قبل أن تحمل طعام الغداء إلى الفناء مشطت شعرها أمام مرآة صغيرة في طرف رف المطبخ، وجعلت تلف خصلات من شعرها تحيط وجهها. حلت رباط ميدعتها وربطته من جديد، وشدت الرباط العريض بإحكام. كان هذا كل ما ينبغي لها أن تفعله، كان هذا اللباس يخص جين من قبل، وقد علقت ألفا، عندما ارتدته لأول مرة، بأنه قد يكون كبيرا جدا بالنسبة لمقاسها، لكن السيدة جانيت لم توافقها الرأي. كان اللباس أزرق - اللون الغالب في المطبخ - بياقة وأطراف أكمام بيضاء اللون ومئزر ذي حافة مزينة بفستونات مدورة. كان عليها أن ترتدي جوارب أيضا، وحذاء أبيض متوسط الكعب كان له وقع صاخب وهي تخطو فوق حجارة الفناء، وهذا ما جعل صوته متناقضا مع وقع الصنادل والأحذية الرياضية، صوت ثقيل عازم يوحي بفقدان الكياسة. لكن أحدا لم يكن ينظر إليها، وهي تحمل الأطباق ومناديل المائدة وألوان الطعام إلى طاولة طويلة من الحديد المشغول. لم يأت إلا السيدة جانيت وأعادت ترتيب الأشياء؛ فقد كانت طريقة ألفا في وضع الأشياء تبدو أنها تفتقر أمرا ما، رغم أنها في هذا الأمر، أيضا، لم ترتكب أي خطأ حقيقي.
وبينما كانوا يتناولون غداءهم كانت هي أيضا تتناول غداءها، جالسة إلى طاولة المطبخ تطالع نسخة قديمة من مجلة «تايم». لم يكن ثمة جرس في الفناء بالطبع؛ فكانت السيدة جانيت تصيح منادية «حسنا، ألفا!» أو فقط «ألفا!» بنبرات متحفظة ونافذة كوقع الجرس. كان من الغريب أن أسمعها تصيح على هذا النحو، بينما تتحدث إلى شخص ما، ثم تعود فتبدأ الضحك؛ بدا الأمر وكأنها تملك صوتا آليا، أو مزودة بزر تضغط عليه فتنادي: ألفا.
بعد انتهائهم من تناول الطعام حملوا جميعا ما أكلوا فيه من أطباق التحلية وفناجين القهوة إلى المطبخ. قالت السيدة فانس إن سلطة البطاطا كانت لذيذة؛ وقال السيد فانس، الذي كان ثملا تماما، إنها لذيذة لذيذة . كان يقف خلف ألفا مباشرة عند الحوض، قريبا جدا منها بحيث كانت تشعر بأنفاسه وتحس موضع يديه، لم يلمسها تماما. كان السيد فانس ضخما جدا، بشرته ضاربة إلى الحمرة، أجعد الشعر، أشيبه. كانت ألفا تجده مقلقا؛ لأنه كان من نوعية الرجال الذين اعتادت أن تظهر الاحترام لهم. كانت السيدة فانس تتحدث طوال الوقت، وتبدو، حين تتحدث إلى ألفا، أقل اعتدادا بنفسها، لكن أكثر ودا، من أي من النساء الأخريات. كان ثمة اضطراب ما في وضع آل فانس، لم تكن ألفا تدرك ما هو تحديدا، ربما كان أنهم ليسوا بثراء الآخرين. على أية حال، كانوا دائما مسلين جدا ومتحمسين جدا، وكان السيد فانس دائما يفرط في السكر.
قال السيد فانس: «هل ستصحبيننا نحو الشمال يا ألفا، إلى خليج جورجيا؟» وأضافت السيدة فانس: «أوه، سيعجبك المكان، عائلة السيد جانيت تملك مكانا رائعا هناك»، وقال السيد فانس: «لم لا تحظين ببعض الشمس على بشرتك هناك، ها؟» ثم ذهبوا. استدارت ألفا، التي صار بمقدورها أن تتحرك الآن، لتجمع بعض الأطباق المتسخة، ولاحظت أن ابن عم السيد جانيت، أو أيا كان من أقربائه، ما زال موجودا. كان نحيلا، ذا هيئة خشنة، مثل السيدة جانيت، وإن كان أكثر سمرة منها. سألها: «ألم يتبق لديك بعض القهوة هنا؟» صبت ألفا له ما تبقى من القهوة؛ نصف فنجان. وقف يحتسيه، وراح يراقبها وهي تكدس الأطباق، ثم قال: «الجو مرح للغاية، أليس كذلك؟» وحين رفعت بصرها، ضحك وذهب.
لم يكن لدى ألفا ما تفعله بعد أن أنهت غسل الأطباق، فالعشاء سيكون في ساعة متأخرة. لم يكن باستطاعتها فعلا أن تترك البيت، فقد تحتاجها السيدة جانيت في أمر ما. ولم يكن باستطاعتها أن تخرج إلى الخارج، فقد كانوا جميعا هناك. صعدت إلى الأعلى، ثم حين تذكرت أن السيدة جانيت كانت قد سمحت لها أن تقرأ أيا من الكتب الموجودة في حجرة التلفاز، نزلت للأسفل ثانية كي تحضر أحدها. قابلت في الردهة السيد جانيت، الذي نظر إليها بجدية كبيرة، وبتفرس، وبدا أنه على وشك أن يمر بها دون أن يتفوه بشيء، لكنه قال: «اسمعي ألفا، انظري ... هل تحصلين على ما يكفيك من الطعام؟»
لم يكن يمزح، لأن السيد جانيت لم يكن معتادا على المزاح معها. في الواقع، كان قد سألها هذا السؤال مرتين أو ثلاثا من قبل. بدا أنه يحس بمسئولية نحوها، وكان حينما يراها في البيت يشعر أن الشيء المهم هو أنها ينبغي أن تغذى جيدا. طمأنته ألفا، وقد تصاعد الدم إلى وجهها من الضيق. فكرت: هل هي بقرة صغيرة؟ قالت: «كنت ذاهبة إلى ركن التلفاز لأحضر كتابا. قالت لي السيدة جانيت إنها لا تمانع ذلك.»
فقال السيد جانيت: «نعم، نعم، أي كتاب يعجبك» وفتح لها، على نحو غير متوقع، باب حجرة التلفاز وأخذها نحو أرفف الكتب، حيث وقف مقطبا. سألها: «أي كتاب ترغبين؟» ومد يده نحو رف الروايات التاريخية والبوليسية ذات الأغلفة البديعة، لكن ألفا قالت: «لم تسبق لي قراءة «الملك لير».»
فقال «الملك لير! أوه.» لم يكن يدري أين يبحث عنها، فأتت به ألفا بنفسها، ثم قالت: «ولم أقرأ أيضا رواية «الأحمر والأسود».» لم تعجبه هذه الرواية كثيرا، لكنها كانت رواية يمكن أن تقرأها بالفعل؛ لم تكن لتعود إلى حجرتها ومعها «الملك لير» فحسب. خرجت من الحجرة شاعرة بسرور بالغ، فقد أرته أنها تفعل شيئا آخر إلى جانب أكل الطعام. إن مسرحية «الملك لير» قد تعجب الرجال أكثر مما تعجب النساء. لكن لا شيء كان ليحدث فرقا في نظر السيدة جانيت، فبالنسبة لها، الخادمة خادمة. •••
لكن في حجرتها، لم ترغب في القراءة. كانت حجرتها أعلى الجراج، وحارة للغاية. كان الجلوس على الفراش يجعد لباسها، ولم يكن لديها لباس آخر مكوي؛ فخلعته وجلست مرتدية قميصها التحتاني، لكن السيدة جانيت قد تناديها، وتطلب مجيئها فورا. وقفت عند النافذة، تتطلع إلى ناحيتي الشارع. كان الشارع هلالي الشكل، عريضا ومتدرج الانحناء، من دون رصيف للمشاة. شعرت ألفا في المرة أو المرتين اللتين مشت فيهما في هذا الشارع أنها تجذب الانتباه إليها بعض الشيء؛ إذ لم يشاهد أي شخص يمشي فيه قط. كانت المنازل متباعدة عن بعضها للغاية، ومتراجعة مسافة بعيدة عن الشارع، خلف مروج وحدائق صخرية وأشجار زينة باهرة؛ وفي هذه المساحة الموجودة أمام كل منزل، لم يكن ثمة أحد عدا الجنائنيين الصينيين؛ وكانت المقاعد بالمروج، والمراجيح، وطاولات الحدائق موضوعة في المروج الخلفية، المحاطة بسياجات من الشجيرات أو جدر من الحجارة أو أسوار على الطراز شبه الريفي. كانت السيارات مصطفة على طول الشارع عصر هذا اليوم؛ وكانت تنبعث من خلف المنازل أصوات حديث وضحك كثير. ورغم حرارة الجو، ما من سديم أثناء النهار، هنا في الأعلى؛ كل شيء - البيوت المبنية بالحجارة والجص، والأزهار، والسيارات زاهية الألوان - كان يبدو متماسكا ولامعا، متقنا ومثاليا. ما من شيء عشوائي في المشهد. كان الشارع، كأنه إعلان، يحمل منظرا حيا لأجواء الصيف الساطعة، وهذا بهر ألفا، بهرها الضحك، وبهرها الناس الذين تتلاءم حياتهم مع الشارع. جلست على كرسي صلب قبالة طاولة أطفال عتيقة الطراز؛ كل الأثاث بهذه الغرفة جاء من فضلة الغرف الأخرى التي جددت ديكوراتها؛ كانت المكان الوحيد في البيت الذي يمكنك أن تجد فيه أشياء غير منسجمة مع بعضها، لا علاقة بينها، وقطعا خشبية ليست ضخمة، قصيرة وغير جذابة. ثم شرعت تخط رسالة لأسرتها. ••• «... والبيوت، وكل الأشياء الأخرى أيضا، عظيمة حقا، غالبا على أحدث طراز. ليس هناك عشب ضار واحد في حدائق البيوت، كل بيت هنا به جنائني يقضي يوما كاملا من كل أسبوع في تنظيف ما يبدو مثاليا بالفعل. أعتقد أن هؤلاء الرجال حمقى بعض الشيء، نظرا للعناية المفرطة التي يولونها لحدائق البيوت وما شابهها من الأشياء. صحيح أنهم يخرجون ليعيشوا حياة تخلو من الرفاهيات المعتادة بين الفينة والفينة، لكن الأمر يكون معقدا جدا ويجب أن يكون كل شيء مرتبا بدقة. هذه حال كل ما يفعلونه وكل مكان يقصدونه.
لا تخشي من أن أكون وحيدة أو مضطهدة أو ما إلى ذلك من الأمور التي تتعرض لها الخادمات؛ فأنا لم أكن لأتهاون مع أي أحد يفعل أي شيء من هذا القبيل. علاوة على أنني لست خادمة بالمعنى الحقيقي، أنا أعمل في الصيف وحسب. لا أشعر بالوحدة، ولم ينبغي لي؟ أنا أراقب فقط وأتسلى. أمي، بالطبع لا يمكنني أن آكل معهم. لا تكوني مضحكة. وضعي ليس مثل وضع عاملة أجيرة، فضلا عن أنني أفضل أن آكل بمفردي. وإذا حدث وكتبت رسالة للسيدة جانيت بهذا الشأن فلن تفهم عما تتحدثين أصلا، ثم إنني لا أبالي بهذا الأمر. فلا تبالي أنت أيضا به!
صفحة غير معروفة