نعم، إن أفكار المصابين «بالماليخوليا» لا تنتج أحسن من هذه النتيجة. ولو فرضنا محالا، وعاش بنو الإنسان على هذه الطريقة العوجاء، فلا ريب أن تمحى جميع المحاسن، وضروب الزينة، وفنون الجمال العملي، ولا يكون لبهاء الفكر الإنساني أثر، ويفقد الإنسان كل كمال ظاهر أو باطن، صوري أو معنوي، ويعطل من حلي الصنائع، وتغرب عنه أنوار العلم والمعرفة، ويصبح في ظلام جهل، وبلاء أزل (¬5) ، وينقلب كرسي مجده، وينثل (¬6) عرش شرفه، ويصحر (¬7) في بادية الوحشية كسائر أنواع الحيوان، ليقضي فيها أجلا قصيرا مفعما بضروب الشقاء، محاطا بأنواع من المخاوف، محشوا بأخلاط من الأوجال والأهوال، فإن المبدأ الحقيقي لمزايا الإنسان إنما هو حب الاختصاص، والرغبة في الامتياز، فهما الحاملان على المنافسة، السائقان إلى المباراة والمسابقة، فلو سلبتهما أفراد الإنسان وقفت النفوس عن الحركة إلى معالي الأمور، وأغمضت العقول عن كشف أسرار الكائنات، واكتناه حقائق الموجودات، وكان الإنسان في معيشته على مثال البهائم البرية إن أمكن له ذلك، وهيهات هيهات.
مسالكهم في طلب غاياتهم
سلكوا مخالج من الطرق لبث أوهامهم الفاسدة، فكانوا إذا سكنوا إلى جانب أمن، جهروا بمقاصدهم بصريح المقال، وإذا أزعجتهم سطوة العدل أخذوا طريق الرمز والإشارة، وكنوا عما يقصدون، ولوحوا إلى ما يطلبون، ومشوا بين الناس مشية التدليس.
وتارة كانوا يحملون على أركان القصر المسدس ليصدعوها بجملتها في آن واحد، وأخرى كانوا يعمدون إلى بعضها إذا رأوا قوة المانع دون سائرها ، فيجعلون ما قصدوا منها مرمى أنظارهم، ويكدحون لهدمه بما استطاعوا من حول وقوة، وقد تلجئهم الضرورة إلى البعد عن الأركان الستة بأسرها، فلا يأتون بما يمسها مباشرة، ولكنهم يدأبون لإبطال لوازمها، أو ملزوماتها؛ ليعود ذلك بإبطالها.
وقد يكتفون بإنكار الصانع - جل شأنه - وجحد عقائد الثواب والعقاب، ويجهدون لإفساد عقائد المؤمنين، علما منهم بأن فساد هاتين العقيدتين - الاعتقاد بالله، والاعتقاد بالثواب والعقاب - لا محالة يفضي إلى مقاصدهم ويؤدي إلى نتيجة أفكارهم.
وكثيرا ما سكتوا عن ذكر المبادئ، وسقطوا على ذات المقصد، وهو «الإباحة والاشتراك» ، وأخذوا في تحسينه وتزيينه، واستمالة النفوس إليه، وقد يزيدون على الدعوة الإقناعية بأي وجوهها عملا جاهليا تأنف منه الطباع، وتأباه شرائع الإنسانية وذلك أن يأخذوا معارضيهم بالغدر والاغتيال، فكثيرا ما فتكوا بآلاف من الأرواح البريئة، وأراقوا سيولا من الدماء الشريفة، بطرق من الحيل، وضروب من الختل (¬1) .
صفحة ٥