أما اختيار الله، فإنه يتم طبقا لنظام الطبيعة السابق، أي بحكم الله ومشيئته الأبدية، ولا يستطيع أحد أن يختار طريقته في الحياة، أو أن يختار أي شيء إلا بدعوة من الله.
أما الحظ أو الرزق، فهو حكم الله من حيث سيطرته على الأمور الإنسانية بعلل خارجية لا يتوقعها الإنسان، ولا مجال فيه للصدفة.
وهناك نصوص كثيرة في الكتاب تدل على أن مشيئة الله أو إرادته ليست شيئا آخر سوى نظام الطبيعة،
74
فعندما يذكر الكتاب أن شيئا قد حدث وفقا للمشيئة الإلهية، فإنه يعني أن شيئا قد وقع وفقا لنظام الطبيعة، لا كما يتصور العامة من أن الطبيعة قد توقفت عن العمل أو تخلخل نظامها، ولم يعبر الكتاب صراحة عن هذه الحقيقة لأن مهمته ليست التعريف بالأشياء بعللها الطبيعية، أو إعطاء حقائق نظرية بل إثارة الخيال والتأثير على النفوس، في أسلوب شعري، يثير الإعجاب، ويطبع التقوى في النفوس. وكثيرا ما تصمت الروايات، ولا تذكر العلل الطبيعية، لأن غرضها ليس إقناع العقل، بل إثارة الخيال. فكثير مما تذكره الروايات على أنه حدث، لم يحدث بالفعل، بل مجرد صورة شعرية، أو قد حدث، ولكن طبقا لقوانين الطبيعة. أما إذا كانت هناك واقعة مناقضة لقوانين الطبيعة صراحة فيجب اعتبارها زيادة في الكتاب، أضافها المحرفون؛ إذ إن كل ما يناقض الطبيعية يناقض العقل، وكل ما يناقض العقل يجب رفضه. وكثير من الروايات إبداع شعري، أو تعبير عن الأحكام السابقة للرواة. فمن النادر أن يذكر الناس شيئا كما حدث بالفعل، دون أن يزيدوا عليه شيئا، سواء في طريقة الرواية، أو في حجمها، أو إضافة شيء من حكمهم الخاص. وعندما يكون الانتباه مركزا على شيء جديد، فإنهم يدركون شيئا مخالفا لما يحدث بالفعل، خاصة إذا تجاوز هذا الشيء حدود فهم الراوي ، وأضاف إليه حكمه. وكثيرا ما اختلفت روايتان للحادثة نفسها، لاختلاف إضافات الرواة عليها، كل حسب تأثره بما رأى وبما سمع، حتى إنه يصعب العثور على النواة الأولى؛ ولذلك حتى يتم تفسير المعجزة، يجب معرفة أفكار الرواة الأوائل، وآراء المدونين لها، ثم الفصل بين هذه الأفكار والتمثلات الحسية وبين شهادة الواقع، وإلا وقعنا في الخلط بين آراء الرواة والحادثة أو بين الخيال والواقع. وكثيرا ما ذكر الرواة أشياء، كنا نظن أنها حدثت بالفعل مع أنها من محض خيالهم مثل نزول الله من السماء في عمود من دخان على جبل سيناء وصعود إلياس إلى السماء في عربة من نار تجرها أحصنة من نار. وفي سفر صموئيل تسمى الرياح الساخنة التي أذابت الصقيع والجليد كلمة الله وتسمى النار والرياح «مساعدي الله»؛ لذلك، علينا أيضا أن نتأكد من سلامة الحواس التي تطبع على الخيال.
75
ولتفسير المعجزة تفسيرا صحيحا علينا أيضا دراسة أساليب البيان عند العبرانيين وطرق البلاغة، فكثيرا ما كانت تروى المعجزات على نحو بلاغي، للتعبير عن أشياء أخرى، دون أن تكون وقعت بالفعل، ولا يتم ذلك رغبة في إدخال بعض المحسنات البديعية فحسب، بل إخلاصا من الرواة في رواياتهم. خلاصة القول إنه ليس هناك ما يستعصي على النور الفطري، أو العلم الطبيعي، فقد جهل اليهود العلل الثانية ونسبوا إلى الله كل شيء بدافع من الإيمان الصادق، فالله هو مقدر الرزق ومشبع الرغبات، فكلما ذكر الكتاب قال الرب لا يعني أنه يعطي نبوة او معرفة تفوق الطبيعة، بل لا بد من أن نستوثق من ظروف الرواية وملابساتها على أن هناك نبوة حدثت بالفعل.
76
عاشرا: النبي والحواري
بعد أن انتهى سبينوزا من دراسة العهد القديم في الفصول العشرة الأولى، بدأ بدراسة العهد الجديد. ويركز دراسته على موضوع واحد جوهري وهو الفرق بين النبي والحواري، وهو الفرق الذي غفله المسيحيون أنفسهم في الخلط بين الوحي والإلهام، أو باصطلاح المسلمين، بين النبي والصحابي، أو بلغة النقد، بين الكتاب
صفحة غير معروفة