فليلهك عن وسواس فكرك هذه الألفاظ التي ذهبت بك في التيه، وانظر إلى جمعه بين هذه الألفاظ المتباينة والأجزاء المتحاجزة. فإنه شبه في هذا البيت أربعة أشياء، إذ كان مخرج هذا اللفظ في التشبيه حتى يكون المعنى المقصود واقعًا من البيان، على أن له أيطلين كأيطلي الظبي وساقين كساق النعامة وإرخاء كإرخاء السرحان وتقريبًا كتقريب التنقل. فضلت في أبياتك هذه عن مدرجة الإحسان وأطفأت بهذه الألفاظ القلقة مصباح البيان. قال: ففيها أقول:
) يرٌيكَ خُرْقًا وهوَ عَينٌ الحاذِقْ (
فاحفظني ذلك القول منه وقلت: أراك تعتدنا نَعم! فقال: حاشى لله. فقلت: أما هذا مسلوخ سلخ الإهاب من الرجز يصف ناقة:
خرْقاء إلا أنها صناعُ
أو من قول حميد بن ثور:
فقال وسنْانً ولماُ يرْقدُ ... إلى صناعِ الرجَل خرقْاء اليَدِ
وهذان البيتان من أوجز ما قالته العرب. وما يجري معهما في الاختصار وحسن الإيجاز وقرب المأخذ قول الآخر يصف سهمًا:
غادرَ داءً ومضىَ صحيحاَ
ومثله قول الآخر يصف وحشًا وسهمًا:
حتى نجاَ من جوْفهِ وما نجاَ
وقد قال أبو نواس:
صنعْ اللطيفةِ واستلابَ الأخرقِ
فكأنه من قول حميد بن ثور:
بَنتَْ بيتهُ الخرْقاءُ وهي لطيفةُ ... لهُ بمراقٍ بينَ عُودَين سلماَ
وفي هذه يقول في صفة الفرس:
) بذَ المذاكيَ وهوَ في العقائق (
وإنما أخذه من قول الراجز:
قد سبقَ الأقرَح وهوَ رابضُ ... فكيفَ لا يسبقَ إذ يراكضُ
يريد أن أمه قد سبقت وهو في بطنها. ثم قلت: وقد تبردت في هذه الأرجوزة على عادتك بان قلت:
) أقام فيها الثْلجُ كالمراِفقِ ... يعقد فوقَ السنَ ريقَ الباصقِ (
وأشهد الله أن هذا من غث الكلام وسقط الشعر. فقال بعض صاغيته: أيقال لكلام مثله غث؟: أجل أليس هو القائل:
) ألعبْدُ لا تفضُلُ أخلاقهُ ... عنْ فرجهِ المننُ أو ضرْسه (
ومن براداته قوله:
) وإنماٌ تحتاْلُ في حلُه ... كأنكَ الملاحُ في قلَسهِ (
ونحو هذا قوله:
) لسريِ لباسهُ خشُن القُطْ ... نِ ومرْويُ مرو لبسُ القرود (
وقوله:
) وكنتُ من الناسِ في محْفلٍ ... فها أنا في محفلٍ من قُرودِ (
) فلا تسَمعنَ من الكاذبينَ ... ولا تَعبأنَ بمحْل اليَهودِ (
ومن قبيح التشبيه قولك تصف كتيبة:
) وملمْومةٍ سيفَيةٍْ ربعَيةٍ ... يصيحُ الحصىَ فيهاَ صياحَ اللقَلقِ (
وقد أخذته من قول ابن المعتز:
وبلدةٍ صائحةِ الصُخورِ
وأحسن من هذا قول النامي في كلمة امتدح بها سيف الدولة أولها:
قفوا وعليهِ الدَمعُ فهوَ كثيبَ
فقال فيها:
تتُعتعُ ألفاظَ الحَصىَ بسنَابكٍ ... إذا كلمَتُهْ عجُمهنُ تُحبُ
فقال: أما تشبه أصوات الحصى من تحت حوافر الخيل أصوات اللقالق؟ فقلت: هبه أشبهه فهل هو من محاسن التشبيه؟ ألا ترى أنهم هجنوا قول لبيد:
. . . وترْكًا كالبَصلْ
وهو تشبيه واقع، وذمواُ قول الآخر:
والخيل من خلَل الغُبارِ مغُيرةُ ... كالتمرِ يُنثرُ من وراء الجرَمِ
والجيد قول الشعر: يقول: خرجت متساوية كتساوي أصابع المصطلي عند اصطلائه.
ومن جافي لفظه قوله:
) أين التوْرابُ قبلَ فطامهِ ... ويأكلُهُ قبلَ البلوغِ إلى الأكْلِ (
فلفظة التورْاب على سلامة مصدرها جافية جدًا. وقد اعتمد في هذا البيت على أرق بيت في معناه وأشجاه لفظًا، وهو قول محمد بن يزيد الأموي السلمي:
فَطمَتكَ المنونَ قبلَ الفِطامِ ... واحتواكَ النقصانُ قبل التَمامِ
ومن سفاف الكلام وسقطه ومستعجمه قوله:
) صَغرْتَ كلً مكبُرٍ وعلْوت عن ... لكأنهُ وبلَغتَ سنّ غلاُمِ (
فهذا من النسخ الغلق القلق، وهو مع قلقه مأخوذ من أعذب لفظ واسلمه. قال بعض الشعراء المتقدمين في الدولة الأموية:
بَلغْتَ لعشَرِ مضتْ من سنيكَ ... ما يبلغُ السَيدُ الأشيَبُ
فهمُك فيها جِسامُ الأمورِ ... وهمُ لداتكَ أنْ يلَعبوا
وأحسن من قوله:) صغرَتْ كُل مكبرَ (قول الأول:
لهُ هممُ لا منتهىُ لكبارهاِ ... وهمتهُ الصغرُى أجلُ من الدهرِْ
ومن براداته قوله:
1 / 11