إن من أشربت هذه العقيدة قلبه، ينبعث بحكمها وينساق بحاديها لإضاءة عقله بالعلوم الحقة، والمعارف الصافية؛ خشية أن يهبط به الجهل إلى نقص يحول دون مطلبه، ثم ينصرف همه لإبراز ما أودع فيه من القوة السامية، والمدارك العقلية، والخواص الجليلة، واستعمالها فيما خلقت له، فيتجلى كماله من عالم السكون إلى عالم الظهور، ويرتقي من درجة القوة إلى مكانة الفعل، فهو ينفق ساعاته في تهذيب نفسه وتطهيرها من دنس الرذائل، ولا يناله التقصير في تقويم ملكاته النفسية، وينزع لكسب المال من الوجوه المشروعة، متنكبا طريق الخيانة، ووسائل الكذب والحيلة، معرضا عن أبواب الرشوة، مترفعا عن الملق الكلبي، والخداع الثعلبي، ثم ينفق ما كسب في الوجه الذي يليق، وعلى الوجه الذي ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، لا يأتي فيه باطلا، ولا يغفل حقا عاما أو خاصا.
فهذه العقيدة أحكم مرشد وأهدى قائد للإنسان إلى المدنية الثابتة، المؤسسة على المعارف الحقة، والأخلاق الفاضلة، وهذا الاعتقاد أشد ركن لقوام الهيئة الاجتماعية، التي لا عماد لها إلا معرفة كل واحد حقوقه وحقوق غيره عليه، والقيام على صراط العدل المستقيم.
هذا الاعتقاد أنجح الذرائع لتوثيق الروابط بين الأمم؛ إذ لا عقد لها إلا مراعاة الصدق، والخضوع لسلطان العدل؛ في الوقوف عند حدود المعاملات.
هذا الاعتقاد نفحة من روح الرحمة الأزلية، تهب على القلوب ببرد السكون والمسالمة، فإن المسالمة ثمرة العدل والمحبة، والعدل والمحبة زهر الأخلاق والسجايا الحسنة، وهي غراس تلك العقيدة التي تحيد بصاحبها عن مضارب الشرور، وتنجيه من متائه الشقاء، وتعاسة الجد، وترفعه إلى غرف المدينة الفاضلة، وتجلسه على كرسي السعادة.
وقد يسهل عليك أن تتخيل جيلا من الناس حرم هذه العقيدة، فكم يبدو لك فيه من شقاق، وكذب ونفاق، وحيل وخداع، ورشوة واختلاس.
وكم يغشى نظرك من مشاهد الحرص والشره، والغدر والاغتيال وهضم الحقوق والجدال والجلاد. وكم تحس من جفاء للعلم، وعشوة عن نور المعرفة.
صفحة ٧