ضرر مذاهب الماديين
متى ظهر الماديون في أمة، نفذت وساوسهم في صدور الأشرار من تلك الأمة، واستهوت عقول الخبثاء الذين لا يهمهم إلا تحصيل شهواتهم ونيل لذاتهم من أي وجه كان؛ لموافقة هذه الآراء الفاسدة لأهوائهم الخبيثة، فيميلون معهم إلى ترويج المشرب المادي، وإذاعته بين العامة غير ناظرين إلى مايكون من أثره.
ومن الناس من لا يساهم في آرائهم، ولا يضرب في طرقهم، إلا أنه لا يسلم من مضارها ومفاسدها، فإن الوهن يلم بأركان عقائده، والفساد يسري لأخلاقه من حيث لا يشعر؛ حيث إن أغلب الناس مقلدون في عقائدهم، منقادون للعادة في أخلاقهم، وأقل التشكيك، وأدنى الشبهة، يكفي علة لزعزعة قواعد التقليد وضعضعة قوائم العادة.
وإن هؤلاء الماديين - بما يقذفون بين الناس من أباطيلهم - يبذرون في النفوس بذور المفاسد، فلا تلبث أن تنمو في تراب الغفلة، فتكون ضريعا وزقوما (¬1) .
ولهذا قد يعم الفساد أفراد الأمة التي تظهر فيها هذه الطائفة، وكل لا يدري من أي باب دمر الفساد على قلبه، فتشيع بينهم الخيانة، والغدر، والكذب والنفاق، ويهتكون حجاب الحياء، وتصدر عنهم شنائع تنكرها الفطرة البشرية، يأتون ما يأتون من تلك القبائح مجاهرة بلا تحرج، وكل منهم وإن كان يدعي بلسانه أنه مؤمن بيوم الجزاء، وفي نفسه أن ذلك اعتقاده واعتقاد آبائه، إلا أن عمله عمل من يعتقد ألا حياة بعد هذه الحياة؛ لسريان عقائد الماديين إلى قلبه، وهو في غفلة عن نفسه، فلهذا تغلب عليهم الأثرة، وهي إفراط الشخص في حبه لنفسه، إلى حد أنه لو عرضت في طريق منفعته مضرة كل العالم، لطلب تلك المنفعة وإن حاق الضرر بمن سواه، ومن لوازم هذه الصفة أن صاحبها يؤثر منفعته الخاصة على المنافع العامة، ويبيع جنسه وأمته بأبخس الأثمان، بل لا يزال به الحرص على هذه الحياة الدنيئة يبعث فيه الخوف، ويمكن منه الجبن، حتى يسقط به في هاوية الذل، ويكتفي من الحياة بمدها وإن كانت مكتنفة بالذل، محاطة بالمسكنة، مبطنة بالعبودية، فإذا وصلت الحال في أمة إلى أن تكون آحادها على هذه الصفات، تقطعت فيها روابط الالتئام، وانعدمت وحدتها الجنسية، وفقدت قوتها الحافظة، وهوت عروش مجدها، وهجرت الوجود كما هجرها.
صفحة ٦