الروض الزاهر في غزوة الملك الناصر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أيد الدين المحمدي بناصره، وحمي حماه بمن نهض هو وسلفه بأداء فرض الجهاد في أول الزمن وآخره. وجعل من الذرية المنصورية من يجاهد في الله حق جهاده، ويسهر في سبيل الله فيمنع السيف أن يغفى في إغماده، ويقدم يوم الوغا والموت من بعوثه للعدى وأجناده.
نحمده على ما وهبنا من نصره، ونشكره على نعمه التي خولنا منها بأسا أذاق العدو وبال أمره.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع منار هذا الدين، وتضاعف أجر المجاهدين، الذين أضحوا في درج المتقين مرتقين.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله وضروع الكفر حوافل، وربوع البغي أواهل. فلم يزل يجرد الصفاح عن مقرها، ويطلق جياد العزم في مجراها، وصعاد الحزم في مجرها. إلى أن أخمد نار الشرك والنفاق، وظهرت معجزاته بإطفاء نار فارس بالعراق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جردوا بين يديه سيوف الحتوف فاستقلعت الأغمار، وهاجروا إليه ونصروه فسموا بالمهاجرين والأنصار.
صفحة ٣٩
وبعد، فإن الوقائع التي عظمت أحاديثها في الآفاق، وحفظت بها دماء المسلمين من أن تراق. وبقي بها الملك والممالك، وأشرق بها سواد الخطب الحالك. وسطرها الله في صحائف مولانا السلطان الأعظم، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيد، المظفر، المنصور، سلطان الإسلام والمسلمين، ملك البسيطة، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، محيي الدولة العباسية، ناصر الليلة المحمدية، خادم الحرمين الشريفين، ولد مولانا السلطان الشهيد، المجاهد، المرابط، الملك المنصور سيف الدين قلاون، قدس الله تعالي روحه. وآتاه فيها من النصرة ما لم يبلغه أحد، وأورثه بها ظفرا مخلدا لا يفنى وإن طال المدى والأمد. وأشبه في ثباته ووثباته أباه رضي الله عنه، والشبل في المخبر مثل الأسد. واستقر بها الدين في مهاد السكون بعد القلق، وتبدلت بها الأمة الإسلامية الأمن بعد الفرق. وأضحى بها وجه الإسلام سافرا بعد تقطيبه، وطلع بها بدر السرور كاملا بعد مغيبه. وعمت الأنام إحسانا من الله وحسنى. وعلم المؤمنون بها تحقيق قوله تعالي: وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصلحت ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليكمنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ينبغي أن يسطر فيها ما يعم ربوع السرور ويونس معاهده، ويقف عليه الغائب فيكون كمن شاهده. ويبسط ذكر هذه الغزوة المنصورة في الأقطار، ويتحقق أهل الإسلام أن لهم ملكا يناضل عن دين الله تعالى بالسمر الطوال والبيض القصار، وبسلطانة ما أغمض سيفه في جفنه إلا ليستجم لأخذ الثأر ممن ثار.
صفحة ٤٠
ولما كانت هذه الغزاة المبرورة والحركة التي غدتحسناتها في صحائف مولانا السلطان، خلد الله ملكه مرقومة مسطورة. والسفرة التي سفرت بحمد الله وبسعادته، أعز الله نصره عن الغنيمة والسلامة. وأعلمت الأمة بركة قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة.
صفحة ٤١
وكنت ممن شملته نفحات الرحمة فيها، وهبت عليه رياح النصر التي كان يرتجيها. وشاهدت صدق العزائم الشريفة الملكية الناصرية - خلد الله سلطانها. التي أطلعت من أسنتها في سماء النقع نجوما وقاده. وشهدت في محضر الغزو على إقرار العدى بالعجز وكيف لا وذاك الموطن محل الشهادة. ورأيت كيف أثبت السيف لنا الحق لأنه القاضي في ذلك المجال، وكيف نفدت السهام لأجل تصميمه في الحكم فلم تمهل حتى أخذت دين الآجال وهو حال. وتعين علي أن أذكر من أمرها ملحة تنشرح بها الصدور، وآتي بلمعة تعرب عن ذلك النور. لأنني حقيق بتسطير مناقب مولانا السلطان خلد الله ملكه وترصيف محامده. ووارث ولاء هذا البيت الشريف عن أب شرف بخدمته، ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده. ولم يزل والد المملوك وجده ناظمي سير هذا البيت الشريف حتى صارت محاسنه كالمثل السائر. واصفي عزائمه المظفرة في الحروب بشهادة السنة الأقلام وصدور الصحف وأفواه المحابر.
وها أنذا ذاكر نبأ السفر من افتتاحه، وأشرح حديث يوم هذه الغزاة من وقت صباحه.
صفحة ٤٢
فأقول: ركب مولانا السلطان[الملك الناصر] - خلد الله ملكه - بنية صالحة أخلصها في سبيل ربه، وعزيمة ناجحة ماثلت في المضاء سمر عواليه وبيض قضبه. وهمم تحمي حمى الإسلام وتغيث كالغيث الهاطل، وتأتي ببأس شديد لا يثبت لديه ذووا القنا والقنابل، من قلعة مصر التي هي كنانة الله في أرضه، بجيوشه التي نهضت بسنن الجهاد وفرضه. يقدمها في خدمته - خلد الله سلطانه - أمراؤه الذين كأنهم ليوث غاب، أو غيوث سحاب. [أو بدور ليال، أو عقود لآل] معتضدا ببضعة من الرسول، منتصرا بابن عمه الذي لا يسمو أحد من غير أهل بيته لشرفه ولا يطول. ملتمسا بذلك بركة هذا البيت الشريف النبوي الذي طالما كانت الملائكة من نجده وجنده، مستنزلا بيمنة الإيمان سحب كرمه، مستدعيا صادق وعده. وسار على اسم الله بالجاريات التي تعدوا في سبيل الله النجاد وتعلوا الهضاب، وسري يقطع المنازل، ويطوي المراحل طي السجل للكتاب. والجيوش المنصورة بين يديه أعز الله سلطانه، قد أرهفت حد سيوفها، وأشرعت أسنة حتوفها، وهي تسير كالجبال، وتبعث للعدى ما يرهب من طيف الخيال، فبينا الركائب قد استقلت في السري، ورقمت في البيداء من أعناق جيادها سطورا من قرأها استغنى بحسنها عن القرى. وإذا بالبشير قد وفد، ونجم المسرة قد وقد. وأخبر بأن جملة من التتار قصدوا القريتين للإغارة. وما علموا أن ذلك مبدأ خمولهم الذي فتح للإسلام بسعادة مولانا السلطان - خلد الله ملكه - باب الهنا والبشارة. وغرتهم الآمال، وساقتهم إلى الحتوف الآجال. فنهض بعض العساكر المؤيدة فأخذهم أخذ القرى وهي ظالمة، وأعلمهم أن السيوف الناصرية ما تترك لهم بقوة الله بعد هذا العام يدا في الحروب مبسوطة ولا رجلا في المواقف قائمة. وأرى الله العدو مصارع بغيه، وعاقبة استحواذه، وتلا لسان الوعد الصادق على حزب الإيمان وعدكم الله مغانم كثيره تأخذونها فعجل لكم هذه.
ووصل مولانا السلطان - خلد الله ملكه - غزة، والإسلام بحمد الله قد زاد قوة وعزة، ثم رحل - أعز الله أنصاره - بعزم لا يفتر عن المسير، وسار - خلد الله سلطانه - وقد حلف النصر أن لا يفارق ركابه وأنه يسير معه حيث سار ويصير في خدمته حيث يصير.
صفحة ٤٣
إلى أن وصل يوم السبت الثاني من شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وسبع مائة، وهو أول أيام السعود، واليوم الذي جمع فيه الناس وذلك في الدنيا يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، إلى مرج الظفر الذي هو موطن الظفر، ومكان النصر الذي تحدث عنه السمار بأطيب سمر. ومولانا السلطان - خلد ملكه - بين عساكره كالبدر بين النجوم، والملائكة الكرام تحمي الجيوش المؤيدة بإذن الله وطيور النصر عليها تحوم. وهو - خلد الله سلطانه - قد بايع الله على نصرة هذه الملة التي لا يحيد عن نصرها ولا يريم، وعاهده على بذل الهمم التي انتظمت في سبيل الله كالعقد النظيم. وخضع لله في طلب النصر وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيوم، وقال: رب قد بذلت نفسي في سبيلك فتقبلها بقبول حسن، ونويت المصابرة في نصرة دينك وأرجو أن أشفع النية بعمل يغدو لسان السنان في وصفه ذا لسن، وتلا - تقبل الله منه -: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، واهزم عدونا فقد بايعناك على المصابرة، والله مع الضبرين. [وابتهل إلى الله في طلب التأييد، وتضرع إليه في ذلك الموقف الذي ما رآه إلا من هو في الآخرة شهيد، وفي الدنيا سعيد.]
صفحة ٤٤
هذا والسيوف الإسلامية بين يديه - خلد الله سلطانه - قد فارقت الأغماد وحلفت أنها لا تقر إلا في الرؤوس، والأسئله قد أشرعت و آلت أنها لا تروي ظمأها إلا من دماء النفوس. والسهام قد التزمت أنها لا تتخذ - كنائنها إلا من النحور، ولا تتعوض عن حنايا القسي إلا بحنايا الأضالع أو لترفعها لا تحل إلا في الصدور. والدروع قد لزمت الأبطال قائلة: لا أفارق الأبدان حتى تتلا سورة الفتح المبين. والجياد حرمت وطييء الأرض [وقالت لفرسانها: لا أطأ إلا جثث القتلى، ورؤوس الملحدين. فلا ترى إلا بحرة من حديد، ولا تشاهد إلا مع أستة أو بوق سيوف تصيد الصيد. والسلطان قد أرهف ظباه ليستر بها في قلوب الجدى جمرة. وإلى أنه لا يورد سيوفه الطلى بيضة إلا ويصدرها حمرا، والإسلام كأنه بنيان مرصوص، ونبأ النصر على مسامع أهل الإيمان مقصوص. والنفوس قد أرخصت في سبيل الله، وإن كانت في الأمن غالية، وأرواح المشركين قد أعد لها الأزك الأسفل من النار، وأرواح المؤمنين في جنة عالية.
ولما كان بعد الظهر أقدم العدو - خذله الله - بعزائم كالسيوف الجداد، وجاء على قرب من مقدمنا، فكان هو والخذلان على موافاة، وجئنا ونحن والنصر على ميعاد. وأتي كقطع الليل المظلم، بهيم لا تكاد لولا دفع الله عن بزاتها حجم. معتقدا أن الله قد بسط يده في البلاد - ويأبى الله إلا أن يقبضها - متخيلا أن هذه الكرة مثل تلك - ويأبى الله إلا أن يخلف لهذه الأمة بالنصر ويعوضها - متوهمة أن جيشه الغالب، وعزمه القاهره متحققة أنه منصور، وكيف ذاك ومعنا الناصر؟!
والتقى الفريقان بعزائم لم يشبها في الحرب ول ولا تقصير، فكان جمعنا، ولله الحمد، جمع سلامة، وجمعهم جمع تكسير] وحمي الوطيس، وحمل في السبت الخميس على الخميس، ودارت رحا الحرب الزبون، وغنت السيوف فشرب الكماة كأس المنون.
صفحة ٤٥
ومولانا السلطان - خلد الله ملكه - وقد ثبت في موقف المنايا آمنا، حتى كأنه في جفن الردى وهو نايم، ورأى الأبطال من أوليائه جرحى في سبيل الله والأعداء مهزومة والوجه منه وضاخ والثغر باسم. [وقابل العدو بصدره، وقاتل حتى أفني حديد بيضه وشمره، وخاطر بنفسه والموت أقرب إليه من حبل الوريد، ونكب عن ذكر العواقب جانبا، ولم يستصحب إلا سيقه المبيد. وأشتد أزرة بأمرائه الذين رأوا الحياة في هذا اليوم مغرما، وعدوا الممات فيه منما. وقالوا: لا حياة إلا بنصر الإسلام، ولا استقرار حتى تطأ بين يدي السلطان سنابك الخيول هذه الهام. وما أعددنا العزائم إلا لهذا الموقف، ولا أحددنا الصوارم وخباناها إلا لنبدلها في الفك فسرف. وهم بين يدي سلطانهم يحثون جيوشهم على المصابرة، ويقولون: هذا يوم تصيبنا فيه إحدى الحسنيين، فإما سعادة الدنيا وإما جنة الآخرة]. وقالت الملائكة للجيوش المنصورة: يا خيل الله اركبي، ويا يد النصر اكتبي.
وقامت الحرب على ساق، والتفت الساق الساق إلى ربك يوميذ المساق. وأتي العدو جملة واحدة، وحمل حملة أمست بالنفوس حايده. ونكب عن الميسرة وقصد الميمنة والقلب، وهاله جمع الإسلام فأراد أن يخلص بانحيازه من شدة ذلك الكرب.
واستمرت المناضلة تمتد بين الفريقين وتنتشر، والمؤمنون قد وفوا بما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ومولانا السلطان - خلد الله ملكه - يري غمرات الموت ثم يزورها، ويمر في مجال المنايا فيحلو له مريرها ومرورها. وتقاسم سيوفه العدى شر قسمة، فعلى عاتقه غواشيها، وفي صدورهم صدورها. وهو - خلد الله سلطانه - يردف مواكبه بحملاته، ويقدم فتخشى الأعداء مواقع مهابته، وترجوا الأولياء منافع هباته. ويحرض عساكره على أداء الجهاد المفترض، ويدعوهم إلى جنة لهم فيها عن المناضلة جميل الخلف و حسنالعوض، ويريهم إقدام من لا يخالف المنية، ولا يهاب مواقعة السمهرية.
ولما كان وقت المغرب لجأوا - خذلهم الله - إلى جبال اعتقدوا أن فيها النجاة، وقالوا: نأوي إلى جبل يعصمنا من الموت ونسوا أنه ولا عاصم اليوم من أمر الله.
صفحة ٤٦
[راموا النجاة وكيف تنجو عصبة
مطلوبة بالله والسلطان؟]
وحصرتهم العساكر المنصورة بين يدي مولانا السلطان - خلد الله ملكه - بعزائم كالشهاب أم النهار، ودارت عليهم كالسور أو السوار. وصرتهم بقوة الله وبسعادته في ربقة الإسار. وقاتلتهم الجيوش الإسلامية غير مستجنة بقرى محصنة ولا من وراء جدار. تتلظى كبودهم عطشا وجوعا، ويكادون من شدة الهجير يشربون من سيل قتلاهم نجيعا، ويودون لو كانوا أولي أجنحة، ويندمون حين رأوا صفقتهم خاسرة وكان ظنهم أنها تكون مربحة. ويأسفون على فوات النجاة، ويتحيرون عند مواقعة الجيوش المؤيدة حيث رأوا نصر الله. ويتضرمون بنار الخيبة على حركتهم التي أدبرت لهم مآبا، وينظرون فيما أسلفوه من ذنوب، ولسان الانتقام يتلو عليهم يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يليتني كنت تربا.
صفحة ٤٧
ودخلت ليلة الأحد وهم في حصرهم، وقد أوقعهم الله في حبائل مكرهم، ورأوا من الحصر والضيق ما لا رأوه مدة عمرهم. وأيقنوا بالهلاك، وتحققوا أنه لا خلاص لهم من تلك الأشراك . ولو سمعوا ما سبق من الإنذار لما أتوا للمبارزة مظهرين، ولو علموا سوء صباحهم لفروا عشاء ونجوا من قبل أن يتلى في حقهم فساء صباح المنذرين، وقالت لفرسانها: لا أطأ إلا جثث القتلى ورؤوس الملحدين. فلا ترى إلا بحرا من حديد، ولا تشاهد إلا لمع أسنة أو بروق سيوف تصيد الصيد، ومولانا السلطان - أعز الله سلطانه - قد جرد سيف عزمه، وامتطى أجواد حزمه، وأرهف ظباه ليسعر بها في قلوب العدى جمرا، وآلا أنه لا يورد سيوفه في الطلا بيضا إلا ويصدرها حمرا. والإسلام كأنه بنيان مرصوص، وبناء النصر على مسامع أهل الإيمان مقصوص، والنفوس قد أرخصت في سبيل الله وإن كانت في الأمن غالية، وأرواح المشركين قد أعد لها الدرك الأسفل من النار وأرواح المؤمنين في جنة عالية.
ولما كان بعد الظهر أقدم العدو - خذله الله - بعزائم كالسيوف الحداد، وجاء على قرب من مقدمنا فكان هو والخذلان على موافاة وجئنا نحن والنصر على ميعاد. وأتي كقطع الليل المظلم بهمم، لا تكاد لولا دفع الله عن مرامها تحجم، معتقدا أن الله تعالى قد بسط يده في البلاد ويأبى الله إلا أن يقبضها. متخيلا أن هذه الكرة مثل تلك ويأبى الله إلا أن يخلف لهذه الأمة بالنصر ويعوضها، متوهما أن جيشه الغالب وعزمه القاهر، متحققة أنه منصور وكيف ذاك ومعنا الناصر.
والتقى الفريقان بعزائم لم يشبها في الحرب نكول ولا تقصير، وصدم الجمع الجمع فكأن جمعنا - ولله الحمد - جمع سلامه وجمعهم جمع تكسير.
وأصبح الإسلام يوم الأحد في قوته المنيعة، وأرواح العدى في أجسادهم وديعة. ومولانا السلطان - خلد الله ملكه - يصطبح من دمائهم كما اغتبق، ويريهم عزما يثني عقد اجتماعهم الذي انتظم واتسق. ويفهمهم أنه لا مرد له عن مراد الصوارم، وأنه لا يفارق الجبل حتى يجعل عوض أحجاره جماجم. وجيوشه المنصورة بين يديه أولوا همم في الحرب وذووا عزائم يجهدون في سبيل ألله ولا يخافون لومة لائم، ويعدون المصابرة في طاعة الله وطاعة سلطانهم غنيمة جمعت لهم أسباب الفخار، ويوصفون بكونهم مع تابعي المهاجرين والأنصار.
صفحة ٤٨
وزحف مولانا السلطان - خلد الله ملكه - وبين يديه عساكره المؤيدة فضيقوا عليهم الخناق، وأحدقوا بهم أحداق الهدب بالأحداق. وراسلوهم بالسهام، وشافهوهم بالكلام لا الكلام. [ورفعوا من راياتهم المنصورة ما طاول المنشآت في البحر كالأعلام، وحمل بها الأبطال فكلما رآها العدى تهتز بتحريك نسيم النصر سكنوا خوف الحمام، ثم] فرجوا لهم عن فرجة من جانب الجبل ظنوها فرجا، وخيل لهم أنه من سلك من تلك الفرجة سلك طريقا مستقيما، وما درى أنه يسلك طريقا عوجا. واستنزلتهم الجيوش المؤيدة إلى الوطاء، لتمكن سيوفها من سفكهم، وتقرب مدى هلكهم. وتسلمهم إلى الحمام الذي لا ينجي منه حيل ولا حيل، وتملأ الوطاء من دمائهم فتساوي السهل من قتلاهم والجبل. وحل الحمام بساحتهم، وامتدت الأيدي لاستباحتهم، وضاقت عليهم المسالك، وغلبوا هنالك، وأنزل الله نصره على المؤمنين وأيدهم بجنود لم يروها، واشترى منهم أنفسهم بأن لهم الجنة، فيا طيب ما شروها، وفرت من العدو فرقة فضلت في حال الحرب عن السيوف، فأدركهم العزم الماضي الغرار، وتلا عليهم لسان الحتف: قل لن ينفعكم الفرار.
صفحة ٤٩
وما انقضى ظهر يوم الأحد إلا والنصر قد خفقت بنوده، والحق سبحانه [وتعالى] قد صدقت وعوده. وطائر الظفر قد رفرف جناحيه وطار باليمن والسرور، ونسيم الريح قد تحملت رسالة التأييد، فسارت إلى الإسلام بالصبا وإلى العدا بالدبور، والألطاف - ولله الحمد - قد زادت الإسلام قوة وتمكينا، ولسان النصر يتلو على مولانا السلطان: إنا فتحنا لك فتحا مبينا، والسيف قد طهر ديار الإسلام من تلك الأدناس، ومولانا السلطان يتلو ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وأمست الوحوش تحوش أشلاءهم، والحوائم ترد دماءهم. والعساكر المؤيدة في أعقابهم تقتل وتأسر، وتبدي كل عزيمة عليه في استئصالهم وتظهر.
[وتنظم أسنتها برؤوس القتلى، وتعقد لها على عقائل النصر فتزف لديها وتجلى، إلى أن ناحتهم بالخيف من مكان قريب، وبسطت فيهم السيف فسأل الأسر أن يسمح له بحظ فأعطي أيسر نصيب، وملئت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثا في الأمصار، وعبرة لأولي الأبصار.]
صفحة ٥٠
ثم رحل مولانا السلطان - خلد الله سلطانه - يوم الإثنين الرابع من شهر رمضان المعظم من مكان النصر وبقاعه تثني على معاليه، وتشهد بمضاء قضبه في سبيل ربه ونفوذ عواليه. ونزل الكسوة ودمشق قد أخذت زخرفها وازينت، وتبرجت محاسنها للنواظر وما بانت بل تبينت. وكادت جدرها تسعى للقائه لتؤدي السنة من خدمته والفرض، غير أنها استعارت الأنهار فسعت وقبلت بين يدي جواده الأرض. ودخلها في يوم الثلاثاء، الخامس من شهر رمضان المعظم، [ودخلها في هذا اليوم] والملائكة تحييه عن ربه بتحية وإكرام، وتقول له ولجيوشه المؤيدة: أدخلوها بسلم في موكب كأنه نظام الدرر، بل هو - حقا - هالة القمر. والمدينة قد تاهت به عجبا، والناس يدعون لسلطان [قد] شغفوا بدولته حبا. ويتعجبون من نضارة ملكه الذي سر النواظر، ويرون أولياءه في ظل إنعامه، فيقولون: أبدلت الأرض غير الأرض، أم صارت سماء، وإلا فما هذا القمر حوله النجوم الزواهر؟ وغدت المآتم بدمشق المحروسة أفراحا وأعراسا، وربوع الهناء قد عوضها يمن مقدمه عن الوحشة إيناسا. والقلعة المنصورة بآلات حصارها مزينة، قائلة: كيف يستباح حماي وأنا بهذا السلطان محصنة، وبسعادته محصنة؟
صفحة ٥١
هذا، والأنهار تساير ركابه وقد صيغت من دم العدى بأحمر قاني، والأشجار تميل طربا بالهناء كما يميل النشوان بين الأغاني. والأطيار تطرب بغنائها، وقد أقسمت أنها لا تنوح وكيف تنوح وقد خضبت كفها وطوقت الجيد، والناس يقولون: أيا عجبا في أول رمضان يكون عيد و[في] آخره عيد. وأسباب النصر تأتي إلى الإسلام، والقلوب تقول: هل من مزيد؟ والأيدي من لطف الله تجتدي، والعزائم للأعداء تزدي، وبنصر الله ترتدي. ونهر بردا يقول عند تغريد الحمامة:
يا برد ذاك الذي قالت على كبدي. والدنيا قد تاهت بسلطانها فرحة وسرورا، وهام الجوزاء تود لو كانت له، خلد الله ملكه، منبرا وسريرا. والأدعية إلى الله ترفع بخلود أيامه الطاهرة، ودوام دولته التي أصبحت على أعداء الدين ظاهره. والرعايا تقول: هذا الملك الذي حمى الله بعزائمة الديار، وأخذ الثار وأدار العدا إلى دار البوار. ووقف لا يبتغي إلا وجه ربه، وقاتل بنفسه وبكتائبه وكتبه. والله لدعائهم سامع ومجيب، ومكافيه - خلد الله سلطانه - بكل فتح مبين ونصر قريب.
صفحة ٥٢
ووصل إلى الميدان الأخضر [وقد أذاق العدو الأزرق الموت الأحمر]، في يوم السعد الأبيض بعلم النصر الأصفر، إلى القصر الأبلق، وقد طلع شمسا في سماء الملك أنار بها الأفق وأشرق، ففخر [القصر] بحلوله فيه وقال: هذا اليوم الذي كنت أرتجيه، وهذا الوقت الذي ما برحت تبشرني به نسمات البكر والأصائل، [لأنها تمر لطيفة، فأعلم أن معها منه - خلد الله ملكه - وسائل]. وهذا الملك الذي أعرف املك الذي أعرف فيه من أبيه شمائل. فغبطته القلعة المنصورة، واشتدت حسدا وغيرة، وفاخرته بما لها من محاسن، وإشراف على أنضر الأماكن، [وامتازت به من حصانتها الذي ما أمتطn سواه ذروتها، ولا على غيره - خلد الله ملكه - صهوتها]، فأراد - خلد الله سلطانه - فأراد أن يعظم لقلعته الشأن، فحل بها. مرة ثم بتلك أخرى، فطاب بحلوله الواديان.
ثم شرع - خلد الله ملكه - في حسن الاشتمال على أمرائه ونوابه، وجميل الاحتفال بمصالح من تعلق من الولاء بأعظم أسبابه، فعمهم خلعا وعطايا سنيه، وأراهم يعما بلغتهم كل أمنيه. وأذهب عنهم مشقة التعب ببذل الذهب، وأنسى بمكارمه حاتم طيء، فلو عاش لاستجدي ما أطلق - خلد الله ملكه - و) وهب. ومر بعود نواب سلطنته إلى أماكنهم المحروسة، وقال: الربوع هذه المدة قد خلت. وحيث حللنا بالبلاد ينبغي أن تكون مأنوسه، فتضاعف الشكر لله تعالى على تمام هذه النعمة، وابتهلت الألسن بالمحامد، وكيف لا، وقد طلع صبح النعمة فحلا ليل تلك الغمة.
[وشكر الناس منة الله التي أعادت إليهم بالأمن الوسن، وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.
صفحة ٥٣
وأقام بدمشق المحروسة يتبوأ منها أحسن الغرفات، واستقر من بقاعها في جنات. فحييت به بعد الممات، وعادت بمقدمه إلى جسدها الروح بعد المفارقة، وتمتعت مقلتها من محاسنه بأبهى من رياضها الرائقه، وهي يحمي حماها، ويحلي مواطن ملكها الزواهر رباها، ويزينها بمواكبه التي ماثلت الكواكب في سنائها وسناها، وتطأ سنابك جياده أرضها فيداني الثريا في الافتخار ثراها، إلى أن قضي شهر صيامه المقبول. وأتاه عيد الفطر مبشرا بإدراك آماله في عز مستمر ونصر موصول، وأسبغ من عطاياه ما أربى على عدد أمواج البحر، تعددت لدولته المسرات في هذا الشهر الميمون، فآخره عيد فطر، وأوله عيد نحر.
ثم رحل عن دمشق في يوم الثلاثاء ثالث شوال، ويعز عليها أن تفارقه، أو تبعد عن محياه الذي أنار مغارب الملك ومشارقه، أو يسير عنها عزمه الذي إن غاب أغنت مهابته، أو حضر أرهف على العدو بوارقه، وأغصان رياضها تحسد بنود سناجقه، وأوراق روحها تود لو كانت مكان أعلامه وخوافقه، وزهرها يتمنى لو كان وشيا لحلل جياده، وأرضها النضرة تكاد تنطوي بين يديه لتكون مراكز السعادة، وقصرها الأبلق يتوسل إليه في أن يتخذه بدل خيامه، وستائره ليسر مسكنه فيه ومقامه. ومصر تبعث إليه مع النسيم رسائل، وتبذل له في تعجيل عوده وسائل. وكرسي سلطنتها يود لو سعي من شوق إليه، أو شافهه بالهناء وبالنعمة التي أتمها الله عليه، فلبى دعوتها ولم يطل جفوتها، وسار إليها سير الأقمار إلى منازل الضياء والنور، ووطيء بمواكبه الأرض فظهرت بها من مواطيء جياده أهلة، ومن آثار أخفاف مطيه بدوره.
ووصل ديار مصر المحروسة وقد زقت عروسا تجلى في أبهى الحلل، وجمعت أنواع المحاسن. فلا يقال لشيء منها كمل لو أن ذا كمل، وفضح الدجى إشراقها، وبهر العيون جمالها، فإلى أقصى حدائق حسنها. زنت أحداقها، وسبت النفوس منازلها، وكيف لا، وهي المنازل التي لم نزل نشتاقها، وشغلت القلوب أبياتها، وكيف لا، وقد زانها ترصيعها وطباقها، وحوت من البهاء ما لو حوته البدور لما شانها بعد التمام محاقها، وأمست روضة أثمرت اللآلي والدرر، وفلكا زها بالمشرقات فيه، وكيف لا، وفي كل ناحية من وجهها قمر.
صفحة ٥٤
وحل - خلد الله ملكه - بظاهر القاهرة فكادت تسير لخدمته بأهلها وجدرانها، غير أنه أثقلها الحلي فأخرها لتبدو إليه في أوانها المراد، وما أحسن الأشياء في أوانها، وهم نيلها أن يجري في طريقه لكنه أخره النقص والتقصير، واستحيا أن يقابله وهو دون غاية التمام ، أو يسير من مواكب أمواجه في عدد يسير، وخشي أن يتخلل السبل بين يديه فيحصل في ريها الخلل، أو تظهر عليه - كونه في زمن توهمه - حمرة الخجل، وكأن عمود مقياسه قد آلى أن لا يضع أصابعه في اليم إلا بإذن سلطنته، ولا يلبس ثوب خلوق إلا ما يزره عليه ببنانه، ولا يأتي بزيادة إلا بعد مقدمه، وكيف لا، ومدده من إحسانه.
وركب سحر الإثنين الثالث والعشرين من شوال سنة اثنتين وسبعمائة من ظاهر القاهرة في موكب حف به الظفر، وأضحى حديثة للأنام وذكرى للبشر. وسيفه المنصور قد أذهب عن الملة الإسلامية ليل الخطب ومحا، والأمة يترقبون طلوع فجر بدره، ولسان المسرة يتلو عليهم موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناش ضحى. ودخل البلد وقد تزايدت بمقدمه سرورا وبشرا، وأنشدته:
أنت غيث إذا وردت إلى الش
ام ونيل إذا تيممت مصرا
أطلع الشرق من جبينك شمسا
ليس تخفي ومن محياك بدرا
كان أمر التتار مستصعب الح
ال فصيرت عسر ذلك يسرا
صفحة ٥٥
وفتحت له أبواب نصرها التي يفضى منها إلى نعمة ونعيم، وشاهدته عيون أهلها فلما رأينه أكبرنه قطعن أيديهن وقلن حش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. والرعايا قد أصبحوا كما أمسوا بالدعاء له مبتهلين، والألسنة تتلو عليه وعلى أمرائه أدخلوا مصر إن شاء الله امنين. وقد أظلته سماء أديمها الحرير، ونجومها الذهب، وسحبها تنثر اللؤلؤ المكنون، وحيل بين سنابك خيله وبين الأرض بأثواب من استبرق تستوقف العيون، وكوفئت عن وطء الأحجار بالأمس في سبيل الله بوطء الديباج في هذا اليوم، وكادت الأيدي تلمس معارفها تبركا بترب الجهاد الذي حملت إليه أكرم قوم. فرأى فيها جنة أوردت من مناهلها كوثرا، وكان قد أنهي بين يديه حديث زينتها فوجد خبرها يجاوز خبرا. ولم يجد بها عيبا غير أن صباحها حمدت به الأجفان عاقبة السرى، وتبرجت عقائلها نزها للنواظر، وتظهر كل واحدة منهن في وشي أنهي من الزواهر، ولبست جدرانها حلل السرور النضرة، وأبرزت بعولتهن ما في ذخائرهم ولم يسألوا نظرة إلى ميسرة - وما ثنت أعطافها - كما أمست وجوه التهاني بها ضاحكة مستبشرة. ولما مر بسبلها حلا له ذلك النور، ولما سلك بين قصريها تحقق الناس أن أيامه زادت على أيام الخلفاء، فإنها أنشأت قصرين وهذا أنشألها قصورا ما بها من قصور، فمن بروج تمنت البدور لو كانت لها منازل، ومن قلاع لو تحصن بها جان لما دارت عليه دوائر الدهر الغوائل. ومن قباب علت وليس لها غير الهمم من عمد، وضربت على السماحة والندى فما عدم مشيدها حسن البناء ولا فقد، ومن عقود عقد لها على عرائس السعود، وتمكنت في الصعود. ومن حلي لو ظفر بها الحسن بن سهل لاتخذ منها لجهاز ابنته على المأمون ما لا ألف مثله في زمنه ولا عهد. ولو رآه ابن طولون لإعتضد به في إهداء عقيلته للمعتضد، ومن أواوين تزري بإيوان كسري الذي تعظم بناؤه وتحمد، ويستصغر في عين من رأى إيوانا واحدا من هذه، وكيف لا، وذاك هدم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا عمر لنصرة محمد. وذاك أهلك بانيه وجر، وهذا أيد بانيه ونصر. ومن سواق جوار وجوار سواق، وآلات تبهر عند رؤية حدائقها الأحداق، ومن عروش وأشجار، ورياض نضرة تبهت الأبصار. وقد أخذت من كل المحاسن بشطر، وحلت مذاقا. وكيف لا، وقد سقيت بالقطر؟ ومن سفائن قد ترفعت حتى مرت في الجو من بحر النسيم في لجج، ومن عجائب إذا حدث المرء عنها قيل له: حدث عنه ولا حرج، ومن شخوص بالألحاظ تغازل، ودمي تسحر العقول بسحر بابل، وصور يخيل للرائي أنها تنطق، وأشكال وضعت صفة للحرب التي أضحت رايتها في الآفاق تخفق، ومن هيبة للعدى التي أبادتها الأبطال، وأعدمت حقيقتها فلم يبق منها إلا مثال يبرز في خيال، ومن جتور ظهرت بها آية ملكه لما مرت بنفسها على رأسه الكريم مر السحاب، وسارت بين السماء والأرض فلم تحتج مع سعادته إلى عمد ولا إلى أطناب، ومن فرسان جملت الجيوش المنصورة حيث لبست لامة حربها، واعتقلت رماحها وبارزت الأقران فكان النصر من حزبها.
ومن أنواع احتفال يعجز عن وصفها البديع الفطن، ولولا خوف الإطالة لقلت: ومن ومن إلى أن تنفد كلمة ومن.
صفحة ٥٦
والأمة يبذلون في خدمته الجمل والتفاصيل، ويصنعون له ما يريد من النزه، ويعملون ما شاءوا من تماثيل، والأسارى قد جعلوا بين يديه مقرنين في الأصفاد، يشاهدون مدينة ماثلت إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلد وهو - خلد الله سلطانه - يسير الهوينا، وينظر بين حبره هذا المحفل، ويقبل، وأسراؤه بين يديه كالليث أقبل للفريسة ينقل، وهم يشكرون حلمه على السلامة من ريب المنون والأفواه تنطق بشكر الله إذ الأغلل في أعنقهم والسلسل يسحبون. وقد بهتوا لما رأوه من نعم الله التي تنوعت له - خلد الله ملكه - حتى أتت كل نعمة في وقتها، وعظمت في عيونهم آيات الله سبحانه، ولسان الأقدار يتلو وما نزيهم من اية إلاهي أكبر من أختها. فلما نظروا بالأمس في إنجاد الملائكة للعساكر المنصورة آية كبري، شاهدوا اليوم من سعادة هذا الملك الذي بنت له الأقدار بين السماء والأرض مدينة فقالوا: هذه آية أخرى. واستقلوا ما مروا به من المدائن والأمصار، وغدوا وعيونهم في جنة وقلوبهم في نار، واستصغروا ملكهم المخذول وملكه، وقالوا: غير عجيب لمن أقدم على هذا الملك أن يبدد جمعه، ويفرط سلكه، وتحققوا أنه من أوتي هذا السعد لا يؤخر - إن شاء الله - إمساك كبيرهم وهلكه. ونودوا: أن شاطروه في السلاسل والقيود، والسيف يقول: ليس الأمر لمن يسمى - خديعة - محمودا، محمود. ووصل مولانا السلطان تربة والده السلطان الشهيد - قدس الله روحه - وأمراؤه قد بذلوا في محبته نفائس النفوس، وجزيل الأموال، وأخاير الذخائر، وركبوا بالأمس للمناضلة عن دولته في سبيل الله، وقد بلغت القلوب الحناجر. وترجلوا اليوم في خدمته تعظيما لشعائر سلطنته، وطلعوا في سماء المعالي كالنجوم الزواهر، وصعد - خلد الله ملكه - تربة والده، رضي الله عنه، وأنوار النصر على أعطاف مجده لائحة، ودخلها فلولا خرق العوائد لنهض من ضريحه وصافحه، وشكر مساعيه التي اتصلت بها أعماله، وكيف لا، وهي أعمال صالحة. وقص مولانا السلطان - خلد الله ملكه - عند قبره المبارك من غزوته أحسن القصص، وأسهم من بركة جهاده أوفر الحصص. فلو استطاع - رحمه الله - أن ينطق لقال: هذا الولد البار، والملك الذي خلفني وزاد في نصرة الإسلام وكسر التتار، ولو تمكن - رضي الله عنه - لأخبره بما وجده من ثواب الجهاد في جنات وعيون، وبشره بما أعده الله لمن فقد من المجاهدين في هذه الغزاة المبرورة بين يديه، وتلا عليه: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله آموتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. ولأثنى على أمرائه الذين فعلوا من المصابرة والمحافظة ما أوجبه حسن التهذيب منه - رحمه الله - وجميل التربية، وشكر عزائمهم التي ما ناداها أهل مملكة الكشف خطب إلا أجابوهم بمواقع التلبية، واعتد بطاعتهم للميت والحي، وموالاتهم التي ذاعت في كل ناد وحي، والقراء حول ضريحه يتلون آيات الله التي كان - رضي الله عنه - بها عاملا، ولم يزل ربع تقواه بها آهلا، فشمل مولانا السلطان - خلد الله ملكه - الأنام بالصدقات المتوفرة، وسمح من الذهب والفضة بالقناطير المقنطرة، وازدحمت الأماني على سيبه، كما ازدحمت الأعادي على سيفه، فكان كما قيل:
قداح زند المجد لا تنفك من
نار الوغى إلا إلى نار القرى
وركب من التربة الشريفة والرعايا يدعون بدوام دولته التي أضحت قواعد الأمن بها متينة، ويرتعون بالمدينة في لهو ولعب وزينة.
وسار جواده بين حلي وحلل، فاستوقف الأبصار، في مسلك حفت به غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار.
وعاد إلى قلعته ظافرا عود الحلى إلى العاطل، وغدت ربوعه الموحشة لبعده بقربه أواهل، وطلعها في أيمن طالع لا يحتاج معه إلى اختبار ولارصد، وحلت شمس ملكه في برجها، وكيف لا، وهو في برج الأسد، فالله تعالي يمتع الدنيا بملك حمي شاما ومصرا، وأذاق التتار بعزائمه مصائب تتري].
وإني لأرجو أن أسطر من مناقب هذه الدولة الشريفة الناصرية ما يكون لهذا المبتدا خبرا، وأن أرقم من سيرته وفتوحاته ما يسر حديثه إذا سري. مع أنا - بحمد الله - قد رأينا في أيامه من عموم الأمن، وشمول المن، ما أراح للمؤمنين قلوبا وأتعب للأعادي فكرا، وذكرنا عند نزول مواهب نصر الله عليه، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا.
[وحسبنا الله ونعم الوكيل.]
[قال شهاب الدين النويري:
ولما صنف المولى علاء الدين هذه الغزاة، وعرضت على المسامع الشريفة السلطانية شمله الإنعام والتشريف السلطاني، ووفر حظه من ذلك، وقد سمعت هذه الغزوة من لفظه، ونقلتها من خطه، وقد أتي فيما أورده بالواقعة المشاهده، ووقي بقوله: إن الغائب إذا وقف على خبره يكون كمن شاهده.
وقد وقف أيضا على جملة مما صنفه الفضلاء في خبر هذه الغزاة، وهذا الذي أورده أتمها وأكملها وأكثرها استيعابا للواقعة من ابتدائها إلى انتهائها.
فلذلك اقتصرت على إيرادها دون ما سواه.]
صفحة ٥٨
[المناقب المظفرية]
ونذكر بعد ذلك المناقب الكريمة المولوية المالكية، المخدومية، المظفرية، أعز الله نصرها، فنقول:
أما بعد حمد الله الذي اصطفى من أسرة الملك سريا، ورفع من علا بصفاته وبعلاء أبيه، رضي الله عنه، مكانا عليا، وأتاه من سعادة الجد في المهمات ما أصبح عزمه به وثيق العرى، وميزه من جده المنصور بميزات شهامة سمي بها مظفرا.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه الذين نهضوا في نصرته، وحازوا القربي كونهم من عشيرته وعترته.
فإنه لما كانت العزائم الشريفة، العالية، المولوية، السيدية، المخدومية، المجاهدية، المرابطية، المثاغرية، المظفرية، موسى ابن المولى السلطان السعيد، الشهيد، الملك الصالح علاء الدين علي بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاون، قدس الله روحه - ينبغي أن يشهر حديثها في الآفاق، ويسطر من أخبارها ما يغدو في سماء المحامد باهر الإشراق، لأنها عزائم من تلقي السعادة كابرا عن كابر، واستشهد في غزواته بألسنة البواتر. وأصبح ونسبه الكريم عليه من شمس الضحى أنوار لامعة . واتصف في ذاته بسجايا غدت لكل مكرمة جامعة. ونهض في خدمة عمه مولانا السلطان الأعظم، الملك الناصر - خلد الله ملكه - يشتد به أزرا، ويطلع منه في ليالي الخطوب بدرا. ويغدوا لمحاسنه يستحلي، ولعرائس هممه يستجلي. ويحمد الله على مؤآزرته حيث تقبل دعاءه، عند قوله: رب وأجعل لي وزيرا من أهلي. ويتسلي به عن أخيه، رضي الله عنه، كلما وقع خطب فادح، ويسد به مسده، ويقول: نعم الخلف الصالح.
صفحة ٥٩