فقد كشف الحق أن الامانة دعامة بقاء الانسان، ومستقر أساس الحكومات، وباسط ظلال الامن والراحة، ورافع أبنية العز والسلطان وروح العدالة وجسدها، ولا يكون شيء من ذلك بدونها.
وإليك الاختبار في فرض أمة عطلت نفوسهم من حلية هذه الخلة الجليلة، فلا تجد فيها إلا آفات جائحة، ورزايا قاتلة، وبلايا مهلكة وفقرا معوزا، وذلا معجزا، ثم لا تلبث بعد هذا كله، أن تبتلعها بلاليع العدم، وتلتهمها أمهات اللهم (¬1) .
الخصلة الثالثة: الصدق:
الإنسان كثير الحاجات، غير معدود الضرورات، وكل ما يسد حاجاته ويدفع ضروراته، وراء ستار الخفاء محجوب، وتحت حجاب الغيب مكنون.
قذف بالانسان من غيب يجهله، إلى ظهور لا يعرفه، فقام في بدء نشأته في زاوية عمياء لا يذكر اسما، ولا يعهد رسما.
هذا الإنسان على ضعفه، كأنما أحفظ الأكوان قبل وجوده، فأرصدت له القتال، وهيأت له النضال، فله في كل مثناة (¬2) منها كامنة بلية، وفي كل حنو (¬3) رابضة رزية، وكل فوق سهمه في قسي الأدوار الزمنية ليصيب مقاتل الإنسان.
منح الإنسان خمسة مشاعر: السمع، والبصر، والذوق، واللمس، والشم، ولكن لا غناء بها في هدايته لأقرب حاجاته، وإرشاده لدفع ما خف من ضروراته، فأحجى ألا كفاء لها في استطلاع مكامن البلايا واكتشاق مخابئ الرزايا، ليأخذ حذره، ويحرز أمره، فهو في حاجة - كل الحاجة - للاستعانة بمشاعر أمثاله، من بني جنسه، والاستهداء بمعارفهم؛ ليتفادى بهدايتهم من بعض لاسعات المصائب، ويصيب من الرزق ما فيه قوام معيشته، وسداد عوزه، والاستهداء إنما يكون بالاستخبار، ولا تتم فائدة الخبر في الهداية، إلا أن يكون من مصدر صدق، يحدث عن موجود، ويحكي عن مشهود، وإلا فما الهداية في خبر لا واقع له؟!
صفحة ١١