عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
القسم الأول: عبد الله بن المقفع
الأدب الصغير لابن المقفع
الدرة اليتيمة لابن المقفع
يتيمة ثانية لابن المقفع
حكم لابن المقفع
رسالة ابن المقفع في الصحابة
تحميد لابن المقفع
القسم الثاني: عبد الحميد بن يحيى الكاتب
رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد
ومن الرسائل المفردات في الشطرنج
رسالة عبد الحميد إلى الكتاب
القسم الثالث: الرسالة العذراء
الرسالة العذراء
القسم الرابع: رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
القسم الخامس: ملقى السبيل
ملقى السبيل
القسم السادس: رسائل الانتقاد
ترجمة المؤلف ابن شرف القيرواني
رب أعن برحمتك
القسم السابع: كتاب العرب
كتاب العرب
القسم الثامن: رسالة رشيد الدين الوطواط
رسالة رشيد الدين الوطواط
القسم التاسع: منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
القسم العاشر: كتاب الأدب والمروءة
كتاب الأدب والمروءة
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
القسم الأول: عبد الله بن المقفع
الأدب الصغير لابن المقفع
الدرة اليتيمة لابن المقفع
يتيمة ثانية لابن المقفع
حكم لابن المقفع
رسالة ابن المقفع في الصحابة
تحميد لابن المقفع
القسم الثاني: عبد الحميد بن يحيى الكاتب
رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد
ومن الرسائل المفردات في الشطرنج
رسالة عبد الحميد إلى الكتاب
القسم الثالث: الرسالة العذراء
الرسالة العذراء
القسم الرابع: رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
القسم الخامس: ملقى السبيل
ملقى السبيل
القسم السادس: رسائل الانتقاد
ترجمة المؤلف ابن شرف القيرواني
رب أعن برحمتك
القسم السابع: كتاب العرب
كتاب العرب
القسم الثامن: رسالة رشيد الدين الوطواط
رسالة رشيد الدين الوطواط
القسم التاسع: منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
القسم العاشر: كتاب الأدب والمروءة
كتاب الأدب والمروءة
رسائل البلغاء
رسائل البلغاء
تأليف
محمد كرد علي
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
نشأ للعربية في أوائل القرن الثاني للهجرة كاتبان بليغان، يصح أن يدعيا واضعي أساس الإنشاء العربي، وناهجي طريقة الكتابة المرسلة، فكانا منارا يهتدى به إلى يوم الناس هذا، ونعني بهما: عبد الله بن المقفع، وعبد الحميد بن يحيى الكاتب. ظهر هذان الإمامان واللغة في نضرتها الأولى، فكان لهما من فطرتهما السليمة أعظم مساعد لهما على النبوغ، وزادت شهرتهما لاتصالهما بالخلفاء والأمراء، ومرانهما على الكتابة في الأغراض الكثيرة التي كانت تطلب إليهما؛ فيخوضان عبابها مجليين مبرزين.
نشأ ابن المقفع في العراق على ما ينشأ عليه أبناء اليسار. وكان والده ينتحل نحلة مجوس الفرس، ولي خراج الفرس للحجاج بن يوسف الثقفي في الدولة الأموية. ولقب بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده؛ أي تشنجت، لمدها لأخذ الأموال، على ما يقال. وربي ابنه عبد الله تربية إسلامية، وأولع بالعلم وهو مكفي المؤنة، فجاء منه في سن العشرين ما يندر أن يكون مثله لأبناء الأربعين والخمسين، واتصل بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من بني العباس، وكتب له واختص به، وأراد أن يدين بالإسلام؛ فجاء إلى عيسى بن علي وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر، ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام. فقال: أكره أن أبيت على غير دين، فلما أصبح أسلم على يده فسمي بعبد الله، وكني بأبي محمد.
أهم كتب ابن المقفع التي طار ذكرها كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله عن الفارسية، ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. قال القفطي: وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور، وترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة، وهي: كتاب قاطيغورياس، وكتاب باري أرمينياس - أو بارميناس - وكتاب أنالوطيقا، وذكر أنه ترجم إيساغوجي تأليف فرفوريوس الصوري. والأرجح أنه نقل هذه الكتب عن الفارسية أو نقلها له ناقل عن اليونانية، وصاغها هو في قالب عربي فنسبت له، إذ لم يثبت أنه كان يعرف غير الفارسية من اللغات، وعبارة ابن أبي أصيبعة في تاريخ الأطباء تشبه قول القفطي في تراجم الحكماء، والغالب أنهما نقلا عن مصدر واحد مع تغيير طفيف في عبارتيهما.
قال ابن النديم: واسمه بالفارسية روزبه، وهو عبد الله بن المقفع، ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو، فلما أسلم اكتنى بأبي محمد. والمقفع بن المبارك، إنما تقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان ضربا مبرحا فتقفعت يده، وأصله من خوز؛ مدينة من كورفاس. وكان يكتب أولا لداود بن عمر بن هبيرة، ثم كتب لعيسى بن علي على كرمان. وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة، كاتبا شاعرا فصيحا، وهو الذي عمل شرط عبد الله بن علي على المنصور، وتصعب في احتياطه فيه، فأحفظ ذلك أبا جعفر، فلما قتله سفيان بن معاوية حرقا بالنار، وقع ذلك من المنصور بالموقع الحسن فلم يطلب بثأره وطل دمه.
وكان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي، مضطلعا باللغتين، فصيحا بهما، وقد نقل عدة كتب من كتب الفرس منها كتاب خداينامه في السير، كتاب آيين نامه في الإصر، كتاب كليلة ودمنة، كتاب مزدك، كتاب التاج في سيرة أنوشروان، كتاب الآداب الكبير، ويعرف بماقراحسيس، كتاب الأدب الصغير، كتاب اليتيمة في الرسائل.
وقال: إن أبا الجاموس ثور بن يزيد أعرابي كان يفد البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة ولا مصنف له. وقال: بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، أنس بن أبي شيخ، وعليه اعتمد أحمد بن يوسف الكاتب، سالم، مسعدة الهرير، عبد الجار بن عدي، أحمد بن يوسف، وذكره في الشعراء والكتاب فقال: إنه مقل، وقال: قد كانت الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية؛ فنقل ذلك إلى العربية عبد الله بن المقفع وغيره. وقال في الكتب المصنفة في الأسماء والخرافات أن عبد الله بن المقفع من جملة من كان يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم.
والراجح أن الحسد غلت مراجله في صدور بعض معاصريه، والمعاصرة - كما قيل - حرمان؛ فنسبوا إليه ما نسبوا إلى الزندقة؛ لقصورهم عن بلوغ شأوه، أو لغرض في أنفسهم، قال ابن خلكان نقلا عن الجاحظ: إن ابن المقفع ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم. قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه؟ قلنا: وعبارة الجاحظ في بعض رسائله بشأن ابن المقفع تشير إلى قصوره في علم الكلام فقط؛ لأنه قال: فصل، ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، ويكنى: أبا عمرو. وكان يتولى لآل الأهتم. وكان مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير. وكان جوادا فارسا جميلا، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله. وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلا ولا كثيرا، وكان ضابطا لحكايات المقالات ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين؛ فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية؛ فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم يظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به. ا.ه.
لا جرم أن إطلاق ابن المقفع لسانه في المعتزلة دعا أحد أئمتها إلى أن يصدر عليه هذا الحكم الغريب، ولكن الجاحظ أيضا على ثبوت تدينه لم يسلم من هذا الطعن كما رأيت. وإن مسألة التهمة في الدين من الأمور التي شاعت في كل عصر ومصر، ويكون المتهمون بها في معظم الأحوال أبرياء، وإلا فكيف تسجل الزندقة على ابن المقفع إذا جرينا مع الدليل. وليست الزندقة بحثا عما يضمره الإنسان في نفسه؛ لأن مثل هذا لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ويكفي أن يقال: هلا شققت عن قلبه، بل الزندقة التي تذكر في الكتب وتترتب عليها الأحكام. وسوغ أن يقال عن فلان إنه زنديق أمور تقوم عليها بينات ظاهرة من أقوال وأفعال، وكلام ابن المقفع في الدين يدل على شدة تمسكه وفرط ميله على ما يتجلى لك من رسائله. ولو كان ثم سبيل لما ينسب إليه، لا سيما مع غضب المنصور عليه؛ لكان الأقرب أن يتقرب مثل المنصور بمثل ذلك، وفيه ما فيه من إرضاء العامة وشفاء الغليل من العدو، بحيث ينتقم منه مع إسقاطه ولا يعدم المنصور حينئذ حيلة في قتله جهارا بهذه التهمة. أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فيتصرف على القاعدة في اتهامه بالزندقة. وما نظن القاضي عياضا والباقلاني إلا ناقلين عن أناس من أهل السذاجة، ومع ذلك فإنهما قالا: إنه أناب.
التهمة بالزندقة أمر نشأت منه مضار كثيرة؛ حتى لم يخل منها مثل الإمام الغزالي الذي كان أعظم أنصار الدين، فانظر إلى كتاب: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، الذي ألفه في الرد على أولئك الذين نسبوا إليه ما نسبوا؛ فإن فيه الغناء. وأغرب من ذلك المقال على أبي حاتم بن حبان البستي، إمام المحدثين في عصره، وصاحب الصحيح المشهور به، والكتب الممتعة الكثيرة واستحصال الأمر بقتله لو لم ينج من ذلك بعوارض لا تخطر في البال.
ومعارضة القرآن أكثر ما تنسب للزنادقة المشهورين بالأدب، وأفضل من يشيع ذلك أناس يقصدون إهلاك عدوهم بأي وسيلة كانت، أو أناس هم أقرب إلى الزندقة ممن ينسبون إليها؛ حتى إن أبا العلاء المعري، على اضطراب الأقوال في نهاية أمره مع ما علم به من أحواله، قد عزي إليه كتاب كان معروفا في بلاد المغرب يسمى بالفصول والغايات، ولا يتوقف من كان قريب العهد من عصره في أنه عمله في معارضة السور والآيات. وكان كثير ممن يميلون إلى أبي العلاء المعري من أهل المغرب يعجبون مما وقع فيه من سخافة القول الذي ينحط عن جميع كلامه المعروف، مع أنه ليس له يد في الكتابة، كما علم من كتاب سر الفصاحة، وكلامه في رسالة الغفران ينادي بخلاف ذلك.
وعلى الجملة؛ فإن نسبة الزندقة إلى ابن المقفع لا تثبت بوجه من الوجوه التي تعقل في إثباتها. وإذا نظرنا إلى ما يتعلق بالغيب؛ فالحكم الشرعي أنه هو والناسبون إليه جميعا في معرفة ما ينطوون عليه سواء؛ لأنه لم يذهب أحد إلى أن الإيمان أو لوازمه لرجل بعينه.
وتهمة الزندقة الشنعاء كثيرا ما يتهم بها المشتغلون بالفلسفة أمثال ابن رشد والفارابي، وابن الصائغ، وابن سينا، ونسب لهذا أنه عارض القرآن، وقد كتب رسالة في رد افتراء من افترى عليه ذلك. ومن هنا تظهر لك حسن سياسة المأمون؛ لأن فتح باب البحث عن الزنادقة قد أوجب من المضار ما لا يحصى، كما يعلم من التواريخ، وربما كان عصر المأمون أقرب إلى قلة الزندقة، في الحقيقة، من العصور التي كثر اتهام معظم المفكرين بها، وغيرهم ممن يراد الانتقام منه.
عرفت بهذا أن كلام القائلين بزندقة ابن المقفع، مع ما عرف من كلامه، هو من ذلك الباب. قال المرتضى في أماليه: روى ابن شبة، قال: حدثني من سمع ابن المقفع، وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلمحه، وتمثل:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبك الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
وقال صاحب الأغاني نقلا عن الجاحظ: كان والبة بن الحباب، ومطيع بن إياس، ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي، وحفص بن أبي وردة، وابن المقفع، ويونس بن أبي فروة، وحماد عجرد، وعلي بن الخليل، وحماد بن أبي ليلى الراوية، وابن الزبرقان، وعمارة بن حمزة، ويزيد بن الفيض، وجميل بن محفوظ، وبشار المرعث، وأبان اللاحقي؛ ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر، ولا يكادون يفترقون، ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا، وكلهم متهم في دينه.
قلنا: واجتماع المتشاكلين قديم في الناس، والغالب أنهم يتحرجون من إدخال من ليس على شاكلتهم في زمرتهم؛ فيتهمون بما هم منه براء، كما اتهم جماعة أبي حيان التوحيدي الذي نقل بعض مجالسهم الفلسفية في مقابساته. وكانوا من أهل النحل المختلفة تجمع بينهم جامعة العلم والفلسفة، كما جمعت بين ابن المقفع وأصحابه جامعة الأدب. فقالوا: إنهم كانوا يجتمعون على شراب واتهموا بالمروق. وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ذكر أناس كانوا شديدي التصافي والالتحام مع شدة التباين في المذاهب.
أما كيفية مقتل ابن المقفع: فقد أجمع مترجموه على أنه كان بسبب كتابته أمانا لعبد الله بن علي، قال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جدا وخاصة أمر البيعة، وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي، وهو أمير البصرة من قبله؛ فقتله. وكان سفيان هذا شديد الحنق عليه؛ لأن ابن المقفع، على ما يقال، كان ينال منه ويستخف به، حتى عزم على أن يغتاله فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله سرا في داره. ويقال: إنه عاش ستا وثلاثين سنة. وسأل سليمان وعيسى عنه فقيل: إنه دخل دار سفيان سليما ولم يخرج منها فخاصماه إلى المنصور وأحضراه إليه مقيدا وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج، فأقاموا الشهادة عند المنصور. فقال لهم المنصور: أنا أنظر في هذا الأمر. ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به؟ ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت وأشار إلى باب خلفه وخاطبهم: ما تروني صانعا بكم، أأقتلكم بسفيان؟ فرجعوا كلهم عن الشهادة وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلموا أن قتله كان برضا المنصور.
ولابن المقفع شعر قليل، ولكنه جيد نقل له صاحب الحماسة ثلاثة أبيات، يقال: إنه رثى بها يحيى بن زياد. وقال الأخفش: والصحيح أنه رثى بها ابن أبي العوجاء، وهي:
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله
فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا
ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
قال ثعلب: البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير، فتأمل.
ومما يذكر عن ابن المقفع ما رواه صاحب الأغاني وغيره قال: حدثني اليزيدي، قال: حدثني عمي عبيد الله، قال: حدثني أحمد، قال: سمعت جدي أبا محمد يقول: كنت ألقى الخليل بن أحمد، فيقول لي: أحب أن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع. فجمعت بينهما، فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علما، ثم افترقنا فلقيت الخليل، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت علمه أكثر من عقله، ثم لقيت ابن المقفع فقلت له: كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه. وقال المرتضى: إن من جمعهما كان عباد بن عباد المهلبي، فتحادثا ثلاثة أيام وليالهن.
قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك؟ فقال: نفسي؛ إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته، ودعاه عيسى بن علي للغداء فقال: أعز الله الأمير، لست يومي للكرام أكيلا. قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار. ومن كلامه: شربت من الخطب ريا ولم أضبط لها رويا؛ ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما وليس غيرها كلاما.
ومما يؤثر عنه وهو ما يدل على رأيه في الإنشاء أنه قال لبعض الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر: عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة، وقيل له: ما البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.
وفي البيان والتبيين عن إسحاق بن حسان بن فوهة، أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط؛ سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة.
فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين؛ فالإكثار في غير خطل والإطالة في غير إملال. قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواكب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت.
قال: فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام؛ فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنهما لا يرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يقال: «رضاء الناس شيء لا ينال.»
وقال عبد العظيم ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير، في البديع، في باب التهذيب والتأديب: قد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعباراتهم رائقة، وفصولهم متقابلة، وتلك طريقة الإمام علي - عليه السلام - ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام؛ كابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.
وقال الأمين المحبي فيما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه: يتيمة ابن المقفع يضرب بها المثل لبلاغتها وبراعة منشئها، وهي رسالة في نهاية الحسن، تشتمل على محاسن من الأدب، وقد ذكرها أبو تمام وأجراها مثلا في قوله للحسن بن وهب:
ولقد شهدتك والكلام لآلئ
تؤم فبكر في الكلام وثيب
فكأن قسا في عكاظ يخطب
وكأن ليلى الأخيلية تندب
وكثير عزة يوم بين ينسب
وابن المقفع في اليتيمة يسهب
وقال جلال الدين في المزهر نقلا عن أبي الطيب عبد الواحد اللغوي في مراتب النحويين: قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في المعجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
وقال المعري في عبث الوليد: كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض. وروى الأصمعي أنه قال كلاما معناه: قرأت آداب ابن المقفع، فلم أر فيها لحنا إلا في موضع واحد، وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض.
وروي أن بعضهم ذكر ابن المقفع فقال: ألفاظه معان، ومعانيه حكم، فصل خطابه شفاء، وخصل بيانه كفاء، وسمع أبو العيناء بعض كلام ابن المقفع فقال: كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح، كأن بيانه لؤلؤ منثور وروض ممطور. وقال جعفر بن يحيى: عبد الحميد أصل وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.
وعبد الحميد هذا هو الذي يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائل عبد الحميد: ألفاظ محككة وتجارب محنكة. قال صاحب الوفيات: وكان في الكتابة، وفي كل فن من العلم والأدب، إماما، وهو من أهل الشام، وكان أولا معلم صبية يتنقل في البلدان وعنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة.
وقال ابن نباتة: إنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة، يقال: إنه كان في أول عمره معلم صبيان بالكوفة، ثم اتصل بمروان الجعدي قبل أن يصل إلى الخلافة، وصحبه وانقطع إليه، فلما جاء الأمر بالخلافة سجد مروان وسجد أصحابه إلا عبد الحميد. فقال له مروان: لم لا سجدت؟ فقال: ولم أسجد على أن كنت معنا فطرت عنا؛ يعني بالخلافة. فقال: إذن تطير معي. قال: الآن طاب السجود. وسجد. وكان كاتب مروان طول خلافته.
وهو أول من أخذ التحميدات من فصول الكتب، واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ، وفي بعضها الإسهاب المفرط على ما اقتضاه الحال، فمن الإيجاز بعض عمال مروان أهدي إليه عبد أسود فأمره بالإجابة ذاما مختصرا، فكتب: «لو وجدت لونا شرا من السواد وعددا أقل من الواحد لأهديته.» وأما الإسهاب؛ فإنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه عن مروان كتابا يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم. وكان من كبر حجمه يحمل على جمل، ثم قال لمروان: قد كتبت كتابا متى قرأه بطل تدبيره؛ فإن يك ذلك وإلا فالهلاك. فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه وأمر بنار فأحرقه، وكتب على جزازة منه إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى
عليك ليوث الغاب من كل جانب
ولما اشتد الطلب على مروان وتتابعت هزائمه المشهورة قال لعبد الحميد: القوم محتاجون إليك لأدبك، وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك؛ فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي؛ فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي. فقال عبد الحميد:
أسر وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين إليك وأقبحهما بي، ولكني أصبر حتى يفتح الله عليك، أو أقتل معك؛ فلما قتل مروان استخفى عبد الحميد فغمز عليه بالجزيرة عند ابن المقفع وكان صديقه، وفاجأهما الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما: أنا؛ خوفا على صاحبه. إلى أن عرف عبد الحميد؛ فأخذ وسلمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته فكان يحمي له طشتا ويضعه على رأسه، إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: إنه قتل مع مروان في مصر.
قال المسعودي إنه رأى له عقبا بفسطاط مصر، يعرفون ببني مهاجر، وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون. وكان أبو جعفر المنصور يقول: غلبنا بنو أمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي. وقيل لعبد الحميد: ما الذي مكنك من البلاغة؟ قال: حفظ كلام الأصلع، يعني: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه. وقيل له: أيما أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي. وقال: أكرموا الكتاب فإن الله تعالى أجرى الأرزاق على أيديهم. وقال: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. ومن كلامه: خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا.
قال صاحب وفيات الأعيان: وكان كثيرا ما ينشد:
إذا خرج الكتاب كانت دويهم
قسيا وأقلام الدوي لها نبلا
ومما نقله عنه أنه ساير يوما مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه. فقال له مروان: قد طالت صحبة هذه الدابة لك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها. فقال له: فكيف سيرها؟ فقال: همها أمامها وسوطها عنانها، وما ضربت قط إلا ظلما.
ولعبد الحميد كصديقه وضريعه عبد الله بن المقفع شعر نادر، فمنه:
كفى حزنا أني أرى من أحبه
قريبا ولا غير العيون تترجم
فأقسم لو أبصرتنا حين نلتقي
ونحن سكوت خلتنا نتكلم
هذا ما وصلنا من أخبار هذين الإمامين، ونحن نعلم أن ترجمتهما، على ما أثبتناها هنا؛ ليست مستوفاة من عامة وجوهها، ولكن تلاوة كلامهما أحسن مترجم عنهما؛ إذ كلام المرء قطعة من عقله.
القسم الأول
عبد الله بن المقفع
توطئة للناشر
من أعظم ما تدعو الحاجة إليه علم تهذيب الأخلاق؛ لتوقف نجاح الأمم عليه، وهو فن ذو أفنان تحتاج إليه الأفراد على اختلاف طبقاتها، ومع قلة ما انتشر من كتبه ففي جلها من عدم التنقيح وانسجام العبارات، ما يصد كثيرا من الطالبين عن الإقبال عليها؛ ومن ثم كثر بحثنا عن كتب تفي بهذا المطلب مع رشاقة مبانيها؛ لتكون الفائدة مزدوجة، وهو أقصى آمال الذين يسعون في إحياء اللغة العربية وإعادتها إلى ما كانت عليه في عهدها الأول.
ولما ذهبت إلى مدينة بعلبك (سنة 1223ه)، رأيت عند بعض الأفاضل الواردين عليها مجموعا استعاره من بعض أعيانها؛ فرأيت فيه الضالة المنشودة، وهي رسالة الأدب الصغير لعبد الله بن المقفع ، الكاتب الذي يضرب ببلاغته المثل، فكتبتها بخطي في نحو يوم، وأرجو أن ييسر لنشرها من عرف بحسن الطبع ليعم بها النفع، والله الموفق. •••
وهذا بيان الرسائل التي في المجموع المذكور: (1)
كتاب: عجائب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو في نحو ثلاث كراسات، يشتمل على ما نقل عنه من بدائع الأحكام. (2)
ذكر الخلائف وعنوان المعارف، تأليف الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد. أوله: «الحمد لله الواحد العدل، وصلى الله على النبي وخيرة الأهل، قد أسعفتك بالمجموع الذي التمسته في نسب النبي - عليه السلام - وبنيه وبناته وأعمامه وعماته، وجمل من غزواته وسائر ما يتصل بذلك.» وهو اثنتا عشرة ورقة وفي آخره، وكتب في رجب سنة عشرين وأربعمائة. (3)
رسالة إلى أحمد بن أبي دؤاد، في فضل العلم، وهي «3» أوراق وفي آخرها: «وكتب في شهر ربيع الأول سنة عشرين وأربعمائة.» (4)
ويتلوها كتاب: الأدب الصغير الذي نقلناه، وهو في الصفحة اليسرى من آخر ورقة من الرسالة السابقة بخط كاتب واحد، فتكون كتابتها في التاريخ المذكور، ولم يذكر في آخرها تاريخ. (5)
ويتلوه كتاب: ذخائر الحكمة، تأليف أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، وهو في نحو ثلاث وعشرين ورقة. (6)
مختصر من كتاب: جاويدان خرد في حكم الفرس والهند والروم والعرب، تأليف أحمد بن مسكويه، وهو في أكثر من كراس.
الأدب الصغير لابن المقفع
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلا، والله وقت للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها، فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد.
والسبيل إلى دركها العقل الصحيح، وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم، وللعقول سجيات وغرائز بها تقبل الأدب، وبالأدب تنمي العقول وتزكو، فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر على أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها ونضرتها وريعها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها؛ فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها - بإذن الله - القوة والحياة ؛ فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب، لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها؛ حتى يعتملها الأدب الذي هو نماؤها وحياتها ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق، وكل المنطق بالتعلم، ليس حرف من حروف معجمه ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مروي متعلم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب، وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.
فإذ خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولا بديعا، فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ؛ ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه؛ مما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صائغا رفيقا، وكصاغة الذهب والفضة صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية، وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلا جعلها الله ذللا، فصار ذلك شفاء وطعاما وشرابا منسوبا إليها مذكورا به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع؛ فإنه إنما اجتباه - كما وصفنا.
ومن أخذ كلاما حسنا عن غيره، فتكلم به في موضعه على وجهه فلا يرين عليه في ذلك ضئولة؛ فإنه من أعين على حفظ قول المصيبين وهدي للاقتداء بالصالحين ووفق للأخذ عن الحكماء، فلا عليه ألا يزداد؛ فقد بلغ الغاية. وليس بناقصه في رأيه ولا بغائضه من حقه، ألا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه، وإنما حياة العقل الذي يتم به ويستحكم خصال ست: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتقاد للخير، وحسن الوعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه، قولا وعملا.
أما المحبة؛ فإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته؛ فلا يكون شيء أمرأ ولا أحلى عنده منه، وأما الطلب فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون، وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه ولا يدرك لهم بغيتهم نفاستها في أنفسهم دون الجد والعمل، وأما التثبت والتخير فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه، فكم من طالب رشد وجده والغي معا! فاصطفى منهما الذي منه هرب وألغى الذي إليه سعى، فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد وهو لا يشك بالظفر فما أحقه بشدة التبين وحسن الابتغاء.
وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته؛ فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته.
وأما الحفظ والتعهد فهو تمام الدرك؛ لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة فلا بد له إذا اجتبى صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجته، وأما البصر بالموضع؛ فإنما تصير المنافع كلها إلى وضع الأشياء مواضعها، وبنا إلى هذا كله حاجة شديدة؛ فإننا لم نوضع في الدنيا موضع غناء وخفض، ولكن موضع فاقة وكد، ولسنا إلى ما يمسك بأرماقنا من المطعم والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول. وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل، ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضر والعيلة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا.
وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا، فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق - إن شاء الله.
الواصفون أكثر من العارفين، والعارفون أكثر من الفاعلين، فلينظر امرؤ أين يضع نفسه، فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيبا من اللب يعيش به، لا يحب أن له به من الدنيا ثمنا. وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب، ولا أن يوصف بصفاتهم، فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلا فليأخذ له عتاده، وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائه؛ فإنه قد رام أمرا جسيما لا يصلح على الغفلة، ولا يدرك بالمعجزة، ولا يصير على الأثرة. وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
وليعلم أن على العامل أمورا إذا ضيعها حكم عليه عقله بمقارنة الجهال، فعلى العامل أن يعلم أن الناس مشتركون مستوون في الحب لما يوافق، والبغض لما يؤذي، وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطأ، وعندهن تفرقت العلماء والجهال والحزمة والعجزة.
الباب الأول من ذلك:
أن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب - إن كان مما يحب - وأحقه بالاتقاء - إن كان مما يكره - أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع العام الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة والساعات على الساعة.
والباب الثاني:
أن ينظر فيما يؤثر من ذلك فيضع الرجاء والخوف فيه موضعه، فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف، ولا رجاءه في غير المدرك، فيترك عاجل اللذات طلبا لآجلها، ويحتمل قريب الأذى توقيا لبعيده، فإذا صار إلى العاقبة بدا له أن فراره كان تورطا، وأن طلبه كان تنكبا.
والباب الثالث من ذلك:
هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف؛ فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران، ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانة محروم، وعلى العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها والقضاء عليها، والإبانة لها، والتنكيل بها.
أما المحاسبة؛ فيحاسبها بما لها؛ فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهب منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة، وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق؛ فيتنبه لهذه المحاسبة عند الحول إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسه فيه وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا، فيجمع ذلك في كتاب فيه إحصاء وجد وتذكير، وتبكيت للنفس، وتذليل لها؛ حتى تعترف وتذعن .
وأما الخصومة؛ فإن من طباع النفس الأمارة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى والأماني فيما بقي؛ فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها.
وأما القضاء؛ فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة بأنها فاضحة مردية موبقة، وللحسنة بأنها زائنة منجية مربحة، وأما الإبانة والتنكيل؛ فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات ويرجو عواقبها وتأميل فضلها، ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات والبشع بها، والاقشعرار منها والحزن لها.
فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بهذا أخذا وأقلهم عنها فترة. وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارا، ذكرا يباشر القلوب ويقذع الطماح؛ فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأمانا - بإذن الله - من الهلع.
وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الرأي وفي الأخلاق وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدر أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة، أو الخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب.
وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس، ويحفظها، ويحصيها، ويصنع في توظيفها على نفسه وتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل ألا يخادن، ولا يصاحب ولا يجاور من الناس ما استطاع إلا ذا فضل في الدين والعلم والأخلاق فيأخذ عنه، أو موافقا له على صلاح ذلك فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل؛ فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمي إلا بالموافقين والمهذبين والمؤيدين. وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو أقرب إليه وأحب ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبته؛ ولذلك زعم بعض الأولين: أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.
وعلى العاقل ألا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى، وأن ينزل ما أصاب من ذلك، ثم انقطع عنه منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب؛ ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها، ولا يبلغن سكرا ولا طغيانا؛ فإن مع السكر النسيان، ومع الطغيان التهاون، ومن نسى وتهاون خسر.
وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها، حتى يصيروا حرسا على سمعه وبصره ورأيه، فيستنيم إلى ذلك، ويريح له قلبه ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على نفسه ألا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل؛ فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بلغة.
وعلى العاقل ألا يكون راغبا إلا في إحدى ثلاث خصال: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين: فطبقة من العامة، يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة، ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف، كلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء.
وعلى العاقل ألا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي والزلل في العلم والإغفال في الأمور؛ فإن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرا وصغيرا، فإذا الصغير كبير، وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع، فإذا لم تسد أوشكت أن تنفجر بما لا يطاق، ولم نر شيئا قط قد أتي إلا من قبل الصغير المتهاون به.
قد رأينا الملك يؤتى من قبل العدو المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به، وأقل الأمور احتمالا للضياع الملك؛ لأن ليس منه شيء يضيع وإن كان صغيرا إلا اتصل بآخر يكون عظيما.
وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا، وإن ظن أنه على اليقين.
وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويف الرأي وإسعاف الهوى، فيخالف ذلك ويلتمس ألا يزال هواه مسوفا، ورأيه مسعفا.
وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره، من نصب نفسه للناس إماما في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة، والرأي واللفظ والأخدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه؛ فإنه كما أن كلام الحكمة يؤنق الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.
ولاية الناس بلاء عظيم.
وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه التي بها يقوم وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير، والمبالغة في التقدم، والتعهد الشديد، والجزاء العتيد.
أما التخير للعمال والوزراء؛ فإنه نظام الأمر ووضع مؤنة البعيد المنتشر؛ فإنه عسى أن يكون بتخيره رجلا واحدا قد اختار ألفا؛ لأنه من كان من العمال خيارا فسيختار كما اختير. ولعل عمل العامل وعمل عماله يبلغون عددا كثيرا، فمن تبين التخير؛ فقد أخذ بسبب وثيق، ومن أسس أمره على غير ذلك لم تجد لبنيانه قواما، وأما التقديم والتوكيل؛ فإنه ليس كل ذي لب أو ذي أمانة يعرف وجوه الأمور والأعمال، ولو كان بذلك عارفا لم يكن صاحبه حقيقا أن يكل ذلك إلى علمه دون توقيفه عليه وتبيينه له والاحتجاج به عليه، وأما التعهد فإن الوالي إذا فعل ذلك كان سميعا بصيرا، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصنا حريزا، وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن، والراحة من المسيء.
لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا تنفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف. وأعمال السلطان كثيرة، وقلما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد، وإنما الوجه في ذلك والسبيل إليه الذي يستقيم به العمل، أن يكون صاحب السلطان عالما بأمور من يريد الاستعانة به، وما عند كل رجل من الرأي والغناء، وما فيه من العيوب؛ فإذا استقر ذلك عنده عن علمه، وعلم من يأتمن وجه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة والأمانة ما يحتاج إليه فيه، وأن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك ويتحفظ من أن يوجه أحدا وجها لا يحتاج فيه إلى مروءة إن كانت عنده، ولا يأمن عيوبه وما يكره منه.
ثم على الملوك، بعد ذلك، تعهد عمالهم، وتفقد أمورهم؛ حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا إساءة مسيء.
ثم عليهم بعد ذلك ألا يتركوا محسنا بغير جزاء، ولا يقروا مسيئا ولا عاجزا على الإساءة والعجز؛ فإنهم إن تركوا ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء وفسد الأمر وضاع العمل.
اقتصاد السعي أبقى للجمام، وفي بعد الهمة يكون النصب، ومن سأل فوق قدره استحق الحرمان.
سوء حمل الغنى أن يكون عند الفرح مرحا، وسوء حمل الفاقة أن يكون عند الطلب شرها، وعار الفقر أهون من عار الغنى، والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة. والدنيا دول؛ فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك.
إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وأبين في المعنى، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.
أشد الفاقة عدم العقل، وأشد الوحدة وحدة اللجوج، ولا مال أفضل من العقل، ولا أنس آنس من الاستشارة.
مما يعتبر به صلاح الصالح وحسن نظره للناس؛ أن يكون إذا استعتب المذنب ستورا لا يشيع، وإذا استشير سمحا بالنصيحة مجتهدا للرأي، وإذا استشار مطرحا للحياء، ومعترفا للحق.
القسم الذي يقسم للناس ويمتعون به نحوان: فمنه حارس، ومنه محروس، فالحارس العقل، والمحروس المال.
والعقل - بإذن الله - هو الذي يحرز الحظ ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة ويعرف النكرة، ويثمر المكسبة ويطيب الثمرة ويوجه السوقة عند السلطان، ويستنزل للسلطان نصحة السوقة، ويكسب الصديق، وينفي العدو.
كلام اللبيب وإن كان نزرا أدب عظيم، ومقارفة المأثم وإن كان محتقرا مصيبة جليلة، ولقاء الإخوان وإن كان يسيرا غنم حسن.
قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثيرا، أما الصالح فمدعو ، وأما الطالح فمقتحم، وأما ذو الأدب فطالب، وأما من لا أدب له فمحتبس، وأما القوي فمدافع، وأما الضعيف فمدفوع، وأما المحسن فمستثيب، وأما المسيء فمستجير؛ فهو مجمع البر والفاجر، والعالم والجاهل، والشريف والوضيع.
الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولون في أمورهم: فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، والأمين منهم غير متحفظ من إتيان الخيانة، وذو الصدق غير محترس من حديث الكذبة، وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة، والحازم منهم غير تارك لتوقع الدوائر، يتناقضون البنى، ويترقبون الدول.
ويتعاطون القبيح، ويتعاينون بالغمز، ويرعون في الرخاء بالتحاسد، وفي الشدة بالتجاذب.
ثم قد انتزعت الدنيا ممن قد استمكن منها، واعتكفت له فأصبحت الأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذرهم، فأصبحنا خلفا من بعدهم نتوقع مثل الذي نزل بهم، فنحن إذا تدبرنا أمورهم أحقاء أن ننتظر ما نغبطهم به فنتبعه، وما نخاف عليهم منه فنجتنبه.
كان يقال: إن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله، وينهى عن الشيء ويبتلي بشهوته، فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيت، ولا تترك من الشر إلا ما كرهت؛ فقد أطلعت الشيطان على عورتك وأمكنته من أزمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير فيكرهه إليك، وفيما تكرهه من الشر فيحببه إليك.
ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه، وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما تحب منه.
للدنيا زخرف يغلب الجوارح ما لم تغلبه الألباب، والحكيم من لم يغض عليه طرفه، ولم يشغل به قلبه اطلع من أدناه فيما وراءه، وذكر في بدئه لواحق شره، فأكل مره وشرب كدره ليحلو لي وله ويصفو في طول من إقامة العيش الذي يبقى ويدوم، غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه، ولم يأته من طريق هواه.
لا تألف المستوخم، ولا تقم على غير الثقة، قد بلغ فضل الله على الناس من السعة، وبلغت نعمته عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظا وأقلهم منه نصيبا، وأضعفهم علما، وأعجزهم عملا وأعياهم لسانا بلغ من الشكر له، والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته ما بلغ له منه أعظمهم حظا، وأوفرهم نصيبا وأفضلهم علما، وأقواهم عملا، وأبسطهم لسانا؛ لكان عما استوجب الله عليه مقصرا، وعن بلوغ غاية الشكر بعيدا، ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمه والثناء عليه والتحميد له؛ فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله والقربة عنده والوسيلة إليه، والمزيد فيما شكره عليه؛ خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
أفضل ما يعلم به علم ذي العلم، وصلاح ذي الصلاح أن يستصلح، بما أوتي من ذلك، من استطاع من الناس، ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله، وحب حكمته والعمل بطاعته والرجاء لحسن ثوابه في المعاد إليه، وأن يبين الذي لهم من الأخذ بذلك، والذي عليهم في تركه، وأن يورث ذلك أهله ومعارفه، ليلحقه أجره من بعد الموت.
الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله تعالى إلى خلقه، وأعظمها منفعة، وأحمدها في كل حكمة؛ فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنة الجهال على جهالتهم بهما، وعماهم عنهما.
أحق الناس بالسلطان أهل الرأفة، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديبا.
وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم من الله أنفذهم في الحق علما وأكملهم به عملا، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله تعالى، وأصوبهم رجاء أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعا بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفا، وأقواهم أحسنهم معونة، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلجهم بالحجة أغلبهم للشهوة والحرص، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حياء، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعا، وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالا، وأقلهم دهشا أرحبهم ذرعا، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي، وأخفضهم عيشا أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالا أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس أكلهم نابا ومخلبا، وأثبتهم شهادة عليهم أنطقهم عنهم، وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم ، وأحقهم بالنعم أشكرهم لما أوتي منها.
أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن، والأدب النافع، والإخوان الصالحين.
فصل: فضل ما بين الدين والرأي: أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يثبت بالخصومة، فمن جعل الدين خصومة، فقد جعل الدين رأيا، ومن جعل الدين رأيا، فقد صار شارعا، ومن كان هو يشرع لنفسه الدين فلا دين له.
قد يشتبه الدين والرأي في أماكن، لولا تشابههما لم يحتاجا إلى الفصل.
العجب آفة العقل، واللجاجة قعود الهوى، والبخل لقاح الحرص، والمراء فساد اللسان، والحمية سبب الجهل، والأنف توأم السفه، والمنافسة أخت العداوة.
إذا هممت بالخير فبادر هواك لا يغلبك، وإذا هممت بشر فسوف هواك لعلك تظفر؛ فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك، هو الغنم.
لا يمنعنك صغر شأن امرئ من اجتباء ما رأيت من رأيه صوابا، واصطفاء ما رأيت من أخلاقه كريما؛ فإن اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها.
من أبواب الترفق والتوفيق في التعليم أن يكون وجه الرجل الذي يتوجه فيه من العلم والأدب فيما يوافق طاعة، ويكون له عنده محمل وقبول، فلا يذهب عناؤه في غير غناء ولا تفنى أيامه في غير درك، ولا يستفرغ نصيبه فيما لا ينجع فيه، ولا يكون كرجل أراد أن يعمر أرضا تهمة، فغرسها جوزا ولوزا، وأرضا جلسا فغرسها نخلا وموزا.
العلم زين لصاحبه في الرخاء، ومنجاة له في الشدة.
بالأدب تعمر القلوب، وبالعلم تستحكم الأحلام، فالعقل الزاكي غير الصنيع، كالأرض الطيبة الخراب.
مما يدل على معرفة الله «وهو» سبب الإيمان: أن وكل بالغيب لكل ظاهر من الدنيا صغير أو كبير عينا، فهو يصرفه ويحركه، فمن كان معتبرا بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء، فيعلم أن لها ربا يجري فلكها، ويدبر أمرها، ومن اعتبر بالصغير فلينظر إلى حبة الخردل؛ فيعرف أن لها مدبرا ينبتها ويزكيها ويقدر لها أقواتها من الأرض والماء يوقت لها زمان نباتها وزمان تهشمها، وأمر النبوة والأحلام وما يحدث في أنفس الناس من حيث لا يعلمون، ثم يظهر منهم بالقول والفعل، ثم اجتماع العلماء والجهال والمهتدين والضلال على ذكر الله تعالى وتعظيمه، واجتماع من شك في الله تعالى وكذب به على الإقرار بأنهم أنشئوا حديثا ومعرفتهم أنهم لم يحدثوا أنفسهم؛ فكل ذلك يهدي إلى الله، ويدل على الذي كانت منه هذه الأمور مع ما يزيد ذلك يقينا عند المؤمنين، بأن الله حق كبير، ولا يقدر أحد أنه باطل.
إن للسلطان المقسط حقا لا يصلح - لخاصة ولا عامة - أمر إلا بإرادته؛ فذو اللب حقيق أن يخلص لهم النصيحة، ويبذل لهم الطاعة، ويكتم سرهم، ويزين سيرتهم، ويذب بلسانه ويده عنهم ويتوخى مرضاتهم، ويكون من أمره المواتاة لهم، والإيثار لأهوائهم ورأيهم على هواه، ويقدر الأمور على موافقتهم، وإن كان ذلك له مخالفا، وأن يكون منه الجد في المخالفة لمن جانبهم وجهل حقهم، ولا يواصل من الناس إلا من لا تباعد مواصلته إياه منهم، ولا تحمله عداوة أحد له، ولا إضرار به على الاضطغان عليهم، ولا مواتاة أحد على الاستخفاف بشيء من أمورهم، والانتقاص لشيء من حقهم، ولا يكتمهم شيئا من نصيحتهم، ولا يتثاقل عن شيء من طاعتهم، ولا يبطر إذا أكرموه ولا يجترئ عليهم إذا قربوه، ولا يطغى إذا سلطوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يدخل عليهم المؤنة، ولا يستثقل ما حملوه، ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، وأن يحمدهم على ما أصاب من خير منهم أو من غيرهم؛ فإنه لا يقدر أحد على أن يصيبه بخير إلا بدفاع الله عنه بهم.
مما يدل على علم العالم معرفته بما يدرك من الأمور، وإمساكه عما لا يدرك، وتزيينه نفسه بالمكارم، وظهور علمه للناس من غير أن يظهر منه فخر، ولا عجب ومعرفته بزمانه الذي هو فيه، وبصره بالناس وأخذه بالقسط وإرشاده المسترشد، وحسن مخالفته خلطاءه، وتسويته بين قلبه ولسانه، وتحريه العدل في كل أمر، ورحب ذرعه فيما نابه، واحتجاجه بالحجج فيما عمل، وحسن تبصيره.
من أراد أن يبصر شيئا من علم الآخرة، فبالعلم الذي به يعرف ذلك ، ومن أراد أن يبصر شيئا من علم الدنيا، فبالأشياء التي هي تدل عليه.
ليكن المرء سئولا، وليكن فصولا بين الحق والباطل، وليكن صدوقا ليؤمن على ما قال، وليكن ذا عهد ليوفى له بعهده، وليكن شكورا ليستوجب الزيادة، وليكن جوادا ليكون للخير أهلا، وليكن رحيما بالمضرورين لئلا يبتلى بالضر، وليكن ودودا لئلا يكون معدنا لأخلاق الشيطان.
وليكن حافظا للسانه مقبلا على شانه، لئلا يؤخذ بما لم يجترم، وليكن متواضعا ليفرح له بالخير ولا يحسد عليه، وليكن قنعا لتقر عينه بما أوتي، وليسر للناس بالخير لئلا يؤذيه الحسد.
وليكن حذرا لئلا تطول مخافته، ولا يكن حقودا لئلا يضر بنفسه إضرارا باقيا.
وليكن ذا حياء لئلا يستذم للعلماء؛ فإن مخافة العالم مذمة العلماء أشد من مخافته عقوبة السلطان.
حياة الشيطان ترك العلم، وروحه وجسده الجهل، ومعدنه في أهل الحقد والقساوة، ومثواه في أهل الغضب، وعيشه في المصارمة، ورجاؤه في الإصرار على الذنوب.
وقال: لا ينبغي للمرء أن يعتد بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذوي الألباب ولم يجامعوه عليه؛ فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد.
أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك.
وأنفع العقل أن تحسن المعيشة فيما أوتيت من خير، وألا تكترث من الشر بما لم يصبك، ومن العلم أن تعلم أنك لا تعلم ما لا تعلم.
ومن أحسن ذوي العقول عقلا من أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديرا لا يفسد عليه واحد منهما الآخر؛ فإن أعياه ذلك رفض الأدنى، وآثر عليه الأعظم.
وقال: المؤمن بشيء من الأشياء، وإن كان سحرا خير ممن لا يؤمن بشيء، ولا يرجو معادا.
لا تؤدي التوبة أحدا إلى النار، ولا الإصرار على الذنوب أحدا إلى الجنة.
من أفضل أعمال البر ثلاث خصال: الصدق في الغضب، والجود في العسرة، والعفو عند القدرة.
رأس الذنوب الكذب هو يؤسسها وهو يتفقدها ويثبتها، ويتلون ثلاثة ألوان بالأمنية والجحود والجدل: يبدأ صاحبه بالأمنية الكاذبة فيما يزين له من السوآت، فيشجعه عليها بأن ذلك سيخفى ، فإذا ظهر عليه قابله بالجحود والمكابرة؛ فإن أعياه ذلك ختم بالجدل، فخاصم عن الباطل، ووضع له الحجج، والتمس به التثبت، وكابر الحق حتى يكون مسارعا للضلالة، ومكابرا بالفواحش.
لا يثبت دين المرء على حالة واحدة أبدا، ولكنه لا يزال إما زائدا، وإما ناقصا.
من علامات اللئيم المخادع: أن يكون حسن القول، سيئ الفعل، بعيد الغضب، قريب الحسد، حمولا للفحش، مجازيا بالحقد، متكلفا للجود صغير الخطر، متوسعا فيما ليس له، ضيقا فيما يملك.
وكان يقال: إذا تخالجتك الأمور فاستقل أعظمها خطرا؛ فإن لم يستبن ذلك فأرجاها دركا؛ فإن اشتبه ذلك فأجدرها ألا يكون له مرجوع، حين تولي فرصته.
وكان يقال: الرجال أربعة؛ اثنان تختبر ما عندهما بالتجربة، واثنان قد كفيت تجربتهما، فأما اللذان تحتاج إلى تجربتهما؛ فإن أحدهما بر كان مع أبرار، والآخر فاجر كان مع فجار؛ فإنك لا تدري لعل البر منهما إذا خالط الفجار أن يتبدل فيصير فاجرا، ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدل، فيصير برا، فيتبدل البر فاجرا، والفاجر برا.
وأما اللذان قد كفيت تجربتهما، وتبين لك ضوء أمرهما؛ فإن أحدهما فاجر كان في أبرار، والآخر بر كان في فجار.
حق على العاقل أن يتخذ مرآتين، فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه، فتتصاغر بها ويصلح ما استطاع منها، وينظر من الأخرى في محاسن الناس فيحليهم بها، ويأخذ ما استطاع منها.
احذر خصومة الأهل والولد والصديق والضعيف، واحتجج عليهم بالحجج.
لا يوقعنك بلاء تخلصت منه في آخر، لعلك ألا تخلص منه.
الورع لا يخدع، والأريب لا يخدع.
ومن ورع الرجل ألا يقول ما لا يعلم، ومن الأرب أن يتثبت فيما يعلم.
وكان يقال: عمل الرجل فيما يعلم أنه خطأ هوى، والهوى آفة العفاف، وتركه العمل بما يعلم أنه صواب تهاون، والتهاون آفة الدين.
وإقدامه على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح، والجماح آفة العقل.
وكان يقال: وقر من فوقك، ولن لمن دونك، وأحسن مواتاة أكفائك، وليكن آثر ذلك عندك مواتاة الأكفاء؛ فإن ذلك هو الذي يشهد لك أن إجلالك من فوقك ليس بخضوع منك لهم، وأن لينك لمن دونك ليس لالتماس خدمتهم.
خمسة مفرطون في خمسة أشياء مندمون عليها: الواهن المفرط إذا فاته العمل، والمنقطع من إخوانه وصديقه إذا نابته النوائب، والمستمكن منه عدوه لسوء رأيه إذا تذكر عجزه، والمفارق الزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحة، والجريء على الذنوب إذا حضره الموت.
أمور لا تصلح إلا بقرائنها: لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق.
أمور هن تبع لأمور: فالمروات كلها تبع للعقل، والرأي تبع للتجربة، والغبطة تبع لحسن الثناء، والسرور تبع للأمن، والقرابة تبع للمودة، والعمل تبع للقدر، والجدة تبع للإنفاق.
أصل العقل التثبت وثمرته السلامة، وأصل الورع القناعة وثمرته الظفر، وأصل التوفيق العمل وثمرته النجح.
لا يذكر الفاجر في العقلاء، ولا الكذوب في الأعفاء، ولا الخذول في الكرماء، ولا الكفور بشيء من الخير.
لا تؤاخين خبا، ولا تستنصرن عاجزا، ولا تستعينن كسلا.
إن من أعظم ما يروح به المرء نفسه ألا يجري لما يهوى. وليس كائنا إلا لما لا يهوى، وهو لا محالة كائن.
اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت، ومن النصب ما عاد عليك، ولا تفرح بالبطالة ولا تجبن عن العمل.
من استعظم من الدنيا شيئا فبطر، واستصغر من البر شيئا فتهاون، واحتقر من الإثم شيئا فاجترأ عليه، واغتر بعدو وإن قل فلم يحذره؛ فذلك من ضياع العقل.
لا يستخف ذو العقل بأحد، وأحق من لم يستخف به ثلاثة: الأتقياء، والولاة، والإخوان؛ فإنه من استخف بالأتقياء أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته.
من حاول الأمور احتاج فيها إلى ست: الرأي، والتوفيق، والفرصة، والأعوان، والأدب، والاجتهاد، وهن أزواج؛ فالرأي والأدب زوج، لا يكمل الأدب إلا بالرأي، ولا يكمل الرأي بغير الأدب.
والأعوان والفرصة زوج؛ لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة، ولا تنفع الفرصة إلا بحضور الأعوان، والتوفيق والاجتهاد زوج، فالاجتهاد سبب التوفيق؛ وبالتوفيق ينجح الاجتهاد.
يسلم العاقل من عظام الذنوب والعيوب بالقناعة ومحاسبة النفس.
لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يجد إنجازه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف العجز عنه.
وهو يسخي نفسه عما يغبط به القوالون خروجا من عيب التكذيب، ويسخي نفسه عما ينال به السائلون سلامته من مذلة المسألة، ويسخي نفسه عن فرح الرجاء خوف الإكداء، ويسخي نفسه عن محمدة المواعد براءة من مذمة الخلف، ويسخي نفسه عن مراتب المقدمين ما يرى من فضائح المقصرين.
لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجده من لذة دنياه. وليس من العقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها.
حاز الخير رجلان سعيد ومرجو: فالسعيد الفالج، والمرجو من لم يخصم، والفالج الصالح ما دام في قيد الحياة، وتعرض الفتن في مخاصمة الخصماء من الأهواء والأعداء.
السعيد يرغبه الله في الآخرة؛ حتى يقول لا شيء غيرها، فإذا هضم دنياه وزهد فيها لآخرته، لم يحرمه الله بذلك نصيبه من الدنيا، ولم ينقصه من سروره فيها، والشقي يرغبه الشيطان في الدنيا حتى يقول: لا شيء غيرها، فيعجل الله له التنغيص في الدنيا التي آثر، مع الخزي الذي يلقى بعدها.
الرجال أربعة: جواد، وبخيل، ومسرف، ومقتصد؛ فالجواد الذي يوجه نصيب آخرته ونصيب دنياه جميعا في أمر آخرته.
والبخيل الذي لا يعطي واحدة منهما نصيبها، والمسرف الذي يجمعهما لدنياه، والمقتصد الذي يلحق بكل واحدة منهما نصيبها.
أغنى الناس أكثرهم إحسانا.
قال رجل لحكيم: ما خير ما يؤتى المرء؟ قال: غريزة عقل.
قال: فإن لم تكن، قال: فتعلم علم، قال: فإن حرمه، قال: صدق اللسان، قال: فإن حرمه، قال: سكت طويل، قال: فإن حرمه، قال: ميتة عاجلة.
من أشد عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه؛ فإنه من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسن غيره ، ومن خفي عليه عيب نفسه، ومحاسن غيره لم يقلع عن عيبه الذي لا يعرف، ولن ينال محاسن غيره التي لا يبصرها أبدا. «خمول الذكر أجمل من الذكر الذميم لا يوجد الفخور محمودا، ولا الغضوب مسرورا ولا الحر حريصا ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا ولا الملول ذا إخوان».
خصال يسر بها الجاهل كلها كائن عليه وبالا، منها: أن يفخر من العلم والمروءة بما ليس عنده، ومنها: أن يرى بالأخيار من الاستهانة والجفوة ما يشمته بهم.
ومنها: أن يناقل عالما وديعا منصفا له في القول، فيشتد صوت ذلك الجاهل عليه، ثم يفلجه نظراؤه من الجهال حوله بشدة الصوت وكثرة الضحك.
ومنها: أن تفرط منه الكلمة، أو الفعلة المعجبة للقوم فيذكر بها، ومنها: أن يكون مجلسه في المحفل، أو عند السلطان فوق مجالس أهل الفضل عليه.
من الدليل على سخافة المتكلم أن يكون ما يرى من ضحكه ليس على حسب ما عنده من القول، أو يجاذب الرجل الكلام، وهو يكلم صاحبه ليكون هو المتكلم، أو يتمنى أن يكون صاحبه قد فرغ وأنصت له، فإذا أنصت له لم يحسن الكلام.
فضل العلم في غير الدين مهلكة، وكثرة الأدب في غير رضوان الله ومنفعة الأخيار قائد إلى النار.
والحفظ الذكي الواعي بغير العلم النافع مضر بالعمل الصالح، والعقل غير الوازع عن الذنوب خازن للشيطان.
لا يؤمننك شر الجاهل قرابة، ولا جوار ولا إلف؛ فإن أخوف ما يكون الإنسان لحريق النار أقرب ما يكون منها، وكذلك الجاهل إن جاورك أنصبك وإن ناسبك جنى عليك، وإن ألفك حمل عليك ما لا تطيق، وإن عاشرك آذاك وأخافك مع أنه عند الجوع سبع ضار، وعند الشبع ملك فظ، وعند الموافقة في الدين قائد إلى جهنم، فأنت بالهرب منه أحق منك بالهرب من سم الأساود والحريق المخوف، والدين الفادح والداء العياء.
كان يقال: قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك عدوك، وتذل نفسك ويرغب عنك ناصرك، ومثل ذلك مثل العود المنصوب في الشمس إن أملته قليلا زاد ظله، وإن جاوزت الحد في إمالته نقص الظل.
الحازم لا يأمن عدوه على كل حال، إن كان بعيدا لم يأمن من معاودته، وإن كان قريبا لم يأمن مواثبته؛ فإن رآه متكشفا لم يأمن استطراده وكمينه، وإن رآه وحيدا لم يأمن مكره.
الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة، كما يزداد البحر بمواده من الأنهار.
الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتكرار النظر وبتحصين الأسرار.
إن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأيا، فهو يزداد برأيه رأيا، كما تزداد النار بالودك ضوءا، وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى، والرفق به في تبصير خطأ إن أتى به وتقليب الرأي، فيما شكا فيه حتى تستقيم لهما مشاورتهما.
لا يطمعن ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخب في كثرة الصديق، ولا السيئ الأدب في الشرف، ولا الشحيح في المحمدة، ولا الحريص في الإخوان، ولا الملك المعجب بثبات الملك.
صرعة اللين أشد استئصالا من صرعة المكابرة.
أربعة أشياء لا يستقل منها قليل: النار والمرض والعدو والدين.
أحق الناس بالتوقير الملك الحليم العالم بالأمور وفرص الأعمال، ومواضع الشدة واللين، والغضب والرضا، والمعاجلة والأناة، الناظر في الأمر يومه وغده، وعواقب أعماله.
السبب الذي يدرك به العاجز حاجته، هو الذي يحول بين الحازم وبين طلبته.
إن أهل العقل والكرم يبتغون إلى كل معروف وصلة وسبيلا، والمودة بين الأخيار سريع اتصالها بطيء انقطاعها، ومثل ذلك مثل كوب الذهب الذي هو بطيء الانكسار هين الإصلاح، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بطيء اتصالها، كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث، ثم لا يوصل له أبدا.
والكريم يمنح الرجل مودته عن لقاءة واحدة أو معرفة يوم، واللئيم لا يصل أحدا إلا عن رغبة أو رهبة، وإن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما، ذات النفس وذات اليد، فأما المتبادلون ذات اليد فهم المتعاونون المستمتعون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض متاجرة، ومكايلة.
ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال، ولا يظهر المروءة إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا بالمال ، ومن لا إخوان له فلا أهل له، ومن لا أولاد له فلا ذكر له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة، ومن لا مال له فلا شيء له، والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلايا، ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن ذهب عقله واستنكر حفظه وفهمه، ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا له، فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنا، وأساء به الظن، من كان يظن به حسنا؛ فإن أذنب غيره أظنوه، وإن كان للتهمة وسوء الظن موضعا. وليس خلة هي للغني مدح، إلا هي للفقير عيب.
فإن كان شجاعا سمي أهوج، وإن كان جوادا سمي مفسدا، وإن كان حليما سمي ضعيفا، وإن كان وقورا سمي بليدا، وإن كان لسنا سمي مهذارا، وإن كان صموتا سمي عييا.
وكان يقال: من ابتلي بمرض في جسده لا يفارقه أو بفراق الأحبة والإخوان أو بالغربة، حيث لا يعرف مبيتا ولا ميلا ولا يرجو إيابا، أو بفاقة تضطره إلى المسألة، فالحياة له موت، والموت له راحة.
وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره، فلا يزال صاحب الدنيا يتقلب في بلية وتعب؛ لأنه لا يزال بخلة الحرص والشره.
وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره.
وأفضل البر الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل إليه. وليس في الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل غم فقدهم.
لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل؛ كالمريض الذي قد علم دواء نفسه، فإذا هو لم يتداو به لم يغنه علمه ، والرجل ذو المروءة قد يكرم على غير مال، كالأسد الذي يهاب وإن كان عقيرا، والرجل الذي لا مروءة له يهان، وإن كثر ماله، كالكلب الذي يهون على الناس، وإن طوق وخلخل.
ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلا؛ فإنك إذا فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك، كما يطلب الماء السيل إلى الحدور. «وقيل في أشياء ليس لها ثبات ولا بقاء: ظل الغمام، وخلة الأشرار وعشق النساء، والنبأ الكاذب والمال الكثير.
وليس يفرح العاقل بالمال الكثير ولا يحزنه قلته، ولكن ماله عقله، وما قدم من صالح عمله.»
إن أولى الناس بفضل السرور وكرم العيش، وحسن الثناء من لا يبرح رحله من إخوانه وأصدقائه من الصالحين موطوءا، ولا يزال عنده منهم زحام يسرهم ويسرونه، ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم؛ فإن الكريم إذا عثر لم يستقلل إلا بالكرام، كالفيل إذا وحل لم تستخرجه إلا الفيلة.
لا يرى العاقل معروفا صنعه، وإن كثر كثيرا. ولو خاطر بنفسه وعرضها في وجوه المعروف لم ير ذلك عيبا، بل يعلم أنه إنما أخطر الفاني بالباقي، واشترى العظيم بالصغير.
وأغبط الناس عند ذوي العقول، أكثرهم سائلا منجحا، ومستجيرا آمنا.
لا تعد غنيا من لم يشارك في ماله، ولا تعد نعيما ما كان فيه تنغيص وسوء ثناء.
ولا تعد الغنم غنما إذا ساق غرما، ولا الغرم غرما إذا ساق غنما، ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة.
ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ببثه، وإذا فرق بين الأليف وإلفه، فقد سلب قراره وحرم سروره.
وقال: ما نرانا نخلف عقبة من البلاء إلا صرنا في أخرى، لقد صدق القائل الذي يقول: لا يزال الرجل مستمرا حتى يعثر، فإذا عثر مرة واحدة في أرض الخبار لج به العثار وإن مشى في جدد؛ لأن هذا الإنسان موكل به البلاء، فلا يزال في تصرف وتقلب لا يدوم له شيء ولا يثبت معه، كما لا يدوم لطالع النجوم طلوعه، ولا لآفلها أفوله ، ولكنها في تقلب وتعاقب، فلا يزال الطالع يكون آفلا والآفل طالعا انتهي.
الدرة اليتيمة لابن المقفع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على نبينا محمد وآله الطاهرين، قال عبد الله بن المقفع: وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجسادا وأوفر مع أجسادهم أحلاما، وأشد قوة وأحسن بقوتهم للأمور إتقانا وأطول أعمارا، وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارا، فكان صاحب الدين منهم أبلغ في أمر الدين علما وعملا من صاحب الدين منا، وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل.
ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم، حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكتب الباقية، وكفونا به مؤنة التجارب، والفطن، وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم، والكلمة من الصواب، وهو بالبلد غير المأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده، فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده، الرحيم بهم، الذي يجمع لهم الأموال والعقد إرادة ألا تكون عليهم مؤنة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا، فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم.
وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم، فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع، غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتخل في آرائهم، والمنتقى من أحاديثهم ولم نجدهم غادروا شيئا يجد واصف بليغ في صفة له مقالا لم يسبقوه إليه، لا في تعظيم لله - عز وجل - وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم وتقسيم أقسامها، وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها وتبيين مآخذها، ولا في وجوه الأدب وضروب الأخلاق، فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم، ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.
يا طالب الأدب اعرف الأصول والفصول؛ فإن كثيرا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول، فلا يكون دركهم دركا، ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول، وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل، فهو أفضل.
فأصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر وتؤدي الفريضة، فالزم ذلك لزوم من لا غناء به عنه طرفة عين، ومن يعلم أنه إن حرمه هلك، ثم إن قدرت أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضل وأكمل.
وأصل الأمر في إصلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافا، وإن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد ومضاره والانتفاع بذلك، فهو أفضل.
وأصل الأمر في البأس ألا تحدث نفسك بالإدبار، وأصحابك مقبلون على عدوهم، ثم إن قدرت أن تكون أول حامل، وآخر منصرف من غير تضييع للحذر، فهو أفضل.
وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق عن أهلها، ثم إن قدرت أن تزيد ذا الحق على حقه، وتطول على من لا حق له؛ فافعل فهو أفضل.
وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط بالتحفظ، ثم إن قدرت على بارع الصواب، فهو أفضل.
وأصل الأمر في المعيشة ألا تني عن طلب الحلال، وأن تحسن التقدير لما تفيد وما تنفق، ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها؛ فإن أعظم الناس في الدنيا خطرا أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إلى التقدير من السوقة؛ لأن السوقة قد يعيش بغير مال، والملوك لا قوام لهم إلا بالمال، ثم إن قدرت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بالمطالب؛ فهو أفضل.
وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة، والأمور الغامضة التي لو حنكتك سن كنت خليقا أن تعلمها، وإن لم تخبر عنها، ولكن أحببت أن أقدم إليك فيها قولا لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادة مساويها؛ فإن الإنسان قد تبتدر إليه في شبيبته المساوي، وقد يغلب عليه ما يبدر إليه منها.
إن ابتليت بالإمارة فتعوذ بالعلماء، واعلم أن من العجب أن يبتلى الرجل بها فيريد أن ينتقص من ساعات نصبه وعمله، فيزيدها في ساعات دعته وشهوته، وإنما الرأي له والحق عليه أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه، فإذا تقلدت شيئا من الأعمال فكن فيه أحد رجلين، إما رجلا مغتبطا به فحافظ عليه مخافة أن يزول عنه، وإما رجلا كارها فالكاره عامل في سخرة، إما للملوك أن كانوا هم سلطوه، وإما لله أن كان ليس فوقه غيره.
إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثلمة من الثلم يتقحمون عليك منها، وبابا يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منها.
اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده؛ فإن الراد له محمود والقابل له معيب.
لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضا ربك، ورضا سلطان، أن كان فوقك، ورضا صالح من تلي عليه، وما عليك أن تلهى عن المال والذكر، فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب، واجعل الخصال الثلاث بمكان ما لا بد لك منه، والمال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بدا.
اعرف أهل الدين والمروءة في كل كورة وقرية وقبيلة؛ فيكونوا هم إخوانك وأعوانك وبطانتك وثقاتك، ولا يقذفن في روعك، أنك إن استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك؛ فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكن تريده للانتفاع به. ولو أنك مع ذلك أردت الذكر كان أحسن الذكرين، وأفضلها عند أهل الفضل أن يقال لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي.
إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتفق لك رأي المختلفين؟! وما حاجتك إلى رضا من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل؛ فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤنة ما سواه.
لا تمكن أهل البلاء من التذلل، ولا تمكن من سواهم من الاجتراء عليهم، والعيب لهم .
لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها.
احرص الحرص كله على أن تكون خبيرا بأمور عمالك؛ فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك.
ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك، أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب؛ فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
عود نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسن والمروءة؛ لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه، أو يستخف له شأن.
لا تتركن مباشرة جميع أمرك؛ فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير؛ فيصير الكبير ضائعا.
اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم، وأن مالك لا يغني الناس كلهم فاختص به ذوي الحقوق، وأن كرامتك لا تطيق العامة فتوخ بها أهل الفضائل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك، وإن دأبت فيهما، وأنه ليس لك إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة، فأحسن قسمتهما بين دعتك وعملك.
واعلم أنك ما شغلت من رأيك بغير المهم أزرى للمهم، وما صرفت من مالك بالباطل فقدته، حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضر بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.
اعلم أن من الناس ناسا كثيرا يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب، أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وسوء المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك، ثم يبلغ به الرضا إذا رضي أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن أعطاه، ويكرم من لا حق له ولا مودة، فاحذر هذا الباب كله؛ فإنه ليس أحد أسوأ حالا من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم وسرعة رضاهم؛ فإنه لو وصف بصفة من يتلبس بعقله، أو يتخبطه المس من يعاقب في غضبه غير من أغضبه، ويحبو عند رضاه غير من أرضاه؛ لكان جائزا في صفته.
اعلم أن الملك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى، فأما ملك الدين؛ فإنه إذا أقيم لأهله دينهم. وكان دينهم هو الذي يعطيهم ما لهم، ويلحق بهم الذي عليهم؛ أرضاهم ذلك، ونزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم، وأما ملك الحزم؛ فإنه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والتسخط.
ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر.
إذا كان سلطانك عند جدة دولة فرأيت أمرا استقام بغير رأي، وأعوانا جزوا بغير نيل، وعملا أنجح بغير حزم، فلا يغرنك ذلك فلا تستنم إليه؛ فإن الأمر الجديد مما تكون له مهابة في أنفس أقوام وحلاوة في أنفس آخرين، فيعين قوم بأنفسهم ويعين قوم بما قبلهم، ويستتب بذلك الأمر غير طويل، ثم تصير الشئون إلى حقائقها وأصولها، فما كان من الأمر بني على غير أركان وثيقة، ولا عماد محكم أوشك أن يتداعى ويتصدع.
لا تكونن نزر الكلام والسلام، ولا تفرطن بالهشاشة والبشاشة؛ فإن إحداهما من الكبر، والأخرى من السخف.
إذا كنت لا تضبط أمرك، ولا تصول على عدوك إلا بقوم لست منهم على ثقة من رأي ولا حفاظ من نية، فلا تنفعك نافعة حتى تحولهم إن استطعت إلى الرأي والأدب الذي بمثله تكون الثقة، أو تستبدل بهم إن لم تستطع نقلهم إلى ما تريد ولا تغرنك قوتك بهم، وإنما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه، وهو لمركبه أهيب.
ليس للملك أن يغضب؛ لأن القدرة من وراء حاجته. وليس له أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد. وليس له أن يبخل؛ لأنه أقل الناس عذرا في تخوف الفقر. وليس له أن يكون حقودا؛ لأن خطره قد عظم عن مجازاة كل الناس ، وليتق أن يكون حلافا، فأحق الناس باتقاء الأيمان الملوك؛ فإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخلال: إما مهانة يجدها في نفسه، وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه، وإما عي بالكلام حتى يجعل الأيمان له حشوا ووصلا، وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل منه قوله إلا بعد جهد اليمين، وإما عبث في القول أو إرسال اللسان على غير روية ولا تقدير.
لا عيب على الملك في تعيشه وتنعمه، إذا تعهد الجسيم من أمره، وفوض ما دون ذلك إلى الكفاة.
كل الناس حقيق حين ينظر في أمر الناس أن يتهم نظره بعين الريبة، وقلبه بعين المقت؛ فإنهما يريان الجور ويحملان على الباطل ويقبحان الحسن ويحسنان القبيح، وأحق الناس باتهام عين الريبة، وعين المقت، الملك الذي ما وقع في قلبه ربا مع ما يقيض له من تزيين القرناء والوزراء، وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل، الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمرا نافذا غير مردود.
ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد، ونسيان الود، فليكابد نقض قولهم، وليبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يوصفون بها.
ليتفقد الوالي فيما يتفقد من أمور الرعية فاقة الأحرار منهم، فليعمل في سدها، وطغيان السفلة منهم فليقمعه. وليستوحش من الكريم الجائع، واللئيم الشبعان؛ فإنما يصول الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
لا يحسدن الوالي من دونه؛ فإنه في ذلك أقل عذرا من السوقة التي إنما تحسد من فوقها، وكل لا عذر له.
لا يلومن الوالي على الزلة من ليس بمتهم على الحرص على رضاه إلا لوم أدب وتقويم، ولا يعدلن بالمجتهد في رضاه البصير بما يأتي أحدا فإنهما إذا اجتمعا في الوزير أو الصاحب نام الوالي واستراح، وجلبت إليه حاجاته وإن هدأ عنها، وعمل فيما يهمه وإن غفل.
لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيبا موفورا، يروح به عن قلبه، ويصدر به أعماله.
لا يضيعن الوالي التثبت عندما يقول، وعندما يعطي وعندما يفعل؛ فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه، وكل الناس محتاج إلى التثبت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع. وليس عليهم مستحث.
ليعلم الوالي أن الناس على رأيه إلا من لا بال له منهم، فليكن للبر والمروءة عنده نفاق، فيكسد بذلك الجور والدناءة في آفاق الأرض.
جماع ما يحتاج إليه الوالي رأيان: رأي يقوي سلطانه، ورأي يزينه في الناس، ورأي القوة أحقهما بالبداءة وأولاهما بالأثرة، ورأي التزيين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعوانا، مع أن القوة من الزينة والزينة من القوة، لكن الأمر ينسب إلى أعظمه.
إن شغلت بصحبة الملوك، فعليك بطول الرابطة في غير معاتبة، ولا يحدثن لك الاستئناس غفلة، ولا تهاونا.
إذا رأيت أحدهم يجعلك أخا فاجعله أبا، ثم إن زادك فزده.
إذا نزلت من ذي منزلة أو سلطان، فلا ترين أن سلطانه زادك له توقيرا وإجلالا من غير أن يزيدك ودا ولا نصحا، وأنك ترى حقا له التوقير والإجلال، وكن في مداراته والرفق به كالمؤتنف ما قبله، ولا تقدر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه؛ فإن الأخلاق مستحيلة مع الملك، وربما رأينا الرجل المدل على ذي السلطان بقدمه، قد أضر به قدمه.
لا تعتذرن إلا من يحب أن يجد لك عذرا، لا تستعينن إلا بمن يحب أن يظفر لك بحاجتك.
لا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنما ما لم يغلبك الاضطرار.
إذا غرست من المعروف غرسا، وأنفقت عليه نفقة، فلا تضنن بالنفقة في تربية ما غرست فتذهب النفقة الأولى ضياعا.
إذا اعتذر إليك معتذر فتلقه بوجه مشرق وبشر طليق، إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة.
اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا: زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة في المعاش والمعاد، فلا تفرطن في اكتسابهم وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم .
اعلم أنك واجد رغبتك من الإخاء عند أقوام، قد حالت بينك وبينهم بعض الأبهة التي قد تعتري أهل المروات، فتحجز منهم كثيرا ممن يرغب في أمثالهم، فإذا رأيت أحدا من أولئك قد عثر به الزمان فأقله.
إذا عرفت نفسك من الوالي بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثرن من الدعاء له في كل كلمة؛ فإن ذلك شبيه بالوحشة والغربة إلا أن تكلمه على رءوس الناس، فلا تأل عما عظمه ووقره.
إن استطعت ألا تصحب من صحبت من الولاة إلا على شعبة من قرابة أو مودة فافعل؛ فإن أخطأك ذلك فاعلم أنك تعمل على عمل السخرة، وإن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك منهم بصالح مروءتك قبل ولايته فافعل.
إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه، غير أن الأرذال والأنذال هم أشد لذلك تصنعا، وعليه مكابرة وفيه تمحلا، فلا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطى عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنع.
لا يعرفنك الولاة بالهوى في بلدة من البلدان، ولا قبيلة من القبائل فيوشك أن تحتاج فيها إلى حكاية أو مشاهدة فتتهم في ذلك، وإذا أردت أن يقبل قولك فصحح رأيك ولا تشوبنه بشيء من الهوى؛ فإن الرأي يقبله منك العدو، والهوى يرده عليك الولي، وأحق من احترست من أن يظن بك خلط الرأي بالهوى الولاة؛ فإنها خديعة وخيانة وكفر.
إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعية، فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس بينهما خيار، إما ميلك مع الوالي على الرعية، وهذا هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك إلا بالموت أو الهرب، واعلم أنه لا ينبغي لك وإن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحبله إلا المحافظة عليه، إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلا.
تبصر ما في الوالي من الأخلاق التي تحب والتي تكره، وما هو عليه من الرأي الذي يرضى له والذي لا يرضى، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحب ويكره إلى ما تحب وتكره؛ فإن هذه رياضة صعبة تحمل على التنائي والقلى.
اعلم أنك قلما تقدر على رد رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة والمناقضة، وإن لم يجمح عن السلطة، ولكنك تقدر أن تعينه على أحسن رأيه، وتسبب له منه وتقويه فيه، فإذا قويت منه المحاسن كانت هي التي تكنه عن المساوي، وإذا استحكمت منه ناحية من الصواب، كان ذلك هو الذي يبصره الخطأ بألطف من تبصيرك، وأعدل من حكمك في نفسه؛ فإن الصواب يريد بعضه بعضا ويدعو بعضه إلى بعض، فإذا كانت له مكانة اقتلع الخطأ فاحفظ هذا الباب وأحكمه، ولا يكونن طلبك ما عند الوالي بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما قبله بالاستحقاق له واستأن وإن طالت الأناة؛ فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له.
لا تخبرن الوالي أن لك عليه حقا، وأنك تعتد عليه ببلاء، وإن استطعت أن ينسى حقك وبلاءك فافعل، وليكن ما تذكره من ذلك تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره أول بلائك.
واعلم أن ولي الأمر إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول، وأن الكثير من أولئك أرحامهم مقطوعة وحبالهم مصرومة.
إلا عمن رضوا عنه وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم.
إياك أن يقع في قلبك تعتب على الوالي أو استزادة له؛ فإنه إن آنست أن يقع في قلبك بدا في وجهك إن كنت حليما، وبدا على لسانك إن كنت سفيها، وإن لم يزد ذلك على أن يظهر في وجهك لآمن الناس عندك، فلا تأمنن أن يظهر ذلك للوالي؛ فإن الناس إليه بعورات الإخوان سراع، فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبه هو أسرع إلى التعتب والتعزز من قلبك؛ فمحق ذلك حسناتك الماضية، وأشرف بك على الهلاك وصرت تعرف أمرك مستدبرا، وتلتمس مرضاته مستصعبا.
اعلم أن أكثر الناس عدوا مجاهرا حاضرا جريئا واشيا وزير السلطان ذو المكانة عنده؛ لأنه منفوس عليه بما ينفس على صاحب السلطان، ومحسود كما يحسد غيره، غير أنه يجترأ عليه، ولا يجترئ على ذلك؛ لأن من محاسديه أحباء السلطان الذين يشاركونه في المداخل والمنازل، وهم وغيرهم من عدوه الذين هم حضاره، ليسوا كعدو من فوقه النائي عنه المتكتم منه، وهم لا ينقطع طمعهم من الظفر به، فلا يغفلون عن نصب الحبائل، فاعرف هذه الحال، والبس لهؤلاء القوم الذين هم أعداؤك سلاح الصحة والاستقامة ولزوم الحجة، فيما تسر وتعلن، ثم روح من قلبك كأنه لا عدو لك ولا حاسد، وإن ذكرك ذاكر عند ولي الأمر بسوء في وجهك أو في غيبك، فلا يرين منك الولي ولا غيره اختلاطا لذلك ولا اغتياظا، ولا يقعن ذلك موقع ما يكرثك؛ فإنه إن وقع منك ذلك الموقع أدخل عليك أمورا مشتبهة بالريب، مذكرة لما قال فيك العائب، وإن اضطرك الأمر في ذلك إلى الجواب، فإياك وجواب الغضب والانتقام، وعليك بجواب الحجة في حلم ووقار، ولا تشكن في أن القوة والغلبة للحلم أبدا.
لا تحضرن عند الوالي كلاما لا يعني، ولا يؤمر بحضوره إلا لعناية به، أو يكون جوابا بالشيء سئلت عنه، ولا تعدن شتم الوالي شتما ولا إغلاظه إغلاظا؛ فإن ريح العز قد تبسط اللسان بألفاظ في غير سخط ولا بأس.
جانب المسخوط عليه والظنين به عند الولاة، ولا يجمعنك وإياه مجلس، ولا تظهرن له عذرا ولا تثنين عليه خيرا عند أحد من الناس، فإذا رأيته قد بلغ من الإعتاب مما سخط عليه فيه ما ترجو أن يلين له الوالي، واستيقنت أن الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه وشدتك عليه؛ فضع عذره عند الوالي، واعمل في إرضائه عنه في رفق ولطف.
ليعلم الوالي أنك لا تستنكف عن خدمته، ولا تدع مع ذلك أن تقدم إليه القول عند بعض حالات رضاه وطيب نفسه في الاستعفاء من الأعمال التي يكرهها ذو الدين وذو العرض وذو المروءة من ولاية القتل والعذاب، وأشباه ذلك.
إذا أصبت الجاه والخاصة عند الملك، فلا يحدثن لك ذلك تغيرا على أحد من أهله وأعوانه، ولا استغناء عنهم؛ فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذل لهم فيها، وفي تلون الحال عند ذلك من العار ما فيه.
ليكن مما تحكم من أمرك ألا تسار أحدا من الناس، ولا تهمس إليه بشيء تخفيه عن السلطان؛ فإن السرار مما يخيل إلى كل من رآه أنه المراد به، فيكون ذلك في نفسه حسيكة ووغرا وثقلا.
لا تتهاونن بإرسال الكذبة عند الوالي أو غيره في الهزل؛ فإنها تسرع في رد الحق وإبطال الصدق، مما تأتي به.
تنكب فيما بينك وبين الوالي خلقا، قد عرفناه في بعض الأعوان والأصحاب في ادعاء الرجل عندما يظهر من صاحبه من حسن أثر أو صواب رأي، أنه هو عمل في ذلك، أو أشار به وإقراره بذلك إذا مدحه مادح، بل وإن استطعت أن يعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن أنك تدعي صوابه، وتسند ذلك إليه وتزينه فافعل؛ فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثر مما أنت معط بأضعاف.
إذا سأل الوالي غيرك، فلا تكونن أنت المجيب عنه؛ فإن استلابك الكلام خفة بك واستخفاف منك بالمسئول والسائل، وما أنت قائل إذا قال لك السائل: ما إياك سألت أو قال لك المسئول عند المسألة يعاد له بها دونك فأجب؟! وإذا لم ينصب السائل في المسألة لرجل واحد وعم بها جماعة من عنده، فلا تبادر بالجواب ولا تسابق الجلساء ولا تواثب الكلام مواثبة؛ فإن في ذلك مع شين التكلف والخفة، أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصماء فيتعقبونه بالعيب والطعن، وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخليته للقوم اعترضت أقاويلهم على عينك ثم تدبرتها وفكرت فيما عندك، ثم هيأت من تفكيرك ومحاسن ما سمعت جوابا رضيا، واستدبرت به أقاويلهم حتى تصيخ إليك الأسماع ويهدأ عنك الخصوم، وإن لم يبلغك الكلام حتى يكتفى بغيرك، أو ينقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكون من العيب عندك، ولا من الغبن في نفسك فوت ما فاتك من الجواب؛ فإن صيانة القول خير من سوء وضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خير من مائة كلمة أمثالها في غير فرصها ومواضعها، مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل وسوء التقدير، وإن ظن صاحبه أن قد أتقن وأحكم.
واعلم أن هذه الأمور لا تنال إلا برحب الذرع، عند ما قيل وما لم يقل، وقلة الإعظام لما ظهر من المروءة أو لم يظهر، وسخاوة النفس عن كثير من الصواب مخافة الخلاف والعجلة والحسد والمراء.
إذا كلمك الوالي فأصغ إلى كلامه، ولا تشغل طرفك عنه بنظر ولا أطرافك بعمل، ولا قلبك بحديث نفسك، واحذر هذا من نفسك، وتعهد ما فيه.
ارفق بنظرائك من وزراء السلطان ودخلائه، واتخذهم إخوانا ولا تتخذهم أعداء ولا تنافسهم في الكلمة يتقربون بها، والعمل يؤمرون به؛ فإنما أنت في ذلك أحد رجلين، إما أن يكون عندك فضل على ما عند غيرك فسوف يبدو ذلك، ويحتاج إليه ويلتمس منك وأنت مجمل، وإما أن يكون ذلك عندك فما أنت مصيب من حاجتك عندهم بمقاربتك وملاينتك، وما أنت واجد في موافقتك إياهم، ولينك لهم من موافقتهم إياك ولينهم لك، أفضل مما أنت مدركه بالمنافسة والمناظرة.
لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي ثقة باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك؛ فإنا قد رأينا الناس يعرفون فضل الرجل وينقادون له ويتعلمون منه وهم أخلياء، فإذا حضروا ذا السلطان لم يرض أحد منهم أن يقر له، وأن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل فاجترءوا عليه بالخلاف والنقض؛ فإن ناقضهم كان كأحدهم. وليس بواجد في كل حين سامعا فهما وقاضيا عدلا، وإن ترك مناقضتهم صار مغلوب الرأي مردود القول.
إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك، أو هوى يكون له فيك، فلا تطمحن كل الطماح، ولا تزينن لك نفسك المزايلة له عن أليفه، وموضع ثقته وسره قبلك بأن تقتلعه وتدخل دونه؛ فإن هذه خلة من خلال السفه، قد يبتلى بها الحلماء عند الدنو من ذي السلطان، حتى يحدث الرجل منهم نفسه أن يكون دون الأهل والولد لفضل يظنه في نفسه أو نقص يظنه بغيره، ولكل رجل من الملوك، أو ذي هيئة من السوقة أليف وأنيس، قد عرف روحه واطلع على قلبه، فليست عليه مؤنة في تبذل يتبذل له عنده، أو رأي يستنزله منه أو سر يفشيه إليه، غير أن تلك الأنسة وذلك التبذل، يستخرج من كل واحد منهما ما لم يكن ليظهر منه عند الانقباض والتشدد. ولو التمس ملتمس مثل ذلك عند من يستأنف ملاطفته ومؤانسته، إن كان ذا فضل من الرأي والعلم، لم يجد عنده مثل ما هو منتفع به ممن هو دون ذلك في الرأي ممن قد كفي مؤانسته، ووقع على طباعه؛ لأن الأنسة روح القلب والوحشة روع عليه، ولا يلتاط القلوب إلا ما لان عليها، ومن استقبل تأسيس الوحشة استقبل أمرا ذا مؤنة، فإذا كلفتك نفسك السمو إلى منزلة من وصفت فاقدعها عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس، وإذا حدثتك نفسك أو غيرك، ممن لعله يكون له فضل في المروءة: أنك أولى بالمنزلة عند الكبير من بعض دخلائه وثقاته؛ فاذكر الذي عليه من حق أليفه وثقته وأنيسه في التكرمة، والذي يعينه على ذلك من الرأي أنه يجد عنده من الإلف والأنس ما ليس واجدا عند غيره، فليكن هذا مما تتحفظ فيه على نفسك، وتعرف فيه عذر الرجل ورأيه، والرأي فيه لنفسك في مثل ذلك، إن أرادك مريد على الدخول دون أنيسك وأليفك وموضع ثقتك وجدك وهزلك.
اعلم أنه تكاد تكون لكل رجل غالبة حديث: إما عن بلد من البلدان، أو ضرب من ضروب العلم، أو صنف من صنوف الناس، أو وجه من وجوه الرأي وعندما يغرم به الرجل من ذلك يبدو منه السخف، ويعرف منه الهوى، فاجتنب ذلك في كل موطن، ثم عند أولي الأمر خاصة.
لا تشكون إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطلعت عليه من رأي تكرهه له؛ فإنك لا تزيد على أن تفطنهم لميله وتغريهم بتزيين ذلك له، والميل عليك معه.
اعلم أن الرجل ذا الجاه عند الوالي والخاصة، لا محالة أنه يرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناس والأمور، فإذا آثر أن يكره كل ما يخالفه، أو يمتعض من الجفوة يراها في المجلس، أو النبوة في الحاجة، أو الرد للرأي، أو الإدناء لمن لا يهوى إدناءه، والإقصاء لمن يكره إقصاءه، فإذا وقعت في قلبه الكراهية تغير لذلك وجهه ورأيه وكلامه، حتى يبدو ذلك للوالي وغيره. وكان ذلك لفساد منزلته سببا، فذلل نفسك باحتمال ما خالفك من رأي الولاة وقررها بأنهم إنما كانوا أولياءك، لتتبعهم في آرائهم وأهوائهم، ولا تكلفهم اتباعك وتغضب من خلافهم إياك.
اعلم أن الملوك يقبلون من وزرائهم التبخيل، ويعدونه منهم شفقة ونظرا، ويحمدونهم عليه وإن كانوا أجوادا؛ فإن كنت مبخلا غششت صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك عنده، فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها، والتماس المخرج فيما تترك من تبخيل صاحبك، بأن لا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلا إلى شيء من هواك، ولا طلبا لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه.
لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك، وعلى ألا تكتمهم سرك، ولا تستطلع ما كتموه وتخفي ما أطلعوك عليه من الناس كلهم، حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطف لحاجاتهم، والتثبيت لحجتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا وترك الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر لمساويهم، والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا، والمباعدة لمن باعدوا وإن كانوا أقرباء، والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا به، والحفظ له وإن ضيعوه، والذكر له وإن نسوه، والتخفيف عنهم لمؤنتك، والاحتمال لهم كل مؤنة، والرضا عنهم بالعفو، وقلة الرضا من نفسك لهم بالمجهود؛ فإن وجدت عنهم وعن صحبتهم غنى، فأغن عن ذلك نفسك واعتزله جهدك؛ فإن من يأخذ عملهم يحول بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومن لا يأخذ بحقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة.
إنك لا تأمن أنفهم إن أعلمتهم، ولا عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبهم إن صدقتهم، ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم إن لزمتهم لم تأمن تبرمهم بك، وإن زايلتهم لم تأمن عقابهم.
إنك إن تستأمرهم حملت المؤنة عليهم، وإن قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم، إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك، وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق؛ فإن كنت حافظا إن بلوك، جلدا إن قربوك، أمينا إن ائتمنوك، تشكرهم ولا تكلفهم الشكر، بصيرا بأهوائهم، مؤثرا لمنافعهم، ذليلا إن ظلموك، راضيا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر كل الحذر.
باب الصديق
ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك، واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد.
إن سمعت من صاحبك كلاما أو رأيا يعجبك، فلا تنتحله تزينا به عند الناس واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته وتنسبه إلى صاحبه.
واعلم أن انتحالك ذاك سخطة لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عارا؛ فإن بلغ ذلك بك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه وهو يسمع، جمعت مع الظلم قلة الحياء، وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس، ومن تمام حسن الخلق والأدب أن تسخو نفسك لأخيك، بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه وتزينه مع ذلك ما استطعت.
لا يكونن من خلقك أن تبتدئ حديثا ثم تقطعه، وتقول: سوف، كأنك روأت فيه بعد ابتدائه، وليكن ترويك فيه قبل التفوه؛ فإن احتجان الحديث بعد افتتاحه سخف.
اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع؛ فإنه ليس في كل حين يحسن كل الصواب، وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع؛ فإن أخطأك ذلك أدخلت المحنة على علمك، حتى تأتي به إن أتيت به في غير موضعه، وهو لا بهاء ولا طلاوة له.
لتعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول.
إن آثرت أن تفاخر أحدا ممن تستأنس إليه في لهو الحديث، فاجعل غاية ذلك الجد ولا تعدون أن تتكلم فيه بما كان هزلا، فإذا بلغ الجد أو قاربه فدعه ولا تخلطن بالجد هزلا، ولا بالهزل جدا؛ فإنك إن خلطت بالجد هزلا هجنته، وإن خلطت بالهزل جدا كدرته، غير أني قد علمت موطنا واحدا إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي، وظهرت على الأقران، وذلك أن يتوردك متورد بالسفه والغضب، فتجيبه إجابة الهازل المداعب، برحب من الذرع، وطلاقة من الوجه، وثبات من المنطق.
إن رأيت صاحبك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك؛ فإنما هو أحد رجلين إن كان رجلا من إخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك؛ لشر يكفه عنك، وعورة يسترها منك، وغائبة يطلع عليها لك، فأما صديقك فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك، وإن كان رجلا من غير خاصة إخوانك، فبأي حق تقطعه عن الناس وتكلفه ألا يصاحب ولا يجالس إلا من تهوى؟!
تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفسا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي مدارة؛ لئلا يظن أصحابك أن ما بك التطاول عليهم.
إذا أقبل إليك مقبل بوده فسرك ألا يدبر عنك، فلا تنعم الإقبال عليه والتفتح له؛ فإن الإنسان طبع على ضرائب لؤم، فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به، ويلصق بمن رحل عنه.
لا تكثرن ادعاء العلم في كل ما يعرض؛ فإنك من ذلك بين فضيحتين:
إما أن ينازعوك فيما ادعيت فيهجم منك على الجهالة والضلف.
وإما ألا ينازعوك، ويخلوا الأمور في يديك فينكشف منك التصنع والمعجزة.
استحي الحياء كله من أن تخبر صاحبك أنك عالم، وأنه جاهل مصرحا أو معرضا، وإن استطلت على الأكفاء، فلا تثقن منهم بالصفاء.
إن آنست من نفسك فضلا فتحرج أن تذكره أو تبديه، فاعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك في قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل ، واعلم أنك إن صبرت ولم تعجل، ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف، ولا يخفين عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده وقلة وقاره في ذلك باب من البخل واللؤم، وأن من خير الأعوان على ذلك السخاء والتكرم.
إن أحببت أن تلبس ثوب الوقار والجمال، وتتحلى بحلية المودة عند العامة وتسلك الجدد الذي لا خبار فيه ولا عثار، فكن عالما كجاهل وناطقا كعيي، فأما العلم فيرشدك، وأما قلة ادعائه فينفي عنك الحسد، وأما المنطق إذا احتجت إليه فسيبلغ حاجتك، وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار.
وإذا رأيت رجلا يحدث حديثا قد علمته، أو يخبر خبرا قد سمعته، فلا تشاركه فيه ولا تتعقبه عليه، حرصا على أن يعلم الناس أنك قد علمته؛ فإن في ذلك خفة وشحا، وسوء أدب وسخفا.
ليعرف إخوانك والعامة: أنك إن استطعت أن تكون إلى أن تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل فعلت؛ فإن فضل القول على الفعل عار وهجنة، وفضل الفعل على القول زينة، وأنت حقيق فيما وعدت من نفسك، أو أخبرت صاحبك عنه أن تحتجن بعض ما في نفسك إعدادا لفضل الفعل على القول، وتحرزا بذلك عن تقصير فعل إن قصر، وقلما يكون إلا مقصرا.
احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضا؛ وذلك أن العدو خصم تضربه بالحجة وتغلبه بالحكام، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاض؛ فإنما حكمه رضاه.
اجعل عامة تشبثك في مؤاخاة من تؤاخي ومواصلة من تواصل، ووطن نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك، وإن ظهر لك منه ما تكره؛ فإنه ليس كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك؛ فإنما مروءة الرجل إخوانه وأخدانه؛ فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلا من إخوانك، وإن كنت معذرا نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والملال، وإن أنت صبرت مع ذلك على مقارته على غير الرضا، عاد ذلك إلى العيب والنقيصة، فالاتئاد الاتئاد والتثبت التثبت .
إذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائك؛ فإن كان من إخوان الدين، فليكن فقيها ليس بمراء ولا حريص، وإن كان من إخوان الدنيا، فليكن حرا ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير ولا مشنوع؛ فإن الجاهل أهل لأن يهرب منه أبواه، وإن الكذاب لا يكون أخا صادقا؛ لأن الكذب الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذب قلبه، وإنما سمي الصديق من الصدق، وقد يتهم صدق القلب وإن صدق اللسان، فكيف إذا ظهر الكذب على اللسان؟! وإن الشرير يكسبك العدو، ولا حاجة لك في صداقة تجلب العداوة، وإن المشنوع شانع صاحبه.
تحرز من سكر السلطة، وسكر العلم، وسكر المنزلة، وسكر الشباب؛ فإنه ليس من هذا شيء إلا وهو ريح جنة، تسلب العقل وتذهب الوقار وتصرف القلب والسمع والبصر واللسان عن المنافع.
اعلم أن انقباضك عن الناس يكسبك العداوة، وأن تفرشك لهم يكسبك صديق السوء، وفسولة الأصدقاء أضر من بغض الأعداء؛ فإنك إن واصلت صديق السوء أعيتك جرائره، وإن قطعته شانك اسم القطيعة، وألزمك ذلك من يرفع عيبك، ولا ينشر عذرك، فإن المعايب تنمي، والمعاذير لا تنمي.
البس للناس لباسين ليس للعاقل بد منهما، ولا عيش ولا مروءة إلا بهما: لباس انقباض واحتجاز تلبسه للعامة، فلا تلفين إلا متحفظا متشددا متحرزا مستعدا، ولباس انبساط واستئناس تلبسه للخاصة من الثقات، فتتلقاهم ببنات صدرك، وتفضي إليهم بموضوع حديثك، وتضع عنك مؤنة الحذر والتحفظ فيما بينك وبينهم، وأهل هذه الطبقة الذين هم أهلها قليل؛ لأن ذا الرأي لا يدخل أحدا من نفسه هذا المدخل، إلا بعد الاختبار والسبر والثقة بصدق النصيحة ووفاء العقل.
اعلم أن لسانك أداة مغلبة، يتغالب عليه عقلك وغضبك وهواك وجهلك، فكل غالب عليه مستمتع به وصارفه في محبته، فإذا غلب عليه عقلك فهو لك، وإذا غلب عليه شيء من أشباه ما سميت لك فهو لعدوك؛ فإن استطعت أن تحتفظ به، فلا يكون إلا لك ولا يستولي عليه أو يشاركك عدوك فيه، فافعل.
إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية، فاعلم أنك قد ابتليت معه، إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار، فالتمس المخرج عند اشتباه ذلك وآثر مروتك على ما سواها؛ فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسك مشاركة أخيك فيها فأجمل، فلعل الإجمال يسعك لقلته في الناس.
إذا أصاب أخاك فضل؛ فإنه ليس في دنوك منه، وابتغائك مودته وتواضعك له مذلة، فاغتنم ذلك واعمل فيه.
إذا كانت لك عند أحد صنيعة، أو كان لك عليه طول، فالتمس إحياء ذلك بإماتته وتعظيمه بالتصغير له، ولا تقتصرن في قلة المن على أن تقول لا أذكره، ولا أصغي بسمعي إلى من يذكره؛ فإن هذا قد يستحيي منه بعض من لا يوصف بعقل ولا كرم، ولكن احذر أن يكون في مجالستك إياه وما تكلمه به، أو تستعينه عليه أو تجاريه فيه شيء من الاستطالة؛ فإن الاستطالة تهدم الصنيعة، وتكدر المعروف.
احترس من سورة الغضب وسورة الحمية، وسورة الحقد وسورة الجهل، وأعدد لكل شيء من ذلك عدة تجاهده بها من الحلم والتفكر والروية، وذكر العاقبة وطلب الفضيلة.
واعلم أنك لا تصيب الغلبة، إلا بالجهاد، وأن قلة الإعداد لموافقة الطبائع المتطلعة هو الاستسلام، وأنه ليس أحد إلا فيه من كل طبيعة سوء غريزة، وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء.
فأما أن يسلم أحد من أن تكون فيه تلك الغرائز، فليس في ذلك مطمع إلا أن الرجل القوي إذا كابرها بالقمع لها كلها كلما تطلعت؛ لم يلبث أن يميتها حتى كأنها ليست فيه، وهي في ذلك كامنة كمون النار في العود، فإذا وجدت قادحا من غير علة أو غفلة استورت، كما تستوري عند القدح، ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها، كما لا تبدأ النار إلا بعودها التي كانت فيه.
ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء؛ فإن ذلك ما لا يكاد يخطئك؛ فإن الصبر صبران: صبر الرجل على ما يكره، وصبره عما يحب، فالصبر على المكروه أكثرهما، وأشبههما أن يكون صاحبه مضطرا.
واعلم أن اللئام أصبر أجسادا ، والكرام أصبر نفوسا. وليس الصبر الممدوح بأن يكون جلد الرجل وقاحا، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل؛ فإنما هذا من صفات الحمير، ولكن أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضر متجملا، ولنفسه عند الرأي والحفاظ مرتبطا، وللحزم مؤثرا، وللهوى تاركا، وللمشقة التي يرجو عاقبتها مستخفا، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظبا، ولبصره بعزمه منفذا.
حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه، ويكون هو لهوك ولذتك وسلوتك وبلغتك، واعلم أن العلم علمان: علم للمنافع، وعلم لتزكية العقل، وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحرض عليه علم المنافع، وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها وجلاؤها فضيلة منزلة عند أهل الفضل في الألباب.
عود نفسك السخاء، واعلم أنهما سخاءان؛ سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس، وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما وأقربهما من أن تدخل فيه المفاخرة، وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم وأنزه من الدنس، فإن هو جمعهما فبذل وعف، فقد استكمل الجود والكرم.
ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسودا؛ فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه يوكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكفاء والخلطاء، فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون، حين تكون مع من هو خير منك، وأن غنما لك أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم، فتقتبس من علمه وأفضل منك في القوة، فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال، فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجتك بجاهه، وأفضل منك في الدين، فتزداد صلاحا بصلاحه.
ليكن مما تنظر فيه من أمر عدوك وحاسدك: أن تعلم أنه لا ينفعك أن تخبر عدوك أنك له عدو، فتنذره نفسك وتؤذنه بحربك قبل الإعداد والفرصة، فتحمله على التسلح لك، وتوقد ناره عليك.
اعلم أن أعظم خطرك أن تري عدوك أنك لا تتخذه عدوا؛ فإن ذلك غرة له وسبيل لك إلى القدرة عليه؛ فإن أنت قدرت فاستطعت اغتفارا لعداوته عن أن تكافئ بها، فهنالك استكملت عظيم الخطر، وإن كنت مكافئا بالعداوة والضرر، فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة؛ فإن ذلك هو الظلم والعار.
واعلم، مع ذلك، أنه ليس كل العداوة والضرر يكافأ بمثله، كالخيانة لا تكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة، ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه وتؤاخي إخوانه فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتجافي؛ فإنه ليس رجل ذو طرق يمتنع من مؤاخاتك إذا التمست ذلك منه، وإن كان إخوان عدوك غير ذوي طرق، فلا عدو لك.
لا تدع مع السكوت عن شتم عدوك إحصاء معايبه ومثالبه واتباع عوراته، حتى لا يشذ عنك من ذلك صغير ولا كبير من غير أن تشيع عليه فيتقيك به، ويستعد له أو تذكره في غير موضعه، فتكون كمستعرض الهواء بنبله قبل إمكان الرمي.
لا تتخذ اللعن والشتم على عدوك سلاحا؛ فإنه لا يجرح في نفس ولا في مال، ولا دين ولا منزلة.
إن أردت أن تكون داهيا، فلا تحبن أن تسمى داهيا؛ فإنه من عرف بالدهاء خاتل علانية، وحذره الناس حتى يمتنع منه الضعيف، وإن من إرب الأريب دفن إربه ما استطاع، حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة، والاستقامة في الطريقة ومن إربه ألا يؤارب العاقل المستقيم الطريقة الذي يطلع على غامض إربه، فيمقته عليه.
إن أردت السلامة فأشعر قلبك الهيبة للأمور من غير أن تظهر منك الهيبة، فيفطن الناس لهيبتك ويجرئهم عليك، ويدعو ذلك إليك منهم، كلما تهاب فاشعب لمداراة ذلك، من كتمان المهابة وإظهار الجراءة والتهاون، طائفة من رأيك، وإن ابتليت بمجازاة عدو محالف، فالزم هذه الطريقة التي وصفت لك؛ من استشعار الهيبة وإظهار الجراءة والتهاون، وعليك بالحذر في أمرك، والجراءة في قلبك حتى تملأ قلبك جراءة، ويستفرغ عملك الحذر.
إن من عدوك من تعمل في هلاكه، ومنهم من تعمل في البعد عنه، فاعرفهم على منازلهم، ومن أقوى القوة لك على عدوك، وأعز أنصارك في الغلبة، أن تحصي على نفسك العيوب والعورات، كلما أحصيتها على عدوك، وتنظر عند كل عيب تراه، أو تسمعه لأحد من الناس، هل قارفت مثله أو مشاكله؟ فإن كنت قارفت منه شيئا، فأحصه فيما تحصي على نفسك، حتى إذا أحصيت ذلك كله، فكابر عدوك بإصلاح عيوبك، وتحصين عوراتك وإحراز مقاتلك، وخذ نفسك بذلك ممسيا مصبحا، فإذا آنست منها دفعا لذلك، أو تهاونا به، فاعدد نفسك عاجزا ضائعا جانيا معورا لعدوك ممكنا له من رميك، وإن حصل من عيوبك بعض ما لا تقدر على إصلاحه من أمر قد مضى يعيبك عند الناس، ولا تراه أنت عيبا فاحفظ ذلك، وما عسى أن يقول فيه قائل من حسبك أو مثالب آبائك أو عيب إخوانك، ثم اجعل ذلك كله نصب عينيك، واعلم أن عدوك مريدك بذلك، فلا تغفل عن التهيؤ له، والإعداد لقوتك وحجتك وحيلتك فيه سرا وعلانية، فأما الباطل فلا تروعن به قلبك، ولا تستعدن له ولا تشتغلن به؛ فإنه لا يهولك ما لم يقع، وإذا وقع اضمحل.
اعلم أنه قلما بده أحد بشيء يعرفه من نفسه، وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس فيعيره به معير عند السلطان أو غيره، إلا كاد يشهد به عليه وجهه وعيناه ولسانه، للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتوره عند تلك البداهة، فاحذر هذه وتصنع لها وخد أهبتك لبغتاتها.
اعلم أن من أوقع الأمور في الدين وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال وأضرها بالعقل وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار؛ الغرام بالنساء، ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفك يأجم ما عنده وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
وإنما النساء أشباه وما يرى في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده، أفضل مما تتوق إليه نفسه، وإنما المترغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس، كالمترغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس، بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلا وتفاوتا، مما في رحالهم من النساء.
ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس في لبه، يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال، حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك عن أمثالها، ولا يزال مشغوفا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأنا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء.
ومن لم يحم نفسه ويظلفها ويجلها عن الطعام والشراب والنساء في بعض ساعات شهوته وقدرته؛ كان أيسر ما يصيبه من وبال أمره انقطاع تلك اللذات عنه، بخمود نار شهوته، وضعف عوامل جسده، وقل من تجد إلا مخادعا لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحمية والدواء، وفي أمر مروءته عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دينه عند الريبة، والشبهة والطمع.
إن استطعت أن تنزل نفسك دون غايتك في كل مجلس ومقام ومقال ورأي وفعل فافعل؛ فإن رفع الناس إياك فوق المنزلة التي تحط إليها نفسك، وتقريبهم إياك في المجلس الذي تباعدت عنه، وتعظيمهم من أمرك ما لم تعظم وتزيينهم من كلامك ورأيك ما لم تزين، هو الجمال.
لا يعجبنك العالم ما لم يكن عالما بمواضع ما يعلم، إن غلبت على الكلام وقتا، فلا تغلبن على السكوت؛ فإنه لعله يكون المراء، واعرفه، ولا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة والمجادلة، واعلم أن المماري هو الذي لا يحب أن يتعلم ولا يتعلم منه؛ فإن زعم زاعم أنه إنما يجادل في الباطل عن الحق؛ فإن المجادل - وإن كان ثابت الحجة ظاهر البينة - فإنه يخاصم إلى غير قاض وإنما قاضيه الذي لا يعدو بالخصومة إلا إليه عدل صاحبه وعقله؛ فإن آنس أو رجا من صاحبه عدلا يقضي به على نفسه فقد أصاب وجه أمره، وإن تكلم على غير ذلك كان مماريا.
إن استطعت ألا تخبر أخاك عن ذات نفسك بشيء إلا وأنت محتجن عنه بعض ذلك التماسا لفضل الفعل على القول، واستعدادا لتقصير فعل إن قصر فافعل، واعلم أن فضل الفعل على القول زينة، وفضل القول على الفعل هجنة، وأن إحكام هذه الخلة من غرائب الخلال.
إذا تراكمت الأعمال عليك، فلا تلتمس الروح في مدافعتها بالروغان منها؛ فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو يخففها، وإن الضجر منها هو يراكمها عليك، فتعهد من ذلك في نفسك خصلة قد رأيتها تعتري بعض أصحاب الأعمال: أن الرجل يكون في أمر من أمره فيرد عليه شغل آخر، ويأتيه شاغل من الناس بكره تأخيره، فيكدر ذلك بنفسه تكديرا يفسد ما كان فيه، وما ورد عليه حتى لا يحكم واحدا منهما؛ فإن ورد عليك مثل ذلك، فليكن معك رأيك الذي تختار به الأمور، ثم اختر أولى الأمرين بشغلك فاشتغل به حتى تفرغ منه، ولا يعظمن عليك فوت ما فات، وتأخير ما تأخر، إذا أعملت الرأي معمله، وجعلت شغلك في حقه.
اجعل لنفسك في كل شيء غاية ترجو القوة والتمام عليها، واعلم أنك إن جاوزت الغاية في العبادة صرت إلى التقصير، وإن جاوزتها في حمل العلم صرت من الجهال، وإن جاوزتها في تكلف رضا الناس والخفة معهم في حاجاتهم كنت المصنع المحشود.
اعلم أن بعض العطية لؤم، وبعض البيان عي، وبعض العلم جهل؛ فإن استطعت ألا يكون عطاؤك خورا، ولا بيانك هذرا، ولا علمك جهلا، فافعل.
اعلم أنه ستمر عليك أحاديث تعجبك، إما مليحة وإما رائعة، فإذا أعجبتك كنت خليقا بأن تحفظها؛ فإن الحفظ موكل بما راع، وستحرص على أن تعجب منها الأقوام، فإن الحرص على ذلك التعجب من شأن الناس. وليس كل معجب لك معجبا لغيرك، وإذا نشرت ذلك مرة أو مرتين، فلم تره وقع من السامعين موقعه منك فازدجر عن العود، فإن العجب من غير عجيب سخف شديد، وقد رأينا من الناس من يعلق الشيء، ولا يقلع عن الحديث به، ولا يمنعه قلة قبول أصحابه له من أن يعود، ثم يعود.
إياك والأخبار الرائعة وتحفظ منها ؛ فإن الإنسان من شأنه الحرص على الأخبار لا سيما ما راع منها، فأكثر الناس من يحدث بما سمع، ولا يبالي ممن سمع، وذلك مفسدة للصدق ومزراة بالرأي؛ فإن استطعت ألا تخبر بشيء، إلا وأنت به مصدق وألا يكون تصديقك إلا ببرهان، فافعل.
ولا تقل كما يقول السفهاء أخبر بما سمعت؛ فإن الكذب أكثر ما أنت سامع، وإن السفهاء أكثر من هو قائل، وإنك إن صرت للأحاديث واعيا وحاملا كان ما تعي وتحمل عن العامة أكثر مما يخترع المخترع بأضعاف.
انظر من صاحبت من الناس من ذي فضل عليك بسلطان ومنزلة، ومن دون ذلك من الخلصاء، والأكفاء والإخوان فوطن نفسك في صحبته على أن تقبل منه العفو، وتسخو نفسك عما اعتاص، مما قبله غير معاتب ولا مستبطئ ولا مستزيد؛ فإن المعاتبة مقطعة للود وإن الاستزادة من الجشع، وإن الرضا بالعفو والمسامحة في الخلق، مقرب لك كل ما تتوق إليه نفسك، مع بقاء العرض والمودة والمروءة.
اعلم أنك ستبتلى من أقوام بسفه، وأن سفه السفيه سيطلع لك منه؛ فإن عارضته أو كافأته بالسفه، فكأنك قد رضيت ما أتى به فاجتنب أن تحتذي مثاله؛ فإن كان ذلك عندك مذموما، فحقق ذمك إياه بترك معارضته، فأما أن تذمه وتمتثله، فليس ذلك لك.
لا تصاحبن أحدا وإن استأنست به أخا قرابة أو أخا مودة ولا والدا ولا ولدا إلا بمروة؛ فإن كثيرا من أهل المروة قد يحملهم الاسترسال، أو التبذل على أن يصحبوا كثيرا من الخلصاء بالإدلال والتهاون، ومن فقد من صاحبه صخبة المروة ووقارها أحدث له في قلبه رقة شأن وخفة منزلة.
لا تلتمس غلبة صاحبك والظفر عليه بكل كلمة ورأي، ولا تجترئن على تقريعه وتبكيته بظفرك إذا استبان، وحجتك إذا وضحت؛ فإن أقواما يحملهم حب الغلبة، وسفه الرأي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعد ما تنسى، فيلتمسوا فيها الحجة ثم يستطيلوا بها على الأصحاب، وذلك ضعف في العقل، ولؤم في الأخلاق.
لا يعجبنك إكرام من يكرمك لمنزلة أو سلطان؛ فإن السلطة أوشك أمور الدنيا زوالا، ولا يعجبنك إكرامهم إياك للنسب؛ فإن الأنساب أقل مناقب الخير غناء عن أهلها في الدين والدنيا، ولكن إذا أكرمت على دين أو مروءة فذلك فليعجبك؛ فإن المروءة لا تزايلك في الدنيا، والدين لا يزايلك في الآخرة.
اعلم أن الجبن مقتلة، وأن الحرص محرمة، فانظر فيما رأيت أو سمعت أمن قتل في القتال مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا؟
وانظر أمن يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو إليك نفسك بطلبته، أم من يطلب إليك بالشره؟
اعلم أنه ليس كل من كان لك فيه هوى، فذكره ذاكر بسوء وذكرته أنت بخير ينفعه ذلك أو يضره، فلا يستخفنك ذكر أحد من صديق أو عدو إلا في موطن دفع أو محاماة؛ فإن صديقك إذا وثق بك في مواطن المحاماة لم يحفل بما تركت مما سوى ذلك، ولم يكن له عليك سبيل لائمة، وإن الأحزم في أمر عدوك ألا تذكره، إلا حيث يضره وألا تعد يسير الضر ضرا.
اعلم أن الرجل قد يكون حليما، فيحمله الحرص على أن يقال جليد، والمخافة أن يقال مهين على أن يتكلف الجهل، وقد يكون الرجل زميتا، فيحمله الحرص على أن يقال لسن، والمخافة من أن يقال عيي، على أن يقول في غير موضعه فيكون هذرا، فاعرف هذا وأشباهه، واحترس منه كله.
إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه؛ فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى.
ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلمتك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك.
لا تجالس امرأ بغير طريقته؛ فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعي بالبيان؛ لم تزد على أن تضيع عقلك، وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف، وغمك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه، واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له، ونقضوه عليك، وحرصوا على أن يجعلوه جهلا، حتى إن كثيرا من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس، ليحضره من لا يعرفه فيثقل عليه ويغتم به.
ليعلم صاحبك أنك حدب على صاحبه، وإياك إن عاشرك امرؤ ورافقك ألا يرى منك بأحد من أصحابه وأخدانه رأفة؛ فإن ذلك يأخذ من القلوب مأخذا.
وإن لطفك بصاحب صاحبك أحسن عنده موقعا من لطفك به بنفسه.
اتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على المنطلق، ويشكر للمكتئب.
اعلم أنك ستسمع من جلسائك الرأي والحديث تنكره وتستجفيه من محدث عن نفسه أو عن غيره، فلا يكونن منك التكذيب ولا التسخيف لشيء مما يأتي به جليسك، ولا يجرئنك على ذلك أن تقول إنما حدث عن غيره؛ فإن كل مردود عليه سيمتعض من الرد، وإن كان في القوم من تكره أن يستقر في قلبه ذلك القول لخطأ تخاف أن يعقد عليه، أو مضرة تخشاها على أحد؛ فإنك قادر على أن تنقض ذلك في سر، فيكون أيسر للنقض وأبعد للبغضة.
واعلم أن البغضة خوف، والمودة أمن، فاستكثر من المودة صامتا؛ فإن الصمت يدعوها إليك، وناطقا بالحسنى؛ فإن المنطق الحسن يزيد في ود الصديق، ويسل سخيمة الوغر.
واعلم أن خفض الصوت، وسكون الريح، ومشي القصد من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بأو ولا عجب، أما العجب فهو من دواعي المقت والشنآن.
تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع: إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول.
واعلم أن المستشار ليس بكفيل، والرأي ليس بمضمون، بل الرأي كله غرر؛ لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة؛ ولأنه ليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز، بل ربما أعيا الحزمة ما أمكن العجزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأي، فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمل، فلا تجعل ذلك عليه لوما وعذلا تقول: أنت فعلت هذا بي، وأنت أمرتني ولولا أنت ولا جرم لا أطيعك؛ فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة ، وإن كنت أنت المشير، فعمل برأيك أو ترك فبدا صوابك، فلا تمنن ولا تكثرن ذكره، إن كان في نجاح، ولا تلم عليه إن كان استبان في تركه ضررا تقول: ألم أقل لك؟ ألم أفعل؟ فإن هذا مجانب لأدب الحكماء.
اعلم فيما تكلم به صاحبك أن مما يهجن صواب ما تأتي به، ويذهب بهجته ويزري بقبوله عجلتك في ذلك أن يفضي إليك بذات نفسه، ومن الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه والاعتراض فيه والقطع فيه، ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها: إذا حدث الرجل حديثا تعرفه ألا تسابقه إليه، وتفتحه عليه وتشاركه فيه، حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم من مثل الذي يعلم، وما عليك أن تهنئه بذلك وتفرده به؟! وهذا الباب من أبواب البخل وأبوابه الغامضة كثيرة.
وإذا كنت في قوم ليسوا بلغاء ولا فصحاء، فدع التطاول عليهم في البلاغة أو الفصاحة.
اعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك فيما تحذر، وأن شدة الاتقاء تدعو إليك ما تتقي.
إن رأيت نفسك تصاغرت إليها الدنيا، ودعتك إلى الزهادة فيها على حال تعذر منها عليك، فلا يغرنك ذلك من نفسك على تلك الحال؛ فإنها ليست بزهادة، ولكنها ضجر واستحذاء، وتغير نفس عندما أعجزك من الدنيا، وغضب منك عليها مما التوى عليك منها، ولو تممت على رفضها، وأمسكت عن طلبها أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع، أشد من ضجرك الأول بأضعاف، ولكن إذا دعتك نفسك إلى رفض الدنيا، وهي مقبلة عليك فأسرع إجابتها.
اعرف عورتك وإياك أن تعرض بأحد فيما شاركها، وإذا ذكرت من أحد خليقته، فلا تناضل عنه مناضلة المدافع عن نفسه فتتهم بمثلها، ولا تلح كل الإلحاح، وليكن ما كان منك من غير اختلاط؛ فإن الاختلاط من محققات الريب، وإذا كنت في جماعة قوم أبدا، فلا تعمن جيلا من الناس أو أمة بشتم ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك ولا تعلم، ولا تذمن مع ذلك اسما من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول: إن هذا لقبيح من الأسماء؛ فإنك لا تدري لعل ذلك موافق لبعض جلسائك في بعض أسماء الأهلين والحرم، ولا تستصغرن من هذا شيئا فكله يجرح في القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد.
اعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال، في التماس مثالبهم ومساويهم، وكل ذلك أبين عند سامعيه من وضح الصبح، فلا تكونن من ذلك في غرور، ولا تجعلن نفسك من أهله.
إني مخبرك عن صاحب كان أعظم الناس في عيني. وكان رأس ما أعظمه عندي صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد. وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا يدعو إليه مؤنة، ولا يستخف له رأيا ولا بدنا. وكان خارجا من سلطان الجهالة، فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة. وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بذ القائلين كان يرى مستضعفا، فإذا جاء الجد فهو الليث عاديا. وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء، ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضيا عدلا وشهودا عدولا. وكان لا يلوم أحدا على ما قد يكون العذر في مثله، حتى يعلم ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعا إلا إلى من يرجو عنده البرء ولا يصحب إلا من يرجو عنده النصيحة لهما جميعا. وكان لا يتبرم، ولا يتسخط، ولا يتشهى، ولا يتشكى، ولا ينتقم من الوالي، ولا يغفل عن العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه بحيلته وقوته، فعليك بهذه الأخلاق إن أطقت ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع، وبالله التوفيق.
يتيمة ثانية لابن المقفع
توطئة للناشر
وقعت شبهة لبعض أهل العلم، فيما إذا كانت هذه الرسالة المنشورة قبل هي اليتيمة بعينها أم هي يتيمة ثانية لابن المقفع، ويزول هذا التناقض إذا لوحظ ما قاله إمام المتكلمين أبو بكر الباقلاني البصري المتوفى سنة ثلاث وأربعمائة، فإنه ذكر في كتابه إعجاز القرآن: أن الدرة اليتيمة كتابان، أحدهما: يتضمن حكما منقولة، والآخر : في شيء من الديانات، غير أنه يبقى هناك إشكال في أنه ليس في إحدى الرسالتين ما يتعلق بالديانات كما قال الباقلاني، وإذا رضينا بالظن فنقول: إن هذا الاسم وضعه أناس لبعض رسائل ابن المقفع. ومن هنا نشأ الاشتباه فعددها الناظرون، ويبعد أن يقال: إن ابن المقفع سمى الرسالتين معا باسم واحد لمخالفته في الظاهر لمقتضى الحكمة. ولو قلنا: إنه سمى إحدى الرسائل فيبعد - مع قرب عصر الناقلين عنه - وقوع الاشتباه في المسمى مع شدة عنايتهم بجميع ما قال.
أما الرسالة الثانية فمنقولة عن كتاب المنثور والمنظوم والمحفوظ في دار الكتب المصرية، لمؤلفه أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور من أبناء خراسان، ولد - كما جاء في فهرسها - سنة 204ه، وتوفي سنة 280ه، وهاك ما أورده ولم نحذف منه إلا بعض جمل أشرنا إليها بحرف «ف»؛ لأنها محرفة جدا لم نهتد إلى وجه الصواب فيها، قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: ومن الرسائل المفردات اللواتي لا نظير لها ولا أشباه وهي أركان البلاغة، ومنها استقى البلغاء؛ لأنها نهاية في المختار من الكلام وحسن التأليف والنظام؛ الرسالة التي لابن المقفع، وهي اليتيمة؛ فإن الناس جميعا مجمعون أنه لم يعبر أحد عن مثلها، ولا تقدمها من الكلام شيء قبلها، ومن فصولها قوله في صدورها ولم نكتبها على تمامها لشهرتها وكثرتها في أيدي الرواة، فمن فصولها قوله في صدرها:
وقد أصبح الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولين منقوصين: فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الهزء والاستخفاف، ومستشيرهم غير موطن نفسه على إنفاذ ما يشار به عليه ومصطبر للحق مما يسمع، ومستشارهم غير مأمون على الغش والحسد، وأن يكون مهتاكا للستر، مشيعا للفاحشة، مؤثرا للهوى، والأمين منهم غير متحفظ من ائتمان الخونة، والصدوق غير محترس من حديث الكذبة، وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة، يتقارضون الثناء، ويترقبون الدول ويعيبون بالهمز، يكاد أحزمهم رأيا يلفته عن رأيه أدنى الرضا وأدنى السخط، ويكاد يكون أمتنهم عودا أن تسحره الكلمة وتنكره اللحظة.
وقد ابتليت أن أكون قائلا، وابتليتم أن تكونوا سامعين، ولا خير في القول إلا ما انتفع به، ولا ينتفع إلا بالصدق، ولا صدق إلا مع الرأي، ولا رأي إلا في موضعه وعند الحاجة إليه؛ فإن خير القائلين من لم يكن الباطل غايته ثم لزم القصد والصواب، وخير السامعين من لم يكن ذلك منه سمعة ولا رياء، ولم يتخذ ما يسمع عونا على دفع الهوى، ولا بلغة إلى حاجة دنيا؛ فإن اجتمع للقائل والسامع أن يرزق القائل من الناس مقة وقبولا على ما يقوله، ويرزق السامع اتعاظا بما يسمع في أمر دنياه، وقد صلحت نياتهما في غير ذلك، فعسى ذلك أن يكون من الخير الذي يبلغه الله عباده، ويعجل لهم من حسنة الدنيا ما لا يحرمهم من حسنة الآخرة، كما أن المريد بكلامه أن يعجب الناس قد يجتمع عليه حرمان ما طلب مع سوء النية وحمل الوزر، وقد وافقتم من مسارعة فيما سألتموني؛ فإن طمعا في أن ينفع الله بذلك من يشاء فإنه ما يشاء يقع.
أما سؤالكم عن الزمان فإن الزمان الناس، والناس رجلان وال ومولى عليه، والأزمنة أربعة على اختلاف حالات الناس:
الزمان الأول:
فخيار الأزمنة ما اجتمع فيه صلاح الراعي والرعية، فكان الإمام مؤديا إلى الرعية حقهم في الرد عنهم، والغيظ على عدوهم، والجهاد من وراء بيضتهم، والاختيار لحكامهم، وتولية صلحائهم، والتوسعة عليهم في معايشهم، وإفاضة الأمن فيهم، والمتابعة في الخلق لهم، والعدل في القسمة بينهم، والتقويم لأودهم، والأخذ لهم بحقوق الله عز وجل عليهم. وكانت الرعية مؤدية إلى الإمام حقه في المودة والمناصحة والمخالطة، وترك المنازعة في أمره، والصبر عند مكروه طاعته، والمعونة على أنفسهم، والشدة على من أخل بحقه وخالف أمره، غير مؤثرين في ذلك آباءهم ولا أبناءهم ولا لابسين عليه أحدا، فإذا اجتمع ذلك في الإمام والرعية تم صلاح الزمان، وبنعمة الله تتم الصالحات.
الزمان الثاني:
ثم إن الزمان الذي يليه أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس ، ولا قوة بالإمام مع خذلان الرعية، ومخالفتهم وزهدهم في صلاح أنفسهم، على أن يبلغ ذات نفسه في صلاحهم، وذلك أعظم ما تكون نعمة الله على الوالي وحجة الله على الرعية بواليهم، فبالحري أن يؤخذوا بأعمالهم، وما أخلقهم أن تصيبهم فتنة وعذاب أليم.
والزمان الثالث:
صلاح الناس وفساد الوالي، وهذا دون الذي قبله؛ فإن لولاة الناس يدا في الخير والشر ومكانا ليس لأحد، وقد عرفناه فيما يعتبر به: أن ألف رجل كلهم مفسد وأميرهم مصلح، أقل فسادا من ألف رجل كلهم مصلح وأميرهم مفسد، والوالي إلى أن يصلح أدبه الرعية أقرب من الرعية إلى أن يصلح الله بهم الوالي؛ وذلك لأنهم لا يستطيعون معاتبته وتقويمه مع استطالته بالسلطان والحمية التي تعلوه، وشر الزمان ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية «ف» فقولي في هذا الزمان أنه إلا يكن خير الأزمان، فليس على واليكم ذنب وألا يكن شر الأزمان فليس لكم حمد، ذلك غير أنا - بحمد الله - قد أصبحنا نرجو لأنفسنا الصلاح بصلاح إمامنا، ولا نخاف عليه الفساد بفسادنا، قد رأينا حظه من الله - عز وجل - في التثبت والعصمة، فلم يبرح الله يزيده خيرا ويزيد به رعيته مذ ولاه، فعندنا من هذا وثائق من عبر وبينات ونحتسب من الله، عز وجل، ألا يزال إمامنا يسارع في مرضاة ربه بالاستصلاح لرعيته، والصبر على ما يستنكر منهم، وقلة المؤاخذة لهم بذنوبهم، حتى يقلب الله له بصلاحه قلوبهم، ويفتح له أسماعهم وأبصارهم، فيجمع ألفتهم، ويقوم أودهم، ويلزمهم مراشد أمورهم، وتتم نعمة الله على أمير المؤمنين بأن يصلح له وعلى يديه فيكونوا رعية خير راع ويكون راعي خير رعية - إن شاء الله - وبه الثقة.
والذي يحمد من أمير المؤمنين أنا ذاكرنا ما تيسر منه «ف»، وقلما نلقى من أهل العقل والمعاينة منكرا لنعمة الله بأمير المؤمنين على المسلمين «ف»، ومن أشد جهلا وأقطع عذرا ممن لم يعرف النعمة، ولم يقبل العافية - نعوذ بالله أن نكون من الذين لا يعقلون - فتفهموا ما أنا ذاكر لكم وتدبروه بالحق والعدل ؛ فإن المرء ناظر بإحدى عيون ثلاث، وهما الغاشتان والصادقة، وهي التي لا تكاد توجد، عين مودة تريه القبيح حسنا، وعين شنآن تريه الحسن قبيحا، وعين عدل تريه حسنها حسنا وقبيحها قبيحا، فتفكروا فيما جمع الله لأمير المؤمنين في معدنه وفي سيرته، وفيما ظاهر عليكم من النعمة والحق والحجة بذلك، فيما عسى القائل أن يبتغي فيه المغمز والمقال، فلعمري إن الشيطان من أهواء الناس وألسنتهم في الأمر لمصيب، وإن له لمستراحا حين يستوفي أمنيته ويصدق عليهم ظنه، ويوحي إليهم بمكايده، فيجعل الله كيده ضعيفا وحزبه مغلوبا، وجعله وإياهم نصيبا لجهنم من أجزائه المقسومة لأبوابها وحطبها ووقودها وحصبها ليعدلها.
فمن كان سائلا عن حق أمير المؤمنين في معدنه؛ فإن أعظم حقوق الناس منزلة وأكرمها نسبة، وأولاها بالفضل حق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نبي الرحمة، وإمام الهدى ووارث الكتاب والنبوة والمهيمن عليهما، وخاتم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بعثه الله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ثم هو باعثه يوم القيامة مقاما محمودا، شرع الله به دينه، وأتم به نوره على عهده، ومحق به رءوس الضلالة، وجبابرة الكفر وخوله الشفاعة، وجعله في الرفيق الأعلى
صلى الله عليه وسلم .
حكم لابن المقفع
إليك رسالة أخرى من كلام ابن المقفع، محفوظة في دار الكتب المصرية بالقاهرة، كتبها علي بن أبي أحمد الحلبي (سنة 448ه). وقال في أولها: إنها كتاب الأدب، وذكر أنها كتبت برسم خزانة المقر الأشرف الكريم العالي الجمالي ناظر الخواص الشريفة بالممالك الإسلامية - عظم الله شأنه وصانه عما شانه.
قال عبد الله بن المقفع - رحمه الله تعالى:
عمل البر خير صاحب، أحق ما صان الرجل أمر دينه، الآلف للدنيا مغتر، من ألزم نفسه ذكر الآخرة اشتغل بالعمل، المغبون من طلب ثواب الآخرة في الدنيا، القلب أسرع تقلبا من الطرف. أحسن العفو ما كان عن عظيم الجرم، الاعتراف يؤدي إلى التوبة، الإصرار وعاء للذنوب، الجواد من بذل ما يضن به، المتكلف لما لا يعنيه متعرض لما يكره، الفكر مفتاح القلب، الاستماع أسلم من القول، كمون الحقود، ككمون النار في العود، أكرم الأخلاق التواضع، التواضع يورث المحبة، الكبر مقرون به سوء الظن، من عذب لسانه كثر إخوانه، من استبعد الآخرة ركن إلى الدنيا، سرور الدنيا كأحلام النائم، المغبون من طلب الدنيا بعمل الآخرة، المصيبة العظمى الرزية في الدين، سرور الدنيا مخوف المغبة، من أهلك نفسه في مرضاة غيره عظمت جنايته، أنفع الكنوز العمل الصالح، أحق الناس بالبر أعلمهم بالعاقبة، من أبصر العاقبة فآثرها أمن الندامة، الوالي من وزرائه بمنزلة الرأس في أعضائه، من عرف ثمار الأعمال كان حقيقا ألا يغرس مرا، أهن دنيا بائدة تستكمل كرامة، أبقى الجروح مضضا جرح الآثام، ائت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك، استصغر المشقة إذا أدت إلى منفعة، رأس البر الورع، اطلب الرحمة بالرحمة، خير الأعمال ما دبر بالتقوى، بالحزم يتم الظفر، من أحب التزكية تعرض للضحكة، الدنيا نوم نائم، والدولة حلم حالم، من سالم الناس ربح السلامة، ومن تعدى عليهم كسب الندامة، بادر لعمل الخير إذا أمكنك، من حصن سره أمن ضرر ذلك، الدنيا قد تدرك بالجهل كما تدرك بالعقل، أحسن العمل الصالح ما كان بصدق النية، خسر من أنفق حياته في غير حقها، طوبى لمن ترك دنياه لآخرته، من الحق على السلطان رفع ذي الفضيلة وأن يسد فاقته، لا تحمد نفسك على ما تركت من الذنوب عجزا، بالرسول يعرف قدر المرسل، رفق الرسول يلين القلب الصعب، لا رأي لمن انفرد برأيه، من ترك رأي ذي النصيحة اتباعا لما يهوى استوخم العاقبة، المشاورة أوثق ظهير، المستشار مؤتمن، اعتبر عقل الوالي بإصابته موضع أصحابه، من صحب السلطان لم يزل مروعا، كثرة أعوان السوء مضرة بالعمل «بالحزم يتم الظفر»، بإجالة الرأي تظفر بالحزم، استوجب الطاعة من ذوي الرأي بالمودة، الصنيعة عند الكفور لا تثمر إلا مرا، الملك الحازم من استمسك برأي الحزمة من ذوي الرأي، لا صلاح لرعية واليها فاسد، خير مستفاد الهدى، أكثر محادثة من يصدقك عن عيوبك، حلية الملوك وزراؤهم، أكمل النصحاء من لم يكتم صاحبه نصيحة وإن استقلها، فساد الوالي أضر بالرعية من جدب الزمان، استعن بالصمت على إطفاء الغضب، لا تجنين على نفسك عداوة وبغضة اتكالا على ما عندك من العمل والقوة والمنعة، كن في الحرص على معرفة عيبك بمنزلة عدوك في معرفة ذلك، البصير من عرف ضره من نفعه «التواضع يورث المحبة، أكرم الأخلاق التواضع، الكبر مقرون به سوء الظن»، ربما تحولت البغضاء مودة والمودة بغضاء، قرب الصالحين داع للصلاح «أحسن العفو ما كان عن عظيم الجرم» المال عون قوي على المروءة، وإنفاقه مهلكة المروءة، من عدم ماله أنكره أهله.
خير الملوك من يرى أنه لا يضبط ملكه إلا بالعدل بين رعيته، وأضيعهم الفظ المتهاون، لا يغتر الأقوياء بفضل قوتهم على الضعفاء، الضعيف المحترس من العداوة أقرب إلى السلامة من القوي المغتر، أخوف الأحقاد أحقاد الملوك، أبصر الوزراء من بصر صاحبا عيبه بالأمثال، من قل كلامه حمد عقله، من عرف قدره قل إفراطه، أحسن والدولة لك يحسن إليك والدولة عليك «كمون الحقود ككمون النار في العود» من حرم العقل رزئ دنياه وآخرته، آفة العقل العجب، الهم مرض العقل، احذر صولة اللئيم إذا أشبع، أحسن المدح أصدقه، الإحسان يقطع اللسان.
رسالة ابن المقفع في الصحابة
أما بعد ... أصلح الله أمير المؤمنين وأتم عليه النعمة وألبسه المعافاة والرحمة، فإن أمير المؤمنين - حفظه الله - يجمع مع علمه المسألة والاستماع، كما كان ولاة الشر يجمعون مع جهلهم العجب والاستغناء، ويستوثق لنفسه بالحجة ويتخذها على رعيته، فيما يلطف له من الفحص عن أمورهم، كما كان أولئك يكتفون بالدعة، ويرضون بدحوض الحجة وانقطاع العذر في الامتناع أن يجترئ عليهم أحد برأي أو خبر مع تسليط الديان، وقد عصم الله أمير المؤمنين - حين أهلك عدوه وشفى غليله، ومكن له في الأرض وآتاه ملكه وخزائنها - من أن يشغل نفسه بالتمتع والتفتيش والتأثل والإخلاد، وأن يرضى ممن آوى بالمتاع به وقضاء حاجة النفس منه، وأكرم الله أمير المؤمنين باستهانة ذلك واستصغاره إياه، وذلك من أبين علامات السعادة، وأنجح الأعوان على الخير، وقد قص الله - عز وجل - علينا من نبأ يوسف بن يعقوب أنه لما تمت نعمة الله عليه، وآتاه الملك وعلمه من تأويل الأحاديث، وجمع له شمله، وأقر عينه بأبويه وإخوته أثنى على الله - عز وجل - بنعمته ثم سلا عما كان فيه، وعرف أن الموت وما بعده هو أولى فقال:
توفني مسلما وألحقني بالصالحين (يوسف: 101).
وفي الذي قد عرفنا من طريقة أمير المؤمنين ما يشجع ذا الرأي على تناوله بالخبرة، فيما ظن أنه لم يبلغه إياه غيره، وبالتذكير بما قد انتهى إليه، ولا يزيد صاحب الرأي على أن يكون مخبرا أو مذكرا، وكل عند أمير المؤمنين مقبول إن شاء الله مع أن مما يزيد ذوي الألباب نشاطا إعمال ذوي الرأي فيما يصلح الله به الأمة في يومها، أو غابر دهرها الذي أصبحوا قد طمعوا فيه، ولعل ذلك أن يكون على يدي أمير المؤمنين؛ فإن مع الطمع الجد ومع اليأس القنوط، وقلما ضعف الرجاء إلا ذهب الرخاء، وطلب المؤيس عجز، وطلب الطامع حزم، ولم ندرك الناس نحن وآباؤنا، إلا وهم يرون فيها خلا لا يقطع الرأي ويمسك بالأفواه، من حال وال لم يهمه الإصلاح أو أهمه ذلك، ولم يثق فيه بفضل رأي، أو كان ذا رأي ليس مع رأيه صول بصرامة أو حزم، أو كان ذلك استئثارا منه على الناس بنشب، أو قلة تقدم لما يجمع أو يقسم، أو حال أعوان ينيل بهم، الولاة ليسوا على الخير بأعوان. وليس له إلى اقتلاعهم سبيل لمكانهم من الأمر، ومخافة الدول والفساد إن واجههم، أو انتقص ما في أيديهم، أو حال رعية متزرة ليس لها من أمرها النصف في نفسها؛ فإن أخذت بالشدة حميت، وإن أخذت باللين طغت، وكل هذه الخلائق قد طهر الله منها أمير المؤمنين، فآتاه الله ما آتاه في نيته ومقدرته وعزمه ثم لم يزل يرى ذلك منه الناس، حتى عرفه منه جهالهم فضلا عن علمائهم.
وصنع الله لأمير المؤمنين ألطف الصنع في اقتلاع من كان يشركه في أمره على غير طريقته ورأيه، حتى أراحه الله وأمنه منهم، بما جعلوا من الحجة والسبيل على أنفسهم، وما قوى الله عليه أمير المؤمنين في رأيه واتباعه مرضاته، وأذل الله لأمير المؤمنين رعيته بما جمع له من اللين والعفو؛ فإن لان لأحد منهم، ففي الإثخان له، شهيد على أن ذلك ليس بضعف ولا مصانعة، وإن اشتد على أحد منهم، ففي العفو شهيد على أن ذلك ليس بعنف ولا خرق، مع أمور سوى ذلك يكف عن ذكرها كراهة أن يكون كأنا نصبنا المدح، فما أخلق هذه الأشياء أن تكون عتادا لكل جسيم من الخير في الدنيا والآخرة واليوم والغد والخاصة والعامة، وما أرجانا لأن يكون أمير المؤمنين بما أصلح الله الأمة من بعده أشد اهتماما من بعض الولاة بما لا يصلح رعيته في سلطانه، وما أشد ما قد استبان لنا أن أمير المؤمنين أطول بأمر الأمة عناية، ولها نظرا وتقديرا من الرجل منا بخاصة أهله، ففي دون هذا ما يثبت الأمل وينشط للعمل - ولا قوة إلا بالله، ولله الحمد وعلى الله التمام.
فمن الأمور التي يذكر بها أمير المؤمنين - أمتع الله به - أمر هذا الجند من أهل خراسان؛ فإنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام، وفيهم منعة بها يتم فضلهم، إن شاء الله، أما هم: فأهل بصر بالطاعة وفضل عند الناس، وعفاف نفوس وفروج، وكف عن الفساد وذل للولاة فهذه حال لا نعلمها توجد عند أحد غيرهم، وأما ما يحتاجون فيه إلى المنعة من ذلك فتقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم؛ فإن في ذلك اليوم اختلاطا من رأس مفرط غال، وتابع متحير شاك، ومن كان إنما يصول على الناس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرأي والقول والسيرة فهو كراكب الأسد الذي يوجل من رآه والراكب أشد وجلا، فلو أن أمير المؤمنين كتب لهم أمانا معروفا بليغا وجيزا محيطا بكل شيء يجب أن يقول فيه، ويكفوا عنه بالغا في الحجة قاصرا عن الغلو يحفظه رؤساؤهم حتى يقود به دهماءهم، ويتعهد به منهم من لا يؤبه له من عرض الناس لكان ذلك - إن شاء الله - لرأيهم صلاحا، وعلى من سواهم حجة وعند الله عذرا، فإن كثيرا من المتكلمين من قواد أمير المؤمنين اليوم، إنما عامة كلامهم فيما يؤمر الأمر ويرغم الرغم أن أمير المؤمنين لو أمر الجبال أن تسير سارت. ولو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة فعل ذلك، وهذا كلام قلما «يرتضيه» من كان مخالفا، وقلما يرد في سمع السامع إلا أحدث في قلبه ريبة وشكا، والذي يقول أهل القصد من المسلمين هو أقوى للأمر، وأعز للسلطان وأقمع للمخالف وأرضى للموافق، وأثبت للعذر عند الله - عز وجل.
فإنا قد سمعنا فريقا من الناس يقولون لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، بنوا قولهم هذا بناء معوجا. فقالوا: إن أمرنا الإمام بمعصية الله، فهو أهل أن يعصى، وإن أمرنا الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يطاع، فإذا كان الإمام يعصى في المعصية. وكان غير الإمام يطاع في الطاعة فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء، وهذا قول معلوم يجده السلطان ذريعة إلى الطاعة والذي فيه أمنيته لئلا يكون للناس نظائر، ولا يقوم بأمرهم إمام، ولا يكون على عدوهم منهم ثقل.
سمعنا آخرين يقولون: بل نطيع الأئمة في كل أمورنا، ولا نفتش عن طاعة الله ولا معصيته، ولا يكون أحد منا عليهم حسيبا، هم ولاة الأمر وأهل العلم، ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم. وليس هذا القول بأقل ضررا في توهين السلطان، وتهجين الطاعة من القول الذي قبله؛ لأنه ينتهي إلى الفظيع المتفاحش من الأمر في استحلال معصية الله جهارا صراحا. وقال أهل الفضل والصواب: قد أصاب الذين قالوا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولم يصيبوا في تعطيلهم طاعة الأئمة وتسخيفهم إياها، وأصاب الذين أقروا بطاعة الأئمة لما حققوا منها، ولم يصيبوا ما أبهموا من ذلك في الأمور كلها، فأما إقرارنا بأنه لا يطاع الإمام في معصية الله؛ فإنما ذلك في عزائم الفرائض، والحدود التي لم يجعل الله لأحد عليها سلطانا. ولو أن الإمام نهى عن الصلاة والصيام والحج، أو منع الحدود وأباح ما حرم الله لم يكن له في ذلك أمر.
فأما إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يطاع فيه غيره؛ فإن ذلك في الرأي والتدبير، والأمر الذي جعل الله أزمته وعراه بأيدي الأئمة ليس لأحد فيه أمر، ولا طاعة من الغزو والقفول والجمع والقسم والاستعمال والترك والحكم بالرأي، فيما لم يكن فيه أثر وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة، ومحاربة العدو ومخادعته والأخذ للمسلمين والإعطاء عليهم، وهذه الأمور وأشباهها من طاعة الله - عز وجل - الواجبة وليس لأحد من الناس فيها حق إلا الإمام، ومن عصى الإمام فيها أو خذله فقد أوتغ نفسه. وليس يفترق هذان الأمران إلا ببرهان من الله - عز وجل - عظيم، وذلك أن الله جعل قوام الناس، وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين: الدين والعقل، ولم تكن عقولهم وإن كانت نعمة الله - عز وجل - عظمت عليهم فيها بالغة معرفة الهدى ولا مبلغة أهلها رضوان الله، إلا ما أكمل لهم من النعمة بالدين الذي شرع لهم، وشرح به صدر من أراد هداه منهم، ثم لو أن الدين جاء من الله لم يغادر حرفا من الأحكام والرأي والأمر وجميع ما هو وارد على الناس، وجاز فيهم مذ بعث الله رسوله
صلى الله عليه وسلم
إلى يوم يلقونه إلا جاء فيه بعزيمة، لكانوا قد كلفوا غير وسعهم، فضيق عليهم في دينهم وآتاهم ما لم تسع أسماعهم لاستماعه ولا قلوبهم لفهمه، ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغوا لا يحتاجون إليها في شيء، ولا يعملونها إلا في أمر قد أتاهم به تنزيل، ولكن الله من عليهم بدينهم الذي لم يكن يسعه رأيهم، كما قال عباد الله المتقون: ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ثم جعل ما سوى ذلك من الأمر والتدبير إلى الرأي، وجعل الرأي إلى ولاة الأمر ليس للناس في ذلك الأمر شيء إلا الإشارة عند المشورة، والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب، ولا يستحق الوالي هذه الطاعة إلا بإقامة العزائم والسنن مما هو في معنى ذلك، ثم ليس من وجوه القول وحده يلتمس فيه ملتمس إثبات فضل أهل بيت أمير المؤمنين على أهل بيت «من سواه» وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى ذكره، إلا وهو موجود فيه من الكلام الفاضل المعروف، مما هو أبلغ مما يغلو فيه الغالون؛ فإن الحجة ثابتة، والأمر واضح - بحمد الله ونعمته.
ومما ينظر فيه لصلاح هذا الجند ألا يولي أحدا منهم شيئا من الخراج؛ فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، ولم يزل الناس يتحامون ذلك منهم وينحونه عنهم؛ لأنهم أهل ذاك ودعوى بلاء، وإذا خلا بالدراهم والدنانير اجترأ عليهما، وإذا وقع في الخيانة صار كل أمر مدخولا نصيحته وطاعته؛ فإن حيل بينه وبين رفعته أمر ضنته الحمية، مع أن ولاية الخراج داعية إلى ذلة وعقوبة وهوان، وإنما منزلة المقاتل منزلة الكرامة واللطف، ومما ينظر فيه من أمرهم أن منهم من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم، فلو التمسوا وصنعوا كانوا عدة وقوة وكان ذلك صلاحا لمن فوقهم من القادة ومن دونهم من العامة.
ومن ذلك تعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى، وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع، واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه، ولا يزال يطلع من أمير المؤمنين ويخرج منه القول، ما يعرف مقته للإتراف والإسراف وأهلهما ومحبته القصد والتواضع، ومن أخذ بهما حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه بخلا أن ينفقه سرفا في العطر واللباس والمغالاة بالنساء والمراتب؛ فإن أمير المؤمنين يؤثر بالمعروف من وجهته المعروف والمؤاساة، ومن ذلك أمر أرزاقهم أن يوقت لهم أمير المؤمنين فيها وقتا يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له.
وأن يعلم عامتهم العذر الذي في ذلك من إقامة ديوانهم وتحمل أسمائهم، ويعلموا الوقت الذي يأخذون فيه فينقطع الاستبطاء والشكوى؛ فإن الكلمة الواحدة تخرج من أحدهم في ذلك أهل أن تستعظم؛ فإن باب ذلك جدير أن يحسم، مع أن أمير المؤمنين قد علم كثرة أرزاقهم، وكثرة المال الذي يخرج لهم، وأن هذا الخراج إن يكن رائجا لغلاء السعر؛ فإنه لا بد من الكساد والكسر، وأن لكل شيء درة وغزارة، وإنما درر خراج العراق بارتفاع الأسعار، وإنما يحتاج الجند اليوم إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر.
فمن حسن التقدير - إن شاء الله - ألا يدخل على الأرض ضرر، ولا بيت المال نقصان من قبل الرحمن إلا دخل ذلك عليهم في أرزاقهم، مع أنه ليس عليهم في ذلك نقصان؛ لأنهم يشترون بالقليل مثل ما كانوا يشترون بالكثير، فأقول: لو أن أمير المؤمنين ما خلا شيئا من الرزق، فيجعل بعضه طعاما ويجعل بعضه علفا فأعطوه بأعيانهم فإن قومت لهم قيمة، فخرج ما خرج على حسابه قيمة الطعام والعلف، لم يكن في أرزاقهم لذلك نقصان عاجل يستنكرونه. وكان ذلك نزالهم لحمل العدو وإنصاف بيت المال من أنفسهم فيما يستبطئون، مع أنه إن زاد السعر أخذوا بحصتهم من فضل ذلك.
ومن جماع الأمر وقوامه - بإذن الله - ألا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبارهم وحالاتهم وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النفقة ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح؛ فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فتصير جنة للجهالة والكذب.
ومما يذكر به أمير المؤمنين - أمتع الله به - أمر هذين المصرين؛ فإنهم بعد أهل خراسان أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعته ومعينيه مع اختلاطهم بأهل خراسان، وإنهم منهم وهامتهم، وإنما ينظر أمير المؤمنين منهم، صدق رابطتهم، أو ما أراد من أمورهم معرفته استثقال أهل خراسان ذلك لهم من أمرهم، مع الذي في ذلك من جمال الأمر، واختلاط الناس بالناس العرب بالعجم، وأهل خراسان بالمصرين.
إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة، شيء لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله، ولا مثل نصفه فلو أراد أمير المؤمنين أن يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل الطبقة من الناس؛ رجونا أن يكون ذلك فيهم موجودا ، وقد أزرى بأهل العراق في تلك الطبقة أن ولاة العراق، فيما مضى كانوا أشرار الولاة وإن أعوانهم من أهل أمصارهم «كذلك»، فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول، وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم، ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب مما دنا منهم، أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر، فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق، حيثما وقعوا من صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد. وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا وينتفع بهم، وإن كان صاحب السلطان لم يعرف الناس قبل أن يليهم ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم، ولم يستثبت في استقصائهم، فزالت الأمور عن مراكزها ونزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقونه إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعا، وأحلى ألسنة وأرفق تلطفا للوزراء أو تمحلا لأن يثنى عليهم من وراء وراء، فإذا آثر الوالي أن يستخلص رجلا واحدا ممن ليس لذلك أهلا دعا إلى نفسه جميع ذلك الشرح، وطمعوا فيه واجترئوا عليه وتوردوه وزحموا على ما عنده، وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه، وباعدوا منه وكرهوا أن يروا في غير موضعهم، أو يزاحموا غير نظرائهم.
ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة، فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى، غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم، مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لج بهم العجب، بما في أيديهم، والاستخفاف ممن سواهم، فأقحمهم ذلك في الأمور التي يشفع بها من سمعها من ذوي الألباب.
أما من يدعي لزوم السنة منهم؛ فيجعل ما ليس له سنة سنة، حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بينة ولا حجة على الأمر الذي يزعم أنه سنة، وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول: هريق فيه دم على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو أئمة الهدى من بعده، وإذا قيل له: أي دم سفك على هذه السنة التي تزعمون؟ قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان، أو أمير من بعض أولئك الأمراء، وإنما من يأخذ بالرأي فيبلغ به الاعتزام عن رأيه أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولا لا يوافقه عليه أحد من المسلمين، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك، وإمضائه الحكم عليه، وهو مقر أنه رأي منه لا يحتج بكتاب ولا سنة، فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا عزما لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر آخر الدهر - إن شاء الله.
فأما اختلاف الأحكام، إما شيء مأثور عن السلف غير مجمع عليه يدبره قوم على وجه، ويدبره آخرون على وجه آخر، فينظر فيه إلى أحق الفريقين بالتصديق، وأشبه الأمرين بالعدل، وإما رأي أجراه أهله على القياس، فاختلف وانتشر ما يغلط في أصل المقايسة، وابتدأ أمر على غير مثاله، وإما لطول ملازمته القياس؛ فإن من أراد أن يلزم القياس ولا يفارقه أبدا في أمر الدين والحكم، وقع في الورطات ومضى على الشبهات، وغمض على القبيح الذي يعرفه ويبصره، فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس، وإنما القياس دليل يستدل به على المحاسن، فإذا كان ما يقود إليه حسنا معروفا أخذ به، وإذا قاد إلى القبيح المستنكر ترك لأن المبتغي ليس غير القياس يبغي، ولكن محاسن الأمور ومعروفها وما ألحق الحق بأهله. ولو أن شيئا مستقيما على الناس ومنقادا حيث قيد، لكان الصدق هو الذي أولى أن يعتبر بالمقاييس؛ فإنه لو أراد أن يقوده الصدق لم ينقد له، وذلك أن رجلا لو قال: أتأمرني أن أصدق، فلا أكذب كذبة أبدا لكان جوابه أن يقول: نعم، ثم لو التمس منه قود ذلك فقال: أتصدق في كذا وكذا، حتى يبلغ به أن يقول الصدق في رجل هارب استدلني عليه طالب ليظلمه فيقتله لكسر عليه قياده. وكان الرأي له أن يترك ذلك، وينصرف إلى المجمع عليه المعروف المستحسن.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أهل الشام؛ فإنهم أشد الناس مؤنة وأخوفهم عداوة وبائقة. وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة، ولا يطمع منهم في الاستجماع على المودة، فمن الرأي في أمرهم أن يختص أمير المؤمنين منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء؛ فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم، فقد رأينا أشباه أولئك من أهل العراق الذين استدخلهم أهل الشام. وليس أحد في أمر أهل السلم على القصاص حرموا، كما كانوا يحرمون الناس وجعل فيئهم إلى غيرهم، كما كان فيء غيرهم إليهم، ونحوا عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة؛ فإن رغب أمير المؤمنين لنفسه عن هذه السيرة وما أشبهها، فلم يعارض ما عاب ولم يمثل ما سخط، كان العدل أن يقتصر بهم على فيئهم، فيجعل ما خرج من كور الشام، فضلا عن النفقات، وما خرج من مصر فضلا عن حقوق أهل المدينة ومكة بأن يجعل أمير المؤمنين ديوان مقاتلهم ديوانهم أو يزيد أو ينقص، غير أنه يأخذ أهل القوة والغناء وخفة المؤنة والعفة في الطاعة، ولا يفضل أحدا منهم على أحد إلا على خاصة معلومة، ويكون الديوان كالغرض المستأنف، ويأمر لكل جند من أجناد أهل الشام بعدة من العيال يقترعون عليها، ويسوي بينهم فيما لم يكونوا أسوة فيه فيمن مات من عيالاتهم، ولا يصنع بأحد من المسلمين.
وأما ما يتخوف المتخوفون من نزواتهم، فلعمري لئن أخذوا بالحق، ولم يأخذوا به إنهم لخلقاء أن يكون لهم نزوات ونزقات، ولكنا على مثل اليقين - بحمد الله - من أنهم لم يشركوا بذلك إلا أنفسهم، وإن الدائرة لأمير المؤمنين عليهم آخر الدهر - إن شاء الله - فإنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بهائم، كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر أصحابه؛ فإن من أولى أمر الوالي منه بالتثبت والتحيز أمر أصحابه الذين هم بهاء فنائه، وزينة مجلسه، وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه، ومواضع كرامته والخاصة من عامته؛ فإن أمر هذه الصحابة قد عمل فيه من كان وليه من الوزارة والكتاب قبل خلافة أمير المؤمنين عملا قبيحا مفرط القبح مفسدا للحسب والأدب والسياسة، داعيا للأشرار طاردا للأخيار، فصارت صحبة الخليط أمرا سخيفا، فطمع فيه الأوغاد وتزهد فيه من كان يرغب فيما دونه، حتى إذا التقينا أبا العباس - رحمة الله عليه - وكنت في ناس من صلحاء أهل البصرة ووجوههم، فكنت في عصابة منهم أبوا أن يأتوه، فمنهم من تغيب فلم يقدم، ومنهم من هرب بعد قدومه اختيارا للمعصية على سوء الموضع، لا يعتذرون في ذلك إلا بضياع المكتب والدعوة والمدخل، يقولون هذه منزلة كان من هو أشرف من أبنائنا يرغبون فيما هو دونها عند من هو أصغر أمراء ولاتنا اليوم، ولكنها قد كانت مكرمة وحسبا إذ الناس ينظرون ويسأل عنهم، فأما اليوم ونحن نرى فلانا وفلانا ينفر بأسمائهم على غير قديم سلف، ولا بلاء حدث، فمن يرغب فيما ههنا، يا أمير المؤمنين أكرمك الله، إما يصير العدل كله إلى تقوى الله - عز وجل - وإنزال الأمور منازلها فإن الأول قال:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقال:
هم سودوا نصرا وكل قبيلة
يبين عن أحلامها من يسودها
وإن أمر هذه الصحابة قد كان فيه أعاجيب دخلت فيه مظالم، أما العجب فقد سمعنا من الناس من يقول: ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة، ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور في أهل مصر قد غبر عامة دهره صانعا يعمل بيده ولا يعتد مع ذلك ببلاء ولا غناء، إلا أنه مكنه من الأمر صاغ فاحتوى حيث أحب، فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل بيوتات العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سروات قريش ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم ولا فقه في دين ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء ولا عدة يستعد بها. وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة إلا أنه خدم كاتبا أو حاجبا، فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.
وأما المظلمة التي دخلت في ذلك فعظيمة، قد خصت قريشا وعمت كثيرا من الناس وأدخلت على الأحساب والمروءات محنة شديدة وضياعا كثيرا؛ فإن في إذن الخليفة والمدخل عليه والمجلس عنده وما يجري على صحابته من الرزق والمعونة، وتفضيل بعضهم على بعض في ذلك حكما عظيما على أن الناس في أنسابهم وأخطارهم وبلاء أهل البلاء منهم، وليس ذلك كخواص المعروف ولطيف المنازل، أو الأعمال التي يختص بها المولى من أحب، ولكنه باب من القضاء جسيم عام يقضى فيه للماضين من أهل السوابق والمآثر من أهل الباقين وأهل البلاء والغناء بالعدل، أو بما يحال فيه عليهم ؛ فإن أحق المظالم بتعجيل الرفع والتغيير ما كان ضره عائبا. وكان للسلطان شائنا، ثم لم يكن في رفعه مؤنة ولا شغب ولا توغير بصدور عامة ولا للقوة ولا إضرار سبب.
ولصحابة أمير المؤمنين - أكرمه الله - مزية وفضل، وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفا لأهلها وحسبا لأعقابهم حقيقة أن تصان وتحظر، ولا يكون فيها إلا رجل بدر بخصلة من الخصال، ومن رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة، أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلا بمجلس أمير المؤمنين وحديثه ومشورته، أو صاحب نجدة يعرف بها ويستعد لها يجمع مع نجدته حسبا وعفافا، فيرفع من الجند إلى الصحابة، ورجل فقيه مصلح يوضع بين أظهر الناس لينتفعوا بصلاحه وفقهه، أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها، فأما من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يكتفى له بالمعروف والبر فيما لا يهجن رأيا، ولا يزيل أمرا عن مرتبته، ثم تكون تلك الصحبة المخلصة على منازلها ومداخلها، لا يكون للكاتب فيها أمر في رفع رزق ولا وضعه ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر فتيان أهل بيته، وبني أبيه وبني علي وبني العباس؛ فإن فيهم رجالا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوها. وكانوا عدة لأخرى.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر الأرض والخراج؛ فإن أجسم ذلك وأعظمه خطرا وأشده مؤنة وأقربه من الضياع ما بين سهله وجبله ليس لها تفسير على الرساتيق والقرى، فليس للعمال أمر ينتهون إليه ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها في العمارة ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب سماحة يستخرج ممن زرع، ويترك من لم يزرع فيعمر من عمر ويسلم من أخرب، مع أن أصول الوظائف على الكور لم يكن لها ثبت ولا علم. وليس من كورة إلا وقد غيرت وظيفتها مرارا فخفيت وظائف بعضها وبقيت وظائف بعض ، فلو أن أمير المؤمنين أعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها؛ لرجونا أن يكون في ذلك صلاح للرعية وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال، وهذا رأي مؤنته شديدة ورجاله قليل ونفعه متأخر. وليس بعد هذا في أمر الخراج إلا رأي قد رأينا ... المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله من تخير العمال وتفقدهم، والاستعتاب لهم والاستبدال بهم.
ومما نذكر به أمير المؤمنين جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة، وما سوى ذلك، أن يكون من رأي أمير المؤمنين إذا سخت نفسه عن أموالها من الصدقات، وغيرها أن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق الله أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو - بإذن الله - حمى ونظام لهذه الأمور كلها، في الأمصار والأجناد والثغور والكور.
إن بالناس من الاستخراج والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم، ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها، وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون يذكرون ويبصرون المخطئ، ويعظون عن الجهل ويمنعون عن البدع، ويحذرون الفتن ويتفقدون أمور عامة من هو بين أظهرهم، حتى لا يخفى عليهم منها مهم ثم يستصلحون ذلك، ويعالجون على ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح، ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليهم مأمونين على سير ذلك وتحصينه، بصراء بالرأي حين يبدو، وأطباء باستئصاله قبل أن يتمكن.
وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صنعوا لذلك وتلطف لهم، وأعينوا على رأيهم وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطهم له، وخطر هذا جسيم في أمرين: أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح، وأهل الفرقة إلى الألفة، والأمر الآخر ألا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة، إلا وعين ناصحة ترمقه، ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه، وإذا كان ذلك لم يقدر أهل الفساد على تربيص الأمور وتلقيحها، وإذا لم تلقح كان نتاجها - بإذن الله - مأمونا.
وقد علمنا علما لا يخالطه شك، أن عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها، وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها؛ وذلك لأن عدد الناس في ضعفتهم وجهالهم الذين لا يستغنون برأي أنفسهم، ولا يحملون العلم ولا يتقدمون في الأمور، فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون إليهم ويسمعون منهم؛ اهتمت خواصهم بأمور عوامهم، وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة جعل الله ذلك صلاحا لجماعتهم، وسببا لأهل الصلاح من خواصهم وزيادة، فيما أنعم الله به عليهم وبلاغا إلى الخير كله.
وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك، فبالإمام يجمع الله أمرهم ويكبت أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم، ويبين لهم عند العامة منزلتهم، ويجعل لهم الحجة والأيد والمقال على من نكب عن سبيل حقهم، فلما رأينا هذه الأمور ينتظم بعضها ببعض، وعرفنا من أمر أمير المؤمنين ما بمثله جمع الله خواص المسلمين على الرغبة في حسن المعاونة والمؤازرة، والسعي في صلاح عامتهم، طمعنا لهم في ذلك يا أمير المؤمنين، وطمعنا فيه لعامتهم ورجونا ألا يعمل بهذا الأمر أحد إلا رزقه الله المتابعة فيه والقوة عليه؛ فإن الآمر إذا أعان على نفسه جعل للقائل مقالا وهيأ للساعي نجاحا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو رب الخلق وولي الأمر يقضي في أمورهم، يدبر أمره بقدرة عزيزة وعلم سابق، فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد ويحصنه بالحفظ والثبات والسلام، ولله الحمد والشكر.
تحميد لابن المقفع
الحمد لله ذي العظمة القاهرة والآلاء الظاهرة، الذي لا يعجزه شيء، ولا يمتنع منه ولا يدفع قضاؤه ولا أمره، وإنما قوله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه، ودبر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها، وملكة منه لها، لا معقب لحكمه، ولا شريك له في شيء من الأمور، يخلق ما يشاء ويختار ما كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم سبحان الله وتعالى عما يشركون.
والحمد لله الذي جعل صفو ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه، ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكته المقربون يعظمون جلاله ويقدسون أسماءه، ويذكرون آلاءه لا يستحسرون عن عبادته ولا يستكبرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه، يطيعون أمره ويذبون عن محارمه، ويصدقون بوعده، ويوفون بعهده، ويأخذون بحقه، ويجاهدون عدوه. وكان لهم عندما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه حجتهم، وإعزازه دينهم، وإظهاره حقهم، وتمكينه لهم، وكان لعدوه وعدوهم عندما أوعدهم من خزيه وإخلاله بأسهم، وانتقامه منهم، وغضبه عليهم، مضى على ذلك أمره، ونفذ فيه قضاؤه فيما مضى، وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي ليتم نوره. ولو كره الكافرون ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور، ولا يدبرها غيره ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته، وهو وليها ومنتهاها وولي الخيرة فيها، والإمضاء لما أحب أن يمضي منها، يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون، والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم ذي المن والطول والقدرة والحول، الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا راد لأمره في ذلك وقضائه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه والمنعم بشكره، وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان، وهو عطاؤه.
كتب ابن المقفع إلى صديق ولدت له جارية:
بارك الله لكم في الابنة المستفادة، وجعلها لكم زينا، وأجرى لكم بها خيرا فلا تكرهها؛ فإنهن الأمهات والأخوات والعمات والخالات، ومنهن الباقيات الصالحات ، ورب غلام ساء أهله بعد مسرتهم، ورب جارية فرحت أهلها بعد مساءتهم.
تعزية لابن المقفع عن ولد:
أعظم الله على المصيبة أجرك، وأحسن على جليل الرزء ثوابك، وعجل لك الخلف فيه، وذخر لك الثواب عليه.
وله:
إنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه، فلا تجمعن إلى ما فجعت به من ولدك الفجيعة بالأجر عليه والعوض منه؛ فإنها أعظم المصيبتين عليك، وأنكى المرزيتين لك، أخلف الله عليك بخير، وذخر لك جزيل الثواب.
وتعزية له عن بنت:
لا ينقص الله عددك، ولا ينزع عنك نعمته التي ألبسك، وأحسن العوض لك، وجعل الخلف لك خيرا مما رزأك به، وما أعطاك خيرا مما قبض منك.
وله تعزية عن ابنة:
جدد الله لك من هبته ما يكون خلفا لك بما رزئته، وعوضا من المصيبة به ورزقك من الثواب عليه أضعاف ما رزأك به منها، فما أقل كثير الدنيا في قليل الآخرة مع فناء هذه، ودوام تلك.
وتعزية له أيضا:
أعظم الله أجرك في كل مصيبة، وأوزعك الشكر على كل نعمة، اعرف لله حقه، واعتصم بما أمر به من الصبر؛ تظفر بما وعد من عظيم الأجر.
وتعزية لابن المقفع:
أما بعد: فإن أمر الآخرة والدنيا بيد الله هو يدبرهما، ويقضي فيهما ما يشاء لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه؛ فإن الله خلق الخلق بقدرته، ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة، لئلا يطمع أحد من خلقه في خلد الدنيا، ووقت لكل شيء ميقات أجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليس أحد من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت، لا يرجو بأن يخلصه من ذلك أحد، نسأل الله خير المنقلب، وبلغني وفاة فلان فكانت وفاته من المصائب العظام التي يحتسب ثوابها من ربنا، الذي إليه منقلبنا ومعادنا وعليه ثوابنا، فعليك بتقوى الله والصبر وحسن الظن بالله؛ فإنه جعل لأهل الصبر صلوات منه ورحمة، وجعلهم من المهتدين.
ولابن المقفع في السلامة:
أما بعد: فقد أتاني كتابك فيما أخبرتنا عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك، وفي الذي ذكرت من ذلك نعمة مجللة عظيمة، نحمد عليها وليها المنعم المتفضل المحمود، ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكر ما به مزيدها وتأدية حقها، وسألت أن أكتب إليك بخبرنا ونحن على حال لو أطنبت في ذكرها، لم يكن في ذلك إحصاء للنعمة، ولا اعتراف لكنه الحق، فنرغب إلى الذي تزداد نعمه علينا في كل يوم وليلة تظاهرا، ألا يجعل شكرنا منقوصا ولا مدخولا، وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءها من المعرفة بفضله فيها، والعمل في الأداء إليه حقها، إنه ولي قدير.
وله كتاب للثقفي في السلامة:
أما بعد: فإن مما نمق الله به مناقبك الكريمة المحمودة الغانية عن القول والوصف، أنك موضع المؤنات عن إخوانك حمال عنهم أثقال الأمور، مما وضعت عنه المؤنة ارتفاعك عن الأمور التي يطأطأ إليها الكلام على ألسنة الناس، إذا باحوه وبهرجوه، وضيعوا القول ونسوا القصد فيه، وأخذوا به في كل فن، وأصفوا بصفوته غير أهلها، فيما لا ينبغي لهم من التشبيه والتوقير والتفضيل، كان من خبري بعدك أني قدمت بلد كذا، فتهيأ لي بعض ما شخصت له، والمحمود على ذلك الله - عز وجل - وأنا على أن يأتيني خبرك محتاج، فأما جملة خبري في فراقك، فقلبي مكة كل ما سواك حرام فيها.
وله جواب في السلامة:
أما بعد: فقد أتاني كتاب الأمير رجعة كتابي إليه، فكان فيه تصديق الظن، وتثبيت الرأي، ودرك البغية والله محمود، فأمتع الله بالأمير وأمتعه بصالح ما آتاه، وزاده من الخيرات مستعمرا له فيه، مستعملا بطاعته التي بها يفوز الفائزون، والذي رزق الله من الأمير فهو عندي عظيم نفيس، وكل الذي قبلي عن مكافأته فمقصر، إلا أنه ليس في النية تقصير، ولا بلوغ لشيء من الأمور إلا بتوفيق الله - عز وجل - ومعونته، والسلام.
وله في السلامة جواب أيضا:
أما بعد: فلقد أتاني كتابك فيما أخبرتني عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك، وفي الذي ذكرت نعمة مجللة عظيمة، نحمد عليها الله المنعم بها المحمود، ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها، نحن من عافية الله وكفايته ودفاعه على حال، لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاء للنعمة ولا اعتراف، لكنه الحق فنرغب إلى الذي يزيد في نعمه علينا تظاهرا ألا يجعل شكرنا منقوصا ولا مدخولا، وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاء من المعرفة بفضله فيها، والعمل في أداء حقها.
وفي السلامة أيضا «ولم يقل إنها له»:
كتبت إليك وأمير المؤمنين وما يأتيه من لين الطاعة، واتساق الكلمة، عمت في الداني والقاصي من بلدانه، وحواشي سلطانه على ما يحمد الله عليه؛ فإن نعمة الله على أمير المؤمنين تجري على إذلالها، وتنقاد في أسهل سبيلها.
قال المؤلف: ومن مختار ما كتب به من باب الشكر، ولم أعرف إن كانت له أو لغيره؛ لأنه أورد «كتب» بضم أولها، ومع هذا فهذه هي الرسالة:
أما بعد: فما أعجز تعدادي عما أتعرف منك وأتعرفه بك دانيا ونائيا، وما أدري ما ابتدأتني به من معروفك أرهن لشكري، أم ما ثنيت به من برك لبدئك بعنايتك على نأيك، أم ما ألبستني جماله على لسانك بإطرائك وثنائك، أم ما عقدته لي عند غيرك بتلطفك وتأنيك، غير أني أعلم أنك لم تقصر في استحقاق شكر علي، وأرجو ألا أكون مقصرا في معرفة ذلك منك، ومن لم يقصر علمه، ولم يؤت في شكره إلا من عظم المعروف عنده مع جهده، فقد دخل بالعلم والجهد في الشاكرين، غير أن الذي آنستني به من رفدك وتوطيدك، قد زادني وحشة إليك، وإن حفظ من حفظني فيك، وإن لم يك مقصرا، وقد جدد لي المعرفة بوثارة مكاني عندك، ولقد بلغت أن أصلحت لي الأمور والرجال، وأصلحتني إلى صلاحي لنفسي، فليس كتابي هذا باستبطاء لأحد حتى يستبطئه، ولا شكري حتى يكون البدء منك، ولكن روحت عن نفسي بذكرك وزينتها بشكرك، وزكيتها بالإقرار بفضلك.
ولابن المقفع:
إن الناس لم يعدموا أن يطلبوا الحوائج إلى الخواص من الإخوان، وأن يتواصلوا بالحقوق ويرغبوا إلى أهل المقامات ويتوسلوا إلى الأكفاء، وأنت - بحمد الله ونعمته من أهل الخير، وممن أعان عليه وبذل لأهل ثقته المصافين، وإن بذل النفوس فيه وإعطاء الرغيب ليس منك ببكر ولا طريف، بل هو تليد أتلده أولكم لآخركم، وأورثه أكابركم أصاغركم، ومن حاجتي كذا وأنت أحق من طلبت إليه واستعنته على حوادث الدهر، وأنزلت به أمري لقرب نسبك، وكريم حسبك، ونباهتك وعلو منزلتك، وجسيم طبائعك، وعوام أياديك إلى عشيرتك وغيرها، فليكن من رأيك ما حملتك من حاجتي على قدر قسم الله لك من فضله، وما عودك من مننه، ووسع غيري من نعمائك وإحسانك.
ولابن المقفع أيضا:
أما بعد: فإن من قضى الحوائج لإخوانه، واستوجب بذلك الشكر عليهم فلنفسه عمل لا لهم، والمعروف إذا وضع عند من لا يشكره، فهو زرع لا بد لزارعه من حصاده أو لعقبه من بعده، وكتبت إليك ولحالنا التي نحن بها فيما نذكرك حاجة، أول ما فيها معروف تستوجب به الشكر علينا، وتدخر به الأيادي قبلنا.
ولعبد الله بن المقفع إلى يحيى بن زياد «الحارثي» ابتداء في المؤاخاة:
أما بعد: فإن أهل الفضل في اللب، والوفاء في الود، والكرم في الخلق، لهم من الثناء الحسن في الناس لسان صدق يشيد بفضلهم، ويخبر عن صحة ودهم، وثقة مؤاخاتهم، فيتخير إليهم رغبة الإخوان، ويصطفي لهم سلامة صدورهم، ويجتبي لهم ثمرة قلوبهم، فلا مثني أفضل تقريظا، ولا مخبر أصدق أحدوثة منه، وقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك وبين الناس طريقة محمودة نسبت إلى مزيتها في الفضل، وجمل بها ثناؤك في الذكر، وشهد لك بها لسان الصدق، فعرفت بمناقبها ووسمت بمحاسنها، فأسرع إليك الإخوان برغبتهم مستبقين يبتدرون ودك، ويصلون حبلك ابتدار أهل التنافس في حظ رغيب، نصبت لهم غاية يجري إليها الطالبون، ويفوز بها السابقون، فمن أثبت الله عندك بموضع الحرز والثقة، وملأ بك يده من أخي وفاء ووصلة، واستنام منك إلى شعب مأمون وعهد محفوظ، وصار مغمورا بفضلك عليه في الود يتعاطى من مكافأتك ما لا يستطيع، ويطلب من أثرك في ذلك غاية بلوغها شديد، فلو كنت لا تؤاخي من الإخوان إلا من كافأ بودك ، وبلغ من الغايات حدك؛ ما آخيت أحدا ولصرت من الإخوان صفرا، ولكن إخوانك يقرون لك بالفضل، وتقبل أنت ميسورهم من الود، ولا تجشمهم كلف مكافأتك، ولا بلوغ فضلك فيما بينك وبينهم؛ فإنما مثلك في ذلك ومثلهم، كما قال الأول:
ومن ينازع سعيد الخير في حسب
ينزع طليحا ويقصر قيده الصعد
ولم أرد بهذا الثناء عليك تزكيتك، ليكون ذلك قربة عندك وآخية لي لديك، ولكن تحريت فيما وصفت من ذلك الحق والصدق وتنكبت الإثم والباطل؛ فإن القليل من الصدق البريء من الكذب، أفضل من كثير الصدق المشوب بالباطل، ولقد وصفت من مناقبك ومحاسن أمورك، وإني لأخاف الفتنة عليك، حين تسمع بتزكية نفسك وذكري ما ذكرت من فضلك؛ لأن المدح مفسدة للقلب مبعثة للعجب، ثم رجوت لك المنعة والعصمة؛ لأني لم أذكر إلا حقا، والحق ينفي من اللبيب العجب وخيلاء الكبر، ويحمله على الاقتصاد والتواضع، وقد رأيت إذ كنت في الفضل والوفاء على ما وصفت منك أن آخذ بنصيبي من ودك، وأصل وثيقة حبلي بحبلك فيجري بيننا من الإخاء أواصر الأسباب التي بها يستحكم الود ويدوم العهد، وعلمت أن تركي ذلك غبن وإضاعتي إياه جهل؛ لأن التارك للحظ داخل في الغبن، والعائد عن الرشد مرجف إلى الغي، فارغب من ودي فيما رغبت فيه من ودك؛ فإني لم أدع شيئا أستتلي به منك الرغبة، وأجتر به منك المودة إلا وقد اقتدت إليك ذريعته، وأعملت نحوك مطيته لترى حرصي على مودتك، ورغبتي في مؤاخاتك، والسلام.
جواب من يحيى بن زياد في صفة الإخاء:
أما بعد: فإنا لما رأينا موضع الإخاء، ممن يحتمله في تأنيسه من الوحشة وتقريبه لذي البعدة، ومشاركته بين ذوي الأرحام في القربة؛ لم نرض بمعرفة عينه دون معرفة نسبته، فنسبنا الإخاء فوجدناه في نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء، فلما انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى الصبر، فوجدناه محتويا على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنجابة والزكانة، وسائر ما لا يأتي عليه العدد من المحامد ، ثم انحدرنا فيما أصعدنا فيه من هذا النسب، فعدنا إلى الإخاء فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلها أخلاقه.
ولما استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها، رأينا أن نتخير له المواضع في صواب التوزير وإحكام التقدير، وعلمنا أن الاحتباس به أحسن من الندم بعد بذله، واستوجب إذ كان جماع المحامد أن نتخير له محامله التي كان يحمل عليها، فكان الناس فيما احتبسنا به عنهم من الإخاء على صنفين: فصنف عذرونا بالتحبس للتخير، إذ كان التخير من شأنهم، وصنف هم ذوو سرعة إلى الإخاء وسرعة في الانتهاء، فقدموا اللائمة واستعجلوا بالمودة وتركوا باب التروية، واستحلوا عاجل المحبة ولهوا عن آجل الثقة، فكانوا بذلك أهل لائمة، ولم يجد المعذرون إلا الصبر على تلك، والاستعمال للرأي والاستعداد بالعذر عند المحاجة.
وقد فهمت كتابك إلي بالمودة واستحثاثك إياي في الأخوة وما دنوت به من حرمة المحبة، فنازعت إليك نفسي بمثل الذي نازعت به إلي نفسك، فواثبتني عادة الاستعمال للتروية في الخبرة، والتخير للمغبة فجلت عن كتابك جولة غير نافرة، ثم راجعت مقاربتك، فقلت ألقي إلي أسباب المودة قبل كشف الغطاء بالخبرة، فخشيت أن تعذر نفسك بالتقدم، وتحدث الزهادة للتعسف بالجهالة عند الخبرة، فجلت عن هذا جولة كالجولة الأولى، ثم عاودت إسعافك وطاعة التشوق ومعصية التخير، ثم قلت: ما حال من جعل الظن دون اليقين والتقدم قبل الوثيقة، فلما كان الرأي لي خصما تنكبت الوقوع في خلافه، فلم أجد إلا الإدبار عن إقبالك سبيلا، ولا مع ذلك في طاعة التشوق حجة، فتغيبت السبيل بين ذلك إلى إعطائك طرف حبل الإخاء في غير الخروج من سبيل التخير.
وكرهت أن تستعبدني بالإخاء، قبل أن أعرفك بحسن الملكة، وأن تستظهر بي على الأعداء قبل أن أعرفك بعدل السيرة، وأن تستضيء بي في ظلم الجهل قبل أن أعرفك بعقد اللب، وأن تستمكن بي في المطالب قبل أن أعرفك بقصد الهمة، فقدمت إليك الترحيب والعدة وأحسنت عنك المفاوضة والثقة، وتنظرت أن تثمر لي فأذوق جناك، فأعرفك بالمذاقة في الطعم ، إما لافظا وإما مستبلغا ، فإن كان اللفظ لم أكن من الرأي في قلبه، وإن كان الاستبلاغ ذوقتك ما تشوقت إليه، مما ادعيت مني به الخبرة، وأول ما أنا معتبر به منك المواظبة على استنجاح ما سألت أو السآمة له؛ فإن كانت المواظبة فأحد الشهود المعدلين، وإن كانت السآمة فأنت عن حمل ما تعطي أضعف منك عن جميل ما تطلب، طالعني بكتبك فإنك قد حللت قبلي عقدا من التحفظ، وعقدت عقدا من التقرب، والسلام.
القسم الثاني
عبد الحميد بن يحيى الكاتب
رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد
قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في كتابه «المنثور والمنظوم»، ومن الرسائل المفردات رسالة عبد الحميد بن يحيى إلى عبد الله بن مروان، حين وجه لمحاربة الضحاك الخارجي في تعبية الحروب؛ فإنه يقال: إنها لا مثل لها في معناها:
أما بعد: فإن أمير المؤمنين عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدو الله الجلف الجافي الأعرابي المتسكع في حيرة الجهالة، وظلم الفتنة، ومهاوي الهلكة، ورعاعه الذين عاثوا في الأرض فسادا، وانتهكوا حرمه استخفافا، وبدلوا نعم الله كفرا، واستحلوا دماء أهل سلمه جهلا - أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك وعوام شئونك ودخائل أحوالك، ومضطر تنقلك عهدا يحملك فيه أدبه ويشرع لك عظته - وإن كنت - والحمد لله - من دين الله وخلافته، بحيث اصطنعك الله لولاية العهد، مخصصا لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك.
ولولا ما أمر الله به دالا عليه بتقدمه المعرفة، لمن كانوا أولى سابقة في «الدين»، وخصيصى في العلم، لاعتمد أمير المؤمنين منك على اصطناع الله إياك، بما يراك أهله في محلك من أمير المؤمنين، وسبقك إلى رغائب أخلاقه، وانتزاعك محمود شيمه واستيلائك على تشابه تدبيره.
ولو كان المؤدبون أخذوا العلم من عند أنفسهم، ولقنوه إلهاما من تلقائهم، ولم يتعلموا شيئا من عند غيرهم؛ لنحلناهم علم الغيب، ووضعناهم بمنزلة خالقهم المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيته وفردانيته في إلاهيته واحتجاجا منهم لتعقب في حكمه، وتثبت في سلطانه وتنفيذ إرادته على سابق مشيئته ، ولكن العالم الموفق للخير المخصوص بالفضل المحبو بمزية العلم، أدركه معادا عليه بلطيف بحثه وإذلال كنفه، وصحة فهمه وهجر سآمته.
وقد تقدم أمير المؤمنين إليك أخذا بالحجة عليك، مؤديا حق الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقك، وما ينظر الوالد المعنى الشفيق لولده، وأمير المؤمنين يرجو أن ينزهك الله عن كل شيء قبيح يهش له طمع، وأن يعصمك من كل مكروه حاق بأحد، وأن يحصنك من كل آفة استولت على امرئ في دين أو خلق، وأن يبلغه فيك أحسن ما لم يزل يعوده ويريه من آثار نعمة سامية بك إلى ذروة الشرف، ومنجحة لك ببسطة الكرم لائحة بك في أزهر معالي الأدب، والله أستخلف عليك وأسأله حياطتك، وأن يعصمك من زيغ الهوى ويحضرك دواعي التوفيق معانا على الإرشاد فيه؛ فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو.
اعلم أن للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكا، وركب أخبارها قاصدا إلى سعة عاقبتها وأمن سرحها وشرف عزها، وأنها لا تعاف بسخف الخفة، ولا تنسى بتفريط الغفلة، ولا يتعدى فيها بأمن أحد، وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها من غير تعب البحث في إدراكها، ولا متطاول المنال لذروتها، بل تأثلت منها أكرم معانيها، واستخلصت منها أعتق جواهرها، ثم شمرت إلى لباب مصاصها وأحرزت منفس ذخائرها، فاقتعد ما أحرزت ونافس فيما أصبت.
واعلم أن احتواءك على ذلك، وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع أمورك، مؤثرا لها واصطبارك على طاعته، وإعظام ما أنعم به عليك، شاكرا لها مرتبطا للمزيد بحسن الحياطة له، والذب عنه، أن تدخلك منه سآمة ملال، أو غفلة أو ضياع، أو سنة تهاون أو جهالة معرفة؛ فإن ذلك أحق ما بدئ به ونظر فيه، معتمدا عليه من القولة، والآلة والانفراد من الأصحاب والحامة، فتمسك به لاجئا إليه، واعتمد عليه مؤثرا له، والتجئ إلى كنهه متحرزا به أنه أبلغ ما طلب به رضا الله وأنجحه مسألة، وأجزله ثوابا وأعوده سعيا وأعمه صلاحا، وأرشدك الله لحظك وفهمك سداده، وأخذ بقلبك إلى محموده.
ثم اجعل لله - في كل صباح ينعم عليك ببلوغه، ويظهر منك السلامة في إشراقه - من نفسك نصيبا، تجعله لله شكرا على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة وعافية بدن، وسبوغ نعم وظهور كرامة، وأن تقرأ من كتاب الله - عز وجل - جزءا تردد رأيك في أدبه وتزين لفظك بقراءته، ويحضره عقلك ناظرا في محكمه وتفهمه متفكرا في متشابهه؛ فإن فيه شفاء القلوب من أمراضها، وجلاء وساوس الشيطان وسفاسفه، وضياء معالم النور تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، ثم تعهد نفسك بمجاهدة هواك؛ فإنه مغلاق الحسنات ومفتاح السيئات.
واعلم أن كل أعدائك لك عدو يحاول هلكتك ويعترض غفلتك؛ لأنها خدع إبليس وحبائل مكره ومصائد مكيدته، فاحذرها مجانبا وتوقها محترسا منها، واستعذ بالله من شرها، وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لا ونية فيه، وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره عليك، وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه، ومضاءة صارمة لا أناة معها، ونية صحيحة لا خلجة شك فيها؛ فإن ذلك ظهري صدق لك على ردها عنك، وقطعها دون ما تتطلع إليه منك، وهي واقية لك سخطة ربك، داعية لك رضا العامة، ساترة عليك عيب من دونك، فازدن به ملتحفا، وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها، وتوق عليها التي تقطعك عن بلوغها، وتقصر بك عن ساميها، فحاول بلوغ غايته محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع، محصنا لأعمالك من العجب؛ فإنه رأس الهوى وأول الغواية ومقاد الهلكة، حارسا أخلاقك من الآفات المتصلة بمساوي العادات وذميم إيثارها من حيث أتت الغفلة، وانتشر الضياع، ودخل الوهن، فتوق الآفات على عقلك؛ فإن شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق رأيك عند ذوي النهى وحال الرأي وفحص النظر، فاجتلب لنفسك محمود الذكر، وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين، متحرزا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك، وقلة ثقتك بمحكمها.
ومنها أن تملك أمورك بالقصد وتصون سرك بالكتمان، وتداري جندك بالإنصاف، وتذلل نفسك للعدل، وتحصن عيوبك بتقويم أودك، وأناتك فوقها الملال وفوت العمل، ومصابك فدرعها؟ روية النظر، واكتنفها بأناة الحلم، وخلواتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة، وصمتك فانف عنه عي اللفظ، وخف فيه سوء القالة، واستماعك فارعه حسن التفهم وقوه بإشهاد الفكر، وعطاءك فانهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب، وتحرز فيه من السرف، وحياءك فامنعه من الخجل، وحلمك فزعه عن التهاون وأحضره قوة الشكيمة، وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط، وتعمد بها أهل الاستحقاق، وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق وخذ به واجب المفترض، وأقم به أود الدين، واستئناسك فامنع منه البذاءة وسوء المثافنة، وتعهدك أمورك فخذه أوقاتا وقدره ساعات، لا يستفرغ قوتك ويستدعي سآمتك، وعزمتك فانف عنها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام، وفرحاتك فاشكمها عن البطر وقيدها عن الزهو، وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستلام الخضوع، وحذارتك «فاصرفها» عن الجبن واعمد بها للحزم، ورجاءك فقيده بخوف الفائت، وامنعه من أمن الطلب.
هذه جوامع دخائل النقض منها واصل إلى العقل بلطائف الله وتصاريف حوله، فأحكمها عارفا، وتقدم في الحفظ لها معتزما على الأخذ بمراشدها، والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه - إن شاء الله.
ثم ليكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك، ودخلاؤك في سرك أهل الفقه والورع من أهل بيتك وعامة قوادك، ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور وخبطته فصالها بين قرائن البزل وقلبته الأمور في فنونها وركب أطوارها، عارفا بمحاسن الأمور ومواضع الرأي، مأمون النصيحة مطوي الضمير على الطاعة.
ثم أحضرهم من نفسك وقارا تستدعي منهم بك الهيبة، واستئناسا يعطف إليك منهم بالمودة، وإنصافا يغل أقاصيهم منك عما تكره أن ينتشر عنك من سخافة الرأي ويقطعك دون الفكر.
وتعلم إن خلوت بسر فألقيت دونه ستورك وأغلقت عليه أبوابك، فذلك لا محالة مكشوف للعامة ظاهر عنك، وإن استترت بما ولعل وما أرى إذاعة ذلك، فاعلم بما يرون من حالات من ينقطع به في هذه المواطن، فتقدم في إحكام ذلك من نفسك وسد خلله عنك؛ فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله، والأمل المرجو المنتظر، وإياك أن يغمز فيك أحد من عامتك وبطانة خدمك بضعفة يجد بها مساغا إلى النطق عندك، بما لا يعتزلك عيبه، ولا تخلو من لائمته، ولا تأمن سوء القالة فيه، إن نجم ظاهرا، وعلن باديا، ولن يجترئوا على ذلك إلا أن يروا منك إصغاء إليها، وقبولا لها، وترخيصا بها.
ثم إياك أن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح، والمضاحك التي يستخف بها أهل البطالة، ويتسرع نحوها ذوو الجهالة، ويجد فيها أهل الحسد مقالا لعيب يرفعونه، ولطعن في حق يجحدونه، مع ما في ذلك من نقص الرأي، ودرن العرض، وهدم الشرف، وتأثيل الغفلة، وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم كمون النار في الحجر الصلد، فإذا قدح لاح شرره، ولهب في وميضه، ووقد تضرمه، وليست في أحد أقوى سطوة وأظهر توقدا وأعلى كمونا، وأسرع إليه بالعيب منها إلى من كان في سنك من إغفال الرجال وذوي العنفوان في الحداثة، الذين لم يقع عليهم سمات الأمور، ناطقا عليهم لائحها، ظاهرا عليهم وسمها، ولم تمحضهم شهامتها، مظهرة للعامة فضلهم مذيعة حسن الذكر عنهم، ولم يبلغ بهم الصمت في الحركة مستمعات يدفعون به عن أنفسهم نواطق ألسن أهل البغي، ومواد أبصار أهل الحسد.
ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة من أقطار الذرع ونخوة التيه؛ فإنها تسرع بهم إلى فساد رأيهم وتهجين عقولهم في مواطن جمة، منها: قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة، فمن مقلقل شخصه يكثر الالتفات تزدهيه الخفة ويبطره إجلاب الرجال حوله، ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمصاحبة له، والتضاحك إليه والإيجاف في السير مهمرجا وتحريك الجوارح مستسرعا يخال له أن ذلك أسرع له وأخف لمطيته، فلتحسن في ذلك هيئتك ولتجمل فيه رعيتك، وليقل على مسائلك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر غير ملتفت إلى محدث، ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته، ولا مخف في السير تقلقل جوارحك بالتحريك؛ فإن حسن مسايرة الوالي، وابتداعه في أمن حاله دليل على كثير من غيوب أمره، ومستتر أحواله.
واعلم أن أقواما سيسرعون إليك بالسعاية، ويأتونك من قبل النصيحة ويستميلونك بإظهار الشفقة، ويستدعونك بالإغراء والشبهة ويوطئونك عشوة الحيرة؛ ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال العامة بموضعهم منك في القبول منهم، والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة، أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة، فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة، ولا معروف بتهمة، ولا منسوب إلى بدعة؛ فيعرضك لابتداع في دينك، ويحملك على رعيتك ما لا حقيقة فيه، ويحملك على أعراض قوم لا علم لك بدخلهم إلا بما أقدم به عليهم ساعيا، وأظهر لك منهم متنصحا.
وليكن صاحب شرطتك ومن أحببت أن يتولى ذلك من قوادك إليه انتهاء ذلك، وهو المنصوب لأولئك والمستمع لأقاويلهم والفاحص عن نصائحهم، ثم لينه ذلك إليك على ما يرتفع إليه منه؛ لتأمره بأمرك فيه، وتقفه على رأيك، من غير أن يظهر ذلك للعامة؛ فإن كان صوابا نالتك حظوته، وإن كان خطأ أقدم به جاهل، أو فرطة يسعى بها كاذب، فنالت الباغي منها أو المظلوم عقوبة، وبدر من واليك إليه نكال لم يعصب ذلك الخطأ بك، ولم تنسب إلى تفريطه، وخلوت من موضع الذم فيه.
فافهم ذلك وتقدم إلى من تولي، فلا يقدم على شيء ناظرا فيه، ولا يحاول أخذ أحد طارقا له، ولا يعاقب أحدا منكلا به، ولا يخل سبيل أحد صافحا عنه لإظهار براءته، وصحة طريقته حتى يرفع إليك أمره، وينهى إليك قضيته على جهة الصدق، ومنحى الحق.
فإن رأيت عليه سبيلا لمحبس أو مجاز العقوبة أمرته، فتولى ذلك من غير إدخال له عليك، ولا مشافهة منك له، فكان المتولي لذلك ولم يجر على يدك مكروه ولا غلظ عقوبة، وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلا. وكان مما قرف به خليا، كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله والصفح عنه بإطلاق أسره، فتوليت أجر ذلك وذخره ونطق لسانه بشكرك، فقرنت خصلتين ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذكر في العاجلة.
ثم إياك وأن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك، أو حاجة يبدهك بطلبها، حتى يرفعها قبل إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له، فيعرضها عليك منهيا لها على جهة صدقها، ويكون على معرفة من قدرها، فإن أردت إسعافه ونجاح ما سئل منها، أذنت له في طلبها باسطا له كنفك، مقبلا عليه بوجهك مع ظهور سرور منك بما سألك بفسحة رأي وبسطة ذرع وطيب نفس، وإن كرهت قضاء حاجته وأحببت رده عن طلبته، وثقل عليك إسعافه بها، أمرت كاتبك فصفحه عنها ومنعه من مواجهتك بها، فخفت عليك في ذلك المؤنة، وحسن لك الذكر وحمل على كاتبك لائمة أنت منها بريء الساحة.
وكذلك فليكن رأيك وأمرك، فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل، فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك، وعلم ما قدم له عليك، وجهة ما هو مكلمك، وقدر ما هو سائلك إياه إذا هو وصل إليك، فأصدرت رأيك في جوابه، وأجلت فكرك في أمره، وأنفذت مصدر رويتك في مرجوع مسألته قبل ما دخوله عليك، وعلمه بوصول حاله إليك، فرفعت عنه مؤنة البديهة، وأرخيت عن نفسك خناق الروية فأقدمت على رد جوابه بعد النظر والفكرة؛ فإن دخل عليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك، وطوى عنه حاجته قبلك، دفعته عنك دفعا جميلا، ومنعته جوابك منعا ودفعا، ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة، ومنعه من الوصول إليك؛ فإن ضبطك ذلك مما يحكم لك تلك الأشياء صارفا عنك مؤنتها - إن شاء الله.
احذر تضييع رأيك وإهمال أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما إياك، فلا يزدهينك إفراط عجب تستخفك روائعه ويستهويك منظره، ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه وإن حل بك، أو حادث وإن طرأ عليك، وليكن لك من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى، وتستعهده في مهم نازل، وتتعقب به أمورك في التدبير؛ فإن احتجت إلى مادة من عقلك، وروية من فكرك، أو انبساط من منطقك، كان انحيازك إلى ظهريك مزدادا مما أحببت الامتياز منه، وإن استدبرت من أمورك بوارد لمهل أو مضي زلل أو معاندة حق أو خطأ تدبير؛ كان ما احتجنت من رأيك عذرا لك عند نفسك، وظهري قوة على رد ما كرهت، وتخفيفا لمؤنة الباغين عليك في القالة، وانتشار الذكر وحصنا من غلوب الآفات على أخلاقك - إن شاء الله.
وامنع أهل بطانتك وخاص خدمك وعامة رعيتك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة، والتقرب إليك بالسعاية، والإغراء من بعض ببعض، والنميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك، أو تحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة؛ فإنه أبلغ سموا إلى منال الشرف، وأعون لك على محمود الذكر، وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي، وشرف الهمة وقوة التدبير.
واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانفهاق، وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله؛ فإن ذلك ضعف من سورة الجهل، وخروج من انتحال اسم الفضل.
وليكن ضحكك تبسما أو كبرا في أحايين ذلك وأوقاته، وعند كل مرأى ملهى ومستخف مطرب وقطوبك إطراقا في موضع ذلك، وأحواله بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة دون أن يكنفها روية الحلم، وتملك عليها بادرة الجهل.
إذا كنت في مجلس ملئك وحضور العامة مجلسك، فإياك والرمي ببصرك إلى خاص من قوادك أو ذي أثرة من حشمك، وليكن نظرك مقسوما في الجميع وإعارتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة، ووقار حسن، وحضور فهم مستجمع، وقلة تضجر بالمحدث، ثم لا يبرح وجهك إلى بعض قوادك وحرسك متوجها بنظر ركين وتفقد محض؛ فإن وجه أحد منهم نظره محدثا، أو رماك ببصره ملحا؛ فاخفض عنه إطراقا جميلا بإبداع وسكون، وإياك والتسرع في الإطراق، والخفة في تصاريف النظر، والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقا بنظره.
واعلم أن تصفحك وجوه قوادك من قوة التدبير وشهامة القلب، فتفقد ذلك عارفا بمن حضرك وغاب عنك، عالما بمواضعهم من مجلسك، ثم أعد بهم عن ذلك سائلا عن أشغالهم التي منعتهم من حضورك، وعاقتهم بالتخلف عنك - إن شاء الله.
إن كان أحد من أعوانك وحشمك تثق منه بغيب ضميره، وتعرف منه لين طاعة، وتشرف منه على صحة رأي، وتأمنه على مشورتك، فإياك والإقبال عليه في حادث يرد أو التوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك، أو أن تريه أو أحدا من أهل مجلسك أن بك إليه حاجة موحشة، وأن ليس بك عنه غنى في التدبير، أو أنك لا تقضي دونه رأيا إشراكا له في رؤيتك، وإدخالا له في مشورتك واضطرارا إلى رأيه؛ فإن ذلك من دخائل العيوب المنتشر بها سوء القالة عند نظرائك، وانفها عن نفسك خائفا لإغفالها ذكرك، واحجبها عن رؤيتك قاطعا إطماع أولئك عن مثلها عندك، أو غلبتهم عليك منك.
واعلم أن للمشورة موضع الخلا وانفراد النظر، فابغها محرزا لها ورمها طالبا لبيانها، وإياك والقصور عن غايتها والإفراط في طلبها.
احذر الاعتزام بكثرة السؤال عن حديث ما أعجبك، أو أمر ما ازدهاك، والقطع لحديث من أرادك بحديثه، حتى تنقضه عليه بالأخذ في غيره، أو المسألة عما ليس منه؛ فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم، وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة لمساوئها، وأنصت لمحدثك وارعه سمعك، حتى يعلم أنك قد فهمت عنه وأحطت معرفة بقوله؛ فإن أردت إجابته فعن معرفة حاله وبعد علم بطلبته، وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعلل من حديثه بالتبسم والإغضاء، فأجرى عنك الجواب وقطع عنك ألسن العتب.
إياك وأن يظهر منك تبرم بمجلسك وتضجر بمن حضرك، وعليك بالتثبت عند سورة الغضب وحمية الأنف وملال الصبر، في الأمر تستعجل به، والعمل تأمر بإنفاذه؛ فإن ذلك سخف سائر وخفة مردية وجهالة بادية، وعليك بثبوت المنطق ووقار المجلس وسكون الريح والرفض لحشو الكلام وترديد فضوله والاعتزام بالزيادات في منطقك، والترديد للفظك من نحو اسمع أو اعجل أو ألا ترى، أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصرة بأهل العقل، المنسوبة إليهم بالعي، المردية لهم في الذكر، وخصال من معايب الملوك والسوقة عيبها عند النظر إلا من عرفها من أهل الأدب، وقلما حامل لها مضطلع بثقلها آخذ لنفسه بجوامعها، فانفها عن نفسك بالتحفظ منها، واملك عنها اعتقادك معنيا بها كثرة التنخم والتبزق والتنحنح والتثاؤب والجشاء والتمطي وتنقيض الأصابع وتحريكها، والعبث باللحية والشارب والمخصرة وذؤابة السيف والإيماض بالنظر، والإشارة بالطرف إلى أحد من خدمك بأمر إن أردته والسرار في مجلسك، والاستعجال في طعمك وشربك.
ليكن مطعمك مبتدعا، وشربك أنفاسا وجرعك مصا، وإياك والتسرع في الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور أو الشتيمة بابن الهيبة أو العمرية لأحد من خدمك وخاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بمحضرك، أو في دارك وبنائك؛ فإن ذلك مما يقبح ذكره ويسوء موقع القول فيه ويحمل عليك معايبه، وينالك شينه وينشر عنك سوء نبأه، فاعرف ذلك متوقيا له، واحذره مجانبا لسوء عاقبته.
استكثر من فوائد الخير؛ فإنها تنشر المحمدة وتقيل العثرة، واصطبر على الغيظ فإنه يورث العز ويؤمن الساحة، وتعهد العامة بمعرفة دخلهم، وبنظر أحوالهم واستثارة دفائهم حتى يكون على مرأى العين ويقين الخبرة، فتنعش عديمهم وتجبر كسيرهم، وتقيم أودهم، وتعلم جاهلهم، وتستصلح فاسدهم؛ فإن ذلك من فعلك يورثك العزة ويقدمك في الفضل ويبقي لك لسان صدق في العامة، ويحرز لك ثواب الآخرة، ويرد عليك عواطفهم المستنفرة وقلوبهم المستجنة عليك «وميز» بين منازل أهل الفضل في الدين والحجى والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة، وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله والجمود عنه تناه بأهل الحسب والنظر نصيحة لهم تنل مودة الجميع، وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل، وتبلغ درج الشرف في الأحوال المتصرفة بك، فاعتمد عليهم مستدخلا لهم وآثرهم بمجالستك مستمعا منهم، وإياك وتضييعهم مفرطا لهم وإهمالهم مضيعا.
هذه جوامع من خصال، قد لخصها لك أمير المؤمنين وجمع شواهدها مؤلفا، وأهداها لك مرشدا تقف عند أوامرها وتنتهي عند زواجرها، وتثبت في مجامعها، وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الردى، وتنل أنفس الحظوظ ومزية الشرف، وأعلى درج الذكر، والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد، وتتابع المزيد وبلوغ الأمل، وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها، وعافية يحلك أكنافها، ونعمة يلهمك شكرها؛ فإنه الموفق للخير والمعين على الإرشاد وبه تمام الصالحات، وهو مؤتي الحسنات، عنده مفاتيح الخير وبيده الملك، وهو على كل شيء قدير.
فإذا أفضيت نحو عدوك واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي به منال الظفر وتكتهف به لمغالق الحذر؛ تقوى الله - عز وجل - مستشعرا له بمراقبته، والاعتصام بطاعته متبعا لأمره، والاجتناب لمساخطه، محتذيا سنته، والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده، وتعدي شرائعه متوكلا عليه فيما صمدت له، واثقا بنصره فيما وجهت نحوه، متبرئا من الحول والقوة، فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز، راغبا فيما أهاب بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد، ورمى بك إليه محمود الصبر عند الله - عز وجل - من قتال عدو الله للمسلمين أكلبهم عليهم وأظهرهم عداوة لهم، وأفدحهم ثقلا لعامتهم وأخذة بربقهم، وأعلاه عليهم بغيا وأظهره فيهم فسقا وجورا، وأشده على فيئهم الذي أصاره الله لهم مؤنة.
ثم خذ من معك من تبعك وجندك بكف معرتهم ورد مستعلي جورهم، وإحكام خللهم وضم منتشر قواصيهم، ولم شعث أطرافهم وخذهم بمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة «وعفة» الطعمة ودعة الوقار، وهدى الدعة وجمام، «النفس» محكما ذلك منهم متفقدا لهم فيه، تفقدك إياه من نفسك.
ثم اصمد بعدوك المتسمي بالإسلام خارجا من جماعة أهله المنتحل ولاية الدين، مستحلا لدماء أوليائه طاعنا عليهم راغبا عن سنتهم مفارقا لشرائعهم يبغيهم الغوائل، وينصب لهم المكايد أضرم حقدا عليهم، وأرصد عداوة لهم من الترك، وأمم الشرك وطواغي الملل، يدعو إلى المعصية والفرقة والمروق من الدين إلى الفتنة مخترعا بهواه إلى الأديان المنتحلة، والبدع المتفرقة خسارا وتخسيرا وضلالا وإضلالا بغير هدى من الله، ولا بيان ساء ما كسبت يداه، وما الله بظلام للعبيد، وبئسما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، والله من ورائه بالمرصاد
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (الشعراء: 227).
حض جندك واشكم نفسك في مجاهدة أعداء الله، وارج نصره وتنجز موعده، متقدما في طلب ثوابه على جهادهم، معتزما في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم؛ فإن طاعتك إياه فيهم ومراقبتك له، ورجاءك لنصره مسهل لك وعوده، وعاصمك من كل سيئة، ومنجيك من كل هوة، وناعشك من كل صرعة، ومقيلك من كل كبوة، ودارئ عنك كل شبهة، ومذهب عنك لطخة كل شك، ومقويك بكل أيد ومكيدة، ومؤيدك في كل مجمع لقاء، وحافظك من كل شبهة مردية، والله وليك وولي أمير المؤمنين فيك.
اعلم أن الظفر ظفران: أحدهما أعم منفعة، وأبلغ في حسن الذكر قالة، وأحوط سلامة، وأتمه، عافية، وأعوده عاقبة، وأحسن في الأمور موردا، وأصحه في الرواية حزما، وأسهله عند العامة مصدرا، ما نيل بسلامة الجنود، وحسن الحيلة ولطف المكيدة ويمن النقيبة، بغير إخطار الجيوش في وقدة جمرة الحرب، ومنازلة الفرسان في معترك الموت، وإن ساعدك الحظ ونالك مزية السعادة في الشرف، ففي مخاطرة التلف، ومكروه المصائب، وعضاض السيوف، وألم الجراح، وقصاص الحروب، وسجالها بمعاورة أبطالها، على أنك لا تدري لأي الفريقين الظفر في البديهة من المغلوب في الدولة، ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص، فحاول أبلغهما في سلامة جندك ورعيتك وأشهرهما «...» في بادئ رأيك، وأجمعهما لألفة وليك وعدوك، وأعونهما على صلاح رعيتك وأهل ملتك، وأقواهما في حربك وأبعدهما من وصم عزمك وأجزلهما ثوابا عندك، وابدأ بالإعذار والدعاء لهم إلى مراجعة الطاعة وأمر الجماعة وعرى الألفة، آخذا بالحجة عليهم، متقدما بالإنذار لهم، باسطا أمانك لمن لجأ إليه منهم، داعيا لهم إليه بألين لطفك، وألطف حيلتك متعطفا عليهم برأفتك، مترفقا بهم في دعائك، مشفقا عليهم من غلبة الغواية لهم، وإحاطة الهلكة بهم، منفذا رسلك إليهم بعد الإنذار تعدهم كل رغبة يهش إليها طمعهم في موافقة الحق، وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم من تبعهم، موطنا نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بوعدك، والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عهدك قابلا توبة نازعهم عن الضلالة، ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة، مرصدا للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم، إجابة إلى ما دعوتهم إليه وبصرت من حقك وطاعتك بفضل المنزلة، وإكرام المثوى وتشريف الحال؛ ليظهر من أثرك عليه، وإحسانك إليه ما يرغب في مثله الصارف عنك المصر على خلافك ومعصيتك، ويدعو إلى الاعتلاق بحبل النجاة، وما هو أملك به في الاعتصام به عاجلا، وأنجى له من العقاب آجلا وأحوط على دينه ومهجته بدءا وعاقبة؛ فإن ذلك مما يستدعي نصر الله - عز وجل - به عليهم، وتعتصم به في تقدمة الحجة إليهم معذرا ومنذرا، إن شاء الله.
ثم أذك عيونك على عدوك متطلعا لعلم أحوالهم التي ينتقلون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي مدوا بها أعناقهم نحوها، وأي الأمور أدعى لهم إلى الصلح وأقودها لرضاهم إلى العافية، ومن أي الوجوه ما أتاهم من قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإبعاد والترغيب والإطماع مستنا في أمرك متخيرا في رويتك، متمكنا من رأيك مستشيرا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم التجربة ونجذتهم الحروب، متسربا في حربك، آخذا بالحزم في سوء الظن معدا للحذر محترسا من الغرة، كأنك منزل كله ومنازلك جمع مواقف لعدوك رأي عين تنظر حملاتهم، وتخوف غاراتهم، معدا أقوى مكيدتك، وأجد تشميرك، وأرهب عتادك، معظما لأمر عدوك لأكثرهما ... بفرط تبعة له من الاحتراس عظيما من المكيدة، قويا من غير أن يفثأك عن إحكام أمورك، وتدبير رأيك، وإصدار رؤيتك، والتأهب لحربك مصغ له بعد استشعار الحذر واطمئنان الحزم وإعمال الروية وإعداد الأهبة؛ فإن لقيت عدوك كليل الحد ونم النجوم نضيض الوفر لم يضررك ما أعددت له من قوة، وأخذت به من حزم، ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه، وتسرعا إلى لقائه، وإن ألفيته متوقد الجمر، مستكثف التبع، قوي الجمع، مستعلي سورة الجهل، معه من أعوان الفتنة، وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعرا، ويتقدم إلى لقاء أبطالها متسرعا كنت لأخذك بالحزم، واستعدادك بالقوة غير مهين الجند، ولا مفرط في الرأي، ولا متلهف على إضاعة تدبير، ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهب مبادرة تدهشك، وخوفا يقلقك، ومتى تعزم على ترقيق التوقير، وتأخذ بالهويني في أمر عدوك لتصغر المصغرين؛ ينتشر عليك رأيك ويكن فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك، وإهمال الحزم في جندك، وتضييع له وهو ممكن الإصحار رحب المطلب قوي العصمة فسيح المضطرب مع ما يدخل رعيتك من الاغترار، والغفلة عن إحكام أسرارهم وضبط مراكزهم، لما يرون من استنامتك إلى الغرة، وركونك إلى الأمن وتهاونك بالتدبير، فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف، وضياع الإحكام ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره ولا يدفع مخوفه.
احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوك، وإياك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتهمته فيه، أو سؤت ظنا عليه وأتاك غيره بخلافه، وإن تكذبه فيه وترده عليه، ولعله أن يكون من محضك النصيحة، وصدقك الخبر وكذبك الأول، أو خرج جاسوسك الأول متقدما قبل وصول هذا من عند عدوك، ولقد أبرموا أمرا وحاولوا لك مكيدة وازدادوا منك غرة، وإن دفعوا إليك في الأمر، ثم انتقص بهم رأيهم واختلف عنه جماعتهم فأوردوا رأيا وأحدثوا مكيدة، وأظهروا قوة وضربوا موعدا وأموا مسلكا لعدد أتاهم أو قوة حدثت لهم، أو بصيرة في ضلالة شغلتهم، فالأحوال منتقلة بهم في الساعات وطوارق الحادثات، ولكن ألبسهم جميعا على الانتصاح وأرجح لهم المطامع؛ فإنك لم تستعبدهم بمثله، وعدهم جزالة المثاوب في غير ما استنامة منك إلى أمر عدوك، والاغترار بما لم يأتوك به، دون أن تعمل رؤيتك في الأخذ بالحزم والاستكثار من العدة، واجعلهم أوثق من يقدر عليه إن استطعت ذلك، وآمن من تسكن إلى ناحيته ليكون ما يبرم عدوك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت، فتنقض عليهم بتدبيرك ورأيك ما لم يرموا، وتأتيهم من حيث أقدموا وتستعد لهم بمثل ما حذروا.
واعلم أن جواسيسك وعيونك ربما صدقوك وربما غشوك، وربما كانوا لك وعليك، فنصحوا لك، وغشوا عدوك، وغشوك ونصحوا عدوك، وكثير مما يصدقونك ويصدقونه فلا يبدرن منك فرطة في عقوبة إلى أحد منهم، ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتهمته على ذلك، وابسط من آمالهم فيك من غير أن تري أحدا منهم، أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتبع له، أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه، أو رددته عليه رد المكذب له والمتهم المستخف بما أتاك منه، فتفسد بذلك نصيحته، وتستدعي غشه، وتجتر عداوته.
احذر أن يعرف جواسيسك في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع، وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرك، ويكون هو الموجه لهم والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم، واعلم أن لعدوك في عسكرك عيونا راصدة وجواسيس كامنة، وأن رأيه في مكيدتك مثل ما تكايده به، وسيحتال لك كاحتيالك له، ويعد لك كاعتدادك له، فاحذر أن يشعر رجل من جواسيسك في عسكرك، فيبلغ ذلك عدوك ويعرف موضعه، فيعد له المراصد ويحتال له بالمكايد؛ فإن ظفر به وأظهر عقوبته كسر ذلك ثقات عيونك، وحوله عن تطلب الأخبار من معادنها واستقصائها من عيونها، حتى يصيروا إلى أخذها عن عرض من غير الثقة، ولا معاينة لغطائها بالأخبار الكاذبة، والأحاديث المرجفة.
واحذر أن يعرف بعض عيونك بعضا؛ فإنك لا تأمن تواطؤهم عليك، وممالأتهم عدوك واجتماعهم على غشك وكذبك، وأن يورط بعضهم بعضا عند عدوك، وأحكم أمرهم؛ فإنهم رأس مكيدتك وقوام تدبيرك وعليهم مدار حربك، وهو أول ظفرك، فاعمل على حسب ذلك وجنب رجاءك به نيل أملك من عدوك وقوتك على قتالهم، وانتهاز فرصته إن شاء الله، فإذا أحكمت ذلك وتقدمت فيه، واستظهرت بالله وعونه، فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك، وآمنهم نصيحة وأقدمهم بصيرة في طاعتك، وأقواهم شكيمة في أمرك، وأمضاهم صريمة وأصدقهم عفافا وأجرأهم جنانا، وأكفاهم أمانة وأصحهم ضميرا وأرضاهم صبرا، وأحمدهم خلقا وأعطفهم على جماعتهم رأفة، وأحسنهم لهم نظرا وأشدهم في دين الله وحقه صلابة.
ثم فوض إليه مقويا له، وابسط من أمله مظهرا عنه الرضا حامدا منه الابتلاء، وليكن عالما بمراكز الجنود بصيرا بتقديم المنازل، مجربا ذا رأي وتجربة وخزم في المكيدة، له نباهة في الذكر وصيت في الولاية، معروف البيت مشهور الحسب.
وتقدم إليه في ضبط معسكرك وإذكاء أحراسه في آناء ليله ونهاره، ثم حذره أن يكون له إذن لجنوده في الانتشار والاضطراب والتقدم للطائفة، فيصاب منهم غرة يجترئ بها عدوك ويسرع إقداما عليك ويكسر من أفئدة جنودك ويوهن من قوتهم؛ فإن إصابة عدوك الرجل الواحد من جندك وعبيدك مطمع لهم منك مقو لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك وتوهينهم تدبيرك، فحذره ذلك وتقدم إليه فيه.
ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم والحصر لهم، فيعمهم إذاؤه ويشملهم ضنكه ويسوء عليه حالهم، وتشتد به المؤنة عليهم وتخبث له ظنونهم، وليكن موضع إنزاله إياهم مستديرا ضاما جامعا، ولا يكون منتشرا ممتدا فيشق ذلك على أصحاب الأحراس، ويكون فيه النهزة للعدو والبعد من المادة إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته وأوعز إليه في أحراسه، ومره فليول عليهم رجلا ركينا مجربا جريء الإقدام ذكي الصرامة جلد الجوارح بصيرا بموضع أحراسه، غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهة والسعة وتقدم العسكر أو التأخر عنه؛ فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك، وأمنه به على جيشه.
واعلم أن موضع الأحراس من موضعك ومكانها من جندك، بحيث الغناء عنهم والرد عليهم، والحفظ لهم والكلاءة لمن بغتهم طارقا وأرادهم مخاتلا، ومراصدها المنسل منها الآبق من أرقائهم وأعبدهم وحفظ العيون والجواسيس من عدوهم، واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه على الصرامة لمواصرتك في كل أمر حادث وطارق إلا في الملم النازل والحدث العام؛ فإنك إذا فعلت ذلك به دعوته إلى نصحك، واستوليت على محض ضميره في طاعتك، وأجهد نفسه في ترتيبك وإغاثتك. وكان ثقتك وزينك وقوتك ودعامتك، وتفرغت لمكايدة عدوك مريحا نفسك من هم ذلك، والعناية به ملق عنك مؤنة باهظة وسلفة فادحة، إن شاء الله.
ثم اعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام، ولا يمثله أحد من الولاة لما يجري على يديه من مغالظ الأحكام ومجاري الحدود، فليكن من توليه القضاء بين أهل العسكر من ذوي الخير في القناعة والعفاف والنزاهة والفهم، والوقار والعصمة والورع والبصر بوجوه القضايا ومواقعها قد حنكته السن، وأيدته التجربة وأحكمته الأمور، ممن لا يتصنع للولاية ويستعد للنهزة ويجترئ على المحاباة في الحكم والمداهنة في القضاء ، عدل الأمانة عفيف الطعمة حسن الإنصات، فهم القلب ورع الضمير متخشع السمت هادي الوقار محتسبا للخير، ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه وفرغه لما حملته وأعنه على ما وليته؛ فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وثواب الآخرة، أو شرف العاجلة وحظوة الآجلة إن حسنت نيته، وصدقت رويته وصحت سريرته، وسلط حكم الله على رعيته، منفذا قضاءه في خلقه عاملا بسنته في شرائعه آخذا بحدوده وفرائضه.
واعلم أنه من جندك ومعسكرك بحيث ولايتك، وفي الموضع الجارية أحكامه عليهم النافذة أقضيته بينهم، فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه، إن شاء الله.
ثم تقدم في طلائعك؛ فإنه أول مكيدتك ورأس حربك ودعامة أمرك، فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالا ذوي نجدة، وبأس وصرامة وخبرة وحماة كفاة قد صلوا بالحرب وتذاوقوا سجالها، وشربوا من مرارة كئوسها وتجرعوا غصص درتها وزبنتهم بتكرارها، وحملتهم على أصعب مراكبها، ثم اتبعهم على عينك واعرض كراعهم بنفسك، وتوخ في انتقائهم ظهور الجلد وسجاحة الخلق وجمال الآلة، وإياك أن تقبل من دوابهم إلا إناث الخيول مهلوبة؛ فإنها أسرع طلبا وأنجى مهربا وأبعد في اللحوق غاية، وأصبر في معترك الأبطال إقداما، ونجذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد شاكة السنخ، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير وأسوق الحديد، مموهة الركب محكمة الطبع خفيفة الصوغ، وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي رقاق المعطف، بأكف وافية وعمل محكم، وبلق البيض مذهبة ومجردة فارسية الصوغ خالصة الجوهر سابغة الملبس وافية اللين، مستديرة الطبع، مبهمة السرد، وافية الوزن كتريك النعام في الصنعة، معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ؛ فإنها أهيب لعدوهم وأفت لأعضاد من لقيهم، والمعلم مخشي محذور، له بديهة وادعة معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات، مسنونة الشحذ غير كليلة المشحذ مشطبة الضرائب، معتدلة الجواهر صافية الصفائح، لم يدخلها وهن الطبع، ولا عابها أمت الصوغ، ولا شانها خفة الوزن، ولا فدح حاملها بهور الثقل، قد أشرعوا لدن القنا طوال الهوادي زرق الأسنة مستوية الثعالب، وميضها متوقد، وشحذها متلهب، معاقص عقدها منحوتة ووصم أودها مقوم، أجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة، وعقدها حنكة، شطبة الأسنان، محكمة الجلاء مموهة الأطراف، مستحدة الجنبات، دقاق الأطراف، ليس فيها التواء أود، ولا أمت وصم، ولا لها سقط عيب، ولا عنها وقوع أمنية مستحقب كنائن النبل، وقسي الشوحط والنبع، أعرابية التعقيب، رومية النصول؛ فإنها أبلغ في الغاية وأنفذ في الدروع وأشك في الحديد، سامطين حقائبهم على متون خيولهم، مستخفين من الآلة والأمتعة، إلا ما غناء لا بهم عنه.
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم إلى أحد من أعوانك أو كتابك؛ فإنك إن وكلته إليهم أضعت موضع الحزم، وفرطت حيث الرأي، ووقفت دون الحزم، ودخل عملك ضياع الوهن وخلص إليك عيب المحاباة، وناله فساد المداهنة، وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين، ولا عدة ولا حصنا يدرءون به ويكتنفون بموضعه.
واعلم أن الطلائع عيون وحصون للمسلمين: فهم أول مكيدتك، وعروة أمرك، وزمام حربك، فليكن اعتناؤك بهم، بحيث هم من مهم عملك ومكيدة حربك، ثم انتخب لهم رجلا للولاية عليهم، بعيد الصوت مشهور الفضل نبيه الذكر له في العدو وقعات معروفات وأيام طوال وصولات متقدمات، قد عرفت نكايته وحذرت شوكته وهيب صوته، وتنكب لقاؤه، أمين السريرة ناصح الغيب، قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته من لين طباعه، وخالص المودة، ونكاية الصرامة وغلوب الشهامة، واستجماع القوة وحصافة التدبير، ثم تقدم إليه في حسن سياستهم واستنزال طاعتهم واجتلاب موداتهم واستعداد ضمائرهم وأجر عليهم أرزاقا تسعهم، وتمد من أطماعهم سوى أرزاقهم في العامة، وفي ذلك من القوة لك عليهم والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهم الأماكن لك، وأعظمها غناء عنك وعمن معك وأقمعها مكمنا، وأشجى لعدوك، ومتى يكن في البأس والثقة والجلد والطاعة والقوة والنصيحة، حيث وصفت لك وأمرتك به تضع عنك مؤنة الهم، وترخي عن خناقك دروع الخوف، وتلتجئ إلى أمر متين، وظهر قوي وأمر حازم تأمن به فجآت عدوك، ويصير إليك علم أحوالهم ومتقدمات خيولهم، فانتخبهم رأي عين، وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق، واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علامتك، وحصانة كهوفك ، وقوة سيارة عسكرك، وإياك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة أو تحتمله على هوادة، أو تقدمه منهم لأثرة، وأن يكون مع أحد منهم بغل نقل أو فضل من الظهر أو ثقل فادح، فيشتد عليهم مؤنة أنفسهم، ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم، ويشتغلون به عن عدوهم إن دهمهم منه رائع، أو فاجأهم لهم طليعة، فتفقد ذلك محكما له، وتقدم فيه آخذا بالحزم في إمضائه - أرشدك الله لإصابة الحظ، ووفقك ليمن التدبير.
ولدراجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافهم، ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشرف محمود الخبرة معروف النجدة، ذا سن وتجربة، لين الطاعة قديم النصيحة مأمون السريرة، له بصيرة في الحق تقدمه، ونية صادقة عن الادهان تحجزه واضمم إليه عدة من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه، ثم تقدم إليه في إخراج المصاف وإقامة الأحراس، وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف وشدة الحذر.
ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم، كل قائد بإزاء موضعه، وحيث منزله قد شد ما بينه وبين صاحبه بالرماح شارعة والتراس موضونة، والرجال راصدة ذاكية الأحراس وجلة الروع، خائفة طوارق العدو وبياته، ثم مره أن يخرج كل ليلة قائدا من أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيرا على غلوة أو غلوتين من عسكرك، محيطا بمنزلك ذاكية أحراسه؛ قلقه التردد مفرطة الحذر، معدة للروع متأهبة للقتال آخذة على أطراف العسكر ونواحيه، متفرقين في أخلافهم كردوسا كردوسا يستقبل بعضهم بعضا في الاختلاف ويكسع متقدما في التردد، فاجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوبا معروفة وحصصا مفروضة، لا يعد منه مزدلفا بمودة، ولا يتحامل على أحد فيه بموجدة، إن شاء الله.
فوض إلى أمراء جندك وقوادهم أمور أصحابهم، والأخذ على أيديهم رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم والاتباع لأمرهم، والوقوف عند نهيهم، وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها، والأعمال التي استنجدتهم لها، والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم، واحذر اعتلال أحد من قوادك عليك، بما يحول بينك وبين جندك وتقويمهم لطاعتك وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم؛ فإن ذلك مفسدة للجند معي للقواد عن الجد والمناصحة، والتقدم في الأحكام.
واعلم أن استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمرهم، دخول الضياع على أعمالهم واستخفاف بأمرك الذي يأتمرون به، ورأيك الذي ترتئي، وأوعز إلى القواد ألا يتقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه، إلا عقوبة تأديب وتقويم ميل وتثقيف أود، فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة وإقامة الحد في قطع، أو إفراط في ضرب، أو أخذ مال أو عقوبة في سفر، فلا يلين ذلك من جندك أحد غيرك، أو صاحب شرطتك بأمرك، وعن رأيك وإذنك، ومتى لم تذلل الجند لقوادهم وتضرعهم لأمرائهم، يوجب عليك لهم الحجة بتضييع، وإن كان منهم لأمرك خلل إن تهاونوا به من عملك، أو عجز إن فرط منهم في شيء وكلتهم إليه، أو أسندته إليهم، ولم تجد إلى الإقدام عليهم باللوم، وعض العقوبة مجازا تصل به إلى تعنيفهم بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم، وإفسادك إياهم عليهم، فانظر في ذلك نظرا محكما، وتقدم فيه تقدما بليغا، وإياك أن يدخل حزمك وهن أو عزمك أمارات من رأيك ضياع، والله أستودع دينا في نفسك.
إذا كنت من عدوك على مسافة دانية، وسنن لقاء مختصر. وكان من عسكرك مقتربا قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته، فتأهب أهبة المناجزة وأعد عدد الحذر وكتب خيولك وعب جنودك، وإياك والمسير إلا مقدمة وميمنة وميسرة وساقة قد شهروا بالأسلحة ونشروا البنود والأعلام، وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال، واستعدوا للقاء ملحين إلى مواقفهم، عارفين بمواضعهم من مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترجلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم ومراكزهم.
وعرف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة لازمين لها، غير مخلين بما استنجدتهم له، ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه، حتى تكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ومسافة تختارها، كأنه عسكر واحد في اجتماعها على العدة، وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها، ونزولها على مراكزها ومعرفتها بمواضعها، إن أضلت دابة موضعها، عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها، وفي أي المحل حلوله منها؛ فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها؛ فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له، اطراح عن جندك مؤنة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة.
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا، ورضا في العامة وإنصافا من نفسه للرعية، وأخذا بالحق في المعدلة، مستشعرا تقوى الله وطاعته، آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال، وشبيها بك في الشرف وعديلا في المواضع ومقاربا في الصيت، ثم اكشف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر، وأعنه بالأموال واغمره بالسلاح، ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ومن رخفت به دابته، وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة، من غير أن تأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره، أو التخلف بعد ترجله إلا المجهود أو المطروق بآفة، ثم تقدم إليه محذرا ومره زاجرا، وانهه مغلظا بالشدة على من مر به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوارك شادا لهم أسرا، وموقرهم حديدا ومعاقبهم موجعا، أو موجههم إليك فتنهكهم عقوبة، وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة.
واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقا بنصيحته، عارفا ببصيرته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه، وصرامة تؤمنك مهانته، ونفاذا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته، لم آمن تسلل الجند عنك لواصا، ورفضهم مراكزهم وإخلالهم بمواضعهم، وتخلفهم عن أعمالهم آمنين تغيير ذلك عليهم، والشدة على من اخترمه منهم ما ... ذلك في وهنك، وأخذ من قوتك وقل من كثرتك.
اجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوادك جليدا ماضيا، عفيفا صارما شهم الرأي شديد الحذر شكيم القوة غير مداهن في عقوبة ولا مهين في قوة، في خمسين فارسا من خيلك تحشر إليك جندك، ويلحق بك من يتخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم، والنهك لهم والتنكيل بهم، وليكن لعقوبتك في المنزل الذي ترتحل عنه، والمنهل الذي تتقوض منه، مفرطا في النقض والتبع لمن تخلف عنك مشيدا في أهل المنهل، وساكنه بالتقدم موعزا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم، وإخراجهم من مكانهم وإبعاد العقوبة الموجعة، والنكال المنيل في الإشعار وإصفاء الأموال، وهدم العقار لمن آوى منهم أحدا، أو ستر موضعه وأخفى محله، وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد، والمحاباة لذي قرابة، والاختصاص بذلك لذي أثرة أو هوادة، وليكن فرسانه منتخبين في القوة، معروفين بالنجدة، عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وحب الاستحثاث، متقلدين سيوفهم سامطين كنائنهم مستعدين لهيج إن بدهم، أو كمين إن يظهر لهم، وإياك أن تقبل في دوابهم إلا فرسا قويا أو برذونا وثيجا؛ فإن ذلك من أقوى القوة لهم، وأعون الظهير على عدوهم - إن شاء الله.
ليكن رحيلك إبانا واحدا ووقتا معلوما، لتخف المؤنة بذلك على جندك ويعلموا أوان رحيلهم، فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم، وتسكن أفئدتهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه، ويطمئن ذوو الحاجات إبان الرحيل، ومتى يكن رحيلك مختلفا تعظم المؤنة عليك وعلى جندك ويخلوا بمراكزهم، ولا يزال ذوو السفه والنزق يترحلون بالإرجاف وينزلون بالتوهم، حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.
إياك أن تنادي برحيل من منزل تكون فيه، حتى يأمر صاحب تعبيتك بالوقوف على معسكرك، أخذا بفوهة جنبتيه بأسلحتهم عدة لأمر إن حضر، ومفاجأة من طليعة للعدو إن أراد نهزة، أو لمحت عندكم غرة، ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة وأهبتك معدة وجنتك واقية، حتى إذا استقللتم من معسكركم وتوجهتم من منزلكم، سرتم على تعبيتكم بسكون ريح وهدوء حملة وحسن دعة.
فإذا انتهيتم إلى منهل أردت نزوله، أو هممت بالمعسكر به، فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأن تعرف لك أحواله، أو يسبر علم دفينه ويستبطن علم أموره، ثم ينهيها إليك وما صارت إليه لتعلم كيف احتمال عسكرك، وكيف مأواه وأعلامه وكيف موضع عسكرك منه، وهل لك إذا أردت مقاما به أو مطاولة عدوك ومكايدته، فيه قوة تحملك ومدد يأتيك؛ فإنك إن لم تفعل ذلك لم تأمن أن يهجم على منزل يزعجك منه ضيق مكانه، وقلة مياهه وانقطاع مواده إن أردت بعدوك مكيدة، واحتجت من أمرهم إلى مطاولة؛ فإن ارتحلت منه كنت غرضا لعدوك، ولم تجد إلى المحاربة والأخطار سبيلا، وإن أقمت به أقمت على مشقة حصر وفي أزل وضيق، فاعرف ذلك وتقدم فيه.
فإذا أردت نزولا أمرت صاحب الخيل التي رحلت الناس، فوقفت متنحية من معسكرك عدة لأمر إن راعك، ومفزعا لبديهة إن راعتك قد أمنت - بإذن الله وحوله - فجأة عدوك، وعرفت موقعها من حربك، حتى يأخذ الناس منازلهم وتوضع الأثقال مواضعها، ويأتيك خبر طلائعك وتخرج دباباتك من عسكرك دبابا محيطين بعسكرك، وعدة لك إن احتجت إليهم، وليكن دباب جندك بعسكرك أهل جلد وقوة قائد أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم في كل ليلة ويوم نوبا بينهم، فإذا غربت الشمس ووجب نورها، أخرج إليهم صاحب تعبيتك أبدالهم عسسا بالليل في أقرب من مواضع دباب النهار، يتعاور ذلك قوادك جميعا بلا محاباة لأحد منهم فيه، ولا ادهان، إن شاء الله.
إياك أن يكون منزلك إلا في خندق أو حصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدته، إذا وضعت الأثقال وخططت أبنية أهل العسكر، لم يمد خباء ولم ينتصب بناء حتى يقطع لكل قائد ذرع معلوم من الأرض بقدر أصحابه فيحتفروه عليهم ويبنوا بعد ذلك خنادق الحسك طارحين لها دون أشجار الرماح، ونصب الترسة لها بابان، قد وكلت بعد بحفظ كل باب منهما رجلا من قوادك في مائة رجل من أصحابه، فإذا فرغ من الخندق كان ذلك القائد أهلا لذلك المركز وكان المكان وموضع تلك الخيل. وكانوا هم البوابين والأحراس لذينك الموضعين ند إلى الرفاهة والسعة، وتقدم العسكر أو التأخر عنه؛ فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك، وأمنه به على جيشه.
واعلم أنك إذا أمنت - بإذن الله - طوارق عدوك وبغتاتهم، فإذا راموا ذلك منك كنت قد أحكمت ذلك، وأخذت بالجد فيه، وتقدمت في الإعداد له، ورتقت مخوف الفتق منه، إن شاء الله.
إذا ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعا في ... حذرا معدا مشمرا عن ساقك مسربا لحربك قد قدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفت لك ... التي قدرت لك وطلائعك حيث أمرتك، وجندك حيث عبأت قد خطرت عليهم بنفسك، وتقدم إلى جندك إن طرق طارق أو فاجأهم عدو ألا يتكلم أحد منهم إلا رافعا صوته بالتكبير، مستغفرا في إجلاب معلنا للإرهاب إلا أهل الناحية التي يقع بها العدو طارقا، وليشرعوا رماحهم مادين لها في وجوههم، ويرشقهم بالنبل ملبدين ترستهم لازمين لمراكزهم ... قدم عن موضعها، ولا منحازين إلى غير مركزهم وليكبروا ثلاث تكبيرات متواليات، وسائر الجند هادون ... عدوك من معسكرهم، فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطك، ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد، وتدس لهم النشاب والرماح، وإياك أن يشهروا سيفا يتجالدون به وتقدم إليهم فلا يكون قتالهم بالليل في تلك المواضع من طرقهم إلا بالرماح مسندين لها إلى صدورهم، والنشاب راشقين به وجوههم، قد ألبدوا بالترسة واستجنوا بالبيض، وألقوا عليهم سوابغ الدروع وحباب الحشو؛ فإن صد العدو عنهم حاملين على ناحية أخرى كبر أهل تلك الناحية الأولى وبقية العسكر سكون، والناحية التي صدر عنها العدو لازمة لمراكزها، فعلت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم، وإياك وأن تخمد نار رواقك، وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعرا لها، وأوقدها حطبا جزلا يعرف بها أهل العسكر مكانك وموضع رواقك، ويسكن نافر قلوبهم ويقوي واهن قوتهم، ويشتد منخذل ظهورهم، ولا يرجفون فيك بالظنون ويجيلون لك آراء السوء، وذلك من فعلك رد عدوك بغيظه، ولم يستقل منك بظفر ولم يبلغ من نكايتك سرورا - إن شاء الله.
فإن انصرف عنك عدوك، ونكل عن الإصابة من جندك. وكان بخيلك قوة على طلبه، أو كانت لك خيل معدة، وكتيبة منتخبة قدرت أن تركب بهم أكتافهم، وتحملهم على سننهم فأتبعهم جريدة خيل عليها الثقات من فرسانك، وأولو النجدة من حماتك؛ فإنك ترهق عدوك، وقد أمن بياتك وشغل بكلاله عن التحرز منك، والأخذ بأبواب معسكره، والضبط لمحارسه، موهنة حماتهم، لغبة أبطالهم لما ألفوكم عليه من التشمير والجد، قد عقر الله فيهم، وأصاب منهم وجرح من مقاتلتهم، وكسر من أماني ضلالتهم، ورد من مستعلي جماحهم، وتقدم إلى من توجه طلبهم وتتبعه أن يكونوا، وهم في سكون الريح وقلة الرفث وكثرة التسبيح والتهليل، واستنصار الله - عز وجل - بقلوبهم وألسنتهم، سرا وجهرا بلا لجب ضجة ولا ارتفاع ضوضاء دون أن يردوا على مطلبهم، وينتهزوا فرصهم ثم يشهروا السلاح وينضوا السيوف؛ فإن لها هيبة رائعة وبديهة مخوفة، لا يقوم لها في بهمة الليل إلا البطل المحارب وذو البصيرة المحامي المستميت المقاتل، وقليل ما هم عند تلك المواضع، إن شاء الله.
ليكن أول ما تقدم به في التهيؤ لعدوك، والاستعداد للقائه انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجد والصرامة، ممن قد اعتاد طراد الكماة، وكشر عن ناجذه في الحرب، وقام على ساق في منازلة الأقران، ثقف الفراسة مستجمع القوة مستحصد المريرة صبورا على أهوال الليل، عارفا بمناهز الفرص، لم تمهنه الحنكة ضعفا، ولا أبلغت به السن ملالا ولا أسكرته غرة الحداثة جهلا، ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفا، جريئا على مخاطرة التلف متقدما على أدراع الموت، مكابرا لمرهوب الهول، متقحما مخشي الحتوف، خائضا غمرات المهالك برأي يؤيده الحزم، ونية لا يخلجها الشك وأهواء مجتمعة، وقلوب موقنة عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها، وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين ثم اعرضهم رأي عين على كراعهم وأسلحتهم، ولتكن دوابهم إناث عتاق الخيول وأسلحتهم سوابغ الدروع، وكمال آلة المحارب متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجواهر وصافي الحديد، والمتخيرة من معادن الأجناس هندية الحديد، أو بدنية يمانية الطبع، رقاق المضارب مستوية الشحذ مشطبة الضريبة، ملبدين بالترسة الفارسية صينية التعقيب، معلمة المقابض بحلق الحديد أنحاؤها مربعة، ومحارزها بالتجليد مضاعفة، ومحملها مستخف، وكنائن النبل وجعاب القسي قد استحقبوها، وقسي الشريان والنبع أعرابية الصنعة، مختلفة الأجناس محكمة العمل ونصول النبل مسمومة، وتركيبها عراقي وترييشها بدوي مختلفة الصوغ في الطبع شتى الأعمال في التشطيب والاستزادة، ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض، منبسطة الأسنة، سهلة الانعطاف، مقربة الانحناء ممكنة المرمى، واسعة الأسهم فرضها سهلة الورود، معاطفها غير معنون المواتاة.
ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك، وتقدم إليهم في ضبطهم وكف بطشهم ... واستنزل نصائحهم واستعداد طاعتهم، واستخلاص ضمائرهم، وتعهد كراعهم وأسلحتهم، معفيا لهم من النوائب التي تلزم أهل العسكر وعامة جندك، ثم اجعلهم عدة لأمر إن فاجأك أو طارق بيتك، ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة وحذرهم؛ فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك، فليكونوا كرجل واحد في التشمير والتردف وسرعة الإجابة؛ فإنك إن عسيت ألا تجد عند جماعة جندك مثل تلك الروعة والمباغتة، إن احتجت إلى ذلك منهم معونة كافية ولا أهبة معدة، بل ذلك كذلك فاذكرها وول الذي يبعث عدتك وقوتك تقويا، قد قطعتها على القواد الذين وليتهم أمورهم فسميت أولا وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا إلى عشرة؛ فإن اكتفيت فيما يبدهك ويطرقك لبعث واحد كان معدا لم تحتج فيه إلى امتحانهم في ساعتهم تلك، وقطع البعث عليهم عندما يرهقك، وإن احتجت إلى اثنين وثلاث، وجهت منهم إرادتك، إن شاء الله.
وكل بخزائنك ودواوينك رجلا أمينا صالحا ذا ورع حاجز ودين فاضل، واجعل معه خيلا يكون مسيرها ومنزلها وترحلها مع خزائنك، وتقدم إليه في حفظها والتوفر عليها، واتهام من يستولي على شيء منها على إضاعته والتهاون به، والشدة على من دنا منها في مسير أو ضامها في منزل، وليكن عامة الجند والجيش إلا من استصلحت للمسير معها متنحين عنها مجانبين لها؛ فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة؛ فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل، وحفظ لها وذب عنها أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها، حتى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة؛ فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير، وإنما همتهم الشر، فإياك وأن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع، أو يجدوا إلى اغتيالها ومررتها، إن شاء الله.
اعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة، وأبعدها صوتا في حسن القالة ما نلت الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة، فلتكن رويتك في ذلك، وحرصك على إصابته لا بالقتال وأخطار التلف، وادسس إلى عدوك وكاتب رءوسهم وقادتهم، وعدهم المنالات، ومنهم الولايات، وسوغهم التراب، وضع عنهم الإحن، واقطع عنهم أعناقهم بالمطامع، واملأ قلوبهم بالترهيب، وإن أمكنتك منهم الدوائر، وأصار بهم إليك الرواجع، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم، أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جوابات كتب لهم إليك، وتكتب على ألسنتهم كتبا إليك تدفعها إليهم، ويحمل بها صاحبهم عليهم، وتنزلهم عنده منزلة التهمة، فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم، وتشتيت جماعتهم واحش قلوبهم سوء الظن من واليهم، فيوحشهم منه خوفهم إياه على أنفسهم إذا أيقنوا بأنها مناياهم؛ فإن بسط يده بقتلهم وأولغ في دمائهم سيفه، وأسرع في الوثوب بهم أشعرهم جميعا الخوف، وشملهم الرعب ودعاهم إليك الهرب، وتهافتوا نحوك بالنصيحة، وإن كان متأنيا محتملا رجوت أن تستميل إليك بعضهم، وتستدعي بالطمع ذوي الشره منهم، وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم، إن شاء الله.
إذا تدانى الصفان وتواقف الجمعان واحتضرت الحرب، فعبأت أصحابك لقتال عدوهم فأكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله، والتوكل على الله، والتفويض إليه ومسألته توفيقك وإرشادك، وأن يعزم لك على الرشد، والعصمة الكالئة والحيطة الشاملة.
ومر جندك بالصمت وقلة التلفت إلى المشار له، وكثرة التكبير في أنفسهم والتسبيح بضمائرهم وألا يظهروا تكبيرا، إلا في الكرات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها، فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن، وليكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي، واكفنا شوكته المستحدة وأيدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بعونك من الفشل والعجز، إنك أرحم الراحمين.
وليكن في عسكرك مكبرون بالليل والنهار، قبل المواقع، يطوفون عليهم يحضونهم على القتال ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ورخاء أهلها وسكانها، ويقولون: اذكروا الله يذكركم واستنصروه ينصركم، وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبية جندك، ووضعهم من رايات ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التعبية، وأمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابه هذا - إن شاء الله - أيدك الله بالنصر وغلب لك على القوة، وأعانك على الرشد وعصمك من الزيغ، وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشهداء ومنازل الأصفياء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومن الرسائل المفردات في الشطرنج
أما بعد: فإن الله شرع دينه بإنهاج سبله، وإيضاح معالمه بإظهار فرائضه، وبعث رسله إلى خلقه دلالة لهم على ربوبيته، واحتجاجا عليهم برسالاته، ومقدما إليهم بإنذاره ووعيده ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ثم ختم بنبيه
صلى الله عليه وسلم
وحيه، وقفى به رسله وابتعثه لإحياء دينه الدارس، مرتضيا له على حين انطمست له الأعلام مختفية، وتشتت السبل متفرقة، وعفت آثار الدين دراسة وسطع رهج الفتن، واعتلى قتام الظلم واستنهد الشرك وأسدف الكفر.
وظهر أولياء الشيطان لطموس الأعلام، ونطق زعيم الباطل بسكتة الحق، واستطرق الجور واستنكح الصدوف عن الحق، واقمطر سلهب الفتنة واستضرم لقاحها وطبقت الأرض ظلمة كفر وغيابة فساد - فصدع بالحق مأمورا وبلغ الرسالة معصوما، ونصح الإسلام وأهله دالا لهم على المراشد، وقائدا لهم إلى الهداية ومنيرا لهم أعلام الحق ضاحية، مرشدا لهم إلى استفتاح باب الرحمة، وإعلان عروة النجاة، موضحا لهم سبل الغواية، زاجرا لهم عن طريق الضلالة، محذرا لهم الهلكة موعزا إليهم في التقدمة ضاربا لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخشون، وما إليه يسارعون ويطلبون، صابرا نفسه على الأذى والتكذيب، داعيا لهم بالترغيب والترهيب، حريصا عليهم متحننا على كافتهم، عزيزا عليه عنتهم رءوفا بهم رحيما تقدمه شفقته عليهم، وعنايته برشدهم إلى تجريد الطلب إلى ربه فيما فيه بقاء النعمة عليهم وسلامة أديانهم، وتخفيف أواصر الأوزار عنهم، حتى قبضه الله إليه
صلى الله عليه وسلم
ناصحا متنصحا أمينا مأمونا، قد بلغ الرسالة وأدى النصيحة، وقام بالحق وعدل عمود الدين، حتى اعتدل ميله وأذل الشرك وأهله، وأنجز الله له وعده، وأراه صدق أسبابه في إكماله للمسلمين دينه، واستقامة سنته فيهم وظهور شرائعه عليهم، قد أبان لهم موبقات الأعمال، ومفظعات الذنوب ومهبطات الأوزار وظلم الشبهات، وما يدعو إليه نقصان الأديان وتستهويهم به الغوايات، وأوضح لهم أعلام الحق، ومنازل المراشد، وطرق الهدى وأبواب النجاة، ومعالق العصمة غير مدخر لهم نصحا، ولا مبتغ في إرشادهم غنما.
فكان مما قدم إليهم في نهيه، وأعلمهم سوء عاقبته وحذرهم إصره، وأوعز إليهم ناهيا وواعظا وزاجرا الاعتكاف على هذه التماثيل من الشطرنج، والمواصلة عليها؛ لما في ذلك من عظيم الإثم وموبق الوزر مع مشغلتها عن طلب المعاش، وإضرارها بالعقول ومنعها من حضور الصلوات في مواقيتها مع جميع المسلمين، وقد بلغ أمير المؤمنين أن ناسا ممن قبلك من أهل الإسلام قد ألهجهم الشيطان بها، وجمعهم عليها وألف بينهم فيها، فهم معتكفون عليها من لدن صبحهم إلى ممساهم، ملهية لهم عن الصلوات شاغلة لهم عما أمروا به من القيام بسنن دينهم، وافترض عليهم من شرائع أعمالهم مع مداعبتهم فيها، وسوء لفظهم عليها، وأن ذلك من فعلهم ظاهر في الأندية والمجالس، غير منكر ولا معيب ولا مستفظع عند أهل الفقه وذوي الورع والأديان والأسنان منهم، فأكبر أمير المؤمنين ذلك وأعظمه، وكرهه واستكبره وعلم أن الشيطان عندما يئس منه من بلوغ إرادته في معاصي الله - عز وجل - بمصر المسلمين ومجمعهم صراحا وجهارا أقدم بهم على شبهة مهلكة، وزين لهم ورطة موبقة، وغرهم بمكيدة حيله إرادة لاستهوائهم بالخدع واجتيالهم بالشبه، والمراصد الخفية المشكلة، وكل مقيم على معصية الله صغرت، أو كبرت مستحلا لها مشيدا بها مظهرا لارتكابه إياها، غير حذر من عقاب الله - عز وجل - عليها، ولا خائف مكروها فيها، ولا رعب من حلول سطوته عليها حتى تلحقه المنية فتختلجه، وهو مصر عليها غير تائب إلى الله منها، ولا مستغفر من ارتكابه إياها، فكم قد أقام على موبقات الآثام، وكبائر الذنوب حتى مد به مخرم أيامه!
وقد أحب أمير المؤمنين أن يتقدم إليهم فيما بلغه عنهم، وأن ينذرهم ويوعز إليهم ويعلمهم ما في أعناقهم عليها، وما لهم في قبول ذلك من الحظ، وعليهم في تركه من الوزر فأذن بذلك فيهم وأشده في أسواقهم، وجميع أنديتهم وأوعز إليهم فيه، وتقدم إلى عامل شرطتك في إنهاك العقوبة لمن رفع إليه من أهل الاعتكاف عليها، والإظهار للعب بها وإطالة حبسه في ضيق وضنك، وطرح اسمه من ديوان أمير المؤمنين وأفطمهم، عما نهجوا به من ذلك والتمس بشدتك عليهم فيها وإنهاكك بالعقوبة عليه ثواب الله وجزاءه، واتباع أمير المؤمنين ورأيه، ولا يجدن أحد عندك هوادة في التقصير في حق الله - عز وجل - والتعدي لأحكامه فتحل بنفسك ما يسوءك عاقبة مغبته، وتتعرض به لغضب الله - عز وجل - ونكاله، واكتب إلى أمير المؤمنين ما يكون منك - إن شاء الله - والسلام.
وله تحميد في أبي العلاء الحروري:
الحمد لله الناصر لدينه وأوليائه وخلفائه، المظهر للحق، وأهله، والمذل لأعدائه وأهل البدعة والضلالة، الذي لم يجمع بين حق وباطل، وأهل طاعة ومعصية إلا جعل النصرة والفلج والعاقبة لأهل حقه وطاعته، وجعل الخزي والذلة والصغار على أهل الباطل والخلاف والمعصية - حمدا يتقبله ويرضاه ويوجب به لأمير المؤمنين، وأهل طاعته الزيادة التي وعد من شكره، والحمد لله على ما يتولى من إعزاز أمير المؤمنين ونصره وإفلاجه، وإظهار حقه على ما وقع بأعدائه وأهل معصيته والخلاف عليه من سطواته ونقماته وبأسه، فيما ولي أمير المؤمنين من موالاة من والاه وعداوة من بغى عليه وعاداه، لا يكله في شيء من الأمور إلى نفسه ولا إلى حوله وقوته ومكيدته؛ فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.
تحميد لعبد الحميد في فتح:
الحمد لله العلي مكانه، المنير برهانه، العزيز سلطانه، الثابتة كلماته، الشافية آياته، النافذ قضاؤه، الصادق وعده، الذي قدر على خلقه بملكه، وعز في سماواته بعظمته، ودبر الأمور بعلمه، وقدرها بحكمه على ما يشاء من عزمه، مبتدعا لها بإنشائه إياها، وقدرته عليها واستصغاره عظيمها، نافذا إرادته فيها لا تجري إلا على تقديره، ولا تنتهي إلا إلى تأجيله، ولا تقع إلا على سبق من حتمه، كل ذلك بلطفه وقدرته وتصريف وحيه، لا معدل لها عنه، ولا سبيل لها غيره، ولا علم أحد بخفاياها ومعادها إلا هو؛ فإنه يقول في كتابه الصادق:
وعنده مفاتح الغيب (الأنعام: 59).
ولعبد الحميد في فتح يعظم فيه أمر الإسلام:
أما بعد: فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام دينا، رضي شرائعه، وبين أحكامه، ونور هداه، ثم كنفه بالعز المؤيد، وأيده بالظفر القاهر، وآزره بالسعادة المنتجبة، وجعل من قام به داعيا إليه من جنده الغالبين وأنصاره المسلطين، كلما قهر بهم مناوئا أورثهم رباعهم المأهولة، وأموالهم المثرية ودارهم الفسيحة، ودولتهم المطولة أمرا حتما على نفسه، ثم جعل من عاندهم وابتغى غير سبيلهم مسالما، قد استهوته ذلة الكفر بظلمها، وحيرة الجهالة بحوارها وتيه الشقاء بمغاويه، وكلما ازدادوا لدعوة الحق إباء ازداد الحق إليهم ازدلاقا، وعليهم عكوفا وفيهم إقامة إلى أن يحل بهم عز الغلبة ونجاة المتجاوز، داعين فيما شوقهم إليه، محافظين على ما ندبهم له، قد بذلوا في طاعة الله دماءهم، وقبلوا المعروض عليهم في مبايعة ربهم لهم بأنفسهم الجنة، محمود صبرهم، مسهل بهم عزمهم إلى خير الدنيا والآخرة.
والحمد لله الذي أكرم محمدا
صلى الله عليه وسلم
بما حفظ له من أمور أمته، أن اختار لمواريث نبوته ما أصار إلى أمير المؤمنين من تطويقه، ما حمل بحسن نهوض به وشج عليه، ومنافسة فيه أن فعل وفعل.
والحمد لله الذي تمم وعده لرسوله وخليفته في أمة نبيه، مسددا فيما اعتزم عليه، والحمد لله المعز لدينه المتولي نصر أمة نبيه، المتخلي عمن عاداهم وناوأهم حمدا يزيد به من رضي شكره، وحمدا يعلو حمد الحامدين من أوليائه، الذين تكاملت عليهم نعمه فلا توصف، وجلت أياديه فلا تحصى، الذي حملنا ما لا قوة بنا على شكره إلا بعونه، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ذلك، وإليه يرغب إنه على كل شيء قدير.
ولعبد الحميد أيضا: أما بعد: فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وارتضاه دينا لملائكته وأهل طاعته من عباده، وجعله رحمة وكرامة ونجاة وسعادة لمن هدي به من خلقه وأكرمهم وفضلهم، وجعلهم بما أنعم عليهم منه أولياءه المقربين، وحزبه الغالبين وجنده المنصورين، وتوكل لهم بالظهور والفلج، وقضى لهم بالعلو والتمكين، وجعل من خالفه وعزب عنه وابتغى سبيل غيره، أعداءه الأقلين، وأولياء الشيطان الأخسرين، وأهل الضلالة الأسفلين، مع ما عليهم في دنياهم من الذل والصغار، فأعجل لهم فيها من الخذلان والانتقام، إلى ما أعد لهم في آخرتهم من الخزي والهوان المقيم، والعذاب الأليم، إنه عزيز ذو انتقام.
وكتب عبد الحميد إلى أخ له، في مولود ولد له، وهو أول مولود كان:
أما بعد: فإن مما أتعرف من مواهب الله نعمة خصصت بمزيتها، وأصفيت بخصيصتها كانت أسرا لي من هبة الله لي ولدا سميته فلانا، وأملت ببقائه بعدي حياة وذكرى، وحسن خلافة في حرمتي، وإشراكه إياي في دعائه شافعا لي إلى ربه، عند خلواته في صلاته وحجه وكل موطن من مواطن طاعته، فإذا نظرت إلى شخصه تحرك به وجدي وظهر به سروري وتعطفت عليه مني آنسة الولد، وولت عني به وحشة الوحدة، فأنا به جذل في مغيبي ومشهدي، أحاول مس جسده بيدي في الظلم، وتارة أعانقه وأرشفه ليس يعدله عندي عظيمات الفوائد ولا منفسات الرغائب، سرني به واهبه لي على حين حاجتي، فشد به أزري، وحملني من شكره فيه ما قد آدنى بثقل حمل النعم السالفة إلي به، المقرونة سراؤها في العجب بما رأت ما يدركني به من رقة الشفقة عليه مخافة مجاذبة المنايا إياه، ووجلا من عواصف الأيام عليه.
فأسأل الله الذي امتن علينا بحسن صنعه في الأرحام، تأديبه بالزكاء، وحرسه بالعافية أن يرزقنا شكر ما حملناه فيه وفي غيره، وأن يجعل ما يهب لنا من سلامته، والمدة في عمره موصولا بالزيادة، مقرونا بالعافية، محوطا من المكروه؛ فإنه المنان بالمواهب والواهب للمنى لا شريك له، حملني على الكتاب إليك لعلم ما سررت به علمي بحالك فيه، وشركتك إياي في كل نعمة أسداها إلي ولي النعم وأهل الشكر، أولى بالمزيد من الله - جل ذكره - والسلام عليك.
وكتب عبد الحميد عن هشام بن عبد الملك إلى يوسف بن عمر، وهو باليمن في السلامة :
فإن أمير المؤمنين كتب إليك، وهو في نعمة الله عليه وبلائه عنده في ولده، وأهل لحمته والخاص من أموره والعلم، والجنود والقواصي والثغور والدهماء من المسلمين، على ما لم يزل ولي النعم يتولاه من أمير المؤمنين، حافظا له فيه ومكرما له بالحياطة، لما ألهمه الله فيه من أمر رعيته، وعلى أعظم وأحسن وأكمل ما كان يحوطه فيه ويذب له عنه، والله محمود مشكور إليه فيه مرغوب، أحب أمير المؤمنين؛ لعلمه بسرورك به أن يكتب إليك بذلك، لتحمد الله عليه وتشكره به؛ فإن الشكر من الله بأحسن المواضع وأعظم المنازل، فازدد منه تزدد به، وحافظ عليه وتحفظ به وارغب فيه؛ يهد إليك مزيد الخير ونفائس المواهب وبقاء النعم، فاقرأ على من قبلك كتاب أمير المؤمنين إليك ليسر به جندك ورعيتك، ومن حمله الله المنعم بأمير المؤمنين، ليحمدوا ربهم على ما رزق الله عباده من سلامة أمير المؤمنين في بدنه، ورأفته بهم واعتنائه بأمورهم؛ فإن زيادة الله تعلو شكر الشاكرين، والسلام.
ولعبد الحميد إلى مروان في حاجة:
إن الله بنعمته علي لما رزقني المنزلة من أمير المؤمنين جعل معها شكرها مقرونا بها، فهي تتنمى بالزيادة، والشكر مصاحب لها، فليست تدخلني وحشة من أبناء حاجتي، وأنا أعلم أنه لو وصل إلى أمير المؤمنين علم حالي أغناني عن استزادته، ولكني تكنفتني مؤن استنفضت ما في يدي، وكنت للخلف من الله منتظرا؛ فإني إنما أتقلب في نعمه، وأتمرغ في فوائده وأعتصم بسالف معروفه كان عندي.
ولعبد الحميد في وصف الإخاء:
فإن أولى ما اعتزم عليه ذوو الإخاء، وتوصل إليه أهل المودات ما دعا أسبابه صدق التقوى، وبنيت دعائمه على أساس البر، ثم أنهد إلينا حزين التواصل، وشيده مستعذب العشرة فادعم قويا وصفى مرنقا، وبخاصة الحقة منعطفة وسكنت به القلوب أنيسة، وسمت من مواصلته الهمم مستعلية عن كل زائغ معتاف، ومخوف عارض يحترم مسكة الإخاء، ويختار مربوب المقة ضنا بما استعذبوا من محمود وثائقه، وازديادا فيما تمطقوا به من حلاوة جناه، فإذا استحكم لهم مدخور الصفاء بثبات أواخيه، وظهور أعلامه ومحصول مخبره وثقة مواده، كان سرورهم باعتلاقه، وابتهاجهم بوجدانه وإنما هم صلته، وبذلهم رعايته، وحياطتهم محمودة، بحيث نالوا من معرفته حظوته، واستولوا عليه من مزية كرمه، وتعرفوا من ذخيرة عائدته ومأمون حفاظه، وكشف لهم عن نفسه مظهرا أعلامه مبديا دفينته، طارحا قناع سره، معلنا مكنون ضميره في نأي الدار وجدان المجتمع، بإظهار ما استتر من المحاسن، وبث في الحقب من المكارم، قياما لهم بالنصرة، وحياطا للمودة، وترغيبا في العشرة، فكان أكهف ملجأ، وأحرز حصن، وأحصف جنة، وأعون ظهير، وأبقى ذخيرة، وأعظم فائدة، وأشرف كنز، وأفخر صنيعة، وآنق منظر، وأينع زهرة أكثر الأشياء ريعا، وأنماها وصلا، وأمدها سببا، وأقواها أيدا، وأحلاها ذوقا، وأدعمها ثباتا، وأرساها ركنا، لا يدخل مستحقها سآمة ملال، ولا كلال مهنة، ولا تثبيط ونية، ولا ضعف خور لنزول بائقة، أو طروق طارقة من عوارض الأقدار وحوادث الزمان، بل مواسيا في أزمتها، متورطا غمرات قحمها متدرعا هائل بوائقها، مستلحما نواظر مقاطعها، حتى تصير به الأقدار إلى تناهيها، ويبلغ به القضاء مقداره غير منان النصرة، ولا برم التعب، يرى تعبه غنما ونصبه دعة، وكلفه فائدة، وعمله مقصرا، وسعيه مفرطا، واجتهاده مضيعا، عدل الولد في بره، والوالد في شفقته، والأخ في نصرته، والجار في حفظه، والذخر في ملكه، فأين المعدل عن مثله، أو كيف الإصابة لشبهه، أو أنى عوض من فقده - جمعنا الله وإياك على طاعته وألفنا بمحابه، وجعل أخوتنا في ذاته.
قد حددت لك أواخي الإخاء متشعبا، ووصفته لك مخلصا، وانتهيت بك إلى غاية أهل العقل منه، وما تواصل أهل الرأي عليه، ودعا إليه الإخاء من نفسه، منتطقا به ضامنا له، ما فرط في ذلك تقصير من أهله، وداخله تضييع من حملته، أو حاطه إحكام وكنفه حفاظ من رعاته.
وافاني كتابك بما سألت من ذلك وعقلي محصور، ورأيي منقسم وذهني فيما يتأهب به الأمير ... والله من خرز الترك، واختلاف رسله إلى جبال اللان والطبران وما والاهما، بنوافذ أمره ومخارج رأيه، فأنا مصيخ السمع للفظه، عقل العقل عن سوى أمره، محتضر الذهن في تدبيرهم، ذهل القلب عن تقنين القول، وتشعيب الكلام في تصنيف طبقات الرجال ومن أين دخل عليهم نقص الإخاء؟! وكيف خانهم مونق الصفاء؟! وقد صرحت لك عن رأي ذوي الصفاء، وكشفت لك خباء الإخاء، وجمعت لك إلف مودة أهل الحجى، فتلقى ما وصفت لك بقلب فهم عقول ذي ميزة يقظان، وذهن جامع حافظ ذي ثقافة راع - أحضرك الله عصمة التوفيق وسددك الله لإصابة الرشد، ومكن لك صدق العزيمة، والسلام.
ومن رسائل عبد الحميد ما كتب عن مروان إلى هشام يعزيه بامرأة من حظاياه:
إن الله تعالى أمتع أمير المؤمنين من أنيسته وقرينته متاعا مده إلى أجل مسمى، فلما تمت له مواهب الله وعاريته قبض إليه العارية، ثم أعطى أمير المؤمنين من الشكر عند بقائها والصبر عند ذهابها أنفس منها في المنقلب، وأرجح في الميزان وأسنى في العوض - فالحمد لله، وإنا إليه راجعون.
وكتب موصيا بشخص يقول:
حق موصل كتابي إليك كحقه علي إذ جعلك موضعا لأمله، ورآني أهلا لحاجته، وقد أنجزت حاجته فصدق أمله.
وكتب في فتنة بعض العمال من رسالة:
حتى اعتراني حنادس جهالة ومهاوي سبل ضلالة، ذللا لسباقه وسلما في قياده إلى نزل من حميم وتصلية جحيم، سوى ما أنتجت الحفيظة في نفسه من عوائد الحسك، وقدحت الفتنة في قلبه من نار الغضب مضادة لله تعالى بالمناصبة، ومبارزة لأمير المؤمنين بالمحاربة، ومجاهرة للمسلمين بالمخالفة إلى أن أصبح بفلاة قفر، ونية صفر بعيدة المناط، يقطع دونها النياط، وكذلك الله يفعل بالظالمين، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.
وكتب من رسالة أخرى إلى أهله وهو منهزم مع مروان:
أما بعد: فإن الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها، ومن عضته بنابها ذمها ساخطا عليها وشكاها مستزيدا لها، وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها، ثم جمحت بنا نافرة ورمحتنا مولية؛ فملح عذبها وخشن لينها، فأبعدتنا عن الأوطان وفرقتنا عن الإخوان، فالدار نازحة والطير بارحة.
وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعدا وإليكم وجدا ؛ فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم، نرجع إليكم بذل الإسار، والذل شر جار، نسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء: أن يهب لنا، ولكم ألفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان؛ فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين.
هذه الرسائل الأربع منقولة عن شرح رسالة ابن زيدون.
وله من رسالة كتب بها عن آخر خلفاء بني أمية، وهو مروان الجعدي لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد، قائمين بالدولة العباسية.
فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة العجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل وتمحى آية الليل - والله مع الصابرين والعاقبة للمتقين.
رسالة عبد الحميد إلى الكتاب
أما بعد: حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله - عز وجل - جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ومن بعد الملائكة المكرمين؛ أصنافا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم فجعلكم - معشر الكتاب - في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة، بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم ويعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم.
وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم - أيها الكتاب - إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم؛ فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الحكم، مقداما في موضع الإقدام، محجاما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيا عند الشدائد ، عالما بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار من الحسن، واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة.
وقد علمتم أن سائس البهيمة، إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها؛ فإن كانت جموحا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبا اتقاها من بين أيديها، وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها؛ فإن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم، والكاتب، بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته؛ أولى بالرفق لصاحبه ومداراته، وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا، ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها.
ألا فارفقوا - رحمكم الله - في النظر، واعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر، تأمنوا - بإذن الله - ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة، ويصير منكم إلى الموافقة وتصيرون منه إلى المؤاخاة والشفقة - إن شاء الله تعالى.
ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه، ومركبه ومطعمه، ومشربه وبنائه وخدمه، وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه؛ فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة، لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير، واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف؛ فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب، ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب، وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض، فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة، واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته، فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه؛ فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للشاغل عن إكثاره، وليضرع إلى الله في صلة توفيقه، وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه؛ فإنه إن ظن منكم ظان، أو قال قائل: إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته، إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره؛ فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله - عز وجل - إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف، ولا يقول أحد منكم: إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته، فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين وابدءوا بعلم كتاب الله - عز وجل - والفرائض ثم العربية؛ فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط؛ فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب؛ فإنه قوام كتاب الخراج.
وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها، ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها؛ فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أصل الجهالات، وإياكم والكبر والسخف والعظمة؛ فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابوا في الله - عز وجل - في صناعتكم، وتواصلوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم.
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه، وواسوه حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه، واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه؛ فإن عرضت في الشغل محمدة، فلا يصرفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه، وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال؛ فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء وهو لكم أفسد منه لها، فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق، ذلك تبعا له عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه، فاستشعروا ذلك - وفقكم الله - من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمؤاساة والإحسان، والسراء والضراء فنعمت التسمية هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة، وإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله، وعياله أمر فليراقب الله - عز وجل - وليؤثر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقا وللمظلوم منصفا؛ فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله.
ثم ليكن بالعدل حاكما، وللأشراف مكرما، وللفيء موفرا وللبلاد عامرا وللرعية متألفا، وعن أذاهم متخلفا، وليكن في مجلسه متواضعا حليما، وفي سجلات خراجه واستقصاء حقوقه رفيقا، وإذا صاحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه التدبير من مرافقة في صناعته ومصاحبة في خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى أن صاحبه أعقل منه وأجمل في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله - جل ثناؤه - من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر على أخيه، أو نظيره وصاحبه وعشيره.
وحمدا لله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته، وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: من تلزمه النصيحة يلزمه العمل، وهو جوهر هذا الكتاب، وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله - عز وجل - فلذلك جعلته آخره وتممته به، تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة، بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده؛ فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
القسم الثالث
الرسالة العذراء
في موازين البلاغة وأدوات الكتابة لأبي اليسر إبراهيم بن محمد المدبر
الرسالة العذراء
بسم الله الرحمن الرحيم
فتق الله بالحكمة ذهنك، وشرح بها صدرك، وأنطق بالحق لسانك، وشرف به بيانك، وصل إلي كتابك العجيب الذي استفهمتني فيه بجوامع كلمك جوامع أسباب البلاغة، واستكشفتني عن غوامض آداب أدوات الكتابة، سألتني أن أقف بك على وزن عذوبة اللفظ وحلاوته، وحدود فخامة المعنى وجزالته، ورشاقة نظم الكتاب ومشاكلة سرده، وحسن افتتاحه وختمه، وانتهاء فصوله، واعتدال وصوله، وسلامتهما من الزلل، وبعدهما من الخطل. ومتى يكون الكاتب مستحقا اسم الكتابة، والبليغ مسلما له معاني البلاغة، في إشارته واستعارته، وإلى أي أدواته هو أحوج، وبأي آلاته هو أعمل، إذا حصحص الحق، ودعي إلى السبق، وفهمته وأنا راسم لك - أيدك الله - من ذلك ما يجمع أكثر شرائطك، ويعبر عن جملة سؤالك، وإن طولت في الكتاب وعرضت وأطنبت في الوصف وأسهبت، ومستقص على نفسي في الجواب على قدر استقصائك في السؤال، وإن أخل به التياث الحال، وسكون الحركة، وفتور النشاط، وانتشار الروية، وتقسم الفكر، واشتراك القلب، والله المستعان.
اعلم - أيدك الله: أن أدوات ديوان جميع المحاسن، وآلات المكارم طاعة منقادة لهذه الصناعة التي خطبتها وتالية تابعة لها، وغير خارجة إلى جحد أحكامها، ولا دافعة لما يلزمها الإقرار به لها، إضرارا منها إليها وعجزا عنها؛ فإن تقاضتك نفسك علمها ونازعتك همتك إلى طلبها؛ فاتخذ البرهان دليلا شاهدا والحق إماما قائدا، يقرب مسافة ارتيادك، ويسهل عليك سبل مطالبها، واستوهب الله توفيقا تستنجح به مطالبك، واستمنحه رشدا يقبل إليك بوجه مذاهبك، فاقصد في ارتيادك، وتأمل الصواب في قولك وفعلك، ولا تسكن إلى جحود قصد السابق باللجاج، ولا تخرج إلى إهمال حق المصيب بالمعاندة والإنكار، ولا تستخف بالحكمة ولا تصغرها، حيث وجدتها فترحل نافرة عن مواطنها من قلبك، وتظعن شاردة عن مكانها من بالك، وتتعفى بعد العمارة من قلبك آثارها، وتنطمس بعد الوضوح أعلامها.
واعلم أن الاكتساب بالتعلم والتكلف، وطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء؛ فإن أردت خوض بحار البلاغة وطلبت أدوات الفصاحة، فتصفح من رسائل المتقدمين ما تعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنجاح بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسماء ما يتسع به منطقك، ويعذب به لسانك ويطول به قلمك.
وانظر في كتب المقامات والخطب ومحاورات العرب، ومعاني العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم، وتوقيعاتهم وسيرهم ومكايدهم في حروبهم، بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشروط؛ ككتب السجلات والأمانات؛ فإنه أول ما يحتاج إليه الكاتب وتمهر في نزع آي القرآن في مواضعها، واجتلاب الأمثال في أماكنها واختراع الألفاظ الجزلة، وقرض الشعر الجيد وعلم العروض؛ فإن تضمين المثل السائر والبيت الغابر مما يزين كتابتك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكا جليل القدر، فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء والجلة الرؤساء عيب واستهجان للكتب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له؛ فإن ذلك مما يزيد في أبهته، ويدل على براعته، وإن شدوت من هذه العلوم ما لا يشغلك محله، وتنقبت من هذه الفنون ما تستعين به على إطالة قلمك، وتقويم أود بيانك.
بعد أن يكون الكاتب صحيح القريحة، حلو الشمائل، عذب الألفاظ، دقيق الفهم، حسن القامة، بعيدا من الفدامة، خفيف الروح، حاذق الحسن، محنكا بالتجربة، عالما بحلال الكتاب والسنة وحرامهما، وبالملوك وسيرها وأيامها، وبالدهور في تقلبها وتداولها مع براعة الأدب، وتأليف الأوصاف، ومشاكلة الاستعارة، وحسن الإشارة، وشرح المعنى بمثله من القول حتى تنصب صورا منطقية تعرب عن أنفسها، وتدل على أعيانها؛ لأن الحكماء قد شرطوا في صفات الكتاب طول القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهاذم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب وحلاوة الشمائل وملاحة الزي، حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزي الكتاب؛ فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.
وخاطب كلا على قدر أبهته، وجلالته، وعلوه وارتفاعه، وتفطنه وانتباهه، واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام: فأربعة منها للطبقة العلوية وأربعة دونها، ولكل طبقة منها درجة، ولكل قسمة حظ لا يتسع للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها، ويقلب معناها إلى غيرها: فالطبقة العليا الخلافة التي أعلى الله شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير والمخاطبة والترسل. والطبقة الثانية الوزراء والكتاب الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم ويتجملون بآدابهم. الطبقة الثالثة أمراء ثغورهم، وقواد جيوشهم، يخاطب كل امرئ على قدره وبما حمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم. الطبقة الرابعة القضاة؛ فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء وحلية الفضلاء، فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء.
أما الطبقات الأربع الأخرى: فالملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب وأفضالهم تفضيلهم فيها. والثانية: وزراؤهم وكتابهم وأتباعهم الذين بهم تقرع أبوابهم وبعنايتهم تستماح أموالهم. والثالثة: هم العلماء الذين يجب توقيرهم في الكتب لشرف العلم وعلو درجة أهله. الرابعة: لأهل القدر والجلالة والظرف والحلاوة والعلم والأدب؛ فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم وشدة تمييزهم، وانتقادهم إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم.
واستغنينا عن الترتيب للتجار والسوقة والعوام رتبة لاستغنائهم بتجارتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات، ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعيها في مراسلتك إليهم في كتبك، وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه وتعطيه قسمه وتوفيه نصيبه؛ فإنك متى أضعت ذلك لم آمن بك أن تعدل بهم غير طريقهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه، فلا يفيد المعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا جزلا لائقا بمن كاتبته، ومشابها لمن راسلته.
وإن إلباسك المعنى وإن شرف وصلح لفظا مختلفا عن قدر المكتوب إليه، لم تجر به عادتهم؛ تهجين للمعنى وإخلال بقدره، وظلم لحق المكتوب إليه ونقص مما يجب له، كما أن في امتناع تعارفهم وما انتشرت به عاداتهم، وجرت به سننهم؛ وضعا لقدرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غير غاية مرادهم وإسقاطا لحجة أدبهم، ضمن الألفاظ المرغوب عنها، والصدور المستوحش منها في كتب السادات والأمراء والملوك على اتفاق المعاني، مثل أبقاك الله طويلا وعمرك مليا، وإن كنا نعلم أنه لا فرقان بين قولهم: أطال الله بقاءك، وبين قولهم: أبقاك الله طويلا، ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزنا وأنبه قدرا في مخاطبة الملوك، كما أنهم جعلوا أكرمك الله وأبقاك أحسن منزلة في كتب الظرفاء والأدباء من جعلت فداك على اشتراك معناه، واحتماله أن يكون فداء من الخير، كما يكون فداء له من الشر. ولولا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لسعد بن أبي وقاص: «فداك أبي وأمي» لكرهت أن يكتب بها أحد، على أن كتاب العسكر وعوامهم قد أولعوا بهذه اللفظة، حتى استعملوها في جميع محاوراتهم وجعلوها هجيراهم في مخاطبة الشريف والوضيع والصغير والكبير؛ ولذلك قال محمود الوراق:
كل من حل سر من را من النا
س وممن يصاحب الأملاكا
لو رأى الكلب ماثلا في طريق
قال للكلب يا جعلت فداكا
وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل أبقاك الله، وأمتع بك إلا إلى الحرمة والأهل والتابع والمنقطع إليك، وأما في كتب الإخوان فغير جائز، بل مذموم مرغوب عنه؛ ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أحلت عما عهدت من أدبك
أم نلت ملكا فتهت في كتبك
أم هل ترى أن في التواضع للإخ
وان نقصا عليك في حسبك
أتعبت كفيك في مكاتبتي
حسبك مما يزيد في تعبك
إن جفاء كتاب ذي أدب
لا يكتب في صدره وأمتع بك
فكتب إليه محمد بن عبد الملك:
أنكرت شيئا فلست فاعله
فلن تراه يخط في كتبك
فاعف فدتك النفوس عن رجل
يعيش حتى الممات في أدبك
كيف أخون الإخاء يا أملي
وكل شيء أنال من سببك
إن يك جهلا أتاك من قبلي
فعد بفضل علي في أدبك
وأما صدور السلف؛ فإنما كانت من فلان بن فلان إلى فلان، كذلك جرت كتب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى العلاء بن الحضرمي وإلى أفيال اليمن وإلى كسرى وقيصر، وكتب أصحابه والتابعين كذلك حتى استخلص الكتاب هذه المحادثات من بدائع الصدور، واستنبطوا لطيف الكلام ورتبوا لكل رتبة وجروا على تلك السنة الماضية إلى عصرنا هذا في كتب الخلفاء والأمراء، وثبتوا على ذلك المنهاج في كتب الفتوحات والأمانات والسجلات، ولكل مكتوب إليه قدر، ووزن ينبغي للكاتب ألا يتجاوز به عنه ولا يقصر به دونه، وقد رأيتهم عابوا الأحوص حين خاطب الملوك بمخاطبة العوام في قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم
مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فهذا معنى صحيح في المدح، ولكنهم أجلوا أقدار الملوك أن يمدحوا بما يمدح به العوام؛ لأن صدق الحديث وإنجاز الوعد، وإن كان مدحا فهو واجب على كل، والملوك لا يمدحون بالفروض الواجبة، وإنما يحسن مدحهم بالنوافل؛ لأن المادح لو قال لبعض الملوك: إنك لا تزني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استودعت، وأنك تصدق في وعدك وتفي بعهدك؛ كان قد أثنى بما يجب، ولكنه لم يصل بثنائه إلى مقصده. وقال: ما لا يستحسن مثله في الملوك.
ونحن نعلم أن كل أمير تولى من أمور المؤمنين شيئا، فهو أمير المؤمنين غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا للخلفاء خاصة، ونعلم أن الكيس هو العقل إذا عنوا به ضد الحمق، ولكنك لو وصفت رجلا فقلت: إن فلانا لعاقل كنت قد مدحته عند الناس. ولو قلت: إنه كيس كنت قد قصرت في وصفه وقصرت به عن قدره إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة إلا إلى حيث جرت منها العادة في استعمالها في الظاهر مع الحداثة والعزة وخساسة القدر وصغر السن، فقد روينا عن علي - رضي الله عنه - أنه تبجح بالكيس حين بنى الكوفة. وقال:
أما تراني كيسا مكيسا
بنيت بعد نافع مخيسا
حصنا حصينا وأميرا كيسا
وقال آخر: ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس، ونعلم أن الصلاة: رحمة غير أنهم قد حرموها إلا على الأنبياء، كذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وسمع سعد بن أبي وقاص أخا له يلبي ويقول: يا ذا المعارج، فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج، ولكن ليس كذلك كنا نلبي على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إنما كنا نقول: لبيك اللهم لبيك. وكان أبو إبراهيم المزني قال في بعض ما طالب به داود بن علي خلف الأصبهاني فقال: وإن قال كذا فقد خرج من الملة، والحمد لله، فانتقد عليه ذلك داود وقال: تحمد الله على أن يخرج مسلم من الإسلام؟! هذا موضع استرجاع، وللحمد مكان يليق به، ونحن نقول على المصيبة:
إنا لله وإنا إليه راجعون (البقرة: 156).
فامتثل هذه الرسوم والمذاهب واجر على آدابهم، فلكل رسوم امتثلوها، وتحفظ في صدور كتبك وفصولها وافتتاحها وخاتمتها، وضع كل معنى في موضع يليق به، وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر الشكوى بمثل: والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وفي موضع ذكر البلوى، نسأل الله دفع المحذور، ونسأل الله صرف السوء، وفي موضع المصيبة بمثل:
إنا لله وإنا إليه راجعون ، وفي موضع ذكر النعم بمثل: والحمد لله خالصا والشكر لله واجبا؛ فإنها مواضع ينبغي للكاتب تفقدها؛ فإنما يكون كاتبا إذا وضع كل معنى في موضعه، وعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى، فلا يجعل أول ما ينبغي له أن يكتب آخر كتابه في أوله، ولا أوله في آخره؛ فإني سمعت جعفر بن محمد الكاتب يقول: لا ينبغي للكاتب أن يكون كاتبا، حتى لا يستطيع أحد أن يؤخر أول كتابه ولا يقدم آخره.
واعلم أنه لا يجوز في الرسائل ما أتى في آي القرآن من الإيصال، والحذف ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - إنما خاطب بالقرآن أقواما فصحاء فهموا عنه - جل ثناؤه - أمره ونهيه ومراده، والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب، وكذلك ينبغي للكاتب أن يتجنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس؛ فإنه إن ذهب على مثل قوله تعالى:
واسأل القرية (يوسف: 82)، واسأل العير، و
بل مكر الليل والنهار (سبأ: 33)، احتاج أن يبين بل مكركم بالليل والنهار، ومثله في القرآن كثير.
ولا يجوز في الرسائل ما يجوز في الشعر؛ لأن الشعر موضع اضطرار، فاغتفروا فيه الإغراب وسوء النظم والتقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار، فمن الحذف قول الحطيئة: من صنع سلام؛ يريد سليمان بن داود .
وكقول الآخر: والشيخ عثمان أبو عفان.
وكقول الآخر:
وسائلة بثعلبة بن سير
وقد علقت بثعلبة العلوق
أراد ابن سيار، وكقول النابغة: ونسج سليم كل قضاء زائل. يريد سليمان، وكذلك ينبغي في الرسائل ألا يصغر الاسم موضع التعظيم، وإن كان ذلك جائزا على مثل قولهم: دويهية وجذيل وعذيق، ومما لا يجوز في الرسائل: كلمت إياك وأعني إياك.
وإساءة النظم في التأليف في الشعر كثير، وتكون الكلمة بشعة حتى إذا وضعت موضعها وقرنت مع أخواتها حسن حالها وراقت، كقول الحسن بن هاني:
ذو حضر أفلت من كد القبل
والكد كلمة قلقة؛ لا سيما في الرقيق والغزل والتشبيب، غير أنها لما وقعت في موضعها حسنت، كما أن اللفظة العذبة إذا لم توضع موضعها نفرت، قال:
رأت عارضا جونا فقامت غريرة
بمسحانها قبل الظلام تبادره
فأوقع الجلف الجافي هذه اللفظة غير موقعها وظلمها؛ إذ جعلها في غير مكانها؛ لأن المساحي لا تكون ولا تصلح للغرائر، وأين كان عن قول الشاعر:
غرائر ما حدثن يهدين آنسه
فما فوقه منهن غير غرائر
حديث لو ان العصم تدعى به أتت
ودون يد الفحشاء حد البواتر
فتخير من الألفاظ أرجحها وزنا، وأجزلها معنى، وأليقها في مكانها، وليكن في صدر كتابك دليل واضح على مرادك، وافتتاح كلامك برهان شاهد على مقصدك، حيثما جريت فيه من فنون العلم ونزعت نحوه من مذاهب الخطب والبلاغات؛ فإن ذلك أجزل لمعناك وأحسن لاتساق كلامك، ولا تطيلن صدر كلامك إطالة تخرجه من حده، ولا تقصر به عن حقه. ولو صور اللفظ وكان له حد لوقفتك عليه، غير أنهم في الجملة كرهوا أن يزيدوا سطور كتب الملوك على سطرين، وهذه إشارة لا تعبر إلا عن الجملة من المقصود إليه؛ لأن الأسطر غير محدودة.
واعلم أن أول ما ينبغي لك أن تصلح آلتك التي لا بد لك منها، وأدواتك التي لا تتم صناعتك إلا بها وهي: دواتك، فابدأ بعمارتها وإصلاحها وتخير لها ليقة نقية من الشعر والودج؛ لئلا يخرج على حرف قلمك ما يفسد كتابك، ويشغلك بتنقيته، وخذ من المداد الفارسي خمسة دراهم، ومن الصمغ العربي درهما، وعفصا مسحوقا نصف درهم، ورماد القرطاس المحرق درهمين، ثم تسحقها وتغربلها وتجمعها ببياض البيض، ثم بندقها واجعلها في الظل، فإذا احتجت إليها أخذت منها مقدار حاجتك، فكسرته وحشوت به دواتك، وإذا نقعته في ماء السلق حتى ينحل ويذوب ويختمر، ثم أمددت من مائه دواتك كان أجود وأنقى، ثم اختر بعد ذلك من أنابيب القلم الذي يصلح لكتابة القراطيس: أقله عقدة، وأكثفه لحما، وأجلبه قشرا، وأعدله استواء، وتجنب الأقلام الفارسية ما استطعت؛ فإنها ما تصلح إلا للكواغد والرقوق.
واجعل لقلمك براية حادة؛ فإن تعثر يد الكاتب وقت قطع القرطاس ناقص مروءته ومخل بظرفه، وإن قدرت ألا تقطع القرطاس، إذا فرغت من كتابك إلا بخرطوم قلمك فافعل؛ فإن ذلك أكمل لمروءتك وأبدع لظرفك وقطعك.
واستعمل لبري القلم سكينا طواويسيا مذلق الحد وميض الطرف، فيكون ذلك عونا لك على بري أقلامك؛ فإن محل القلم من الكاتب محل الرمح من الفارس، ولإن قيل: كأنه الرمح الرديني، فقد قال الكاتب: كأنه القلم البحري. وتفقد الأنبوبة قبل بريكها؛ لئلا تجعلها منكوسة، وأبرها من ناحية نبات القصبة، وأرهف ما قدرت جانبي قلمك؛ ليرد ما انتشر من المداد ولا تطل شقه؛ فإن القلم لا يمج المداد من شقه إلا مقدار ما احتملت شبتاه، فارفع شبتيه ليجمعا لك حواشي تحضيره، وأما قط القلم فعلى قدر القلم الذي يتعاطاه الكاتب من الخط، غير أن المسلسل لا يكاد يتسلسل إلا بالقلم المربع القط، كما أن كتب الملوك والسجلات لا تحسن إلا بالقلم المحرف الكوفي، وأما قلم اللازورد فهو المعتمد عليه، والمقصود إليه في النوائب والمهمات.
ورأيت كثيرا من الكتاب يختارون قلم النرجس لتجعده وتجانسه، ومن اللازورد أبسط منه وأقوم حروفا، وأما الموشع والمولع والمدبج والمنمنم والمسهم، فعلى قدر رشاقة خط الكاتب وحلاوة قلمه، وأما حسن الخط فلا حد له، قال علي بن زيز النصراني الكاتب: أعلمك الخط في كلمة واحدة لا تكتبن حرفا، حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف المبدوء به، وتجعل في نفسك أنك لا تكتب غيره، حتى لا تعجل عنه إلى غيره، وإياك والنقط والشكل في كتابك، إلا أن تمر بالحرف المعضل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه، فلأن يشكل علي الحرف أحب إلي من أن يعاب بالنقط والإعجام. وقال المأمون لكتابه: إياي والشونيز في كتبكم، يعني: النقط؛ ولذلك قال ابن هاني:
لم ترض بالإعجام حين كتبته
حتى كتبت السب بالإعراب
ولا تغفل الصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام - فقد قال أبو العيناء: إن بني أمية هم الذين كانوا أمروا كتابهم، فطرحوا ذلك من كتبهم فجرت عادة الكتاب إلى يومنا هذا على ما سنوه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام: «لا تجعلوني كقدح الراكب، ولكني اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه، وآخره» صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولا وأوسط وآخرا.
وأحب أن تجعل بدل الإشارة التراب، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «أتربوا كتبكم فإنه أنجح للحاجة.» ولا تدع التاريخ؛ فإنه يدل على تحقيق الأخبار وقربها وبعدها، وانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه؛ فإن كان الماضي أقل من نصف الشهر قلت لكذا ليلة مضت من شهر كذا، وإن كان الباقي أقل من النصف قلت لكذا أيضا بقيت، وقد قال بعض الكتاب: إن الماضي من الشهر تحصيه والباقي لا تحصيه؛ لأنك لا تدري أيتم الشهر أو ينقص. وليس هذا بشيء؛ لأن تأريخ الكتاب ليس من الأحكام في شيء، وما على الكاتب أن يكتب إلا بما ظهر، وتبين لا بما يظن.
ولا تجعل سحاة كتبك غليظة إلا في العهود والسجلات، التي تحتاج إلى خواتمها وطوابعها؛ فإن محمد بن عيسى الكاتب كاتب آل طاهر، أخبر عنهم: أن عبد الله بن طاهر كتب إلى العراق في أشخاص كاتب كان كتب إليه، فكتب وغلظ سحاة كتابه فرد الكتاب إليه؛ فقدم عليه راجيا لبره وجائزته. فقال عبد الله بن طاهر: إن كان معك مسحاة فاقطع خزم كتابك وانصرف وراءك، وكذلك لا تعظم الطينة؛ ففي المثل من عظم الطينة، فإنه مظلوم، ولا تطبعها إلا بعد عنواناتها؛ فإن ذلك مراد بهم وقد يجب عليك علم إلصاق القراطيس ومحوها، ولم أر شيئا في إلصاقها ألطف من أن ينقع الصمغ العربي في الماء ساعة حتى يذوب، ثم يلصق به، وكذلك ماء الكثير أو النشاستج، ثم تطويه طيا رقيقا وتجعله في منديل نظيف ويرفع تحت وسادة حتى يجف، وأما محوها فعلى قدر لطف الكاتب وتأنيه، غير أنه ينبغي له ألا يلقط السواد من القرطاس إلا بمثل الشمع المسخن واللبان الممضوغ وما أشبههما، ثم يكون لقطه رويدا رويدا كلما لقط جانبا حوله إلى الجانب الآخر.
وأما قراءة الكتب المختومة والتلطف لنقض خواتيمها فمما لا نذكره خوفا من سفيه.
وأما تضمين الأسرار حتى لا يقرأها غير المكتوب إليه ففيه أدب، وقد تعلقت العامة بالقمي والأصبهاني، فيجب أن يبدل الحروف تبديلا يخفى، وألطف من ذلك أن تأخذ لبنا طيبا فتكتب به في قرطاس، فيذر المكتوب إليه عليه رمادا حارا من رماد القراطيس فإنه يظهر، وإن كتب بماء الزاج وذر عليه العفص المدقوق بجاز أو بماء العفص وذر عليه شيء من الزاج، أو تنقع شيئا من وشق، ثم تكتب به ثم نثرت عليه الرماد؛ فإنه يظهر وإن أحببته لا يقرأ بالنهار ويقرأ بالليل، فاكتبه بمرارة السلحفاة، وإن حاولت صنعة رسالة أو إنشاء كتاب فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، والكلمة بعياره إذا سنحت، فربما مر بك موضع يكون مخرج الكلام إذا حسب، أنا فاعل أحسن من أنا أفعل، واستفعلت أحلى من فعلت.
وأدر الألفاظ في أماكنها واعرضها على معانيها، وقلبها على جميع وجوهها، حتى تقع موقعها، ولا تجعلها قلقة نافرة؛ فمتى صارت كذلك هجنت الموضع الذي أردت تحسينه، واعلم أن الألفاظ في أماكنها كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رقاعه تغير حسنه، قال الشاعر:
إن الجديد إذا ما زيد في خلق
تبين الناس أن الثوب مرقوع
وارتصد لكتابك فراغ قلبك وساعة نشاطك، فتجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلف؛ لأن سماحة النفس بمكنونها، وجود الأذهان بمخزونها ؛ إنما هو مع الشهوة المفرطة في الشر والمحبة الغالبة فيه أو الغضب الباعث منه ذلك، قيل لبعضهم: لم لا تقول الشعر، قال: كيف أقوله وأنا لا أغضب ولا أطرب، وهذا كله إن جريت من البلاغة على عرق، وظهرت منها على حظ، فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك، ولا واقعة شهوتك عليها، فلا تنض مطيتك في التماسها، ولا تتعب بدنك في ابتغائها، واصرف عنانك عنها، ولا تطمع فيها باستعاراتك ألفاظ الناس وكلامهم؛ فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك، ومن كان مرجعه فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدم والاستضاءة بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم يكن معه أداة تولد له من بنات قلبه ونتائج ذهنه الكلام الحر والمعنى الجزل، فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير.
على أن كلام العظماء المطبوعين ودرس رسائل المتقدمين على كل حال، مما يفتق اللسان ويوسع المنطق ويشحذ الطبع ويستثير كوامنه إن كانت فيه سجية.
قال العتابي: ما رأينا فيما تصرفنا فيه من فنون العلم، وجرينا فيه من صنوف الآداب شيئا أصعب مراما ولا أوعر مسلكا، ولا أدل على نقص الرجال ورجاحتهم، وأصالة الرأي وحسن التمييز منه، واختياره من الصناعة التي خطبتها، والمعنى الذي طلبته وليس شيء أصعب من اختيار الألفاظ وقصدك بها إلى موضعها؛ لأن اللفظة تكون أخت اللفظة وقسيمتها في الفصاحة والحسن ولا يحسن في مكان غيرها، وبتمييز هذه المعاني ومناسبة طبائع جهابذتها ومشاكلة أرواحهم، جعلوا الكتابة نسبا وقرابة، وأوجبوا على أهلها حفظها.
سهل بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان مفترقة، ومن لم يعرف فضلها وجهل أهلها وتعدى بهم رتبتهم، التي وصفهم الله بها، فإنه ليس من الإنسانية في شيء.
قالت البرامكة: رسائل المرء في كتبه دليل على عقله وشاهد على غيبه، قال الشاعر:
وتنكر ود المرء في لحظ عينه
وتعرف عقل المرء حين تكاتبه
آخر:
وشعر الفتى يبدي غريزة طبعه
وبالكتب يبدو عقله وبلاغته
الشعبي: يعرف عقل الرجل إذا كتب وأجاب.
العتبي: عقول الناس مدونة في كتبهم . ابن المقفع: كلام الرجل وافد عقله.
وشبهت الحكماء المعاني بالغواني والألفاظ بالمعارض، فإذا كسا الكاتب البليغ المعنى الجزل لفظا رائقا، وأعاره مخرجا سهلا؛ كان للقلب أحلى وللصدر أملى، ولكنه بقي عليه أن ينظمه في سلكه مع شقائقه كاللؤلؤ المنثور الذي يتولى نظمه الحاذق، والجوهري العالم يظهر بإحكام الصنعة له حسنا هو فيه، ومنحه بهجة هي له، كما أن الجاهل إذا وضع بين الجوهرتين خرزة هجن نظمه وأطفأ نوره، كان حبيب بن أوس ربما وقع على جوهرة، فجعلها بين بعرتين. قال الشاعر:
ولو قرنت بدر فاخر خرزا
من الزجاج لقلنا بئسما نظما
والياقوت حسن، وهو في جيد الحسناء أحسن، وكذلك الشعر الجيد مونق، ولكنه من أفواه العظماء آنق، والتاج الشريف بهي المنظر، وهو على الملك أبهى، كما قال ابن الرقيات: «يعتدل التاج فوق مفرقه.»
قال أبو العتاهية لابن مناذر بلغني أنك تقول الشعر في الدهر والقصيدة في الشهر. فقال: نعم لو رضيت لنفسي أن أؤلف تأليفك وأقول: يا عتب يا درة الغواص؛ لقلت في اليوم والليلة ألف قصيدة.
وقال عمر بن لجأ لشاعر: أنا أشعر منك، قال: ولم؟ قال: لأنك تقول البيت وابن عمه وأنا أقول البيت وأخاه.
فإن منيت بحب الكتابة وصناعتها والبلاغة وتأليفها، وجاش صدرك بشعر معقود أو دعتك نفسك إلى تأليف الكلام المنثور، وتهيأ لك نظم هو عندك معتدل وكلام لديك متسق، فلا تدعونك الثقة بنفسك والعجب بتأليفك، أن تهجم به على أهل الصناعة؛ فإنك تنظر إلى تأليفك بعين الوالد لولده، والعاشق إلى عشيقه كما قال حبيب:
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن
هو بابنه وبشعره مفتون
ولكن أعرضه على البلغاء والشعراء والخطباء ممزوجا بغيره؛ فإن أصغوا إليه وأذنوا له وشخصوا بالأبصار واستعادوه وطلبوه منك وامتزج، فاكشف من تلك الرسالة والخطبة والشعر اسمه وانسبه إلى نفسك، وإن رأيت عنه العيون منصرفة والقلوب عنه واهية؛ فاستدل به على تخلفك عن الصناعة وتقاصرك عنها، واسترب رأيك عند رأي غيرك من أهل الأدب والبلاغة: فقد بلغني أن بعض الملوك دعا إنسانا إلى مؤانسته حتى ارتفعت الحشمة بينهما، فأخرج له كتابا قد غشاه بالجلود، وجمع أطرافه بالإبريسم وسوى ورقه وزخرف كتابته، وجعل يقرأ عليه كلاما قد حبره فيه ونمقه عند نفسه، وجعل يستحسن ما لا يحسن، ويقف على ما لا يستثقل قراءته، حتى أتى على الكتاب. فقال له: كيف رأيت ما قرأت عليك؟! فقال: أرى عقل صانع هذا الكلام أكثر من كلامه، ففطن له ولم يعاوده، إلى أن وقف به على تنور مسجور، ثم قذف بالكتاب في النار، وهذا رجل في عقله فضل، وفيه تمييز.
وإنما البلية فيمن إذا بينت له سوء نظمه واختياره، ووقفته على سخافة لفظه؛ هجرك وعاداك، فاجعل هذا الأصل ميزانا تزن به مذهبك في رسائلك وبلاغتك، ولا تخاطبن خاصا بكلام عام ولا عاما بكلام خاص، فمتى خاطبت أحدا بغير ما يشاكله، فقد أجريت الكلام غير مجراه وكشفته، وقصدك بالكلام الشريف للرجل الشريف، تنبيه لقدر كلامك ورفع لدرجته قال:
فلم أمدحك تفخيما لشعري
ولكني مدحت بك المديحا
فلا تخرجن كلمة حتى تزنها بميزانها، فتعرف تمامها ونظامها ومواردها ومصادرها، وتجنب - ما قدرت - الألفاظ الوحشية، وارتفع عن الألفاظ السخيفة، واقتضب كلاما بين الكلامين.
الجاحظ: ما رأيت قوما أمثل طريقة في البلاغة من هؤلاء الكتاب؛ فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا ولا ساقطا سوقيا.
وقال خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى كلام، وأحسنه ما لم يكن بالبدوي المغرب، ولا القروي المخدج، الذي صحت مبانيه، وحسنت معانيه، ودار على ألسن القائلين، وخف على آذان السامعين، ويزداد حسنا على ممر السنين بتجلية الرواة، وتنقية السراة، والكاتب المستحق اسم الكتابة والبليغ المحكوم له بالبلاغة؛ من إذا حاول صنعة كتاب سالت على قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت من معادنها، وتدرب من مواطنها عن غير استكراه ولا اغتصاب.
حدثنا صديق للعتابي قال له: اعمل لي رسالة واستمده مرة بعد أخرى. فقال له: ما أرى بلاغتك إلا شاردة! فقال له العتابي: لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة فأحببت أن أترك كل معنى يرجع إلى موضعه ثم أجتبي لك أحسنها.
أملى يزيد بن عبد الله أخو دينار على كاتب له، وأعجل عليه الإملاك، فتعثر قلم الكاتب عن تقييد إملاله، فقال متحرشا: اكتب يا حمار. فقال الكاتب: أصلح الله الأمير إنه لما هطلت شآبيب الكلام، وتدافقت سيوله على حرف القلم كل القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده، فليتذكر الأمير عذري، فكان جوابه أبلغ من بلاغة يزيد، وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشد اتصالا بالقلوب وأخف على الأفواه، ولا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما للفظ مونق شريف، ومعبرا بكلام مؤلف رشيق لم يشنه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة:
قفاه وجه حسن والذي
قفاه وجه يشبه الشمسا
فهجن المعنى بتوعر مخارج الحروف، وأخذه الحسن بن هاني فسهله، وقال:
بذ حسن الوجوه حسن قفاكا
وكلاهما من حسان حيث يقول:
قفاؤك أحسن من وجهه
وأمك خير من المنذر
وانظر إلى سلاسة الحسن بن سهل، حيث قال:
شرست بل لنت، بل قابلت ذاك بذا
فأنت لا شك فيك السهل والجبل
وكتب عيسى بن لهيعة كتابا إلى بعضهم، فعقد كلامه وجاز المقدار في التنطع، فوقع له:
أنى يكون بليغا
من اسمه كان عيا
وثالث الحرف منه
إذا كتبت مسيا
ودخل كاتب على مريض فوجده يئن، فخرج من عنده فوجد طائرا يقال له الشفانين بباب الطاق فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابا يتنطع فيه ويذكر أنه يقال له الشفانين شفاء من الأنين. فأجابه: لو عطست ضبا لم تكن عندي إلا نبطيا، فاقصر عن بغضك وسهل كلامك، ومثله بمخلد الموصلي يهجو حبيب بن أوس الطائي:
أنت عندي عرني
عرني والسلام
شعر ساقيك وفخ
ذيك خزامى وتمام
وقفا تحلف ما إن
أعرقت فيه الكرام
أنا ما ذنبي أن الذ
نبي فيك الأنام
وسألني بعض أهل العلم أن أكتب له قصة إلى جعفر بن عبد الواحد القاضي، وقال: اكتب له قصة سهلة بليغة الألفاظ، فقلت له: دعني أكتب لك ما يصلح للقضاة، فغضب وقال: ما أسأل أن تعطيني شيئا إنما أسألك هذا المعنى الرخيص. فاحتملت عتبه لذمام، فكتبت له قصة لا تصلح أن تدفع إلا لرؤبة بن العجاج يقرأها، أو الطرماح، فلما حصلت بيد القاضي أراد قراءتها، فإذا هي مغلقة عليه. فقال له: أنت كتبت هذه القصة، قال: نعم، قال: إذن فاقرأها، فذهب ليقرأها، فإذا هي بالسودانية استعجاما عليه. فقال له: أصلح الله القاضي إنما أقرأها في بيتي. فقال له: فاطلب حاجتك إذن في بيتك، فرجع إلي غضبان أسفا يشتم ويؤذي وسألني أن أكتب له قصة على ما أرى، فكتبت له كتابا يشبه أن يكون من مثله إلى القضاة، فقرأها وقضى حاجته، وعلم أنه لم يكتب واحدة منهما. والكتاب إذا لم يكن شبيها بحاجة صاحبه كان أحد الأسباب المانعة، والمعاني كلها ممتثلة والكلام مشبعا، ولكن سياسته صعبة وتأليفه شديد إلا على جهابذته، وفرسانه أمراء الكلام يصرفونه كيف شاءوا، ولا يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ويكون اللفظ الأسبق إلى الأسماع من معناه إلى القلوب.
الجاحظ كان لفظه في وزن إشارته، وطبعه في معناه في مطابقة معناه.
ذكر الحسن بن وهب أحمد بن يوسف. فقال: ما كنت أدري ألفظه آنق أم معناه، أو معناه أجزل أم لفظه؟ والمعاني وإن كانت كامنة في الصدور؛ فإنها مصورة فيها ومتصلة بها، وهي كاللآلئ المنظومة في أصدافها، والنار المخبوءة في أحجارها؛ فإن أظهرته من أكنانه وأصدافه تبين حسنه، وإن قدحت النار من مكانها وأحجارها انتفعت بها، وإلا بقيت محجوبة مستورة، وربما يستثار الكامن منها ويستخرج المستتر من جواهرها بقدر حذق المستنبط وصواب حركات المستخرج، وقصد إشارته ولطف مذاهبه، وكذلك ليس كل ناطق ولا كاتب يوضح عن المعنى ولا يصيب إشارته، وكلما كان الكلام أفصح والبيان أوضح، كان أدل على حسن وجه المعنى الخفي بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر، وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف لفظ شريف جزل، لم تكن العبارة واضحة ولا النظم متسقا، والدال على المعنى أربعة أصناف : لفظ وإشارة وعقد وخط ، وذكر أرسطاطاليس خامسا، وهي التي تسمى النصبة، وهي الحالة الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة الناطقة بغير لفظ، والمشيرة إليه بغير يد، وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وهي داخلة في جملة هذه المعاني الأربعة وخارجة منها بالحلية، ولكل واحد من هذه الدلائل صورة مخالفة لصورة صاحبتها، وحلية غير مشاكلة لحلية أختها، غير أنها - في الجملة - كاشفة عن أعيان المعاني، وأوضح هذه الدلائل صنفان منها: وهما اللسان والقلم، وكلاهما يترجمان ويدلان على القلب، ويستمليان منه ويؤديان عنه ما لا تؤدي هذه الأصناف الباقية.
وأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها من حد الاستبهام إلى حد الإنسانية؛ ولذلك قال صاحب المنطق: حد الإنسان الحي الناطق، وإنما يبين عن الإنسان اللسان وعن المودة العينان، والله - سبحانه - رفع درجة اللسان فأنطقه من بين الجوارح بتوحيده، وما جعل الله من عبر عن شيء، مثل من لم يعبر عنه.
الأعور التيمي:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال آخر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
الطائي:
ومما كانت الحكماء قالت
لسان المرء من خدم الفؤاد
للخط صورة معروفة، وحلية موصوفة وفضيلة بارعة، ليست لهذه الأوصاف؛ لأنه ينوب عنها في الإيضاح عند المشهد ويفضلها في المغيب، وكفى بفضيلة العلم والخط قول الله - عز وجل:
الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 4، 5)، وأقسم به كما أقسم بغيره ثم أقسم بما يكتبه القلم إفصاحا عن حاله، وإعظاما لشأنه وتنبيها لذكره. فقال:
وما يسطرون (القلم: 1).
ومن فضيلة الخط: أنه لسان اليد، ورسول الضمير، ودليل الإرادة، والناطق عن الخواطر، وسفير العقول ووحي الفكر، وسلاح المعرفة، ومحادثة الأخلاء على التنائي، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومستودع الأسرار، وديوان الأمور، وترجمان القلوب، والمعبر عن النفوس، والمخبر عن الخواطر، ومورث الآخر مكارم الأول والناقل إليه مآثر الماضي والمخلد له حكمته وعلمه، والمسامر للعين بسر القلب، والمخاطب عن الناصت، والمجادل عن الساكت، والمفصح عن الأبكم، والمتكلم عن الأخرس الذي تشهد له آثاره بفضائله، وأخباره بمناقبه، وقد وقعت البلاغة من العلم علو القدر، وباذخ العز: كأبي مسلم صاحب الدولة فرقت شمله، وبددت جمعه ونقضت برمه، وأفسدت صلاحه، وضعضعت بنيانه مع ذكائه وتفطنه، ومكايده ودهائه وأصالة رأيه وشدة شكيمته، وامتناعه على أبي جعفر ونفاره عنه، كيف استفزه ابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وجبل بن يزيد واستمالوه بسحر ألفاظهم وبلاغة أقلامهم، حتى نزل من باذخ عزه وجاء مبادرا، حتى وقع في الشرك المنصوب له فتفرق جمعه، وانطفأ نوره وصار خبرا سائرا ورسما وأثرا.
ورفع القلم خاشع الطرف، صغير الخطر، لئيم الجنس، درج من عش التجار، ونشأ بين المكيال والميزان، كيف أشالت البلاغة بضبعيه، ورفعت من ناظريه، حتى شافهت به عنان السماء، ورفعت بناءه فوق البناء، حتى طلبه الراكب، وقصده الطالب، وخشعت له الرجال، ولحظته العيون بالوقار، وتمكن من الصنائع، ومدت نحوه الأصابع، فشكرت منه اللفظة، ورجيت منه اللحظة، كمحمد بن عبد اللمك بن الزيات، وفيه يقول علي بن الجهم:
أحسن من عشرين بيتا سدا
جمعك معناهم في بيت
ما أحوج الملك إلى مطرة
تغسل عنه وضر الزيت
فأجابه محمد بن عبد الملك:
رقيت في القول إلى خطة
قدرك فيها قد تعديت
قيرتم الملك فلم ننقه
حتى غسلنا القار بالزيت
ومدحه حبيب بن أوس يمدحه، ويصف قلمه:
لك القلم الأعلى الذي بثباته
تصاب من الأمر الكلى والمفاصل
وكان محمد من ألطف الناس ذهنا، وأرقهم طبعا، وأصدقهم حسا، وأرشقهم قلما، وأملحهم إشارة، إذا قال أصاب، وإذا كتب أبلغ، وإذا أشعر أحسن، وإذا اختصر أغنى عن الإطالة، أمره الواثق أن يتلطف بعبد الله بن طاهر، ويعلمه أنه صرفه عن أمر الجزائر والعواصم، وفوض ذلك لابن عمه إسحاق بن إبراهيم، فكتب أما بعد: فإن أمير المؤمنين رأى أن يخلع ما في يمينك من أمر الجزائر والعواصم فيجعله في شمالك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
سهل بن بركة يهجو أبا نوح النصراني الكاتب. فقال:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام
أم ضاعت الأذهان والأفهام
من صد عن دين النبي محمد
أله بأمر المسلمين قيام
إلا تكن أسيافهم مشهورة
فينا فتلك سيوفهم أقلام
قال عبد الرحمن بن كيسان: استعمال الكلام أجدر بإحضار الذهن عند تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام، ولم يختلف في شرف القلم، وإنما اختلف في كيفية البلاغة وماهيتها، وقد مدحها كل قوم بأوضح عبارتهم، وأحسن بيانهم. فقال صاحب اليونانيين: البلاغة تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
الرومي:
البلاغة وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.
الفارسي:
هي معرفة الفصل من الوصل.
الهندي:
هي البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة، ثم أن يدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح أوعر طريقا، وربما كان الإطراق عنها أبلغ في الدرك وأحق بالظفر.
غيره:
جماع البلاغة التماس حسن الموقع والمعرفة بساعات القول، وقلة الحذق بما التبس من المعاني وغمض، وبما شرد عليك من اللفظ وتعذر، ثم قال: وزين ذلك كله وبهاؤه وحلاوته أن تكون الشمائل معتدلة، والألفاظ موزونة واللهجة نقية؛ فإن جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت، فقد تم كل التمام.
وقيل لهندي: ما البلاغة؟ فأخرج صحيفة مكتوبة عندهم فيها أول البلاغة احتمال آلة البلاغة، وذلك أن يكون البليغ رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، ويصعبها كل التصعبة، ويهذبها غاية التهذيب، ولا يكون كذلك حتى يصادف فيلسوفا حكيما عليما، ومن قد تعود حذف فضل الكلام، وأسقط مشترك اللفظ.
أنوشروان لبزرجمهر: متي يكون العيي بليغا؟ فقال: إذا وصف بليغا.
أرسطاطاليس: البلاغة حسن الاستعارة.
بشر بن خالد: البلاغة التقرب من المعنى البعيد، والتباعد عن خسيس الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير.
خالد بن صفوان: ليس البلاغة بخفة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى، والقرع بالحجة.
عمر بن عبد العزيز: البليغ من إذا وجد كثيرا ملأه، وإذا وجد قليلا كفاه، ابن عتبة: البلاغة دنو المآخذ وقرع الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير . بعضهم: إني لأكره للإنسان أن يكون مقدار لسانه فاضلا عن مقدار عقله، كما أكره أن يكون مقدار عقله فاضلا عن مقدار لسانه وعلمه، يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.
عمرو بن عبيد ما البلاغة؟ فقال: ما بلغك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصرك بمواقع رشدك وعواقب غيك. فقال السائل: ليس هذا أريد. فقال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول، قال: ليس هذا أريد. قال النبي - عليه الصلاة والسلام: إنا معاشر الأنبياء بكاؤون. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. فقال له السائل: ليس هذا أريد، قال: كانوا يخافون من فتنة السكوت وسقطات الصمت. فقال: ليس هذا أريد. فقال: فكأنك إنما تريد تخير اللفظ في حسن إفهام؟! إنك أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المؤنة عن المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت من الله - سبحانه - جزيل الثواب.
الخليل بن أحمد: كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة، فإن استطعت أن يكون لفظك لمعناك طبقا، ولتلك الحال وفقا، وآخر كلامك لأوله مشابها وموارده لمصادره موازنا فافعل، واحرص أن تكون لكلامك متهما وإن ظرف، ولنظامك مستريبا وإن لطف بمواتاة آلتك لك، وتصرف إرادتك معك، فافعل، إن شاء الله.
وهذه الرسالة عذراء؛ لأنها بكر معان لم تفترعها بلاغة الناطقين، ولا لمستها أكف المفوهين، ولا غاصت عليها فطن المتكلمين، ولا سبق إلى ألفاظها أذهان الناطقين، فاجعلها مثالا بين عينيك ومصورة بين يديك، ومسامرة لك في ليلك ونهارك تهطل عليك شآبيب منافعها، ويظلك منها بركاتها وتوردك مناهل بلاغاتها، وتدل على مهيع رشدها وتصدرك، وقد نقع ظمؤك بينابيع بحر إحسانها إن شاء الله - عز وجل - والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القسم الرابع
رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
توطئة للناشر
ظفرنا بهذه الرسالة في خزانة كتب أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري، كتبه أبو حسن علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح إلى أبي العلاء المعري، فأجاب عنها هذا في رسالة خاصة سماها رسالة الغفران طبعت بمصر (سنة 1321ه/1903م) في مطبعة هندية، أما ابن القارح وكان يلقب بدوخلة، فكان شيخا من أهل الأدب راوية للأخبار حافظا لقطعة كبيرة من اللغة والأشعار قئوما بالنحو. وكان ممن خدم أبا علي الفارسي في داره وهو صبي، ثم لازمه وقرأ عليه وكانت معيشته التعليم بالشام ومصر.
قال ابن عبد الرحيم: وشعره يجري مجرى شعر المعلمين قليل الحلاوة خال من الطلاوة، وكان آخر عهدي به بتكريت في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة؛ فإنا كنا مقيمين بها واجتاز بنا وأقام عندنا مدة، ثم توجه إلى الموصل فبلغتني وفاته من بعد. وكان يذكر أن مولده بحلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. قال ياقوت: وعلي بن منصور هذا يعرف بابن القارح، وهو الذي كتب إلى أبي العلاء المعري الرسالة المعروفة برسالة ابن القارح، فأجابه أبو العلاء برسالة الغفران، وذكر اسمه فيها.
رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري
بسم الله الرحمن الرحيم
استفتاحا باسمه، واستنجاحا ببركته، والحمد لله المبتدي بالنعم المنفرد بالقدم، الذي جل عن شبه المخلوفين، وصفات المحدثين، ولي الحسنات، المبرأ من السيئات، العادل في أفعاله، الصادق في أقواله، خالق الخلق ومبديه، ومبقيه ما شاء ومفنيه، وصلواته على محمد وأبرار عترته وأهليه صلاة ترضيه، وتقربه وتدنيه وتزلفه وتحظيه.
كتابي - أطال الله بقاء مولاي الشيخ الجليل ومد مدته، وأدام كفايته وسعادته وجعلني فداءه وقدمني قبله - على الصحة والحقيقة، وبعد القصد والعقيدة وليس على مجاز اللفظ ومجرى الكتابة، ولا على تنقص وخلابة وتحبب ومسامحة، ولا كما قال بعضهم - وقد عاد صديقا له: كيف تجدك، جعلني الله فداك، وهو يقصد تحببا ويريد تملقا ويظن أنه قد أسدى جميلا يشكره صاحبه إن نهض واستقل، ويكافئه عليه إن أفاق وأبل عن سلامة تمامها بحضور حضرته وعافية نظامها بالتشرف بشريف عزته، وميمون نقيبته وطلعته، ويعلم الله الكريم - تقدست أسماؤه - أني لو حننت إليه، أدام الله تأييده حنين الواله إلى بكرها، وذات الفرخ إلى وكرها، أو الحمامة إلى إلفها، أو الغزالة إلى خشفها؛ لكان ذلك مما تغيره الليالي والأيام، والعصور والأعوام، لكنه حنين الظمآن إلى الماء، والخائف إلى الأمن والسليم إلى السلامة، والغريق إلى النجاة، والقلق إلى السكون، بل حنين نفسه النفيسة إلى الحمد والمجد؛ فإني رأيت نزاعها إليهما نزاع الأسطقسات إلى عناصرها، والأركان إلى جواهرها؛ فإن وهب الله لي مليا من العمر يؤنسني برؤيته، ويعلقني بحبل مودته، مرت كساري الليل ألقى عصاه، وأحمد مسراه، وقر عينا، ونعم بالا. وكان كمن لم يمسه سوء ولم يتخوفه عدو، ولا نهكه رواح ولا غدو، وعسى الله أن يمن بذلك بيومه، أو بثانيه وبه الثقة.
وأنا أسأل الله على التداني والنوى والبعاد إمتاعه بالفضل الذي استعلى على عاتقه وغاربه، واستولى على مشارقه ومغاربه، فمن مر على بحره الهياج، ونظر في لآلئ بدره الوهاج؛ خليق بأن يكبو قلمه بأنامله وينبو طبعه عن رسائله إلا أن يلقي إليه بالمقاليد، أو يستوهبه إقليدا من الأقاليد، فيكون منسوبا إليه، ومحسوبا عليه، ونازلا في شعبه، وأحد أصحابه وحزبه، وشرارة ناره، وقراضة ديناره، وسمك بحره، وثمد غمره، وهيهات ضاق فتر عن مسير.
ليس التكحل في العينين كالكحل، خلقوا أسخياء لا متساخين وليس السخي من يتساخى، لا سيما وأخلاق النفس تلزمها لزوم الألوان للأبدان، لا يقدر الأبيض على السواد، ولا الأسود على البياض، ولا الشجاع على الجبن، ولا الجبان على الشجاعة، قال أبو بكر العرزمي:
يفر جبان القوم عن أم رأسه
ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد عدوه
ويحرم معروف البخيل أقاربه
ومن لا يكف الجهل عمن يوده
فسوف يكف الجهل عمن يواثبه
ومن أين للضباب صوب السحاب، وللغراب هوى العقاب؟! وكيف وقد أصبح ذكره في مواسم الذكر آذانا، وعلى معالم الشكر لسانا، فمن دافع العيان، وكابر الإنس والجان، واستبد بالإفك والبهتان؛ كان كمن صالب بوقاحته الحجر، وحاسن بقباحته القمر، وهذى وهذر، وتعاطى فعقر. وكان كمحموم بلسم فعفر، ونادى على نفسه بالنقص في البدو والحضر. وكان كما قال من يعنيه، ولا يشك فيه:
كناطح صخرة يوما ليفلقها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وروي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وزاده شرفا لديه قال: «لعن الله ذا الوجهين، لعن الله ذا اللسانين، لعن الله كل شقار، لعن الله كل قتات.»
وردت حلب ظاهرها - حماها الله تعالى وحرسها - بعد أن منيت بربضها بالدرخمين وأم حبوكرى والفتكرين، بل رميت بآبدة الآباد والداهية الناد، فلما دخلتها بعد ولم تستقر بي الدار، وقد نكرتها لفقدان معرفة وجار وأنشدتها باكيا:
إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها
فقدت حبيبا والبلاد كما هيا
كان أبو القطران المرار بن سعيد الفقعسي يهوى ابنة عمه بنجد، واسمها وحشية فاهتداها رجل شامي إلى بلده، فغمه بعدها وساءه فراقها. فقال من قصيدة:
إذا تركت وحشية النجد لم يكن
لعينيك مما تبكيان طبيب
رأى نظرة منها فلم يملك البكا
معاوز يربو تحتهن كثيب
وكانت رياح الشام تكره مرة
فقد جعلت تلك الرياح تطيب
فحصلت من الرباح على الرياح، كما حصل لأبي القطران من وحشية ثم وثم وثم وثم أجرى ذكره أدام الله تأييده من غير سبب جره، وغير مقتض اقتضاه. فقال الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه وباللغة والعروض من الخليل، فقلت - والمجلس يأزر بلغني أنه - أدام الله تأييده - يصغر كبيره ويتزر صغيره، فيصير تصغيره تكبيرا وتحقيره تكثيرا، وهكذا شاهدت من شاهدت من العلماء - رحمهم الله أجمعين وجعله وارث أطول أعمارهم وأمدها وأنضرها وأرغدها - وما ثم له حاجة دعت إلى هذا قد تفتح النور، وتوضح النور وأضاء الصبح لذي عينين.
كان أبو الفرج الزهرجي كاتب حضرة نصر الدولة - أدام الله حراسته - كتب رسالة إلي أعطانيها ورسالة إليه - أدام الله تأييده - استودعنيها وسألني إيصالها إلى جليل حضرته، وأكون نافثها لا باعثها ومعجلها لا مؤجلها، فسرق عديلي رحلا لي الرسالة فيه، فكتبت هذه الرسالة أشكو أموري وأبث شقوري وأطلعه طلع عجري وبجري، وما لقيت في سفري من أقوام يدعون العلم والأدب، والأدب أدب النفس لا أدب الدرس، وهم أصفار منهما جميعا، ولهم تصحيفات كنت إذا رددتها عليهم نسبوا التصحيف إلي، وصاروا إلبا علي، لقيت أبا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كتبه فعرضها علي، فقلت: كتبك هذه يهودية قد برئت من الشريعة الحنيفية، فأظهر من ذلك إعظاما وإنكارا، فقلت له: أنت على المجرب ومثلي لا يهرف بما لا يعرف، وأبلغ تيقن فقرأ هو وولده. وقال: صغر الخبر الخبر وكتب إلي رسالة يقرظني فيها بطبع له كريم وخلق غير ذميم، قال المتنبي:
أذم إلى هذا الزمان أهيله
صغرهم تصغير تحقير غير تكبير، وتقليل غير تكثير، فنفث مصدورا وأظهر ضمير مستورا وهو سائغ في مجال الشعر، وقائله غير ممنوع من النظم والنثر، ولكنه وضعه غير موضعه وخاطب به غير مستحقه وما يستحق زمان ساعده بلقاء سيف الدولة أن يطلق على أهله الذم، وكيف وهو القائل يخاطبه:
أسير إلى إقطاعه في ثيابه
على طرفه من داره بجسامه
وقد كان من حقه أن يجعلهم في خفارته؛ إذ كانوا منسوبين إليه ومحسوبين عليه، ولا يجب أن يشكو عاقلا ناطقا إلى غير عاقل ولا ناطق؛ إذ الزمان حركات الفلك إلا أن يكون ممن يعتقد أن الأفلاك تعقل وتعلم وتفهم وتدري بمواقع أفعالها بقصود وإرادات، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يقرب لها القرابين ويدخن الدخن فيكون مناقضا لقوله:
فتبا لدين عبيد النجوم
ومن يدعي أنها تعقل
أو يكون كما قال تعالى في كتابه الكريم:
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (النساء: 143) ويوشك أن تكون هذه صفته.
حكى القطربلي وابن أبي الأزهر في تأريخ اجتمعا على تصنيفه، وأهل بغداد وأهل مصر يزعمون أنه لم يصنف في معناه مثله، لصغر حجمه وكبر علمه يحكيان فيه أن المتنبي أخرج ببغداد من الحبس إلى مجلس أبي الحسن علي بن عيس الوزير - رحمه الله - فقال له: أنت أحمد المتنبي. فقال : أنا أحمد النبي وكشف عن بطنه فأراه سلعة فيه. وقال: هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي، فأمر بقلع جمشكه وصفعه به خمسين، وأعاده إلى محبسه، ويقول لسيف الدولة:
وتغضبون على من نال رفدكم
حتى يعاقبه التنغيص والمنن
كذب والله؛ لقد كان يتحرش بالمكارم ويتحكك بها، ويحسد عليها أن تكون إلا منه وبه، وهذا غير قادح في طلاوة شعره ورونق ديباجته، ولكني أغتاظ على الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين ويرومون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين، ويستعذبون القدح في نبوة النبيين - صلوات الله عليهم أجمعين - ويتطرفون ويبتذئون إعجابا بذلك المذهب:
تيه مغن وظرف زنديق
وقتل المهدي بشارا على الزندقة ولما شهر بها وخاف دافع عن نفسه بقوله:
يا ابن نهيا رأسي علي ثقيل
واحتمال الرأسين عبء ثقيل
فادع غيري إلى عبادة ربي
ن فإني بواحد مشغول
وأحضر صالح بن عبد القدوس وأحضر النطع والسياف. فقال: علام تقتلني؟ قال: على قولك:
رب سر كتمته فكأني
أخرس أو ثنى لساني عقل
ولو اني أظهرت للناس ديني
لم يكن لي في غير حبسي أكل
يا عدو الله وعدو نفسه:
الستر دون الفاحشات ولا
يلقاك دون الخير من ستر
فقال: قد كنت زنديقا، وقد تبت عن الزندقة، قال: كيف وأنت القائل:
والشيخ لا يترك عاداته
حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى غيه
كذي الضنى عاد إلى نكسه
وأخذ غفلته السياف، فإذا رأسه يتدهدأ على النطع، وظهر في أيامه في بلد خلف بخارى وراء النهر رجل قصار أعور، عمل له وجها من ذهب، وخوطب برب العزة وعمل لهم قمرا فوق جبل ارتفاعه فراسخ فأنفذ المهدي إليه، فأحيط به وبقلعته فحرق كل شيء فيها وجمع كل من في البلد وسقاهم شرابا مسموما، فماتوا بأجمعهم، وشرب فلحق بهم وعجل الله بروحه إلى النار.
والصناديقي في اليمن فكانت جيوشه بالمديخرة وسفهنه، وخوطب بالربوبية وكوتب بها، فكانت له دار إفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل الرجال عليهن ليلا، قال من يوثق بخبره دخلت إليها لأنظر، فسمعت امرأة تقول : يا بني. فقال: يا أمه نريد أن نمضي أمر ولي الله فينا. وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميز مال من مال، ولا ولد من ولد، فتكونون كنفس واحدة! فغزاه الحسني من صنعاء فهزمه وتحصن منه في حصن هناك، فأنفذ إليه الحسني طبيبا بمبضع مسموم ففصده به فقتله، والوليد بن يزيد أقام في الملك سنة وشهرين وأياما، وهو القائل:
إذا مت يا أم الحنيكل فانكحي
ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإن الذي حدثته من لقائنا
أحاديث طسم تترك العقل واهيا
ورمى المصحف بالنشاب وخرقه. وقال:
إذا ما جئت ربك يوم حشر
فقل يا رب خرقني الوليد
وأنفذ إلى مكة بناء مجوسيا ليبني له على الكعبة مشربة، فمات قبل تمام ذلك، فكان الحجاج يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك يا قاتل الوليد بن يزيد لبيك. وأحضر بنابجة من ذهب، وفيها جوهرة جليلة القدر، صورة رجل، فسجد له وقبله. وقال: اسجد يا علج: قلت: ومن هذا؟ قال: هذا ماني شأنه كان عظيما اضمحل أمره لطول المدة، فقلت: لا يجوز السجود إلا لله. فقال: قم عنا وكان يشرب على سطح وبين يديه باطية كبيرة بلور وفيها أقداح. فقال لندمائه: أين القمر الليلة؟ فقال بعضهم: في الباطية. فقال: صدقت أتيت على ما في نفسي، والله لأشربن الهفتجة يعني: شرب سبعة أسابيع متتابعة. وكان بموضع حول دمشق، يقال له البحرا: فقال:
تلعب بالنبوة هاشمي
بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقتل بها، ورأيت رأسه في الباطية التي أراد أن يهفتج بها.
وأبو عيسى بن الرشيد القائل:
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر
ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
ولو كان يعديني الإمام بقدره
على الشهر لاستعديت دهري على الشهر
عرض له في وقته صرع فمات، ولم يدرك شهرا غيره - والحمد لله.
والجنابي قتل بمكة ألوفا وأخذ ستة وعشرين ألف حمل خفا، وضرب آلاتهم وأثقالهم بالنار، واستملك من النساء والغلمان والصبيان من ضاق بهم الفضاء كثرة ووفورا، وأخذ حجر الملتزم وظن أنها مغناطيس القلوب، وأخذ الميزاب قال : وسمعت قائلا يقول لغلام دحسمان طوال يرفل في برديه وهو فوق الكعبة: يا رخمة اقلعه وأسرع، يعني ميزاب الكعبة فعلمت أن أصحاب الحديث صحفوه. فقالوا: يقلعه غلام اسمه رحمة، كما صحفوا على علي - رضي الله عنه - قوله: «تهلك البصرة بالريح.» فهلكت بالزنج؛ لأنه قتل علوي البصرة في موضع بها يقال له: العقيق أربعة وعشرين ألفا عدوهم بالقصب وحرق جامعها، وقال في خطبته يخاطب الزنج: إنكم قد أعنتم بقبح منظر، فاشفعوه بقبح مخبرا، اجعلوا كل عامر قفرا وكل بيت قبرا.
قال لي بدمشق أبو الحسين اليزيدي الوزير بن علي نسب جدي دخل وإياه أدعي، قال أبو عبد الله محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي: كنت بمكة وسيف الجنابي قد أخذ الحاج، ورأيت رجلا منهم قد قتل جماعة، وهو يقول: يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي، ومن دخله كان آمنا، أي أمن هنا؟ فقلت له: يا فتى العرب تؤمنني سيفك أفسر لك هذا؟ قال: نعم، قلت: فيها خمسة أجوبة: الأول: ومن دخله كان آمنا من عذاب يوم القيامة، والثاني: من الفرض الذي فرضت عليه، والثالث: خرج مخرج الخبر وهو يريد الأمر كقوله:
والمطلقات يتربصن بأنفسهن (البقرة: 228)، والرابع: لا يقام عليه الحد فيه إذا جنى في الحل، والخامس من الله عليهم بقوله:
أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم (العنكبوت: 67). فقال: صدقت هذه اللحية، ألي توبة؟ فقلت: نعم، فخلاني وذهب.
والحسين بن منصور الحلاج من نيسابور، وقيل: من مرو، يدعي كل علم وكان متهورا جسورا يروم إقلاب الدول، ويدعي فيه أصحابه الإلهية، ويقول بالحلول ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ومذاهب الصوفية للعامة، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه، وناظره علي بن عيسى الوزير فوجده صفرا من العلوم. وقال: تعلمك لطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها، كم تكتب إلى الناس تبارك ذو النور الشعشعاني الذي يلمع بعد شعشعته، ما أحوجك إلى أدب. حدثني أبو علي الفارسي، قال: «رأيت الحلاج واقفا على حلقة أبي بكر الشبلي ... أنت بالله ستفسد خشبة ، فنفص كمه في وجهه وأنشد:
يا سر سر يدق حتى
يجل عن وصف كل حي
وظاهرا باطنا تبدى
من كل شيء لكل شي
يا جملة الكل لست غيري
فما اعتذاري إذن إلي
وهو يعتقد أن العارف من الله بمنزلة شعاع الشمس منها بدأ وإليها يعود، ومنها يستمد ضوءه أنشدني الظاهر لنفسه:
أرى جيل التصوف شر جيل
فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه
كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وحرك يوما يده فانتثر على قول مسك وحرك مرة أخرى فانتثر دراهم. فقال له بعض من حضر ممن يفهم: أرني دراهم معروفة، أؤمن بك وخلق معي؛ إن أعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك. فقال: وكيف هذا وهذا لا يصنع؟ قال: من أحضر ما ليس بحاضر صنع ما ليس بمصنوع. وكان في كتبه: إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود، فلما شاع أمره وعرف السلطان خبره على صحة وقع بضربه ألف سوط وقطع يديه، ثم أحرقه بالنار في آخر سنة تسع وثلاثمائة. وقال لحامد بن العباس: أنا أهلكك. فقال حامد: الآن صح أنك تدعي ما قرفت به.»
وابن أبي العذافر أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني أهله من قرية من قرى واسط تعرف بشلمغان، وصورته صورة الحلاج، ويدعي عنه قوم: أنه إله، وأن الله حل في آدم، ثم في شيث، ثم في واحد واحد من الأنبياء والأوصياء والأئمة، حتى حل في الحسن بن علي العسكري، وأنه حل فيه وكان قد استغوى جماعة منهم ابن أبي عون صاحب كتاب التشبيه ومعه ضربت عنقه. وكانوا يبيحونه حرمهم وأولادهم يتحكم فيهم. وكان يتعاطى الكيمياء وله كتب معروفة.
وكان أحمد بن يحيى الراوندي من أهل مرو الروذ حسن الستر جميل المذهب، ثم انسلخ من ذلك كله بأسباب عرضت له، ولأن علمه كان أكثر من عقله وكان مثله، كما قال الشاعر:
ومن يطيق مردا عند صبوته
ومن يقوم لمستور إذا خلعا
صنف كتاب «التاج» يحتج فيه لقدم العالم، فنقضه أبو الحسن الخياط.
الزمرد:
يحتج فيه لإبطال الرسالة ، نقضه الخياط.
نعت الحكمة:
سفه الله تعالى في تكليف خلقه أمره، نقضه الخياط.
الدامغ:
يطعن فيه على نظم القرآن.
القضيب:
يثبت أن علم الله محدث، وأنه كان غير عالم حتى خلق لنفسه علما، نقضه الخياط.
الفريد:
في الطعن على النبي - عليه الصلاة والسلام.
المرجان:
في اختلاف أهل الإسلام.
علي بن العباس بن جريج الرومي، قال أبو عثمان الناجم: دخلت عليه في علته التي مات فيها، وعند رأسه جام فيه ماء مثلوج وخنجر مجرد، لو ضرب به صدر خرج من ظهر فقلت: ما هذا؟ قال: الماء أبل به حلقي، فقلما يموت إنسان إلا وهو عطشان، والخنجر إن زاد علي الألم نحرت نفسي، ثم قال: أقص عليك قصتي تستدل بها على حقيقة تلفي، أردت الانتقال من الكرخ إلى باب البصرة، فشاورت صديقنا أبا الفضل، وهو مشتق من الإفضال، فقال: إذا جئت القنطرة فخذ على يمينك وهو مشتق من اليمن واذهب إلى سكة النعيمة، وهو مشتق من النعيم فاسكن دار ابن المعافى، وهو مشتق من العافية فخالفته لتعسي ونحسي، فشاورت صديقنا جعفرا، وهو مشتق من الجوع والفرار. فقال: إذا جئت القنطرة فخذ على شمالك، وهو مشتق من الشؤم، واسكن دار ابن قلابة وهي هذه، لا جرم قد انقلبت بي الدنيا، وأضر ما علي العصافير في هذه السدرة تصيح سيق سيق، فها أنا في السياق، ثم أنشدني:
أبا عثمان أنت قريع قومك
وجودك للعشيرة دون لومك
تمتع من أخيك فما أراه
يراك ولا تراه بعد يومك
وألح به البول، فقلت له: البول ملح بك. فقال:
غدا ينقطع البول
ويأتي الويل والعول
ألا إن لقاء الله
هول دونه الهول
ومات من الغد، فأرجو أن يكون هذا القول توبة له، مما كان اعتقده من ذبحه نفسه، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: «من وجأ نفسه بحديدة حشر يوم القيامة وحديدته بيده يجأ بها نفسه خالدا مخلدا في النار، من تردى من شاهق حشر يوم القيامة يتردى على منخريه في النار خالدا مخلدا، من تحسى سما حشر يوم القيامة، وسمه بيده يتحساه خالدا مخلدا في النار.»
قال الحسن بن رجاء الكاتب: جاءني أبو تمام إلى خراسان، فبلغني أنه لا يصلي، فوكلت به من لازمه أيامه، فلم يره صلى يوما واحدا فعاتبته. فقال: يا مولاي قطعت إلى حضرتك من بغداد فاحتملت المشقة وبعد الشقة ولم أره يثقل علي، فلو كنت أعلم أن الصلاة تنفعني وتركها يضرني ما تركتها، فأردت قتله فخشيت أن يحمل على غير هذا.
وفي تآريخ كثيرة أنه أحضر المازيار إلى المعتصم، وقبل قدومه بيوم سخط على الأفشين؛ لأن القاضي ابن أبي داود قال للمعتصم: أغرل ويطأ امرأة عربية، وهو كاتب المازيار وزين له العصيان، فأحضر كاتبه وتهدده المعتصم، فأقر أنه كتب إلى المازيار لم يكن في الأرض، ولا في العصر بلية إلا أنا وأنت وبابك، وقد كنت حريصا على حقن دمه، حتى كان من أمره ما كان ولم يبق غيري وغيرك، وقد توجه إليك عسكر من عساكر القوم؛ فإن هزمته وثبت أنا بملكهم في قرار داره، فظهر الدين الأبيض فأجابه المازيار بجواب هو عنده سفط أحمر، فجمع بين الأفشين والمازيار، فاعترف المازيار بما حكى عنه، وقيل للمعتصم: إن وراء المازيار مالا جليلا، فأنشد:
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ذكروا أن اثنين قتلوا ثلاثة آلاف ألف وخمسمائة ذبحا بالثياب الحمر، والخناجر الطوال وأنهم وجدوا أسماءهم في وقعة وقعة وفي بلد بلد. وكانوا يأخذون من كل واحد علامة خاتمه، أو ثوبه أو منديله أو تكته أتى الوادي فطم على القرى.
قد لقيت من يجادلني أن عليا - رضي الله عنه - وكذلك الحاكم، وقد ظهر بالبصرة من يدعي أنه جعفر بن محمد - عليهما السلام - وأنه متصل به، وروحه فيه ومتصلة به. ولو استقصيت القول في هذا الفن لطال جدا، ولكن:
لا بد للمصدور أن ينفثا
وللذي في الصدر أن يبعثا
بل لو قلت كل ما أعلمه أكلت زادي في محبسي، بل كنت أنشد:
أحمل رأسا قد ملك حمله
ألا فتى يحمل عني ثقله وأستريح
إلى أن أنشد:
ليس يشفي كلوم غيري كلومي
ما به ما به وما بي ما بي
إن شكوت العصر وأحكامه، وذممت صروفه وأيامه شكوت من لا يشكى أبدا، وذممت من لا يرضي أحدا، شيمته اصطفاء اللئام، والتحامل على الكرام، وهمته رفع الخامل الوضيع، ووضع الفاضل الرفيع، إذا سمح بالحياء، فأبشر بوشك الاقتضاء، وإذا أعار، فأحسبه قد أغار، فما بين أن يقبل عليك مستبشرا، ويولي عنك متجهما مستشرا إلا كلمح البصر واستطارة الشرر، لم يخترق ذكر الوفاء مسامعه، ولم يمسس ماء الحياء مدامعه، ظاهره يسر ويؤنس، وباطنه يسوء ويؤيس، يخيب ظن راجيه، ويكذب أمل عافيه، لا يسمع الشكوى، ويشمت بالبلوى، قد ذممت سيئا، ووقعت فيه أنا كالغريق يطلب معلقا، والأسير يندب مطلقا، واستحسن قول علي بن العباس بن جريج الرومي:
ألا ليس شيبك بالمنتزع
فهل أنت عن غيه مرتدع؟
وهل أنت تارك شكوى الزما
ن إذا شئت تشكو إلى مستمع؟
فشيب أخي الشيب أمنية
إذا ما تناهر إليها هلع
كنت في حال الحداثة أقرب الناس إلي وأعزهم علي، وأقربهم عندي وأجلهم في نفسي مرتبة، من قال لي نسأ الله في أجلك، جعل الله لك أمد الأعمار وأطولها، فلما بلغت عشر الثمانين جاء الجزع والهلع، فمم أرتاع وألتاع وأخلد إلى الأطماع؛ وهو الذي كنت أتمنى، ويتمنى لي أهلي؟ أمن صدوف الغواني عني، فأنا - والله - عنهن أصدف وبهن وأدوائهن أعرف؛ إذ لست ممن ينشد تحسرا عليهن:
للسود في السود آثار تركن بها
لمعا من البيض تثني أعين البيض
وقول الآخر:
ولما رأيت النسر عز ابن داية
وعشش في وكريه جاشت له نفسي
ولا أنشد لأبي عبادة البحتري:
أن أيامه من البيض بيض
ما رأين المفارق السود سودا
وإذا المحل ثار ثاروا غيوثا
وإذا النقع ثار ثاروا أسودا
يحسن الذكر عنهم والأحادي
ث إذا حدث الحديد الحديدا
بلدة تنبت المعالي فما يث
غر الطفل فيهم أو يسودا
وهذه صفة معرة النعمان - به أدام الله تأييده - لا خلت منه ، ومن النعمة عليه وعنده، فقد وجدت أهلها معترفين بعوارفه، خلا أبي العباس أحمد بن خلف الممتع أدام الله عزه؛ فإني وجدت آثار تفضله عليه ظاهرة، ولسانه رطبا بشكره وذكره، وقد ملأ السماء دعاء والأرض ثناء.
قالت قريش للنبي - عليه الصلاة والسلام: أتباعك من؟! هؤلاء الموالي: كبلال، وعمار، وصهيب، خير من قصي بن كلاب، وعبد مناف، وهاشم، وعبد شمس؟! فقال: نعم والله لئن كانوا قليلا ليكثرن، ولئن كانوا وضعاء ليشرفن حتى يصيروا نجوما يهتدى بهم ويقتدى، فيقال: هذا قول فلان، وذكر فلان، فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في الجاهلية، فلما يدهده الجعل بمنخره خير من آبائكم الذين ماتوا فيها فاتبعوني أجعلكم أنسابا، والذي نفسي بيده لتقتسمن كنوز كسرى وقيصر. فقال له عمه أبو طالب: أبق علي وعلى نفسك، فظن - عليه الصلاة والسلام - أنه خاذله ومسلمه. فقال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر باكيا، ثم قام فلما ولى ناداه: أقبل يا بن أخي فأقبل. فقال: اذهب وقل ما شئت فوالله لا أسلمتك لسوء أبدا، فكان - عليه الصلاة والسلام - يذكر يوما ما لقي من قومه من الجهد والشدة، قال: لقد مكثت أياما وصاحبي هذا - يشير إلى أبي بكر - بضع عشرة ليلة ما لنا طعام إلا البرير في شعب الجبال.
وكان عتبة بن غزوان يقول: إذا ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة: لقد مكثنا زمانا ما لنا طعام إلا ورق البشام أكلناه، حتى تقرحت أشداقنا، ولقد وجدت يوما تمرة فجعلتها بيني وبين سعد وما منا اليوم أحد إلا وهو أمير على كورة. وكانوا يقولون فيمن وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه: إن أسعد الرجلين من حصلت النواة في قسمه يلوكها يومه وليلته من عدم القوت، وكذا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط.»
وابتدأ أمره أنه وقف على الصفا ونادى: يا صباحاه، فجاءوا يهرعون. فقالوا: ما دهمك ما طرقك؟ قال: بم تعرفونني ؟ قالوا: محمد الأمين، قال: أرأيتم إن قلت لكم: إن خيلا قد طرقتكم في الوادي، وإن عسكرا قد غشيكم من الفج أكنتم تصدقونني؟ قالوا: اللهم نعم؛ ما جربنا عليك كذبا قط، قال: فإن الذي أنتم عليه ليس لله ولا من الله ولا يرضاه الله قولوا لا إله إلا الله، واشهدوا أني رسوله، واتبعوني تطعكم العرب وتملكوا العجم، وإن الله قال لي استخرجهم كما استخرجوك وابعث جيشا أبعث خمسة أمثاله، وضمن لي أنه ينصرني بقوم منكم، وقال لي: قاتل بمن أطاعك من عصاك، وضمن لي أنه يغلب سلطاني سلطان كسرى وقيصر.
ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - غزا تبوك في ثلاثين ألفا، وهذا من قبل الله الذي يجعل من لا شيء كل شيء، ويجعل كل شيء لا شيء يجمد المائعات، ويميع الجامدات؛ يجمد البحر، ثم يفجر الصخر وما مثله في ذلك إلا كمثل من قال: هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة أحك بها هذه الجبال الصلدة الصلبة المنيفة فترضها وتفضها، وهذه النملة الضعيفة اللطيفة تهزم العساكر الكثيرة المعدة، وكذا حقيقة أمره - عليه الصلاة والسلام - حتى لقد قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش. وكان رسولهم إليه
صلى الله عليه وسلم
بالحديبية: لقد وردت على النجاشي وكسرى وقيصر ورأيت جندهم وأتباعهم، فما رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد هم حوله، وكأن الطير على رءوسهم؛ فإن أشار بأمر بادروا إليه، وإن توضأ اقتسموا وضوءه، وإن تنخم دلكوا بالنخامة وجوههم ولحاهم وجلودهم. وكانوا له بعد موته أطوع منهم في حياته، حتى لقد قال لبعض أصحابه: لا تسبوا أصحاب محمد؛ فإنهم أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف أسيافهم.
فتأمل كيف استفتح دعوته وهو ضعيف وحده بأن هذا سيكون، فرآه العدو والولي وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال هذه الهباءة تعظم وتصير جبلا يغطي الأرض كلها، ثم أنذر الناس بها في حال ضعفها، وجاء
صلى الله عليه وسلم
يوما ليدخل الكعبة، فدفعه عثمان بن طلحة العبدري . فقال: لا تفعل يا عثمان فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت. فقال: لقد ذلت يومئذ قريش وقلت. قال: بل كثرت وعزت.
وأنا أستعين بعصمة الله وتوفيقه، وأجعلهما معينتي على دفع شهواتي، وأشكو إليه عكوفي على الأماني، وأسأله فهما لمواعظ عبر الدنيا، فقد عميت عن كلوم غيرها، بما جشم على خواطري من الشعف، ولست أجد مني منصفا لي منها، ولا حاجز لرغبتي فيها عنها، وأين ودائع العقول وخزائن الأفهام يا أولي الأبصار؟ صفحنا عن مساوي الدنيا إغماضا لعاجل موفق التنغيص، وترمي إليه يد الزوال وتكمن له الآفات، قال كثير:
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
وأقول على مذهب كثير: يا دنيا في كل لحظة لطرفي منك عبرة، وفي كل فكرة لي منك حسرة، يا مرنقة الصفا ويا ناقصة عهد الوفا، ما وفق لحظة من عرج نحوك، ولا سعد من آثر المقام على حسن الظن بك، هيهات يا معشر أبناء الدنيا لكم في الظاهر اسم الغنى وفي الباطن أهل التقلل، لهم نفس هذا المعنى، كم من يوم لي أغر كثيرا لأهله! قد أصحت سماؤه، وامتد على ظله تمدني ساعاته بالمنى، ويضحك لي بها عن كل ما أهوى، حتى إذا اتصل بكل أسبابي وامتزج سروره بفرحي وروحي وأترابي، نفست علي به الدنيا، فسعت بالتشتيت إلى ألفته والنقص إلى مدته، فكسفت بهجته كسوفا وأرهقت نضرته وحشة الفراق، وقطعتنا فرقا في الآفاق، بعد أن كنا كالأعضاء المؤتلفة، والأغصان اللدنة المتعطفة، واحسرتى في يوم يجمع شرتي كفن ولحد!
ضيعت ما لا بد منه
بالذي لي منه بد
وأنشد قول ابن الرومي:
ألا ليس شيبك بالمنتزع
فهل أنت عن غيه مرتدع
فأقلق وأبكى بكاء غير نافع ولا ناجع، ويجب أن أبكي على بكائي، وأنشد:
لساني يقول ولا أفعل
وقلبي يريد ولا أعمل
وأعرف رشدي ولا أهتدي
وأعلم لكنني أجهل
عرض علي بعض الناس كأس خمر، فامتنعت منها وقلت خلوني، والمطبوخ على مذهب الشيخ الأوزاعي، وقلت لهم: عرض إبراهيم بن المهدي على محمد بن خازم الخمرة، فامتنع وأنشد :
أبعد شيبي أصبو
والشيب للجهل حرب
سن وشيب وجهل
أمر لعمرك صعب
يا ابن إمام فألا
أيام عودي رطب
وإذا مشيبي قليل
ومنهل الحب عذب
وإذ شفاء الغواني
مني حديث وقرب
فالآن لما رأى بي ال
عذال ما قد أحبوا
وآنس الرشد مني
قوم أعاب وأصبو
آليت أشرب خمرا
ما حج لله ركب
وأقبلت على نفسي مخاطبا ولها معاتبا، والخطاب لغيرها والمعنى لها: لقد أمهلكم حتى كأنه أهملكم، أما تستحيون من طول ما لا تستحيون؟ فكن كالوليد تقلبه يد اللطف به على فراش العطف، عليه تصرف إليه المنافع بغير طلب منه لصغره، وتصرف عنه المضار بغير حذر منه لعجزه، أما سمعت الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذ يقول في دعائه: «اللهم اكلأني كلأة الوليد الذي لا يدري ما يراد به، ولا ما يريد» ألا متعلق، والإذلال ذيال دليله، ألا معد مطية ورحلا ليوم رحيله؟! يا هلاه الدلجة الدلجة، إنه من لم يسبق إلى الماء يظمأ، إنما منعتك ما تشتهي ضنا بك وغيرة عليك، قال الرسول - عليه الصلاة والسلام: «إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا.» وأنت تشكوني إذا حميتك وتكره صيانتي إذا صنتك، ألا لائذ بفنائنا ليعز؟ ألا فار إلينا لا فار منا؟ يا من له بد من كل شيء ارحم من لا بد له منك على كل حال، الله يغني بشيء عن شيء. وليس يغني عنه بشيء؛ فلهذا قال جبريل للخليل: ألك حاجة؟ قال: «أما إليك فلا.» الله يستحق أن يسأل وإن أغنى؛ لأنه لا يغنى بشيء عنه أطعه لتطيعه ولا تطعه ليطيعك فتفر وتمل، من ترك تدبيره لتدبيرنا أرحناه، جل من لوالب القلوب والهمم بيده وعزائم الأحكام والأقسام عنده:
أنسيت ذكر أحبة
ينسون ذنبك عند ذكرك
وجفوتهم ولطالما
كانوا خلافك طوع أمرك
وصبرت عند فراقهم
ما كان عذرك عند صبرك
عشقت فأصبحت في العاشقين أشهر من فرس أبلق، تترك من إذا جفوته ونسيت ذكره وتعديت حده، وتركت نهيه وضيعت أمره، وتبت إليه وعولت في تفضله عليك عليه، وقلت يا رب ؛ قال لك لبيك:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب (البقرة: 186)، إن كان الذباب بوجهك فأتهمك، وإن قطعت أنا أعضاءك، لا تتهمني أنت الذي إذا أعطيتك ما أملت تركتني وانصرفت:
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه (الإسراء: 82، وفصلت: 51)، يا واقفا بالتهم كم كم، أليس يقول لك ما غرك بي؟ تقول: حلمك، وإلا لو أرسلت على بقة لجمعتني عليك، إذا أرادت أن تجمعني:
أمن بعد شربك كأس النهى
وشمك ريحان أهل التقى
عشقت فأصبحت في العاشقي
ن أشهر من فرس أبلقا
أدنياي من غمر بحر الهوى
خذي بيدي قبل أن أغرقا
أنا لك عبد فكوني كمن
إذا سره عبده أعتقا
كان ببغداد رجل كبير الرأس، فيلي الأذنين، اسمه «فاذوه»، رأسه في الأزمنة الأربعة مكشوف، لا يتورع عن ركوب مخزية، يقال له يا فاذوه، ويلك تب إلى الله، فيقول: يا قوم لم تدخلون بيني وبين مولاي، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فكان في بعض الشوارع يوما ذاهبا، والشارع قد اتسع أسفله وضاق أعلاه والتقت جناحان فيه، فناولت جارة جارتها مهراسا انسل من يدها على رأس «فاذوه»، فهرس رأسه وخلط كخلط الهريسة، وأعجله عن التوبة. وكان لنا واعظ صالح يقول لنا: احذروا ميتة «فاذوه».
قال جبريل في حديثه: خشيت أن يتم فرعون الشهادة والتوبة، فأخذت قطعة من حال البحر فضربت بها وجهه، يعني: طينة، والحال ينقسم ثمانية أقسام منها الطين، فكيف يصنع من عنده أن التوبة لا تصح من ذنب، مع الإقامة على آخر؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
بلغني عن مولاي الشيخ - أدام الله تأييده - أنه قال: وقد ذكرت له أعرفه خبرا هو الذي هجا أبا القاسم علي بن الحسين المغربي، فذلك منه - أدام الله عزه - رائع لي، خوفا أن يستشر طبعي، وأن يتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر، وهو بتعريف التنكير أنفع لي عنده لجلالة قدره ودينه ونسكه، وأنا أطلعه طلعة ليعرف خفضه ورفعه وفراداه وجمعه.
كنت أدرس على أبي عبد الله بن خالويه - رحمه الله - وأختلف إلى دار أبي الحسين المغربي، ولما مات ابن خالويه سافرت إلى بغداد، ونزلت على أبي علي الفارسي، وكنت أختلف إلى علماء بغداد إلى: أبي سعيد السيرافي، وعلي بن عيسى الرماني، وأبي عبيد الله المرزباني، وأبي حفص الكتاني صاحب أبي بكر بن مجاهد وكتبت حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وبلغت نفسي أغراضها جهدي والجهد عاذر، ثم سافرت منها إلى مصر ولقيت أبا الحسن المغربي، فألزمني إن لزمته لزوم الظل، وكنت منه مكان المثل في كثرة الإنصاف والحنو والتجافي، فقال لي سرا: «أنا أخاف همة أبي القاسم أن تنزو به إلى أن يوردنا وردا إلا صدر عنه، وإن كانت الأنفاس مما تحفظ وتكتب فاكتبها واحفظها وطالعني بها.» فقال لي يوما: ما نرضى بالخمول الذي نحن فيه، قلت: وأي خمول هنا تأخذون من مولانا - خلد الله ملكه؟ في كل سنة ستة آلاف دينار، وأبوك من شيوخ الدولة وهو معظم مكرم. فقال: أريد أن تصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب، ولا أرضى بأن يجري علينا، كالولدان والنسوان فأعدت ذلك على أبيه فقال: ما أخوفني أن يخضب أبو القاسم هذه من هذه، وقبض على لحيته وهامته، وعلم أبو القاسم بذلك، فصارت بيني وبينه وقفة.
وأنفذ إلي القائد أبو عبد الله الحسين بن جوهر، فشرفني بشريف خدمته، فرأيت الحاكم كلما قتل رئيسا أنفذ رأسه إليه، وقال: هذا عدوي وعدوك يا حسين، فقلت: من ير يوما ير به، والدهر لا يغتر به، وعلمت أنه كذا يفعل به، فاستأذنته في الحج فأذن، فخرجت في سنة سبع وتسعين، وحججت خمسة أعوام وعدت إلى مصر وقد قتله، فجاءني أولاده سرا يرومون الرجوع إليهم، فقلت لهم: خير ما لي ولكم الهرب، ولأبيكم ببغداد ودائع خمسمائة ألف دينار، فاهربوا وأهرب ففعلوا وفعلت، وبلغني قتلهم بدمشق وأنا بطرابلس فدخلت إلى أنطاكية وخرجت منها إلى ملطية، وبها المايسطرية خولة بنت سعد الدولة فأقمت عندها إلى أن ورد علي كتاب أبي القسم، فسرت إلى ميافارقين فكان يسر حسوا في ارتغاء قال لي يوما من الأيام: ما رأيتك، قلت: أعرضت حاجة؟ قال: لا أردت أن ألعنك، قلت: فالعني غائبا، قال: لا في وجهك أشفى، قلت: ولم؟ قال: لمخالفتك إياي فيما تعلم، وقلت له ونحن على أنس بيني وبينه لي حرمات ثلاث: البلدية، وتربية أبيه لي، وتربيتي لإخوته، قال: هذه حرم مهتكة البلدية نسب بين الجدران، وتربية أبي لك منة لنا عليك، وتربيتك لإخوتي بالخلع، والدنانير أردت أن أقول له: استرحت من حيث تعب الكرام، فخشيت جنون جنونه؛ لأنه كان جنونه مجنونا وأصح منه مجنون وأجن منه، لا يكون. وقد أنشد:
جنونك مجنون ولست بواجد
إذن طبيبا يداوي من جنون جنون
بل جن جنانه، ورقص شيطانه.
به جنة مجنونة غير أنها
إذا حصلت منه ألب وأعقل
وقال لي ليلة: أريد أن أجمع أوصاف الشمعة السبعة في بيت واحد. وليس يسنح لي ما أرضاه، فقلت: أنا أفعل من هذه الساعة، قال: أنت جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، فأخذت القلم من دواته وكتبت بحضرته:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي
وفي هول ما ألقى وما أتوقع
نحول وحرق في فناء ووحدة
وتسهيد عين واصفرار وأدمع
فقال: كنت عملت هذا قبل هذا الوقت، فقلت: تمنعني سرعة الخاطر وتعطيني علم الغيب، وقلت: أنت ذاكر قول أبيك لي ولك، وللبتي الشاعر، ولمحسن الدمشقي، ونحن في الطارمة: اعملوا قطعة قطعة، فمن جود جعلت جائزته كتبها فيها، فقلت:
بلغ السماء سمو بي
ت شيد في أعلى مكان
بيت علا حتى توا
رى في ذراه الفرقدان
فانعم به لا زلت من
ريب الحوادث في أمان
فاستجاد سرعتها وكتبها في الطارمة وخلع علي. وكان أبو القسم ملولا، والملول ربما مل الملال. وكان لا يمل أن يمل ويحقد حقد من لا تلين كبده، ولا تنحل عقده. وقال لي بعض الرؤساء معاتبا: أنت حقود ولم يكن حقودا، فقلت له: أنت لا تعرفه، والله ما كان يحنى عوده ولا يرجى عوده، وله رأي يزين له العقوق، ويمقت إليه رعاية الحقوق، بعيد من الطبع الذي هو للصد صدود، وللتآلف ألوف ودود ، كأنه من كبره قد ركب الفلك واستوى على ذات الحبك، ولست ممن يرغب في راغب عن وصلته، أو ينزع إلى نازع عن خلته، فلما رأيته سادرا جاريا في قلة إنصافي على غلوائه، محوت ذكره عن صفحة فؤادي، واعتددت وده فيما سال به الوادي.
ففي الناس إن رثت حبالك واصل
وفي الأرض عن دار القلى متحول
وأنشدت الرجل أبياتا، أعتذر بها في قطعي له:
فلو كان منه الخير إذ كان شره
عتيدا لقلنا إن خيرا مع الشر
ولو كان إذ لا خير لا شر عنده
صبرنا وقلنا لا يريش ولا يبري
ولكنه شر ولا خير عنده
وليس على شر إذا دام من صبر
وبغضي له - شهد الله - حيا وميتا، أوجبه أخذه محاريب الكعبة الذهب والفضة، وضربها دنانير ودراهم، وسماها الكعبية وأنهب العرب الرملة، وخرب بغداد وكم دم سفك وحريم انتهك، وحرة أرمل وصبي أيتم، وأنا معتذر إلى الشيخ الجليل من تقريظه مع تقريظي فيه؛ لأنه قد شاع فضله في جميع البشر، وصار غرة على جبهة الشمس والقمر، خلد ذلك في بدائع الأخبار، وكتب بسواد الليل على بياض النهار، وأنا في مكاتبة حضرته بمنظوم ومنثور، كمن أمد النار بالشرر، وأهدى الضوء إلى القمر، وصب في البحر جرعة، وأعار سير الفلك سرعة، إذ كان لا يحل النقص بواديه، ولا يطور السهو بناديه.
ولقد سمعت من رسائله عقائل لفظ إن نعتها فقد عبتها، وإن وصفتها فما أنصفتها، وأطربتني - يشهد الله - إطراب السماع، وبالله لو صدرت عن صدر من خزانته وكتبه حوله يقلب طرفه في هذا ويرجع إلى هذا؛ فإن القلم لسان اليد، وهو أحد البلاغتين؛ لكان ذلك عجيبا صعبا شديدا، ووالله لقد رأيت علماء منهم ابن خالويه، إذا قرئت عليهم الكتب، ولا سيما الكبار رجعوا إلى أصولهم، كالمقابلين يتحفظون من سهو وتصحيف وغلط، والعجب العجيب والنادر الغريب حفظه - أدام الله تأييده - لأسماء الرجال والمنثور، كحفظ غيره من الأذكياء المبرزين المنظوم، وهذا سهل بالقول صعب بالفعل، من سمعه طمع فيه، ومن رامه امتنعت عليه معانيه ومبانيه.
حدثني أبو علي الصقلي بدمشق قال: كنت في مجلس ابن خالويه، إذ وردت عليه من سيف الدولة مسائل تتعلق باللغة؛ فاضطرب لها ودخل خزانته وأخرج كتب اللغة وفرقها على أصحابه يفتشونها ليجيب عنها وتركته، وذهبت إلى أبي الطيب اللغوي وهو جالس، وقد وردت عليه تلك المسائل بعينها وبيده قلم الحمرة، فأجاب به ولم يغيره قدرة على الجواب.
وقال أبو الطيب: قرأت على أبي عمر الفصيح إصلاح المنطق حفظا. وقال لي أبو عمر: كنت أعلق اللغة عن ثعلب على خزف، وأجلس على دجلة أحفظها وأرمي بها وأنا تعبت، وحفظت نصف عمري ونسيت نصفه؛ وذاك أني درست ببغداد وخرجت عنها، وأنا طري الحفظ ومضيت إلى مصر، فأمرجت نفسي في الأغراض البهيمية والأعراض المؤثمية، وأردت - بزعمي وخديعة الطبع المليم - أن أذيقها حلاوة العيش، كما صبرت في طلب العلم والأدب، ونسيت أن العلم غذاء النفس الشريفة وصيقل الأفهام اللطيفة، وكنت أكتب خمسين ورقة في اليوم وأدرس مائتين، فصرت الآن أكتب ورقة واحدة، وتحكني عيناي حكا مؤلما، وأدرس خمس أوراق وتكل، ثم دفعت إلى أوقات ليس فيها من يرغب في علم ولا أدب، بل في فضة وذهب، فلو كنت إياسا صرت باقلا وأضع كتابا عن يميني وأطلبه عن شمالي، وأريد - مع ضعفي - أرتاد لنفسي معاشا بظهر غير ظهير بل كسير عقير، وصلب غير صليب إن جلست، فهو كالدمل، وإن مشيت فجملتي دماميل، ومعي بقية نزرة يسيرة من جملة كثيرة، لو وجدت ثقة أعطيته إياها ليعود علي بما أرفه به جسمي من الحركة، وقلبي من الشغل وأنا أجد من أدفعها إليه، وبقي أن يردها إلي.
دفع رجل إلى صديق له جارية أودعها عنده، وذهب في سفره. فقال - بعد أيام - لمن يأنس به وتسكن نفسه إليه: يا أخي ذهبت أمانات الناس، أودعني صديق لي جارية، في حسابه أنها بكر جربتها فإذا هي ثيب.
من ظريف الأخبار أن بنت أختي سرقت لي ثلاثة وثمانين دينارا، فلما هددها السلطان - أطال الله بقاءه ومد مدته، وأدام سموه ورفعته - وأخرجت إليه بعضها، قالت: والله لو علمت أن الأمر يجري كذا كنت قتلته، فأعجبوا من هريستي وزبوني، والله لولا ضعفي وعجزي عن السفر لخرجت إليه متشرفا بمجالسته ومحاضرته، فأما مذاكرته فقد يئست منها؛ لما قد استولى علي النسيان واحتوى علي قلبي من الهموم والأحزان، وإلى الله الشكوى لا منه. وليس يحسن أن أشكو من يرحمني إلى من لا يرحمني. وليس بحكيم من شكا رحيما إلى غير رحيم. وكان أبو بكر الشبلي يقول: ليس غير الله غير، ولا عند غير الله خير. وقال يوما: يا جواد ثم أمسك مفكرا ورفع رأسه، ثم قال: ما أوقحني، أقول لك: يا جواد، وقد قيل في بعض عبيدك:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
وقد قيل في آخر:
تراه إذا جئته متهللا
كأنك معطيه الذي أنت سائله
ثم قال: بلى، أقول: يا جواد فاق كل جواد، وبجوده جاد من جاد.
ودخل ابن السماك على الرشيد. فقال له: عظني وفي يد الرشيد كوز ماء، فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، أرأيت إن أقدر الله عليك مقدرا؟ فقال: لن أمكنك من شربه إلا بنصف ملكك، أكنت فاعلا ذلك؟ قال: نعم، قال: اشرب - هنأك الله. فلما شرب قال: أرأيت يا أمير المؤمنين، أن لو أسفت نفس هذا المقدر عليك، فقال: لن أمكنك من إخراج هذا الكوز، إلا بأن أستبد بملكك دونك أكنت فاعلا ذلك؟ قال: نعم. قال: فاتق الله في ملك لا يساوي إلا بولة. وكيف أشكو ما قاتني وعالني نيفا وسبعين سنة، كان قميصي ذراعين فوكل بي والدين حدبين مشفقين يتناهيان في دقته ورقته وطيبه، فلما صار اثني عشر ذراعا تولاه هو وطعامي، فما أجاعني قط ولا أعراني
والذي هو يطعمني ويسقين (الشعراء: 79)، خاطب ربه بالأدب. فقال:
وإذا مرضت فهو يشفين (الشعراء: 80)، نسب المرض إلى نفسه؛ لأنها تنفر من الأعراض والأمراض، وكل شيء يطرأ على الإنسان لا يقدر على دفعه، مثل النوم واليقظة والضحك والبكاء، والغم والسرور والخصب والجدب والغنى والفقر؛ فهو منه - تقدست أسماؤه - ألا ترى أنه لا يتوعد على فعله، ولا يعاقب عليه وما يقدر على دفعه، فهو منه مثل أن يريد الكتابة، فلا يقع منه البناء، ويريد البناء فلا تقع منه الكتابة، ومن به الرعشة لا يقدر على إمساك يد، ومن ليست به يقدر على إمساكها.
كنت بتنيس وبين يدي إنسان يقرأ ويحزن:
يوفون بالنذر ويخافون (الإنسان: 7)، ويبكي فخطر لي خاطر، فقلت: أنا بضد هؤلاء القوم - صلوات الله عليهم - أنا لا أنذر ولا أفي ولا أخاف شقاء ولا عناء. ولو كنت أخاف ما أصبحت ... محموما وكنته.
وحدثني من أثق به ولا أتهمه عن أبيه وكان زاهدا قال: كنت مع أبي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق، فرأينا شاويا قد أخرج حملا من التنور، كأنه بسرة نضجا، وإلى جانبه قد عمل حلاوى فالوذجا، فوقف ينظر إليهما وهو ساه مفكر، فقلت يا مولاي: دعني آخذ من هذا وهذا، ورقاقا وخبزا ومنزلي قريب تشرفني بأن نجعل راحتك اليوم عندي. فقال: يا هذا، أظننت أني قد اشتهيتهما، وإنما فكري في أن الحيوان كله لا يدخل النار، إلا بعد الموت ونحن ندخلها أحياء.
يا رب عفوك عن ذي شيبة وجل
كأنه من حذار النار مجنون
قد كان ذمم أفعالا مذممة
أيام ليس له عقل ولا دين
تمت الرسالة، والحمد لله ذي الأفضال، وصلواته على محمد وخيرة الآل، ما فرغت من هذه السوداء، حتى ثارت بي السوداء وأنا أعتذر من خطل فيها أو زلل؛ فإن الخطأ مع الاعتذار والاجتهاد والتحري موضوع عن المخطئ، ومن ذا الذي يؤتى الكمال فيكمل.
قال عمر بن الخطاب: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي، وأسأله - أدام الله عزه - تشريفي بالجواب عنها؛ فإن هذه الرسالة على ما بها قد استحسنت، وكتبت عني وسمعت مني وشرفتها باسمه وطرزتها بذكره.
والرسالة التي كتبها الزهرجي إلي كانت أكبر الأسباب في دخولي إلى حلب، وإذا جاء جواب هذه سيرتها بحلب وغيرها - إن شاء الله - وبه الثقة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم .
القسم الخامس
ملقى السبيل
سانحة للناشر والمعري وشبنهاور
من عهد بعيد بحث كتاب الشرق والغرب عن حياة الشاعر الحكيم أبي العلاء المعري، وتأليفه، وعرفوه بما يستحقه من الإجلال والتعظيم، فلا حاجة لإيراد ترجمته هنا، إلا أنا لم نر أحدا أشار إلى المشابهة الغريبة الموجودة بين فلسفة المعري، ومذهب شبنهاور الحكيم الجرماني.
ولد أرثور شبنهاور بمدينة دنتسيغ بألمانيا (سنة 1788م)، فاعتنت أمه بتثقيفه. وكانت من مشاهير قصاصي ذلك القرن فأحسنت تربيته، وبعد أن تلقى العلوم بجامعة برلين وحصل على أعلى شهاداتها، أخذ يدون آراءه الفلسفية، فألف عدة كتب أهمها: «الإرادة في الطبيعة» و«أساس الحكمة»، وأشهرها: «فصول في الحكمة في الحياة»، وفيه جمع شبنهاور حكمه في أقوال موجزة وفصول قصار، وصف فيها أتعاب الحياة وآلام البشر على صورة تؤلم القارئ لانطباقها - في الغالب - على الواقع، ومذهب شبنهاور أن جميع مشاق الإنسان، وأتعابه الدنياوية الأصل فيها ما يسميه: «إرادة البشر»، يعني: شهوات طبيعتنا وحبنا التمتع والتلذذ بالحياة، أوليس هذا رأي المعري عندما يقول: «إنك إلى الدنيا مصغ، وحبها للبشر مطغ، لو أنك لشأنها ملغ، أبغاك ما تأمله مبغ.» ولولا خوف الإطالة لأوردنا شيئا كثيرا من تشابه أقوال الحكيمين. توفي أرثور شبنهاور بفرنكفورت (عام 1860م).
ومن اطلع على طريقة هذا الفيلسوف الألماني تيقن أن معتقده، ويأسه من الحياة وتشاؤمه المستمر يطابق كثيرا مذهب المعري، خصوصا في فحصه عن أتعاب البشر وآلامهم وجسه أسقام الإنسان كالباحث الماهر، والطبيب العارف من غير حنان ولا شفقة على هذا النوع الإنساني، وبدون أن يبين وصف الأدوية التي ينبغي اتخاذها واستعمالها للاتقاء وتسلية تلك المواجع، وهناك علاقة وتشابه آخر بين أبي العلاء وشبنهاور، وهو كونهما لم يتزوجا، وعاشا في عزوبة مستمرة وعزلة وانقطاع، مما أثر في طبعيهما وجعلهما يتشاءمان وينتقدان الهيئة الاجتماعية، ويتناولان أهل الدين وأرباب الشعائر والنساء والاعتقاد، ويسيئان الظن بالدنيا وساكنيها.
والفرق بين العالمين هو كون شبنهاور استقل في علم الفلسفة ودراستها والتدوين فيها، بخلاف المعري الذي لم يشتغل بالفلسفة من حيث هي علم، وإنما كان يبحث عن أسباب الأشياء وتعليل وجودها، فتخطر له خطرات حكمية تستحوذ على مخيلته وذهنه الحاد، فتسكبها قريحته الشعرية في تلك القوالب العجيبة، التي تظهر من قصائده.
بقي علينا أن نتكلم على رسالة «ملقى السبيل»، التي نقدمها اليوم إلى محبي الآثار العربية والمولعين بنثر شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء ونظمه، فالظاهر من هيئة هاته الرسالة وإنشائها أن المعري ألفها في الدور الأخير من حياته، زمن عزلته وانقطاعه (حوالي سنة 334ه)، وقد زهد في الدنيا لكبره واقتراب أجله، فكأنه أراد الرجوع للمبادئ الدينية وسلك طريقة الوعظ والنسك وتمسك بالاعتقاد، وأين قوله زمن صغره لما كان في غزارة قواه وعنفوان شبابه:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
من اعترافه بالبعث والمعاد في هاته الرسالة كقوله: «وفي الآخرة يكون المجمع.» وقوله: «وعند الباري تكون الزلف.» وهلم جرا.
أما أسلوب هذه الرسالة - في مجمله - فهو يشابه كثيرا لهجة الخطب البليغة ذات الفصول القصار التي كان يلقيها خطباء العرب: كسحبان وائل الباهلي، وقس بن ساعدة، وعامر بن الطفيل، وأمثالهم بأسواق الجاهلية، وإليك نموذجا من كلام قس بن ساعدة خطيب بني إياد الذي قال فيه النبي
صلى الله عليه وسلم : «رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر يقول: أيها الناس، اجتمعوا فاسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، في هذه آيات محكمات: مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج، ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا فناموا؟! يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين المعروف الذي يشكر، والظلم الذي لم ينكر؟»
في الذاهبين الأولين
من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
تمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا
يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر
وسوف يرى القارئ ما بين الكلام المتقدم، وحل المعري وعقده في «ملقى السبيل» من مطابقة المعنى، ومشابهة اللهجة.
أما النسخة التي اعتمدنا عليها في النقل، فهي محفوظة بمكتبة الأسكوريال من بلاد الأندلس تحت نمرة (764)، وهي بخط الراوي لها، القاضي الإمام الشريف أبي محمد عبد الله بن القاضي أبي الفضل عبد الرحمن بن يحيى الديباجي العثماني رسمها بالإسكندرية أوائل القرن السادس، وقد اعتنى برسمها وضبط جملها بطريقة ثابتة مدققة، وهي فيما أعتقده أقدم نسخة لملقى السبيل، ولا يبعد أن تكون هي التي عول عليها أدباء الأندلس في معارضاتهم لها؛ فقد جاء في نفح الطيب أن الحافظ أبا الربيع الكلاعي الأندلسي المتوفى بالجهاد (سنة 634ه)، عارض هذه الرسالة بتأليف سماه: «مفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقى السبيل».
كما تحتوي مكتبة الأسكوريال نفسها على كتاب نمرة (519)، من وضع الكاتب الشهير أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال، وزير يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين عارض به «ملقى السبيل» أيضا، ومن جهة أخرى يوجد بمقدمة النسخة التي لدينا، وهي - كما قدمنا - صورة فوتوغرافية من الأصل الأندلسي كثير من الإجازات تنبئ بقراءة هذه الرسالة على أساتذة متضلعين تلتحق رواياتهم بالراسم الأول، نعني عبد الله الديباجي، وأقدم توقيع من هذا النمط مؤرخ (سنة 562ه)، وهو مما يستدل به أيضا على اهتمام الأندلسيين بتأليف المعري.
وعسى أن ننشر فيما بعد رسائل أخرى من وضع هذا الفيلسوف الشاعر - والله ولي التوفيق.
تونس، 10 ربيع الأول سنة 1329ه، ح. ح. عبد الوهاب
ملقى السبيل
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرني بملقى السبيل هذه الشيخ أبو المظفر سعد بن أحمد بن حماد المعري - رحمه الله - عن أبيه، عن أبي العلاء ناظمها، وكتب عبد الله بن عبد الرحمن العثماني.
قال الشيخ الإمام أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، رهين المحبسين:
الهمزة
كم يجني الرجل ويخطئ، ويعلم أن حتفه لا يبطئ!
نظمه «مخلع البسيط»
إن الأنام ليخطئون
ويغفر الله الخطيئه
كم يبطئون عن الجمي
ل وما مناياهم بطيئه
الألف
ابن آدم في سير وسرى، يهجر بحرصه الكرى، وطالما كذب وافترى، ليصل إلى خسيس القرى، وإنما يحصل على الثرى، كأنه لا يسمع ولا يرى.
نظمه «سريع»
أما يفيق المرء من سكره
مجتهدا في سيره والسرى
نمت عن الأخرى فلم تنتبه
وفي سوى الدين هجرت الكرى
كم قائل راح إلى معشر
أبطل فيما قاله وافترى
على القرا يحمل أثقاله
وإنما يأمل نزر القرى
يفتقر الحي ويثري وما
يصير إلا جثوة في الثرى
اسمع فهذا قائل صادق
أراك عقباك فهلا ترى
الباء
يفتقر إلى الله الأرباب، وبالكافر يحل التباب، وتنقطع بالموت الأسباب، وفي الخالق تحار الألباب.
نظمه «رجز»
دانت لرب الفلك الأرباب
وبالكفور يلحق التباب
كم قطعت لميتة أسباب
وافترقت برغمها الأحباب
التاء
النفس تصرفت وانصرفت، والأعضاء تألفت ثم تلفت، والأقضية بحق هتفت، ما أعفيت المحلة لكن عفت، كم شفيت المدنفة فما اشتفت.
نظمه «مجزوء الرجز»
نفس الفتى في دهره
تصرفت وانصرفت
تألفت أعضاؤه
وافترقت إذ تلفت
أقضية الله دعت
فأسمعت إذ هتفت
ما أعفيت ديارهم
من الرزايا بل عفت
كم شفيت مريضة
من مرض فما اشتفت
الثاء
من أعظم الحدث، سكنى الجدث.
نظمه «متقارب»
يدوم القديم إله السماء
ويفنى بأقداره ما حدث
وما أرغب المرء في عيشه!
ولكن قصاراه سكنى الجدث
الجيم
العجب بجاهل مداج، يأسف لبين الأحداج، ويعصي الملك والليل داج، وما هو من الحتف بناج.
نظمه «مخلع البسيط»
يا أيها العاقل المداجي
وليله بالسفاه داجي
كأنما عينه إذا ما
تحمل الحي في زجاج
كم أعمل الناجيات حرصا
وليس من حتفه بناج!
رجا أمورا فلم تقدر
وكل من في الحياة راجي
الحاء
إن ابن آدم لشحيح، سوف يمرض من القوم صحيح، تعصف بعقله ريح، فإذا هو لقي طريح، ثم يحفر له ضريح، إن ذلك لهو التبريح.
نظمه «مخلع البسيط»
يا أيها الممسك الشحيح
سيمرض السالم الصحيح
ما لك لم تنتفع بعقل
هل عصفت بالعقول ريح؟
إن شيد القصر في سرور
فبعده يحفر الضريح
يطرح الهم بالمنايا
من جسمه في الثرى طريح
الخاء
بكى على الميت مواخ ، كان أجله في تراخ، فلتنه الصارخة عن الصراخ.
نظمه «مخلع البسيط»
في الله آخى فتى لبيب
وأسلم الهالك المواخي
بكى عليه فهل تراه
في أجل دائم التراخي
اعتقد الحق واعتمده
لا تزرع الحب في السباخ
الدال
أما بصرك فحديد، وأما ثوبك فجديد، وظلك بقضاء الله مديد، وحولك العدد والعديد، ولكنك سواك السديد، طرقك وعد ووعيد، فهل تبدئ وهل تعيد، أم غريك، هو السعيد.
نظمه «وافر»
أرى ملكا تحف به موال
له نظر إلى الدنيا حديد
ضفا برد الشباب عليه حتى
مضت حقب وملبسه جديد
يزول القيظ في صيف ومشتى
ويستر شخصه ظل مديد
وفت عدد لديه فمن دروع
وأسياف ينوء بها عديد
وكان السعد صاحبه زمانا
ولكن طالما شقي السعيد
بدا شخص المنون لناظريه
وقيل له أتبدي أم تعيد
تصعد في المراتب غير وان
وأحرزه على الرغم الصعيد
تفرقت الجيود فما حمته
وأبطلت المواعد والوعيد
الذال
أما العيش الناعم فيلذ، ولكن سببه يجذ.
نظمه «متقارب»
يلذ الفتى غفلات الحياة
وليس بمتصل ما يلذ
يمد له الظن آماله
ولكنها عن قليل تجذ
العاجلة سبيل منفوذة، وهي عند أهل الرشد منبوذة، والأنفس بحق مأخوذة، لا الدرع تنفع ولا الخوذة.
نظمه «سريع»
انفذ من الدنيا ولا تلتفت
فإنها بالعنف منفوذه
حازتك فانبذها إلى أهلها
فهي لدى الأخيار منبوذه
ولا تمسك بحبل لها
تصبح من كفيك مجذوذه
مأخوذة مانعة في الورى
نفس بحكم الله مأخوذه
لا سقية أغنت ولا رقية
ولا تميمات ولا عوذه
الراء
لقد هجرت الخدور، وغدر بها الزمان الغدور، فإذا الخدر عوضه قبر، هل ينفعك جزع أو صبر، من بارئك يجري المقدور، وتفنى الشهب والبدور.
نظمه «مخلع البسيط»
تظهر أسرارها الخدور
بما قضى الواحد القدير
كم دار في خاطر ضمير
من فلك دائب يدور!
وضاق صدر بمشكلات
تضيق عن مثلها الصدور
يثبت فرد بلا قرين
وتهلك الشهب والبدور
الزاي
لا تبرزي يا غانية؛ فإنها الدنيا الفانية، سترك بكلة والداك ، فلتمسك بالنسك يداك، الورع ذهب إبريز، والجدث حرز حريز، قد تهلك فتاة رود، وتلبث مسنة ترود.
نظمه «مخلع البسيط»
يموت قوم وراء قوم
ويثبت الأول العزيز
كم هلكت غادة كعاب
وعمرت أمها العجوز
أحرزها الوالدان خوفا
والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا
والخلد في الدهر لا يجوز
السين
يا ابن آدم كم تحرس وتحترس، والموت أسد يفترس، إن كنت بجبل أو واد، فإن الأودية مثل الأطواد، يسمعها من الله داع، جل رب العظمة والابتداع.
نظمه «متقارب»
أيحترس المرء من حتفه
وما حاد عن يومه المحترس
هل الناس إلا نظير السوا
م وآجالهم أسد تفترس
يحل الربا ويحل الوهود
ولا بد للربع أن يندرس
الشين
لا تك ذا طيش، واعجب لما وهب من العيش، ما فعل آدم وبنوه، كم أدرك النمر مجتنوه، يبدي التوفر أخو المعيشة، والجبل مثل الريشة، المنزل لأمر معروش، وبالقدر تثل العروش.
نظمه «مخلع البسيط»
أين مضى آدم وشيث
وأين من بعده أنوش
مر أبي تابعا أباه
ومد وقت فكم أعيش
لا ملك إلا لرب عرش
تثل عن أمره العروش
خف من الخوف كل طود
حتى كأن الجبال ريش
تطيش نبل الرماة منا
وأسهم الحتف لا تطيش
ولم يزل للمنون جيش
تفل من ذكره الجيوش
يحث بالنعش حاملوه
وشد ما سارت النعوش
لا حبذا الأنس والخطايا
وحبذا النسك والوحوش
الصاد
المرء عما وجب ناكص، والشخص للحدث شاخص، إن ظل الفانية لقالص، فهل خلص إلى الله خالص؟ إن دينك لوديعة في المحار، إنما يدرك بغوص البحار، وعدم دين في الأنام. وكان كالحلم في المنام.
نظمه «سريع»
من ادعى النسك على غرة
فقل له ما صدق الخارص
والنسك مثل النجم في بعده
والخلق أن يبلغه ناكص
كالدرة العذراء ما نالها
إلا امرؤ في بحرها غائص
في لجة قامصة سفنها
ويصرع المستمسك القامص
تلعب بالألواح أمواجها
كأنما مركبها راقص
نحن كنبت عامه مجدب
وماؤه مستنكر ناقص
الضاد
دينك عناه المرض، ضاعت النافلة والمفترض، وخدعك هذا العرض، وجسمك ضعيف حرض ، لقد بعد منك الغرض، وسوف يطلب المقترض.
نظمه «منسرح»
دينك مضنى أصابه سقم
والخسر في أن يميته المرض
وهل ترجى لديك نافلة
من بعد ما ضاع منك مفترض
غرضت من هذه الحياة فهل
غرك فيما ترومه غرض؟
تميل من جوهر إلى عرض
والروح في جوهر عرض
حرضك الشيب أن تتوب فما
تبت فهلا تذكر الحرض
أقرضت عمرا فما صنعت به
سوف يرد الأنام ما اقترضوا
الطاء
فودك علاه الشمط، والمرء ينقص ويغمط، كالطفل كهلك فهلا يقمط، لقد عرف هذا النمط، والنفس تطعن ولا تضبط، وأجر من كفر يحبط، أين موفق لا يغلط، والموت في العالم مسلط، وعائد الملك لا يقنط.
نظمه «هزج»
إلام الحرص والرغب
ة في أشيب كالأشمط
وكالطفل غدا الكهل
فما للكهل لا يقمط
ولا يغضب أخو الريب
ة أن ينقص أو يغمط
فما الخاسر إلا كا
فر أعماله تحبط
بني آدم إن تعصوا
فما أخسر من يقنط
غبطتم صاحب الثرو
ة والزاهد لا يغبط
أما تغلط في الدهر
بأن توجد لا تغلط
الظاء
أما دينك فمتشظ، وأنت على الفانية متلظ، متقرب بالمين متحظ.
نظمه «مخلع البسيط»
أصبحت في غمرة ولهو
تجيء بالمين كي تحظى
احذر على الدين من تشظ
فالدر ملقى إذا تشظى
لو هاب حر اللظى مسيء
ما اهتاج حرصا ولا تلظى
فابد للسائلين لينا
ولا تكن في الجواب فظا
العين
المرء خدعه الطمع، مرأى في الزمن أو مسمع، يدأب الرجل ويجمع، خلب وميض يلمع، والعين للحذر تدمع، والسحب بالأقضية همع، وفي الآخرة يكون المجمع.
نظمه «سريع»
غرك ما يخدع من زخرف الدنيا
فزاد الحرص والطمع
علمت أن الدهر في صرفه
مفرق عنك الذي تجمع
سمعت بالخطب وعاينت
هل كفك ما تبصر أو تسمع؟
تدمع جفناك على زائل
والعين للرهبة لا تدمع
كم أومض البارق في عارض!
فألفى الكاذب إذ يلمع
سحب تجلى خاليا دجنها
عنكم وسحب بعدها همع
الغين
إنك إلى الدنيا مصغ، وحبها للبشر مطغ، لو أنك لشأنها ملغ، أبغاك ما تأمله مبغ.
نظمه «خفيف»
صاغك الله لجمال بقلب
معرض عن نصيحة ليس يصغي
تكثر اللغو في المقال ولو
وفقت ما كنت للديانة ملغي
لم تزل تزجر الطغاة فلا تطغ
فحب الدنيا لمثلك مطغي
لو بغيت الذي أراد بك الله
لأعطاك فوق ما أنت تبغي
الفاء
طال الكلف والكلف فأين الخلف والسلف؟! إن العافية هي التلف، وعند البارئ تكون الزلف، إلام تكذب وتحلف، وللإثم لو ظهر أكلف.
نظمه «متقارب»
كلفت بدنياك شر الكلف
فجاءتك مما صنعت الكلف
تبعت الغواة وما أسلفوا
فهلا أخذت بقول السلف
وصدقت نفسك في ظنها
وكم قائل مان لما حلف
تخلف مالك للوارثين
وكانوا بعلمك بئس الخلف
ترجي الحياة وأسبابها
وتطلب عند المليك الزلف
ولو ظهر الإثم للناظرين
لراعك في الوجه منه كلف
نصحتك فأذن إلى من يقول
تلاف أمورك قبل التلف
القاف
قلبك معنى يخفق، يخاف من عاجلتك ويشفق، وبارئك هو الموفق، أصبحت من عمرك تنفق، ترقع العذر وتلفق، وأنت في مطلبك مخفق، يطول تعبك فهلا ترفق.
نظمه «سريع»
إن خفق البارق في عارض
فالقلب من روعه يخفق
تأسف إن أنفقت مالا ولا
تأسف من عمرك إذ تنفق
تظل من فقد الغنا مشفقا
ومن قبيح الإثم لا تشفق
مرتفقا في وطن حافظا
تسأل ما هان فلا ترفق
يعود عن غيمك من شامه
وهو شديد ظمؤه مخفق
الكاف
سبح إلهنا الفلك، وقدس البشر والملك، والجسم في العفر يستهلك، والمرء بالعارفة يملك، والنهج للآخرة يسلك.
نظمه «مجزوء الرجز»
سبح مع الشهب كما
سبح من قبلك الفلك
قدس إنسان على
الأرض وفي الجو ملك
لا تبك للميت فكم
مات كريم وهلك
ما خبر الغابر عن
دفينه أين سلك
ما لك شيء وإذا
أطعت فالرحمة لك
اللام
غرك تفصيل وجمل، والحي خدعه الأمل، سعيك فسد والعمل، ما نفعك حج ولا رمل، كأنك بين الجهل همل.
نظمه «سريع»
ما زلت مشغولا بلا خشية
يغرك التفصيل بعد الجمل
تحملك الأرض على ظهرها
وأنت سار فوق ظهر الأمل
ما لي أرى عينيك لم تهملا
كأنما أنت مخلى همل؟!
ما يشفع الحسن لأصحابه
إن حسن الوجه وساء العمل
رملت في مكة تبغي الهدى
فهل نهاك السعي بعد الرمل؟!
الميم
أفي مسمعك حل الصمم؟ أم لبك أصاب اللمم؟ وتحسن للأنيس الهمم، وفي التراب تطوى الرمم، وفي الباطن تخان الذمم، على ذلك تمر الأمم.
نظمه «سريع»
ما لك لم تصغ إلى عاذل
أحل في المسمع منك الصمم؟!
أجاهل أنت فتلحى على ال
عصيان أم مس حجاك اللمم؟!
همتك العليا هوت في الثرى
وشيمة الزاكي علو الهمم
لم تف بالذمة للحر وال
حر مراع وافيات الذمم
والذكر يبقى للفتى برهة
وإن توارت في التراب الرمم
تيمم الخير ولا ترهب ال
موت فللموت تصير الأمم
النون
لله الكرم والمنن، وعن بارئك تزول الظنن، لا يسترك من الموت الجنن، وبالعاصف يراع الفنن، لا تعصمك تلك القنن.
نظمه «سريع»
ويحك لا تمنن على منعم
عليه فالخالق رب المنن
فظن خيرا بالأخلاء وإلا
فالخير يخفو الظنن
يجنك القبر فلا تلف كال
مجنون يبغي واقيات الجنن
وافتن في خوفك رب العلا
وأنت في سرحك مثل الفنن
إنك قن لمليك حوى ال
ملك فلا تعصم منه القنن
لتقرع السن غدا نادما
إن كنت ضيعت جميل السنن
الهاء
المرء نهي فما انتهى، ما زال في العاجلة يزدهي، إن قيل ما أحسن وما أبهى، فأين صاحبك لما وهى، وطال ما نعم ولها، ونال في العمر ما اشتهى، ما بين غزلان ومهى، دهاه الزمن فيمن دها، وألهى عمرا باللهى، مصور القمر والسها.
نظمه «سريع»
المرء معتوب على فعله
كم سمع النهي فألا انتهى؟!
زايله اللهو وزار البلا
وطالما عاينته مزدهى
باهى زمانا بالذي ناله
ثم أتى الموت فأين البهى
وهت عقود كان في عصره
أحكمها لا عاقد ما وهى
ما شهوات الحي إلا أذى
إن نال من مدته ما اشتهى
كان يرى في غزل دائما
ما بين غزلان له أو مهى
دهاه بالمقدور لم يدفع ال
خطب عن مهجته إذ دهى
سها عن الواجب فاغتاله
مصور البدر ورب السها
الواو
أما صحبك فقد غووا، عبوا في المورد فما ارتووا، أبادتهم الأقضية حتى تووا، خلوا للوارث ما احتووا، طواهم القدر فانطووا، ولاقتهم الآخرة بما نووا.
نظمه «سريع»
لا تغو في دنياك مستهترا
فإن أصحابك فيها غووا
عزلهم في سربهم مورد
لو كان يروي مثله لارتووا
نادتهم الأقدار يا ساكني ال
أرض ألا تنوون حتى تووا
خلوا أحاديثهم واحتوى
آخذ ميراث على ما حووا
انتشروا في عيشهم أعصرا
ثم طواهم قدر فانطووا
فلتحسن النية من بعدهم
فالناس يجزون على ما نووا
اللام والألف
كل غد يخدم أملا، يسيء في ما بطن عملا، يصبح بسيفه مشتملا، لا يطلب رزقه محتفلا، والرزق لا يترك متوكلا، لم يرد في العالم حيلا.
نظمه «بسيط»
ما في البسيطة من عبد ولا ملك
إلا حليف عناء يخدم الأملا
يحث نفسا عن الإحسان عاجزة
وقد أساء بعلم الواحد العملا
فهل ترى الدهر أنثى أو ترى ذكرا
يشابه امرأة في الخلق أو رجلا
يروم بالسيف رزقا جاء في عنف
ما كان يخطوه في خفض لو اتكلا
يبغي المعالي في أوفى مجاهدة
فإن تخلف عنها لطف الحيلا
يا ساكني الترب ما عندي لكم خبر
فليت شعري عن المقبور ما فعلا
لم تأتنا منكم رسل مخبرة
ولا كتاب إلينا منكم وصلا
الياء
الحي بعد العيشة ردي، وجاءه القدر فما فدي، وشخصه بالقاضية ردي، لم يرزق النهل إن صدي، لكنه عن ذلك عدي، أظلته العاجلة فما هدي، وجادته الاسمية فما ندي، وقتلته الحادثات فما ودي.
نظمه «سريع»
المرء في أردية لونت
ماش ولكن بعد هذا ردي
فدى الأسارى زمنا ذاهبا
وجاءه الموت فلا فدي
فيا ردي العقل إن الفتى
لم يدفع المقدور حتى ردي
ظل صداه في الثرى ساكنا
ولم يصادف منهلا إذ صدي
رنت له الأعداء أن عاينت
صاحبها عن كل خير عدي
كان الهدى يهدي إلى قلبه
من سمعه لو انه يهتدي
جادت له أسمية برهة
وعاد يبسا غصنه ما ندي
لا يطلب الثار لميت ولا
يودى لعمر الله فيمن ودي
نجزت، والحمد لله.
القسم السادس
رسائل الانتقاد
كلمة للناشر
بينا كنت في خلال العام الفارط، أرسل رائد الطرف في بعض المخطوطات العربية القديمة عثرت على كتاب صغير الحجم جميل الخط عتيقه، فتأملته فوجدته لمؤلف تونسي معدود من البلغاء، وإذ كان لي ولوع شديد بالاطلاع على مآثر الأدباء من بني وطني تعلقت رغبتي بتعريف هذا التصنيف، بيد أني لما أخذت أتلو رشيق معانيه، وأحلل دقائق مبانيه، وجدت نقصا فادحا بين أوراقه أفسد عقد جمله، فحل بي من ذلك قلق عظيم، ثم بعد مدة وقعت في فهرست القسم العربي من مكتبة الأسكوريال بجزيرة الأندلس على اسم مقامة تحت عدد (536)، منسوبة إلى أبي عبد الله محمد بن شرف القيرواني، فانجلى خاطري، وبادرت في الحال لطلب نسخة منها من بعض زملائي المستشرقين، فلما وافتني صورتها وطابقتها، بما لدي عاودني سروري الأول وقوي عزمي؛ إذ كانت القطعة الأندلسية مطابقة للقسم الأول من النسخة التونسية بزيادة ما نقص، فأسرعت حينئذ إلى النسخ، وأتممت هاته بتلك حتى كمل، والحمد لله ما كنا نرغبه، وهو ما نقدمه اليوم لطلاب الآداب العربية.
ومن المناسب أن نذكر شيئا عن الأصلين اللذين أخذنا عنهما، فالأول وهي النسخة التونسية تشتمل على ستين صفحة شرقية، يلوح من شكل خطها أنها من القرن السابع، لكنها صعبة القراءة؛ لانطماس الأحرف، ودثور كتابتها دع ما لحق الورق من العث الذي أهلك جانبا وافرا منها.
أما القطعة الأندلسية التي أكملنا بها ما ضاع من التأليف، فهي تحتوي على ثماني عشرة صفحة صغيرة الحجم أندلسية الخط قديمة النسخ، كما يتبين ذلك من التاريخ الذي وضعه بعض المطالعين في الصفحة الآخرة، حيث قال: «طالعته في موفى سنة خمس وخمسمائة.» وبهذا يستدل على أن هاته القطعة كتبت زمن المؤلف مدة إقامته بالأندلس حوالي (سنة 455) أو قريبا من عهده، ومهما كان الحال فهي أقدم من أختها التونسية، إلا أنها أخصر ولا تشتمل إلا على المقامة الأولى.
ويلوح لي أن مؤلفنا قصد بتدوين هذه الرسائل معارضة «كتاب العمدة»، الذي وضعه زميله ومعاصره الحسن بن رشيق القيرواني، كما سنبينه في ترجمته، إلا أن الرسائل المعارض بها كانت أطول وأكثر مما وجدناه وأردناه هنا، يؤيد ذلك ما جاء في سياق كلام ابن شرف في مقدمته للمجلس الأول، حيث قال: «فأقمت من هذا النحو عشرين حديثا.» فالمظنون أنه يقصد بالحديث مجالسه مع الأستاذ الموهوم، الذي سماه «أبا الريان» كما اختلق الحريري في مقاماته شخص الحارث بن همام، واخترع الهمذاني عيسى بن هشام، فعسى أن يساعدني الحظ بالعثور على بقية هذا التأليف النفيس، إن كان في عالم الموجودات.
وقد احترمت في الاستنساخ الطريقة التي أتى عليها الأصل في الرسم وضبطه، إلا ما نبهت عليه أسفل المتن مع التعاليق، ولما كان الاعتراف بالمعروف فريضة، وجب علي أن أرفع شكري الخالص للكاتب البليغ، والباحث المدقق محمد بدر الدين أفندي النعساني الذي أعانني بعلومه النيرة، لإزالة بعض مشكلات النسخة التونسية، كما أقدم عبارات ودادي إلى العالم المستعرب المتمكن، صديقي الأستاذ كارلو نالينو الذي أسعفني بالحصول على صور القطعة الأندلسية، وهو لا يزال يفيدني بإشاراته العلمية وفكره الصائب فجزيا عني خير جزاء - والله ولي توفيقي به أهتدي وإليه أنيب.
تونس، حسن حسني عبد الوهاب.
ترجمة المؤلف ابن شرف القيرواني
نبغ أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني نحو (سنة 390ه)، من إحدى البيوتات الشريفة القادمة مع الجيش العربي الفاتح، والقيروان إذ ذاك زاهية زاهرة بالعلوم رافلة بالمعارف والفنون، فروى المعقول والمنقول عن أفاضل ذلك العصر كأبي الحسن القابسي، وأخذ الفنون الأدبية من أساتذتها: كأبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني، ومحمد بن جعفر القزاز، وغيرهما، حتى برع فيها وأجاد؛ فألحقه حينئذ المعز بن باديس الصنهاجي أمير إفريقية بديوان حاشيته؛ لما رأى فيه من الذكاء والنجابة، وهناك التقى ابن شرف بجماعة من الكتاب البلغاء، والشعراء الظرفاء الذين كان يجمعهم ديوان الملك، مثل علي بن أبي الرجال الكاتب، رئيس قلم الإنشاء، وأبي علي الحسن بن رشيق صاحب العمدة، ومحمد بن حبيب القلانسي، وغيرهم.
وطبيعي أن وجود ابن شرف في مثل هذا الوسط، دعاه إلى تتبع الوجهة التي شب عليها وقوي نشاطه؛ إذ كان أولئك الأدباء الأجلاء يتسابقون في التقرب بنظمهم ونثرهم إلى الأمير؛ رغبة في العطايا الهائلة والهبات الطائلة، وحصل عن هذا التنافس والتزاحم حركة فكرية أدبية لم تر إفريقية مثلها في عصر من عصور السلطنة الإسلامية، وصارت القيروان كعبة العلم التي يحج إليها العلماء من جميع أصقاع المغرب حتى من الأندلس، وقد خصص المعز لصحبته من بين هؤلاء الزعماء المتقدمين ابن شرف هذا، وابن رشيق، فكان يلتفت تارة إلى الأول وأخرى إلى الثاني، وجرى بسبب ذلك بين هذين الأديبين مناقضات ومهاجاة رسمها كل منهما في رسائل مستقلة، ومقامات متنوعة لم يصل إلينا منها شيء - فيما نعلم.
حكى ابن شرف المترجم له في كتابه «أبكار الأفكار»، قال: استدعاني المعز بن باديس يوما، واستدعى أبا علي الحسن بن رشيق الأزدي، وكنا شاعري حضرته وملازمي ديوانه. فقال: أحب أن تصنعا بين يدي قطعتين في صفة الموز على قافية الغين، فصنعنا حالا من غير أن يقف أحدنا على ما صنعه الآخر، فكان الذي صنعته:
يا حبذا الموز وإسعاده
من قبل أن يمضغ الماضغ
قد لان حتى لا مجلس له
فالفم ملآن به فارغ
سيان قلنا مأكل طيب
فيه وإلا مشرب سائغ
والذي صنعه ابن رشيق:
موز سريع أكله
من قبل مضغ الماضغ
فمأكل لآكل
ومشرب لسائغ
فالفم من لين به
ملآن مثل فارغ
يخال وهو بالع
للحلق غير بالغ
فأمرنا للوقت أن نصنع فيه على حرف الذال، فعملنا ولم ير أحدنا صاحبه ما عمل، فكان ما عملته:
هل لك في موز إذا
ذقناه قلنا حبذا
فيه شراب وغذا
يريك كالماء القذى
لو مات من تلذذ
به لقيل ذا بذا
وما عمله ابن رشيق:
لله موز لذيذ
يعيذه المستعيذ
فواكه وشراب
به يداوى الوقيذ
ترى القذى العين فيه
كما يريها النبيذ
قال ابن شرف: فأنت ترى هذا الاتفاق، لما كانت القافية واحدة والقصد واحدا، ولقد قال من حضر ذلك اليوم: ما ندري مم نعجب أمن سرعة البديهة، أم من غرابة القافية، أم من حسن الاتفاق.
وحكى المؤلف المترجم له أيضا في كتابه المذكور قال: «استخلانا المعز يوما. وقال: أريد أن تصنعا شعرا؛ تمدحان به الشعر الرقيق الخفيف، الذي يكون على سوق بعض النساء فإني أستحسنه، وقد عاب بعض الضرائر بعضا به، وكلهن قارئات كاتبات فأحب أن أريهن هذا، وأدعى أنه قديم لأحتج به على من عابه، وآسى به من عيب عليه، فانفرد كل منا وصنع في الوقت، فكان الذي قلت:
وبلقيسية زينت بشعر
يسير مثل ما يهب الشحيح
رقيق في خدلجة رداح
خفيف مثل جسم فيه روح
حكى زغب الخدود وكل خد
به زغب فمعشوق مليح
فإن يك صرح بلقيس زجاجا
فمن حدق العيون لها صروح
وكان الذي قال ابن رشيق:
يعيبون بلقيسية أن رأوا لها
كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا
وقد زادها الترغيب ملحا كمثل ما
يزيد خدود الغيد ترغيبها ملحا
فانتقد المعز على ابن رشيق قوله يعيبون. وقال: «أوجدت لخصمها حجة بأن بعض الناس عابه».» فانظر ما ألطف هذه المناضلات، وما أحلى هذه الحكايات. ولولا خوف الإطالة لزدنا من هذه طرفا تروق الخاطر.
واستمر ابن شرف على خدمة المعز إلى أن زحف عرب الصعيد من هلاليين ورياح وغيرهم، واستولوا على غالب القطر التونسي بعد ما خربوه ودمروه، واضطر الأمير المعز إلى ترك القيروان أمام تلك القبائل المتوحشة (سنة 449ه)، وفر إلى المهدية واتخذها دار ملكه، وقد تبعه إليها شعراؤه وحاشيته، وفي خلاء القيروان يقول ابن شرف من قصيدة رنانة:
بعد خطوب خطبت مهجتي
وكان وشك البين أمهارها
ذا كبد أفلاذها حولها
وقسمت الغربة أعشارها
أطفالها ما سمعت بالفلا
قط فعادت في الفلا دارها
ولا رأت أبصارها شاطئا
ثم جلت باللج أبصارها
وكانت الأستار آفاقها
فعادت الآفاق أستارها
ولم تكن تعلو سريرا علا
إلا إذا وافق مقدارها
ثم علت فوق عشور الخطا
ترمي به في الأرض أحجارها
ولم تكن تلحظها مقلة
لو كحلت بالشمس أشفارها
فأصبحت لا تتقي لحظة
إلا بأن تجمع أطمارها
وأقام ابن شرف مدة بالمهدية مع زمرة شعراء الملك يخدم الأمير المعز، وابنه تميما إلى أن رحل عنها قاصدا جزيرة صقلية، لما سمع عن كرم أميرها، وإليها لحقه رصيفه ابن رشيق، وقد قدمنا أنه كان وقع بينهما بالقيروان، ما وقع بين جرير والفرزدق، أو بين الخوارزمي وبديع الزمان، فلما اجتمعا بصقلية تسامحا، وأقاما بها زمنا ثم استنهض يوما ابن شرف رفيقه على جواز الأندلس، فأنشد حينئذ ابن رشيق البيتين المشهورين بين الخاص والعام:
مما يزهد في أرض أندلس
سماع مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب سلطنة من غير مملكة
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
فأجابه ابن شرف بديهة:
إن ترمك الغربة في معشر
قد جبل الطبع على بعضهم
فدارهم ما دمت في دارهم
وأرضهم ما دمت في أرضهم
واجتاز ابن شرف وحده الأندلس، وسكن ألمرية وغيرها، وتردد على ملوك طوائفها كآل عباد بإشبيلية وغيرهم، وبهذه المدينة الأخيرة كانت وفاته (سنة 460ه/1067م)، وخلف ابنا يدعى أبا الفضل جعفرا كان أديبا مجيدا أيضا، أورد له العماد في خريدته والفتح في قلائده قصائد وفصولا، تشهد له بطول الباع.
أما تآليف محمد بن شرف فكثيرة، على ما نقله إلينا المؤرخون، فمنها كتاب «أبكار الأفكار» جمع فيه ما اختاره من نظمه ونثره، وهو أنفس مصنفاته «مفقود وقد يوجد منه شيء في بعض كتب الأدب»، ومنها كتاب «أعلام الكلام» به نخب وملح «مفقود أيضا»، ثم «رسائل الانتقاد»، والمظنون أنه ألفها بعد هجرته القطر التونسي، كما يستفاد من سياق كلامه في مقدمتها، وغيرها من هذه المصنفات الأدبية النفيسة.
وها نحن نأتي هنا على منتخبات نثر وشعر من كلام محمد بن شرف؛ ليرى القارئ براعة هذا المؤلف الجليل، ومكانته من الأدب.
فمن نظمه في الشوق إلى بلاده القيروان مدة إقامته بالأندلس:
يا قيروان وددت أني طائر
فأراك رؤية باحث متأمل
يا لو شهدتك إذ رأيتك في الكرى
كيف ارتجاع صباي بعد تكهل
وإذا تجدد لي أخ ومنادم
جددت ذكر أخ خليل أول
لا كثرة الإحسان تنسي حرستي
هيهات تذهب علتي بتعلل
لو كنت أعلم أن آخر عهدهم
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
وله في شكوى الزمان:
إني وإن عزني نيل المنى لأرى
حرص الفتى خلة زيدت على العدم
تقلدتني الليالي وهي مدبرة
كأنني صارم في كف منهزم
وأنشد في المعنى:
عتابا عسى أن الزمان له عتبى
وشكوى فكم شكوى ألانت له القلبا
إذا لم يكن إلا إلى الدمع راحة
فلا زال دمع العين منهملا سكبا
وقال أيضا:
وما بلوغ الأماني في مواعدها
إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب
وقد تخالف مكتوب القضاء به
فكيف لي بقضاء غير مكتوب
ومن شعره في الحكم قوله:
احذر محاسن أوجه فقدت محا
سن أنفس ولو انها أقمار
سرج تلوح إذا نظرت فإنها
نور يضيء وإن مسست فنار
وقوله:
لا تسأل الناس والأيام عن خبر
هما يبثانك الأخبار تطفيلا
ولا تعاتب على نقص الطباع أخا
فإن بدر السما لم يعط تكميلا
لا يؤيسنك من أمر تصعبه
فالله قد يعقب التصعيب تسهيلا
بع من جفاك ولا تبخل بسلعته
واطلب به بدلا إن رام تبديلا
وصير الأرض دارا والورى رجلا
حتى ترى مقيلا في الناس مقبولا
وله:
إذا صحب الفتى سعد وجد
تحامته المكاره والخطوب
ووافاه الحبيب بغير وعد
طفيليا ونادله الرقيب
وله أيضا:
يا ثاويا في معشر
قد اصطلى بنارهم
إن تبك من شرارهم
على يدي شرارهم
أو ترم من أحجارهم
وأنت في أحجارهم
فما بقيت جارهم
ففي هواهم جارهم
وأرضهم في أرضهم
ودارهم في دارهم
ومن كلامه في التغزل، قوله في ليلة أنس:
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا
بالأرض فيها والسماء تذوب
جمع العشاءين المصلي وانزوى
فيها الرقيب كأنه مرقوب
والكأس كاسية القميص كأنها
لونا وقدرا معصم مخضوب
هي وردة في خده وبكأسها
تحت القناني عسجد مصبوب
مني إليه ومن يديه إلى يدي
فالشمس تطلع بيننا وتغيب
وقوله أيضا:
قامت تجر ذيول العصب والحبر
ضعيفة الخطو والميثاق والنظر
تخطو فتولي الحصا من حليها نبذا
وتخلط العنبر الوردي بالعفر
تلفتت عن طلا وسنان وابتسمت
عن واضح مثل نور الروضة العطر
ما لذ للعين نوم بعد ما ذكرت
ليلا سمرناه بين الطل والسمر
تساقط الطل من فوق النحور به
تساقط الدر في اللبات والثغر
وله من خمرية سمية:
خليل النفس لا تخلي الزجاجا
إذا بحر الدجى في الجو ماجا
وجاهر في المدامة من يرائي
فما فوق البسيطة من يداجى
أمط عنك الكرى والليل ساج
ودعنا نلبس الظلماء ساجا
وهات على اهتمام الروح راحا
فبعدهم النفوس لها افتراجا
إذا مريخها اتقدا احمرارا
صببنا المشتري فيها مزاجا
وله:
بكيت دما والقاصرات سوافر
فلاحت خدود كلهن مورد
وقد وقف الواشون في كل وجنة
على محضر فيه المدامع تشهد
وله:
يقول لي العاذل في لومه
وقوله زور وبهتان
ما وجه من أحببته قبلة
قلت ولا قولك قرآن
وقال:
قل للعذول لو اطلعت على الذي
عاينته أعناك ما يعنيني
أتصدني أم للغرام تردني
وتلومني في الحب أم تغريني
دعني فلست معاقبا بجنايتي
إذ ليس دينك لي ولا لك ديني
وقال فيمن اسمه عمر:
يا أعدل الناس أسماكم تجور على
فؤاد مضناك بالهجران والبين
أظنهم سرقوك القاف من قمر
فأبدلوها بعين خيفة العين
وله أيضا:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم
فكأنني سبابة المتندم
وقال يمدح أستاذه الكاتب أبا الحسن علي بن أبي الرجال:
جاور عليا ولا تحفل بحادثة
إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل
اسم حكاه المسمى في الفعال فقد
حاز العليين من قول ومن عمل
فالماجد السيد الحر الكريم له
كالنعت والعطف والتوكيد والبدل
زان العلا وسواه شانها وكذا
تميز الشمس في الميزان والحمل
وربما عابه ما يفخرون به
يشنا من الخصر ما يهوى من الكفل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد
ملء المسامع والأفواه والمقل
ومن نظمه في أنواع شتى: قال في العود:
سقى الله أرضا أنبتت عودك الذي
زكت منه أغصان وطابت مغارس
تغنى عليها الطير والعود أخضر
وغنت عليه الغيد والعود يابس
وقال في الدرهم والدينار:
ألا رب شيء فيه من أحرف اسمه
نواه لنا عنه وزجر وإنذار
فتنا بدينار وهمنا بدرهم
وآخر ذا هم وآخر ذا نار
وقال من قصيدة في وصف سيف:
إن قلت نارا أتندي النار ملهبة
أو قلت ماء أيرمى الماء بالشرر
وله من أخرى:
وقد وخطت أرماحهم مفرق الدجى
فبان بأطراف الأسنة شائبا
ومن نثره ما كتبه مستعطفا على محبوس في دين:
قد حكمت بسجن الأشباح، وهي سجون الأرواح، فامنن على ما شئت منهما بالسراح، فالحبس نزاع الأرواح، والعقلة أخت القتلة، وكلاهما فقد، ومهر للخطوب ونقد، وإنما بينهما نفس متصاعد، وأجل متباعد، فألحق منهما ما أجلت بما عجلت، وقد أخرنا الدين، إلى يوم الدين.
ومن منثور كلامه في «أبكار الأفكار»:
لما فني عمر الأمس، وطفئ سراج الشمس، لاحت بروق الثغور اللوامع، وجلجلت رعود الأوتار في المسامع، وبعث مخارق وابن جامع، فلم يزل ذلك دأبنا، ما أقلع سحابنا، حتى مسأنا هجعة، وكلنا نقول بالرجعة.
وله في القرابة: الوجيه بين أقاربه، كالوادي بين مذانبه، تجذبن ماءه وتطلبن ظماءه.
وفي العداوة: كم قاطعك من راضعك، وقابحك من مالحك، ونافقك من وافقك، وناصبك من صاحبك، وحادك من وادك.
في أنواع شتى: الجود أنصر من الجنود، من بخل بماله، سمح بعرض آله، الباذل كثير العاذل، الكريم كثير الغريم، احذر الكريم إذا افتقر، واللئيم إذا اقتدر، احذر التقي إذا أنكر، والذكي إذا فكر، المطل أحد المنعين واليأس أحد الصنعين، العشق أحد الرقين، والسلو أحد العتقين، رفث الكلام أحد السفاحين، وموالاة القبل أحد النكاحين، جميل الرد أحد الجودين، وبقاء الذكر أحد الخلودين، طول الجمود أحد القبرين، وبقاء الثناء أحد العمرين، بئس النصير التقصير، المتحاسر خاسر، من كثر فجره، وجب هجره، من كرمت خصاله، وجب وصاله، سحابة صيف، وزيارة ضيف، الوسيلة جناح النجاح، رب عين إذا رأت زنت، لا كرم بمن حرم، المستلم أحزم من المتسلم.
هذا ما قصدنا إيراده هنا على أن ما جمعناه من كلام هذا الأديب البارع، هو أطول من ذلك، وقد لاقينا صعوبات جمة في نظم ما تشتت؛ إذ لا يوجد تأليف يحوي تراجم فضلاء القطر التونسي - والله المسئول الإعانة (ح.ح.ع).
رب أعن برحمتك
قال أبو عبد الله محمد بن شرف القيرواني هذه أحاديث صنعتها مختلفة الأنواع، مؤتلفة في الأسماع، عربيات المواشم، غريبات التراجم، واختلقت فيها أخبارا فصيحات الكلام، بديعات النظام، لها مقاصد ظراف، وأسانيد طراف، يروق الصغير معناها، والكبير مغزاها، وعزوتها إلى أبي الريان الصلت بن السكن من سلامان. وكان شيخا هما في اللسان، وبدرا تما في البيان، قد بقي أحقابا، ولقي أعقابا، ثم ألقته إلينا من باديته الأزمات، وأوردته علينا العزمات، فامتحنا من علمه بحرا جاريا، وقدحنا من فهمه زندا واريا، وأدرنا من بره طرفا، واجتنينا من ثمره طرفا، ونحن إذ ذاك والشباب مقتبل، وغفلة الزمان تهتبل، واحتذيت فيما ذهبت إليه، ووقع تعريضي عليه من بث هذه الأحاديث، ما رأيت الأوائل قد وضعته في كتاب كليلة ودمنة، فأضافوا حكمه إلى الطير الحوائم، ونطقوا به على ألسنة الوحش والبهائم، لتتعلق به شهوات الأحداث، وتستعذب بسمره ألفاظ الحداث.
وقد تحابذ النحو سهل بن هارون الكاتب في تأليفه كتاب النمر والثعلب، وهو مشهور الحكايات، بديع المراسلات، مليح المكاتبات، وزور أيضا بديع الزمان الحافظ الهمذاني، وهو الأستاذ أبو الفضل أحمد بن الحسين؛ مقامات كان ينشئها بديها في أواخر مجالسه، وينسبها إلى راوية رواها له يسميه عيسى بن هشام، وزعم أنه حدثه بها عن بليغ يسميه أبا الفتح الإسكندري، وعددها - فيما يزعم رواتها - عشرون مقامة إلا أنها لم تصل هذه العدة إلينا، وهي متضمنة معاني مختلفة، ومبنية على معان شتى غير مؤتلفة، لينتفع بها من الكتاب والمحاضرين من صرفها من هزل إلى جد، ومن ند إلى ضد، فاقت من هذا النحو عشرين حديثا، أرجو أن يتبين فضلها، ولا تقصر عما قبلها.
ولعمري ما أشكر من نفسي، ولا أثني على شيء من حسي إلا ظفري بالأقل مما حاولته على ما أضرمته نيران الغربة من قلبي، وثلمته صعقات الفتنة من لبي؛ وقطعت أهوال البر والبحر من خواطري، وأضعفت الوحشة والوحدة من غرائزي وبصائري ، لكن نية القاصد وسعة المقصود أعانا ذا الود على إتحاف المودود.
والله أسأل توفيقا، ينهج لنا الرشد طريقا.
فمنها: قال محمد: وجاريت أبا الريان في الشعر والشعراء ومنازلهم في جاهليتهم وإسلامهم واستكشفته عن مذهبه فيهم، ومذاهب طبقته في قديمهم وحديثهم فقال: الشعراء أكثر من الإحصاء، وأشعارهم أبعد من شقة الاستقصاء.
فقلت: لا أعتبك بأكثر من المشهورين، ولا أذاكرك إلا في المذكورين مثل: الضليل والقتيل، ولبيد وعبيد، والنوابغ والعشوء والأسود بن يعفر، وصخر الغي وابن الصمة دريد، والراعي عبيد، وزيد الخيل، وعامر بن الطفيل، والفرزدق وجرير، وجميل بن معمر وكثير وابن جندل، وابن مقبل، وجرول، والأخطل، وحسان في هجائه ومدحه، وغيلان في ميته وصيدحه، والهذلي أبي ذؤيب، وسحيم ونصيب، وابن حلزة الوائلي، وابن الرقاع العاملي، وعنترة العبسي، وزهير المري، وشعراء فزارة، ومفلقي بني زرارة، وشعراء تغلب ويثرب.
وأمثال هذا النمط الأوسط: الرماح، والطرماح، والطثري والدميني، والكميت الأسدي، وحميد الهلالي، وبشار العقيلي، وابن أبي حفصة الأموي، ووالبة الأسدي، وابن جبلة الحلمي، وأبو نواس الحكمي، وصريع الأنصاري، ودعبل الخزاعي، وابن الجهم القرشي، وحبيب الطائي، والوليد البحتري، وابن المعتز العباسي، وعلي بن العباس الرومي، وابن رغبان الحمصي.
ومن الطبقة المتأخرة في الزمان المتقدمة في الإحسان: أبو فراس بن حمدان، والمتنبي بن عبدان، وابن جدار المصري، وابن الأحنف الحنفي، وكشاجم الفارسي، والصنوبري الحلي، ونصر الخبررزي وابن عبد ربه القرطبي، وابن هانئ الأندلسي، وعلي بن العباس الإيادي التونسي، والقسطلي، قال أبو الريان: لقد سميت مشاهير، وأبقيت الكثير، قلت: بلى ولكن ما عندك فيمن ذكرت؟ قال: أما الضليل مؤسس الأساس، وبنيانه عليه الناس، كانوا يقولون: أسيلة الخد حتى قال أسيلة مجرى الدمع. وكانوا يقولون: تامة القامة وطويلة القامة وجيداء وتامة العنق وأشباه هذا حتى قال: بعيدة مهوى القرط.
وكانوا يقولون: في الفرس السابق يلحق الغزال والظليم وشبهه حتى قال: قيد الأوابد ومثل هذا له كثير، ولم يكن قبله من فطن لهذه الإشارات والاستعارات غيره فامتثلوه بعده. وكانت الأشعار قبل سواذج، فبقيت هذه جددا وتلك نواهج، وكل شعر بعدما خلاها فغير رائق النسج، وإن كان النهج.
وأما طرفة:
فلو طال عمره، لطال شعره، وعلا ذكره، ولقد خص بأوفر نصيب من الشعر، على أيسر نصيب من العمر، فلقد جاء ذلك النصيب بصنوف من الحكمة، وأوصاف من علو الهمة، والطبع، معلم حاذق، وجواد سابق.
وأما الشيخ أبو عقيل:
فشعره ينطق بلسان الجزالة، عن جنان الأصالة، فلا تسمع له إلا كلاما فصيحا، ومعنى مبينا صريحا، وإن كان شيخ الوقار، والشرف والفخار لبادئات في شعره وهي دلائله، قبل أن يعلم قائله.
وأما العبسي:
فمجيد في أشعاره، ولا كمعلقته انفرد بها انفراد سهيل، وغبر في وجوه الخيل، وجمع فيها بين الحلاوة والجزالة، ورقة الغزل وغلظة البسالة، وأطال واستطال، وأمن السآمة والكلال.
وأما زهير:
فأي زهير! بين لهوات زهير حكم فارس، ومقامات الفوارس، ومواعظ الزهاد، ومعتبرات العباد، ومدح يكسب الفخار، ويبقى بقاء الأعصار، ومعاتبات مرة تحسن، ومرة تخشن، وتارة تكون هجوا، وطورا تكاد تعود شكرا.
وأما ابن حلزة:
فسهل الحزون، قام خطيبا بالموزون، والعادة يسهل شرح الشعر بالنثر، وهذا أسهل السهل بالوعر، وذلك مثل قوله:
أبرموا أمرهم عشاء فلما
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن تص
هال خيل خلال ذاك رغاء
فلو اجتمع كل خطيب ناثر من أول وآخر، يصفون سفرا نهضوا بالأسحار، وعسكرا تنادي بالنهوض إلى طلب الثأر، ما زادوا على هذا إن لم ينقصوا منه ولم يقصروا عنه، وسائر قصيدته في هذا السلك شكاية وطلاب نصفة، وعتاب في عزة وأنفة، وهو من شعراء وائل وأحد أسنة هاتيك القبائل.
وأما ابن كلثوم:
فصاحب واحدة بلا زيادة أنطقه بها عز الظفر، وهزه فيها جن الأشر فقعقعت رعوده في أرجائها، وجعجعت رحاه في أثنائها، وجعلتها تغلب قبلتها التي تصلي إليها، وملتها التي تعتمد عليها فلم يتركوا إعادتها، ولا خلعوا عبادتها إلا بعد قول القائل:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
على أنها من القصائد المحققات وإحدى المعلقات.
وأما النابغة زياد:
فأشعاره الجياد لم تخرج عن نار جوانحه حتى تناهى نضجها، ولا قطعت من منوال خواطره حتى تكاثف نسجها، لم تهلهلها ميعة الشباب، ولا وهاء الأسباب، ولا لوم الاكتساب؛ فشعره وسائط سلوك، وتيجان ملوك.
وأما النابغة الجعدي:
فنقي الكلام شاعر الجاهلية والإسلام، واستحسن شعره أفصح الناطقين ودعا له أصدق الصادقين. وكان شاعرا في الافتخار والثناء، قصير الباع لشرفه عن تناول الهجاء. وكان مغلوبا فيه في الجاهلية وطريد ليلى الأخيلية.
وأما العشي بأجمعهم:
فكلهم شاعر، ولا كميمون بن قيس شاعر المدح والهجاء واليأس والرجاء، والتصرف في الفنون، والسعي في السهول والحزون، نفق مدحه بنات المحلق. وكان في فقر ابن المذلق، وأبكى هجوه علقمة كما تبكي الأمة.
وأما الأسود بن يعفر:
فأشعر الناس، إذا ندب دولة زالت، أو بكى حالة حالت، أو وصف ربعا خلا بعد عمران، أو دارا درست بعد سكان، فإذا سلك هذا السبيل فهو من حشو هذا القبيل: كعمرو، وزيد، وسعد، وسعيد.
وأما حسان:
فقد اجتث بواكر غسان، ثم جاء الإسلام وانكشف الإظلام، فجاحش عن الدين، وناضل عن خاتم النبيين، فشعر وزاد وحسن وأجاد، إلا أن الفضل في ذلك لرب العالمين وتسديد الروح الأمين.
وأما دريد بن الصمة:
فصمة صمم وشاعر جشم وغزل هرم، وأول من تغزل في رثاء، وهزل في حزن وبكاء. فقال في معبد أخيه قصيدته المشهورة يرثيه:
أرث جديد الحبل من أم معبد
وهي من شاجيات النوائح وباقيات المدائح.
وأما الراعي عبيد:
فجبل على وصف الإبل، فصار بالراعي يعرف، ونسي ما له من الشرف.
وأما زيد الخيل:
فخطيب سجاعة وفارس شجاعة، مشغول بذلك عما سواه من المسالك.
وأما عامر بن الطفيل:
فشاعرهم في الفخار وفي حماية الجار، وأوصفهم لكريمة، وأبعثهم لحميد شيمة.
وأما ابن مقبل:
قديم شعره، وصليب نجره، ومغلي مدحه، ومعلي قدحه.
وأما جرول:
فخبيث هجاؤه، شريف ثناؤه، صحيح بناؤه، رفع شعره من الثرى، وحط من الثريا، وأعاد بلطافة فكره، ومتانة شعره، قبيح الألقاب فخرا يبقى على الأحقاب، ويتوارث في الأعقاب.
وأما أبو ذؤيب:
فشديد أمير الشعر حكيم، شغله فيه التجريب حديثه وقديمه ، وله المرثية النقية السبك، المتينة الحبك، بكى فيها بنيه السبعة، ووصف الحمار فطول، وهي التي أولها :
أمن المنون وريبه تتوجع
وأما الأخطل:
فسعد من سعود بني مروان، صفت لهم مرآة فكره، وظفروا بالبديع من شعره. وكان باقعة من حاجاه، وصاعقة من هجاه.
وأما الدارمي همام:
فجوهر كلامه، وأغراض سهامه، إذا افتخر بملك بني حنظلة، وبدارم في شرف المنزلة، وأطول ما يكون مدى إذا تطاول اختيار جرير عليه بقليله على كثيره، وبصغيره على كبيره؛ فإنه يصادمه حينئذ ببحر ماد، ويقاومه بسيف حاد.
وأما ابن الخطفي:
فزهد في غزل، وحجر في جدل، يسبح أولا في ماء عذب، ويطمح آخرا في صخر صلب، كلب منابحة، وكبش مناطحة، لا تفل غرب لسانه مطاولة الكفاح، ولا تدمي هامته مداومة النطاح، جارى السوابق بمطية، وفاخر غالب بعطية، وبلغته بلاغته إلى المساواة، وحملته جرأته على المجاراة، والناس فيهما فريقان، وبينهما عند قوم فرقان.
وأما القيسان وطبقتهما:
فطبقة عشقة، توقة، استحوذت الصبابة على أفكارهم، واستفرغت دواعي الحب معاني أشعارهم، فكلهم مشغول بهواه لا يتعداه إلى سواه.
وأما كثير:
فحسن النسيب فصيحه، لطيف العتاب مليحه، شجي الاغتراب قريحه، جامع إلى ذلك رقائق الظرفاء، وجزالة مدح الخلفاء.
وأما الكميت والرماح ونصيب والطرماح:
فشعراء معاصرة ومناقضات ومفاخرة، فنصيب أمدح القوم، والطرماح أهجاهم، والرماح أنسبهم نسيبا، والكميت أشبهم تشبيبا.
وأما بشار بن برد:
فأول المحدثين، وآخر المخضرمين، وممن لحق الدولتين، عاشق سمع وشاعر جمع، شعره ينفق عند ربات الحجال، وعند فحول الرجال، فهو يلين حتى يستعطف، ويقوى حتى يستنكف، وقد طال عمره، وكثر شعره، وطما بحره، ونقب في البلاد ذكره.
وأما ابن أبي حفصة:
فمن شعراء الدولتين، وممن حظي بالنعمتين، ووصل إلى الغنى بالصلتين، وكان درب المعول، ذرب المقول، والد شعراء، ومنجب فصحاء.
وأما أبو نواس:
فأول الناس في خرم القياس وذلك أنه ترك السيرة الأولى، ونكب عن الطريقة المثلى، وجعل الجد هزلا والصعب سهلا، فهلهل المسرد، وبلبل المنضد، وخلخل المنجد، وترك الدعائم، وبنى على الطامي والعائم، وصادف الأفهام قد نكلت، وأسباب العربية قد تخلخلت وانحلت، والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت، فمال الناس إلى ما عرفوه، وعلقت نفوسهم بما ألفوه، فتهادوا شعره، وأغلوا سعره، وشغفوا بأسخفه، وكلفوا بأضعفه، وكان ساعده أقوى وسراجه أضوأ، لكنه عرض الأنفق وأهدى الأوفق، وخالف فشهر، وعرف وأغرب، فذكر واستظرف، والعوام تختار هذه الأعلاق، وأسواقهم أوسع الأسواق، فشعر أبي نواس نافق عند هذه الأجناس، كاسد عند أنقد الناس، وقد فطن إلى استضعافه وخاف من استخفافه، فاستدرك بفصيح طرده طرفا حد اللسان وحدوده وهو محدود في كثرة التظاهر على من غض منه بالحق الظاهر، ليس إلا لخفة روح المجون، وسهولة الكلام الضعيف الملحون على جمهور العوام، لا على خواص الأنام.
وأما صريع:
فكلامه مرصع، ونظامه مصنع، وجملة شعره صحيحة الأصول، مصنعة الفصول، قليلة الفضول.
وأما العباس بن الأحنف:
فمعتزل بهواه وبمعزل عما سواه، دفع نفسه عن المدح والهجاء، ووضعها بين يدي هواه من النساء قد رقق الشغف كلامه، وثقفت قوة الطبع نظامه، فله رقة العشاق وجودة الحذاق.
وأما دعبل:
فمديد مقبل، اليوم مدح وغدا قدح، يجيد في الطريقتين ويسيء في الخليقتين، وله أشعار في العصبية. وكان شاعر علماء، وعالم شعراء.
وأما علي بن الجهم:
فرشيق الفهم، راشق السهم، استوصل شعره الشرفاء، ونادم الخلفاء، وله في الغزل «الرصافية» وفي العتاب «الدالية»، ولو لم يكن له سواهما لكان أشعر الناس بهما.
وأما الطائي حبيب:
فمتكلف إلا أنه يصيب، ومتعتب لكن له من الراحة نصيب، وشغله المطابقة والتجنيس، حبذا ذلك أو بيس جزل المعاني، مرصوص المغاني، ومدحه ورثاؤه، لا غزله وهجاؤه، طرفا نقيض، وخطب سماء وحضيض، وفي شعره علم جم من النسب، وجملة وافرة من أيام العرب، وطارت له أمثال وحفظت له أقوال، وديوانه مقرو وشعره متلو. قال ابن بسام: أما صفته هذه لأبي تمام فنصفة، لم يثن عطفها حمية، ولا تعلقت بذيلها عصبية، حتى لو سمعها حبيب لاتخذها قبلة واعتمدها ملة، فما لام من أدب وإن أوجع، ولا سب من صدق وإن أقذع.
وأما البحتري:
فلفظه ماء ثجاج ودر رحراج ومعناه سراج وهاج على أهدأ منهاج، يسبقه شعره إلى ما يجيش به صدره، يسر مراد، ولين قياد إن شربته أرواك، وإن قدحته أوراك، طبع لا تكلف يعييه، ولا العناد يثنيه، لا يمل كثيره، ولا يستكلف غزيره، لم يهف أيام الحلم، ولم يصف زمن الهرم.
وأما ابن المعتز:
فملك النظام كما هو ملك الأنام، له التشبيهات المثلية، والاستعارات الشكلية، والإشارات السحرية، والعبارات المجرية، والتصاريف الصنوفية، والطرائق الفنونية، والافتخارات الملوكية، والهمات العلوية، والغزل الرائق، والعتاب الشائق، ووصف الحسن الفائق:
وخير الشعر أكرمه رجالا
وشر الشعر ما قال العبيد
وأما ابن الرومي:
فشجرة الاختراع، وثمرة الابتداع، وله في الهجاء ما ليس له في الإطراء فتح فيه أبوابا، ووصل منه أسبابا، وخلع منه أثوابا، وطوق فيه رقابا يبقين أعمارا وأحقابا يطول عليها حسابه، ويمحق بها ثوابه، ولقد كان واسع العطن لطيف الفطن، إلا أن الغالب عليه ضعف المريرة وقوة المرة.
وأما كشاجم: فحكيم شاعر، وكاتب ماهر له في التشبيهات غرائب، وفي التأليفات عجائب، يجيد الوصف ويحققه، ويسبك المعنى فيرققه ويروقه.
وأما الصنوبري:
ففصيح الكلام غريبه، مليح التشبيه عجيبه، مستعمل لشواذ القوافي يغسل كدرتها بمياه فهمه الصوافي، فتجلو وتدق وتعذب وترق، وهو وحيد جنسه في صفة الأزهار وأنواع الأنوار. وكان في بعض أشعاره يتخالع وفي بعضها يتشاجع، وقد مدح وهجا ونثر وشجا، وأعجب شعره وأطرب، وشرق وغرب، ومدح من أهل إفريقية أمير الزاب جعفر بن علي، منفق سوق الآداب، فوصله بألف دينار بعثها إليه مع ثقات التجار.
وأما الخبزرزي:
فخليع الشعر ماجنه، رائق اللفظ بائنه، كثيرة محاسنه، صحيحة أصوله ومعادنه، رائقة البزة مائلة إلى العزة، تسليه عن الحب الخيانة، ويروقه الوفاء والصيانة، وله على خشونة خلقه وصعوبة خلقه، اختراعات لطيفة، وابتداعات ظريفة في ألفاظ كثيفة، وفصول قليلة الفضول نظيفة، حتى إن بعض كبراء الشعراء اهتدم أشياء من مبانيه واهتضم طرفا من معانيه، وهو من معاصريه فقل من فطن لمراميه.
وأما أبو فراس بن حمدان:
ففارس هذا الميدان إن شئت ضربا وطعنا أو لفظا ومعنى ملك زمانا وملك أوانا، وكان أشعر الناس في المملكة وأشعرهم في ذل الملكة، وله الفخريات التي لا تعارض والإسريات التي لا تناقض.
وأما المتنبي:
فقد شغلت به الألسن، وسهرت في أشعاره العيون الأعين، وكثر الناسخ لشعره، والآخذ لذكره، والغائص في بحره، والمفتش في قعره عن جمانه ودره، وقد طال فيه الخلف، وكثر عنه الكشف وله شيعة تغلو في مدحه، وعليه خوارج تتعايا في جرحه، والذي أقول: إن له حسنات وسيئات، وحسناته أكثر عددا وأقوى مددا، وغرائبه طائرة، وأمثاله ثائرة، وعلمه فسيح، وميزه صحيح يروم فيقدر، ويدري ما يورد ويصدر.
قال أبو الريان: هذا ما عندي في شعراء المشرق، وقد سميت لي من متأخري شعراء المغرب من لعمري لا يبعد عن معاصرهم، ولا يقصر عن سابقهم.
فأما ابن عبد ربه القرطبي:
وإن بعدت عنك دياره، فقد صاقبتنا أشعاره، ووقفنا على أشعار صبوته الأنيقة، وتكفيرات توبته الصدوقة، ومدائحه المروانية، ومطاعنه في العباسية، وهو في كل ذلك فارس ممارس، وطاعن مداعس، واطلعنا في شعره على علم واسع، ومادة فهم مضيء ناصع، ومن تلك الجواهر نظم عقده، وتركه لم يتجمل به بعده.
وأما ابن هانئ محمد الأندلسي ولادة القيرواني وفادة وإفادة:
فرعدي الكلام سردي النظام متين المباني، غير مكين المعاني، يجفو بعطنها عن الأوهام؛ حتى تكون كنقطة النظام إلا أنه إذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه، رمى عن منجنيق يؤثر في النيق، وله غزل قفري لا عذري، لا يقنع فيه بالطيف ولا يشفع فيه بغير السيف، وقد نوه به ملك الزاب وعظم شأنه بأجزل الثواب. وكان سيف دولته في إعلاء منزلته من رجل يستعين على صلاح دنياه بفساد أخراه، لرداءة عقله ورقة دينه، وضعف يقينه. ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر حتى يستعين عليها بالكفر.
وأما القسطلي:
فشاعر ماهر عالم بما يقول، تشهد له العقول بأنه المؤخر بالعصر المقدم في الشعر، حاذق بوضع الكلام في مواضعه، لا سيما إذا ذكر ما أصابه في الفتنة، وشكا ما دهاه في أيام المحنة، وبالجملة فهو أشعر أهل مغربه في أبعد الزمان وأقربه.
وأما علي التونسي:
فشعره المورد العذب ولفظه اللؤلؤ الرطب، وهو بحتري الغرب يصف الحمام فيروق الأنام، ويشبب فيعشق ويحبب، ويمدح فيمنح أكثر ما يمنح.
هذا ما عندي في المتقدمين والمتأخرين، على احتقار المعاصر واستصغار المجاور؛ فحاش لله من الأوصاف بقلة الإنصاف للبعيد والقريب، والعدو والحبيب، قلت: يا أبا الريان: أكثر الله مثلك في الإخوان، ووقاك محذور الزمان ومرور الحدثان، فلقد سبكت فهما وحشيت علما.
قال محمد: قلت لأبي الريان في مجلس عقيب هذا المجلس: يا أبا الريان، لقد رأيت لك نقدا مصيبا ومرمى عجيبا، ولقد أرغب في أن أنال منه نصيبا قال: النقد هبة الموالد، وفيه زيادة طارف إلى تالد، ولقد رأيت علماء بالشعر ورواة له ليس لهم نفاذ في نقده، ولا جودة فهم في رديه وجيده، وكثير ممن لا علم له يفطن إلى غوامضه وإلى مستقيمه ومتناقضه، قلت: أنا شديد الرغبة إلى فضلك في أن تسهمني من ميزك وعقلك ما أستهدي بسراجه على مستقيم منهاجه، فأقف من سرائره على بعض ما وقفت، وأعرف من مفاخره ومعانيه جزءا مما عرفت، قال: نعم، أول ما عليه تعتمد، وإياه تعتقد، ألا تستعجل باستحسان، ولا باستقباح ولا باستبراد ولا باستملاح حتى تنعم النظر وتستخدم الفكر، واعلم أن العجلة في كل شيء موطئ زلوق، ومركب زهوق؛ فإن من الشعر ما يملأ لفظه المسامع، ويرد على السامع منه قعاقع فلا يرعك شماخة مبناه، وانظر إلى ما في سكناه من معناه فإن كان في البيت ساكن فتلك المحاسن، وإن كان خاليا فاعدده جسما باليا، وكذلك إذا سمعت ألفاظا مستعملة وكلمات مبتذلة فلا تعجل باستضعافها حتى ترى ما في أضعافها، فكم من معنى عجيب في لفظ غير غريب! والمعاني هي الأرواح والألفاظ هي الأشباح؛ فإن حسنا فذلك الحظ الممدوح، وإن قبح أحدهما فلا يكن الروح.
قال: وتحفظ عن شيئين أحدهما: أن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان ما تستمع له، والثاني: أن يحملك إصغار المعاصر المشهود على التهاون بما أنشدت له؛ فإن ذلك جور في الأحكام وظلم من الحكام، حتى تمحص قولهما؛ فحينئذ تحكم لهما أو عليهما، وهذا باب في اغتلاقه استصعاب، وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه إتعاب، وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تشبث القلوب بسيرة القديم ونفارها من المحدث الجديد. فقال حاكيا لقولهم:
قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة (الزخرف: 22). وقال:
قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا (المائدة: 104)، وقد قلت أنت:
أغري الناس بامتداح القديم
وبذم الجديد غير ذميم
ليس إلا لأنهم حسدوا الح
ي ورقوا على العظام الرميم
وقلت في هذا المعنى:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا
ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان جديدا
وسيغدو هذا الجديد قديما
فلا يرعك أن تجري على منهاج الحق في جميع الخلق؛ فبه قامت السماوات والأرض، وبه أحكم الإبرام والنقض، وسأمثل لك في ذلك مثالا، وأملأ أسماعك مقالا، وفهمك عدلا واعتدالا.
هذا امرؤ القيس أقدم الشعراء عصرا، ومقدمهم شعرا وذكرا، وقد اتسعت الأقوال في فضله اتساعا لم يفز غيره بمثله، حتى إن العامة تظن - بل توقن - أن جواد شعره لا يكبو، وحسام نظمه لا ينبو، وهيهات من البشر الكمال، ومن الآدميين الاستواء والاستدلال، يقول في قصيدته المقدمة، ومعلقته المفخمة.
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
فما كان أغناه عن الإقرار بهذا! وما أشك غفلته عما أدركه من الوصمة به؛ وذلك أن فيه أعدادا كثيرة النقض والبخس منها: دخوله متطفلا على من كره دخوله عليه، ومنها: قول عنيزة له: لك الويلات! وهي قولة لا تقال إلا لخسيس، ولا يقابل بها رئيس؛ فإن احتج محتج بأنها كانت أرأس منه، قيل له: لم يكن ذلك لأن الرئيسة لا تركب بعيرا يدرج أو يموت إذا ازداد عليه ركوب راكب بل هو بعير فقير حقير؛ فإن احتج له بأنه صبر على القول من أجل أنها معشوقة، قيل له: وكيف يكون عاشقا لها من يقول لها:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا
فألهيتها عن ذي تمائم محول
وإنما المعروف للعاشق الانفراد بمعشوقته وإطراح سواها، كالقيسين في ليلى ولبنى، وغيلان بمية، وجميل ببثينة، وسواهم كثير، فلم يكن لها عاشقا بل كان فاسقا، ثم أهجن هجنة عليه، وأسخن سخنة لعينيه، إقراره بإتيان الحبلى والمرضع! فأما الحبلى فقد جبل الله النفوس على الزهد في إتيانها، والإعراض عن شأنها، منها أن الحبل علة وأشبه العلل بالاستسقاء، ومع الحبل كمود اللون، وسوء الغذا، وفساد النكهة، وسوء الخلق وغير ذلك، ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقي، دع نفس ملوكي، وأعجب من هذا أن البهائم كلها لا تنظر إلى ذوات الحمل من أجناسها، ولا تقرب منها حتى تضع أحمالها، أو تفارق فصلانها، ثم لم يكفه أن يذكر الحبلى حتى افتخر بالمرضع، وفيها من التلويث بأوضار رضيعها، ومن اهتزالها واشتغالها عن إحكام اغتسالها، وقد أخبر أن ذا التمائم المحول متعلق بها بقوله:
فألهيتها عن ذي تمائم محول
وأخبر أنها ظئر ولدها لا ظئر له ولا مرضع سواها، فدل بذلك على أنها حقيرة وفقيرة، ومثل هذه لا يصبو إليها من له همة. وهذه الصفات كلها تستقذرها نفس الصعلوك والمملوك، وقد قال أيضا في موضع آخر من هذا الباب من قصيدة أخرى:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
فقالت لحاك الله إنك فاضحي
ألست ترى السمار والناس أحوالي
حلفت لها بالله حلفة فاجر
لناموا فما آن من حديث ولا صالي
فأخبر ههنا أنه هين القدر عند النساء وعند نفسه برضاه قولها: لحاك الله، فحصل على لحاك الله من هذه، ولك الويلات من تلك، فشهد على نفسه أنه مكروه مطرود غير مرغوب في مواصلته، ولا محروص على معاشرته، ولا مرضي بمشاكلته، ثم أخبر عن نفسه أنه رضي بالحنث والفجور، وهذه أخلاق لا خلاق لها، ثم أقر في مكان آخر من شعره بما يكتمه الأحرار، ولا ينم بفتحه إلا الأوضاع الأشرار فقال:
ولما دنوت تسديتها
فثوبا نسيت وثوبا أجر
وأي فخر في الإقرار بالفضيحة على نفسه وعلى حبه؟! وأين هذا من قول يعقوب الخزيمي:
ولا أسأل الولدان عن وجه جارتي
بعيدا ولا أرعاه وهو قريب
وإنما سهل عليه كل هذا، حرصه على ما كان ممنوعا منه، وذلك أنه كان مبغضا إلى النساء جدا، مفروكا ممن ملك عصبتها لأسباب كثيرة ذكرت، وكل من حرص على نيل شيء فمنع منه فعلا، ادعاه قولا، وله أشباه فيما أتاه، يدعون ما ادعاه إفكا وزورا وكذبا وفجورا، منهم الفرزدق، وهو القائل:
هما دلياني من ثمانين قامة
كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فهذا أول كذبة. ولو قال من ثلاثين قامة لكان كاذبا لتقاصر الأرشية عن ذلك، وقد قرعه جرير هذا في قوله:
تدليت تزني من ثمانين قامة
وقصرت عن باع العلا والمكارم
وكان مغرما بالزنى مدعيا فيه، وقد بلي بموانع تصدفه عنه، منها ما شهر به من النميمة بمن ساعده، والادعاء على من باعده، منها دمامته، ومنها اشتهاره، والمشهور يصل إلى شهوة يتبعها ريبة.
فكان يكثر في شعره من ادعاء الزنى، واستدعاء النساء وهن أغلظ عليه من كبد بعير، وأبغض فيه وأهجى له من جرير.
وخذ أطرف هؤلاء الأجناس، وهو سحيم عبد بني الحسحاس، أسيود في شملة دنسة قملة؛ لا يؤاكله الغرثان، ولا يصاليه الصرد العريان، وهو مع ذلك يقول:
وأقبلن من أقصى البيوت يعدنني
نواهد لا يعرفن خلقا سوائيا
يعدن مريضا هن هيجن ما به
ألا إنما بعض العوائد دائيا
توسدني كفا وتحنو بمعصم
علي وترمي رجلها من ورائيا
فأنت تسمع هذا الأسود الشن وادعاءه، وتعلم أن الله لو أخلى الأرض، فلم يبق رجلا في الطول ولا في العرض، لم يكن هذا الزنمة الزلمة عند إدراك السودان إلا كبعرة بعير في معر عير، والممنوع من الشيء حريص عليه مدع فيه، والمعد بما يهواه كاتم له مستغن ببلوغ مناه، ودليل على ذلك أن المرقش الأكبر كان من أجمل الرجال. وكانت للنساء فيه رغبة وشدة محبة. وكان كثير الاجتماع بهن، والوصول إليهن وله في ذلك أخبار مروية ولم يكن في أشعاره صفة شيء من ذلك. فحسبك بذلك صحة على ما قلناه. فإن قال قائل: إنما وصفت عن امرئ القيس عيوبا من خلقه لا في شعره قلنا: هل أراد بما وصف في شعره إلا الفخر؟! فإن قال: لم يرد ذلك، وإنما أراد إظهار عيبه. قلنا: فأحمق الناس إذن هو، ولم يكن كذلك، وإن قال: نعم الفخر. قلنا: فقد نطق شعره بقدر ما أراد وتزجم وترجم عنه قريضه بأقبح الأوصاف فأي خلل من خلال الشعر أشد من الانعكاس والتناقض، وكل ما يخزي من الشعر فهو من أشد عيوبه قال: ومن كلام امرئ القيس المخلخل الأركان، الضعيف الاستمكان، المتزلزل البنيان، قوله:
أمرخ خيامهم أم عشر
أم القلب في إثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر
وممن أقام من الحي هر
وهر تصيد قلوب الرجال
وأفلت منها ابن عمرو حجر
فأنت تسمع هذا الكلام الذي لا يتناسب، ولا يتواصل ولا يتقارب، ولا يحصل منه معنى ولا فائدة سوى أن السامع يدري أنه يذكر فرقة من أحباب، لكن ذلك عن ترجمة معجمة مضطربة منقلبة، سأل عن الخيام أمرخ هي أم عشر؟ وليست الخيام مرخا ولا عشرا وإنما هما عودان؛ فإن أراد في مكان هذين الخيام؛ فقد نقض عمدة الكلام؛ لأن مرخه وعشره أتى بهما نكرتين فأشكل بذلك، وإنما يجوز لو جعلهما معرفة بالألف واللام والوزن لا يساعده على ذلك، ثم قال:
أم القلب في إثرهم منحدر
وليس هذا السؤال من السؤال الأول في شيء إلا من بعد بعيد، واحتيال شديد. وقال بعد هذا:
وشاقك بين الخليط والشطر
وممن أقام من الحي هر
فأتى بكثير كلام لا يفيد إلا قليل معنى، وذلك القليل لا غريب ولا عجيب، وهو كله ذكر فراق، ثم رجع إلى أن هر فقيمة تصيد قلبه وقلب غيره، فأبطل بإقامتها كل ما قال من أخبار الفراق ونقضه، وجعل بكاءه المتقدم لغير شيء، ثم قال:
وأفلت منها ابن عمرو حجر
فحسن عنده أن يخبر أن الناس قد صادت هر قلوب جميعهم إلا قلب حجر أبيه، وهذا من الأحاديث الركيكة والأخبار التي ما بأحد حاجة إليها، ومع هذا فقد أورد أصحاب الأخبار أن هر هذه كانت زوجة أبيه حجر، فانظر ما في جملة هذه الأبيات من الركاكات وقلة الإفادات؛ فإنها لا تفيد قلامة، ولا تهز ثمامة، ولسنا ننكر بهذه العيوب ونزارتها، ما أقررنا له به من الفضائل وندارتها، وستجد من لا يصدق معاصرا، ولا يصدق على متقادم متأخرا، يبني على ضعف أسه، ويفديه من الجهل والعيب بنفسه، فإذا اعترضك من هذا النمط معترض فأعرض عنه ودعه على أخلاقه مستمتعا بخلاقه، واتبع المسلك الذي أوضحته لك.
قال أبو الريان: وفضلاء الشعراء كثير جدا ولكل سقطات، وسأقفك على بعضها لعظيم المؤنة في الإحاطة بها، ليس إلا لأوضح بذكرها منهجا من مناهج النقد، لا حرصا على بغض الفصحاء، ولا قصدا إلى تهجين الصرحاء، وأية رغبة لنا في ذلك وهم جرثومة فروعنا، وبهم افتخار جميعنا.
قال زهير بن أبي سلمى على ما وصفناه به ووصفه غيرنا من العلو والرفعة في هذه الصنعة، من مذهبته الحكمية، ومعلقته العلمية:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وقد غلط في وصفها بخبط العشواء على أننا لا نطالبه بحكم ديننا؛ لأنه لم يكن على شرعنا، بل نطلبه بحكم العقل، فنقول: إنما يصح قوله لو كان بعض الناس يموت وبعضهم ينجو، وقد علم هو وعلم العالم حتى البهائم؛ أن سهام المنايا لا تخطئ شيئا من الحيوان حتى يعمها رشقها، فكيف يوصف بخبط العشواء رام لا يقصد غرضا من الحيوان إلا أقصده حتى يستكمل رمياته في جميع رمياته، وإنما أدخل الوهم على زهير موت قوم غبطة وموت قوم هرما، وظنوا طول العمر إنما سببه أخطاء المنية وسبب قصره إصابتها! وهيهات الصواب من ظنه لم يؤخر الهرم إلا أنها قصدته فحين قصدته أصابته. ولو أن الرماة تهتدي كاهتدائها، لملأت أيديها بأقصى رجائها.
وقال زهير أيضا في مذهبته:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وقد تجاوز هذا الحق الباطل، وبنى قولا ينقضه جريان العادة وشهادة المشاهدة، وذلك أن الظلم وعرة مراكبه ، مذمومة عواقبه في جاهليته وإسلامنا، فحرض في شعره عليه، وإن كان إنما أشار في شعره إلى أن الظالم يرهب فلا يظلم، فهذا قياس ينفسد وأصل ليس يطرد، لكن يرهبه من هو أضعف منه، وربما انتقم منه بالحيلة والمكيدة، وقد يظلم الظالم من يغلبه، فيكون ذلك سبب هلاكه مع قباحة السمة بالظلم، والمثل إنما يضرب بما لا ينخرم، وقد كانت له مندوحة واتساع في أن يقول «يهدم» «ومن لا يظلم الناس يظلم.» فهذا أصح وأسلم لمن لا يظلم ويظلم.
قال أبو الريان: وقال زهير أيضا وهو من أطيب شعره وأملحه عند العامة وكثير من الخاصة، فههنا تحفظ وتأمل، ولا يهلك ذلك منهم، الحق أبلج قال:
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
مدح بها شريفا أي شريف! فجعل سروره بقاصده كسروره بمن يدفع شيئا من عرض الدنيا إليه. وليس من صفات النفوس العارفة السامية والهمم الشريفة العالية إظهار السرور إلى أن تهلل وجوههم وتسر نفوسهم بهبة الواهب ولا شدة الابتهاج بعطية المعطي، بل ذلك عندهم سقوط همة وصغر نفس، وكثير من ذوي النفوس النفيسة والأخلاق الرئيسة لا يظهر السرور متى رزق مالا عفوا بلا منة منيل، ولا يد معط مستطيل لأنه عند نفسه أكبر منه؛ ولأن قدر المال يقصر عنه، فكيف يمدح ملك كبير كثير القدر عظيم الفخر بأنه يتهلل وجهه ويمتلئ سرورا قلبه إذا أعطى سائله مالا؟! هذا نقض البناء ومحض الهجاء، والفضلاء يفخرون بضد هذا؛ قال بعضهم:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني
ولا جزع من صرفه المتقلب
وإنما غر زهيرا وغر المستحسن بيته هذا ما جبلوا عليه من حب العطاء، وما جرت به عاداتهم من الرغبة في الهبات والاستجداء، وليس كل الهمم تستحسن ذلك، ولا كل الطباع تسلك هذه المسالك.
قال أبو الريان. وقال زهير أيضا يمدح سادة من الناس فذمهم بأنواع الذم، وأكثر الناس على استحسان ما قال، بل أظن كلهم على ذلك، وهو قوله:
على مكثريهم حق من يعتريهم
وعند المقلين السماحة والبذل
فأول ما ذمهم به إخباره أن فيهم مكثرين ومقلين، فلو كان مكثروهم كرماء لبذلوا لمقليهم الأموال، حتى يستووا في الحال، ويشبهوا في الكرم والحال الذين قال فيهم حسان:
الملحقين فقيرهم بغنيهم
والمشفقين على اليتيم المرمل
المرمل القليل المال وأرمل الرجل إذا قل زاده، وكما قال غيره:
الخالطين فقيرهم بغنيهم
حتى يعود فقيرهم كالكافي
وكما قالت الخرنق:
الخالطين لجبينهم بنضارهم
وذوي الغنى منهم بذي الفقر
فهذا كله - وأبيك - غاية المدح النقي من القدح، ثم استمع ما في هذا البيت سوى هذا من الخلل والزلل، قال:
على مكثريهم حق من يعتريهم
وعند المقلين السماحة والبذل
ففي هذا القسم الأول عيوب على المكثرين منهم أنهم ضيعوا القريب - كما قدمنا - ورعوا حق الغريب، وصلة الرحم أولى ما بدئ به، ومن مكارم العرب حميتها لذوي أنسابها وذبها عن أحسابها والأقرب فالأقرب، وما فضل عن ذلك فللأبعد، ثم أخبر أن المكثرين لا يسمحون بأكثر من الاستحقاق، في قوله:
على مكثريهم حق من يعتريهم
ومن أعطى الحق فإنما أنصف ولم يتفضل بما وراء الإنصاف، والزيادة على الإنصاف أمدح، ثم أخبر في البيت أن المقلين على قدر قصور أيديهم أكرم طباعا من مكثريهم على قدرهم، في قوله:
وعند المقلين السماحة والبذل
والبذل مع الإقلال مدح عظيم وإيثار، والسماحة إعطاء غير اللازم، فمدح بشعره هذا من لا يحظى منه بطائل، وذم الذين يرجو منهم جزيل النائل، وهذا غاية الغلط في الاختيار وفي ترتيب الأشعار. ولزهير غير هذا من السقطات لولا كلفة الاستقصاء هذا على اشتهاره بأنه أمدح الشعراء وأجزل الوافدين على الأشراف والأمراء، وسيتعامى المتعصب له عن وضوح هذا البيان، وسينكر جميع هذا البرهان، ويجعل التفتيش عن غوامض الخطأ والصواب استقصاء وظلما ومطالبة وهضما، وزعم أن جميع الشعر لو طلب هذه المطالبة لبطل صحيحه، وانعجم فصيحه، والباطل الذي زعم، والمحال الذي به تكلم، فالسليم سليم، والكليم كليم، وإنما سمع المسكين أن أملح الشعر ما قلت عباراته، وفهمت إشاراته، ولمحت لمحه، وملحت ملحه، ورققت حقائقه، وحققت رقائقه، واستغني فيه بلمحه الدالة عن الدلائل المتطاولة، وأمثال هذا الكلام في استعمال النظام، فتوهم أن خلل الشعر ووزنه، وضعف أركانه ، وتناقض بنيانه، وانقلاب لفظه لغوا، وانعكاس مدحه هجوا؛ داخل فيما قدمنا من الأوصاف المستحسنة: من لمح إشاراته، وملح عباراته؛ فعامل هذا الصنف بعطفك عنهم للعطف، ورفعك عليهم الأنف، وأعرض عنهم بالفكر والذكر كبرا، وإن لم تكن من أهل الكبر، وفيما أطلعتك من شعر هذين الفحلين، والمتقدمين القديمين ما يغني عن التفتيش على سقطات سواهما فقس على ما لم تره بما ترى، واعلم أن كل الصيد في جنب الفرا.
قال أبو الريان: ومن عيوب الشعر اللحن الذي لا تسعه فسحة العربية كقول الفرزدق:
وعض زمانا يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
فرفع مجلفا وحقه النصب، وقد تحيل له بعض النحويين بكلام كالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع. وكقول جرير الخطفي:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب
لسب بذلك الجرو الكلابا
فنصب الكلاب بغير ناصب، وقد تحيل أيضا بعض النحويين على وجه الإقفاء أحسن منه، فاحذر هذا ومثله، وإياك وما يعتذر منه بفسيح من العذر فكيف بضيق ضنك، قال: ومما يعاب به الشعر ويستهجنه لنقد خشونة حروف الكلمة كقول جرير:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
وهذا البيت في قصيدة من أحلى قصائد جرير وأملحها وأجزلها وأفصحها، فثقلت القصيدة كلها بهذه اللفظة، وللفرزدق أيضا لفظات خشنة الحروف كهذه تجدها في شعره، قال: ويكره النقاد تعقيد الكلام في الشعر، وتقديم آخره، وتأخير أوله، كقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا
أبو أمه حي أبوه يناسبه
يمدح به إبراهيم بن هشام المخزومي وهو خال هشام بن عبد الملك فمعنى هذا الكلام أن إبراهيم بن هشام ما مثله في الناس حي إلا مملك يعني هشاما أبو أمه، أي جد هشام لأمه أبو إبراهيم هذا الممدوح، فهو خاله أخو أمه، فهو يشبهه في الناس لا غير، وهذا غاية التعقيد والتنكيد وليس تحته شيء سوى أنه شريف كابن أخته شريف .
قال أبو الريان: ومن شر عيوب الشعر كلها الكسر؛ لأنه يخرجه عن نعته شعرا. وليس مما يقع لمن نعت بشاعر، فأما الإقواء، والإيطاء، والسناد، والإكفاء، والزخاف، وصرف ما لا ينصرف؛ فكل ذلك يستعمل، إلا أن السالم من جميع ذلك أجمل وأفضل، قال: ومن عيوبه المذمومة مجاورة الكلمة ما لا يناسبها ولا يقاربها، مثل قول الكميت:
حتى تكامل فيها الدل والشنب
وكما قال بعض المتأخرين في رثاء:
فإنك غيبت في حفرة
تراكم فيها نعيم وحور
وإن كان النعيم والحور من مواهب أهل الجنة، فليس بينهما في النفوس تقارب، ولا لفظة تراكم مما يجمع بين الحور والنعيم، ومثله قول بعضهم:
والله لولا أن يقال تغيرا
وصبا وإن كان التصابي أجدرا
لأعاد تفاح الخدود بنفسجا
لثمي وكافور الترائب عنبرا
فالتفاح ليس من جنس البنفسج؛ لأن التفاح ثمرة والبنفسج زهرة، وقد أجاد في جمعه بين الكافور والعنبر؛ لأنهما من قبيل واحد. ولو قال:
لأعاد ورد الوجنتين بنفسجا
لثمي وكافور الترائب عنبرا
لأجاد الوصف، وأحسن الرصف؛ لكون الورد من قبيل البنفسج؛ فهذا النوع فافتقد، وهذا الشرع فاعتمد.
قال أبو الريان: ولفضلاء المولدين سقطات مختلفات في أشعارهم، أذاكرك منها في أشياء؛ لتستدل بها على أغراضك لا لطلب الزلات، ولا لاقتفاء العثرات، كان بشار تتباين طبقات شعره فيصعد كبيرها، ويهبط قليلها كثيرها، وكذلك كان حبيب بن أوس الطائي، فإذا سمعت جيدهما كذبت أن رديهما لهما، وإذا صح عندك أن ذلك الردى لهما أقسمت أن جيدهما لغيرهما، قال: ومما يعاب من الشعر الافتتاحات الثقيلة مثل قول حبيب أول قصيدة:
هن عوادي يوسف وصواحبه
فعزما فقدما أدرك الشأو طالبه
ومثل قول ديك الجن أول قصيدة:
كأنها يا كأنه خلل الخ
لة وقف الهلوك إذ بغما
فابتدأ هو وحبيب بمضمرات على غير مظهرات قبلها، وهو ردي قال: ويعاب أيضا الافتتاحات المتطير بها، والكلام المضاد للغرض، كابتداء قصيدة أبي نواس التي أنشدها الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي يهنيه ببنيانه الدار الجديدة، فدخل إليه عند كمالها، وقد جلس للهناء والدعاء وعنده وجوه الناس فأنشده:
أربع البلى إن الخشوع لبادي
عليك وإني لم أخنك ودادي
فتطير الفضل من ذلك ونكس رأسه وتناظر الناس بعضهم إلى بعض ثم تمادى فختم الشعر بقوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم
بني برمك من رائحين وغادي
فكمل جهله، وتم خطؤه، وزاد القلوب المتوقعة للخطوب سرعة توقع، وأضاف للنفوس المتوجعة بذكر الموت شدة توجع، وأراد أن يمدح فهجا، ودخل ليسر فشجا. قال: وقريب من هذا ما وقع للمتنبي في أول شعر أنشده كافورا:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
فهذا خطاب بالكاف بفتح ولا سيما في أول لقية، وفي ابتداء واستعطاف ورقية، وفي هذا البيت غير هذا من العيوب سنذكره بعد.
ووقع مثل هذا من قبح الاستفتاح في عصرنا؛ وذلك أن بعض الشعراء أنشد بعض الأمراء في يوم المهرجان. فقال:
لا تقل بشرى ولكن بشريان
وجه من أهوى ووجه المهرجان
فأمر بإخراجه، واستطار بافتتاحه وحرمه إحسانه، قال أبو الريان: ولو كان هذا الشاعر حاذقا لكان إصلاح هذا الفساد أيسر الأشياء عليه، وذلك بأن يعكس البيت فيقول:
وجه من أهوى ووجه المهرجان
أي بشرى هي لا بل بشريان
قال: ويقبح جدا الإتيان بكلمة القافية معجمة لا ترتبط بما قبلها من الكلام، وإنما هي مفردة لحشو القافية، كقول بعضهم:
فبلغت المنى برغم أعاديك
وأبقاك سالما رب هود
فأنت ترى غثاثة هذه القافية، والله تعالى رب جميع الخلق وكل شيء، فخص هودا عليه السلام وحده لضعف نقده، وعجزه عن الإتيان بقافية تليق وتحسن.
قال: ويقبح أيضا الجفاء في النسيب على الحبيب والتضجر ببعده، وغلظة العتاب على صده؛ كقول أبي نواس:
أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير
فإن كنت لا خلا ولا أنت زوجة
فلا برحت منا عليك ستور
وجاورت قوما لا تزاور بينهم
ولا قرب إلا أن يكون نشور
فلم أسمع بأوحش من هذا النسيب، ولا أخشن من هذا التشبيب، وذلك قوله: إن لم تكوني لي زوجة ولا صديقة فلا برحت منا ستور للتراب عليك، ولا كان جارك ما عشنا نحن إلا الموتى الذين لا يتزاورون ولا يتواصلون إلى يوم النشور، على أن كلامه يشهد عليه بأنه شاك، وإنما المعروف في أهل الرقة والظرف، والمعهود من أهل الوفاء والعطف، أن يفدوا أحبابهم بالنفوس، من كل مكروه وبؤس، فأين ذهبت ولادته البصرية وآدابه البغدادية، حتى اختار الغدر على الوفاء، وبلغت طباعه إلى إجفاء الجفاء، فاعلم هذا وإياك أن تعمل به.
قال: ومن عيوب الشعر السرق، وهو كثير الأجناس، في شعر الناس؛ فمنها سرقة ألفاظ، ومنها سرقة معان، وسرقة المعاني أكثر؛ لأنها أخفى من الألفاظ، ومنها سرقة المعنى كله، ومنها سرقة البعض، ومنها مسروق باختصار في اللفظ وزيادة في المعنى وهو أحسن المسروقات، ومنها مسروق بزيادة ألفاظ وقصور عن المعنى وهو أقبحها، ومنها سرقة محضة بلا زيادة ولا نقص والفضل في ذلك للمسروق منه ولا شيء للسارق؛ كسرقة أبي نواس في هذه القصيدة التي ذكرنا معنى أبي الشيص بكماله، قال أبو الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
فسرقه الحسن بكماله. فقال:
فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير
فهذا هذا على أن بيت أبي الشيص أحلى وأطبع ومع حلاوته جزالة، وقد ذكر عن الحسن أنه قال: ما زلت أحسد أبا الشيص على هذا البيت حتى أخذته منه، وسرقة المعاصر سقوط همة، وبهذه القصيدة يناضل أصحاب الحسن عنه ويخاصمون خصماء مقرين بأن ليس له أفضل منها، ولا لهم إلى سوى هذه القصيدة معدل عنها، فقس بفهمك وأعمل فكرك على ما وصفناه من أبواب السرق ما وجدته في أشعار لم أذكرها يظهر لك جميع ما وصفناه، ويبدو لك جميع ما رسمناه قال: ومما يقع في عيوب الشعر ويغفل الشاعر عنه، ويجوزه الأمر فيه لصغر جرم العيب وسلامة اللفظ الذي احتبى فيه، ثم يكون ذلك سبب غفلة النقاد أيضا عنه مثل قول المتنبي:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
فضع هذا الكلام على أنه إنما شكا داءه ووصفه بالعظم فعاد شاكيا نفسه، وجعلها أعظم الداء؛ لأنه أراد كفى بدائك داء فغلط . وقال: كفى بك داء، فصار كفى بالسلامة داء، فالسلامة هي الداء يريد طول البقاء سبب للفناء. وقال الله تعالى:
وكفى بنا حاسبين (الأنبياء: 47)، فالله هو أعظم شهيد، فجعل المتنبي نفسه أعظم الداء ولم يرد إلا استعظام دائه وإصلاح هذا الفساد، وبلوغه إلى المراد أن يقول:
كفى بالمنايا أن تكن أمانيا
وحسبك داء أن ترى الموت شافيا
فيعود الداء المستعظم كما أراد، وتزول خشونة ابتدائه، وشدة جفائه، إذا خاطب الممدوح بالكاف فجعله داء عظيما في أول كلمة سمعها منه، وقد تأدب خواص الناس وكثير من عوامهم في مثال هذا المكان؛ فهم يقولون عند مخاطبات بعضهم بعضا بما يخشن ذكره قلت للأبعد ويا كذا الأبعد.
ومن عيوب هذا القسم أيضا أن قائله قصد إلى سلطان جديد، وإلى مكان يحتاج فيه إلى التعظيم والتفخيم، وقد صدر عن ملك نوه به، أعني: سيف الدولة، وأغناه بعد فقره، وشرفه ورفعه، وأدنى موضعه، فورد على كافور هذا في مرتبة شريفة، وخطة منيفة، فجعل بجهله يصفه في أول بيت لقيه به أنه في حالة لا يرى منها المنية، أو يرى المنية أعظم أمنية، وعلى كافور بذكائه ووصول أخبار الناس إليه أنه في حالة خلاف ما قال وأنه كفر النعمة من المنعم عليه، وأراه أن جميع ما عامله به من الجاه الواسع، والغنى القاطع حقير لديه، صغير في عينيه، فعلم كافور في هذا الوقت أنه ممن لا تزكو لديه الصنيعة وإن عظمت، ولا تكبر في عينيه المواهب وإن جسمت، ولم يكن في خلق كافور من الصبر على اتساع البذل، ولا من الرغبة في أهل الآداب والفضل ما عند سيف الدولة من ذلك فزهد فيه بعد رغبة وعلله بالقليل، وشاوقه بالجزيل، ورأى المتنبي أن الأسود ليس له في قلبه من الحب والقرب ما له عند سيف الدولة، فلم يدل عليه ولا كثر من التعتب والعتاب ما يعطفه عليه فأضاع وضاع. وكان يتوقع الإيقاع ، ولكفران النعم نقم، ثم نجاه ركوب ظهر الهرب، وأقبل يعترف لسيف الدولة بالذنوب. وكان لحنه وشعره شريفين، وعقله ودينه ضعيفين، ومع ذلك فسقطاته كثيرة إلا أن محاسنه أكثر وأوفر، والمرء يعجز لا محالة، وكان يميل إلى تعقيد الكلام، ويعتمد على علمه بقبحه فيقول من ذلك ما يصف به ناقته:
فتبيت تسئد مسئدا في نيها
إسآدها في المهمه الإنضاء
ويقول في المدح:
أنى يكون أبا البرية آدم
وأبوك والثقلان أنت محمد
ويقول في بيت آخر من قصيدة أخرى يمدح بها، والبيت لا يتعلق بشيء مما قبله - فيما يظهر - ولا فيما بعده بشيء:
كأنك ما جاودت من بان جوده
عليك ولا قاومت من لم تقاوم
ومثل هذا كثير، وهذه الأجناس من أبيات، وإن ظهرت معانيها بعد استقصاء، وأطاعت غوامضها بعد استعصاء، فهي مذمومة السلك وإن اطلعت منها على أجزل الإفادة، فكيف إذا حصلت منها على السلامة بلا زيادة؟! وكان أيضا يغفل عن إصلاح أشياء من كلامه على قرب ذلك الإصلاح من الفهم، مثل قوله يرثي أخت سيف الدولة:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب
كناية بهما عن أشرف النسب
فجعل يا أخت خير، وبنت خير كناية عن أشرف النسب، والكناية لا تكون إلا لعلل تتسع فيها التهم؛ لأن الكناية ستر وتعمية، فما بال شرف النسب يورى عنه تورية المعايب، ويكنى عنه والتصريح به من المفاخر والمناقب، وقد غفل عن إصلاح هذا بلفظ فصيح ومعنى صحيح، قد كاد يبرز زمن الجنان، إلى طرف اللسان، وهو لو فطن إليه:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب
غنى بهذا وذا عن أشرف النسب
قال أبو الريان: هذه الجملة التي أثبت لك فيها ما دخل على الشعراء المجيدين من التقصير والغفلة والغلط، وغير ذلك؛ كافية ومغنية عن إيراد سوى ذلك، وإن لقيتها بجودة بحث وصحة قياس، لم تحتج إلى كشف عيوب أشعار الناس، ولعل قائلا يقول: مال على هؤلاء وترك سواهم لميله على من بكت، ولتفضيله من عنه سكت، فقل لمن قال ذلك ، الأمر على خلاف ما ظننت لم أذكر إلا الأفضل فالأفضل، والأشهر فالأشهر، إذا كانت أشعارهم هي المروية، فالحجة بهم وعليهم هي القوية، فقد نقلته على من ميلي عليهم، إلى ميلي بالحق إليهم.
قال أبو الريان: فأما نقد المستحسن فتمثيله لك يعظم ويتسع لكثرته، فلا يسعنا إيراده، ولكن ما سلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم، ثم تتسع طبقات الجودة فيه، وأحسن منه ما اعتدل مبناه، وأغرب معناه، وزاد في محمودات الشعر على سواه، ثم يمدح الأدون فالأدون بمقدار انحطاطه إلى حيز السلامة، ثم لا مدح ولا كرامة.
قال محمد فقلت: لله درك يا أبا الريان فما ألين جانبك! وما أقرب غائبك! وما ألحح طالبك! وما أسعد صاحبك! فقال: أنجح الله مطالبك، وقضى مآربك، وصفى من القذى مشاربك، وبث في الحواضر والبوادي مناقبك.
تمت المقامة المعروفة بمسائل الانتقاد
بلطف الفهم والاقتصاد
والحمد لله أولا وآخرا، وصلاته على نبيه سيدنا محمد وآله وسلامه.
القسم السابع
كتاب العرب
أو الرد على الشعوبية، محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، من أهل القرن الخامس الهجري
كتاب العرب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما، قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: جعلنا الله وإياك على النعم شاكرين، وعند المحن والبلوى صابرين، وبالقسم من عطائه راضين، وأعاذنا من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية؛ فإنه بفرط الحسد وبغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة، وتلحق بها كل رذيلة، وتغلو في القول، وتسرف في الذم، وتبهت بالكذب وتكابر العيان، وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف وتغص من النبي
صلى الله عليه وسلم
إذا ذكر بالشجا، وتطرف منه على القذى، وتبعد من الله بقدر بعدها ممن قرب واصطفى.
وفي الإفراط الهلكة، وفي الغلو البوار، والحسد هو الداء العياء، أول ذنب عصي الله به في الأرض والسماء، ومن تبين أمر الحسد بعدل النظر أوجب سخطه على واهب النعمة وعداوته لمؤتي الفضيلة؛ لأن الله تعالى يقول:
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا (الزخرف: 32) فهو - تبارك وتعالى - باسط الرزق وقاسم الحظوظ والمبتدي بالعطا، والمحسود آخذ ما أعطي وجار إلى غاية ما أجري.
وقال ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله! قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال: حاسد الناس وفي بعض الكتب يقول الله: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي، غير راض بقسمي.
قال ابن المقفع: الحاسد لا يبرح زاريا على نعمة الله لا يجد لها مزالا، ويكدر على نفسه ما به، فلا يجد لها طعما، ولا يزال ساخطا على من لا يتراضاه، ومتسخطا لما لا ينال فوقه، فهو مكظوم هلع جزوع، ظالم أشبه شيء بمظلوم، محروم الطلبة منغص المعيشة دائم السخطة، لا بما قسم له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسود يتقلب في فضل الله مباشر للسرور، ممهلا فيه إلى مدة لا يقدر الناس لها على قطع وانتقاض، ولو صبر الحسود على ما به وضمر لجرنه كان خيرا له؛ لأنه كلما هر خسأه الله، وكلما نبح قذف بحجره، وكلما أراد أن يطفئ نور الله أعلاه الله
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (التوبة: 32)، ولله در القائل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
يوما أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصبا للعرب من السفلة والحشوة وأوباش النبط وأبناء أكرة القرى، فأما أشراف العجم وذوو الأخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسبا ثابتا.
وقال رجل منهم لرجل من العرب: إن الشرف نسيب، والشريف من كل قوم نسب الشريف من كل قوم، وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب؛ لأن منهم قوما تحلوا بحلية الأدب فجالسوا الأشراف، وقوما اتسموا بميسم الكتابة، فقربوا من السلطان، فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم، وخبث عناصرهم، فمنهم من ألحق نفسه بأشراف العجم، واعتزى إلى ملوكهم وأساورتهم ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه، ونسب واسع لا مدافع عنه، ومنهم من أقام على خساسة ينافح عن لؤمه ويدعي الشرف للعجم كلها؛ ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بغض العرب، ينتقصها ويستفرغ مجهوده في مشاتمها، وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق وبهممها أنف وبآدابها تسلح عليها؛ فإن هو عرف خيرا ستره، وإن ظهر حقره، وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها، وإن سمع سوءا نشره، وإن لم يسمعه نفر عنه، وإن لم يجده تخرصه، فهو كما قال القائل:
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا
شرا أذيع وإن لم يعلموا بهتوا
ومن ذا - رحمك الله - صفا فلم يكن له عيب، وخلص فلم يكن فيه شوب.
وقيل لبعض الحكماء: هل من أحد ليس فيه عيب؟! فقال: لا لأن الذي ليس فيه عيب هو الذي لا يموت، وعائب الناس يعيبهم بفضل عيبه، وينتقصهم بحسب نقصه، ويذيع عوراتهم ليكونوا شركاءه في عورته، ولا شيء أحب للفاسق من زلة العالم، ولا إلى الخامل من عثرة الشريف، قال الشاعر:
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه
مراد لعمري إن أردت قريب
وقال آخر:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال ذوو العيوب
وقد كان زياد بن أبي سفيان حين كثر طعن الناس عليه وعلى معاوية في استلحاقه عمل كتابا في المثالب لولده وقال: من غيركم فقرعوه بمنقصته، ومن ندد عليكم فابدهوه بمثلبته؛ فإن الشر بالشر يتقى، والحديد بالحديد يفلح.
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى أغرى الناس بمشاتم الناس، وألهجهم بمثالب العرب، وحاله في نسبه وأبيه الأقرب إليه حال نكره أن نذكرها فنكون كمن أمر ولم يأتمر، وزجر عن القبيح ولم يزدجر، وهي مشهورة ولكن كرهنا أن تدون في الكتب وتخلد على الدهر، ولا سيما وهو رجل يحمل عنه العلم ويحتج بقوله في القرآن، ومن أتعب قلبا وأنصب فكرا ممن أراد أن يجعل الحسنة سيئة، والمنقبة مثلبة، ويحتاج لإخراج الباطل في صورة الحق؛ فيقصد من المناقب لمثل قوس حاجب يضحك منها ويزري بها، ويذهب في ذلك إلى خساسة العود وقلة ثمنه، وهذا لو كان على مذاهب التجار والسوق في الرهون والمعاملات لرجع بالعيب على الآخذ لا على الدافع؛ لأن الدافع لا يألو أن يدفع أحقر ما يجد في أكثر ما يأخذ، والمغبون من غر بالصغير عن الكبير، وإنما رهن عن العرب بما ضمنه عنها، من كف الأذى عن مملكته حتى يحيوا وتنكشف عنهم ألسنة. ولو كان مكان القوس مائة ألف رأس من الغنم عن هذا السبب ما كان القوس إلا أحسن بالدافع والقابل؛ لأن سلاح الرجل هي عزه وشرفه، وإسلام المال أحسن من إسلام العز والشرف، وقد يدفع الرجل خاتمه وبرده أو رداءه عن الأمر العظيم فلا يسلمه خوفا من السبة وأنفة من العار.
قال أبو عبيدة: لما قتل وكيع بن أبي سود التميمي قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان، بلغ ذلك سليمان وهو بمكة وهو حاج، خطب الناس بمسجد عرفات، وذكر غدر بني تميم، وإسراعهم في الفتن، وتوثبهم على السلطان، وخلافهم له، فقام الفرزدق ففتح رداءه وقال: يا أمير المؤمنين، هذا رداي هنا بوفاء تميم ومقامها على طاعتك، فلما جاءت بيعة وكيع قال الفرزدق:
فدى لسيوف من تميم وفى بها
رداي وحلت عن وجوه الأهاتم
يريد الأهتم بن سمي التميمي ورهطه.
وهذا سيار بن عمرو بن جابر الفزاري ضمن لبعض الملوك ألف بعير دية أبيه، ورهنه قوسه فقبلها منه على ذلك، وساقها إليه، وفيه يقول القائل:
ونحن رهنا القوس ثم تخلصت
بألف على ظهر الفزاري أقرعا
وسيار هذا هو جد هرم الذي تنافر إليه عامر وعلقمة. ومن هذا الباب قول جران، وذكر اجتماعه مع نساء كان يألفهن:
ذهبن بمسواكي وقد قلت إنه
سيوجد هذا عندكن فيعرف
يظن من لا يعرف هذا الخبر أنهن سلبنه المسواك فاعتد عليهن، وأخبرهن أنه سيوجد عندهن ويعرف لقدر المسواك عندهن وعنده؛ ولأن الأعراب أنظر قوم في التافه الحقير الذي لا خطر له، وكيف يظن به وبهن هذا وبلد نجد مستحلس بضروب من شجر المساويك لا تحصى؟! فكيف يبخل على نساء يهواهن بعود هو يصطلي به ويختبز ويطبخ بشجره؟! ومتى احتاج إلى مسواك منه لم يتكلفه بثمن ولم يبعد في طلبه، والمعنى أن نجد اختلاف منابته فمنه: ما ينبت الأسحل، ومنه ما ينبت الأراك، ومنه ما ينبت البشام، فأهل كل ناحية منهم يستاكون بشجر بلدهم. وكان جران العود معروفا بهؤلاء النساء يزورهن على حذر من مزار بعيد، وهو يستن من الشجر ما ينبت في بلده ولا ينبت في بلدهن، فلما أخذن سواكه ليتذكرنه ويسترحن إليه كما يفعل المتحابون قال: إن هذا سيوجد عندكن، وإذا وجد علم أنه مما ينبته البلد الذي أسكنه فاستدل به على زيارتي إياكن ويقصد لقول القائل:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك
ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردا
فيتضاحك بالشعر ويستهزئ بالبردين والفرس الورد، ويعارض ذلك بملوك فارس وأسرتها وتيجانها، وبأن أبرويز ارتبط تسعمائة وخمسين فيلا على مرابطه، وبلغت مخدته التي كان يشرف بها على الداخل عليه ألف إناء من الذهب، وخدمته ألف جارية، وقد جهل هذا معنى الشعر وأخطأ في المعارضة، وفخر بما ليس له فيه حظ ولا نصيب.
أما معنى الشعر: فإن أبا عبيدة ذكر أن وفود العرب اجتمعت عند النعمان بن المنذر فأخرج بردي محرق وهو عمرو بن هند. وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فيأخذهما؛ فقام عامر بن أحيمر بن بهدلة فأخذهما فاتزر بواحد وارتدى بآخر. فقال له: بم أنت أعز العرب؟ فقال: العز والعدد من العرب في معد، ثم نزار، ثم في مضر في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة. فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك؟ فقال: أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة يغنيني الأكابر عن الأصاغر والأصاغر عن الأكابر، فأما أنا في بدني فهذا شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض. وقال: من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد من الناس، فذهب بالبردين فسمي ذا البردين، قال الفرزدق:
فما تم في سعد ولا آل مالك
غلام إذا ما قيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان ثوبي محرق
بمجد معد والعديد المحصل
وأما الفرس الورد؛ فإن الخيل حصون العرب، ومنبت العز، وسلم المجد، وثمال العيال، وبها تدرك الثأر، وعليها تصيد الوحش. وكانوا يؤثرونها على الأولاد باللبن ويشدونها بالأفنية للطلب والهرب، وقد كنى الله عنها في كتابه بالخير لما فيها من الخير. فقال حكاية عن نبيه سليمان - عليه السلام:
إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (سورة ص: 32)، يعني: الخيل، وبها كان شغل سليمان عن الصلاة حتى غربت الشمس.
وقال طفيل:
وللخيل أيام فمن يصطبر لها
ويعرف لها أيامها الخير تعقب
وقال آخر:
ولقد علمت على توقي الردى
أن الحصون الخيل لا مدر القرى
إني وجدت الخيل عزا ظاهرا
تنجي من الغمى ويكشفن الدجى
ويبتن بالثغر المخوف طلائعا
ويثبن للصعلوك جمة ذي الغنا
باتوا بصائرهم على أكتافهم
وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
والبصيرة: الدم، يريد أنهم لم يدركوا الثأر؛ فثقل الدماء على أكتافهم، وأنه قد أدرك ثأره على فرسه.
وحدثني محمد بن عبيد قال: حدثني سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة عن عروة البارقي قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.»
قال أبو محمد: وليس لأحد مثل عتاق العرب، ولا عند أحد من الناس من العلم بها ما عندهم، وسأذكر من ذلك شيئا فيما بعد - إن شاء الله - وإذا كان للرجل منها جواد مبر كريم شهر به وعرف، فقيل العسجدي ولاحق وذا حسن والورد. وليس أعجب من سرير كسرى وفخر العجم به وتصويرهم إياه في الصخور الصم وفي رعان الجبال، وإذا رأيت العرب تنسب إلى شيء خسيس في نفسه، فليس ذلك إلا لمعنى شريف فيه، كقولهم لهنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق ذات الخمار فمن لم يعرف سبب الخمار ها هنا يظن أنها كانت تختمر دون نساء قومها فنسبت إلى الخمار لذلك، قال أبو عبيدة: كانت هنيدة بنت صعصعة تقول: من جاء من نساء العرب بأربعة مثل أربعتي يحل لها أن تضع عندهم خمارها فصرمتي لها أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار لذلك
وقال: كان هند بن أبي هالة ربيب النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: أنا أكرم الناس أربعة، أبي رسول الله وأمي خديجة وأختي فاطمة وأخي القاسم، فهؤلاء الأربعة لا أربعتها. وأما خطؤه في المعارضة؛ فإن صاحب البردين لم يكن ملك العرب فيعارضنا عنه بملك العجم، ولم يدع أحد أنه كان للعرب في دولة العجم مثل ملكها وأموالها وعددها وسلاحها وحريرها وديباجها فيحتاج أن يذكر فيلة أبرويز وجواريه وفرشه، وقد كان هذا لأولئك كما ذكر، ثم جعله الله لهؤلاء فابتزوه واستلبوه والتحوهم كما يلتحى القضيب، والناسخ أفضل من المنسوخ. وأما فخره بما ليس له فيه حظ ولا نصيب؛ فإنما يفخر بملك فارس أبناء ملوكها وأبناء عمالهم وكتابهم وحجابهم وأساورتهم، فأما رجل من عرض العجم وعوامهم لا يعرف له نسب ولا يشهر له أب فما حظه في سرير كسرى وتاجه وحريره وديباجه؟! وليس هو من ذلك في مراح ولا مغدى ولا مظل ولا مأوى؛ فإن قال: لأني من العجم وكسرى فمرحبا بالمثل المبتذل ابن جار النجار. ولو قال أيضا: لأني من الناس وكسرى من الناس. وكان وهذا سواء وما هو بأولى بهذا السبب من العرب؛ لأن العرب أيضا من الناس.
قال أبو عبيدة: أجريت الخيل فطلع منها فرس سابق، فجعل رجل من النظارة يكبر ويثب من الفرح. فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى، أهذا السابق فرسك؟ فقال: لا، ولكن اللجام لي.
وقال المسعودي: قدم علينا أعراب وكانوا يأتون ببضائعهم فأبيعها وأقوم بحوائجهم. وكانوا يقولون: رحم الله أباك دينارا فكنت لا آلوهم عناية، فقلت لهم: أخبروني عن السبب بينكم وبين أبي قالوا: كان يساومنا مرة بأتان، فقلت لهم: هل كان اشتراها منكم؟ قالا: لا، قلت: الله أكبر، قالوا: وما ذاك؟ قلت: لو اشتراها صارت رحما ونسبا.
وقد كانت العجم - رحمك الله - في ذلك الزمان طبق الأرض شرقا وغربا وبرا وبحرا إلا محال معد واليمن ، أفكل هؤلاء أشراف؟ فأين الوضعاء والأدنياء والكساحون والحجامون والدباغون والخمارون والرعاع والمهان؟ وهل كان ذوو الشرف في جملة الناس إلا كاللمعة في جلد البعير؟ وأين ذراريهم وأعقابهم أدرجوا جميعا فلم يبق منهم أحد، وبقي أبناء الملوك والأشراف؟
وأعجب من هذا ادعاؤهم إلى إسحاق بن إبراهيم - صلى الله عليهما وسلم - وفخرهم على العرب بأنه لسارة الحرة وأن إسماعيل أبا العرب لهاجر، وهي أمة، قال شاعرهم:
في بلدة لم تصل عكل بها طنبا
ولا خباء ولا عك وهمدان
ولا لجرم ولا بهراء من وطن
لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض تبنى بها كسرى مناسكه
فما بها من بني اللخناء إنسان
فبنو الأحرار عندهم العجم من ولد إسحاق وإسحاق لسارة وهي حرة، وبنو اللخناء عندهم العرب؛ لأنهم من ولد إسماعيل، وإسماعيل لهاجر وهي أمة قالوا: واللخناء عند العرب الأمة؛ فالويل الطويل لهؤلاء والبعد والثبور من هذه العداوة لأولياء الله، والأنباز القبيحة لصفوة الله، وقد غلطوا في التأويل على اللغة. وليس كل أمة عند العرب لخناء؛ إنما اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها، وجمع الحطب وحمله واستقاء الماء والحلب وأشباه ذلك من الخدمة، كما يقال الأمة الوكعاء. وليس كل أمة وكعاء، وإنما قيل لخناء لنتن ريحها، ويقال لخن السقاء يلخن لخنا إذا تغير ريحه وأنتن.
وأما مثل «هاجر» التي طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل دفر، وارتضاها للخليل فراشا وللطيبين إسماعيل ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - أما، وجعلهما سلالة، فهل يجوز لملحد - فضلا عن مسلم - أن يطلق عليها اللخن. ولو لم يكن إلا أن ملك القبط متع بها سارة وكانت أنفس إمائه عنده وأحظاهن لديه، لقد كان في ذلك دليل على أنها لم تكن من الإماء اللخن. ولو جاز أن يطلق على كل أمة لخناء لجاز أن يقال لكل شريف ولدته أمة هذا ابن اللخناء، كما يقال هذا ابن الأمة، وقد ولدت الإماء الخلفاء والخيار والأبرار مثل: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
حدثني سهل بن محمد، قال: حدثنا الأصمعي، قال: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة؛ ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا، فرغب الناس في السراري. والنساب لا يعرفون لأهل فارس ولا للنبط في إسحاق بن إبراهيم حظا؛ لأن إسحاق تزوج رفقا بنت ناحور بن تارح، وتارح هو آزر ورفقا بنت عمه؛ فولدت له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد؛ فيعقوب هو إسرائيل الذي ولد الأسباط كلهم وكانوا اثني عشر رجلا، وأولادهم جميعا يدعون بني إسرائيل، وهم أهل الكتاب ليس لهؤلاء فيهم سبب ولا نسب، وعيصو هو أبو الروم. وكان الروم رجلا أصفر شديد الصفرة في بياض، ومن أجل ذلك سميت الروم بني الأصفر. قالوا: وكانت أم الروم بنت إسماعيل بن إبراهيم وولد من الروم خمسة نفر، فكل من بأرض الروم من نسل هؤلاء الرهط، قالوا: ولما سبقه يعقوب إلى دعوة إسحاق؛ فصارت النبوة في ولده دعا لعيصو بالنماء والكثرة؛ فالروم كلها من ولده، وبعض الناس يزعم أيضا أن الأشبان من ولده، وقالوا: النبط بن ساروح بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، ويقال: إنه ابن ماش بن سام بن نوح.
قالوا: وأهل فارس من ولد لاود بن إرم بن سام بن نوح. وكان كثير الولد فنزل أرض فارس فأجناس الفرس كلهم من ولده، فليس بين هؤلاء وبين إسحاق بن إبراهيم - على ما ذكر النسابون - نسب يجمعهم إلا سام بن نوح.
والناس يجتمعون في ولادة شيث بن آدم، ثم في ولادة نوح، ثم يتشعبون؛ فولد نوح أربعة نفر: سام، وحام، ويافث، ويام، فأما يام فهلك بالطوفان فلا عقب له، وهو الذي قال له أبوه:
يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (هود: 42)، وأما حام؛ فإن أباه لعنه ودعا عليه بأن يكون عبدا لأخويه، فخملت ذريته وسقطت فيه، فهم: النوبة، وفزان، والزغاوة، وأجناس السودان، والسند، والقبط. وأما يافث: فإن أباه دعا له بالنماء والكثرة، فولد الصقالب والترك ويأجوج ومأجوج، وأمما عدد الرمل والحصا في مشارق الأرض، فأما سام: فبارك عليه فأشراف الناس من ولده منهم: العماليق، ومنهم الجبابرة، وفراعنة مصر، وملوك فارس، ومن ولد سام الأنبياء جميعا بعد نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ومن بعده إلى نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - فالعرب وفارس يتساوون في هذه الجملة، وتفضلها العرب بأنها من ولد إسماعيل بن إبراهيم، فهي أدنى من خليل الله دناوة وأمس به رحما.
ثم تتساوى العرب وفارس في أن الفريقين ملكوا، وتفضلها العرب بأن قواعد ملكها نبوة وقواعد ملك فارس استلاب وغلبة، وتفضلها العرب بأن ملكها ناسخ وملك فارس منسوخ، وتفضلها بأن ملكها متصل بالساعة، وملك فارس محدود، وتفضلها العرب بأن ملكها واغل في أقاصي البلاد، داخل في آفاق الأرض، وملك فارس شظية منه ليس فيه الشام ولا الجزيرة ولا خراسان في أكثر مددهم ولا اليمن إلا في أيام وهزر وسيف بن ذي يزن.
ومن عجب أمرهم أيضا فخرهم على العرب بآدم بقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا تفضلوني عليه؛ فإنما أنا حسنة من حسناته.» ثم بالأنبياء وهم من العجم إلا أربعة نفر: هود وصالح وشعيب ومحمد
صلى الله عليه وسلم ؛ وفي هذا القول وضع الفخر على غير أساس، ومن أسس بنيانه على الباطل والغرور أوشك أن يتداعى وأن يخر وظلم للعرب فاحش، ومنه ادعاؤهم آدم كأن العرب ليسوا من ولده، ومنه انتحالهم موسى وعيسى وزكريا، ويحيى وأشباههم من بني إسرائيل. وليس بين فارس وبين بني إسرائيل نسب على ما بينت لك، ومنه دفعهم العرب عن قربهم بهؤلاء الأنبياء وهم بنو عمومهم وعصبتهم؛ لأن العرب بنو إسماعيل بن إبراهيم بإجماع الناس، فهم بنو أخي إسحاق بن إبراهيم وأولى به وأحق بشرفه وأولى بموسى وعيسى وداود وسليمان وجميع الأنبياء من ولده. وقال الله تعالى:
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (آل عمران: 33)، قال إبراهيم: هم ولد إسحاق وولد إسماعيل، ثم قال:
ذرية بعضها من بعض (آل عمران: 34).
فأعلمنا أن العرب وبني إسرائيل شيء واحد في النسب، وفيما أوحى الله إلى موسى: إني سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي على فيه، يريد: أنه يقيم لهم من العرب نبيا مثل موسى يعني: نبينا محمدا
صلى الله عليه وسلم
وهذا علم من أعلامه وحجة من حججنا على أهل الكتاب من كتبهم؛ فإن قالوا في ذلك إنه يقيم لهم من بني إسرائيل نبيا مثل موسى. وقالوا: إن بني إسرائيل بعضهم إخوة بعض، أكذبهم النظر؛ لأنه لو أراد ذلك لقال لهم: من أنفسهم ومنهم كما أن رجلا لو أراد أن يبعث رسولا من خندف لم يقل سأبعث رسولا من إخوة خندف، فإن كان دفعهم ولد إسماعيل عن تشابك نسبهم بولد إسحاق لنزول إسماعيل الحرم ونكاحه في جرهم؛ فإن الديار قد تتناءى والمحال قد تتباين، والرجل قد ينكح في البعيد وقد يولد له من الإماء ولا تنقطع الأرحام والأنساب.
وإن كان إسماعيل نطق بالعربية فليس اختلاف الناس في الألسنة يخرجهم عن نسب آبائهم وإخوانهم وعشائرهم؛ فهؤلاء أهل السريانية قد خالفوا في اللسان أهل العبرانية وهذه الروم كفرت بالله ولا شيء أقطع للعصمة من الكفر وتكلمت بالرومية، ورغبت عن لسان آبائها وليس ذلك بمخرجها عن ولادة إسحاق بن إبراهيم، على أن إسماعيل لم يكن أول من نطق بالعربية، وإنما تعلمها وإنما أصل العربية لليمن؛ لأنهم من ولد يعرب بن قحطان. وكان يعرب أول من تكلم بالعربية حين تبلبلت الألسن ببابل، وسار حتى نزل اليمن في ولده ومن تبعه من أهل بيته، ثم نطق بعده ثمود بلسانه وشخص حتى نزل الحجر.
حدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي، قال: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: تسع قبائل قديمة: طسم، وجديس، وعهينة، وضجم - بالجيم وبالحاء - وجعم، والعماليق، وقحطان، وجرهم، وثمود.
وحدثني أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثنا ابن أبي الزناد عن رجل من جرهم قال: نحن بدء من الخلق لا يشاركنا أحد في أنسابنا، يقول من قدمنا فهؤلاء قدماء العرب الذين فتق الله ألسنتهم بهذا اللسان. وكانت أنبياؤهم عربا: هود، وصالح، وشعيب.
حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه سئل عن هود، أكان أبا اليمن الذي ولدهم قال: لا ولكنه أخو اليمن في التوراة، فلما وقعت العصبية بين العرب، وفخرت مضر بأبيها إسماعيل ادعت اليمن هودا ليكون لهم والد من الأنبياء. «قال»: وأما شعيب من ولد رهط من المؤمنين تبعوا إبراهيم لما هاجر إلى الشام، ولم يكن يثبت لهم نسب في بني إسرائيل، ولم تكن مدين قبيلة، ولكنها أمة بعث إليها فلما بوأ الله إسماعيل الحرم وهو طفل، وأنبط له زمزم، مرت به من جرهم رفقة؛ فرأوا ما لم يكونوا يعهدونه وأخبرتهم هاجر بنسب الصبي وحاله، وما أمر الله أباه فيه وفيها، فتبركوا بالمكان ونزلوه وضموا إليهم إسماعيل فنشأ معهم ومع ولدانهم ثم أنكحوه فتكلم بلسانهم فقيل نطق بالعربية إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب، كما تحذف أشياء من الزوائد وغير كما تغير أشياء عن أصولها، والدليل على أن أصل اللسان لليمن أنهم يقال لهم «العرب العاربة» ويقال لغيرهم «العرب المتعربة» يراد الداخلة في العرب المتعلمة منهم، وكذلك معنى التفعل في اللغة يقال: تنزر الرجل إذا دخل في نزار، وتمضر إذا دخل في مضر، وتقيس إذا دخل في قيس، وقال الشاعر:
وقيس عيلان ومن تقيسا
ولو كان كل من تعلم لسانا غير لسان قومه ونطق به خارجا من نسبهم لوجب أن يكون كل من نطق بالعربية من العجم عربيا «وسأقول في الشرف بأعدل القول وأبين أسبابه، ولا أبخس أحدا حقه، ولا أتجاوز به حده.» فلا يمنعني نسبي في العجم أن أدفعها عما تدعيه لها جهلتها، وأثني أعنتها عما تقدم إليها سفلتها، وأختصر القول وأقتصر على العيون والنكت ولا أعرض للأحاديث الطوال في خطب العرب وتعداد أيامها وفدات أشرافها على ملوك العجم ومقاماتها؛ فإن هذا وما أشبهه قد كثر في كتب الناس حتى أخلق ودرس حتى مل، لا سيما وأكثر هذه الأخبار لا طريق لها ولا نقلت من الثقاة المعروفين أيضا تخبر عن التكلف، وتدل على الصنعة، وأرجو ألا يطلع ذوو العقول وأهل النظر مني على إيثار هوى، ولا تعمد لتمويه، وما أتبرأ بعده من العثرة والزلة إلا أن يوفقني الله، وما التوفيق إلا به.
وعدل القول في الشرف أن الناس لأب وأم خلقوا من تراب وأعيدوا إلى التراب، وجروا في مجرى البول وطووا على الأقذار، فهذا نسبهم الأعلى يردع أهل العقول عن التعظيم والكبرياء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه تقوى الله. وكانت ماتته طاعة الله.
وأما النسب الأدنى الذي يقع فيه التفاضل بين الناس في حكم الدنيا؛ فإن الله خلق آدم من قبضة جميع الأرض، وفي الأرض السهل والحزن والأحمر والأسود والخبيث والطيب، يقول الله - عز وجل:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا (الأعراف: 58)، فجرت طبائع الأرض في ولده؛ فكان ذلك سببا لاختلاف غرائزهم، فمنهم: الشجاع، والجبان، والبخيل، والجواد، والحيي، والوقاح، والحليم، والعجول، والدمث، والعبوس، والشكور، والكفور، وسببا لاختلاف ألوانهم وهيآتهم فمنهم: الأبيض، والأسود، والأسمر، والأحمر، والأشقر، والوسيم، والخفيف على القلوب، والثقيل، والمحبب إلى الناس من غير إحسان، والمبغض إليهم من غير ذنوب. وسببا لاختلاف الشهوات والإرادات فمنهم: من يميل به الطبع إلى العلم، ومن يميل به إلى المال، ومن يميل به إلى اللهو، ومن يميل به إلى النساء، ومن يميل به إلى الفروسية.
ثم يختلفون أيضا في ذلك، فمنهم: من يسرع إلى فهمه الفقه ويبطئ عنه الحساب، ومنهم من يعلق بفهمه الطب وينبو عنه النجوم، ومنهم من يتيسر له الدقيق الخفي ويعتاص عليه الواضح الجلي، ومنهم من يتعلم فنا من العلم فيرسخ في قلبه رسوخ النقر في الحجر، ويتعلم ما هو أخف منه فيدرس دروس الرقم على الماء، ومن طلبة المال من يطلبه بالتجارة، ومن يطلبه بالجراية، ومن يطلبه بالسلطان، ومن يطلبه بالكيمياء، فيتلف بالطمع الكاذب والتماس المحال أثلة المال، ومن طلبة النساء من يريد المهفهفة، ومن يريد الضناك، ومن يريد الغرة الصغيرة، ومن يريد النصف الوثيرة، وأعجب من هذا من ربما حبب إليه العجوز؛ قال الشاعر:
عجوز عليها كبرة وملاحة
أقاتلتي يا للرجال عجوز
عجوز لو ان الماء ملك يمينها
لما تركتنا بالمياه نجوز
ومن لؤم الغرائز أن من الناس من يحب الذم كما يحب غيره المدح، ويرتاح للهجاء كما يرتاح غيره للثناء، ومنهم من يغرى بذم قومه وسب نفسه وآبائه وشتم عشيرته، منهم عميرة بن جعيل التغلبي، وهو القائل:
كسا الله حي تغلب ابنة وائل
من اللؤم أصفارا بطيئا نصولها
ومنهم الحرمازي، وهو القائل:
إن بني الحرماز قوم فيهم
عجز وتسليط على أخيهم
فابعث عليه شاعرا يخزيهم
يعلم منهم مثل علمي فيهم
ومنهم القحيف، وهو القائل في أمه:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها
أيما إلى جنة أيما إلى نار
ليست بشبعى ولو أسكنتها هجرا
ولا بريا ولو حلت بذي قار
تلهم الوسق مشدود أشظته
كأنما وجهها قد طلي بالقار
خرقاء في الخير لا تهدى لوجهته
وهي صناع الأذى في الأهل والجار
ومنهم الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه. فقال في أمه:
تنحي فاقعدي مني بعيدا
أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء مني
ولكن لا أخالك تعقلينا
أغربالا إذا استودعت سرا
وكانوا بأعلى المتحدثينا
وقال لأبيه:
لحاك الله ثم لحاك حقا
أبا ولحاك من عم وخال
فبئس الشيخ أنت على المخازي
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي
وأبواب السفاهة والضلال
وقال لنفسه:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله
وأتى عيينة بن النهاس العجلي مادحا. فقال عيينة لوكيله: اذهب معه إلى السوق، فلا يشيرن إلى شيء، ولا يسومن به إلا اشتريته له، فلما انصرف عنه قال:
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا
فسيان لا ذم عليك ولا حمد
ومن لؤم الغرائز أيضا في الناس، أن منهم: من يؤثر ريح الكرابيس على ريح اليلنجوج، وريح الحشوش على نفحات الورد، ويهتاج من النساء لذات القبح والدفر، ويكسل عن الحسناء ذات العطر، ومنها أن الرجل يكون في رخاء، بعد بؤس وسعة بعد ضيق فيسأم ما هو فيه، ويرغب عنه إلى ما كان عليه. وقال أعرابي قدم المصر فحسنت حاله:
أقول بالمصر لما ساءني شبعي
ألا سبيل إلى أرض بها جوع
ألا سبيل إلى أرض بها غرث
جوع يصدع منه الرأس برقوع
وهذا وأشباهه من لئيم الغرائز؛ كثير في الأمم، وهذه الطبائع هي أسباب الشرف وأسباب الخمول، فذو الهمة تسمو به نفسه إلى معالي الأمور، وترغب به عن الشائنات فيخاطر في طلب العظيم بعظيمته، ويستخف في ابتغاء المكارم بكريمته، ويركب الهول ويدرع الليل، ويحط إلى الحضيض، وتأبى نفسه إلا علوا حتى يسعد بهمته، ويظفر ببغيته، ويحوز الشرف لنفسه وذريته، ومن لا همة له جثامة لبد يغتنم الأكلة، ويرضى بالدون ويستطيب الدعة وإن أعدم لم يأنف من ذل السؤال.
والجبان يفر عن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، والشجاع يحمي من لا يناسبه بسيفه، ويقي الجار والرفيق بمحبته، والبخيل يبخل على نفسه بالقليل، والجواد يجود لمن لا يعرفه بالجزيل. وقال الله - عز وجل:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها (الشمس: 9، 10) يريد قد أفلح من أنمى نفسه بالمعروف وأعلاها، وقد خاب من أسقطها بلئيم الأخلاق وأخفاها. وقد يكون الرجل مخالفا لأبيه في الأخلاق، وفي الشمائل أو في الهمم أو في جميع ذلك لعرق نزعه من قبل أجداده لأبيه وأمه. وقال الشاعر:
وأشبهت جدك شر الجدود
والعرق يسري إلى النائم
ومن الناس الشريف الحسيب، وذلك الذي جمع إلى محاسن آبائه محاسن نفسه، ومنهم الشريف ولا حسب له، وذلك إذا كان لئيم النفس، ومنهم من لا شرف له ولا حسب، وذلك إذا كان لئيم النفس لئيم السلف.
وقال قس بن ساعدة: لأقضين بين العرب قضية ما قضى بها أحد قبلي، ولا دبرها أحد بعدي «أيما رجل رمى رجلا بملامة دونها كرم ، فلا لؤم عليه وأيما رجل ادعى كرما دونه لؤم فلا كرم له.» يعني: أن أولى الأمور بالمرء خصاله في نفسه؛ فإن كان شريفا في نفسه وآباؤه لئام لم يضره ذلك. وكان الشرف أولى به، وإن كان لئيما في نفسه وآباؤه كرام لم ينفعه ذلك.
ومثله قول عائشة: كل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به. وقال الشاعر في مثله:
ومن يك ذا لؤم ومجد يعده
فأولى به من ذاك ما كان أقربا
فلا لؤم عودا بعد مجد يهده
ولا مجد معدود إذا اللؤم عقبا
والحسب مأخوذ من قولك حسبت الشيء أحسبه حسبا، إذا عددته، وكان الرجل الشريف يحسب مآثر آبائه ويعدهم رجلا رجلا، فيقال: لفلان حسب أي آباء يعدون وفضائل تحسب، فالمصدر مسكن والاسم مفتوح، كما تقول: هدمت الحائط هدما فتسكن المصدر، وتقول لما سقط إلى الأرض: هدم فتفتح الدال من الاسم، وكذلك الأمم فيها أمة كرم بلبانها كالعرب؛ فإنها لم تزل في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمم وتتعاير بالبخل والغدر والسفه، وتتنزه من الدناءة والمذمة وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة، وتوجب للجار من حفظ الجوار، ورعاية الحق فوق ما توجبه للحميم والشفيق، فربما بذل أحدهم نفسه دون جاره ووقى ماله بماله وقتل حميمه، منهم كعب بن مامة. وكان إذا جاوره جار، فمات بعض لحمته وداه، وإذا مات له بعير أو شاة أعطاه مكان ذلك مثله، ومنهم عمير بن سلمى الحنفي أحد أوفياء العرب. وكان له جار فخالفه أخوه قرين إلى امرأته، فاشتد الرجل في حفظ امرأته فقتله. وكان عمير غائبا فلما قدم وخبر بذلك دفع قرينا إلى ولي المقتول، فقتله واعتذر إلى أمه وعظم جرمه. فقالت:
تعد معاذرا لا عذر فيها
ومن يقتل أخاه فقد ألاما
ومن أعجب أمر في الجوار قصة أبي حنبل، حارثة بن مر. وكان الجراد سقط بقرب بيته فقصد الحي لصيده، فلما رآهم قال: أين تريدون، قالوا: نريد جارك هذا. فقال: أي جيراني، قالوا: الجراد. فقال: أما إذ جعلتموه لي جارا، فوالله لا تصلون إليه، ثم منع منه حتى انصرفوا، ففخر بعضهم. فقال:
لنا هضبة ولنا معقل
صعدنا إليه بصم الصعاد
ملكناه في أوليات الزمان
من بعد نوح ومن بعد عاد
ومنا ابن مر أبو حنبل
أجار من الناس رجل الجراد
وزيد لنا ولنا حاتم
غياث الورى في السنين الشداد
وقال قيس بن عاصم، يذكر قومه:
لا يفطنون لعيب جارهم
وهم لحفظ جواره فطن
وقال مسكين الدارمي:
ناري ونار الجار واحدة
وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جارا لي يجاورني
أن لا يكون لبابه ستر
وقال الحطيئة يعد محاسن قومه:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جروا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها
وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
ولهم الضيافة عامة شاملة في جميع البادين منهم، والإيثار على النفس والجود بالموجود، وأفضل العطاء جهد المقل.
وقال عثمان بن أبي العاص: لدرهم يخرجه أحدكم من جهد، فيضعه في حق خير من عشرة آلاف درهم يخرجها أحدنا غيضا من فيض. ولولا ما تواصوا به من الضيافة، وتحاضوا عليه من الإيثار لمات الخير وأبدع به دون غايته. وقال أرطاة بن سهية:
وما دون ضيفي من تلاد تحوزه
إلى النفس إلا أن تصان الحلائل
وقال ابن أبي الزناد: قال عبد الملك بن مروان: ما يسرني أن أحدا من العرب ولدني إلا عروة بن الورد؛ لقوله:
وإني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إناؤك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى
بجسمي مس الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
يريد أنه يقسم قوته على أضيافه، فكأنه قسم جسمه؛ لأن اللحم الذي ينبت ذلك الطعام يصير لغيره، ويحسو قراح الماء في الشتاء، ووقت الجدب والضيق؛ لأنه يوثر باللبن، فتوقف على هذا الشعر، وعلى ما فيه من شريف المعاني. وقال آخر:
إذا ما عملت الزاد فالتمس له
أكيلا فإني غير آكله وحدي
بعيدا قصيا أو قريبا فإنني
أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
فكيف يسيغ المرء زادا وجاره
خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد
ولعل الطاعن أن يقول في هذا الموضوع: فأين هو من ذكر مزرد وحميد الأرقط وهجائهما للأضياف؟! وأين هو من مطاعمهما الخبيثة من الحيات والضباب واليرابيع والعلهز وشربهم الفظ والمجدوح وأكل مياسرهم لحوم الإبل، حنيذا غير نضيج ونيئا والعروق والعلابي وسقط المائدة لا يعافون شيئا، ولا يقتذرون أكل السباع ونهش الكلاب ويفخر عليهم بأطعمة العجم وحلوائها وآدابها على الطعام، وكلها باليارحين والسكين؟! فأما هذان الشاعران اللذان يهجوان الأضياف، ويصفانهم بكثرة الأكل وجود اللقم؛ فإن أحدهما كان فقيرا ضعيف الحال، فإذا نزل به الضيف لم يجد بدا من إيثاره بقليل ما عنده أو مشاركته فيه، فيبيت طاويا ويصبح جائعا، ويجيش صدره بما حل به، والشاعر بمنزلة المصدور، لا بد له من أن ينفث فيستريح إلى ذكر لقم الضيف، ووصف أكله وحديثه، قال هو أو غيره يذكر الضيف:
تجهز كفاه ويحدر حلقه
إلى الزور ما ضمت إليه الأنامل
يقول وقد ألقى المراسي للقرى
أبن لي ما الحجاج بالناس فاعل
فقلت له ما إن لهذا طرقتنا
فكل ودع الأخبار ما أنت آكل
أتانا ولم يعدله سحبان وائل
بيانا وعلما بالذي هو قائل
وقال أيضا يذكر الأضياف:
باتوا وجلتنا الشهرين بينهم
كأن أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم
وليس كل النوى يلقى المساكين
أراد من الأضياف من يأكل التمر بالنوى، وهذا يدل على شدة فقره، وأما مزرد فكان شرها منهوما والشره رفيق البخل، وهو القائل:
لبكت بصاعي صاع عجوة
إلى صاع سمن فوقه يتريع
فقلت لبطني أبشري اليوم أنه
حوى أمنا مما تحوز وترفع
فإن يك مصبورا فهذه ادواؤه
وإن يك غرثا نافذا يوم يشبع
وقال الحطيئة:
أعددت للضيفان كلبا ضاريا
عندي وفضل هراوة من أرزن
ومعاذرا كذبا ووجها باسرا
وتشكيا عض الزمان الألزن
وهذا شر القوم وليس من الناس صنف، إلا وفيه الخير والشر، على ذلك أسست الدنيا وعليه درج الناس. ولولا أحدهما ما عرف الآخر، وإنما يقضى بأغلب الأمور ويحكم بأشهر الأخلاق. وليس في ثلاثة من الشعراء أو أربعة ما هدر مكارم أخلاق آلاف من الناس وبدد صنعاءهم؛ فهذا كعب بن مامة آثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري حتى مات عطشا، وهذا حاتم الطائي قسم ما له بضع عشرة مرة، ومر في سفره على عنزة وفيهم أسير فاستغاث به، ولم يحضره شيء فاشتراه من العنزيين فخلاه، وأقام مكانه في القيد حتى أدى فداءه، وكل فخر في طي فهو راجع إلى نزار، ولهم الجبلان وهما بنجد وأخذهم بآدابهم وتخلقهم بأخلاقهم.
وهذا عدي شاطر ابن دارة الشاعر ماله، وهذا معن في الإسلام كان يقال فيه حدث عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج، وأتاه رجل يستحمله. فقال: يا غلام، أعطه فرسا وبرذونا وبغلا وعيرا وبعيرا وجارية. ولو عرفت مركوبا غير هذا لأعطيتكه، وهذا نهيك بن مالك بن معاوية باع إبله وانطلق بأثمانها إلى منى فأنهبها، والناس يقولون مجنون. فقال:
لست بمجنون ولكني سمح
أنهبكم مالي إذا عز القمح
وهذا شيء يكثر جدا ويتسع القول فيه، ويخرج الكتاب من فنه باستقصائه، وكان غرضنا في هذا الكتاب أن ننبه بالقليل من كل شيء في عيون الأخبار، وأما تعييرهم إياهم بخبيث المطعم كالعلهز والحيات وخبيث المشرب كالفظ والمجدوح؛ فإن هذا وأشباهه طعام المجاوع والضرورات وطعام نازلة الفقر والفلوات. وقال الشاعر:
إذا السنة الشهباء حل حرامها
يريد أنهم يأكلون فيها الميتة. وقال الراعي:
إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها
وقد يكرم الأضياف والقد يشتوى
وإنما كان يكون هذا عيبا، لو كانت العرب مختارة له في حالة اليسر، كما تختار بعض العجم الذباب، وبهم عنه غنى، والسراطين والدجاج لهم معرضة، فأما حال الضرورة، فالناس كلهم يعسرون فمن لم يجد اللحم أكل اليربوع والضب، ومن لم يجد الماء شرب المجدوح والفظ.
قال الأصمعي: أغير على إبل حريثة، فذهب فركب بحيرة، فقيل: أتركب الحرام، فقال: يركب الحرام من لا حلال له. وقال الشاعر:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع
كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
ومما يدلك على أن أهل الثروة منهم على خلاف ما عليه الصعاليك، والغثر قول الشاعر:
فما لحم الغراب لنا بزاد
ولا سرطان أنهار البريض
فانتفى من أكل لحوم الغربان، وعير بها قوما.
وقال آخر لامرأته:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فلو كان شرب المجدوح عنده محمودا لم يجعل يمينه شرب الدم، كما يقول القائل شركت بالله إن لم أفعل كذا وكذا.
وقال آخر:
نعاف وإن كانت خماصا بطوننا
لباب النقي والعجاب المجردا
يريد أنه يرغب، وإن كان جائعا عن أكل الخبز بالتمر، إلى أكله بالشحم، ونزل رجل من العرب فقدم إليه جراد فعافها، وأنشأ يقول:
لحى الله بيتا ضمني بعد هجعة
إليه دجوجي من الليل مظلم
فأبصرت شيخا قاعدا بفنائه
هو العير إلا أنه يتكلم
أتاني بيرقان الدبا في إنائه
ولم يك في مرق الدبا لي مطعم
فقلت له غيب إناءك واعتزل
فهل ذاق هذا لا أبا لك مسلم
وأما أكلهم العلابي والعروق واللحم النيء، وتركهم طيبة الأطعمة والأطبخة وحسن الأدب عند الأكل؛ فهذا لعمري هو الأغلب على من غلب عليه الفقر، فأما ذوو النعمة واليسار والأقدار، فقد كانوا يعرفون أطايب الطعام ويأكلونها، ويأخذون بأحسن الأدب عليها.
فالمضيرة لهم، واسمها يدلك على ذلك، تطبخ باللبن الماضر وهو الحامض، فاشتق اسمها منه.
والهريسة لهم سميت بذلك؛ لأنها تهرس؛ أي تدق، ويقال للمدق: المهراس.
والوشيقة لهم والعامة تسميها العشيقة، سميت بذلك؛ لأنها توشق، أي: تقطع صغارا.
والعصيدة لهم سميت بذلك؛ لأنها تعصد إذا عملت، أي: تلوى وكل شيء ألويته فقد عصدته، ومنه قيل للمائل عنقه عاصد. وقال مزرد:
لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة
إلى صاع سمن فوقه يتريع
وهذا هو العصيدة. وقال أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان:
له داع بمكة مشعل
وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزى ملاء
لباب البر يلبك بالشهاد
وهذا هو الفالوذ ، وهم أوصف الناس للطعام، وألطفهم في ذكره.
حدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي، قال: حدثنا أبو طفيلة، قال: حدثنا شيخ من أهل البادية، قال: ضفنا فلانا بحنطة كأنها مناقير النغران، وتمر كأنها أعناق الورلان يوحل فيها الضرس.
وحدثنا الأصمعي أيضا عن أعرابي أنه قال: تمرنا خرس فطس يغيب فيه الضرس، كأن نواهن ألسن الطير تضع التمرة في فيك، فتجد حلاوتها في كعبك.
وحدثني عبد الرحمن عن عمه قال: قال شيخ من أهل المدينة: فأتاني بمرقة كان فيها مشقا، فلم أر إلا كبدا طافية فغمست يدي، فوجدت مضغة فمددتها فامتدت حتى كأني أزمر في ناي، ولهم أطبخة كثيرة ومن أطبختهم الغسانية، وهي لا تعرفها عامتنا كالحيسة والربيكة والخزيرة واللفيتة، تركت ذكرها واقتصرت على ما تعرف. وكانوا يقولون: أطيب اللحم عوذه: يريدون أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذبه. وكانوا يقولون إذا أكلتم فسموا وادنوا يريدون ب «ادنوا»: كلوا مما بين أيديكم. وكانوا يكرهون أكل الدماغ ويرون استخراجه رغبا وحرصا. وقال قائلهم:
ولا يتقي المخ الذي في الجماجم
ومن قبائل العرب من يعاف إلية الشاة، ويقولون هي طبق الاست. وقال قائلهم:
وللموت خير من زيادة باخل
يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وكانوا يمدحون بقلة الأكل. وقال أعشى باهلة:
تكفيه حزة فلذان ألم بها
من الشواء ويروي شربة الغمر
ويعيبون بالشره والنهم والكسل، ويقولون للبخيل الأكول أبرما قرونا، يريد أنه لا يخرج مع أصحابه ماشيا ويأكل تمرتين، وأهل البرم الذي لا يسير مع القوم. وقال بعض الرجاز:
تسألنا عن بعلها أي فتى
خب جبان وإذا جاع بكى
لا حطب القوم ولا القوم سقى
ولا ركاب القوم إن ضلت بغى
ويأكل التمر ولا يلقي النوى
ولا يواري فرجه إذا اصطلى
كأنه غرارة ملاي حثا
وقال الأحنف: جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام؛ فإني أبغض أن يكون الرجل وصافا لبطنه وفرجه.
وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه. وقال قائلهم: أقلل طعاما، تحمد مناما. وقال أيضا: غلبت بطنتي فطنتي.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية يوم حكم الحكمان: أكثروا الطعام، فوالله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا.
ومثل هذا كثير لمن تتبعه، فكيف تكون المعرفة بالطعام والأدب عليه إلا كما وصفنا.
فأما تركهم إنضاج اللحم، فلا أعلمه إلا في موضع واحد، وهو إذا سافروا أو غزوا فإنهم يتمدحون بترك الإنضاج لعجلة الزماع. وقال الشماخ:
وأشعث قد قد السفار قميصه
يجز الشواء بالعصا غير منضج
وقال الكميت:
ومرضوفة لم تون في الطبخ طاهيا
عجلت إلى محورها حين غرغرا
ولم يزل الشرب إذا اجتمعوا الأحداث من أولاد الملوك، وغيرهم يبادرون بالنشيل قبل النضج.
قال أعرابي نحر بعيره وشرب:
عللاني إنما الدنيا علل
ودعاني من ملام وعذل
وانشلا ما اغبر من قدريكما
واسقياني أبعد الله الحجل
وأما أكلهم سقط المائدة؛ فإنه إكرام للطعام وإعظام للنعمة، وجنس من الشكر لواهبها، ونبذه في المزابل استخفاف به، وتصغير له وبخس بمؤتيه حق عطيته، ومن وهب لك شيئا صنته وعظمته؛ سمحت لك نفسه بالزيادة منه، وإن احتقرته وازدريته كان حريا أن يقطعه، والطعام أعظم نعم الله على خلقه بعد معرفته؛ لأنه مثبت الروح وممسك الرمق، فمن صانه فقد عظم نعمة الله، واستوجب زيادة الله ومن امتهنه في غير ما خلق له، فقد صغرها واستوجب سخط الله.
حدثنا يزيد بن عمرو قال: حدثنا أيوب بن سليمان عن محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: ولا أعلمه إلا عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «أكرموا الخبز؛ فإن الله سخر له السموات والأرض.» وقد أمرنا
صلى الله عليه وسلم
بأكل سقط المائدة، ورغبنا فيه.
والعجب عندي من قوم نحلتهم الإسلام، ونبيهم محمد
صلى الله عليه وسلم
تتابعت الأخبار عنه بشيء أمر به أو نهى عنه، فيعارضون ذلك بالعيب والطعن من غير أن يعرفوا العلة، ولا أن يكون لهم في الإنكار له نفع، أو عليهم في الإقرار به ضرر.
وأما أكلهم باليارحين والسكين فمفسد للطعام ناقص للذته، والناس يعلمون - إلا من عاند منهم. وقال بخلاف ما تعرفه نفسه - أن أطيب المأكول، ما باشرته كف آكله؛ ولذلك خلقت الكف للبطش، والتناول . والتقذر من اليد المطهرة ضعف وعجب. وأولى بالتقذر من اليد الريق والبلغم والنخام الذي لا يسوغ الطعام إلا به، وكف الطباخ والخباز تباشره، والإنسان ربما كان منه أقل تقذرا وأشد أنسا.
وأما الشجاعة؛ فإن العرب في الجاهلية أعز الأمم أنفسا، وأعزها حريما وأحماها أنوفا وأخشنها جانبا. وكانت تغير في جنبات فارس، وتطرقها حتى تحتاج الملوك إلى مداراتها وأخذ الرهن منها، والعجم تفخر بأساورة فارس ومرازبتها، وقد كان لعمري لهم البأس والنجدة، غير أن بين العرب وبينها في ذلك فرقا منه: أن العجم كانت أكثر أموالا وأجود سلاحا وأحصن بيتا وأشد اجتماعا. وكانت تحارب برياسة ملك وسياسة سلطان، وهذه أمور تقوي المنة، وتشد الأركان وتؤيد القلوب، وتثبت الأقدام، والعرب يومئذ منقطعة ليس لها نظام، ومتفرقة ليس لها التئام، وأكثرها يحارب راجلا بالسيف الكليل والرمح الذليل، والفارس منها يحارب على الفرس العربي الذي لا سرج له، وعلى السرج الرث الذي لا ركاب له، والأغلب على قتال العجم الرمي، والأغلب على قتال العرب السيف والرمح، وهما أدخل في الجد وأبعد من الفرار، وأدل على الصبر.
وشجعاؤهم في الجاهلية، مثل: عتيبة بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس، وبسطام بن قيس، وبجير وعفاف ابني أبي مليل، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن ود وأشباههم، وفي الإسلام مثل: الزبير وعلي وطلحة ورجال من الأنصار، وعبد الله بن حازم السلمي، وعباد بن الحصين. وقال: ما ظننت أن أحدا يعدل بألف فارس، حتى رأيت عبادا ليلة كابل وقطري بن الفجاءة وشبيبا الحروري، وأمثال هؤلاء عدد الرمل والحصى ليس منهم أحد، إذا أنت توقفت على أخباره وحاله في شجاعته، إلا وجدته فوق كل أسوار والرجليون للعرب خاصة.
قال أبو عبيدة: رجليو العرب المشهورون: المنتشر بن وهب الباهلي، وسليك بن عمير السعدي، وأوفى بن مطر المازني. وكان الرجل منهم يلحق بالظبي، حتى يأخذ بقرنيه، وإذا كان زمان الربيع جعلوا الماء في بيض نعام مثقوب ثم دفنوه، فإذا كان الصيف وانقطع الغزو غزوا، وهم أهدى من القطا، فيأتون على ذلك البيض، ويستثيرونه ويشربونه.
وحدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي أن السليك كان يعدو فتقع سهامه من كنانته بالأرض فترتز. وكان يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، وأما الهيبة فلا هيبة.»
وقرأت في كتب العجم أن «بهرام جور» كان في حجر ملك العرب بالبادية، فلما بلغه هلاك أبيه، وأن الفرس عزموا على أن يملكوا غيره سار بالعرب، حتى نزل السواد وطالبهم بالملك وجادلهم عنه، حتى اعترفوا له بالحق وملكوه.
وقد كان كسرى أغزى بني شيبان جيشا، فاقتتلوا بذي قار، فهزمت بنو شيبان أساورة كسرى، فهو يوم ذي قار، ثم كان من أمر العرب وأمر فارس، حين جمعهم الله لقتالهم بالإمام، وساسهم بالتدبير ما لا حاجة بنا إلى الإطالة بذكره لشهرته.
ومما يدلك على تعزز القوم في جاهليتهم وأنفتهم وشدة حميتهم، أن أبرويز ملك فارس وأشدها سطوة وإثخانا في البلاد خطب إلى النعمان بن المنذر، إحدى بناته فرده رغبة بها عنه، ولم يزل هاربا منه، حتى ظفر به فقتله.
وكان لقريش بيت الله الحرام العتيق من الجبابرة المنصور بالطير الأبابيل، لم يزالوا ولاته وسدنته والقائمين لأموره والمعظمين لشعاره. وكان يقال لهم أهل الله وجيران الله؛ لنزولهم الحرم وجوارهم البيت. وكان فيهم بقايا من الحنيفية يتوارثونها عن إسماعيل
صلى الله عليه وسلم
منها حج البيت الحرام وزيارته والختان والغسل، والطلاق والعتق وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر.
وقد كان حاجب بن زرارة وفد على كسرى، فرأى العجم ينكحون الأخوات والبنات فسولت له نفسه التأسي بهم، والدخول في ملتهم فنكح ابنته، ثم ندم على ذلك فقال:
لحا الله دينك من أغلف
يحل الأخوات لنا والبنات
أجشت على أسرتي سوءة
وطوقت جيدي بالمخزيات
وأبقيت في عنقي سبة
مشاتم يحيين بعد الممات
فتاة تجللها شيخها
فبئس الشيخ ونعم الفتاة
ومما كان بقي فيهم من الحنيفية إيمانهم بالملكين الكاتبين، حدثني بعض أصحابنا عن عبد الرحمن بن خالد الناقد، قال: كان الحسن بن جهور مولى المنصور خرج إلى بعض ولد سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب كتابا، كان لعبد المطلب بن هاشم كتبه بخطه، فإذا هو مثل خط النساء، وإذا هو: باسمك اللهم، ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري من أهل أول صنعاء عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه شهد الله بذلك والملكان: وقال الأعشى:
ولا تحسبني كافرا لك نعمة
على شاهدي يا شاهد الله فاشهد
قوله على شاهدي؛ أي على لساني شاهد الله، يعني: الملك.
ومن ذلك أحكام كانت في الجاهلية أقرها الله في الإسلام، لا يبعد أن تكون من بقايا دين إسماعيل - عليه السلام - منها دية النفس مائة من الإبل، ومنها اتباع حكم المبال في الخنثى، ومنها البينونة بطلاق الثلاثة، وللزوج على المرأة في الواحدة والاثنين، فهذه حالها في الجاهلية مع أحوال كثيرة في العلم والمعرفة، سنذكرها بتمامها بعد - إن شاء الله - ثم أتى الله بالإسلام، فابتعث منها النبي
صلى الله عليه وسلم
سيد الأنبياء، وخاتم الرسل وناسخ كل شرعة وحائز كل فضيلة، ونشر عددها وجمع كلمتها وأمدها بملائكته، وأيدها بقوته ومكن لها في البلاد وأوطأها رقاب الأمم، وجعل فيها خلافة النبوة، ثم الإمامة خالدة تالدة حتى يأتي المسيح - عليه السلام - فيصلي خلف الإمام منها فاردة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها.
وخاطبها وهي يومئذ لا عجم فيها. فقال:
كنتم خير أمة أخرجت للناس ، فلها فضل هذا الخطاب والأمم طرا داخلة عليها فيه، وأما قوله لبني إسرائيل:
فضلتكم على العالمين (البقرة: 122)؛ فإنه من باب العام الذي أريد به الخاص، كقوله حكاية عن إبراهيم:
وأنا أول المسلمين (الأنعام: 163)، وحكاية عن موسى:
وأنا أول المؤمنين (الأعراف: 143)، وقد كانت الأنبياء قبلهما مؤمنين ومسلمين؛ فإنما أراد موسى زمانه، وكذلك قوله:
فضلتكم على العالمين
يريد على زمانهم، وقوله لقريش:
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم (الدخان: 37)، ليس فيه دليل على أن أهل اليمن خير من قريش في الحسب، ولا أنهم مثلهم وهم من ولد إبراهيم - عليه السلام - ومن الذرية التي اصطفى الله على العالمين. وليس لليمن والد من الأنبياء دون نوح، وإنما خاطب الله بها مشركي قريش، ووعظهم بمن قبلهم من الأمم الهالكة لمعصيته، وحذرهم أن ينزل بهم مثل ما أصابهم. فقال:
أهم خير
من أولئك الذين كانت فيهم التبابعة والملوك ذوو الجنود، والعدد فأهلكناهم بالذنوب، والخير قد يقع في أسباب كثيرة، يقال هذا خير الفارسين يريد أجلدهما، وهذا خير العودين يريد أصلبهما. وكانت قريش - كما قال الله - قليلا فكثرهم، ومستضعفين فأيدهم بنصره، وخائفين أن تتخطفهم الملوك فآمنهم بحرمه، بما رهصه لهم وأراد من تمكينهم وإعلاء كلمتهم وإظهار نوره لهم، وتغيير ممالك الأمم لهم، ومن ذا من المسلمين يصح إسلامه ويصح عقده يقدم على قريش أو يعادل بها.
وقد قضى الله لها بالفضل على جميع الخليقة؛ إذ جعل الأئمة منها والإمامة فيها مقصورة عليها، ألا تكون لغيرها، والإمامة هي التقدم، وهذا نص ليس فيه حيلة لمتأول، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «الأئمة من قريش.» وروى وكيع عن الأعمش عن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «الناس تبع لقريش في الخير والشر.» وروى وكيع عن سفيان عن ابن خثيم، عن إسماعيل، عن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن قريشا أهل صبر وأمانة، فمن بغاهم الغوائل كبه الله لوجهه يوم القيامة.» وروي عن عبد الأعلى عن معمر، عن الزهري عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «تعلموا من قريش ولا تعلموها.» وقدموا قريشا ولا تؤخروها، وروى يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب، عن الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن عبد الرحمن عن جبير بن مطعم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن للقرشي قوة رجلين من غير قريش.» قيل للزهري: ما عنى بذلك؟ قال: فضل الرأي، قال: وكان يقال: قريش الكتبة الحسبة ملح هذه الأمة، علم عالمها طباق الأرض.
وحدثني يزيد بن عمرو عن محمد بن يوسف، عن أبيه عن إبراهيم عن مكحول أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا يقومن أحد إلا لهاشمي.»
وحدثني يزيد بن عمرو، قال: حدثنا نصر بن خلف الضبي، قال: حدثنا علي بن عبد الله بن وثاب المدني عن مطرف بن خويلد الهذلي، قال: سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رجلا وهو يقول:
إني امرؤ حميري حين تنسبني
لا من ربيعة آبائي ولا مضر
فقال: ذاك أصرع لخدك، وأبعد لك من الله ورسوله.
وحدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا أبو زيد شجاع بن الوليد، قال: حدثنا أبو قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن سلمان قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يا سلمان، لا تبغضني فتفارق دينك.» قال: قلت يا رسول الله، كيف أبغضك وبك هداني الله؟! قال: «لا تبغض العرب فتبغضني.»
وروى محمد بن بشر العبدي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن عن حصن بن عمير، عن مخارق بن عبد الله بن جابر، عن طارق بن شهاب، عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي.»
وروى حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن المؤمل، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا اختلف الناس فالحق في مضر.»
وروى أبو نعيم، عن الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة والمطلب بن ربيعة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقا فجعلني في خيرهم فرقة، وخلق قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا.»
ثم يتلو العرب في شرف الطرفين أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة؛ فإنهم لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا لا يؤدون إلى أحد إتاوة ولا خراجا. وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ، ثم نزلوا بابل ثم نزل «أزدشير بابك» فارس، فصارت دار ملكهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة، وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بهرام ملك فارس. وكان غزاهم فكادوه في طريقه بمكيدة، حتى سلك سبيلا معطشة مهلكة، ثم خرجوا إليه فأسروه وأكثر أصحابه، فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من أسر معه وأعطاهم موثقا من الله ألا يغزوهم، ولا يجوز حدودهم ونصب حجرا بينه وبين بلدهم جعله الحد الذي حلف عليه وأطلقوه. فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة والحمية بما أصابه، فعاد لغزوهم ناكثا لأيمانه غادرا بذمته، وحمل الحجر الذي كان نصب أمامه في مسيره بتأول أنه ما تقدم الحجر فإنه لم يجزه، فلما سار إليهم ناشدوه الله وأذكروه ما جعل على نفسه من عهده وذمته، فأبى إلا لجاجا ونكثا فواقعوه فقتلوه وقتلوا حماته وكماته، واستباحوا عسكره، وأسروا ضعفته ولبثوا في أيديهم أسرى، ثم أعتقوهم وأطلقوهم وغبروا بعد ذلك زمانا طويلا، وقتلوا كسرى بن فيروز وهذا شيء يخبر به عن فارس، فيما دونوا في سير ملوكهم من أخبارهم، ومن أقر بهذا على نفسه لعدوه وأباحه لخصمه، فما ظنك بما ستر ورين من أمره.
وكان فيما حكوا من الكلام الدائر بين ملك الهياطلة، وبين فيروز؛ كلام أحببت أن أذكره في هذا الموضع، لأدل به على حكمة القوم وحزمهم في الأمور، وعلمهم بمكايد الحروب، قالوا: لما التقى الفريقان، ثم تصافوا للقتال أرسل أخشنوار ملك الهياطلة إلى فيروز أن يسأله أن يبرز فيما بين الصفين ليكلمه فخرج إليه. فقال أخشنوار: قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنف، مما أصابك.
ولعمري لئن كنا احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه، وما ابتدأناك ببغي ولا ظلم، ولا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا، ولقد كنت جديرا أن تكون من سوء مكافأتنا عليك، وعلى من معك. ونقض العهد والميثاق الذي أكدت على نفسك؛ أعظم أنفا وأشد امتعاضا مما نالك منا؛ فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى، ومننا عليكم وأنتم مشرفون على الهلكة وحقنا دماءكم وبنا على سفكها قدرة، وإنا لم نجبرك على ما شرطت لنا، بل كنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه.
ففكر في ذلك ومثل بين هذين الأمرين، فانظر أيهما أشد عارا وأقبح سماعا، أن طلب رجل أمرا فلم يتح له، وسلك سبيلا فلم يظفر فيها ببغية، واستمكن منه عدوه على حال جهد منه وضيقه ممن معه، فمن عليهم وأطلقهم على شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه، فاصطبر لمكروه القضاء، واستحيا من الغدر والنكث، أم أن يقال: نقض العهد وختر بالميثاق؟
مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما تراه من حسن عدتهم، وما أجدني أشك في أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم، عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق، ودعوتهم إلى ما يسخط الله، فهم في حربنا غير مستبصرين ونياتهم اليوم في مناصحتك مدخولة، فانظر ما غناء من يقاتل على هذه الحالة، وما عسى أن تبلغ نكايته في عدوه، إذا كان عارفا أنه إن أظفر فمع عار، وإن قتل فإلى النار.
فأنا أذكرك الله الذي جعلته على نفسك كفيلا، ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشرافكم على الممات، وأدعو إلى ما فيه حظك، ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوا أو كرهوا، فاحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره.
ومع ذلك إنك لست على ثقة من الظفر بنا، والبلوغ لبغيتك فينا، وإنما تلتمس منا أمرا نلتمس منك مثله، وتبادئ عدوا لعله يمنح النصر عليك، فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك ببالغ لك أكثر منها، ولا زائد لك عليها، ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني؛ فإنه لا يزري بالمنافع عند ذوي الرأي أن تكون من الأعداء، كما لا يحبب المضار إليهم أن تكون على أيدي الأولياء، ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه، ووثقنا بما جعلت لنا من عهده، إذا استظهرت بكثرة جنودك وازدهتك عدة أصحابك، واعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مقالتي ضعف أحسه من نفسي ولا قلة من جنود، ولكني أحببت أن أزداد بك حجة واستظهارا وأزداد به للنصر. ا.ه.
القسم الثامن
رسالة رشيد الدين الوطواط
فيما جرى بينه وبين الإمام الزمخشري من المحاورات عني بنشرها أحمد بك تيمور
رسالة رشيد الدين الوطواط
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب العلامة رشيد الدين محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري، الشهير بالوطواط، إلى الإمام سديد الدين بن نصر الحاتمي:
طلبت مني زينك الله تعالى بأنوار المزايا، وحماك من كل حادثة ملمة، وكل طارقة مهمة، ولا أخلاك من فخر تجتلبه، وجميل ذكر تكتسبه، وجزيل أجر تحتسبه، وأثر جهل تجتنبه؛ أن أهدي إليك، وأملي عليك، ما قال جار الله - سقى الله ثراه - في كتاب الكشاف في وجه انتصاب شهر رمضان، وما قلته من الاعتراض على كلامه واستبعاد مدعاه عن مرامه، مما جرى بيني وبين أعز أصحابه أفضل القضاة يعقوب الجندي من السؤال والجواب، وها أنا مطبق فيما أقوله مفصل السداد والصواب، وقد ذهب من عندي إلى جار الله وأخبره بما قلت، فأنصف وأنصت وأبدى خضوعا لاستماع الصدق واتباع الحق.
وقال له:
ذكرني هذا الأمر بعض أيام فراغي، حتى أصلح من كتابي هذا الفصل، وأغير هذا القول؛ فإنه غلط شنيع وخطأ فظيع، إلا أنه مرض في تلك المدة ونزلت به المنية، وما حصلت تلك المنية.
وقد علم كل من شاهد أحوالي مع جار الله أني كنت عنده معظم القدر ومفخم الأمر، مقبول الكلمات متبوع الإشارات، لم ير مني كلمة في أي علم إلا قيدها ببنانه، وضبطها في جنانه، وأثبتها في دفاتره، وأحكمها في خواطره، وعدها غنيمة من غنائم عمره، وتميمة من تمائم نحره: وقد جرى بيني وبينه في حياته، وأوقات راحاته، مما يتعلق بفنون الأدب، وأقسام علوم العرب مسائل أكثر من أن يحصى عددها أو يستقصى أمدها رجع فيها إلى كلامي، ونزل على قضيتي وأحكامي، فالسعيد من إذا سمع الحق سكتت شقاشق لجاجه، وسكنت صواعق حجاجه.
فمنها مسألة «الظبي التي هي جمع ظبة»؛ فإنه كتب بخطه أنها من ذوات الياء وأصلها ظبية، فقلت أنا: إنها من ذوات الواو، وأصلها ظبوة، فلما امتدت المناظرة واشتدت المذاكرة، بعثت إليه كتاب الصحاح يصدق قولي، فهجن الكتاب. وقال: إنه محشو بالتحريفات مشحون بالتصحيفات، فبعثت إليه سر الصناعة لابن جني. فقال: هو رجل وأنا رجل فبعثت إليه كتاب العين فوضع للحق عنقه، وسلك مناهج الإنصاف وطرقه، واسترد خطه ومزقه تمزيقا، وخرقه تخريقا، بمرأى ومسمع من صدر الأئمة ضياء الدين - أدام الله إجلاله، وزاد إقباله.
ومنها مسألة «كلا الرجلين» إذ كتب في حالة الجر، والإضافة للمظهر بالألف، فقلت: الصواب أن يكتب بالياء، وأيدت قولي بنص ابن درستويه في كتابه الموسوم ب «كتاب الكتاب»، وجرى هذا بحضرة الإمام الأجل زين المشايخ البقالي - أدام الله سعادته، وحرس سيادته.
ومنها مسألة «نسر وفرقد» في تثنيتهما بغير ألف ولام في شعري فأنكره. وقال: لا يجوز هذا في الشعر ولا في غيره، فأريته ذلك في شعر المعري وأبي تمام. فقال: أخطآ حتى أراه سلمان بيته، وصدى صوته، الإمام فخر الإسلام المؤذني ذلك في شعر الأعشى، فعند ذلك لانت خشونته، وسهلت حزونته.
ومنها مسألة «الجمع بين الضرب المحذوف والضرب الصحيح» في شعر واحد من الطويل، وقع له في ديوانه في قوله:
جوار فريد العصر خير جوار
ودار فريد الدهر أكرم دار
ثم قال:
فلله من جار حمدنا جواره
ولله من فرد ولله من دار
فضرب الأول محذوف، وضرب الثاني صحيح، ولا يجوز اجتماعهما في هذا البحر باتفاق العروضيين، فلما نبهته لهذا على لسان تلميذه المحسن الطالقاني طلب ديوانه وغيره هكذا «ولله من نار وموقد نار» فاستقام وزنه.
ومنها مسألة «الحادي عشرة، والثانية عشرة».
ومنها مسألة «التحية»، ومنها مسألة «تجريد الإمالة»، ومنها مسألة «إدخال الوليد بن الوليد في جملة الكفرة من أولاد الوليد بن المغيرة»، وسيأتي ذكره في رسالته إلى الحاتمي.
ولو نقلت ما في كنانتي من المكنونات، ونثرت ما ادخرته في خزائن المخزونات؛ طال الكلام، وكلت الأقلام ، وإنما ذكرت هذا القدر اليسير، ليعلم فتيان هذه الخطة أن هذا الإمام كان صبورا على مرارة الحق، وحرارة الصدق، مع أنه رب هذه البضائع، وصاحب هذه الوقائع.
فصل: قوله قرأ أبي «شهر رمضان» بالنصب على تقدير: صوموا، أو على الإبدال من أياما معدودات أو على أنه مفعول أن تصوموا، وأقول: قولاه الأولان صحيحان لا مطعن فيهما، وأما الثالث فموضع بحث؛ إذ لا يجوز مثله البتة؛ لأنه لو كان كما زعم كان شهر رمضان تتمة لأن تصوموا ولكن مجموعها في حكم مبتدأ واحد، وصار تقديره صوم رمضان خير لكم وليس بجائز أن تجعل المبتدأ نصفين، وتفصل بينهما وتدخل الخبر في وسطهما، أم أن يكون خبرا لمبتدأ متأخرا عن المبتدأ، وهو الأصل أو مقدما عليه بشرط التعريف وغيره من الشروط، وهذا هو الفرع، وأما أن يكون واقعا بين شرط من المبتدأ، فليس من كلام العرب كقول القائل لمن ينفعه اللحم: أن تأكل اللحم خير لك، صحيح، وقوله: خير لك أن تأكل اللحم صحيح، فأما قوله أن تأكل خير لك اللحم فغير صحيح، وهذا قولي الذي استحسنه جار الله - والله أعلم بكتابه، وأعرف بأسرار خطابه.
وقد كتبت هذه الرسالة فعليك بحفظها عن هؤلاء الذين لا يفهمون الدقائق، ولا يعلمون الحقائق؛ فإني حررتها لأمثالك من ذوي الفهم والهداية، وأشكالك من ذوي العلم والدراية، لا لهؤلاء الذين عميت أبصارهم وبصائرهم، وصدئت أفكارهم وخواطرهم؛ فإن رياض العلم لا تفتق للمجانين، وحياض الرحمة لا تدفق للشياطين، والسلام.
القسم التاسع
منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
عني بنشره أحمد بك تيمور عن نسخة كتبت سنة 710ه
منتخب في عهد أزدشير بن بابك الملك في السياسة
بسم الله الرحمن الرحيم
من ملك الملوك أزد شير بن بابك ... إلى من يخلف من الملوك.
السلام عليكم، إن من أخلاق الملوك الأنفة والجراءة والبطر والعث، وكلما دامت سلامة الملك في ملكه قويت هذه الأخلاق عليه، حتى يغلب عليه سكر الملك الذي هو أشد من سكر الخمر، فيظن أنه قد أمن من النكبات والعثرات، فيبسط يده ولسانه بالقبيح؛ فيفسد باعتماده جميع ما أصلحه الملوك قبله، فتعود المملكة خرابا.
وأفضل الملوك الذي يتذكر في عزه الذل، وفي أمنه الخوف، وفي قدرته العجز، فيجمع بين بهجة الملك وحذر الرعية، ولا خير إلا في جمعهما؛ فإن رشاد الملك خير من خصب الزمان.
الدين أساس الملك، والملك حارس الدين، فلا يقوم أحدهما إلا بالآخر.
إياكم أن تتهاونوا بمن يطلب الرئاسة بإظهار الزهد والغضب للدين، فما اجتمع الناس على رئيس في الدين، إلا انتزاع ما في يد الملك من ملكه؛ فإن الناس إلى رئيس الدين أميل، فتعهدوا طبقات الناس وتفقدوا جماعاتهم، فإن فيهم من قد حقرتم وجفوتم.
وإذا أذن الملك للعقلاء من مناصحي دولته في إنهاء ما يتجدد عندهم من النصائح التي لا يعلمها خواصه، أو يعلمونها ويكتمونها انفتحت له أبواب من الأخبار المحجوبة عنه؛ فيحذر وزراءه وخواصه من الاتفاق على ما يسترونه عنه، ولا يقدمون على أمر يكرهه خوفا من أن يطالع به، فيأمن مكايدهم وتسلم الرعية من ظلمهم.
ومن غلبت عليه خواصه، حتى منعوا عنه الناس، فلا يصل إليه إلا من يحبون؛ أطبقت ظلم الجهالة عليه.
ولا ينبغي للملك أن يعتقد أن تعظيم الناس له هو بترك كلامه، ولا أن إجلالهم له هو بالتباعد عنه، ولا أن محبتهم هي بموافقته على جميع ما يحبه، وإنما تعظيمهم له بتعظيم عقله وصواب سياسته، وإجلالهم له إجلال منزلته من الله، بما يجريه على يده ولسانه من العدل، ومحبتهم له بما يتألفهم بكريم خلقه، وصادق المحبة هو الذي يعينه على العدل، وحسن التدبير بمحض النصيحة.
إن في الرعية وحملة السلاح من الأهواء الغالة والفجور، ما لا بد للملك معه من أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وباب الإنعام بباب الانتقام؛ فإن القصاص من المفسدين حياة لبقية الأمة، ومن لم يقم حدود الله تعالى فيمن له فيه هوى لم تثبت هيبته في قلوب الخاصة والعامة، ولن يستطيع الملك أن يقوم العامة حتى يقوم الخاصة.
وإن من كان من الملوك قبلنا قد رتبوا الناس أربع طبقات، فالأمراء والجند صنف والعباد والفقهاء صنف، والكتاب والحكماء صنف، والتجار والفلاحون صنف، فلم يمكنوا صنفا منها أن يدخل في الصنف الآخر، لتتفرغ كل طبقة للقيام بما يلزمها.
وليس أضر على الملك من رأس صار ذنبا، أو يد مشغولة وجدت فراغا من شغلها.
وخير الملوك من بعث العيون على نفسه؛ ليعلم عيوبها، فيكون أعلم بعيوب نفسه من غيره، ثم يجتهد في مداواة عيب بعد عيب، حتى لا يجد أحد فيه مطعنا، فهذا الذي تمت سيادته.
وإن ابتهاج الملك المسدد الرأي القاهر لهواه بوفور عقله، وشرف نفسه بارتفاعها من النقائص أعظم من سروره بملكه.
ومن الرعية من يقارب الملك في مأكله وملبسه وشهوته. وليس فيهم من يقدر كقدرته على اجتناء المحامد وإصلاح الرعية بالعدل عليها، وتأمين السبل وصيانة الحريم وكف أيدي الظالمين، فاجتهدوا معشر الملوك في بسط العدل الذي لا تقدر عليه الرعية، وتنافسوا في اقتناء الذكر الجميل.
وليس للملك أن يبخل؛ فإنه لا يخاف الفقر، وإذا عرف بالبخل انقطع الرجاء من خيره، فانسلت الأيدي من طاعته ولا يجتهد أحد في خدمته، وانحلت النيات عن مناصحته.
ولا ينبغي له أن يغضب؛ لأن الغضب مع القدرة يوجب السرف في العقوبة، ثم يعقب الندامة مع ما فيه من الطيش والخفة وقبح السمعة.
ولا ينبغي له أن يلعب؛ لأن اللعب والعبث من أعمال الفراغ، والفراغ من عمل السوقة، وفي ذلك من ذهاب الوقار وإسقاط الهيبة ما ينافي جلال السيادة.
وليس له أن يحسد ملوك الأمم إلا على حسن التدبير، وإصابة السياسة ومكارم الأخلاق، ولا ينبغي له أن يجبن عند وجوب الإقدام؛ فإن الشجاعة عز وهي من أهم شروط الملك.
زين الملك أن يحفظ نظام أوقاته المقدرة لأشغاله وركوبه وراحة بدنه، فتكون معينة لا تختلف؛ فإن في اختلافها خفة. وليس للملك أن يخف.
وينبغي أن يكون حذره لمن بعد عنه أكثر من حذره لمن قرب منه، وأن يتقي بطانة السوء أشد من اتقائه لعامة السوء.
ومن الناس صنف أظهروا الزهد في الجاه، ولم يتقربوا بالخدمة وادعوا التواضع، وهم قد أسروا التكبر واستدعوا إلى أنفسهم الجاه بوعظ الملوك، وقد ينفعهم ذلك عند المغفلين، فيقربون منهم من حسن ظاهره وتلطف، حتى اعتقد خواصهم تعظيمه، وإن كان ناقصا في عقله عبدا لشهواته متهافتا على الرئاسة؛ فإن أسكته الملك قيل قد استقل الموعظة، وإن أطلق لسانه قال بوعظه بين الملأ ما أفسد حال الدولة، فالرأي ألا يهمل الملك أمر هذه الطائفة؛ فإنهم أعداء الدول وآفات قوية على الملوك.
اعلموا أنه لا بد لكم من سخطة على بعض أنصاركم، ونصاحكم وأعوانكم، ولا بد من رضى يحدث لكم عن بعض أعدائكم المعروفين بالغش لكم، فإذا فعلتم ذلك فلا تنقبضوا عن المعروف بالنصيحة، ولا تسترسلوا إلى المعروف بالغش، وقد خلفت عليكم رأيي إذا لم أقدر على تخليف بدني، فاقضوا حقي بالتمسك بعهدي، والسلام على أهل الموافقة، ممن يأتي عليه هذا العهد من الأمم.
القسم العاشر
كتاب الأدب والمروءة
كتاب الأدب والمروءة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ... قال صالح بن جناح: اعلم أن العرب قد تجعل للشيء الواحد أسماء، وتسمي بالشيء الواحد أشياء، فإذا سنح لك ذكر شيء فاذكره بأحسن أسمائه؛ فإن ذلك من المرءوة، وإنما المرء بمروءته، فالمروءة اجتناب الرجل ما يشينه، واجتناؤه ما يزينه، وأنه لا مروءة لمن لا أدب له، ولا أدب لمن لا عقل له، ولا عقل لمن ظن أن في عقله ما يغنيه ويكفيه عن غيره، وشتان ما بين عقل وافر معه خمسون عقلا، كلها وافر مثله وأوفر منه، ومن عقل وافر لا قادة معه، وفي ذلك أقول شعرا:
وما أدب الإنسان شيء كعقله
ولا زينه إلا بحسن التأدب
وقال: إن الأفئدة مزارع الألسن، فمنها ما ينبت ما زرع فيه من حسن، ولا ينبت ما سمج، ومنها ما ينبت ما سمج ولا ينبت ما حسن، ومنها ما ينبت جميع ذلك، ومنها ما لا ينبت شيئا، وإن من المنطق لما هو أشد من الحجر، وأنفذ من الإبر وأمر من الصبر، وأحر من الأسنة وأنكد من زحل، ولربما احتقرت كثيرا منه على حرارته ومرارته ونكده، مخافة ما هو أحر منه ، وأمر وأفظع وأنكد، وفي ذلك أقول شعرا:
لقد أسمع القول الذي كاد كلما
يذكرنيه الدهر قلبي يصدع
فأبدي لمن أبداه مني بشاشة
كأني مسرور بما منه أسمع
وما ذاك من عجب به غير أنني
أرى أن ترك الشر للشر أقطع
وقال في ذي الوجهين: من أظهر ما تحب أو تكره؛ فإنما يقاس ما أضمر بما أظهر؛ لأنك لا تقدر أن تعرف ما أسر. وقال:
ليس المسيء إذا تغيب سوءه
عندي بمنزلة المسيء المعلن
من كان يظهر ما أحب فإنه
عندي بمنزلة الأمير المحسن
والله أعلم بالقلوب وإنما
لك ما بدا لك منهم بالألسن
ولقد يقال خلاف ذلك إنما
لك ما بدا لك منهم بالأعين
وقال في الصدود: أما بعد: فقد أحضرتني من صدك ما آيسني من ودك، ولم يزل يجري في لحظك ما يخلني في رفضك، ويدلني على غل صدرك، وفي ذلك أقول شعرا:
تظل في قلبه البغضاء كامنة
فالقلب يكتمها والعين تبديها
والعين تعرف في عيني محدثها
من كان من حزبها أو من يعاديها
عيناك قد دلتا عيني منك على
أشياء لولاهما ما كنت أدريها
إن الأمور التي تخشى عواقبها
إن السلامة منها ترك ما فيها
وقال في كثرة المال وقلته: لا تستكثر مال أحد ولا تستقله، حتى تعلم ما عياله؛ فإن من كثر ماله وعياله فهو مقل، ومن قل ماله وعياله فهو مكثر.
وقال في ذكر الأحمق ودخوله فيما لا يعنيه: وأكثرهم دخولا بما لا يدخل فيه، وأرضاهم بما لا يكفيه، عدوه أعلم بسره من صديقه، وصديقه قد غص منه بريقه، ولا يثق بمن نصحه، ولا يتهم من خدعه، ولا يأمن إلا من يخونه، ولا يتحفظ إلا ممن يحفظه، ولا يكرم إلا من يهينه، أشبه شيء خلقا باللئيم، إن أحسنت إليه لم يشكر، وإن أسأت إليه لم يشعر، لا ينفعك من وجه إلا ضرك من وجوه: إن أقبل عليك لم يسرك ، وإن أدبر عنك لم يضرك، إن أفسد شيئا لم يحسن أن يصلحه، وإن أصلح شيئا أفسده، إن أحببته فرأى منك حسنا لم يحسن أن ينشره، وهو مع ذلك بخطئه أشد إعجابا من العاقل بصوابه، إن جلس إلى العلماء لم يزدد إلا جهلا، وإن جلس إلى الحكماء لم يزدد إلا طيشا، وإنما جعل نفسه المحدث لهم يكلفهم أن يكونوا المنصتين له!
أعيا الناس إذا تكلم، وأجهلهم إذا تعلم، وأصحبهم لمن يشينه، وأرفضهم لمن يزينه، وأشدهم في موضع اللين، وألينهم في موضع الشدة، وأجبنهم في موضع الشجاعة، إن افتقر عجب من الناس كيف يستغنون، وإن استغنى عجب من الناس كيف يفتقرون، لا يفهم إن حدثته ولا يفقه إن أفهمته، ولا يقبل إن وعظته، ولا يذكر إن ذكرته، وفي ذلك أقول شعرا:
المرء يصرع ثم يشفى داؤه
والحمق داء ليس منه شفاء
والحمق طبع لا يحول مركب
ما إن لأحمق فاعلمن دواء
وقال في ذكر الهوى: إن من الناس من إذا هوى عمي، ومنهم إذا هوى أبصر مرة وعمي أخرى، ومنهم إذا هوى لم يكد يخفى عليه شيء، وهو اللبيب العاقل الحليم الكامل، الذي إن أعجبه أمر نظر إلى هواه وعقله؛ فإن اتفقا اتبعهما، وإن اختلفا اتبع عقله وترك هواه، وكان أمره معتدلا يشبه بعضه بعضا، وقليل ما هم، وفي ذلك أقول شعرا:
أملك هواك إذا دعاك فربما
قاد الحليم إلى الهلاك هواه
الله يسعد من يشاء بفضله
وإذا أراد شقاءه أشقاه
وقال أيضا، في أناس تحسن وجوههم عند حاجاتهم، وتغبر وجوههم عند غناهم؛ شعرا:
أرى قوما وجوههم حسان
إذا كانت حوائجهم إلينا
وإن كانت حوائجنا إليهم
تغير حسن أوجههم علينا
ومنهم من سيمنع ما لديه
ويغضب حين يمنع ما لدينا
فإن يك فعلهم شحا وفعلي
قبيحا مثله فقد استوينا
وقال فيمن فعل أمرا لا يحسن أن يحتال له: اعلم أن من قاتل بغير عدة، أو خاصم بغير حجة أو صارع بغير قوة؛ فهو الذي صرع نفسه وخصم نفسه وقتل نفسه؛ فإن ابتليت بقتال أحد أو مخاصمته أو مصارعته، فأحسن الإعداد له، واعرف مع ذلك عدته وأبصر حجته، واخبر قوته كما يخبر قوتك وحجتك وعدتك؛ فإن رأيت تقدما وإلا كان التأخر قبل التقدم خيرا من التندم بعد التقدم، وفي ذلك أقول شعرا:
إذا ما أردت الأمر فاعرفه كله
وقسه قياس الثوب قبل التقدم
لعلك تنجو سالما من ندامة
فلا خير في أمر أتى بالتندم
وإن من الناس من يرزق حجة أو عدة أو قوة، فتكون عدته هي التي تقتله، وقوته التي تصرعه، وحجته التي تخاصمه، وذلك أنه ربما أدل فقاتل قبل أن يعلم أهو أعد أم الذي يقاتله، وكذلك في الذي يخاصمه ويصارعه، فإذا هو قد قتل أو صرع أو خصم، فلم ينفعه جودة عدته ولا قوة حجته، حين أتى الأمر من غير جهته، وفي ذلك أقول:
إذا ما أتيت الأمر من غير وجهه
تصعب حتى لا ترى منه مرتقى
فإن الذي يصطاد بالفخ إن عتا
على الفخ كان الفخ أعتى وأضيقا
وقال في الذي يعاتب الناس بغير مودتهم، ويوجب حق نفسه عليهم: لا تدع الناس إلى برك وإجلال أمرك وتعظيم قدرك بالمعاتبة، ولكن ادعهم إلى ذلك بما ما تستوجب التكرمة به؛ فإنما دعوتهم إلى إهانتك إما بكلام يجرحك وإما بفعال تفدحك وإن دعاهم إلى ذلك فضلك أجابوا، إما بثناء يرفعك أو بجزاء ينفعك.
وقال في معرفة الإخوان: إنك لن تعرف أخاك حق المعرفة، ولن تخبره حق المخبرة، ولن تجربه حق التجربة، وإن كنتما في دار واحدة حتى تسافر معه، أو تعامله بالدينار والدرهم، أو تقع في شدة أو تحتاج إليه في مهمة، فإذا بلوته في هذه الأشياء فرضيته فانظر؛ فإن كان أكبر منك فاتخذه أبا، وإن كان أصغر منك فاتخذه ابنا، وإن كان مثلك فاتخذه أخا، وكن به أوثق منك بنفسك في بعض المواطن.
وقال: كن من الكريم على حذر إن أهنته، ومن اللئيم إن أكرمته، ومن العاقل إن أحرجته، ومن الأحمق إن مازحته، ومن الفاجر إن عاشرته، ولا تدل من لا يحتمل إدلالك، ولا تقبل على من لا يحب إقبالك، وكن حذرا كأنك غر، وكن ذاكرا كأنك ناس ، والزم الصمت إلى أن يلزمك التكلم؛ فما أكثر من يندم إذا نطق وأقل من يندم إذا لم ينطق. وإذا ابتليت فعند ذلك تعرف جودة منطقك، وقلة زللك، وسعة عفوك، وقلة حيلتك، ومنفعة قوتك، وحسن تخلصك.
واعلم أن بعض القول أغمض من بعض، وبعضه أبين من بعض، وبعضه أخشن من بعض، وبعضه ألين من بعض، وإن كان واحدا فإن الكلمة اللينة لتلين من القلوب ما هو أخشن من الحديد، وإن الكلمة الخشنة لتخشن من القلوب ما هو ألين من الحرير، وإن أعظم الناس بلاء وأدومهم عناء وأطولهم شقاء من ابتلي بلسان مطلق، وفؤاد مطبق؛ فهو لا يحسن أن ينطق، ولا يقدر أن يسكت.
واعلم أن ليس يحسن أن تجيب من لا يسألك، ولا تسأل من لا يجيبك، وفي ذلك أقول شعرا:
لا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
وقال في الرفق بالدواب: إن رفق الرجل بدوابه وحسن تعاهده وقيامه عليها؛ عمل من أعمال البر، وسبب من أسباب الغنى، ووجه من وجوه المروءة. وقال: التدبير مع المال القليل خير من المال الكثير مع سوء تدبير، وإنما المنفقون ثلاثة: جواد مبذر، وكريم مقدر، ولئيم مقتر، وفي ذلك أقول شعرا:
رب مال سينعم الناس فيه
وهو عن ربه قليل الغناء
كان يشقى به وينصب حينا
ثم أمسى لمعشر غرباء
ما له عندهم جزاء اذا ما
أنعموا فيه غير سوء الثناء
رب مال يكون غما وذما
وغني يعد في الفقراء
وقال في تصنيف الطعام: إذا كنت ممن يؤكل طعامه، وتحضر مائدته، ويؤكل معه، فليكن الذي يتولى صنعة طعامك من ألب الناس في عمله، وأنظفهم في يديه، ولا تدع إعلامه إن أحسن، ولا إنذاره إن أساء؛ فإن تعتبك عليه خير من تعتب الناس عليك. واعلم أن لكل شيء غاية ، وأن غاية الاستنقاء التنظيف في الاستنجاء، والإكثار من الماء حتى يستوي اليدان والريح والمنظر؛ فإنه لا طيب أطيب من الماء ولو أنه المسك وما أشبهه من الأشياء، وإنما يستدل على نظافة الرجل بنقاء أثوابه، وإنما يكون القذر في الحمقى من الرجال والنساء، وبه يستدل على بلادتهم، وفي ذلك أقول شعرا:
ولا خير قبل الماء في الطيب كله
وما الطيب إلا الماء قبل التطيب
وما أنظف الأحرار في كل مطعم
وما أنظف الأحرار في كل مشرب
وقال في صفة العدو والصديق: احرص ألا يراك صديقك إلا أنظف ما تكون، ولا يراك عدوك إلا أحصن ما تكون؛ فأما الصديق؛ فإن كان الذي أعجبه منك خلقك أو خلقك، ولهما كان يحبك فكلما ازددت حسنا كان حبه لك أكثر، ورغبته فيك أوفر وأكثرك عنده وأكبر لك في صدره، وأدوم على عهدك، وأما العدو فليس شيء أعجب إليه من دمامتك وخساستك، فاحترس منه وأظهر الجميل فليس شيء أعجب إليه من التمكن منك، فانظر ألا يكون شيء أعجب إليك من التحصن منه.
وقال في العقل والأدب: اعلم أن العقل أمير، وأن الأدب وزير؛ فإن لم يكن وزير ضعف الأمير، وإن لم يكن أمير بطل الوزير، وإنما مثل العقل والأدب كمثل الصيقل والسيف؛ فإن الصيقل إذا أعطي السيف أخذه فصقله فعاد جمالا ومالا وعضدا يعتمد عليه ويلتجأ إليه، فالصيقل الأدب والسيف العقل، فإذا وجد الأدب عقلا نفقه ووفقه وقواه وسدده كما يصنع الصيقل بالسيف، وإذا لم يجد عقلا لم يعمل شيئا؛ لأنه لا يصلح إلا ما وجد.
وإن من السيوف لما يصقل ويسقى ويخدم ثم يباع بأدنى الثمن، ومنها ما يباع بزنته درا وزبرجدا، وذلك على نحو الحديد وجودته أو رداءته، وكذلك الرجلان يتأدبان بأدب واحد ثم يكون أحدهما أنفذ من الآخر أضعافا مضاعفة، وإنما ذلك على قدر العقل وقوته في الأصل، وفي ذلك قلت شعرا:
وقد يصلح التأديب من كان عاقلا
وإن لم يكن عقل فلا ينفع الأدب
وقال في المراء: إذا اجتمع أهل نوع فتذاكروا على نوعهم ذلك، فلم يكن أصل كل واحد منهم أن ينفع بما أسمع وينتفع بما سمع؛ فاعلم أن تذاكرهم ذلك من أول المراء يصدع العلم، ويوهن الود، ويورث الجمود، وينشئ الشحناء، وينغل القلب، وفي ذلك أقول شعرا:
تجنب صديق السوء واصرم حباله
فإن لم تجد عنه محيطا فداره
وأحبب صديق الخير واحذر مراءه
تنل منه صفو الود ما لم تماره
وقال في الحكمة: أما ما يسمع من كثير من الحكمة؛ فإن أوله شيء يخطر على الأفئدة إذا خطر، وهو أصغر من الخردلة، وأدق من الشعرة، وأوهن من البعوضة، ثم تحركه الألسنة، وتنبذه الأفئدة كما يحاك البرد، وكما يمد النهر فيعود أكثر من الكثير، وأوثق من الحديد، وأثمن من الجوهر، وأحسن من الذهب، وأنفع من كليهما؛ لأنه يزيد في المنطق، ويذكي الذهن، ويعين على الإبلاغ، ويتجمل به القائل، ويتقلب فيه كيف يشاء، ويختار منه ما يشاء فينتفع به اللطيف، وينبل به السخيف، ويتزيد به الكثيف، ويتأبد به الضعيف، ويزداد به الأيد قوة في منطقه وبلاغة في كتبه؛ فيكون في حفظه منفعة للخطباء في خطبهم، وللبلغاء في بلاغتهم وكتبهم، وللكرماء في بشاشتهم، وللشعراء في قصائدهم، فإذا كنت ممن يؤلف حكمة، أو يضع رسالة، أو يذكر في مهمة فلا تكمه قلبك، ولا تكره ذهنك؛ فإنه إذا أكره كل ووقف ولكن إن كنت في شيء من ذلك فاستعن بالتفرغ منه على التفرغ له، والتأخر عنه على التقدم فيه؛ فإن الذهن يجم كما يجم البئر ويصفو كما يصفو الماء.
وقال في الكلام وإخراجه: اعلم أن مثل الكلام كمثل الحجارة فمنها ما هو أعز من الذهب والفضة، ومنها ما لا يعطى في الصخرة العظيمة منه درهم، وفي ذلك أقول شعرا:
وما الحجر الكبير أعز فيما
ظفرت به من الحجر الصغير
وكم أبصرت من حجر خفيف
صغير بيع بالثمن الكثير
وقال في طلاقة الوجه وحسن الخلق: كن أسهل ما تكون وجها، وأظهر ما تكون بشرا، وأقصر ما تكون أمدا، وأحسن ما تكون خلقا، وألين ما تكون كنفا ، وأوسع ما تكون أخلاقا فإن الأيام والأشياء عقب ودول؛ فإن أنكرت منها شيئا يوما ما، كان ما أنكرت منها شيئا خفيفا على أهل الشماتة، وعلى أهل الصفاء، واحذر أن تحزن من يحبك، وتفرح من يحسدك فلم أر في مصاب الدهر مصيبة أوحش من تغيير النعمة، وإن أنت لم تنكر منها شيئا ودامت لك بما تريد فما من الدنيا شيء تناله بدعة ورفق إلا وهو أهنا مما نيل بتعب ونصب، فأما من كفي وعوفي فما يصنع بالغضب والتضايق وإنهما هم العمر ونكد الدهر، وفي ذلك أقول شعرا:
ما تم شيء من الدنيا علمت به
إلا استحق عليه النقض والغير
ولا تغير من قوم نعيمهم
إلا تكدر منه الورد والصدر
فعاد غما ولن تلقى أمرأ أبدا
أغم من ملك أيام يفتقر
وقال في الكذب:
كذبت ومن يكذب فإن جزاءه
إذا ما أتى بالصدق أن لا يصدق
وقال فيه أيضا:
إذا ما رأيت المرء حلو لسانه
كذوبا فأيقن أنه لا حيا له
ولا خير في الإنسان إن لم يكن له
حياء ولا في كل من لا وفا له
وقال في الإخوان:
ليس من كان في الرخاء صديقا
وعدو الصديق بعد الرخاء
عدة في إخائه لصديق
إنما ذاك عدة الأعداء
لو ظفرنا بذي إخاء أمين
لاشترينا إخاءه بالغلاء
لو وجدنا أخا متينا امينا
لاتخذنا إخاءه للشفاء
أما الرفقاء في السفر، والجلساء في الحضر، والخلطاء في النعم، والشركاء في العدم؛ فاحفظ مصاحبتهم وواظب على إخائهم وفي ذلك أقول شعرا:
وكنت إذا صحبت رجال قوم
صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم
وأجتنب الإساءة إن أساءوا
وأبصر ما يعيبهم بعين
عليها من عيوبهم غطاء
أريد رضاهم أبدا وآتي
مشيئتهم وأترك ما أشاء
لا تبتدأن أحدا بصغير مما يكره ولا بكبيره ولا بقليل مما يسخط ولا بكثيره؛ فإن ابتدأك أحد بشيء من ذلك فقدرت على الانتصار منه فعفوت أو انتصرت، فما أحسن جميع ذلك إلا أن العفو أكرم والانتصار أعز، وكلاهما حظ، وفي ذلك أقول شعرا:
فما ذات باب بحمده
فيما علمت عليه من طرق الصواب
وأي الناس ألأم من سفيه
يقول ولا يخاف من الجواب
وقال في الجهل: إياك والجهل؛ فإنما تجهل على ثلاثة: رجل أنت أعز منه فلؤم، وأما جهلك على من هو أعز منك فحيف، وأما جهلك على من هو مثلك فهراش مثل هراش الكلبين ولن يفترقا إلا مفضوحين أو مجروحين. وليس هذا من فعال الحكماء والعلماء، الحليم أرزن والجهول أنقص، وفي ذلك أقول شعرا:
ما تم علم ولا حلم بلا أدب
ولا تجاهل في قوم حليمان
ولا التجاهل إلا ثوب ذي دنس
وليس يلبسه إلا سفيهان
وقال في رؤية الرجل وخبره: إن من الناس من يعجبك حين تراه وتزداد عند الخبرة إعجابا به، ومنهم من تبغضه حين تراه وعند الخبر تكون له أكثر بغضا، ومنهم من يعجبك مخبره ولا يعجبك منظره، ومنهم من يعجبك منظره ولا يعجبك مخبره، وفي ذلك أقول شعرا:
ترى بين الرجال العين فضلا
وفيما أضمروا الغبن الغبين
ولون الماء مشتبه وليست
تخبر عن مذاقته العيون
فلا تعجل بنطق قبل خبر
فعند الخبر تنصرم الظنون
وقال أيضا في ذلك:
وما صور الرجال بها امتحان
وما فيها لمعتبر بيان
ولكن فعلهم ينبيك عنهم
به تجب الكرامة والهوان
وما الإنسان لولا أصغروه
سوى صور يصورها البنان
وقال أيضا:
لم أزل أبغض كل امرئ
وجهه أحسن من خبره
فهو كالغصن يرى ناضرا
ناعما يعجب من زهره
ثم يبدو بعده ثمر
فيكون السم في ثمره
وقال في النهي عن القبيح: وإذا رأيت من أحد أمرا فنهيته عنه فلم يحمدك، ولم يذمم نفسه على مكانه، أو يحدث حدثا تعلم أنه قد انفتح بمقالتك؛ فإن ذلك عيب آخر قد بدا لك منه لعله أقبح من الذي نهيته عنه، وفي ذلك أقول شعرا:
ولا نهيت غويا من غوايته
إلا استزاد كأني كنت أغريه
ولا نصحت له إلا تبين لي
منه الجفاء كأني كنت أغويه
وقال في المؤاخاة: لا تؤاخ أحدا إلا على اختيار منك له وارتضاء منك به واتفاق منه لك، فإذا اتفق أمر كما كذلك فاعلم أن كلاكما يحسن ويسيء ويصيب ويخطئ ويحفظ ويضيع، فوطن نفسك على الشكر إذا حفظ، وعلى الصبر إذا أضاع، وعلى المكافأة إذا أحسن، وعلى الاحتمال والمعاتبة إذا أساء؛ فإن معاتبة الصديق إذا أساء أحب إلى الحليم من القطيعة في معاشرة من تؤاخيه، وفي ذلك أقول شعرا:
وإذا عتبت على امرئ أحببته
فتوق ضائر عتبه وسبابه
وألن جناحك ما استلان لوده
وأجب أخاك إذا دعا لجوابه
واحرص أن تعرف موقعك من كل أحد حتى من أبيك وأمك؛ فإن من السخافة أن تكون لأخيك فيما يحب ويكون لك فيما تكره، وما أقبح أن تكون له فيما يكره ويكون لك فيما تحب، واعلم أن من تنفعك صداقته ولا تضرك عداوته، الكريم الذي إن أحسنت إليه كافأك، وإن أسأت إليه عاتبك، وأما من تضرك عداوته ولا تنفعك صحبته، فهو الجاهل السفيه اللئيم، وفي ذلك أقول شعرا:
من الناس من إن يرض لا تنتفع به
ولكن متى يسخط فما شئت من ضرر
ضعيف على الأعداء لكن قلبه
أشد إذا لاقى الصديق من الحجر
وقال في تقلب الدنيا شعرا:
إنما الدنيا سراج
ضوءه ضوء معار
بينما غصنك غصن
ناعم فيه اخضرار
إذ رماه الدهر يوما
فإذا فيه اصفرار
وكذاك الليل يأتي
ثم يمحوه النهار
وقال في المداراة: إذا هبطت بلدا أهلها على غير ما تعرف، وأنت على غير ما يعرفون، فالزم كثيرا من المداراة فما أكثر من دارى ولم يسلم، فكيف من لم يكن منه مداراة، وفي ذلك أقول شعرا:
يا ذا الذي أصبح لا والدا
له على الأرض ولا والده
قد مات من قبلهما آدم
فأي نفس بعده خالده
إن جئت أرضا أهلها كلهم
عور فغمض عينك الواحده
ولا تقاتلن أحدا تجد من قتاله بدا؛ فإنما الحق لمن غلب ولا غالب إلا الله، وإن آخر الدواء الكي فلا تجعله أولا، وفي ذلك أقول شعرا:
وكم رأينا من أخي غبطة
أصبح مسرورا وأمسى حزينا
وكم فتى يركب طاحونة
للحرب قد أصبح فيها طحينا
وقال في الإعسار والإيسار:
كم من صديق لنا أيام دولتنا
وكان يمدحنا قد صار يهجونا
إني لأعجب ممن كان يصحبنا
ما كان أكثرهم إلا يراءونا
لم ندر حتى انقضت عنا إمارتنا
من كان ينصحنا أو كان يغوينا
من كان ينصفنا ما كان يصحبنا
إلا ليخدعنا عما بأيدينا
وقال في الصفة والتفضل: لا يكن من وصلك أحق بصلتك منك بصلته، ولا من تفضل أولى بالتفضل منك عليه؛ فإنما أنت وهو كرجلين ابتدرا أكرومة فقصر أحدهما وبلغ الآخر؛ فإنما القاصر قصر على حظ نفسه، وأما البالغ فبلغ بجميل أمره وعظيم قدره.
وقال في القدر: إذا كان الرجل لبيبا فاعلم أنه كامل، ولكن لن يقدمه ذلك إلى ما كان يطلب، ولن يؤخره عما كان يحاذر إلا بقدر يلحق به ما طلب ويسبق به ما يحذر، وإن من الناس من يؤتى منطقا وعقلا ولا يؤتى مالا، ومنهم من يؤتى مالا ولا يؤتى غيره، فيحتاج مع ماله إلى عقل ذي العقل ومنطقه، ويحتاج ذو العقل إلى مال ذي المال ورفده وينهض هذا بهذا وهذا بهذا، فليس لأحدهما إذن غنى عن الآخر، فأحوج الملك إلى السوقة وأحوجت السوقة إلى الملك.
وقال في التفاضل: لا تقل فلان أغنى مني، وأنا أعز منه؛ فإنه لو جمع العقل والشدة والشجاعة والمال وأشباه ذلك لقوم وبقي قوم لا شيء لهم لهلكوا، ولكن الله - عز وجل - قال:
أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات (الزخرف: 32) فأوتي بعضهم عقلا وبعضهم قوة، وبعضهم مالا مع أشياء مما يكون فيه صلاحهم وبه معايشهم، ثم أحوج بعضهم إلى بعض فعاشوا، وإنما مثل الرجل ورزقه ومثل عقله وأدبه ومروءته وحكمه، كمثل الرامي ورميته، فلا بد للرامي من سهم، ولا بد لسهمه من قوس، ولا بد لقوسه من وتر، ولا بد لجميع ذلك من قدر يبلغ به ما رشق ويصيب به ما يبلغ ويحوز به ما أصاب، وإلا فلا شيء فالرامي الرجل والرمية الرزق، ولا يجمع بينهما عقل ولا عز ولا شيء من ذلك إلا بقدر، وفي ذلك أقول شعرا:
ما القوس إلا عصا في كف صاحبها
يرعى بها الضأن أو يرعى بها البقر
أو عود بان وإن كانت معقفة
حتى يضم إليها السهم والوتر
وإن جمعت لها هذين فهي عصا
حتى يساعد من يرمي بها القدر
وقال: إن حسن السمت وطول الصمت ومشي القصد من أخلاق الأتقياء، وإن سوء السمت وترك الصمت ومشي الخيلاء من أخلاق الأشقياء، فإذا مشيت فوق الأرض فاذكر من تحتها، وكيف كانوا فوقها وكيف حلوا بطنها، وكيف كانوا أمما؟! واعلم أن ابن آدم أعز من الأسد وأشد من العمد ما لم تصبه أدنى شوكة وأدنى مرض وأدنى مصيبة؛ فإذا أصابه شيء من ذلك وجدته أهون من الذرة وأمهن من البعوضة؛ فلا يغررك تجبره وتكبره وتفرعنه واستطالته، وفي ذلك أقول شعرا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
فكم تحتها قوم هم منك أرفع
فإن كنت في عز وحرز ومنعة
فكم طاح من قوم هم منك أمنع
وقال في الغني والقنوع: إن الغنى في القلب فمن غنيت نفسه وقلبه غنيت يداه ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه، وفي ذلك أقول شعرا:
إذا المرء لم يقنع بشيء فإنه
وإن كان ذا مال من الفقر موقر
إذا كان فضل الله يغنيك عنهم
فأنت بفضل الله أغنى وأيسر
وقال في الرأي والمشاورة: إذا استشير نفر أنت أحدهم فكن آخر من يشير فإنه أسلم لك من الصلف وأبعد لك من الخطأ، وأمكن لك من الفكر وأقرب لك من الحزم، وفي ذلك أقول شعرا:
ومن الرجال إذا زكت أحلامهم
من يستشار إذا استشير فيطرق
حتى يجول بكل واد قلبه
فيرى ويعرف ما يقول فينطق
فبذاك يطلق كل أمر موثق
وبذاك يوثق كل أمر يطلق
إن الحليم إذا تفكر لم يكد
يخفى عليه من الأمور الأوفق
وقال في النهي عن مجالسة أهل الأهواء والبدع ومحادثتهم: أما هذه الأهواء فإني لم أر أحدا ازداد فيها بصيرة إلا ازداد فيها عمى؛ لأن أمر الله أعز من أن تلحقه العقول، ولم أر اثنين تكلما فيها إلا رأيت لكل واحد منهما حجة لا يقدر صاحبه على دفعها إلا بالشبه والمغالطة، وأما بالنصيحة فلا، ومن غالط في هذا أو مثله فإنما يغالط نفسه، وعليها يخلط وإياها يخدع، أو أراد أن يخادع ربه والله أعز من أن يخدع.
لقد نبئت أن الله - تبارك وتعالى - أوحى إلى نبيه موسى - عليه السلام: لا تجادل أهل الأهواء فيوقعوا في قلبك شيئا يوردك به إلى النار، فهذا أمر نهى عنه موسى - عليه السلام - وقد أعطي التوراة فيها هدى الله، وقد كلم الله موسى تكليما فكيف بغيره من أهل الأهواء؟ ولم يزل الصالحون يتناهون عن الهوى والمراء فيه والجدل به، ولم أر قياسا قط تم ولا كلاما صح إلا وفيه كلام بعد كثير، فالسنة ألا يتكلم في شيء من الأهواء بالهوى وبغير الاتباع للكتب المنزلة، والسنن للرسل الصادقة، وفي ذلك أقول شعرا:
إذا أعطي الإنسان شيئا من الجدل
فلم يعطه إلا لكي يمنع العمل
وما هذه الأهواء إلا مصائب
يخص بها أهل التعمق والعلل
وقال في النميمة: إياك والنميمة؛ فإنها لا تترك مودة إلا أفسدتها، ولا عداوة إلا جددتها، ولا جماعة إلا بددتها، ولا ضغينة إلا أوقدتها، ثم لا بد من عرف بها أو نسب إليها أن يتحفظ من مجالسته ولا يؤتى بناحيته، وأن يزهد في مناقشته، وأن يرغب عن مواصلته، وفي ذلك أقول شعرا:
تمشيت فينا بالنميمة وانما
يفرق بين الأصفياء النمائم
فلا زلت منسوبا إلى كل آفة
ولا زال منسوبا إليك اللوائم
وفي مثله أقول:
كالسيل في الليل لا يدري به أحد
من أين جاء ولا من أين يأتيه
فالويل للعبد منه كيف ينقصه
والويل للود منه كيف يبليه
وقال: إذا قيل لك أي شيء أطول؟ فقل: الكلام، وإذا قيل لك أي شيء أقصر، فقل: الكلام؛ لأن الكلمة الواحدة قد تكون جوابا بالألف كلمة، وقد يكون جوابها ألف كلمة وأكثر، ولن تدرك الكلام حتى تذره، ولن تذره حتى تحذره، وفي القول خطأ كثير وبعضه صواب، وإن الصمت منه لأصوب، فاترك منه ما لا تنتفع بأخذه، وخذ منه ما لا تقدر على تركه، واسجن لسانك كما تسجن عدوك واحذره كما تحذر غائلته.
وقال في تأديب النفس: إذا أبصرت بعض ما تكره من غيرك فأسرع الرجعة منه قبل أن يبصره منك من يستريبه، واحمد الله الذي أحسن إليك وبصرك عيوب نفسك، ونبهك للرجوع من غيك، وإذا أخبرك بعيبك صديق قبل أن يخبرك به عدو فأحسن شكره واعرف حقه؛ فإن خبر العدو تعييب وخبر الصديق تأديب، وفي ذلك أقول شعرا:
ولن يهلك الإنسان إلا إذا أتى
من الأمر ما لم يرضه نصحاؤه
وقال في الحاسدين: اعلم أنك لن تلقى من الخير درجة، ولن تبلغ منه مرتبة ولن تنزل منه منزلا؛ إلا وجدت فيه من يحسدك، وإنما الحاسد خصم فلا تجعله حكما؛ فإنه إن حكم لم يحكم إلا عليك، وإن قصد لم يقصد إلا إليك، وإن دفع لم يدفع إلا حقك، وفي ذلك أقول شعرا:
ولو كنت مثل القدح ألفيت قائلا
ألا ما لهذا القدح ليس بقائم
ولو كنت مثل النصل ألفيت قائلا
ألا ما لهذا النصل ليس بصارم
ثم أدب صالح بن جناح، بفضل منشئ الروح ومجري الرياح الملك الوهاب الفتاح، وذلك في سلخ شهر ذي القعدة سنة 1086ه - والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
صفحة غير معروفة