إن كان أحد من أعوانك وحشمك تثق منه بغيب ضميره، وتعرف منه لين طاعة، وتشرف منه على صحة رأي، وتأمنه على مشورتك، فإياك والإقبال عليه في حادث يرد أو التوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك، أو أن تريه أو أحدا من أهل مجلسك أن بك إليه حاجة موحشة، وأن ليس بك عنه غنى في التدبير، أو أنك لا تقضي دونه رأيا إشراكا له في رؤيتك، وإدخالا له في مشورتك واضطرارا إلى رأيه؛ فإن ذلك من دخائل العيوب المنتشر بها سوء القالة عند نظرائك، وانفها عن نفسك خائفا لإغفالها ذكرك، واحجبها عن رؤيتك قاطعا إطماع أولئك عن مثلها عندك، أو غلبتهم عليك منك.
واعلم أن للمشورة موضع الخلا وانفراد النظر، فابغها محرزا لها ورمها طالبا لبيانها، وإياك والقصور عن غايتها والإفراط في طلبها.
احذر الاعتزام بكثرة السؤال عن حديث ما أعجبك، أو أمر ما ازدهاك، والقطع لحديث من أرادك بحديثه، حتى تنقضه عليه بالأخذ في غيره، أو المسألة عما ليس منه؛ فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم، وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة لمساوئها، وأنصت لمحدثك وارعه سمعك، حتى يعلم أنك قد فهمت عنه وأحطت معرفة بقوله؛ فإن أردت إجابته فعن معرفة حاله وبعد علم بطلبته، وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعلل من حديثه بالتبسم والإغضاء، فأجرى عنك الجواب وقطع عنك ألسن العتب.
إياك وأن يظهر منك تبرم بمجلسك وتضجر بمن حضرك، وعليك بالتثبت عند سورة الغضب وحمية الأنف وملال الصبر، في الأمر تستعجل به، والعمل تأمر بإنفاذه؛ فإن ذلك سخف سائر وخفة مردية وجهالة بادية، وعليك بثبوت المنطق ووقار المجلس وسكون الريح والرفض لحشو الكلام وترديد فضوله والاعتزام بالزيادات في منطقك، والترديد للفظك من نحو اسمع أو اعجل أو ألا ترى، أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصرة بأهل العقل، المنسوبة إليهم بالعي، المردية لهم في الذكر، وخصال من معايب الملوك والسوقة عيبها عند النظر إلا من عرفها من أهل الأدب، وقلما حامل لها مضطلع بثقلها آخذ لنفسه بجوامعها، فانفها عن نفسك بالتحفظ منها، واملك عنها اعتقادك معنيا بها كثرة التنخم والتبزق والتنحنح والتثاؤب والجشاء والتمطي وتنقيض الأصابع وتحريكها، والعبث باللحية والشارب والمخصرة وذؤابة السيف والإيماض بالنظر، والإشارة بالطرف إلى أحد من خدمك بأمر إن أردته والسرار في مجلسك، والاستعجال في طعمك وشربك.
ليكن مطعمك مبتدعا، وشربك أنفاسا وجرعك مصا، وإياك والتسرع في الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور أو الشتيمة بابن الهيبة أو العمرية لأحد من خدمك وخاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بمحضرك، أو في دارك وبنائك؛ فإن ذلك مما يقبح ذكره ويسوء موقع القول فيه ويحمل عليك معايبه، وينالك شينه وينشر عنك سوء نبأه، فاعرف ذلك متوقيا له، واحذره مجانبا لسوء عاقبته.
استكثر من فوائد الخير؛ فإنها تنشر المحمدة وتقيل العثرة، واصطبر على الغيظ فإنه يورث العز ويؤمن الساحة، وتعهد العامة بمعرفة دخلهم، وبنظر أحوالهم واستثارة دفائهم حتى يكون على مرأى العين ويقين الخبرة، فتنعش عديمهم وتجبر كسيرهم، وتقيم أودهم، وتعلم جاهلهم، وتستصلح فاسدهم؛ فإن ذلك من فعلك يورثك العزة ويقدمك في الفضل ويبقي لك لسان صدق في العامة، ويحرز لك ثواب الآخرة، ويرد عليك عواطفهم المستنفرة وقلوبهم المستجنة عليك «وميز» بين منازل أهل الفضل في الدين والحجى والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة، وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله والجمود عنه تناه بأهل الحسب والنظر نصيحة لهم تنل مودة الجميع، وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل، وتبلغ درج الشرف في الأحوال المتصرفة بك، فاعتمد عليهم مستدخلا لهم وآثرهم بمجالستك مستمعا منهم، وإياك وتضييعهم مفرطا لهم وإهمالهم مضيعا.
هذه جوامع من خصال، قد لخصها لك أمير المؤمنين وجمع شواهدها مؤلفا، وأهداها لك مرشدا تقف عند أوامرها وتنتهي عند زواجرها، وتثبت في مجامعها، وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الردى، وتنل أنفس الحظوظ ومزية الشرف، وأعلى درج الذكر، والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد، وتتابع المزيد وبلوغ الأمل، وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها، وعافية يحلك أكنافها، ونعمة يلهمك شكرها؛ فإنه الموفق للخير والمعين على الإرشاد وبه تمام الصالحات، وهو مؤتي الحسنات، عنده مفاتيح الخير وبيده الملك، وهو على كل شيء قدير.
فإذا أفضيت نحو عدوك واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي به منال الظفر وتكتهف به لمغالق الحذر؛ تقوى الله - عز وجل - مستشعرا له بمراقبته، والاعتصام بطاعته متبعا لأمره، والاجتناب لمساخطه، محتذيا سنته، والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده، وتعدي شرائعه متوكلا عليه فيما صمدت له، واثقا بنصره فيما وجهت نحوه، متبرئا من الحول والقوة، فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز، راغبا فيما أهاب بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد، ورمى بك إليه محمود الصبر عند الله - عز وجل - من قتال عدو الله للمسلمين أكلبهم عليهم وأظهرهم عداوة لهم، وأفدحهم ثقلا لعامتهم وأخذة بربقهم، وأعلاه عليهم بغيا وأظهره فيهم فسقا وجورا، وأشده على فيئهم الذي أصاره الله لهم مؤنة.
ثم خذ من معك من تبعك وجندك بكف معرتهم ورد مستعلي جورهم، وإحكام خللهم وضم منتشر قواصيهم، ولم شعث أطرافهم وخذهم بمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة «وعفة» الطعمة ودعة الوقار، وهدى الدعة وجمام، «النفس» محكما ذلك منهم متفقدا لهم فيه، تفقدك إياه من نفسك.
ثم اصمد بعدوك المتسمي بالإسلام خارجا من جماعة أهله المنتحل ولاية الدين، مستحلا لدماء أوليائه طاعنا عليهم راغبا عن سنتهم مفارقا لشرائعهم يبغيهم الغوائل، وينصب لهم المكايد أضرم حقدا عليهم، وأرصد عداوة لهم من الترك، وأمم الشرك وطواغي الملل، يدعو إلى المعصية والفرقة والمروق من الدين إلى الفتنة مخترعا بهواه إلى الأديان المنتحلة، والبدع المتفرقة خسارا وتخسيرا وضلالا وإضلالا بغير هدى من الله، ولا بيان ساء ما كسبت يداه، وما الله بظلام للعبيد، وبئسما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، والله من ورائه بالمرصاد
صفحة غير معروفة