وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر، وأصلهم وأهل الغلب منهم، وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف ، فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويسكينون لغلبهم، فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم، وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف، ولا يحملهم على الكرة، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم، ورفع التنازع والشتات بينهم، لتحصل اللحمة والعصبية وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش؛ لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم، فلا يخشى من أحد خلاف عليهم، ولا فرقة؛ لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها .
فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب، وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة، وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع، فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة، ووطئت جنودهم قاصية البلاد، كما وقع في أيام الفتوحات، واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة، وتلاشت عصبية العرب .
ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتغلب على بطون مضر من مارس أخبار العرب وسيرهم، وتفطن لذلك في أحوالهم ، وقد ذكر ذلك ابن إسحق في كتاب السير وغيره .
صفحة ٦٢