لتفرغهم لم يعجزوا عن مقامهم، ولم يقصروا عنهم، إن شاء الله.
لكن الشغل بجزئيات الشريعة ، وإقامتها مع انصراف الهم الشديد إليها، يوجب أن تبقى عند المقيم لها، والمهتم بها بقية من طبعه ونفسه وبشريته، ليقابل النفوس بها، لأن من قابل شيئا اقتضى أن يكون بينه وبينها نسبة، ولولا النسبة التي بين الأنبياء والعالم، لم ينتفع بهم أحد، إذ لو واجهوهم بما هم به من قرب الله تعالى، لم تقدر العامة أن تفهم عنهم شيئا، لكن جعل الله تعالى بينهم قدرا مشتركا ليحصل بذلك الانتفاع منهم، فكذلك هؤلاء لا يصلح لهم تذويب النفوس بالأصالة لأنهم يحتاجون إلى قوة غضبية يقيمون الحق بها، أو حالة طبيعية يمازجون أهل الطباع بها ليستوي بواسطة تلك الممازجة أمر الله ودينه إليهم ، وربما يورد بعض محبي مشايخنا ويقول: أنت ذكرت عن مشايخنا أنهم عارفون وذكرت عن أولئك أنهم عارفون أيضا ، فاشترك الجميع في المعرفة فما وجه الخصوصية التي لأولئك وليست لمشايخنا ? فنقول : تلك الخصوصية أن لهم كيفية حادة، يؤثرون في الطالب بمجرد الرؤية وسماع الكلام محبة لله والانجذاب إليه والإرادة له ونسيان ما سواه ، وهذه الخصوصية لهم ليست لغيرهم.
وجه ثان وهو أنهم إذا رؤوا ذكر الله، وصل نوره بحدة وقوة إلى قلب الرائي ومشايخنا إذا رؤوا ذكر الدين والسنة والشريعة، فأولئك اندرجت الشريعة في حالهم اندراجا لظهورهم بكيفية المعرفة ، وهؤلاء اندرجت المعرفة في حالهم اندراجا لظهورهم بكيفية الشريعة، ومجموع هؤلاء العلماء أفضل من انفراد أولئك بتلك الخصوصية ، لاحتوائهم على الأصول الصحيحة والفروع ، بل تلك الخصوصية بلا هذه الأصول لا تستقر ولا تثبت، والذي حققته أن دين هؤلاء أقوى وأثبت، وأمكن في الأصول والفروع، وقلوبهم أنور، لأنها منورة بالكتاب وفهمه، وبالسنة ونورها ومن ذلك اقتبست عقائدها ومشاهدها وعلومها وأحوالها، وهم أقوم بالدين من كل من رأيته في عصري هذا ، في رأس السبعمئة من الهجرة النبوية ، وأتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل أحد، فإنهم يمشون على حذوه وطريقته، كأنهم من أصحابه
صفحة ٤٩