ودخلت ليلة الأحد وهم في حصرهم، وقد أوقعهم الله في حبائل مكرهم، ورأوا من الحصر والضيق ما لا رأوه مدة عمرهم. وأيقنوا بالهلاك، وتحققوا أنه لا خلاص لهم من تلك الأشراك . ولو سمعوا ما سبق من الإنذار لما أتوا للمبارزة مظهرين، ولو علموا سوء صباحهم لفروا عشاء ونجوا من قبل أن يتلى في حقهم فساء صباح المنذرين، وقالت لفرسانها: لا أطأ إلا جثث القتلى ورؤوس الملحدين. فلا ترى إلا بحرا من حديد، ولا تشاهد إلا لمع أسنة أو بروق سيوف تصيد الصيد، ومولانا السلطان - أعز الله سلطانه - قد جرد سيف عزمه، وامتطى أجواد حزمه، وأرهف ظباه ليسعر بها في قلوب العدى جمرا، وآلا أنه لا يورد سيوفه في الطلا بيضا إلا ويصدرها حمرا. والإسلام كأنه بنيان مرصوص، وبناء النصر على مسامع أهل الإيمان مقصوص، والنفوس قد أرخصت في سبيل الله وإن كانت في الأمن غالية، وأرواح المشركين قد أعد لها الدرك الأسفل من النار وأرواح المؤمنين في جنة عالية.
ولما كان بعد الظهر أقدم العدو - خذله الله - بعزائم كالسيوف الحداد، وجاء على قرب من مقدمنا فكان هو والخذلان على موافاة وجئنا نحن والنصر على ميعاد. وأتي كقطع الليل المظلم بهمم، لا تكاد لولا دفع الله عن مرامها تحجم، معتقدا أن الله تعالى قد بسط يده في البلاد ويأبى الله إلا أن يقبضها. متخيلا أن هذه الكرة مثل تلك ويأبى الله إلا أن يخلف لهذه الأمة بالنصر ويعوضها، متوهما أن جيشه الغالب وعزمه القاهر، متحققة أنه منصور وكيف ذاك ومعنا الناصر.
والتقى الفريقان بعزائم لم يشبها في الحرب نكول ولا تقصير، وصدم الجمع الجمع فكأن جمعنا - ولله الحمد - جمع سلامه وجمعهم جمع تكسير.
وأصبح الإسلام يوم الأحد في قوته المنيعة، وأرواح العدى في أجسادهم وديعة. ومولانا السلطان - خلد الله ملكه - يصطبح من دمائهم كما اغتبق، ويريهم عزما يثني عقد اجتماعهم الذي انتظم واتسق. ويفهمهم أنه لا مرد له عن مراد الصوارم، وأنه لا يفارق الجبل حتى يجعل عوض أحجاره جماجم. وجيوشه المنصورة بين يديه أولوا همم في الحرب وذووا عزائم يجهدون في سبيل ألله ولا يخافون لومة لائم، ويعدون المصابرة في طاعة الله وطاعة سلطانهم غنيمة جمعت لهم أسباب الفخار، ويوصفون بكونهم مع تابعي المهاجرين والأنصار.
صفحة ٤٨