وأما ما يفعله النبيذ في النفس من الطرب والفرح والسرور والنشاط وتنسية الأحزان، وتسلية الهموم، فليس إلى ذكره حاجةٌ لأن أحدًا لا يجهله. ومن فضائله العجيبة أنه موافق للناس جميعًا في الأسنان والأزمان والبلدان كلها. وينبغي أن يعطى منه الأطفال والصبيان بقدر احتمالهم وفوق ذلك، للأحداث والشباب والكهول، فأما الشيوخ فليس يوجد شيءٌ أعونُ على سلامتهم وصحة أبدانهم منه، إذ كانت حاجتهم إلى ما يسخنهم شديدة. وأما الصبيان فيحتاجون إلى ما يفيدهم حرارته إذ كانت الحرارة لم تبلغ فيهم نهايتها. فأما من كان في نهاية الشباب فإن النبيذ يُلائمه بمشابهته إياه وزيادته بجوهره في جوهره. ومثل هذا القول، في الأزمان، لأنا لم نر طبيبًا يطلق شربه في الصيف ويمنع منه في الشتاء، ويأمر باستعماله في الخريف ويأباه في الربيع إلا أن يكون ذلك في الزيادة والنقصان والكثرة والقلة على سبيل الاستظهار والتوقي. والمواضع الباردة يحتاج أهلها إليه ليسخنهم. [و] المواضع الحارة يحتاج [أهلها] إليه ليرطبهم إذ كانت شدة حرارة البدن تيبسهم، والنبيذ يقوم مقام الطعام لمن كانت له الشهوة الكلبية فإنه يأكل دائمًا ولا يشبع، فإن سُقي النبيذ أعان على شبعه وذهب بجوعه. وأما العطش الشديد المفرط الذي لا يقطعه الماء، فإن النبيذ الممزوج بالماء يقطعه ويذهب بغلظ الماء وكذلك إن كان الماء رديئًا لم يوجد شيءٌ يصلح رداءَته وفساده أقوى فعلًا من النبيذ. وكذلك من يسكن السِّباخ والمواضع اللثقة العفنة الرديئة المياه، ليس لهم أنفع من أن يمزجوا مياههم بالنبيذ ويشربوه، وكذلك الذين مياههم مالحة أو فيها آفات تفسدها. فأما المياه الباردة ومياه الثلوج فإنها مضرة، شديدة إن هي شُربت مفردة من غير أن تُمزج بالنبيذ لأنها تولد انفجار عروق الصدر ونفث الدم ووجع البطن وتشنجًا وضيق نَفَس [و] فالجًا، فإذا خالطتها حرارة النبيذ مع ما تفيدها من الذلة، مُنع أذاها وضُرُّها. والإكثار في النبيذ يجاوز الرجل فيه مقدار طاقته يلزمه الخطأ في رأيه والضعف في بدنه فتقبح أفعاله ولا يحمده جميع من يحضره. والشرب الكثير للنبيذ والتمادي عليه يورث في الجسم أمراضًا كثيرة منها الداء المعروف ب (الماخوليا)، والوساوس السوداوية، ويخفق منه القلب ويذهب بالمروءة ويتلف المال. فإذا شرب بقصدٍ بين القلة والكثرة كان محمودًا. وينبغي لشارب النبيذ أن يفتقد نفسه وبدنه فمتى أنكر رأيه وفكره وحركات بدنِهِ وقوته أمسك عن شربه ولم يتماد فيه حتى يبلغ السُّكر، لأن السكر إنما يكون من بخاراتٍ نيةٍ غير نضجة ترتفع إلى الدماغ فتستره كما يستر السَّحاب الشمس فتحول بينه وبين عقله. وكانت الفرس تشرب عند المناظرات والمشاورات والمفاوضات في الرأي والتدبير. أما اليونانيون فإنه يستعملونه عند ضرب العيدان والغناء وإنشاد الأشعار ليعلموا مبلغهم من الفكر والتمييز وقوة البدن، لأن من شربه منهم لا يحمل نفسه على ذهاب عقله ونهك بدنِهِ بل يشربه بمقدار ما يقطع العطش ويولِّد الطرب والسرور وينفي الهموم ويُنسي الأحزان، فإذا جرى النبيذ هذا المجرى انتفع به البدن منفعةً كبيرةً لأنه على هذه الحال ينقي المثانة ويجلو العروق وينضج ما كان نِيًا فَجًا فيهضمه ويحلله إلى خلطٍ جيِّد محمود. وينبغي أن يتوقى شربه في حالٍ يبلغ خطل (الرأي) والمنع من القيام بحق الله في فرائضه. وأن يُريد منزلة فلا تهتدي إليه مع سوء العاقبة في العلل المزمنة والأمراض المردية. ويجب أن يستعمل الاستحمام بالماء الحار ويتوقى طول المكث في الحمام لأنه يُخِل البدن ويضر بالرأس، وكثير من الناس يرى أن طول المكث في الحمام وإخراج الكثير من العرق يجلي العروق فيعين ذلك على الإكثار من الشراب، وذلك أضر الأشياء لمن شرب النبيذ. ويجب ألا يكون شربُهُ بالمبادرة والسرعة، بل بتؤدةٍ وأمانٍ وأناةٍ من غير تعبٍ بتصرف أو مشيٍ وغير ذلك. ويجب لأصحاب النبيذ ألا يأكلوا طعامهم في أكلة واحدةٍ، فإنهم يكثرون من الطعام، وإذا خفف أحدهم في غدائه وجعل تمامه في عشائه كان ذلك عونًا له على الشرب وزائدًا فيه وأما النقل فإنه يبقى في المعدة غير منهضم ويُولد رياحًا وصداعًا فإن نال منه القليل كان مستدعيًا لشرب النبيذ، فاتحًا للشهوة.
1 / 57