرها فلا. وقوله:
) وأظنُهُ حَسبَ الأسنَةَ حُلوةً ... أو ظَنهاَ البرْنيٌ والآزادا (
وقد نعي على كثير قوله وهو دون هذا:
وهمْ أحلى إذا ما ذُقْتَ يَوْمًا ... على الأحناك من رطبِ ابن طابِ
وغير عليه فجل:) من عسَل اللعاب (وكلاهما لا خير فيه. ثم قال:
) فغدَا أسيرًا قد بَللتْ ثيابهُ ... بدمٍ وبلَ ببوْله الأفخاذَا (
وكذلك قوله:) الازاذا (وهذه قافية قلقة مجتذبة مجتلبة معلولة غير مقبولة. وسبيل الشاعر أن يعنى بتهذيب القافية فإنها مركز البيت حمدًا كان ذلك الشعر أو ذمًا، وتشبيبًا كان أو نسبيًا، ووصفًا كان أو تشبيهًا. وأن يتأمل الغرض الذي يرميه فكره، فينتظر في أي الأوزان يكون أحسن استمرارًا، ومع أي القوافي يكون أشد اطرادًا، فيكسوه أشرف معارضه، ويبرزه في أسلم عباراته، ويعتمد إقرار المعاني مقارها، وإيقاعها مواقعها. وقد حكى عن الحطيئة أنه قال: نقحوا القوافي فإنها حوافر الشعر. فشتان ما بين قولك) الأفخاذا (وقول الحطيئة:
همُ القومُ الذينَ إذا ألمتْ ... منَ الأيامِ مظُلمةُ أضاءوا
فلقوله) أضاءوا (موقع لطيف؛ وذلك أنها لفظة لا يستطاع تبديلها بغيرها، ولا تغييرها بما يسد مسدها. وكذلك قول النابغة:
كالأقْحوان غداةَ غِبَ سمائهِ ... جَفُتْ أعساليهِ وأسفُلهُ ندىَ
فلقوله:) وأسْفلُهُ ندىَ (موقع عجيب في هذا الموضع؛ وذلك أن الأنوار. فكره أن يشبّه الثغر به في هذا الحال، فيكون الثغر كالمتركب بعضه على بعض، فشبهه بالأقحوان إذا أصابته الشمس؛ فقال:) جَفتّ أعاليه (أراد انبسطت وذهب تجعيدها ثم قال:) وأسُلفه نَدى (فاحترس أن يكون ذَوَى وجفّ. وقولك: قد) بَلَلت ثيابهَ. . . وبلّ ببوله الأفخاذا (ينظر إلى قول الأول:
آليْتُ لا أدفنُ قَتْلاكُمُ ... فدَخنَوا المْرء وسْربالهُ
يقول: إنه إذا طعنه أحدث في سرجه، كنى عن ذلك بهذه الكناية البليغة البديعة، وعبر بهذه العبارة الجزلة. ومن القول في المباني المسفرة قول امرئ القيس:
فإنكَ لم يفْخرْ عليَك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يغلْبك مثلُ مغلُب
وقول زهير:
وأعلمُ ما في اليوْمِ والأمسِ قبلَهُ ... ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عمىَ
ومن ألفاظه القلقة ومعانيه الغلقة قوله:
) لم تحْكِ نائلَك السحابُ وإنما ... حُمتْ بهِ فصبيبهُا الرحضاءُ (
وإنما نظر إلى قول أبي نؤاس:
إن السَحابَ لتَستحيي إذا نظرتْ ... إلى نداكَ فقاستهْ بما فيها
حتى تهم ّ بإقْلاعٍ فيَمنعهاُ ... خوفُ العقوبةِ عن عصيانِ باريها
ومما هذه سبيله قوله:
) يكادُ من صحةِ العزيمةِ أنْ ... يفعلَ ما لا يكادُ ينفعلُ (
ومن خروجه المتكلفُ المتعسفُ الذي باين مذاهب المحدثين قوله:
) أحبكِ أوْ يقولوا جرّ نمْلُ ... ثبيرًا وابن إبراهيمَ رِعًا (
1 / 14