وأقام بدمشق المحروسة يتبوأ منها أحسن الغرفات، واستقر من بقاعها في جنات. فحييت به بعد الممات، وعادت بمقدمه إلى جسدها الروح بعد المفارقة، وتمتعت مقلتها من محاسنه بأبهى من رياضها الرائقه، وهي يحمي حماها، ويحلي مواطن ملكها الزواهر رباها، ويزينها بمواكبه التي ماثلت الكواكب في سنائها وسناها، وتطأ سنابك جياده أرضها فيداني الثريا في الافتخار ثراها، إلى أن قضي شهر صيامه المقبول. وأتاه عيد الفطر مبشرا بإدراك آماله في عز مستمر ونصر موصول، وأسبغ من عطاياه ما أربى على عدد أمواج البحر، تعددت لدولته المسرات في هذا الشهر الميمون، فآخره عيد فطر، وأوله عيد نحر.
ثم رحل عن دمشق في يوم الثلاثاء ثالث شوال، ويعز عليها أن تفارقه، أو تبعد عن محياه الذي أنار مغارب الملك ومشارقه، أو يسير عنها عزمه الذي إن غاب أغنت مهابته، أو حضر أرهف على العدو بوارقه، وأغصان رياضها تحسد بنود سناجقه، وأوراق روحها تود لو كانت مكان أعلامه وخوافقه، وزهرها يتمنى لو كان وشيا لحلل جياده، وأرضها النضرة تكاد تنطوي بين يديه لتكون مراكز السعادة، وقصرها الأبلق يتوسل إليه في أن يتخذه بدل خيامه، وستائره ليسر مسكنه فيه ومقامه. ومصر تبعث إليه مع النسيم رسائل، وتبذل له في تعجيل عوده وسائل. وكرسي سلطنتها يود لو سعي من شوق إليه، أو شافهه بالهناء وبالنعمة التي أتمها الله عليه، فلبى دعوتها ولم يطل جفوتها، وسار إليها سير الأقمار إلى منازل الضياء والنور، ووطيء بمواكبه الأرض فظهرت بها من مواطيء جياده أهلة، ومن آثار أخفاف مطيه بدوره.
ووصل ديار مصر المحروسة وقد زقت عروسا تجلى في أبهى الحلل، وجمعت أنواع المحاسن. فلا يقال لشيء منها كمل لو أن ذا كمل، وفضح الدجى إشراقها، وبهر العيون جمالها، فإلى أقصى حدائق حسنها. زنت أحداقها، وسبت النفوس منازلها، وكيف لا، وهي المنازل التي لم نزل نشتاقها، وشغلت القلوب أبياتها، وكيف لا، وقد زانها ترصيعها وطباقها، وحوت من البهاء ما لو حوته البدور لما شانها بعد التمام محاقها، وأمست روضة أثمرت اللآلي والدرر، وفلكا زها بالمشرقات فيه، وكيف لا، وفي كل ناحية من وجهها قمر.
صفحة ٥٤