القانون الإلهي يعطي أكبر جزاء وهو معرفة هذا القانون نفسه أي معرفة الله وحبه بروح صافية ثابتة من رجال أحرار، أما العقاب فهو بمنع الخيرات ووقوع في عبودية الجسد لنفس هزيلة مائعة.
73
تاسعا: المعجزة
استعمل سبينوزا في دراسته للنبوة منهج النص الذي يعتمد على الكتاب وحده، أما في دراسته للمعجزة فإنه اعتمد على النور الفطري؛ وذلك لأن النبوة تتعدى حدود الذهن الإنساني، هي موضوع اللاهوت، ولا تدرس إلا بمبادئ الوحي، أو كتاريخ لمعرفة طبيعتها وخصائصها، في حين أن المعجزة موضوع فلسفي محض، يمكن دراسته بالاعتماد على النور الفطري. وقد كان يمكن أيضا دراستها بمنهج النص؛ إذ يؤيد الكتاب بوجه عام خضوع كل شيء لنظام ثابت للطبيعة لا يتغير، ولا يوجد نص واحد يدل على خرق قوانين الطبيعة، فمن يريد استعمال منهج النص فإنه سينتهي حتما إلى ما يدركه النور الفطري من أن الإيمان بالمعجزة ليس ضروريا للخلاص.
وكما سمي العلم الذي يتعدى حدود المنهج الإنساني علما إلهيا، فقد تعود الناس تسمية كل عمل إلهي يجهلون عنه عملا إلهيا. ويظن العامة أن قدرة الله لا تظهر إلا عندما تخرق قوانين الطبيعة، خاصة إذا كان في هذا الخرق مكسب مادي له، كما تظن أن أكبر برهان على وجود الله هو خلل نظام الطبيعة، وترى أن تفسير هذه الظواهر بعللها الطبيعية المباشرة إنكار لوجود الله، الله والطبيعة عند العامة طرفان متناقضان، إذا عمل الله تتوقف الطبيعة، وإذا عملت الطبيعة توقف الله. هناك إذن قوتان متمايزتان متعارضتان: قوة الله وقوة الطبيعة التي تخضع لقوة الله أو التي خلقها الله كما تتصور العامة، قوة الله مثل قوة الملك وقوة الطبيعة كقوة عارضة لاحقة به، أو كقوة الرعية بالنسبة للدكتاتور، وتسمي العامة عجائب الطبيعة أفعال الله أو معجزات تعبيرا عن تقواهم، وجهلا منهم بعلوم الطبيعة وبالعلل الطبيعية، وتقديسا منهم لما يجهلونه أو يعجبون به، ولا تتصور عظمة الله إلا عندما تقهر قوانين الطبيعة، وقد تبنى هذا التصور اليهود الأوائل.
والحقيقة أن نظام الطبيعة ثابت لا يتغير، ولا يحدث فيه شيء مخالف له. أما بالنسبة لله، فكل ما يريده الله يتضمن حقيقة وضرورة أبديتين؛ وذلك لأن عقل الله وإرادته شيء واحد، ولأن كل شيء يحدث إنما يحدث بمشيئة الله، ومن ثم تكون قوانين الطبيعة الشاملة أوامر إلهية، تصدر عن ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها، فلو حدث شيء مخالف لهذه القوانين، فإنه بالتالي يناقض عقل الله وطبيعته، ولو فعل الله شيئا مناقضا لقوانين الطبيعة، فإنه يعمل ضد طبيعته هو، وهذا مستحيل. إن قدرة الطبيعة هي قدرة الله، وقدرة الله مماثلة لماهيته، وقوانين الطبيعة لانهائية حتى تستوعب العقل الإلهي كله، وإلا فلنتصور الله خالقا للطبيعة بقوانين عاجزة، ثم يأتي الله ليقدم العون لها بين اللحظة والأخرى، وهذا مناف للعقل؛ وعلى هذا النحو تكون المعجزة عملا من أعمال الطبيعة، نجهل عللها، ولا نستطيع إدراكها بالنور الفطري، وبالتالي يمكن تفسير المعجزات التي يرويها الكتاب لو عرفنا عللها الطبيعية.
لا نستطيع إذن عن طريق المعجزة معرفة وجود الله أو ماهيته أو عنايته، نستطيع أن نعرف ذلك عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، بل إن وجود المعجزات يجعلنا نشك في وجود الله. لنفرض مثلا أن معجزة قد وقعت، فإما أن يكون لها علة نجهلها، أو أن يكون الله هو علتها، فإذا كنا نجهل علتها الطبيعية، وكان كل ما يحدث من علل طبيعية يحدث أيضا بقدرة الله، فإن المعجزة، مهما كان سببها تتجاوز حدود الذهن الإنساني، ولما كان كل ما نعلمه بوضوح ونميزه نعلمه إما بذاته أو بغيره نعلمه أيضا بوضوح وتميز، فإننا لا نستطيع أن نعرف الله بالمعجزة، أنها ليست واضحة ومتميزة، وعندما نعلم أن الله قد حدد كل شيء، وأن أفعال الطبيعة تصدر عن ماهية الله، وأن قوانين الطبيعة هي مشيئة الله، فإننا نعلم طبيعة الله أفضل مما نعلم الأشياء الطبيعية، ونعلم الأشياء الطبيعية بعد علمنا بطبيعة الله، وتكون أعمال الله هي ما نعلمه بوضوح وتميز، لا ما نجهله كلية، وما يثير خيال العامة. وتعطينا حوادث الطبيعة التي نعرفها بوضوح وتميز تصور الله على نحو أفضل وأكمل. والإنسان الساذج هو الذي عندما يجهل شيئا ينسبه إلى الله، فضلا عن أن المعجزة واقعة محدودة، لا تدل إلا على قدرة محدودة، ولا تثبت وجود الله وقدرته المطلقة، في حين أن قوانين الطبيعة تشمل على عدد لا نهائي من الموضوعات، وهي قوانين ثابتة لا تتغير، وبالتالي فإنها تكون أعظم برهان على وجود الله. والمعجزة التي تخرق قوانين الطبيعة لا تؤدي إلى معرفة الله فقط، بل تجعلنا نشك في وجوده، وبذلك يؤدي الإيمان بالمعجزات إلى الكفر والإلحاد. وهذا ما تدل عليه نصوص الكتاب، عندما يذكر أن النبي الكاذب يمكنه أيضا القيام بالمعجزات. خلاصة القول أن اليهود لم يكن باستطاعتهم تصور الله تصورا صحيحا، بالرغم مما شاهدوه من معجزات، في حين أن الفلاسفة يعرفون الله معرفة واضحة ومتميزة، بمعرفتهم للطبيعة، لا عن طريق المعجزات، ويحصلون على الفضيلة بالامتثال لأوامر الطبيعة لا بمناهضتها.
وعلى هذا الأساس، يشرح سبينوزا أهم المفاهيم التي توحي بتدخل خارجي في الطبيعة في اللاهوت التقليدي، شمل: حكم الله، عون الله الخارجي، عون الله الداخلي، اختيار الله، الحظ أو الرزق.
فحكم الله هو نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو تسلسل الموجودات الطبيعية؛ وذلك لأن قوانين الطبيعة الشاملة هي مشيئة الله الأبدية التي تتضمن حقائق وضرورة أبديتين، فإن قلنا إن كل شيء يسير حسب قوانين الطبيعة، أو طبقا لمشيئة الله، فإننا نقول الشيء نفسه، فصفات الله هي قوانين الطبيعة، بل إن الله هو الطبيعة، الله هو الطبيعة الطابعة، والطبيعة هي الطبيعة المطبوعة.
أما عون الله الخارجي، فهو ما تقدمه الطبيعة للإنسان دون جهد منه، ويستعين به في حكمه وحفظ وجوده؛ وذلك لأن قوة الله هي قوة الطبيعة التي يتحدد بها كل شيء، ويكون عون الله الداخلي هو ما يصدر عن الطبيعة الإنسانية بقدرتها الخاصة، للمحافظة على وجودها.
صفحة غير معروفة