عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
القسم الأول: عبد الله بن المقفع
الأدب الصغير لابن المقفع
الدرة اليتيمة لابن المقفع
يتيمة ثانية لابن المقفع
حكم لابن المقفع
رسالة ابن المقفع في الصحابة
تحميد لابن المقفع
القسم الثاني: عبد الحميد بن يحيى الكاتب
رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد
صفحة غير معروفة
ومن الرسائل المفردات في الشطرنج
رسالة عبد الحميد إلى الكتاب
القسم الثالث: الرسالة العذراء
الرسالة العذراء
القسم الرابع: رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
القسم الخامس: ملقى السبيل
ملقى السبيل
القسم السادس: رسائل الانتقاد
ترجمة المؤلف ابن شرف القيرواني
صفحة غير معروفة
رب أعن برحمتك
القسم السابع: كتاب العرب
كتاب العرب
القسم الثامن: رسالة رشيد الدين الوطواط
رسالة رشيد الدين الوطواط
القسم التاسع: منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
القسم العاشر: كتاب الأدب والمروءة
كتاب الأدب والمروءة
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
صفحة غير معروفة
القسم الأول: عبد الله بن المقفع
الأدب الصغير لابن المقفع
الدرة اليتيمة لابن المقفع
يتيمة ثانية لابن المقفع
حكم لابن المقفع
رسالة ابن المقفع في الصحابة
تحميد لابن المقفع
القسم الثاني: عبد الحميد بن يحيى الكاتب
رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد
ومن الرسائل المفردات في الشطرنج
صفحة غير معروفة
رسالة عبد الحميد إلى الكتاب
القسم الثالث: الرسالة العذراء
الرسالة العذراء
القسم الرابع: رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
القسم الخامس: ملقى السبيل
ملقى السبيل
القسم السادس: رسائل الانتقاد
ترجمة المؤلف ابن شرف القيرواني
رب أعن برحمتك
صفحة غير معروفة
القسم السابع: كتاب العرب
كتاب العرب
القسم الثامن: رسالة رشيد الدين الوطواط
رسالة رشيد الدين الوطواط
القسم التاسع: منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
القسم العاشر: كتاب الأدب والمروءة
كتاب الأدب والمروءة
رسائل البلغاء
رسائل البلغاء
صفحة غير معروفة
تأليف
محمد كرد علي
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
نشأ للعربية في أوائل القرن الثاني للهجرة كاتبان بليغان، يصح أن يدعيا واضعي أساس الإنشاء العربي، وناهجي طريقة الكتابة المرسلة، فكانا منارا يهتدى به إلى يوم الناس هذا، ونعني بهما: عبد الله بن المقفع، وعبد الحميد بن يحيى الكاتب. ظهر هذان الإمامان واللغة في نضرتها الأولى، فكان لهما من فطرتهما السليمة أعظم مساعد لهما على النبوغ، وزادت شهرتهما لاتصالهما بالخلفاء والأمراء، ومرانهما على الكتابة في الأغراض الكثيرة التي كانت تطلب إليهما؛ فيخوضان عبابها مجليين مبرزين.
نشأ ابن المقفع في العراق على ما ينشأ عليه أبناء اليسار. وكان والده ينتحل نحلة مجوس الفرس، ولي خراج الفرس للحجاج بن يوسف الثقفي في الدولة الأموية. ولقب بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده؛ أي تشنجت، لمدها لأخذ الأموال، على ما يقال. وربي ابنه عبد الله تربية إسلامية، وأولع بالعلم وهو مكفي المؤنة، فجاء منه في سن العشرين ما يندر أن يكون مثله لأبناء الأربعين والخمسين، واتصل بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من بني العباس، وكتب له واختص به، وأراد أن يدين بالإسلام؛ فجاء إلى عيسى بن علي وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر، ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام. فقال: أكره أن أبيت على غير دين، فلما أصبح أسلم على يده فسمي بعبد الله، وكني بأبي محمد.
أهم كتب ابن المقفع التي طار ذكرها كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله عن الفارسية، ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. قال القفطي: وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور، وترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة، وهي: كتاب قاطيغورياس، وكتاب باري أرمينياس - أو بارميناس - وكتاب أنالوطيقا، وذكر أنه ترجم إيساغوجي تأليف فرفوريوس الصوري. والأرجح أنه نقل هذه الكتب عن الفارسية أو نقلها له ناقل عن اليونانية، وصاغها هو في قالب عربي فنسبت له، إذ لم يثبت أنه كان يعرف غير الفارسية من اللغات، وعبارة ابن أبي أصيبعة في تاريخ الأطباء تشبه قول القفطي في تراجم الحكماء، والغالب أنهما نقلا عن مصدر واحد مع تغيير طفيف في عبارتيهما.
قال ابن النديم: واسمه بالفارسية روزبه، وهو عبد الله بن المقفع، ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو، فلما أسلم اكتنى بأبي محمد. والمقفع بن المبارك، إنما تقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان ضربا مبرحا فتقفعت يده، وأصله من خوز؛ مدينة من كورفاس. وكان يكتب أولا لداود بن عمر بن هبيرة، ثم كتب لعيسى بن علي على كرمان. وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة، كاتبا شاعرا فصيحا، وهو الذي عمل شرط عبد الله بن علي على المنصور، وتصعب في احتياطه فيه، فأحفظ ذلك أبا جعفر، فلما قتله سفيان بن معاوية حرقا بالنار، وقع ذلك من المنصور بالموقع الحسن فلم يطلب بثأره وطل دمه.
وكان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي، مضطلعا باللغتين، فصيحا بهما، وقد نقل عدة كتب من كتب الفرس منها كتاب خداينامه في السير، كتاب آيين نامه في الإصر، كتاب كليلة ودمنة، كتاب مزدك، كتاب التاج في سيرة أنوشروان، كتاب الآداب الكبير، ويعرف بماقراحسيس، كتاب الأدب الصغير، كتاب اليتيمة في الرسائل.
وقال: إن أبا الجاموس ثور بن يزيد أعرابي كان يفد البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة ولا مصنف له. وقال: بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، أنس بن أبي شيخ، وعليه اعتمد أحمد بن يوسف الكاتب، سالم، مسعدة الهرير، عبد الجار بن عدي، أحمد بن يوسف، وذكره في الشعراء والكتاب فقال: إنه مقل، وقال: قد كانت الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية؛ فنقل ذلك إلى العربية عبد الله بن المقفع وغيره. وقال في الكتب المصنفة في الأسماء والخرافات أن عبد الله بن المقفع من جملة من كان يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم.
والراجح أن الحسد غلت مراجله في صدور بعض معاصريه، والمعاصرة - كما قيل - حرمان؛ فنسبوا إليه ما نسبوا إلى الزندقة؛ لقصورهم عن بلوغ شأوه، أو لغرض في أنفسهم، قال ابن خلكان نقلا عن الجاحظ: إن ابن المقفع ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم. قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه؟ قلنا: وعبارة الجاحظ في بعض رسائله بشأن ابن المقفع تشير إلى قصوره في علم الكلام فقط؛ لأنه قال: فصل، ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، ويكنى: أبا عمرو. وكان يتولى لآل الأهتم. وكان مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير. وكان جوادا فارسا جميلا، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله. وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلا ولا كثيرا، وكان ضابطا لحكايات المقالات ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين؛ فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية؛ فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم يظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به. ا.ه.
صفحة غير معروفة
لا جرم أن إطلاق ابن المقفع لسانه في المعتزلة دعا أحد أئمتها إلى أن يصدر عليه هذا الحكم الغريب، ولكن الجاحظ أيضا على ثبوت تدينه لم يسلم من هذا الطعن كما رأيت. وإن مسألة التهمة في الدين من الأمور التي شاعت في كل عصر ومصر، ويكون المتهمون بها في معظم الأحوال أبرياء، وإلا فكيف تسجل الزندقة على ابن المقفع إذا جرينا مع الدليل. وليست الزندقة بحثا عما يضمره الإنسان في نفسه؛ لأن مثل هذا لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ويكفي أن يقال: هلا شققت عن قلبه، بل الزندقة التي تذكر في الكتب وتترتب عليها الأحكام. وسوغ أن يقال عن فلان إنه زنديق أمور تقوم عليها بينات ظاهرة من أقوال وأفعال، وكلام ابن المقفع في الدين يدل على شدة تمسكه وفرط ميله على ما يتجلى لك من رسائله. ولو كان ثم سبيل لما ينسب إليه، لا سيما مع غضب المنصور عليه؛ لكان الأقرب أن يتقرب مثل المنصور بمثل ذلك، وفيه ما فيه من إرضاء العامة وشفاء الغليل من العدو، بحيث ينتقم منه مع إسقاطه ولا يعدم المنصور حينئذ حيلة في قتله جهارا بهذه التهمة. أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فيتصرف على القاعدة في اتهامه بالزندقة. وما نظن القاضي عياضا والباقلاني إلا ناقلين عن أناس من أهل السذاجة، ومع ذلك فإنهما قالا: إنه أناب.
التهمة بالزندقة أمر نشأت منه مضار كثيرة؛ حتى لم يخل منها مثل الإمام الغزالي الذي كان أعظم أنصار الدين، فانظر إلى كتاب: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، الذي ألفه في الرد على أولئك الذين نسبوا إليه ما نسبوا؛ فإن فيه الغناء. وأغرب من ذلك المقال على أبي حاتم بن حبان البستي، إمام المحدثين في عصره، وصاحب الصحيح المشهور به، والكتب الممتعة الكثيرة واستحصال الأمر بقتله لو لم ينج من ذلك بعوارض لا تخطر في البال.
ومعارضة القرآن أكثر ما تنسب للزنادقة المشهورين بالأدب، وأفضل من يشيع ذلك أناس يقصدون إهلاك عدوهم بأي وسيلة كانت، أو أناس هم أقرب إلى الزندقة ممن ينسبون إليها؛ حتى إن أبا العلاء المعري، على اضطراب الأقوال في نهاية أمره مع ما علم به من أحواله، قد عزي إليه كتاب كان معروفا في بلاد المغرب يسمى بالفصول والغايات، ولا يتوقف من كان قريب العهد من عصره في أنه عمله في معارضة السور والآيات. وكان كثير ممن يميلون إلى أبي العلاء المعري من أهل المغرب يعجبون مما وقع فيه من سخافة القول الذي ينحط عن جميع كلامه المعروف، مع أنه ليس له يد في الكتابة، كما علم من كتاب سر الفصاحة، وكلامه في رسالة الغفران ينادي بخلاف ذلك.
وعلى الجملة؛ فإن نسبة الزندقة إلى ابن المقفع لا تثبت بوجه من الوجوه التي تعقل في إثباتها. وإذا نظرنا إلى ما يتعلق بالغيب؛ فالحكم الشرعي أنه هو والناسبون إليه جميعا في معرفة ما ينطوون عليه سواء؛ لأنه لم يذهب أحد إلى أن الإيمان أو لوازمه لرجل بعينه.
وتهمة الزندقة الشنعاء كثيرا ما يتهم بها المشتغلون بالفلسفة أمثال ابن رشد والفارابي، وابن الصائغ، وابن سينا، ونسب لهذا أنه عارض القرآن، وقد كتب رسالة في رد افتراء من افترى عليه ذلك. ومن هنا تظهر لك حسن سياسة المأمون؛ لأن فتح باب البحث عن الزنادقة قد أوجب من المضار ما لا يحصى، كما يعلم من التواريخ، وربما كان عصر المأمون أقرب إلى قلة الزندقة، في الحقيقة، من العصور التي كثر اتهام معظم المفكرين بها، وغيرهم ممن يراد الانتقام منه.
عرفت بهذا أن كلام القائلين بزندقة ابن المقفع، مع ما عرف من كلامه، هو من ذلك الباب. قال المرتضى في أماليه: روى ابن شبة، قال: حدثني من سمع ابن المقفع، وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلمحه، وتمثل:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبك الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
صفحة غير معروفة
وقال صاحب الأغاني نقلا عن الجاحظ: كان والبة بن الحباب، ومطيع بن إياس، ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي، وحفص بن أبي وردة، وابن المقفع، ويونس بن أبي فروة، وحماد عجرد، وعلي بن الخليل، وحماد بن أبي ليلى الراوية، وابن الزبرقان، وعمارة بن حمزة، ويزيد بن الفيض، وجميل بن محفوظ، وبشار المرعث، وأبان اللاحقي؛ ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر، ولا يكادون يفترقون، ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا، وكلهم متهم في دينه.
قلنا: واجتماع المتشاكلين قديم في الناس، والغالب أنهم يتحرجون من إدخال من ليس على شاكلتهم في زمرتهم؛ فيتهمون بما هم منه براء، كما اتهم جماعة أبي حيان التوحيدي الذي نقل بعض مجالسهم الفلسفية في مقابساته. وكانوا من أهل النحل المختلفة تجمع بينهم جامعة العلم والفلسفة، كما جمعت بين ابن المقفع وأصحابه جامعة الأدب. فقالوا: إنهم كانوا يجتمعون على شراب واتهموا بالمروق. وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ذكر أناس كانوا شديدي التصافي والالتحام مع شدة التباين في المذاهب.
أما كيفية مقتل ابن المقفع: فقد أجمع مترجموه على أنه كان بسبب كتابته أمانا لعبد الله بن علي، قال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جدا وخاصة أمر البيعة، وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي، وهو أمير البصرة من قبله؛ فقتله. وكان سفيان هذا شديد الحنق عليه؛ لأن ابن المقفع، على ما يقال، كان ينال منه ويستخف به، حتى عزم على أن يغتاله فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله سرا في داره. ويقال: إنه عاش ستا وثلاثين سنة. وسأل سليمان وعيسى عنه فقيل: إنه دخل دار سفيان سليما ولم يخرج منها فخاصماه إلى المنصور وأحضراه إليه مقيدا وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج، فأقاموا الشهادة عند المنصور. فقال لهم المنصور: أنا أنظر في هذا الأمر. ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به؟ ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت وأشار إلى باب خلفه وخاطبهم: ما تروني صانعا بكم، أأقتلكم بسفيان؟ فرجعوا كلهم عن الشهادة وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلموا أن قتله كان برضا المنصور.
ولابن المقفع شعر قليل، ولكنه جيد نقل له صاحب الحماسة ثلاثة أبيات، يقال: إنه رثى بها يحيى بن زياد. وقال الأخفش: والصحيح أنه رثى بها ابن أبي العوجاء، وهي:
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله
فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا
ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
صفحة غير معروفة
قال ثعلب: البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير، فتأمل.
ومما يذكر عن ابن المقفع ما رواه صاحب الأغاني وغيره قال: حدثني اليزيدي، قال: حدثني عمي عبيد الله، قال: حدثني أحمد، قال: سمعت جدي أبا محمد يقول: كنت ألقى الخليل بن أحمد، فيقول لي: أحب أن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع. فجمعت بينهما، فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علما، ثم افترقنا فلقيت الخليل، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت علمه أكثر من عقله، ثم لقيت ابن المقفع فقلت له: كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه. وقال المرتضى: إن من جمعهما كان عباد بن عباد المهلبي، فتحادثا ثلاثة أيام وليالهن.
قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك؟ فقال: نفسي؛ إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته، ودعاه عيسى بن علي للغداء فقال: أعز الله الأمير، لست يومي للكرام أكيلا. قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار. ومن كلامه: شربت من الخطب ريا ولم أضبط لها رويا؛ ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما وليس غيرها كلاما.
ومما يؤثر عنه وهو ما يدل على رأيه في الإنشاء أنه قال لبعض الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر: عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة، وقيل له: ما البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.
وفي البيان والتبيين عن إسحاق بن حسان بن فوهة، أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط؛ سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة.
فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين؛ فالإكثار في غير خطل والإطالة في غير إملال. قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواكب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت.
قال: فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام؛ فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنهما لا يرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يقال: «رضاء الناس شيء لا ينال.»
وقال عبد العظيم ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير، في البديع، في باب التهذيب والتأديب: قد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعباراتهم رائقة، وفصولهم متقابلة، وتلك طريقة الإمام علي - عليه السلام - ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام؛ كابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.
وقال الأمين المحبي فيما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه: يتيمة ابن المقفع يضرب بها المثل لبلاغتها وبراعة منشئها، وهي رسالة في نهاية الحسن، تشتمل على محاسن من الأدب، وقد ذكرها أبو تمام وأجراها مثلا في قوله للحسن بن وهب:
ولقد شهدتك والكلام لآلئ
صفحة غير معروفة
تؤم فبكر في الكلام وثيب
فكأن قسا في عكاظ يخطب
وكأن ليلى الأخيلية تندب
وكثير عزة يوم بين ينسب
وابن المقفع في اليتيمة يسهب
وقال جلال الدين في المزهر نقلا عن أبي الطيب عبد الواحد اللغوي في مراتب النحويين: قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في المعجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
وقال المعري في عبث الوليد: كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض. وروى الأصمعي أنه قال كلاما معناه: قرأت آداب ابن المقفع، فلم أر فيها لحنا إلا في موضع واحد، وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض.
وروي أن بعضهم ذكر ابن المقفع فقال: ألفاظه معان، ومعانيه حكم، فصل خطابه شفاء، وخصل بيانه كفاء، وسمع أبو العيناء بعض كلام ابن المقفع فقال: كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح، كأن بيانه لؤلؤ منثور وروض ممطور. وقال جعفر بن يحيى: عبد الحميد أصل وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.
وعبد الحميد هذا هو الذي يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائل عبد الحميد: ألفاظ محككة وتجارب محنكة. قال صاحب الوفيات: وكان في الكتابة، وفي كل فن من العلم والأدب، إماما، وهو من أهل الشام، وكان أولا معلم صبية يتنقل في البلدان وعنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة.
وقال ابن نباتة: إنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة، يقال: إنه كان في أول عمره معلم صبيان بالكوفة، ثم اتصل بمروان الجعدي قبل أن يصل إلى الخلافة، وصحبه وانقطع إليه، فلما جاء الأمر بالخلافة سجد مروان وسجد أصحابه إلا عبد الحميد. فقال له مروان: لم لا سجدت؟ فقال: ولم أسجد على أن كنت معنا فطرت عنا؛ يعني بالخلافة. فقال: إذن تطير معي. قال: الآن طاب السجود. وسجد. وكان كاتب مروان طول خلافته.
صفحة غير معروفة
وهو أول من أخذ التحميدات من فصول الكتب، واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ، وفي بعضها الإسهاب المفرط على ما اقتضاه الحال، فمن الإيجاز بعض عمال مروان أهدي إليه عبد أسود فأمره بالإجابة ذاما مختصرا، فكتب: «لو وجدت لونا شرا من السواد وعددا أقل من الواحد لأهديته.» وأما الإسهاب؛ فإنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه عن مروان كتابا يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم. وكان من كبر حجمه يحمل على جمل، ثم قال لمروان: قد كتبت كتابا متى قرأه بطل تدبيره؛ فإن يك ذلك وإلا فالهلاك. فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه وأمر بنار فأحرقه، وكتب على جزازة منه إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى
عليك ليوث الغاب من كل جانب
ولما اشتد الطلب على مروان وتتابعت هزائمه المشهورة قال لعبد الحميد: القوم محتاجون إليك لأدبك، وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك؛ فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي؛ فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي. فقال عبد الحميد:
أسر وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين إليك وأقبحهما بي، ولكني أصبر حتى يفتح الله عليك، أو أقتل معك؛ فلما قتل مروان استخفى عبد الحميد فغمز عليه بالجزيرة عند ابن المقفع وكان صديقه، وفاجأهما الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما: أنا؛ خوفا على صاحبه. إلى أن عرف عبد الحميد؛ فأخذ وسلمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته فكان يحمي له طشتا ويضعه على رأسه، إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: إنه قتل مع مروان في مصر.
قال المسعودي إنه رأى له عقبا بفسطاط مصر، يعرفون ببني مهاجر، وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون. وكان أبو جعفر المنصور يقول: غلبنا بنو أمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي. وقيل لعبد الحميد: ما الذي مكنك من البلاغة؟ قال: حفظ كلام الأصلع، يعني: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه. وقيل له: أيما أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي. وقال: أكرموا الكتاب فإن الله تعالى أجرى الأرزاق على أيديهم. وقال: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. ومن كلامه: خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا.
قال صاحب وفيات الأعيان: وكان كثيرا ما ينشد:
إذا خرج الكتاب كانت دويهم
صفحة غير معروفة
قسيا وأقلام الدوي لها نبلا
ومما نقله عنه أنه ساير يوما مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه. فقال له مروان: قد طالت صحبة هذه الدابة لك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها. فقال له: فكيف سيرها؟ فقال: همها أمامها وسوطها عنانها، وما ضربت قط إلا ظلما.
ولعبد الحميد كصديقه وضريعه عبد الله بن المقفع شعر نادر، فمنه:
كفى حزنا أني أرى من أحبه
قريبا ولا غير العيون تترجم
فأقسم لو أبصرتنا حين نلتقي
ونحن سكوت خلتنا نتكلم
هذا ما وصلنا من أخبار هذين الإمامين، ونحن نعلم أن ترجمتهما، على ما أثبتناها هنا؛ ليست مستوفاة من عامة وجوهها، ولكن تلاوة كلامهما أحسن مترجم عنهما؛ إذ كلام المرء قطعة من عقله.
القسم الأول
عبد الله بن المقفع
صفحة غير معروفة
توطئة للناشر
من أعظم ما تدعو الحاجة إليه علم تهذيب الأخلاق؛ لتوقف نجاح الأمم عليه، وهو فن ذو أفنان تحتاج إليه الأفراد على اختلاف طبقاتها، ومع قلة ما انتشر من كتبه ففي جلها من عدم التنقيح وانسجام العبارات، ما يصد كثيرا من الطالبين عن الإقبال عليها؛ ومن ثم كثر بحثنا عن كتب تفي بهذا المطلب مع رشاقة مبانيها؛ لتكون الفائدة مزدوجة، وهو أقصى آمال الذين يسعون في إحياء اللغة العربية وإعادتها إلى ما كانت عليه في عهدها الأول.
ولما ذهبت إلى مدينة بعلبك (سنة 1223ه)، رأيت عند بعض الأفاضل الواردين عليها مجموعا استعاره من بعض أعيانها؛ فرأيت فيه الضالة المنشودة، وهي رسالة الأدب الصغير لعبد الله بن المقفع ، الكاتب الذي يضرب ببلاغته المثل، فكتبتها بخطي في نحو يوم، وأرجو أن ييسر لنشرها من عرف بحسن الطبع ليعم بها النفع، والله الموفق. •••
وهذا بيان الرسائل التي في المجموع المذكور: (1)
كتاب: عجائب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو في نحو ثلاث كراسات، يشتمل على ما نقل عنه من بدائع الأحكام. (2)
ذكر الخلائف وعنوان المعارف، تأليف الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد. أوله: «الحمد لله الواحد العدل، وصلى الله على النبي وخيرة الأهل، قد أسعفتك بالمجموع الذي التمسته في نسب النبي - عليه السلام - وبنيه وبناته وأعمامه وعماته، وجمل من غزواته وسائر ما يتصل بذلك.» وهو اثنتا عشرة ورقة وفي آخره، وكتب في رجب سنة عشرين وأربعمائة. (3)
رسالة إلى أحمد بن أبي دؤاد، في فضل العلم، وهي «3» أوراق وفي آخرها: «وكتب في شهر ربيع الأول سنة عشرين وأربعمائة.» (4)
ويتلوها كتاب: الأدب الصغير الذي نقلناه، وهو في الصفحة اليسرى من آخر ورقة من الرسالة السابقة بخط كاتب واحد، فتكون كتابتها في التاريخ المذكور، ولم يذكر في آخرها تاريخ. (5)
ويتلوه كتاب: ذخائر الحكمة، تأليف أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، وهو في نحو ثلاث وعشرين ورقة. (6)
مختصر من كتاب: جاويدان خرد في حكم الفرس والهند والروم والعرب، تأليف أحمد بن مسكويه، وهو في أكثر من كراس.
صفحة غير معروفة
الأدب الصغير لابن المقفع
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلا، والله وقت للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها، فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد.
والسبيل إلى دركها العقل الصحيح، وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم، وللعقول سجيات وغرائز بها تقبل الأدب، وبالأدب تنمي العقول وتزكو، فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر على أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها ونضرتها وريعها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها؛ فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها - بإذن الله - القوة والحياة ؛ فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب، لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها؛ حتى يعتملها الأدب الذي هو نماؤها وحياتها ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق، وكل المنطق بالتعلم، ليس حرف من حروف معجمه ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مروي متعلم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب، وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.
فإذ خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولا بديعا، فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ؛ ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه؛ مما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صائغا رفيقا، وكصاغة الذهب والفضة صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية، وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلا جعلها الله ذللا، فصار ذلك شفاء وطعاما وشرابا منسوبا إليها مذكورا به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع؛ فإنه إنما اجتباه - كما وصفنا.
ومن أخذ كلاما حسنا عن غيره، فتكلم به في موضعه على وجهه فلا يرين عليه في ذلك ضئولة؛ فإنه من أعين على حفظ قول المصيبين وهدي للاقتداء بالصالحين ووفق للأخذ عن الحكماء، فلا عليه ألا يزداد؛ فقد بلغ الغاية. وليس بناقصه في رأيه ولا بغائضه من حقه، ألا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه، وإنما حياة العقل الذي يتم به ويستحكم خصال ست: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتقاد للخير، وحسن الوعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه، قولا وعملا.
أما المحبة؛ فإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته؛ فلا يكون شيء أمرأ ولا أحلى عنده منه، وأما الطلب فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون، وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه ولا يدرك لهم بغيتهم نفاستها في أنفسهم دون الجد والعمل، وأما التثبت والتخير فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه، فكم من طالب رشد وجده والغي معا! فاصطفى منهما الذي منه هرب وألغى الذي إليه سعى، فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد وهو لا يشك بالظفر فما أحقه بشدة التبين وحسن الابتغاء.
وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته؛ فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته.
وأما الحفظ والتعهد فهو تمام الدرك؛ لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة فلا بد له إذا اجتبى صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجته، وأما البصر بالموضع؛ فإنما تصير المنافع كلها إلى وضع الأشياء مواضعها، وبنا إلى هذا كله حاجة شديدة؛ فإننا لم نوضع في الدنيا موضع غناء وخفض، ولكن موضع فاقة وكد، ولسنا إلى ما يمسك بأرماقنا من المطعم والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول. وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل، ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضر والعيلة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا.
وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا، فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق - إن شاء الله.
صفحة غير معروفة
الواصفون أكثر من العارفين، والعارفون أكثر من الفاعلين، فلينظر امرؤ أين يضع نفسه، فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيبا من اللب يعيش به، لا يحب أن له به من الدنيا ثمنا. وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب، ولا أن يوصف بصفاتهم، فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلا فليأخذ له عتاده، وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائه؛ فإنه قد رام أمرا جسيما لا يصلح على الغفلة، ولا يدرك بالمعجزة، ولا يصير على الأثرة. وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
وليعلم أن على العامل أمورا إذا ضيعها حكم عليه عقله بمقارنة الجهال، فعلى العامل أن يعلم أن الناس مشتركون مستوون في الحب لما يوافق، والبغض لما يؤذي، وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطأ، وعندهن تفرقت العلماء والجهال والحزمة والعجزة.
الباب الأول من ذلك:
أن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب - إن كان مما يحب - وأحقه بالاتقاء - إن كان مما يكره - أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع العام الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة والساعات على الساعة.
والباب الثاني:
أن ينظر فيما يؤثر من ذلك فيضع الرجاء والخوف فيه موضعه، فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف، ولا رجاءه في غير المدرك، فيترك عاجل اللذات طلبا لآجلها، ويحتمل قريب الأذى توقيا لبعيده، فإذا صار إلى العاقبة بدا له أن فراره كان تورطا، وأن طلبه كان تنكبا.
والباب الثالث من ذلك:
هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف؛ فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران، ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانة محروم، وعلى العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها والقضاء عليها، والإبانة لها، والتنكيل بها.
أما المحاسبة؛ فيحاسبها بما لها؛ فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهب منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة، وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق؛ فيتنبه لهذه المحاسبة عند الحول إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسه فيه وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا، فيجمع ذلك في كتاب فيه إحصاء وجد وتذكير، وتبكيت للنفس، وتذليل لها؛ حتى تعترف وتذعن .
وأما الخصومة؛ فإن من طباع النفس الأمارة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى والأماني فيما بقي؛ فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها.
صفحة غير معروفة
وأما القضاء؛ فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة بأنها فاضحة مردية موبقة، وللحسنة بأنها زائنة منجية مربحة، وأما الإبانة والتنكيل؛ فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات ويرجو عواقبها وتأميل فضلها، ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات والبشع بها، والاقشعرار منها والحزن لها.
فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بهذا أخذا وأقلهم عنها فترة. وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارا، ذكرا يباشر القلوب ويقذع الطماح؛ فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأمانا - بإذن الله - من الهلع.
وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الرأي وفي الأخلاق وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدر أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة، أو الخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب.
وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس، ويحفظها، ويحصيها، ويصنع في توظيفها على نفسه وتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل ألا يخادن، ولا يصاحب ولا يجاور من الناس ما استطاع إلا ذا فضل في الدين والعلم والأخلاق فيأخذ عنه، أو موافقا له على صلاح ذلك فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل؛ فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمي إلا بالموافقين والمهذبين والمؤيدين. وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو أقرب إليه وأحب ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبته؛ ولذلك زعم بعض الأولين: أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.
وعلى العاقل ألا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى، وأن ينزل ما أصاب من ذلك، ثم انقطع عنه منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب؛ ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها، ولا يبلغن سكرا ولا طغيانا؛ فإن مع السكر النسيان، ومع الطغيان التهاون، ومن نسى وتهاون خسر.
وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها، حتى يصيروا حرسا على سمعه وبصره ورأيه، فيستنيم إلى ذلك، ويريح له قلبه ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على نفسه ألا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل؛ فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بلغة.
وعلى العاقل ألا يكون راغبا إلا في إحدى ثلاث خصال: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين: فطبقة من العامة، يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة، ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف، كلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء.
صفحة غير معروفة
وعلى العاقل ألا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي والزلل في العلم والإغفال في الأمور؛ فإن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرا وصغيرا، فإذا الصغير كبير، وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع، فإذا لم تسد أوشكت أن تنفجر بما لا يطاق، ولم نر شيئا قط قد أتي إلا من قبل الصغير المتهاون به.
قد رأينا الملك يؤتى من قبل العدو المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به، وأقل الأمور احتمالا للضياع الملك؛ لأن ليس منه شيء يضيع وإن كان صغيرا إلا اتصل بآخر يكون عظيما.
وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا، وإن ظن أنه على اليقين.
وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويف الرأي وإسعاف الهوى، فيخالف ذلك ويلتمس ألا يزال هواه مسوفا، ورأيه مسعفا.
وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره، من نصب نفسه للناس إماما في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة، والرأي واللفظ والأخدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه؛ فإنه كما أن كلام الحكمة يؤنق الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.
ولاية الناس بلاء عظيم.
وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه التي بها يقوم وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير، والمبالغة في التقدم، والتعهد الشديد، والجزاء العتيد.
أما التخير للعمال والوزراء؛ فإنه نظام الأمر ووضع مؤنة البعيد المنتشر؛ فإنه عسى أن يكون بتخيره رجلا واحدا قد اختار ألفا؛ لأنه من كان من العمال خيارا فسيختار كما اختير. ولعل عمل العامل وعمل عماله يبلغون عددا كثيرا، فمن تبين التخير؛ فقد أخذ بسبب وثيق، ومن أسس أمره على غير ذلك لم تجد لبنيانه قواما، وأما التقديم والتوكيل؛ فإنه ليس كل ذي لب أو ذي أمانة يعرف وجوه الأمور والأعمال، ولو كان بذلك عارفا لم يكن صاحبه حقيقا أن يكل ذلك إلى علمه دون توقيفه عليه وتبيينه له والاحتجاج به عليه، وأما التعهد فإن الوالي إذا فعل ذلك كان سميعا بصيرا، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصنا حريزا، وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن، والراحة من المسيء.
لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا تنفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف. وأعمال السلطان كثيرة، وقلما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد، وإنما الوجه في ذلك والسبيل إليه الذي يستقيم به العمل، أن يكون صاحب السلطان عالما بأمور من يريد الاستعانة به، وما عند كل رجل من الرأي والغناء، وما فيه من العيوب؛ فإذا استقر ذلك عنده عن علمه، وعلم من يأتمن وجه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة والأمانة ما يحتاج إليه فيه، وأن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك ويتحفظ من أن يوجه أحدا وجها لا يحتاج فيه إلى مروءة إن كانت عنده، ولا يأمن عيوبه وما يكره منه.
ثم على الملوك، بعد ذلك، تعهد عمالهم، وتفقد أمورهم؛ حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا إساءة مسيء.
صفحة غير معروفة
ثم عليهم بعد ذلك ألا يتركوا محسنا بغير جزاء، ولا يقروا مسيئا ولا عاجزا على الإساءة والعجز؛ فإنهم إن تركوا ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء وفسد الأمر وضاع العمل.
اقتصاد السعي أبقى للجمام، وفي بعد الهمة يكون النصب، ومن سأل فوق قدره استحق الحرمان.
سوء حمل الغنى أن يكون عند الفرح مرحا، وسوء حمل الفاقة أن يكون عند الطلب شرها، وعار الفقر أهون من عار الغنى، والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة. والدنيا دول؛ فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك.
إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وأبين في المعنى، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.
أشد الفاقة عدم العقل، وأشد الوحدة وحدة اللجوج، ولا مال أفضل من العقل، ولا أنس آنس من الاستشارة.
مما يعتبر به صلاح الصالح وحسن نظره للناس؛ أن يكون إذا استعتب المذنب ستورا لا يشيع، وإذا استشير سمحا بالنصيحة مجتهدا للرأي، وإذا استشار مطرحا للحياء، ومعترفا للحق.
القسم الذي يقسم للناس ويمتعون به نحوان: فمنه حارس، ومنه محروس، فالحارس العقل، والمحروس المال.
والعقل - بإذن الله - هو الذي يحرز الحظ ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة ويعرف النكرة، ويثمر المكسبة ويطيب الثمرة ويوجه السوقة عند السلطان، ويستنزل للسلطان نصحة السوقة، ويكسب الصديق، وينفي العدو.
كلام اللبيب وإن كان نزرا أدب عظيم، ومقارفة المأثم وإن كان محتقرا مصيبة جليلة، ولقاء الإخوان وإن كان يسيرا غنم حسن.
قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثيرا، أما الصالح فمدعو ، وأما الطالح فمقتحم، وأما ذو الأدب فطالب، وأما من لا أدب له فمحتبس، وأما القوي فمدافع، وأما الضعيف فمدفوع، وأما المحسن فمستثيب، وأما المسيء فمستجير؛ فهو مجمع البر والفاجر، والعالم والجاهل، والشريف والوضيع.
صفحة غير معروفة
الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولون في أمورهم: فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، والأمين منهم غير متحفظ من إتيان الخيانة، وذو الصدق غير محترس من حديث الكذبة، وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة، والحازم منهم غير تارك لتوقع الدوائر، يتناقضون البنى، ويترقبون الدول.
ويتعاطون القبيح، ويتعاينون بالغمز، ويرعون في الرخاء بالتحاسد، وفي الشدة بالتجاذب.
ثم قد انتزعت الدنيا ممن قد استمكن منها، واعتكفت له فأصبحت الأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذرهم، فأصبحنا خلفا من بعدهم نتوقع مثل الذي نزل بهم، فنحن إذا تدبرنا أمورهم أحقاء أن ننتظر ما نغبطهم به فنتبعه، وما نخاف عليهم منه فنجتنبه.
كان يقال: إن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله، وينهى عن الشيء ويبتلي بشهوته، فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيت، ولا تترك من الشر إلا ما كرهت؛ فقد أطلعت الشيطان على عورتك وأمكنته من أزمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير فيكرهه إليك، وفيما تكرهه من الشر فيحببه إليك.
ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه، وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما تحب منه.
للدنيا زخرف يغلب الجوارح ما لم تغلبه الألباب، والحكيم من لم يغض عليه طرفه، ولم يشغل به قلبه اطلع من أدناه فيما وراءه، وذكر في بدئه لواحق شره، فأكل مره وشرب كدره ليحلو لي وله ويصفو في طول من إقامة العيش الذي يبقى ويدوم، غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه، ولم يأته من طريق هواه.
لا تألف المستوخم، ولا تقم على غير الثقة، قد بلغ فضل الله على الناس من السعة، وبلغت نعمته عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظا وأقلهم منه نصيبا، وأضعفهم علما، وأعجزهم عملا وأعياهم لسانا بلغ من الشكر له، والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته ما بلغ له منه أعظمهم حظا، وأوفرهم نصيبا وأفضلهم علما، وأقواهم عملا، وأبسطهم لسانا؛ لكان عما استوجب الله عليه مقصرا، وعن بلوغ غاية الشكر بعيدا، ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمه والثناء عليه والتحميد له؛ فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله والقربة عنده والوسيلة إليه، والمزيد فيما شكره عليه؛ خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
أفضل ما يعلم به علم ذي العلم، وصلاح ذي الصلاح أن يستصلح، بما أوتي من ذلك، من استطاع من الناس، ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله، وحب حكمته والعمل بطاعته والرجاء لحسن ثوابه في المعاد إليه، وأن يبين الذي لهم من الأخذ بذلك، والذي عليهم في تركه، وأن يورث ذلك أهله ومعارفه، ليلحقه أجره من بعد الموت.
الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله تعالى إلى خلقه، وأعظمها منفعة، وأحمدها في كل حكمة؛ فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنة الجهال على جهالتهم بهما، وعماهم عنهما.
أحق الناس بالسلطان أهل الرأفة، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديبا.
صفحة غير معروفة