بسم الله الرحمن الرحيم
فتق الله بالحكمة ذهنك، وشرح بها صدرك، وأنطق بالحق لسانك، وشرف به بيانك، وصل إلي كتابك العجيب الذي استفهمتني فيه بجوامع كلمك جوامع أسباب البلاغة، واستكشفتني عن غوامض آداب أدوات الكتابة، سألتني أن أقف بك على وزن عذوبة اللفظ وحلاوته، وحدود فخامة المعنى وجزالته، ورشاقة نظم الكتاب ومشاكلة سرده، وحسن افتتاحه وختمه، وانتهاء فصوله، واعتدال وصوله، وسلامتهما من الزلل، وبعدهما من الخطل. ومتى يكون الكاتب مستحقا اسم الكتابة، والبليغ مسلما له معاني البلاغة، في إشارته واستعارته، وإلى أي أدواته هو أحوج، وبأي آلاته هو أعمل، إذا حصحص الحق، ودعي إلى السبق، وفهمته وأنا راسم لك - أيدك الله - من ذلك ما يجمع أكثر شرائطك، ويعبر عن جملة سؤالك، وإن طولت في الكتاب وعرضت وأطنبت في الوصف وأسهبت، ومستقص على نفسي في الجواب على قدر استقصائك في السؤال، وإن أخل به التياث الحال، وسكون الحركة، وفتور النشاط، وانتشار الروية، وتقسم الفكر، واشتراك القلب، والله المستعان.
اعلم - أيدك الله: أن أدوات ديوان جميع المحاسن، وآلات المكارم طاعة منقادة لهذه الصناعة التي خطبتها وتالية تابعة لها، وغير خارجة إلى جحد أحكامها، ولا دافعة لما يلزمها الإقرار به لها، إضرارا منها إليها وعجزا عنها؛ فإن تقاضتك نفسك علمها ونازعتك همتك إلى طلبها؛ فاتخذ البرهان دليلا شاهدا والحق إماما قائدا، يقرب مسافة ارتيادك، ويسهل عليك سبل مطالبها، واستوهب الله توفيقا تستنجح به مطالبك، واستمنحه رشدا يقبل إليك بوجه مذاهبك، فاقصد في ارتيادك، وتأمل الصواب في قولك وفعلك، ولا تسكن إلى جحود قصد السابق باللجاج، ولا تخرج إلى إهمال حق المصيب بالمعاندة والإنكار، ولا تستخف بالحكمة ولا تصغرها، حيث وجدتها فترحل نافرة عن مواطنها من قلبك، وتظعن شاردة عن مكانها من بالك، وتتعفى بعد العمارة من قلبك آثارها، وتنطمس بعد الوضوح أعلامها.
واعلم أن الاكتساب بالتعلم والتكلف، وطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء؛ فإن أردت خوض بحار البلاغة وطلبت أدوات الفصاحة، فتصفح من رسائل المتقدمين ما تعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنجاح بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسماء ما يتسع به منطقك، ويعذب به لسانك ويطول به قلمك.
وانظر في كتب المقامات والخطب ومحاورات العرب، ومعاني العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم، وتوقيعاتهم وسيرهم ومكايدهم في حروبهم، بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشروط؛ ككتب السجلات والأمانات؛ فإنه أول ما يحتاج إليه الكاتب وتمهر في نزع آي القرآن في مواضعها، واجتلاب الأمثال في أماكنها واختراع الألفاظ الجزلة، وقرض الشعر الجيد وعلم العروض؛ فإن تضمين المثل السائر والبيت الغابر مما يزين كتابتك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكا جليل القدر، فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء والجلة الرؤساء عيب واستهجان للكتب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له؛ فإن ذلك مما يزيد في أبهته، ويدل على براعته، وإن شدوت من هذه العلوم ما لا يشغلك محله، وتنقبت من هذه الفنون ما تستعين به على إطالة قلمك، وتقويم أود بيانك.
بعد أن يكون الكاتب صحيح القريحة، حلو الشمائل، عذب الألفاظ، دقيق الفهم، حسن القامة، بعيدا من الفدامة، خفيف الروح، حاذق الحسن، محنكا بالتجربة، عالما بحلال الكتاب والسنة وحرامهما، وبالملوك وسيرها وأيامها، وبالدهور في تقلبها وتداولها مع براعة الأدب، وتأليف الأوصاف، ومشاكلة الاستعارة، وحسن الإشارة، وشرح المعنى بمثله من القول حتى تنصب صورا منطقية تعرب عن أنفسها، وتدل على أعيانها؛ لأن الحكماء قد شرطوا في صفات الكتاب طول القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهاذم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب وحلاوة الشمائل وملاحة الزي، حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزي الكتاب؛ فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.
وخاطب كلا على قدر أبهته، وجلالته، وعلوه وارتفاعه، وتفطنه وانتباهه، واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام: فأربعة منها للطبقة العلوية وأربعة دونها، ولكل طبقة منها درجة، ولكل قسمة حظ لا يتسع للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها، ويقلب معناها إلى غيرها: فالطبقة العليا الخلافة التي أعلى الله شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير والمخاطبة والترسل. والطبقة الثانية الوزراء والكتاب الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم ويتجملون بآدابهم. الطبقة الثالثة أمراء ثغورهم، وقواد جيوشهم، يخاطب كل امرئ على قدره وبما حمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم. الطبقة الرابعة القضاة؛ فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء وحلية الفضلاء، فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء.
أما الطبقات الأربع الأخرى: فالملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب وأفضالهم تفضيلهم فيها. والثانية: وزراؤهم وكتابهم وأتباعهم الذين بهم تقرع أبوابهم وبعنايتهم تستماح أموالهم. والثالثة: هم العلماء الذين يجب توقيرهم في الكتب لشرف العلم وعلو درجة أهله. الرابعة: لأهل القدر والجلالة والظرف والحلاوة والعلم والأدب؛ فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم وشدة تمييزهم، وانتقادهم إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم.
واستغنينا عن الترتيب للتجار والسوقة والعوام رتبة لاستغنائهم بتجارتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات، ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعيها في مراسلتك إليهم في كتبك، وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه وتعطيه قسمه وتوفيه نصيبه؛ فإنك متى أضعت ذلك لم آمن بك أن تعدل بهم غير طريقهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه، فلا يفيد المعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا جزلا لائقا بمن كاتبته، ومشابها لمن راسلته.
وإن إلباسك المعنى وإن شرف وصلح لفظا مختلفا عن قدر المكتوب إليه، لم تجر به عادتهم؛ تهجين للمعنى وإخلال بقدره، وظلم لحق المكتوب إليه ونقص مما يجب له، كما أن في امتناع تعارفهم وما انتشرت به عاداتهم، وجرت به سننهم؛ وضعا لقدرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غير غاية مرادهم وإسقاطا لحجة أدبهم، ضمن الألفاظ المرغوب عنها، والصدور المستوحش منها في كتب السادات والأمراء والملوك على اتفاق المعاني، مثل أبقاك الله طويلا وعمرك مليا، وإن كنا نعلم أنه لا فرقان بين قولهم: أطال الله بقاءك، وبين قولهم: أبقاك الله طويلا، ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزنا وأنبه قدرا في مخاطبة الملوك، كما أنهم جعلوا أكرمك الله وأبقاك أحسن منزلة في كتب الظرفاء والأدباء من جعلت فداك على اشتراك معناه، واحتماله أن يكون فداء من الخير، كما يكون فداء له من الشر. ولولا أن رسول الله
صفحة غير معروفة