من أفضل ما قيل عن الكتاب
راعي بقر ووكر براذرز
منازل مضيئة
صور
شكرا على النزهة
المكتب
العلاج
وقت الموت
يوم الفراشة
صبيان وبنات
صفحة غير معروفة
بطاقة بريدية
فستان أحمر - 1946
بعد ظهيرة يوم الأحد
رحلة إلى الساحل
سلام أوترخت
رقصة الظلال السعيدة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
راعي بقر ووكر براذرز
منازل مضيئة
صور
صفحة غير معروفة
شكرا على النزهة
المكتب
العلاج
وقت الموت
يوم الفراشة
صبيان وبنات
بطاقة بريدية
فستان أحمر - 1946
بعد ظهيرة يوم الأحد
رحلة إلى الساحل
صفحة غير معروفة
سلام أوترخت
رقصة الظلال السعيدة
رقصة الظلال السعيدة
رقصة الظلال السعيدة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
رحاب صلاح الدين
مروة عبد الفتاح شحاتة
مراجعة
صفحة غير معروفة
ضياء وراد
من أفضل ما قيل عن الكتاب
تحفة فنية ... مقدرة فائقة ... عبقرية فريدة كالماس ... بديعة؛ كلها أوصاف تليق بأليس مونرو.
مجلة «كريستيان ساينس مونيتور»
أليس مونرو هي تشيكوف العصر، وستتفوق على معظم معاصريها.
سينثيا أوزيك
كيف يدرك المرء أنه أمام موهبة عظيمة وفن أصيل يخلب الألباب؟ إنه الفن الذي ينساب من صفحات قصص أليس مونرو.
صحيفة «ذا وول ستريت جورنال»
إلى روبرت إي ليدلو
راعي بقر ووكر براذرز
صفحة غير معروفة
بعد العشاء يقول أبي: «أتودين الخروج ومشاهدة البحيرة؟» نترك أمي تحيك في ضوء حجرة تناول الطعام، تصنع ملابس لي قبيل بدء العام المدرسي. كانت قد مزقت من أجل ذلك بذلة قديمة وثوبا صوفيا مربع النقش من ثيابها، تقص القماش وتوائمه في براعة شديدة وتجعلني أقف وأستدير لضبط المقاس مرات كثيرة، أتعرق وأشعر بحكة الصوف الساخن، غير ممتنة لذلك. ونترك أخي في سريره في الرواق الصغير المطوق بالستائر والواقع في نهاية الشرفة الأمامية، وأحيانا ما يجثو فوق سريره ويلصق وجهه بالستارة ويصيح في حزن: «أحضرا لي بعض الآيس كريم!» لكنني أجيبه دون أن ألتفت إليه حتى: «ستكون نائما حين نعود.»
نمضي بعدها أنا وأبي شيئا فشيئا عبر شارع طويل حالته متردية نوعا ما، وتظهر على الرصيف لافتات لسيلفروودز آيس كريم أمام متاجر ضيقة مضاءة. نحن في تابر تاون، بلدة عتيقة تطل على بحيرة هورون ، ميناء عريق لتجارة الحبوب. تظلل أشجار القيقب الشارع في بعض أجزائه، والتي صدعت جذورها الرصيف لينبعج سطحه، وانتشرت كالتماسيح في الأفنية الجرداء. يجلس الناس في الخارج، لم يرتد الرجال سوى قمصان ومن تحتها فانلات، وارتدت النساء المآزر. لم نكن نعرفهم، لكن إذا أبدى أي شخص استعدادا للإيماء برأسه وقول «ليلة دافئة»، يومئ أبي برأسه أيضا ويرد بالعبارة نفسها. لا يزال الأطفال يلعبون بالخارج، ولم أكن أعرفهم أيضا؛ إذ لا تسمح أمي لي ولأخي إلا بالبقاء في فناء منزلنا، معللة أن أخي صغير جدا على أن يلعب بالخارج وأنا علي الاعتناء به. لم أشعر بالأسف الشديد وأنا أشاهد ألعاب الأطفال المسائية؛ حيث إن ألعابهم نفسها خلت من النظام والتجديد. يتفرق الأطفال، بمحض إرادتهم، في جزر منعزلة من اثنين أو حتى واحد تحت الأشجار الكثيفة، يشغلون أنفسهم بمثل هذه الطرق الانعزالية كما أفعل طيلة اليوم، يغرسون الحصى في الطين أو يكتبون عليه بالعصي.
نواصل سيرنا متجاوزين تلك الأفنية والمنازل وراءنا، ونمر بمصنع سدت نوافذه بألواح خشبية، كان مخزنا للأخشاب تغلق أبوابه الخشبية العالية ليلا. ثم تنتهي البلدة بمجموعة عشوائية متهدمة من السقائف وبقاع مهملات صغيرة. يصل الرصيف إلى نهايته ثم نسير عبر طريق رملي ويحيط بنا نبات الأرقطيون ولسان الحمل وأعشاب بسيطة لا أعرف لها اسما. نصل إلى قطعة أرض خاوية، أشبه بالمتنزهات حقيقة، فقد كانت تخلو من المهملات، وثمة مقعد واحد كان لوح خشبي مفقودا من مسنده الخلفي، كان مكانا نجلس عليه ونراقب المياه التي تبدو عادة رمادية في المساء، تحت سماء ملبدة بالغيوم قليلا، لا نرى غروب الشمس، ويبدو الأفق معتما. نسمع ضجيجا خافتا للغاية لارتطام المياه بصخور الشاطئ. وبعيدا جدا تجاه الجزء الرئيسي للبلدة، توجد مساحة من الأرض مغطاة بالرمال، وأنبوب تزلج مائي، وعلى سطح منطقة السباحة الآمنة تطفو العوامات، ويطل عليها المقعد الطويل المتداعي الخاص بعامل الإنقاذ. وكذلك ثمة مبنى مرتفع أخضر قاتم، كأنه شرفة مسقوفة، يدعى السرادق، يعج بالمزارعين وزوجاتهم، مرتدين ملابس أنيقة للغاية، أيام الآحاد. كنا نعرف ذلك الجزء من البلدة حينما كنا نعيش في دانجانون، وكنا نأتي ثلاث أو أربع مرات خلال الصيف لنزور البحيرة. كنا نذهب إلى البحيرة وأحواض السفن حيث نراقب مراكب الحبوب العتيقة والصدئة التي تتقاذفها الأمواج؛ مما يجعلنا نتساءل كيف اجتازت حاجز الأمواج، ناهيك عن وصولها إلى فورت ويليام.
يتسكع المتسولون حول أحواض السفن وأحيانا ما يتجولون في تلك الأمسيات على الشاطئ المتضائل ويتسلقون الطريق المعاكس والمتداعي الذي صنعه الصبية، متشبثين بالشجيرات الجافة، ثم يقول المتسول شيئا لأبي - الذي كان يرتعد من المتسولين - لم أفهمه من شدة فزعي. يخبره أبي أنه فقير أيضا ويقول: «سألف لك سيجارة إذا كان ذلك سينفعك بشيء.» ثم يخرج التبغ بعناية فوق إحدى الأوراق الرقيقة المزخرفة، ثم يحركها سريعا فوق لسانه، ويحكم لفها ليقدمها للمتسول الذي يأخذ السيجارة ويمضي بعيدا. يلف أبي أيضا سيجارة لنفسه ويشعلها ويدخنها.
يحدثني عن نشأة البحيرات العظمى، يقول إن منطقة بحيرة هورون الآن كانت أرضا منبسطة، سهلا مسطحا فسيحا، ثم زحف الثلج من الشمال نحوها، وشق طريقه بقوة إلى الأماكن المنخفضة «هكذا»؛ موضحا لي بالضغط بيده مبسوطة الأصابع فوق الأرض الصلبة كالصخر حيث كنا نجلس، لكن أصابعه لا تحدث تأثيرا على الإطلاق، فيقول: «حسنا، كان الغطاء الثلجي القديم يحمل قوة من ورائه أكبر كثيرا من قوة هذه اليد.» ثم انحسر الثلج وتقهقر تجاه القطب الشمالي حيث أتى، وترك أصابعه الثلجية في الأماكن العميقة التي شقها، وتحول الثلج إلى بحيرات، وها هي هنا اليوم. كانت البحيرات جديدة، مع مرور الزمن. وأحاول تصور السهل ممتدا أمامي والديناصورات تسير فوقه، لكنني لم أستطع تخيل شاطئ البحيرة عندما كان يعيش عليه الهنود الحمر، قبل تابر تاون. إن القدر الضئيل من الزمن الذي نعيشه يفزعني، رغم أن أبي يبدو أنه ينظر إلى الأمر بسكينة، حتى أبي، الذي بدا لي أحيانا مطمئنا إلى العالم ما دام باقيا، لم يعش حقا فوق هذه الأرض سوى ما يزيد بقدر ضئيل عني، من منظور زمان العيش كله. لم يشهد أبي زمنا، أكثر مني، لم تكن فيه السيارات والمصابيح الكهربية موجودة على الأقل. لم يكن على قيد الحياة عند بداية هذا القرن، وسأكون على قيد الحياة بالكاد، طاعنة في السن للغاية، عند انتهائه. لا أحب أن أفكر في هذا الأمر. ليت البحيرة تظل دائما بحيرة ليس إلا، تطفو عليها العوامات في مكان السباحة الآمن مميزة إياها، وكذلك حاجز الأمواج وأضواء بلدة تابر تاون. •••
يعمل أبي بوظيفة، فهو بائع بشركة ووكر براذرز، وهي شركة تبيع على مستوى البلد بأسره تقريبا؛ أعني المناطق النائية من البلاد: صانشاين وبوليزبريدج وتيرناروند؛ هذه هي المناطق التي يبيع أبي فيها، لا في دانجانون حيث كنا نعيش؛ فدانجانون بلدة قريبة للغاية، وأمي ممتنة لذلك. يبيع أبي أدوية السعال، ومكملات الحديد، ولاصق مسمار القدم، وملينا للأمعاء، وحبوبا للاضطرابات الأنثوية، وغسولا للفم، وشامبوهات، ومراهم، ودهانات، ومركز الليمون والبرتقال والتوت لصنع مشروبات منعشة، وفانيليا، ومكسبات اللون للأطعمة، وشايا أسود وأخضر، وزنجبيلا، وقرنفلا وغيرها من التوابل، وسما للفئران. كان قد ألف أغنية لبضاعته من هذين السطرين:
لدي كل المراهم والزيوت،
تعالج كل شيء من مسمار القدم إلى البثور ...
لم تكن أغنية مضحكة في رأي أمي، كانت أغنية بائع متجول، وهكذا كان أبي، بائعا متجولا يطرق أبواب المطابخ بالمناطق النائية. حتى الشتاء الماضي كان له مشروعه الخاص: مزرعة ثعالب. ربى أبي الثعالب الرمادية وباع فراءها إلى أناس يصنعون منها العباءات والمعاطف وقفازات الفراء لتدفئة اليدين. انخفضت الأسعار، وثابر أبي آملا أن تتحسن العام التالي، لكنها انخفضت ثانية، فثابر عاما آخر ثم آخر، وأخيرا لم يكن في الإمكان الاستمرار أكثر من ذلك، فأصبحنا مدينين بكل شيء لشركة العلف. سمعت أمي تشرح هذا الأمر، مرات عدة، للسيدة أوليفانت، وهي الجارة الوحيدة التي تتحدث معها أمي. (فقدت السيدة أوليفانت أيضا مكانتها الاجتماعية لكونها معلمة تزوجت بحارس.) أخبرتها أمي أننا وضعنا في التجارة كل ما كنا نملك، ولم نجن منها شيئا. كثير من الناس يقولون الأمر نفسه هذه الأيام، لكن أمي لم يكن لديها وقت للاهتمام بالمأساة الوطنية، فقط مأساتنا نحن. ألقت بنا الأقدار إلى شارع يقطنه الفقراء (بغض النظر عن أننا كنا فقراء من قبل، فقد كان هذا نوعا مختلفا من الفقر)، والسبيل الوحيد للتعامل مع الأمر - حسبما ترى أمي - هو التعامل معه بكبرياء ومرارة ودون تصالح. لن تجد مواساة في حمام به حوض استحمام مزود بأربع أرجل أو مرحاض مزود بصندوق لطرد المياه، أو وجود مياه بالصنبور وأرصفة أمام المنزل ولبن بالزجاجات، أو حتى دوري عرض الأفلام ومطعم فينس ومتجر وولورز البديع للغاية حتى أنه يوجد به طيور تغرد في زواياه المبردة بهواء المراوح، وأسماك صغيرة بحجم الظفر ومضيئة كالأقمار تسبح في الأحواض الخضراء. لا تأبه أمي بذلك.
في فترات بعد الظهيرة غالبا ما تذهب أمي إلى بقالة سايمونز وتأخذني معها لأساعدها في حمل الأشياء. ترتدي ثوبا أنيقا، كحلي اللون منقوشا بزهور صغيرة، وشفافا، ترتديه فوق لباس داخلي كحلي اللون، وكذلك قبعة صيفية من القش الأبيض، تميلها إلى جانب رأسها، وحذاء أبيض كنت قد لمعته توا باستخدام صحيفة على السلم الخلفي. أما شعري فقد صففته لي في تموجات طويلة رطبة سيحلها الهواء الجاف سريعا لحسن الحظ، ووضعت في أعلى رأسي شريطا أبيض كبيرا مشدودا بإحكام. كان الخروج مع أمي مختلفا أيما اختلاف عن خروجي مع أبي بعد العشاء؛ لا نلبث أن نمر بمنزلين حتى أشعر بأننا أصبحنا هدفا للسخرية من الجميع، حتى الكلمات البذيئة المكتوبة بالطباشير أعلى الرصيف تسخر منا، لا يبدو أن أمي تلحظ هذا. تسير في طمأنينة كسيدة مجتمع تتسوق، «كسيدة مجتمع» تتسوق، تمر بربات البيوت اللاتي يرتدين ثيابا فضفاضة بلا حزام وممزقة من تحت آباطهن. أما أنا فصنيعتها، بتموجات الشعر البائسة وشريط الشعر المبهرج وركبتي النظيفتين والجوارب البيضاء؛ كل ما لم أكن أريده. أكره حتى اسمي عندما تقوله على الملأ، بصوت مرتفع للغاية، متعال ورنان، مختلف بتعمد عن صوت أي أم أخرى بالشارع.
صفحة غير معروفة
أحيانا ما تحضر أمي معها إلى المنزل الآيس كريم، على سبيل الترفيه، الذي يكون بطعوم مختلفة، ولأننا لا نملك ثلاجة في منزلنا نوقظ أخي ونأكله في الحال في حجرة الطعام، التي كان جدار المنزل المجاور يجعلها معتمة على الدوام. أتناول الآيس كريم بالملعقة على مهل وأترك الشكولاتة إلى النهاية على أمل أن يكون لدي ما آكله عندما يفرغ أخي صحنه. تحاول أمي بعد ذلك محاكاة الأحاديث التي كانت تدور بيننا عندما كنا في دانجانون، وتستعيد الأيام الأولى الأكثر رفاهية قبل أن يولد أخي، عندما كانت تقدم لي قليلا من الشاي وكثيرا من اللبن في كوب ككوبها ونجلس في الخارج فوق السلم في مواجهة مضخة المياه وأشجار الليلك وحظائر الثعالب من ورائها، لم يكن بوسعها الامتناع عن ذكر تلك الأيام. «هل تذكرين عندما كنا نضعك في المزلجة ويجذبك ميجور؟» (ميجور كان كلبنا واضطررنا إلى تركه مع الجيران عند انتقالنا)، «هل تذكرين الصندوق الرملي الخاص بك أمام نافذة المطبخ بالخارج؟» أتظاهر بأنني أذكر أقل كثيرا مما أذكره، حذرة من الوقوع في حصار الشفقة أو مشاعر غير مرغوب فيها.
تعاني أمي من نوبات صداع، غالبا ما تضطر إلى الاستلقاء، فترقد فوق سرير أخي الضيق في الرواق المستر الصغير، الذي تظلله الفروع الكثيفة. تقول: «أنظر إلى الشجرة بالأعلى وأفكر أنني في منزلي.»
يخبرها أبي: «إن ما تحتاجين إليه هو تنشق الهواء المنعش وجولة بالسيارة في الريف.» ويقصد أن تأتي معه في جولة عمله بشركة ووكر براذرز.
لم تكن هذه فكرة أمي عن جولة بالسيارة في الريف. «هل يمكنني المجيء؟» «ربما تحتاجك أمك لتجربة الملابس.»
قالت أمي: «لست في حال تسمح لي بالحياكة اليوم.» «سأصحبها معي، سأصحبهما هما الاثنين لتنعمي بقسط من الراحة.»
ما الذي بنا يجعل الناس بحاجة إلى نيل قسط من الراحة منا؟! لا بأس. كنت سعيدة للبحث عن أخي وحثه على الدخول إلى المرحاض، بعد ذلك صعدنا سويا السيارة، دون أن ننظف ركبتينا وشعري غير معقوص. أحضر أبي من المنزل حقيبتيه البنيتين الثقيلتين، المكتظتين بالزجاجات، ثم وضعهما على المقعد الخلفي. كان يرتدي قميصا أبيض، يبرق تحت ضوء الشمس، ورباط عنق، وبنطلون بذلته الصيفية الخفيف (كانت بذلته الأخرى سوداء، خاصة بالجنازات، وقد كانت لعمي قبل وفاته) واعتمر قبعة من القش فاتحة اللون. كان هذا زي عمله كبائع، كما علق أقلاما رصاصية في جيب قميصه. رجع إلى المنزل مرة أخرى، على الأرجح ليودع أمي، وليسألها ما إذا كانت متأكدة أنها لا تود المجيء معنا، وسمعتها تقول: «كلا، كلا، شكرا لك، سأكون أفضل حالا بأن أستلقي هنا وعيناي مغمضتان.» ثم رجع أبي بالسيارة إلى الخلف للخروج من الممر وبداخلنا أمل متصاعد لخوض مغامرة، إنه ذلك الأمل الصغير فحسب الذي يصعد بك فوق المطب ومنه إلى الشارع، بدأ الهواء الساخن في التحرك، وتحول إلى نسيم، وأخذت المنازل تبدو غير مألوفة شيئا فشيئا ونحن نسلك الطريق المختصرة التي يعرفها أبي، المسار السريع للخروج من البلدة. مع ذلك، ماذا كان بانتظارنا ساعات ما بعد الظهيرة كلها سوى ساعات حارة في أفنية المزارع، وربما التوقف عند متجر ببلدة وشراء ثلاثة قراطيس من الآيس كريم أو ثلاث زجاجات مياه غازية، وغناء أبي؟ كانت الأغنية التي ألفها أبي عن نفسه تحمل عنوان «راعي بقر ووكر براذرز»، وتبدأ بهذه السطور:
نيد فيلدز العجوز، قد مات الآن،
وها أنا أتنقل بدلا منه ...
من نيد فيلدز هذا؟ لا بد أنه الرجل الذي حل أبي محله، وإن كان ذلك، فقد مات حقا؛ إلا أن صوت أبي الذي يشوبه الحزن والفرح في الوقت نفسه يجعل من موته لغوا فارغا نوعا ما، مأساة كوميدية. غنى أبي معظم الوقت أثناء القيادة: «صمتا، لقد عدت إلى ريو جراندي، أغوص في الرمال المظلمة.» حتى وهو يتجه خارج البلدة، يعبر الجسر ويسلك المنعطف الحاد إلى الطريق السريع، يهمهم بشيء، ويدمدم بأغنية ما لنفسه، مدخلا بعض التعديلات عليها، مستعدا للارتجال، وعلى امتداد الطريق السريع، نمر بمخيم المعمدانيين، ومخيم مدارس الكنيسة بالإجازات، لينطلق أبي في أغنيته:
أين المعمدانيون، أين المعمدانيون،
صفحة غير معروفة
أين جميع المعمدانيين اليوم؟
ها هم في المياه، تحت مياه بحيرة هورون،
جميع خطاياهم تزول عنهم.
يأخذ أخي هذا الكلام على محمل الجد وينهض على ركبتيه محاولا أن ينظر إلى البحيرة، ويقول في شك: «لا أرى أي معمدانيين.» فيرد أبي: «ولا أنا أيضا يا بني. لقد أخبرتك أنهم تحت مياه البحيرة.»
لم يعد هناك طرق ممهدة بعد أن تركنا الطريق السريع. اضطررنا إلى رفع زجاج النوافذ لتفادي الغبار. كانت الأرض مسطحة، تسفعها أشعة الشمس سفعا، وخاوية. توفر الشجيرات في نهايات المزارع الظل، أما ظلال الصنوبر السوداء فتبدو كالبرك لا يستطيع أحد الاقتراب منها. ترتفع السيارة لنسير فوق ممر طويل، وفي نهايته، ماذا يمكن أن يبدو أكثر تنفيرا وأكثر وحشة من منزل ريفي مرتفع غير مطلي، وحشائش نامية غير مشذبه عند الباب الأمامي، وستائر معتمة خضراء مسدولة، وباب بالأعلى مفتوح على لا شيء سوى العدم؟ منازل كثيرة بها هذا الباب، ولم أستطع قط اكتشاف السبب. أسأل أبي فيخبرني أنها للسير أثناء النوم. «ماذا؟!» حسنا إذا تصادف أنك سرت أثناء النوم وأردت الخروج من المنزل. أشعر بالاستياء بعد أن تبينت متأخرة أنه يمزح كعادته، لكن أخي يقول في شدة: «إذا فعل شخص ذلك فمن الممكن أن يدق عنقه.»
إنها ثلاثينيات القرن العشرين. إلى أي مدى يبدو لي هذا النمط من المنازل الريفية وهذا النمط من فترات ما بعد الظهيرة أنه ينتمي إلى ذاك العقد من الزمان، شأنه شأن قبعة أبي، ورباطة عنقه العريضة الزاهية، وسيارتنا بدرجها الجانبي العريض (من طراز إسكس، وقد فقدت زهوها منذ زمن بعيد)؟ نرى سيارات تشبه سيارتنا بعض الشيء، كثيرة أقدم منها، وقطعا لم نر إحداها مغطاة بالغبار كسيارتنا، تقف في أفنية المزارع. بعضها لم يعد يعمل، وانتزعت أبوابها وأزيلت مقاعدها لاستخدامها في أروقة المنازل. لا توجد حيوانات في مجال رؤيتنا، دجاج أو ماشية، لا يوجد سوى الكلاب، نرى كلابا ترقد في أي بقعة ظليلة تجدها، تستغرق بالأحلام، جوانبها الهزيلة ترتفع وتنخفض سريعا، تنهض الكلاب عندما يفتح أبي باب السيارة، ويضطر إلى التحدث معها: «كلب لطيف، هذا كلب لطيف، كلب كبير لطيف.» وتهدأ الكلاب، وتعود إلى البقعة الظليلة. لا بد أن أبي يعرف كيفية تهدئة الحيوانات، فقد أمسك بثعالب مستقتلة باستخدام كلابات حول رقابها. صوت رقيق لتهدئة الكلاب وصوت آخر مرتفع ومرح للصياح أمام الأبواب: «مرحبا سيدتي، أنا مندوب شركة ووكر براذرز، ماذا نفد لديك اليوم؟» يفتح الباب، ويتوارى أبي داخل المنزل. محظور علينا الذهاب خلف أبي، أو حتى مغادرة السيارة، لم يكن علينا سوى الانتظار والتساؤل عما يقوله أبي. عندما كان أبي يحاول إضحاك أمي، كان يتظاهر بأداء ما يقوم به في مطابخ أحد المنازل، فينثر حقيبة العينات، ويقول: «الآن يا سيدتي، هل تزعجك الطفيليات (بفروة رأس أطفالك أقصد)؟ تلك الأشياء الصغيرة الزاحفة التي نعف عن ذكرها وتظهر في رءوس من هم من أفضل العائلات؟ إن الصابون وحده عديم الفائدة، والكيروسين ليس بطيب العطر، لكن لدي هنا ...» أو قد يقول: «صدقيني! بسبب جلوسي وقيادتي طيلة اليوم فإني «أعرف» حقا قيمة هذه الأقراص الرائعة، راحة طبيعية، وهي مشكلة شائعة لدى كبار السن أيضا، ما إن تولي أيام النشاط. ماذا عنك يا جدتي؟» وقد يلوح بعلبة الأقراص الوهمية أسفل أنف أمي التي تضحك في النهاية، على مضض. وأتساءل أنا: «هو لا يقول ذلك حقا، أليس كذلك؟» فترد أمي: كلا بالطبع، فهو رجل مهذب للغاية.
مررنا بعد ذلك بمنزل تلو الآخر، سيارات قديمة، مطبات طريق، كلاب، مشاهد لحظائر رمادية وسقائف منهارة، وطواحين هوائية معطلة. الرجال، إذا كانوا يعملون في الحقول، فلا نراهم في أي حقل في مرمى البصر، والأطفال بعيدون للغاية، يجرون على قيعان الجداول المائية الجافة، أو يبحثون عن ثمار العليق، أو يختبئون في المنازل، يراقبوننا من بين فراغات الستائر المعتمة. أصبح كرسي السيارة زلقا جراء العرق. تحديت أخي أن يضغط على بوق السيارة، أريد أن أفعل ذلك بنفسي لكنني لا أريد أن ألام على ذلك، لكنه كان يدرك عاقبة الأمر. نلعب لعبة التخمين، إلا أنه كان من الصعب العثور على ألوان كثيرة. الحظائر والسقائف والمراحيض والمنازل رمادية اللون، والأفنية والحقول بنية، والكلاب سوداء أو بنية. أما السيارات الصدئة فعكست ألوان قوس قزح، أعتصر عيني لأنتقي منها البنفسجي أو الأخضر؛ وبالمثل أدقق النظر في الأبواب بحثا عن طلاء عتيق تقشر، كستنائي أو أصفر. ليس بوسعنا أن نلعب لعبة الحروف، وهو ما كان أفضل؛ نظرا لأن أخي لم يتعلم الهجاء بعد. تفسد اللعبة على أية حال. يدعي أخي أنني ظالمة في اختياري للألوان، ويرغب في أدوار إضافية من اللعب.
عند أحد المنازل، لا ينفتح أي باب، رغم أن هناك سيارة تقف في الفناء. يطرق أبي الباب ويطلق صفيرا، ويصيح: «مرحبا! أنا مندوب شركة ووكر براذرز!» لكن لا يأتي أي رد على الإطلاق من أية جهة. لا يوجد بهذا المنزل رواق، فقط بلاطة أسمنتية منحدرة يقف عليها أبي. يستدير أبي باحثا في فناء الحظيرة، التي لا بد أن مخزن التبن بها فارغ لأنه يمكنك رؤية السماء من خلاله، وفي النهاية انحنى أبي ليلتقط حقيبتيه. وحينئذ انفتحت نافذة بالأعلى، وظهر إناء أبيض عند عتبة النافذة، ثم يميل الإناء لأسفل، وينسكب محتواه خارج الجدار. لم تكن النافذة فوق رأس أبي مباشرة؛ لذا لم يمسسه سوى قطرات شاردة. يلتقط حقيبتيه دون عجلة، ويتجه نحو السيارة وقد توقف عن الصفير. أقول لأخي: «أتعرف ماذا كان ذلك؟ إنه بول.» لينفجر أخي ضاحكا.
يلف أبي سيجارة ثم يشعلها قبل أن يدير محرك السيارة. أغلقت نافذة المنزل بعنف وأرخيت الستارة المعتمة، ولم نر قط يدا أو وجها. يغني أخي في طرب: «بول، بول، سكب أحدهم بولا!» فيقول أبي: «لا تخبر أمك فحسب، فليس من المحتمل أن تراه مزحة.» فيسأل أخي أبي أمرا: «هل هذا الحدث في أغنيتك؟» يجيبه أبي بالنفي لكنه سيرى ما في وسعه لإدخاله في أغنيته.
لاحظت بعد برهة أننا لا ندخل في أي ممرات، بيد أنه لا يبدو لي أننا نتجه إلى المنزل. سألت أبي: «هل هذا الطريق يقودنا إلى صانشاين؟» فأجابني: «لا يا سيدتي، ليس كذلك.» «هل ما زلنا في منطقة عملك؟» يهز رأسه نفيا. يقول أخي في استحسان: «نحن نسير بسرعة.» وفي واقع الأمر كنا نثب فوق حفر طينية جافة بحيث كانت جميع الزجاجات في الحقيبتين تحدث صليلا وقرقرة على نحو وعدنا بتجربة جديدة.
صفحة غير معروفة
نصل إلى ممر آخر، منزل آخر، غير مطلي أيضا، بدا تحت أشعة الشمس فضي اللون. «خلت أننا خرجنا من منطقة عملك.» «وهو كذلك بالفعل.» «إذن لم جئنا إلى هنا؟» «سترين.»
تقف أمام المنزل امرأة قصيرة القامة وقوية البنية تلتقط الملابس المغسولة، والتي كانت منثورة فوق الحشائش لتبييضها وتجفيفها. عندما توقفت السيارة حدقت فيها بنظرة حادة للحظة، ثم انحنت لتلتقط منشفتين أخريين لتضعهما فوق الكومة الموجودة تحت إبطها، ثم تتجه نحونا وتقول بصوت فاتر، لا هو بمرحب ولا هو بجاف: «هل ضللتم الطريق؟»
يترجل أبي من السيارة بأريحية ويقول: «لا أظن ذلك، أنا مندوب ووكر براذرز.»
تقول المرأة: «إن جورج كولي هو مندوب ووكر براذرز الذي يأتينا، وكان هنا منذ أقل من أسبوع مضى. آه، يا إلهي!» تقول بصوت غليظ: «إنه أنت؟!»
يقول أبي: «أجل، هو كذلك في آخر مرة نظرت فيها في المرآة.» تجمع السيدة جميع المناشف أمامها وتمسك بها جيدا، وتضمها إلى بطنها كما لو أنها تؤلمها. «من بين كافة الأشخاص الذين لم أتوقع رؤيتهم قط، وها أنت تخبرني أنك مندوب ووكر براذرز.»
يقول أبي في تواضع: «آسف إن كنت تتطلعين إلى رؤية جورج كولي.» «يا لمظهري! كنت أستعد لتنظيف حظيرة الدجاج، ستعتقد أن هذه ذريعة، لكنها الحقيقة. لا أتجول بهذا المظهر كل يوم.» كانت ترتدي قبعة مزارعين من القش، تتخلل من ثقوب فيها أشعة الشمس لتطفو على وجهها، وترتدي ثوبا فضفاضا منقوشا ومتسخا، وحذاء رياضيا. وتسألني: «من معك في السيارة، بن؟ ليسا طفليك؟»
فيرد أبي: «إنهما طفلاي بالفعل»، ثم يخبرها باسمينا وعمرينا. «هيا، بإمكانكما الترجل من السيارة، هذه نورا؛ الآنسة كرونين. نورا، عليك أن تخبريني، هل ما زلت آنسة، أم لديك زوج مختبئ في السقيفة الخشبية؟»
تخبره: «إذا كان لدي زوج فلن يكون هذا هو المكان الذي سأضعه فيه.» يضحك الاثنان، كانت ضحكتها حادة وغاضبة بعض الشيء. «ستظنون أنني فظة، هذا إلى جانب مظهري الذي يبدو كالمتسولين. تعالوا إلى الداخل بعيدا عن الشمس، الجو لطيف في المنزل.»
نعبر الفناء. («معذرة لأنني آخذكم من هذا الطريق لكنني لا أعتقد أن الباب الأمامي فتح منذ جنازة أبي، أخشى أن تسقط المفصلات.») نعبر سلم الرواق، ثم إلى المطبخ، الذي كان الجو فيه لطيفا حقا، كان بسقف مرتفع، والستائر المعتمة مسدولة بالطبع، حجرة بسيطة ونظيفة ورثة، مشمع الأرض متآكل، زهور الغرنوقي موضوعة في أصيص، ودلو به مياه للشرب، ومغرفة، وطاولة مستديرة مغطاة بمفرش نظيف. ورغم نظافة الحجرة، والأسطح الممسوحة والمكنوسة، ثمة رائحة كريهة ضعيفة، لعلها منشفة الصحون أو المغرفة الصفيح أو المشمع، أو السيدة العجوز؛ إذ كانت هناك سيدة عجوز تجلس على مقعد وثير تحت رف الساعة. تدير رأسها ببطء تجاهنا وتقول: «نورا، هل معك رفقة؟»
تقول نورا بصوت مفسر سريع لأبي: «إنها ضريرة»، ثم تقول: «احزري من هنا يا أمي، اسمعي صوته.»
صفحة غير معروفة
يذهب أبي إلى أمام المقعد وينحني ويقول آملا أن تتعرف عليه: «مساء الخير سيدة كرونين.»
تقول السيدة العجوز بلا دهشة: «بن جوردن، لم تأت لرؤيتنا منذ زمن بعيد، هل كنت خارج البلاد؟»
يتبادل أبي ونورا النظرات.
تقول نورا في سرور وقوة: «إنه متزوج يا أمي، متزوج ولديه طفلان وها هما.» تجذبنا للأمام، وتجعل كلا منا يلمس يد السيدة العجوز الجافة والباردة بينما تقول أسماءنا تباعا. ضريرة! إنها أول شخص ضرير أراه عن قرب. كانت عيناها مغمضتين، وجفناها ساقطين لأسفل، بما لا يظهر أي شكل لمقلتي العين، تجويفان فحسب. من أحد التجويفين، تظهر قطرة من سائل فضي، ربما دواء أو عبرة تحدت إصابة عينيها.
تقول نورا: «دعني أرتد ثوبا لائقا. تحدث مع أمي، فهذه مفاجأة سارة لها، نادرا ما نحظى برفقة، أليس كذلك يا أمي؟»
تقول العجوز في هدوء: «لا يمر الكثير من الناس من هذا الطريق، والأشخاص الذين اعتادوا أن يكونوا في الجوار، الجيران القدامى، غادر بعض منهم.»
يقول والدي: «يحدث هذا بالفعل في كل مكان.» «أين زوجتك إذن؟» «بالمنزل ، لا تحب الأجواء الحارة، تصيبها بتوعك.» «حسنا.» من عادات سكان الريف، كبار السن، قول «حسنا» قاصدين بها: «أهذا صحيح؟» بقليل من الاهتمام والأدب الزائدين.
خرجت علينا نورا تخطو بقوة فوق السلم بالردهة في حذاء له عقب عريض متوسط الارتفاع، وكانت ترتدي ثوبا مزينا بالزهور على نحو مفرط أكثر من أي ثوب لدى أمي، كان أخضر اللون وأصفر مائلا إلى البنية، من الكريب الشفاف الطري، وكان الثوب عاري الذراعين. كانت ذراعاها متينتين، وكل جزء مكشوف من بشرتها كان مغطى بنمش داكن صغير كالحصبة. شعرها أسود وقصير، خشن ومجعد، وأسنانها قوية وناصعة البياض.
قال أبي وهو ينظر إلى ثوبها: «إنها المرة الأولى التي أعلم فيها بوجود خشخاش أخضر اللون.»
ردت نورا: «ستدهشك كافة الأشياء التي لم تكن تعلمها قط.» كانت تنثر رائحة الكولونيا هنا وهناك مع تحركها، وتتحدث بصوت مختلف يتماشى مع الثوب، صوت أكثر ودا وشبابا. «إنها ليست نبات الخشخاش، بل زهور فقط. اذهب وضخ لي بعض المياه الباردة لأصنع لهذين الطفلين مشروبا.» تخرج من خزانة المطبخ عصير برتقال ووكر براذرز المركز. «أخبرتني أنك مندوب ووكر براذرز!» «إنها الحقيقة يا نورا، اذهبي وألقي نظرة على حقيبتي العينات في السيارة في حال أنك لم تصدقيني. منطقة عملي في الجزء الجنوبي من هنا مباشرة.» «ووكر براذرز؟ هل هذا صحيح؟ تبيع لصالح ووكر براذرز؟» «أجل يا سيدتي.» «لطالما سمعنا أنك تربي الثعالب في طريق دانجانون.» «هذا ما كنت أفعله، لكن لم يعد يحالفني الحظ في تلك المهنة نوعا ما.» «إذن أين تعيش؟ ومنذ متى تعمل في البيع؟» «انتقلنا إلى تابر تاون، وأعمل في هذه المهنة منذ شهرين أو ثلاثة، إنها تدفع عنا غائلة الجوع، تدفعه بالكاد.»
صفحة غير معروفة
تضحك نورا. «حسنا أعتقد أنك تعد نفسك محظوظا لعملك بهذه الوظيفة. زوج إيزابيل في برانتفورد عاطل عن العمل منذ مدة طويلة. فكرت في أنه إذا لم يعثر على شيء في القريب فسأدعو أسرتهما للمجيء إلى هنا للعيش، لكن حقيقة لم أتق لذلك، فهذا كل ما أستطيع تدبيره لي ولأمي.»
قال أبي: «أتزوجت إيزابيل؟ هل تزوجت مورييل أيضا؟» «كلا، غادرت لتعمل بالتدريس غربا. لم تعد إلى منزلها منذ خمسة أعوام. أعتقد أنها تجد شيئا أفضل تفعله في عطلاتها. كنت سأفعل ذلك إن كنت محلها.» تخرج نورا بعض الصور الفوتوغرافية من درج الطاولة وتبدأ في عرضها على أبي. «هذا ابن إيزابيل الأكبر، التحق بالمدرسة، وها هي الطفلة الصغيرة تجلس في عربتها، إيزابيل وزوجها، مورييل، هذه رفيقتها التي معها بالسكن، وهذا رجل كانت تواعده، وهذه سيارته، كان يعمل في مصرف هناك، وهذه المدرسة التي تعمل بها، بها ثماني حجرات، تدرس لطلاب الصف الخامس.» يهز أبي رأسه. «لا أستطيع تخيلها إلا وهي في طريقها إلى المدرسة، خجلة للغاية، كنت أقلها أثناء سيرها على الطريق - وأنا في طريقي لرؤيتك - وهي لا تنبس ببنت شفة، ولا حتى توافقني الرأي بأنه يوم جميل.» «لقد تغلبت على ذلك.»
تقول العجوز: «عمن تتحدثان؟» «مورييل، أقول إنها تغلبت على خجلها.» «كانت هنا في الصيف الماضي.» «كلا يا إمي، كانت إيزابيل. إيزابيل وأسرتها كانوا هنا الصيف الماضي. سافرت مورييل غربا.» «قصدت إيزابيل.»
بعد ذلك بوقت وجيز تستغرق السيدة العجوز في النوم، وتميل رأسها جانبا، فاغرة فاها. تقول نورا: «أستميحكم عذرا عن تصرفاتها. إنه كبر السن.» ثم تضع فوقها غطاء صوفيا مغزولا وتقول: «بإمكاننا الجلوس بالحجرة الأمامية بحيث لا يزعجها حديثنا.»
توجه أبي بالحديث إلي وإلى أخي: «أنتما، هل تودان الخروج وتسلية نفسيكما؟»
كيف نسلي أنفسنا؟ على أية حال أردت البقاء. كانت الحجرة الأمامية أكثر تشويقا من المطبخ، رغم أنها لم تكن تحوي الأثاث نفسه. كان هناك فونوغراف وبيانو عتيق، وصورة معلقة على الجدار للسيدة مريم، أم يسوع - هذا كل ما أعرفه - ملونة بدرجات اللونين الأزرق والقرنفلي الزاهية وطوق مدبب من الضوء حول رأسها، أعلم أن هذه الصور لا تتواجد إلا في بيوت الروم الكاثوليك؛ إذن لا بد أن نورا كذلك. لم نعرف أحدا من الروم الكاثوليك على الإطلاق معرفة جيدة بدرجة كافية تجعلنا نزورهم في منازلهم. أفكر فيما اعتادت جدتي والخالة تينا، في دانجانون، قوله دائما للإشارة إلى أن شخصا ما كاثوليكي: «فلان متمسك بالجاروف العتيق.» هكذا كانتا تقولان. «فلانة متمسكة بالجاروف العتيق.» كانتا ستقولان هكذا عن نورا.
تمسك نورا بزجاجة ممتلئة لنصفها من فوق البيانو العتيق، وتصب بعضا منها في كوبها وكوب أبي بعد أن فرغا من عصير البرتقال.
يقول أبي: «أتحتفظين بها في حال مرضت؟» «إطلاقا، أنا لا أمرض أبدا، أحتفظ بها فحسب. زجاجة واحدة تكفيني لوقت لا بأس به، لأنني لا آبه بالشرب وحدي. ها أنا محظوظة!» تحتسي هي وأبي الشراب، أدري ما هو، إنه شراب الويسكي، من بين الأشياء التي أخبرتني بها أمي في أحاديثنا معا أن أبي لا يحتسي الويسكي أبدا. لكنني أراه يفعل ذلك. يحتسي أبي الويسكي ويتحدث عن أناس لم أسمع بأسمائهم قط، لكن بعد برهة يتحدث عن حادثة مألوفة؛ يخبرها عن النونية التي سكبت من النافذة. يقول: «تصوري أنني أقف هناك، وأصيح بأعلى صوتي: «يا سيدتي، أنا مندوب ووكر براذرز، هل يوجد أحد بالمنزل؟»» يصيح بالفعل ويبتسم ابتسامة عبثية في ترقب سار ثم ... ينكس رأسه ويغطيه بذراعيه ويبدو كما لو أنه يستجدي الرحمة (في حين أنه لم يفعل أيا من ذلك، فقد شاهدته)، وتضحك نورا ضحكة مجلجلة كما فعل أخي حينئذ. «هذا ليس صحيحا! لم يحدث أي من هذا!»
يقول في جدية: «بالطبع صحيح يا سيدتي. لدينا أبطال في صفوف ووكر براذرز. سعيد أنك ترينه مضحكا.»
طلبت منه في خجل: «أنشد لنا الأغنية.» «أية أغنية؟ هل تحولت إلى مغن إلى جانب سائر الأشياء الأخرى؟»
صفحة غير معروفة
يشعر أبي بالإحراج، ويقول: «آه، إنها فقط أغنية ألفتها فيما كنت أتجول بالسيارة، فهي تشغل وقت فراغي بنظم القوافي.»
لكن بعد بعض الإلحاح يغني أبي، ينظر إلى نورا ويرتسم على وجهه تعبير مضحك معتذر، وتنفجر ضاحكة حتى أنه في بعض المقاطع كان يضطر إلى التوقف وانتظارها حتى تنتهي من الضحك كي يستأنف الغناء، لأنها تدفعه إلى الضحك أيضا. ثم يخبرها بأجزاء متعددة من حديثه المنمق كرجل مبيعات . عندما تضحك نورا تضغط بصدرها الكبير أسفل ذراعيها المطويتين. وتخبره: «أنت مجنون، لست سوى مجنون.» ترى أخي يحدق في الفونوغراف فتنهض قافزة وتتجه نحوه. «ها نحن نجلس ونسلي أنفسنا ولا نلقي لك بالا، أليس هذا بشعا؟ هل تود أن أضع أسطوانة لك؟ هل تود سماع أسطوانة جميلة؟ هل تستطيع الرقص؟ لا بد أن شقيقتك تجيد الرقص، أليس كذلك؟»
أجيبها بالنفي. تقول نورا: «فتاة كبيرة وجميلة مثلك ولا تجيد الرقص! آن الأوان لتتعلمي. أؤكد لك أنك ستكونين راقصة رائعة. سأضع أسطوانة اعتدت الرقص على أنغامها مع أبيك، أيام كان يرقص، تعلمين أن أباك كان راقصا، أليس كذلك؟ حسنا، إنه رجل موهوب، أعني أباك!»
تغلق غطاء الفونوغراف وتمسكني على نحو مفاجئ من حول خصري، وتمسك بيدي الأخرى وتبدأ في حثي على الرجوع للخلف. «هكذا الآن، هكذا يرقصون، حاكيني، هذه القدم، هكذا. واحد وواحد اثنان. واحد وواحد اثنان. هذا رائع، هذا جميل، لا تنظري إلى قدمك! حاكيني، هذا صحيح، أترين كم هو سهل؟ ستكونين راقصة رائعة! واحد وواحد اثنان. واحد وواحد اثنان. بن، أترى ابنتك وهي ترقص؟!» واستمرت الأغنية: «نهمس حين تضمني إليك، نهمس فيما لا يستطيع أحد آخر سماعنا ...»
أخذنا ندور وندور فوق مشمع الأرض، أشعر بالفخر والعزم، ونورا تضحك وتتحرك بخفة شديدة، تطوقني بفرحتها الغريبة، وأشم منها رائحة الويسكي والكولونيا ورائحة عرقها. ابتلت ثيابها من تحت إبطها، وتتكون قطرات عرق صغيرة بمحاذاة شفتها العليا تعلق بالشعيرات السوداء الناعمة عند زاوية فمها. ثم تلفني سريعا أمام أبي - مما أدى إلى تعثري، فأنا لست بتلميذة سريعة التعلم بأية حال من الأحوال كما تدعي - لتتركني وأنا ألهث. «ارقص معي يا بن.» «أنا أسوأ راقص في العالم يا نورا، وأنت تعلمين ذلك.» «قطعا لم أعتقد ذلك.» «ستعتقدين الآن.»
تقف أمامه وذراعاها مرتخيتان في رجاء، ونهداها اللذان أشعراني بالخجل منذ لحظة لدفئهما وضخامتهما، يعلوان ويهبطان أسفل ثوبها الفضفاض المزدان بالورود، ووجهها يلمع جراء المجهود والبهجة. «بن!»
ينكس أبي رأسه ويقول في هدوء: «ليس أنا يا نورا .»
لذا لا تجد أمامها سوى أن تخرج الأسطوانة، وتقول: «بمقدوري احتساء الشراب وحدي، لكن ليس باستطاعتي الرقص وحدي، ما لم أكن أكثر جنونا مما أظن.»
يقول أبي مبتسما: «لست مجنونة يا نورا.» «امكث حتى العشاء.» «كلا، لن نزعجك بهذا.» «ليس بإزعاج، سأسعد بذلك.» «كما ستقلق أمهما، ستعتقد أن السيارة انقلبت بنا.» «آه، حسنا، أجل.» «لقد أخذنا كثيرا من وقتك الآن.»
تقول نورا في مرارة: «وقتي، هل ستأتي مجددا؟»
صفحة غير معروفة
يقول أبي: «سآتي إن استطعت.» «أحضر طفليك، أحضر زوجتك.»
يقول أبي: «أجل، سأحضرهم إن استطعت.»
عندما رافقتنا إلى السيارة، قال أبي: «عليك أن تحضري لزيارتنا أيضا يا نورا، نحن نعيش في جروف ستريت، تسيرين على الجانب الأيسر شمالا، منزلنا من تلك الجهة - شرقا - من بايكر ستريت.»
لم تكرر نورا تلك الاتجاهات. تقف بالقرب من السيارة بثوبها الباهر الرقيق. تلمس رفرف السيارة تاركة علامة غامضة على الغبار هناك. •••
في طريق عودتنا إلى المنزل لم يبتع أبي الآيس كريم أو المياه الغازية، لكنه دخل إلى متجر ريفي واشترى عبوة عرقسوس، وتقاسمها معنا. يدور بخلدي عبارة «إنها متمسكة بالجاروف القديم»، وتبدو الكلمات حزينة كما لم تكن من قبل، غامضة وضالة. لم يخبرني أبي بأي شيء حيال عدم ذكر أي مما حدث في المنزل، لكنني أعلم - من شروده في التفكير، وصمته وهو يمرر لنا العرقسوس - أن ثمة أشياء لا يجب ذكرها؛ الويسكي، وربما الرقص. ليس هناك داع للقلق من أخي، فهو لم يلحظ الكثير، على أكثر تقدير ربما يذكر السيدة العجوز وصورة السيدة مريم.
يقول أخي في أمر لأبي: «أنشد أغنية»، لكن أبي يقول في جدية: «لا أدري، يبدو أنني استنفدت جميع الأغاني توا. لتراقب لنا الطريق وأخبرني إن رأيت أي أرانب.»
يقود أبي السيارة ويراقب أخي الطريق بحثا عن أرانب، أشعر أن حياة أبي تنساب خلف السيارة مع نهاية الظهيرة، تزداد قتامة وغرابة، وكأنها منظر طبيعي به سحر، يجعله عاديا ومألوفا على نحو موات عندما تنظر إليه، لكنه يحوله ما إن تدير إليه ظهرك إلى شيء لن تعرفه أبدا، في أجواء وأماكن بعيدة ليس بوسعك تخيلها.
عندما اقتربنا من تابر تاون أضحت السماء ملبدة بالغيوم على نحو طفيف، كما هي الحال دوما، دوما تقريبا، في أمسيات الصيف بجانب البحيرة.
منازل مضيئة
جلست ماري على السلم الخلفي لمنزل السيدة فولرتن، تتحدث - أو تستمع في واقع الأمر - مع السيدة فولرتن، التي تبيع لها البيض. كانت قد مرت بها كي تعطيها ثمن البيض وهي في طريقها إلى حفل عيد ميلاد ديبي ابنة إديث. لم تكن السيدة فولرتن تزورهم أو تدعوهم، لكن ما إن تنشأ حجة عمل، حتى تحب أن تتحدث. وجدت ماري نفسها تستكشف حياة جارتها كما استكشفت من قبل حيوات الجدات والخالات، بادعائها أنها تعرف أقل مما تعرفه في الواقع، وطلبها منهن حكاية بعض القصص التي سمعتها من قبل؛ وبهذه الطريقة، تتذكر أحداثا تظهر في كل مرة مع اختلافات طفيفة في المحتوى أو المغزى أو الصبغة، لكن بواقع خالص عادة ما تصاحبه أشياء أسطورية جزئيا على الأقل. كانت قد نسيت تقريبا أن ثمة أناسا يمكن رؤية حياتهم هكذا؛ فهي لم تعد تتحدث مع كثير من كبار السن، ومعظم الأشخاص الذين عرفتهم لا تختلف حياتهم عن حياتها؛ حياتها التي لم تصنف فيها الأشياء بعد، ولم يعد من المؤكد أن هذا الشيء أم ذاك يجب أخذه على محمل الجد أم لا. لم يساور السيدة فولرتن أية شكوك أو تساؤلات من هذا النوع. على سبيل المثال، كيف كان من الممكن عدم التعامل جديا مع الغياب الطائش تماما للسيد فولرتن، الذي اختفى في يوم من أيام الصيف، ولم يعد مجددا؟
صفحة غير معروفة
قالت ماري: «لم أكن أعلم ذلك، كنت أعتقد دوما أن السيد فولرتن وافته المنية.»
قالت السيدة فولرتن: «هو ما زال حيا يرزق مثلي.» واستقامت في جلستها. مرت دجاجة كبيرة من فصيلة بليموث روك فوق درجة السلم الأولى، فنهض ابن ماري الصغير، داني، ليلاحقها بحذر. «لقد انطلق في رحلاته فحسب، فهذا ما يفعله. ربما اتجه شمالا، وربما ذهب إلى الولايات المتحدة، لا أدري، لكنه لم يمت، كنت سأشعر بذلك. وهو ليس عجوزا أيضا، ليس عجوزا مثلي؛ فهو زوجي الثاني، وكان يصغرني سنا، لم أخف هذا الأمر. اشتريت هذا المنزل وربيت أطفالي ومات زوجي الأول قبل أن يظهر السيد فولرتن في حياتي بكثير، ففي إحدى المرات ذهبنا إلى مكتب البريد ووقفنا معا بجانب النافذة، ثم توجهت لأضع خطابا في الصندوق وتركت حقيبتي، وتوجه السيد فولرتن ليلحق بي، فنادته فتاة وقالت: «خذ، لقد نسيت أمك حقيبتها!»»
ابتسمت ماري استجابة لضحكة السيدة فولرتن العالية غير الواثقة. كانت السيدة فولرتن متقدمة في العمر، كما قالت، أكثر مما يمكنك اعتقاده، بشعرها الأسود شديد التموج، وملابسها الرمادية بفعل الاتساخ، ودبابيس الزينة الرخيصة المعلقة بسترتها ذات النسيج المنسول. لكن عينيها كانتا تعكسان ذلك، فكانتا سوداوين كلون البرقوق ولهما بريق جامد خافت، تختفي الأشياء فيهما ولا تتغير أبدا. لم ترتسم الحياة في وجهها إلا في أنفها وفمها اللذين كانا دائمي الحركة والاهتزاز، مما جذب خطوط وجهها العابسة أسفل وجنتيها. عندما كانت تأتي كل يوم جمعة لتحضر طلبيات البيض كان شعرها معقوصا، ومجموعة من الزهور القطنية تجذب طرفي بلوزتها، وشفتاها مطليتين بخط أحمر ثقيل غير منتظم، فما كانت لتظهر أمام جيرانها الجدد بأي مظهر فوضوي لسيدة عجوز حزينة.
قالت: «ظنت أنني أمه، لم آبه بذلك، بل ضحكت بشدة. لكن ما أخبرك به أنه في يوم من أيام الصيف، كان زوجي في إجازة من العمل، فارتقى السلم ليجمع بعض ثمار الكرز من شجرة الكرز الأسود. خرجت لأعلق بعض الملابس لتجفيفها لأجد رجلا لم أره من قبل في حياتي، يأخذ دلو الكرز الذي ناوله زوجي إياه، متصرفا دون قيد أو خجل، جلس لتناول الكرز من الدلو خاصتنا. سألت زوجي عمن يكون ذلك الشخص، فأجابني أنه عابر سبيل. أخبرته أنه إذا كان صديقا له، فبإمكانه المكوث ليتناول العشاء معنا، فقال: عم تتحدثين؟ لم أره من قبل. لذا لم أنبس بكلمة أخرى. اتجه السيد فولرتن وتحدث معه وهو يأكل الكرز الذي كنت أنوي استخدامه في صنع كعكة، لكن ذلك الرجل كان يتحدث مع الجميع، متسولا كان أو أحد مبشري شهود يهوه، أي شخص - لم يكن من الضروري أن يعني ذلك شيئا.»
واصلت حديثها: «بعد نصف ساعة، رحل ذلك الرجل. خرج السيد فولرتن بسترته البنية معتمرا قبعته، وأخبرني أنه سيقابل شخصا ما في وسط المدينة، فسألته: هل ستطيل البقاء؟ فقال: لن أتأخر. لذا خرج على الطريق، ومضى جنوبا إلى حيث اتجه المتسول العجوز - كنا جميعا في الجنبة حينها - شيء ما جعلني أتتبعه بناظري. قلت في نفسي لا بد أنه يشعر بالحر وهو يرتدي ذلك المعطف، وحينها عرفت أنه لن يعود. بيد أنني لم أكن أتوقع ذلك؛ فقد كان يحب المكان هنا، وكان يتحدث عن تربية الشنشيلة في الفناء الخلفي. لن تعرفي أبدا ما يجول بخاطر الرجل حتى وإن كنت تعيشين معه.»
قالت ماري: «هل حدث ذلك منذ زمن بعيد؟» «اثني عشر عاما. أراد أولادي أن أبيع بيتي وأنتقل للعيش في الأحياء السكنية، لكنني رفضت، فأنا أربي الدجاج هنا، وكان لدي عنزة حينذاك، كانت حيواني المدلل. كان لدي أيضا راكون مدلل لفترة من الزمان، اعتدت إطعامه العلك. قلت حسنا، يأتي الأزواج ويرحلون، لكن المكان الذي عشت فيه خمسين عاما شيء آخر. جعلت من الأمر مزحة مع عائلتي. إلى جانب هذا، فكرت أنه إذا عاد السيد فولرتن، فسيأتي إلى هنا، فلا يدري مكانا آخر يذهب إليه. بالطبع لن يعرف أين يعثر علي، فالطريق تغير الآن. لكن دائما ما كانت تراودني فكرة أنه ربما أصيب بفقدان الذاكرة، وربما تعود إليه، فهذا يحدث.
أنا لا أتذمر. أحيانا ما يبدو لي أن الرجل الحكيم سيجد ما يجعله يرحل مثلما سيجد ما يجعله يمكث. لا أنزعج من وقوع التغيرات أيضا، فهذا ساعدني في تجارتي في البيض. لكن مسألة مجالسة الأطفال هذه ... طوال الوقت يطلب مني أحدهم مجالسة الأطفال. أخبرهم أنني أملك منزلي الخاص لأجلس به وأخذت نصيبي من تربية الأطفال.»
نهضت ماري عندما تذكرت حفل عيد الميلاد ونادت على ابنها الصغير. قالت السيدة فولرتن: «فكرت في عرض الكرز الأسود لدي للبيع في الصيف القادم. تعالي وانتقي لك منه، سيكون الصندوق بخمسين سنتا. لم يعد بوسعي تعريض عظامي العجوزة للخطر بارتقاء السلم.»
قالت ماري مبتسمة: «هذا سعر غال جدا، إنه يباع بسعر أرخص من ذلك في المتجر الكبير.» كانت السيدة فولرتن قد كرهت بالفعل المتجر الكبير لأنه خفض سعر البيض. أخرجت ماري آخر سيجارة من العلبة وتركتها معها، وقالت إن لديها علبة أخرى في حقيبتها. كانت السيدة فولرتن تعشق السجائر، لكن ما كانت ستقبل بواحدة إلا إذا قدمت إليها على حين غرة. كانت ماري ترى أن مجالسة الأطفال ستغطي ثمنها. في الوقت نفسه أعجبت ماري إلى حد ما بأن السيدة فولرتن لم تكن لينة العريكة للغاية. عندما خرجت ماري من ذلك المكان، دائما ما كانت تشعر كما لو أنها تمر عبر حواجز. كان المنزل والمنطقة المحيطة يوفران الاكتفاء الذاتي بدرجة كبيرة، فكانا يتألفان من ترتيب معقد يبدو أنه غير قابل للتغيير من أحواض الخضراوات والفاكهة، وأشجار الكرز والتفاح، وحظيرة الدجاج المسيجة، وحديقة التوت والممرات الخشبية، وكومة الحطب، وسقائفه الصغيرة المعتمة المبنية على نحو عشوائي للدجاج أو الأرانب أو العنزة. لا يوجد هنا خطة صريحة أو مباشرة، لا وجود لنظام يتسنى لغريب فهمه، مع ذلك ما كان عشوائيا جعله الزمن نهائيا؛ بات المكان ثابتا، ومنيعا، وجميع ما يتكدس به ضروري، حتى بدا أن أوعية الغسيل والماسحات وزنبركات الأرائك وأكوام مجلات الشرطة العتيقة حتى في الرواق الخلفي، قدر لها أن تبقى هناك.
مضى كل من ماري وداني بالطريق الذي كان يدعى في السابق ويكس رود، إبان شباب السيدة فولرتن، لكنه أصبح الآن على خرائط التقسيم السكني يحمل اسم هيذر درايف. كان اسم التقسيم السكني جاردن بليس، وسميت شوارعه على أسماء الزهور. على كل جانب من جانبي الطريق كانت الأرض غير معبدة، ومصارف المياه ممتلئة على آخرها. وضعت ألواح خشبية فوق المصارف المفتوحة، ووضعت ألواح خشبية بالقرب من أبواب المنازل الجديدة. تنتصب المنازل الجديدة البيضاء والمضيئة بعضها إلى جانب بعض في صفوف طويلة على امتداد الطريق. لطالما رأتها ماري على أنها منازل بيضاء، رغم أنها لم تكن بالطبع بيضاء تماما؛ فقد كانت من الجص ومكسوة بالألواح الخشبية، وكان الجص فقط أبيض اللون، أما الكسوة الخارجية فكانت مطلية بدرجات الأزرق والوردي والأخضر والأصفر، جميعها ألوان حديثة وزاهية. في العام الماضي، في هذا الوقت تحديدا، في مارس، جاءت الجرارات لإزالة الجنبات والأشجار التي نمت مرة أخرى بعد قطعها والأشجار الضخمة من غابة الجبل، بعد برهة وجيزة برزت المنازل بين جلاميد الصخور وجذوع الأشجار الضخمة المقطوعة، وتضاريس الأرض البديعة. كانت المنازل واهية في البداية، هياكل خشبية جديدة تقف في الظلام في أيام الربيع الباردة. لكن بنيت بعد ذلك الأسقف، سوداء وخضراء، زرقاء وحمراء، ثم الجص والكسوة، وركبت النوافذ، وألصقت عليها علامات مكتوب عليها: موري للزجاج، وفرنش للأرضيات الخشبية الصلبة. وتسنت رؤيتها كمنازل حقيقية. توافد الأشخاص الذين سيقطنون بالمنازل يسيرون بتثاقل في الوحل أيام الآحاد. كانت المنازل لأناس مثل ماري وزوجها وطفلهما، لا يملكون الكثير من المال لكن لديهم تطلعات كبيرة، استقرت جاردن بليس، في أذهان الأشخاص الذين يفسرون العناوين، على أنها أقل ترفا من باين هيلز، لكن أكثر جاذبية من ويلنجتون بارك. كانت الحمامات جميلة، بها مرايا من ثلاثة أجزاء، وبلاط خزفي، ولوازم ملونة، وكانت خزانات المطابخ من الماهوجني أو خشب البتولا الفاتح، وكان هناك تركيبات إضاءة نحاسية في المطبخ وفي زوايا تناول الطعام، كما تفصل أحواض نباتات من القرميد - تتوافق مع المدفآت - بين حجرات المعيشة والردهات. والغرف جميعها رحبة وفاتحة اللون، وكانت الأقبية جافة، ظهرت كل هذه المتانة والامتياز في وضوح وفخر في واجهة كل منزل، تلك المنازل المتشابهة على نحو خلا من الإبداع، ينظر بعضها إلى بعض في هدوء، على امتداد الشارع.
صفحة غير معروفة
ولما كان اليوم هو يوم السبت، كان جميع الرجال بالخارج يعملون حول منازلهم؛ يحفرون قنوات لتصريف المياه، ويصنعون حدائق صخرية، ويزيلون الأغصان والشجيرات المقطوعة ويحرقونها. عملوا بجد وجهد تنافسيين لم يألفوهما، حيث إنهم لم يكونوا رجالا يكسبون قوت يومهم بالجهد البدني. عملوا طوال اليوم في أيام السبت والآحاد على هذا المنوال، بحيث يكون لديهم في غضون عام أو عامين حدائق خضراء، وجدران صخرية، وأحواض زهور وشجيرات زينة بهية المنظر. لا بد أن الأرض صعبة الحفر الآن، فقد كانت تمطر اللية الماضية وهذا الصباح، لكن اليوم يزداد إشراقا، وانقشعت السحب كاشفة عن مثلث رفيع طويل من السماء، زرقتها لا تزال باردة ورقيقة؛ إنه لون الشتاء. وقفت خلف المنازل على أحد جانبي الطريق أشجار الصنوبر، بتماثلها الرتيب الذي لم تهزه الرياح كثيرا. ستتم إزالتها في أي يوم الآن لإخلاء مساحة لإقامة مركز تسوق كان هناك وعد بإنشائه عندما بيعت المنازل.
وأسفل هيكل هذا التقسيم السكني الجديد، كان هناك شيء آخر يمكن تبينه؛ المدينة القديمة؛ المدينة القديمة في البرية، والتي كانت تقع على جانب الجبل. كان من الضروري أن يطلق عليها مدينة إذ تمر بها خطوط الترام إلى الغابات، وكانت المنازل تحمل أرقاما، وبها كافة المباني العامة التي تتواجد في المدن، تقف إلى جانب المسطح المائي، لكن المنازل التي تشبه منزل السيدة فولرتن انفصل أحدها عن الآخر بغابة غير مقطوعة الأشجار وأيكة من ثمار العليق البري وشجيرات العليق الشوكي. كانت هذه هي المنازل المتبقية، التي ينبعث دخان كثيف من مداخنها، وجدرانها غير مطلية ومرقعة وتعكس درجات مختلفة من القدم والظلمة، وسقائفها بدائية والحطب وكومات السماد متكدسة حولها، وسياجها الخشبي رمادي اللون. وكثيرا ما كانت هذه المنازل تظهر بين المنازل الجديدة الكبيرة في ميموزا وماريجولد وهيذر درايف. كانت مظلمة ومطوقة وتوحي بشيء من الهمجية في فوضويتها، وزوايا أسطحها المنحدرة غير المتجانسة المستحيل تواجدها في شوارع كهذه. كانت موجودة هناك وحسب. •••
قالت إديث وهي تصب المزيد من القهوة: «ماذا يقولون؟» كانت محاطة في مطبخها ببقايا حفل عيد الميلاد؛ قالب الحلوى والهلام المقولب والكعك الذي يحمل وجوه الحيوانات، ويتدحرج بالون على الأرض. كان الأطفال قد تناولوا طعامهم، ووقفوا لالتقاط الصور الفوتوغرافية لهم، ولعبوا ألعاب عيد الميلاد، والآن يلعبون في غرف النوم الخلفية والقبو، فيما يحتسي الآباء القهوة. قالت إديث: «ترى ماذا يقولون هناك؟»
ردت ماري، وهي تحمل وعاء القشدة الفارغ: «لم أسترق السمع.» ثم توجهت نحو النافذة أعلى حوض المطبخ، انقشعت السحب وتباعدت أكثر وكانت الشمس بارقة، وبدا المنزل حارا للغاية.
قالت إديث وهي تسرع عائدة إلى حجرة المعيشة: «منزل السيدة فولرتن.» كانت ماري تعلم عما يتحدثون؛ فجيرانها - الذين لا يتحدثون في العموم في موضوعات مزعجة - قد يخوضون في أية لحظة في هذا الموضوع ويدور الحوار بشكل خطير في دوائر مألوفة من الشكوى، مما يقودها إلى النظر في يأس خارج النافذة، أو في حجرها، في محاولة للعثور على كلمة تعليلية رائعة تنهي الحديث، لكنها لم تنجح في ذلك. كان عليها العودة، فهم في انتظار القشدة.
جلس لفيف من سيدات الحي في حجرة المعيشة، يحملن دون اكتراث البالونات التي أعطاهن إياها أطفالهن. ولما كان الأطفال الذين يلعبون في الشارع حديثي السن، ولما كان أي تجمع للأشخاص الذين يعيشون هناك يعد أمرا إيجابيا في حد ذاته، كان معظم حضور حفلات أعياد الميلاد هم الأمهات والأطفال أيضا. ارتدت الآن الأمهات اللاتي يقابل بعضهن بعضا بصفة يومية الأقراط وجوارب النايلون والجونلات، وصففن شعرهن وتبرجن. حضر بعض الرجال أيضا؛ على غرار ستيف زوج إديث، وآخرين ممن دعاهم لاحتساء الجعة، وكانوا جميعهم بملابس العمل. كان موضوع الحديث الذي طرح توا واحدا من الموضوعات القليلة التي تحوز اهتمام الرجال والنساء على حد سواء.
قال ستيف: «سأخبركم ماذا سأفعل إن كنت أعيش بجوار ذلك المنزل.» وتعلو وجهه ابتسامة عريضة دمثة متوقعا إضحاكهم، «سأرسل أطفالي إلى هناك ليلعبوا بالثقاب.»
قالت إديث: «هذا مضحك، لقد تجاوز الأمر حد المزاح، أنت تمزح وأنا أحاول فعل شيء، حتى إنني هاتفت المجلس المحلي.»
قالت ماري لو روس: «وماذا أخبروك؟» «حسنا قلت لهم أليس بوسعكم حملها على طلاء منزلها، على الأقل، أو إزالة بعض من أكواخها؟ لكنهم قالوا إنهم ليس بوسعهم ذلك. قلت لهم أعتقد أنه يوجد شيء من قبيل قانون محلي يطبق على أناس مثلها، وقالوا إنهم يتفهمون «شعوري» وإنهم في غاية «الأسف» ...» «لكن لم يفعلوا شيئا؟» «لم يفعلوا شيئا.» «لكن ماذا عن الدجاج، فكرت ...» «آه، لن يسمحوا لك أو لي بتربية الدجاج، أما هي فتحظى بإعفاء خاص حيال ذلك أيضا، نسيت كيف تسير الأمور.»
قالت جاني إنجر: «سأتوقف عن شراء البيض منها، فالمتجر الكبير يبيعه بثمن أرخص، ومن يعبأ كثيرا بكونه طازجا؟ رباه! والرائحة أيضا. أخبرت كارل أنني مدركة أننا سننتقل إلى منطقة نائية، لكنني لم أتصور أن نعيش بطريقة أو بأخرى بجوار حظيرة.» «العيش على الجهة المقابلة من الشارع أسوأ كثيرا من العيش بجانبها، أتساءل لم تكبدنا صنع نافذة كبيرة تطل على المنظر بالخارج، في حين أنه إذا حضر أي شخص لزيارتنا فإنني أرغب في إسدال الستار كي لا يرى ما يوجد في الجهة المقابلة؟!»
صفحة غير معروفة
قال ستيف: «حسنا، حسنا.» مقاطعا بصعوبة تلك الأصوات النسائية. «ما شرعنا أنا وكارل في إخباركن إياه هو أنه إذا نجحنا في مسألة الممر تلك، فستضطر إلى الرحيل؛ فالأمر بسيط وقانوني، وهنا روعة الأمر.» «أي ممر؟» «سنشرح الأمر. لقد كنت أنا وكارل نخطط لهذا الأمر منذ عدة أسابيع، لكننا لم نود أن نذكر شيئا عن الأمر في حال لم يفلح ذلك. تول أنت الحديث يا كارل.»
كان كارل وكيل عقارات ناجحا، قصيرا وقوي البنية، فقال: «حسنا، لقد تعدت على المساحة المسموح بها للممرات، هذا كل ما في الأمر. طرأت لي فكرة أن يكون هذا هو الحل؛ لذا توجهت إلى المجلس المحلي وبحثت في الأمر.»
قالت جاني بطريقة عفوية محبة: «ماذا يعني ذلك يا عزيزي؟»
قال كارل: «هذا كل ما في الأمر، هناك أماكن مخصصة للممرات، لطالما كان الأمر كذلك، تتلخص الفكرة في أنه إذا شيدت منطقة ما يخططون لممر بها، لكنهم لم يعتقدوا أبدا أن هذا ما سيحدث، فالناس تبني منازلها حيث يحلو لها، وهي بنت جزءا من منزلها وستة أكواخ فوق المكان الذي ينبغي أن يجتازه الممر؛ لذا سنجعل المجلس المحلي يضع ممرا، فنحن بحاجة إلى ممر على أية حال؛ ومن ثم ستضطر إلى الرحيل، فهذا هو القانون.»
قال ستيف ووجهه يشع بالإعجاب: «إنه القانون، يا لك من رجل ذكي! إن وكلاء العقارات هؤلاء رجال أذكياء.»
قالت ماري لو: «هل ستحصل هي على أي شيء؟ لقد سئمت المنظر لكنني لا أود أن أرى أي شخص يعيش في ملجأ للفقراء.» «أوه، ستحصل على مبلغ مالي، أكبر مما يستحقه المكان. انظري، إن الأمر لصالحها. ستحصل على مبلغ مالي، فليس بوسعها بيعه، وليس بوسعها وهبه.»
وضعت ماري قدح القهوة قبل أن تتحدث وتمنت أن يبدو صوتها منطقيا، ليس عاطفيا أو مرتعدا. فقالت: «لكن تذكروا أنها تعيش هنا منذ زمن بعيد، عاشت هنا قبل أن يولد معظمنا.» حاولت باستماتة التفكير في كلمات أخرى، كلمات تبدو سليمة ومنطقية أكثر من هذه، فليس بمقدورها طرح أية فكرة، ربما ينظرون إليها على أنها واهية ورومانسية أمام هذا المد الإيجابي، وإلا فستهدم حجتها. لكن لم يكن لديها حجة، لن تتمكن حتى وإن فكرت طوال الليل من إيجاد كلمات تواجه كلماتهم، والتي انهالت عليها الآن من جميع الاتجاهات بصورة لا يمكن دحضها: «كوخ، منظر قبيح، مشهد قذر، ملكية، قيمة.»
قالت جاني وهي تشعر أن خطة زوجها تتعرض للهجوم: «هل تظنين بصدق أن أولئك الأشخاص الذين يدعون ممتلكاتهم تتعرض للإهمال على هذا النحو جديرون بأن ننظر إليهم بعين الاعتبار؟»
قال كارل: «لقد عاشت هنا لأربعين عاما، والآن نحن هنا. هكذا تسير الأمور، وسواء أدركت الأمر أم لا، فإن وجود ذاك المنزل هنا فحسب يخفض قيمة إعادة البيع لكل منزل بالشارع. أنا أعمل في هذا المجال وأؤكد لك ذلك.»
انضمت إليهما أصوات أخرى، لم يهم كثيرا ماذا قالوا ما دام أنه كان مشبعا بالآراء الشخصية وبالغضب. كان ذلك موطن قوتهم، برهانا على رشدهم، على أنفسهم وعلى جديتهم. ارتفعت روح الغضب بينهم، تشجع أصواتهم الشابة، وتجتاحهم جميعا كطوفان سكر، وأعجب بعضهم ببعض في هذا السلوك الجديد بوصفهم أصحاب ملكية مثلما يعجب بعض الناس ببعضهم لكونهم سكارى. •••
صفحة غير معروفة
قال ستيف: «ربما يتعين علينا أيضا أن ندعو الجميع الآن، سنوفر على أنفسنا عناء الذهاب إلى الكثير من المنازل.»
حان وقت العشاء، والظلام يسدل أستاره على المكان. تهيأ الجميع للعودة إلى المنزل، تغلق الأمهات معاطف الأطفال بالأزرار، بينما يمسك الأطفال، دون سعادة كبيرة، ببالوناتهم وصفاراتهم والدلاء الورقية تمتلئ بالحلوى الهلامية. توقفوا عن العراك، توقفوا تقريبا عن ملاحظة بعضهم، وتفرق الحفل، كما ازداد الكبار صمتا وشعروا بالتعب. «إديث، إديث، هل لديك قلم؟»
أحضرت إديث قلما وبسطوا عريضة المطالبة بممر - التي كتبها كارل - على طاولة تناول الطعام، بعد إزالة الأطباق الورقية التي تحمل آثار آيس كريم جاف. بدأ الناس في التوقيع دون تفكير أثناء توديع بعضهم بعضا. كان ستيف لا يزال متجهما قليلا، ووقف كارل واضعا إحدى يديه على الورقة، متخذا هيئة رجل الأعمال، ولكن بفخر. جثت ماري على ركبتيها وحاولت بصعوبة غلق سحاب بنطال داني، ثم نهضت وارتدت معطفها، وهذبت من شعرها، وارتدت قفازها ثم خلعته مرة أخرى. وعندما لم يعد بمقدورها التفكير في شيء آخر لفعله، مرت بجانب طاولة تناول الطعام في طريقها إلى الباب، فلوح كارل بالقلم نحوها.
قالت ماري: «لا أستطيع التوقيع على هذا.» احمر وجهها في الحال، وكان صوتها مرتعدا، فوضع ستيف يده على كتفها. «ما الأمر يا عزيزتي؟» «لا أظن أننا نملك هذا الحق. نحن لا نملك هذا الحق.» «ماري، ألا تكترثين بالشكل الذي تبدو عليه الأشياء؟ أنت تعيشين هنا أيضا.» «كلا، أنا ... أنا لا أكترث.» أليس هذا غريبا؟ كيف أنه في مخيلتك؟ عندما تدافع عن شيء ما، يكون صوتك مجلجلا، ويشعر الناس بالصدمة والخجل، لكن في الواقع يبتسم الجميع بطريقة خاصة إلى حد ما، وتدرك أن ما فعلته حقا هو أنك قد جعلت من نفسك موضوع حديث ممتع في حفل القهوة القادم.
قالت جاني: «لا تقلقي يا ماري، فهي لديها مال في البنك، لا بد أنها كذلك، لقد طلبت منها أن تجالس أطفالي لكنها نهرتني فعليا؛ فهي ليست سيدة محبوبة، أنت تعلمين هذا.»
قالت ماري: «أعلم أنها سيدة عجوز غير محبوبة.»
قال ستيف وهو لا يزال واضعا يده فوق كتف ماري: «كيف تريننا يا ماري، مجموعة من الوحوش؟»
قال كارل: «لا يود أحد رحيلها على سبيل اللهو، فالأمر قاس، ندرك جميعا ذلك، لكن علينا أن نفكر في مجتمعنا.»
قالت ماري: «أجل.» لكنها وضعت يدها في جيب معطفها والتفتت لتوجه الشكر لإديث على حفل عيد الميلاد. جال في خاطرها أنهم على حق، لأنفسهم، لأي شيء كانوا عليه. والسيدة فولرتن امرأة عجوز، عيناها فاترتان، لن يؤثر فيها شيء. خرجت ماري وسارت مع داني على امتداد الطريق. رأت الستائر وهي تسدل فوق نوافذ حجرة المعيشة، ومتتاليات من الزهور والأغصان، مصممة بطريقة هندسية، تعزل تلك الحجرات ليلا. كان الجو معتما تماما بالخارج، وازدادت المنازل المضيئة قتامة، وأخذت السحب تنقشع أكثر فأكثر، والدخان يتصاعد من مدخنة السيدة فولرتن. بدا الشكل الذي يتخذه جاردن بليس، والذي كان واضحا ومحدد المعالم وقت النهار، أنه يتقلص ليلا إلى سفح الجبل القفر المعتم. •••
أخذت ماري تفكر في أن الأصوات بحجرة المعيشة تبددت. ليتها تتبدد ويطوي خطتهم النسيان، ليت شيئا واحدا يمكن تركه على حاله. لكن أولئك أشخاص يفوزون، وهم أناس طيبون، يرغبون في منازل لأطفالهم، يساعد أحدهم الآخر وقت الضيق، يقيمون مجتمعا، قائلين هذه الكلمة كما لو أنهم يجدون سحرا حديثا مناسبا تماما، لا يوجد احتمال فيه على الإطلاق لوقوع خطأ.
صفحة غير معروفة
لا شيء يمكن فعله حاليا سوى أن تضع يديها في جيبيها وتشعر بالسخط.
صور
حضرت ماري ماكويد الآن، لكني تظاهرت بأني لا أتذكرها. بدا أنه من أحكم الأمور فعل ذلك. فقد قالت هي نفسها: «إذا كنت لا تذكرينني، فأنت لا تذكرين الكثير.» لكن دعنا من هذه المسألة، وأضافت ذات مرة: «لا بد أنك لم تحضري إلى بيت جدتك قط الصيف الماضي. لا بد أنك لا تذكرين ذلك أيضا.»
كان يسمى، حتى ذاك الصيف، منزل جدتي، رغم أن جدي كان لا يزال على قيد الحياة حينها. كان قد اعتزل الحياة في إحدى الحجرات؛ حجرة النوم الأمامية الكبرى . بها مصاريع خشبية في الجهة الداخلية من النوافذ، مثل حجرة المعيشة وحجرة الطعام، أما حجرات النوم الأخرى فلم يكن بها سوى ستائر معتمة. كما أن الشرفة كانت تحجب الضوء بحيث كان جدي يرقد طوال اليوم في شبه ظلام، بشعره الأبيض - المغسول والمصفف والناعم كشعر طفل رضيع - ومنامته البيضاء على الوسائد البيضاء، فبدا كجزيرة داخل الحجرة، يقترب منها الناس على استحياء، لكن بإصرار. كانت ماري ماكويد بزيها تمثل الجزيرة الأخرى في الحجرة، جلست بلا حراك في أغلب الأحيان، حيث كانت المروحة، كما لو كانت تعبة، تحرك الهواء كالحساء. لا بد أن الجو كان مظلما للغاية بما لا يسمح بالقراءة أو الغزل، على فرض أنها أرادت فعل هذه الأشياء، ومن ثم انتظرت وأخذت تتنفس فحسب، محدثة صوتا كالذي تصدره المروحة، مشبعا بشكوى قديمة لا تفصح عنها.
كنت صغيرة جدا حينها، وكان يتم وضعي في مهد للخلود إلى النوم - ليس بمنزلي لكن هذا المهد كان مخصصا لي بمنزل جدتي - في حجرة في الجهة المقابلة من الردهة. لم يكن بها مروحة، وصنع الضوء المتلألئ بالخارج - جميع الحقول المنبسطة حول المنزل أضحت تتلألأ تحت ضوء الشمس كالمياه - تشققات مضيئة في الستائر المعتمة المنسدلة. من عساه يستطيع النوم؟ تناهت أصوات أمي وجدتي وخالاتي وهن يتحدثن حديثهن المعتاد المتكرر، في الشرفة أو في المطبخ أو في حجرة الطعام (حيث كانت أمي تنظف بفرشاة مقبضها من النحاس المفارش البيضاء، والثريا غير المضاءة ذات الفروع المصنوعة من الزجاج السميك البني الفاتح التي تعلو الطاولة المستديرة.) إن كل الوجبات والطهي والزيارات والأحاديث حتى عزف إحداهن على البيانو (كانت عمتي الصغرى - إديث - غير المتزوجة، تغني وتعزف بيد واحدة، «نيتا، جوانيتا، يقترب قمر الجنوب في هدوء».) في هذا المنزل، كل هذا مستمر دون توقف. إلا أن أسقف الحجرات كانت عالية للغاية، وأدناها جزء كبير من المساحة المهدرة المعتمة، وعندما أرقد في مهدي شاعرة بالحر الشديد بدرجة تجعل النوم يجافي عيني، أنظر إلى أعلى وأرى ذلك الفراغ من حولي، الزوايا الملطخة، وأشعر - دون أن أدرك ما هو هذا الشعور - بما لا بد وأن شعر به جميع من في المنزل؛ تحت الحرارة الشديدة لاحت حقيقة الموت، ذلك المكعب الصغير من الثلج السحري. كانت ماري ماكويد تنتظر في ثوبها الأبيض المتيبس، ضخمة الحجم وعابسة، كأنها جبل جليدي عنود، تنتظر وتتنفس. حملتها مسئولية ذلك الشعور.
لذا تظاهرت بعدم تذكرها، لم تكن ترتدي زيها الأبيض، وهو ما لم يجعلها حقيقة أقل خطورة، لكن ربما يعني - على أقل تقدير - أن وقت سيطرتها لم يحن بعد. في ضوء النهار بالخارج، وهي لا ترتدي زيها الأبيض، اتضح أن جسدها كله مغطى بالنمش، بجميع الأجزاء المكشوفة التي يمكنك أن تراها من جسدها، كما لو أن شوفانا منثور عليها، وكان شعرها مجعدا لامعا بني اللون بصورة طبيعية. صوتها مرتفع وأجش، والشكوى على لسانها يوميا. صاحت علي في الفناء: «هل سأضطر إلى تعليق الملابس المغسولة كلها وحدي؟» فتتبعتها إلى مكان أحبال الغسيل حيث وضعت سلة الملابس المبتلة على الأرض وهي تتأوه. «أعطيني هذه المشابك. واحدا في كل مرة، أعطيني إياها من ناحية جانبها الأيمن. لا ينبغي لي الخروج وسط هذه الرياح على الإطلاق، فأنا أعاني مرضا بالشعب الهوائية.» أخذت أناولها المشابك ورأسي معلق كحيوان مقيد إلى جانبها. خارج المنزل، في هواء شهر مارس البارد، فقدت شيئا من ضخامتها ورائحتها. استطعت في المنزل دائما اشتمام رائحتها، حتى في الحجرات التي نادرا ما كانت تدخلها. كيف كانت رائحتها؟ كانت تشبه رائحة المعدن ورائحة نوع من البهار الأسود (القرنفل؛ فقد كانت تعاني بالفعل من آلام الأسنان)، ومثل المستحضر الذي يدلك به صدري عندما أصاب بالبرد. ذكرت الأمر ذات مرة لأمي، التي أخبرتني: «كفاك سخفا، أنا لا أشم أي شيء.» لذا لم أخبرها عن المذاق، فقد كان لها مذاق أيضا. كان مذاق ماري ماكويد في كافة الأطعمة التي تعدها، وربما كافة الأطعمة التي تؤكل في حضورها: العصيدة في فطوري، والبطاطا المقلية في الظهيرة، وشريحة الخبز والزبد والسكر البني التي كانت تعطيني إياها في الفناء؛ مذاق غريب ورملي وكئيب. كيف لم يدرك أبي وأمي ذلك؟ لكن لأسباب خاصة بهما، ربما يتظاهران بذلك؛ فهذا أمر لم أعرفه منذ عام مضى.
بعد أن علقت الملابس كان عليها أن تنقع قدمها. أخرجت ساقيها مباشرة - مستديرتين كأنابيب الصرف - من الحوض الذي ينبعث منه البخار، ووضعت يدا على كل ركبة، ثم انحنت في البخار وأطلقت صيحات الألم والرضى.
قلت في جرأة كبيرة: «هل أنت ممرضة؟» رغم أن أمي أخبرتني أنها كذلك. «نعم، وأتمنى لو لم أكن كذلك.» «هل أنت خالتي أيضا؟» «لو كنت خالتك، لكنت ناديتني بالخالة ماري، أليس كذلك؟ حسنا أنت لا تنادينني كذلك، أليس صحيحا؟ أنا قريبة لك، أنا قريبة أبيك؛ لذا أتوا بي بدلا من الإتيان بممرضة عادية، فأنا ممرضة عملية، ودائما ما يمرض أحد أفراد هذه العائلة وأضطر إلى الذهاب إليه؛ لا أنعم براحة أبدا.»
ارتبت في هذا الأمر. ارتبت في أنه طلب منها المجيء. كانت تأتي وتطهو ما يحلو لها وتعيد ترتيب الأشياء بما يناسبها، وتشكو من لعب الداما، وتطلق العنان لسيطرتها على المنزل. لو لم تأت قط، لما اضطرت أمي إلى ملازمة الفراش قط.
وضع سرير أمي في حجرة تناول الطعام، كي لا تضطر ماري إلى صعود السلم. صفف شعر أمي في ضفيرتين طويلتين سوداوين، وكانت وجنتاها شاحبتين، ورقبتها دافئة وتنبعث منها رائحة الزبيب كما الحال دوما، لكن باقي جسدها أسفل الأغطية تحول إلى شيء متضخم وهش وغامض، من الصعب أن يتحرك. كانت تتحدث عن نفسها بحزن بضمير الغائب فتقول: «احترسي، لا تؤذي الأم، لا تجلسي فوق ساق الأم.» وفي كل مرة تقول فيها «الأم» تنتابني قشعريرة، ويغمرني شيء من البؤس والخزي، كما أشعر عند سماع اسم يسوع. إن هذه «الأم» التي جعلتها أمي الحقيقية المطمئنة، الحادة المزاج، ذات الرقبة الدافئة بيننا كانت طيفا مجروحا بصورة أبدية، حزينا مثل يسوع حيال كافة الشرور التي لم أعرف بعد أنني سأرتكبها.
صفحة غير معروفة
غزلت أمي نسيجا على شكل مربعات لصنع غطاء صوفي، بجميع درجات اللون البنفسجي. كانت القطع المغزولة تسقط بين أغطية السرير دون أن تهتم بذلك. وما إن تنتهي منها حتى تنسى أمرها. لقد نسيت جميع قصصها التي كانت تدور حول أمراء البرج، والملكة التي قطع رأسها فيما كان كلب صغير يختبئ تحت ثوبها، وملكة أخرى مصت السم من جرح زوجها، وأيضا قصص أخرى عن طفولتها، وهو وقت لا أراه أسطوريا شأنه شأن غيره من الأوقات. بعد أن تولت ماري رعايتها، كانت تئن على نحو طفولي: «ماري، أتوق شوقا لأن تدلكي لي ظهري.» «ماري، هل من الممكن أن تصنعي كوبا من الشاي لي؟ أشعر أنني إذا احتسيت مزيدا من الشاي فسأثب من مكاني إلى السقف، كبالون ضخم، لكن تعلمين أن هذا كل ما أريد.» قالت ماري: «أنت لن تثبي إلى أي مكان. نحتاج إلى رافعة لتحريكك. هلمي الآن، انهضي، ستسوء حالتك قبل أن تتعافي!» ثم أبعدتني عن السرير وبدأت في جذب الملاءات بحركات عنيفة. «أنت ترهقين أمك. ماذا تريدين إزعاج أمك به في هذا اليوم الجميل؟» قالت أمي في دفاع واهن وغير صادق: «أظن أنها تشعر بالوحدة.» قالت ماري بأسلوبها المهيب الغامض المتوعد: «ستشعر بالوحدة في الفناء تماما كما تشعر هنا. ارتدي ملابسك واذهبي إلى الخارج!»
تغير أبي أيضا منذ أن جاءت ماري. عندما كان يأتي إلى الحجرة ليتناول وجباته كانت تنتظره دائما، فمزحة مع أبي تجعلها تتورم كضفدع كبير، فتبدو بمظهر شرس ويحمر وجهها. كانت تضع حبات الفاصوليا البيضاء غير المطهوة في حسائه، قاسية كالحصى، وتترقب لترى هل ستجعله آداب الطعام يأكلها أم لا. كانت تلصق شيئا بقاع كوبه الزجاجي كي يبدو كالذبابة، وتعطيه شوكة بسن ناقص وتتظاهر أنه من قبيل الصدفة. فيقذفها عليها، دون أن تصيب الهدف، مما أفزعني على نحو هائل. كان أمي وأبي يتحدثان بهدوء وبجدية عندما يتناولان العشاء، لكن في عائلة أبي حتى الراشدون يمارسون الحيل بالديدان والخنافس المطاطية، ودائما ما تدعى العمات السمينات للجلوس على مقاعد متداعية، والأعمام يخرجون الريح على الملأ ويقولون: «ووه! إلى أين؟» فخورين بأنفسهم كما لو أنهم عزفوا بالصفير لحنا مركبا. لا أحد قد يسأل عن عمرك دون إغاظتك بلغو فارغ؛ لذا كان أبي يعود إلى السلوكيات العائلية مع ماري ماكويد، مثلما عاد إلى تناول أكوام من البطاطا المقلية ولحم الخنزير المملح وفطائر الطحين السميكة، واحتساء الشاي السادة والمركز كالدواء من إبريق الشاي المعدني، وهو يقول في امتنان: «ماري، تعلمين ما يجب على الرجل تناوله!» مضيفا: «ألا تظنين أنه آن الأوان ليكون لك رجل تطعمينه؟» وهو ما جلب عليه، ليس شوكة مقذوفة، بل منشفة تنظيف الأطباق.
دوما ما تتركز إغاظته لماري على الأزواج. كان يقول: «فكرت في زوج لك هذا الصباح! أنا لا أخدعك الآن يا ماري، عليك أن تفكري في الأمر.» يبدأ ضحكها أولا في صورة نفخات غاضبة بسيطة وزمجرات من بين شفتيها المغلقتين، فيما يزداد احمرار وجهها أكثر مما يمكن توقعه، وينتفض جسدها، وتهمهم في توعد وهي جالسة على كرسيها. ليس ثمة شك أنها استمتعت بكل ذلك، كل هذه الزيجات المتخيلة المستحيلة، رغم أن أمي كانت ستقول بالطبع إنه أمر قاس، قاس وغير لائق مضايقة امرأة عانس بالرجال. في عائلة أبي بالطبع كان هذا محور المضايقات لها على الدوام، ماذا كان هنالك بخلاف ذلك؟ وكلما ازدادت ماري فظاظة وخشونة وصعوبة، ازدادت المضايقات الموجهة إليها أكثر. كان من قبيل السبة في هذه العائلة أن يوصف المرء بأنه «مرهف الحس»، كما وصفت أمي. وجميع العمات والأقارب والأعمام ترعرعوا على أن يكونوا منيعين بصورة هائلة أمام أي نوع من القسوة الشخصية، وطائشين وحتى فخورين - على ما يبدو - بأي نوع من الفشل أو العاهات قد يكون من شأنه أن يتسبب في إضحاك الجميع.
في وقت العشاء، كان الجو معتما في المنزل، رغم أوقات النهار الطويلة. لم يكن لدينا حينها كهرباء بالمنزل بعد. وصلتنا الكهرباء سريعا بعدها، ربما في الصيف التالي، لكن حينها كان لدينا مصباح على الطاولة. وعلى ضوئه شكل أبي وماري ماكويد ظلالا ضخمة، تأرجح رأساهما على نحو أخرق أثناء حديثهما وضحكهما. أخذت أراقب الظلال بدلا من الأشخاص. قالا: «بماذا تحلمين ؟» لكنني لم أكن أحلم، كنت أحاول استيعاب الخطر وقراءة إشارات الهجوم. •••
قال أبي: «هل تودين المجيء معي ورؤية المصائد؟» كان لديه مجموعة من مصائد فئران المسك على امتداد النهر. عندما كان أصغر سنا اعتاد قضاء أيام وليال وأسابيع بين الأجمة، مسافرا على امتداد الجداول شمال وجنوب مقاطعة واواناش، لم يصطد فقط فئران المسك حينئذ بل الثعالب الحمراء والمنك البري والسمور، وجميع الحيوانات التي يبلغ فراؤها أوجه فصل الخريف. أما فأر المسك فهو الحيوان الوحيد الذي يمكن صيده في الربيع. وبعدما تزوج أبي وامتهن مهنة الزراعة، احتفظ بمجموعة مصائد واحدة؛ وهذا لبضع سنوات فقط، ربما كان هذا آخر عام يمتلكها.
عبرنا الحقل الذي حرث الخريف الماضي. كان هناك قليل من الثلج يغطي الأخاديد، لكنه لم يكن ثلجا حقيقيا، كان قشرة رفيعة تشبه الزجاج المثلج أستطيع تحطيمها بعقبي. أخذ الحقل ينحدر ببطء نحو سطح النهر. كان السياج متهدما في بعض الأماكن من وطأة الثلوج، استطعنا أن نخطو من فوقه.
سار أبي أمامي منتعلا حذاءه طويل الرقبة. كان حذاء أبي بالنسبة لي فريدا ومألوفا كسمة مميزة له مثل وجهه. وعندما يخلع حذاءه ويضعه في زاوية المطبخ، تنبعث منه رائحة معقدة من السماد، وزيت الماكينات، والكتل الطينية السوداء، والمادة كريهة الرائحة المتناثرة الملتصقة بالنعل. كان حذاؤه جزءا منه، يقف منبوذا بصفة مؤقتة في انتظاره. كان مظهره عنيدا، بل وقاسيا، فرأيته جزءا من مظهر أبي، الجزء المتمم لوجهه، بجاهزيته لإلقاء النكات وكياسته. كما لم تفاجئني تلك القسوة أيضا؛ فقد كان أبي يأتينا دائما، أنا وأمي، من مواضع لا نستطيع أن نكون آراء إزاءها.
ذات مرة، كان هناك فأر مسك في المصيدة. في بادئ الأمر رأيته يتموج عند ضفة المياه، ككائن استوائي، كالسرخس الأسود. جذبه أبي فتوقف شعره عن التموج، والتصق ببعضه، اتضح أن ما بدا كالسرخس هو ذيل الفأر الزلق الذي يتقطر منه الماء. كانت أسنانه ظاهرة، وعيناه مبتلتين من أعلى، وكانتا متبلدتين وفاقدتين للحياة، وتلمعان كحصوات مغسولة. هزه أبي ولفه لينزل منه رذاذ قليل من مياه النهر الجليدية. قال: «إنه فأر عجوز جيد، إنه ملك عجوز كبير، انظري إلى ذيله!» ثم لعله ظن أنني أشعر بالقلق، أو لعله أراد أن يريني سحر الآلات الميكانيكية المثالية البسيطة، رفع المصيدة من المياه وشرح لي آلية عملها، جاذبا رأس الفأر إلى أسفل مرة واحدة وأغرقه بلا رحمة. لم أفهم أو أهتم. لم أرغب إلا في لمس الجسد المتيبس المبتل، حقيقة الموت، لكنني لم أجرؤ.
وضع أبي الطعم في المصيدة مجددا مستخدما قطعا من التفاح الأصفر الذي تجعد في فصل الشتاء. ووضع جثمان الفأر في كيس أسود وعلقه على كتفه، كأنه بائع متجول في إحدى اللوحات. عندما قطع التفاحة رأيته ممسكا بسكين السلخ، بنصله الرفيع اللامع.
ثم سرنا على امتداد النهر، نهر واواناش، الذي ارتفع منسوبه وزخر بالماء عن آخره، واكتسى باللون الفضي في منتصفه حيث صفعته أشعة الشمس، وحيث تتسارع حركة المياه في أقصى درجاتها. حسبت أنه التيار المائي، تصورت أن التيار شيء منفصل عن المياه، مثلما أن الرياح منفصلة عن الهواء ولها شكلها الخاص الذي تهب به. كانت ضفتا النهر منحدرتين وزلقتين وتصطف بطولهما شجيرات الصفصاف، التي ما زالت جرداء ومنحنية وتبدو واهنة كالحشائش. لم يكن هدير مياه النهر عاليا لكنه كان عميقا، وبدا أنه يأتي من بعيد من منتصفه، من مكان خفي حيث تخرج المياه من تحت الأرض محدثة زئيرا.
صفحة غير معروفة
اتخذ النهر مسارا منحنيا، وفقدت أنا حس الاتجاه. وجدنا في المصائد مزيدا من الفئران، فأخرجها أبي وهزها وخبأها في الكيس، واستبدل الطعم. ازداد شعوري بالبرودة في وجهي ويدي وقدمي، لكنني لم أخبر أبي بذلك، لم أستطع. وهو لم يخبرني قط بأن أتوخى الحذر، وأن أبتعد عن حافة المياه، فقد افترض جدلا أنني أتمتع بحس كاف يجعلني لا أسقط في المياه. لم أسأله إلى أي مدى سنبتعد، أو ما إذا كان لمجموعة المصائد نهاية ما. بعد برهة كانت هناك شجيرات من خلفنا، واقتربت الظهيرة من نهايتها. لم يطرأ على ذهني، إلا بعد فترة طويلة من ذلك ، أنها الشجيرات نفسها التي يمكن رؤيتها من فناء منزلنا، برزت من بينها تلة على شكل مروحة بأشجار جرداء وقت الشتاء، بدت كأغصان صغيرة هزيلة تتجه نحو السماء.
في ذلك المكان الآن نما على ضفة النهر، بدلا من الصفصاف، شجيرات كثيفة بارتفاع يفوق رأسي. مكثت أنا على الطريق، في منتصف المسافة تقريبا أعلى ضفة النهر، فيما نزل أبي إلى النهر. عندما انحنى فوق المصيدة، لم يعد باستطاعتي رؤيته. نظرت حولي ببطء ورأيت شيئا آخر. بعيدا على امتداد ضفة النهر، ظهر رجل يشق طريقه باتجاهنا. كان يتحرك بخفة ولم يصدر أي صوت أثناء مروره من بين الشجيرات، كما لو أنه يتتبع مسارا لم أتمكن من رؤيته. في بادئ الأمر لم أر سوى رأسه والجزء العلوي من جسده. كان أسمر البشرة، بجبهة صلعاء طويلة، وشعر طويل خلف أذنيه، وتجاعيد عمودية غائرة بوجنتيه، وحيثما قلت كثافة الشجيرات استطعت تبين باقي هيئته: ساقيه الطويلتين الرشيقتين، نحافته، ملابسه المموهة باهتة اللون، وما كان يحمله في يده، كان ما يحمله يلمع تحت أشعة الشمس - فأس صغيرة أو بلطة.
لم أتحرك قيد أنملة لأحذر أبي أو أنادي عليه. اجتاز الرجل الطريق الذي كنت أقف عليه ومضى قدما، وهبط باتجاه النهر. يقول الناس إنهم أصيبوا بالشلل من شدة الخوف، لكنني تسمرت في مكاني، وكأن البرق صعقني، وما انتابني لم يكن شعورا بالخوف بقدر ما كان إدراكا. لم أتفاجأ؛ فهذا المنظر الذي لا يفاجئك، الشيء الذي طالما عرفت أنه موجود ويأتي بصورة طبيعية للغاية، يتحرك برفق ورضى وعلى مهل، وكأنه جاء في المقام الأول لأمنية تمنيتها، أو أمل في شيء ختامي ومرعب. طيلة حياتي عرفت أن هناك رجلا مثل هذا الرجل يقبع خلف الأبواب وفي الزوايا في النهاية المظلمة بالردهة؛ لذا أراه الآن وأترقب فحسب، كطفل في صورة سلبية قديمة، مصعوق تحت سماء الظهيرة القاتمة، بشعر متوهج وعينين مرهقتين كعيني آني اليتيمة. تسلل الرجل بين الشجيرات باتجاه أبي، ولم أتوقع قط - أو أملت حتى - في حدوث أي شيء سوى الأسوأ .
لم يعرف أبي بوجوده. عندما اعتدل واقفا، كان الرجل على بعد ثلاثة أقدام منه وحجبه عني. سمعت صوت أبي بعد لحظة، بهدوء وود: «مرحبا جو. حسنا جو. لم أرك منذ مدة طويلة.»
لم ينبس الرجل ببنت شفة، لكنه تحرك ببطء حول أبي ليدقق النظر فيه. قال أبي: «جو! أنت تعرف من أكون، بن جوردن، كنت بالخارج أتفقد المصائد. هناك الكثير من الفئران السمينة في النهر هذا العام يا جو.»
رمق الرجل المصيدة التي وضع أبي بها الطعم بنظرة سريعة مرتابة. «عليك أن تنصب مصائد لنفسك أيضا.»
لم تأت أية إجابة. أمسك الرجل ببلطته وحركها بخفة في الهواء. «لكن الوقت تأخر هذا العام، فقد بدأت مياه النهر في التراجع بالفعل.»
قال الرجل في دهشة كبيرة، وبجهد جهيد، كشخص يتجاوز تلعثمه: «بن جوردن!» «ظننت أنك ستعرفني يا جو.» «لم أعرف قط أنه أنت يا بن، ظننت أنك أحد السيلاسيس.» «أخبرتك مرارا أنه أنا.» «إنهم يأتون إلى هنا طوال الوقت يقطعون أشجاري ويخلعون سياجي. تعلم أنهم أشعلوا بي النيران يا بن؟ كانوا هم من فعلوا ذلك.»
قال أبي: «سمعت بذلك.» «لم أعلم أنه أنت يا بن، لم أعلم أنه أنت. جئت بهذه الفأس، أحملها معي لأرعبهم قليلا. ما كنت سأحملها معي لو علمت أنه أنت. لتأت معي وتر أين أعيش الآن.»
ناداني أبي. «لقد أحضرت طفلتي الصغيرة معي اليوم.» «حسنا، لتأت أنت وهي وتستدفئا قليلا.»
صفحة غير معروفة