الذين رأوه وشاهدوه، وشاهدوا أيامه ووقائعه ومغازيه، فهم يحرصون على حذو طريقه وآثاره، وهم أشبه الناس بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأتبع الناس في هذا الزمان لهما، وأولئك الصوفية وجدتهم أحد قلوبا وأقوى اصطلاما وأشد اشتياقا وأعظم بالله وجدا، وأتم زهدا وفراغا، عما يشغل القلوب عن الله، فإنهم أفنوا نفوسهم في الطلب، فقوبلوا بالأمر الكلي، وهو حال له حدة وصولة، ليس كحال غيرهم، فإنما حال غيرهم أنوار مع انشراح الصدور بالله وبدينه، وأحوال أولئك مطالعات خاصة حادة موجبة لجذب الأرواح إلى مواطن القرب ، بتقرب خاص ، ليس لغيرهم كما أنه أعظم بأمر الله علما وعملا ، وذلك - أيضا - من تعظيمهم لله تعالى والوجد، لكن لكل قوم خصوصية، لا تجهل، ولا يظلمون بطرحها في مقابلة فضل غيرهم ، وكذلك أولئك الصوفية أقوم على سياسة الطبيعة وتصفيتها من أخلاقها، وأقوم على الخواطر وزمها، فإني - كما شاهدته والله أعلم بحقيقة ذلك منهم - شبهتهم بالملائكة في حضرة الله تعالى، الحافين بعرشه وإن لم يشبهوهم من كل وجه، ولا تعجب فإن قلوبهم بين عساكر الأولياء حول العرش فانقلبت طباعهم في أغلب أحوالهم عن البشر إلى الملائكة، وهذه خصوصية لهم، لا تنكر، ولا يقدر غيرهم أن يقوم بها، فإن نفوسهم فانية، وأرواحهم متعلقة وطائرة،وأبدانهم نحلة بالية ، وأكبادهم مشتاقة محترقة ، قد ملكهم الوجد بالله واستولى ذلك على أعضائهم، ومفاصلهم، فأعضاؤهم ومفاصلهم ممتلئة بحب الله، محشوة بأنوار قربه تلوح عليهم بهجة المحبة، وسيماء المعرفة وعرف الوجدان كما قيل: أشم منك نسيما لست أعرفة أظن مئة جرت فيك أردانا وهؤلاء- شيوخنا - شبهتهم بخلفاء الرسل، حيث شبهت أولئك بالملائكة، فشبهتهم بورثة الأنبياء، بل فيهم نسبة من الأنبياء، لقيامهم بدين الله تعالى ونصرته، والذب عنه باللسان والقلم والجنان، والحرص على إقامته حيث ارتضاه الله تعالى لنفسه، وهذه خصوصية لهم لا تنكر ، ولا يقدر غيرهم من أولئك الصوفية على القيام بها.
صفحة ٥٠