Siegfried » و«أفول الآلهة
Götterdämmerung ».
أما الموسيقى فقد بدأها في عام 1853م، خلال فترة اعتزل فيها الجميع في تسوريخ، وصمم على أن ينتهي من عمله الجبار دفعة واحدة، وقد بدأ ڤاجنر «بذهب الرين»، واتبع في تأليفها خطة جديدة، إذ كان يسطر بقلمه رموزا معينة سريعة هي التي ستبنى عليها ألحان الدراما بأكملها؛ ولذا كان عليه أن يؤلفها كلها دفعة واحدة دون أن ينقطع عن العمل؛ حتى لا تغيب عن ذاكرته تلك الخطة التي رسمها منذ البداية. وبفضل تلك الطريقة تمكن من الانتهاء منها تماما في مارس 1854م.
وحدث ما جعل ڤاجنر ينقطع بعد تأليف الدراما الأولى مدة معينة، وعاد خلالها إلى القراءة الفلسفية، فكان لتلك القراءة في هذه المرة أكبر الأثر في تحويل مجرى الدراما الرباعية إلى اتجاه جديد، هو الاتجاه التشاؤمي، بعد أن كانت الآراء الثورية هي المسيطرة تماما على خطته الأولى في تأليف تلك الدراما - ذلك بأن ڤاجنر قرأ في تلك الفترة كتاب «العالم إرادة وتمثلا» لشوبنهور، فكان له فضل تخليصه من قبضة مذهب فويرباخ المادي، وتوجيهه وجهة جديدة تلائم نزعته الخيالية الخالقة في الفن والشعر، وكان أول ما لفت نظره آراء شوبنهور في علم الجمال، وخاصة تلك المكانة الرفيعة التي احتلتها الموسيقى في مذهبه الجمالي. ولكنه في أول الأمر أحس بشيء من الرهبة والقلق إزاء النتائج الأخلاقية التي انتهى إليها شوبنهور؛ ففي رأيه أن إماتة الإرادة والاستسلام التام يخلصان الفرد من عجزه عن فهم العالم والاندماج فيه اندماجا كليا شاملا - وتلك نتيجة كانت تتعارض بشدة مع نزعة ڤاجنر في الحرية الفردية، وهي نزعة تكبد أكبر العناء، وقاسى مرارة النفي والتشريد من أجل الدفاع عنها والدعوة إليها، غير أن واحدا من أصدقائه نبهه ذات مرة إلى أن المغزى الحقيقي لمذهب شوبنهور إنما ينحصر في عدم اعترافه بالعالم الخارجي كما يتبدى لنا، وذكر له أن كل شاعر كبير، وكل رجل عظيم بوجه عام، كان يحس في قرارة نفسه بهوة عميقة تفصل بينه وبين العالم الخارجي. ولكم عجب ڤاجنر حين استمع إلى هذا التفسير؛ إذ إنه في درامته الرباعية قد عبر عن مثل هذا الرأي دون أن يشعر. وهنا قرر أن يعود إلى دراسة الكتاب دراسة عميقة؛ وذلك حتى يستوعب بخاصة الجزء الأول منه، وهو الذي يتعرض للجانب المثالي في فلسفة كانت، والذي عانى ڤاجنر الكثير من أجل تفهمه؛ إذ إن رأسه لم يخلق لفهم مشكلات المنطق. وهكذا عاود ڤاجنر قراءة الكتاب مرات عديدة، وكان تأثيره على تفكيره حاسما حتى ليمكننا أن نؤكد أن كل كتابات ڤاجنر - وخاصة كتابه عن «بيتهوفن» - وكل دراماته، بل كل نظرته إلى الحياة قد اصطبغت باللون الخاص الذي يتميز به تفكير شوبنهور، وذلك إذا استثنينا الجانب الاجتماعي والسياسي من آرائه؛ إذ إن ذلك الجانب قد ظل يدعو إلى الحرية الفردية حتى النهاية.
وما إن انتهى ڤاجنر من القسم الثاني من الدراما الرباعية، حتى تلقى دعوة من الجمعية الفيلهارمونية بلندن، ليقيم بعض الحفلات لقاء مبلغ لا بأس به، وعاد ڤاجنر إلى لندن مرة ثانية، ولكنه لم يكن حينئذ ذلك الفنان المشرد الذي التجأ إلى لندن في المرة الأولى، بل كان موسيقيا مشهورا دعته بلاد غريبة من مقره في وسط القارة لتستمع إلى إنتاجه الجديد. وبلغ من نجاحه أن دعته الملكة فكتوريا وزوجها الأمير ألبرت في إحدى الحفلات ودارت بينه وبينهما محادثات ودية.
وما إن عاد ڤاجنر إلى تسوريخ، حتى ترامت إليه أنباء ذلك النجاح الباهر الذي أحرزته «تانهويزر» و«لوهنجرين» على مسارح ألمانيا؛ وكان من نتائج ذلك النجاح أن خفت وطأة الديون المتراكمة عليه، بل خيل إليه أنه قد نفض عن نفسه كل مظاهر البؤس التي لازمته طوال حياته كظله. وفي نفس الوقت عمل على إتمام «زيجفريد»؛ على أن تفكيره في ذلك المشروع الضخم تفكيرا واقعيا جعله يوقن بأن تنفيذه مستحيل في ظروفه تلك؛ مما أدى به إلى أن يدع جانبا ذلك المشروع إلى حين، ويبدأ في دراما كانت فكرتها تلح عليه إلحاحا غريبا، وتتوالى على رأسه ألحانها كاملة مترابطة؛ تلك هي «تريستان وإيزولده
Tristan und Isolde »؛ على أن ڤاجنر وإن كان قد أكد أن التفكير العملي في مشروع الدراما الرباعية هو وحده الذي أوحى إليه هذا المشروع الجديد، كان يخفي وراء ذلك دون شك حقيقة على أعظم جانب من الأهمية؛ إذ إن تأليف «تريستان» قد جاء خلال تجربة عاطفية ربما كانت أعنف وأصدق التجارب التي مرت به؛ تلك التجربة هي حبه «لماتيلده فزندونك
Mathilde Wesendonk »؛ فقد عاش ڤاجنر حينا من الدهر في صحبة أسرة فزندونك، وانتابته عاطفة غريبة نحو تلك الزوجة التي كانت تهفو دائما إلى صحبة فنان مرهف الحس صادق الشعور، بعيد عن جو المال والتجارة الذي غرق فيه زوجها حتى أذنيه. وسرعان ما تكشفت العاطفة على حقيقتها فإذا بها حب عنيف متبادل وتبدى واضحا فيما تبقى من رسائل حارة تبادلها المحبان؛ غير أن ذلك الحب كان ميئوسا منه في بداية الأمر؛ فهو حب بين فنان متزوج من امرأة غيور حمقاء (عادت إليه في وقت متأخر من فترة إقامته بسويسرا)، وبين زوجة لا يسهل عليها التخلي عن واجباتها تجاه أسرتها وأهلها. وهكذا كان غراما صامتا تفصل بين طرفيه حواجز لا سبيل إلى تجاوزها أو التغلب عليها؛ ومن هنا رأينا تشاؤم شوبنهور يؤثر عليه في تلك الفترة أكبر الأثر، فإذا بفكرة الحب ترتبط ارتباطا قويا بفكرة الموت، وإذا بالفردية تتبدى له كريهة ممقوتة، وإذا بالحياة والنور بغيضة إلى قلبه. وهكذا رحب تريستان بالموت وتمناه، وتاق إلى الظلام الهادئ حيث لا تقوم بين المحبين حواجز ولا تفصلهما عقبات الحياة القاسية؛ فالموت من حيث هو مخلص المحبين، هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله تلك الدراما الصادقة، التي انتزعها ڤاجنر من قلبه واقتطعها من واقعه المرير.
وأحس ڤاجنر بالحاجة إلى الراحة بعد الانتهاء من عمله الضخم المرهق، وتاقت نفسه إلى زيارة باريس، حيث يمكنه على الأقل أن يستمع إلى فرق موسيقية ضخمة حسنة التدريب، وهي في نظره نعمة حرم منها طوال فترة إقامته بسويسرا. وهكذا لم تغرب شمس يوم 15 سبتمبر سنة 1859م حتى عاد ڤاجنر إلى باريس مرة أخرى.
وكان 13 مارس سنة 1861م هو يوم ذلك العرض التاريخي المشهور لتانهويزر في دار الأوبرا الكبرى بباريس. لقد كانت مقاعد المسرح غاصة بالنظارة حتى إن كثيرا من أصدق أصدقاء ڤاجنر لم يتوفر لهم مكان لحضور العرض الكبير؛ غير أن أولئك الذين شغلوا الجانب الأكبر من ذلك المسرح، كانوا جماعة من أعضاء نادي «الجوكي
صفحة غير معروفة