365

الريحانيات

تصانيف

2

مشهد رهيب خطير طالما استوقفني معجبا، أضرمني حماسة، هزني طربا، ضاعف في حب فرنسا والفرنسيين، فوددت أن أكون منه لا من المتفرجين، غبطت رجاله على ما شاهدوه، غبطتهم على ما نالوه من المجد، غبطتهم على ما خبروه وقاسوه، غبطتهم على حياة أبعدتهم عن سفاسف الحياة وأنستهم ماديات الوجود.

كنت أجلس في القهوة ساعات أتأمل هذا المشهد العظيم فيتغير أمامي ولا يتغير، في أي وقت من النهار والليل كنت أشاهد في المحطة وفي ساحتها أمواجا منه زرقاء بيضاء تموج رائحة جائية، داخلة خارجة، من ساحات القتال إلى المدينة ومن المدينة إلى ساحات القتال، فلا تكاد المحطة تفرغ من الجنود المسافرين حتى تمتلئ من القادمين، تأملهم أيها القارئ، منذ ساعة كانوا في الخنادق، تحت عواصف المدافع وأمطارها، دخانها لم يزل في عيونهم، أوحال الخنادق وغبارها وأوساخها لم تزل متراكمة على أثوابهم. خوذاتهم وقد علقت في حقائبهم تفصح عن معارك خاضوها، غير لونها الدخان، شوهتها شظايا القنابل، منها مكسرة، ومنها مثقبة، ومنها ما أمست أثرا من الآثار يحتفظ به الجندي كما يحتفظ بأوحال الخنادق وأوساخها.

وتأمل العائدين إلى ساحات القتال بعد فرصة سبعة أيام، إن أثوابهم وحقائبهم لم تزل هي هي، تطليها الأوحال، ويحجب لونها الحقيقي الغبار، فإن الأزرق أصبح رماديا والأحمر بنيا مائلا إلى الذهب العتيق، أتذكر لون البحر إبان العواصف؟ إزرقاق يتماوج بين لون الغيوم ولون الأفق المدلهم، هذا هو لون أمواج المجد التي كنت أشاهدها في تلك المحطة في باريس.

تباركت أرض لا تزال تنبت مثل هؤلاء الرجال، تباركت روح لا تزال منشأ الشجاعة والبسالة فيهم، قدست - والله - غبارهم وقدست الأوحال المتراكمة على جوانبهم، إنهم أبناء فرنسا الحقيقيين، هم مصدر مجدها الباهر، هم أركان عزها وصولتها واقتدارها، هم العاملون في تخليد ذكرها ومدنيتها، هم حماة روحها الجليلة التي أنارت العالم وحررت الشعوب، هؤلاء هم ال «بوالو»

3

أبطال ال «مارن» و«السوم» و«فردون»

4

بل أبطال الحرية وحقوق الإنسان.

وإنه ليدهشك منهم سيماء وجوههم، لا الغم ولا الابتهاج، لا القلق ولا الضجر، لا الخمود ولا الحماسة تبدو في ملامحها، هناك مسحة غريبة مبهمة بعيدة كالأفق، سرها عميق، هادئة باردة ساكنة، هي كالحجاب وقد ألبستهم إياه الحرب، هي من نشأ الخنادق وقد أشربت نارا وطليت دخانا، ترى الجندي منهم فلا تصدق أنه من الأبطال، تنظر إلى عينيه فتنكر وجود الحماسة في صدره، خطواته ثقيلة كحقائبه، نظراته هادئة كنفسه، قلما يبتسم وقلما يتكلم، كأن ما تشاهده منه إنما هو ذاته الهيولية، أما ذاته المعنوية الروحية فكأنها لم تزل في الخنادق، أو كأن شبح الحرب لم يزل ملازما له مستوليا عليه.

صفحة غير معروفة