Jokey »؛ وهم فئة من الأرستقراطيين المتبذلين الذين لا يفهمون من الفن سوى بعض معلومات عتيقة موروثة. ولم يستطع هؤلاء المترفون تحمل الدراما العميقة خلال ثلاث ساعات كاملة، وراعهم أن يجدوها مخالفة لما اعتادوه، فقاطعوها بالصفير والتهكم بصوت مرتفع طوال العرض، وتكررت المأساة مرتين أخريين، كان الفرنسيون خلالهما يستغلون «الحرية» التي جرت في دمائهم أبشع استغلال ... كانوا يستمعون فترة قصيرة بأدب إذا أعجبتهم قطعة ما، فيدوي بعدها تصفيقهم معبرا عن إعجاب حقيقي، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى التهريج إذا ثقل عليهم فهم جزء معين، فيتوقف العرض حتى تخمد ثورتهم ... وهكذا كان نصيب تانهويزر في باريس!
ورغم أن تلك الفترة من إقامته في باريس لم تزده إلا يقينا من استحالة فهم الفرنسيين له، ووثوقا من أن نجاحه الحقيقي لن يكون إلا بين عشيرته وبني جنسه، فإن هناك عوامل أخرى إلى جانب قصور الفهم، ساعدت على التعجيل بذلك الفشل الذريع؛ كان أهمها تلك الحملة الشعواء التي شنها عليه نفر من النقاد الذين دفعهم أعداء ڤاجنر من الموسيقيين وعلى رأسهم مايربير وبرليوز.
على أن ڤاجنر لم يعدم صديقا مخلصا يقدره حق قدره في باريس؛ فقد أبدى الشاعر «بودلير» إعجابه به منذ البداية، وأرسل إليه خطابا يعبر فيه عن مقدار تأثير موسيقاه في نفسه، وهو الذي كان يظن أنه لا يملك إلا حاسة الألوان لا حاسة الأنغام، فكان مما قاله: «لقد بلغت سنا لم أعد أطرب فيها بالكتابة إلى عظماء الرجال. ولقد ترددت مدة طويلة في أن أكتب إليك معبرا عن إعجابي، لولا أن استبانت لعيني يوما بعد يوم تلك المقالات الحمقاء المخزية التي بذل فيها كل جهد للحط من قدر عبقريتك. إنك يا سيدي لست الشخص الوحيد الذي اضطررت أمامه إلى أن أتعذب وأحمر خجلا من أفعال وطني. وأخيرا دفعني احتقاري لنقادك إلى أن أشهد لك بالفضل، قائلا لنفسي: لا بد أن أبرئ ذمتي من هؤلاء المعتوهين!» والغريب في الأمر أن بودلير لم يذكر في هذا الخطاب عنوانه؛ حتى لا يظن ڤاجنر أنه يقصد تملقه؛ غير أن ڤاجنر اهتدى سريعا إلى مقره، وسرعان ما أصبح بودلير عضوا بارزا في دائرة أصدقاء ڤاجنر، وشخصية بارزة في «صالونه» الخاص.
ولو صرفنا النظر عن حالات الإعجاب القليلة هذه، فإن الطريقة العامة التي عومل بها ڤاجنر في باريس، كانت سوء الفهم التام، حتى إن المرء لا يرى مفرا من الاعتراف مع ڤاجنر بأن أهل باريس كانوا يريدون اللهو فحسب؛ أما ڤاجنر فلم يكن يقبل أن ينحدر إلى مستوى اللهو هذا؛ ولذا لم يفهم في باريس. ولقد كان مدار سخريتهم هو الاعتقاد بأن لڤاجنر مذهبا عقليا هو وحده المتحكم فيما أنتجه من موسيقى. ولا شك في أنه ما من شيء يخيف الجمهور اللاهي - الذي هو عبد للعرف والتقاليد - أكثر من محاولة شخص أن يفرض عليه أفكارا جديدة، وخاصة إذا كانت على صورة «مذهب». ومهما بلغت درجة الجمال الفني الذي حققه ڤاجنر في موسيقاه، فسيظل الحمقى يؤمنون بأنهم إنما يستمعون إلى شخص يدافع عن مذهبه، لا إلى إنتاج فني رائع.
وهكذا غادر ڤاجنر باريس بعد أن خابت آماله، ولم يستغرق وقتا طويلا في وداع أصدقائه القليلين، مثل بودلير ولا مارتين وليست. وعاد كل فرد في هذه الجماعة إلى مقره؛ إذ كان على كل منهم أن يشق طريقه إلى المجد مستقلا. •••
كانت أخطر نتائج كارثة باريس، هي أثرها الفادح في مركز ڤاجنر المالي؛ فقد ظل بعدها ثلاث سنوات كاملة يهيم على وجهه دون أن يكون له هدف سوى تصيد المال من أي مخلوق وبأية وسيلة، ومهما تكلف في سبيل ذلك من امتهان لكرامته وجرح لكبريائه، والغريب في الأمر أن ڤاجنر كان خلال تلك السنوات واقعا تحت تأثير موجة من المرح اليائس كان يدهش لها كل من عرفه. ويبدو أن الطبيعة قد حبته منذ حداثته قدرة هائلة على التعويض مكنته من أن يتحمل أعظم المشاق، ويخلق من متاعبه معبرا ينتقل به إلى عالمه الذاتي الذي يسوده المرح، ولا يأبه كثيرا للواقع المحيط به.
وهكذا أوحت إليه تلك القدرة التعويضية موضوعا مرحا في أحلك ساعات حياته، هو موضوع مؤلفه الجديد «أساطين الطرب
Die Meistersinger » التي استمدها بدورها من كتاب «جرم
Grimm » عن الأساطير الألمانية في العصور الوسطى، وكان لا بد لڤاجنر من عزلة هادئة ليتم فيها ذلك العمل الرائع، فاختار بلدة صغيرة على ضفاف الرين هي بيبرش
Biberich ، وهناك كان تدفق الوحي عليه غزيرا، حتى إنه أتم الافتتاحية بأسرها في ليلة واحدة بعد أن لمعت فجأة بأدق تفاصيلها في ذهنه.
صفحة غير معروفة