وفي سرية تامة تلمسنا طريقنا إلى الظاهر، تسوقنا روح المغامرة، ويعتمل في ضمائرنا إحساس بالذنب، وطالعنا قشتمر بلونه الأخضر الزاهي، وحجمه المحدود الذي لا يزيد عن حجم بهو بسراي الزين باشا - كما قال صادق - ومراياه المثبتة في الجدران، وحديقته الصغيرة الموصولة به بباب صغير مفتوح، تنطلق بأركانها نخلات أربع، ويقوم في الوسط عدد من الموائد في صورة مربع متساوي الأضلاع، أشار صاحبنا إلى مائدة في عمق المكان في أقرب موضع إلى منصة الشغل، فاتجهنا نحوها متجنبين الأنظار من شدة الحياء والارتباك، بدونا نبتا جديدا في عمره ومنظره، ودخل ثلاثة منا في جلابيبهم، وعلى رف وراء المنصة اصطفت النراجيل وقوارير المشروبات فضاعفت من ارتياعنا، جلسنا حول المائدة نتلقى النظرات المستطلعة بوجوه ساخنة حتى جاءنا النادل وبدأت الممارسة الجديدة، هكذا عرفنا قشتمر في أواخر 1923 أو أوائل 1924، ودون أن ندري أنه سينعقد بيننا وبينه زواج لا انفصام له، وأنه سيصغي بصبر وتسامح إلى حوارنا وأساطيرنا عمرا طويلا، بل ما زال يصغي مستوصيا بصبره وتسامحه. وفي ذلك الوقت اشتركنا ولأول مرة في مظاهرة وطنية، لم نعد أطفالا من ناحية والمظاهرة مأمونة العواقب من ناحية أخرى، فوزارة الداخلية هذه المرة بيد زعيم الأمة ورئيس الوزراء، في أثناء طابور الصباح خرج رئيس الطلبة من الصف وصاح بصوته الجهوري: «إضراب»، واندفعت الصفوف نحوه في عجلة ولهوجة فخطبهم مركزا على أزمة بين الزعيم والملك وأن على الشعب أن يتجمع في ميدان عابدين لتأييد الزعيم دون قيد أو شرط، وماج الميدان بالخلق من كل صنف، كيوم الاستقبال، ولكنه يفور هذه المرة بالغضب، ويهتف من أعماقه «سعد أو الثورة»، تخلف طاهر الأرملاوي عن الاشتراك في المظاهرة فتركناه لرأيه، ولدى عودتنا سأل صادق صفوان: ولكن ما أسباب الأزمة؟
ووضح لنا أننا لا ندري عنها شيئا ولكن إسماعيل قدري قال بحزم: نحن على أي حال مع سعد لسبب وبغير سبب وضد الملك بسبب وبغير ما سبب.
واتفقت قلوبنا على ذلك. ومما يذكر أننا لم نعرف أسباب الأزمة أو لم نهتم بمعرفتها إلا بعد انقضاء أعوام طويلة ونحن نسترجع الأحداث بعد أن صارت تاريخا، في ذلك الزمان صهرنا الوفد في أتون وطنيته فبعثنا على يديه خلقا جديدا، ويوما قال إسماعيل قدري: في مصر أربعة أديان، الإسلام والمسيحية واليهودية والوفد.
فقال طاهر عبيد ساخرا: والدين الأخير أعظمها انتشارا!
علمنا الوفد ماذا نحب وماذا نكره، وبأي قوة نحب وبأي قوة نكره، واجتاحتنا القضية الوطنية وملكت قلوبنا، غطت على الأسرة والمستقبل والأمل الشخصي، واندفعنا مع طوفان الحزبية بنفس القوة والعنف ونبضت كل خلية من خلايانا بالحياة والإصرار، وعجبنا للزين باشا والأرملاوي باشا وأحزابهما، أهم من البشر أم من شواذ الخلق والطبيعة؟!
وإلى جانب السياسة هبت علينا رياح الثقافة المنعشة البيضاء، التهمنا المجلات الأسبوعية والشهرية والكتب المؤلفة والمترجمة، وتنورت رءوسنا بمصابيح مشعة مثل المنفلوطي والعقاد وطه حسين والمازني وهيكل وسلامة موسى، ودار الحوار حول الفكر كما يدور حول السياسة، وشملت اليقظة العقل والقلب والإرادة.
صادق صفوان رسم بتقواه لنفسه حدودا لا يتعداها، أحب المنفلوطي والرواد ولكنه أغلق وعيه دون ما يمس العقيدة أو يثير الشك، وإذا جاوز الحوار في قشتمر الحدود والتقاليد لاذ بالصمت واستغفر الله، ولم يضعف شيء من حلمه القديم بالثروة ولا بإعجابه الثابت برأفت باشا قريبه مع استثناء الجانب السياسي. ويقول بطمأنينة: موقفه السياسي لا يمس مودتنا الراسخة، ويعاتب أبي كثيرا في رفق متسائلا: إلى متى يا خالي تنخدع بذلك الرجل المهرج؟ أو يقول لي: وأنت يا صادق تتبع والدك بلا تفكير، هل اشتركت حقا في المظاهرة الوقحة بميدان عابدين؟ أراهن أنك لا تعرف لها سببا، وأرجو ألا تعتاد المظاهرات؛ فهي اليوم آمنة، ولكنها لن تكون كذلك إلى الأبد، كم ضاعت من أرواح فداء للعجوز الأناني!
وتضحك زبيدة هانم من قلبها وتقول لأمي مداعبة: مبارك يا زهرانة، ابنك زعيم من يومه!
ما زال صادق مفتونا بالباشا وقصره وتحفه وزوجه وتواضعه، وإعجابه بأميرة لم ينضب حتى بعد انتقالها إلى بيت زوجها.
ويقول له إسماعيل قدري: لا عيب فيك إلا حلمك الغريب بالثراء.
صفحة غير معروفة