1
قالت لطيفة هانم زوجة العالم الفلكي الدكتور محمود نجم - المشهور في الدوائر العلمية في مصر والخارج - وأم أبنائه الثلاثة:
لم يكد محمود يعبر مرحلة الخطر بعد أيام وليال، لم يغمض لي فيها جفن حتى صممت على البحث عنه وإحضاره بأي وسيلة، كان زوجي قد تلفظ باسمه مرتين أثناء غيبوبته وهذيانه بعد إسعافه وإجراء غسيل المعدة له: تعال يا أستاذ علام، يا مرصد حلوان ثبت منظارك القديم علي، تعال، تعال، تعال!
وضعت يدي على جبهته واطمأننت على انخفاض درجة الحرارة على الرغم من استمرار الحمى والهذيان والغيبوبة، وتذكرت الاسم الذي التقطته أذني قبل ذلك، وإن لم أهتم به أو أسأل عنه، لعله حكى لي عن تعلقه به في المدرسة، وربما حدثني، وهو يطلق ضحكته الظافرة المجلجلة التي كان يعلم كم تضايقني؛ لأنها لا تناسب وقاره ومكانته العلمية، عن المنظار الكبير الذي كان يجذبه لزيارته في بيته وملازمته ساعات يتأمل فيها النجوم في قبة السماء كلما دعاه وسمح له بذلك، لم أكترث بمعرفة شيء آخر عن معلمه وعلاقته به، فقد أحس قلب الزوجة والأم أن هذا المعلم العجوز - إن كان لا يزال حيا - هو الوحيد الذي سيرد الحياة لزوجي وينتشله من محنته ومحنتنا المباغتة، سألت وسألت حتى عرفت من الأستاذ محمد - شقيق زوجي الأصغر الذي نزلنا عنده والمدرس في المعهد التجاري - أنه لا يزال حيا، وإن كان لكبر سنه وثقل سمعه في حكم الميت الحي أو الحي الميت.
وخرجت من باب البيت وأغلقته خلفي دون أن يشعر أحد بي ولا بتصميمي على العثور عليه مهما كان الثمن. •••
مشيت مسرعة حتى وصلت إلى أول الشارع الرئيسي على أطراف المزارع، ووقفت على الصف الذي يوجد فيه مبنى المحكمة والمعهد الديني القريب منها، وأشرت إلى حنطور عابر فتوقف السائق الشاب، وسألني في أدب عن وجهتي.
قلت له إنني أبحث عن عنوان الأستاذ محمد علام مدرس العلوم والرياضة العجوز، قطب حاجبيه وفرك تجاعيد جبهته بأصابعه بحثا عن علامة مميزة، حتى ذكرت له المرصد فخرجت منه صيحة أشبه بصيحة ديك منتصر على جحافل الليل المنهزم:
آه، مرصد حلوان! لماذا لم تقولي هذا من الصبح؟ حالا يا هانم، دقائق ونكون أمام بيته، إنه على المعاش من سنين ولكن لا يشبع! قلت ضاحكة: تقصد لا يسمع؟! قال: وهذا أيضا، لكنه رجل طيب ولا يتأخر عن فعل الخير، قلت في نفسي وأنا أدعو الله أن يستجيب لي: ولهذا قصدته في أمر ضروري.
مرت العربة بشوارع وحواري متربة تراصت فيها البيوت الطينية، كما تراص الذباب والأطفال والنساء في ثيابهن السود على أبوابها، وأكوام السباخ والقش والقمامة على جانبيها، حتى وقف فجأة أمام بيت ذي شرفة واسعة وسور من الطوب الأحمر لم يتم طلاؤه، وكأنه فيلا ناصعة البياض وسط العشش والأكواخ والجدران الرمادية الكالحة، شكرت السائق ونقدته أجرته وطلبت منه أن ينتظر، دعا لي بالستر، وطلب مني أن أبلغ سلام مغاوري للمرصد فوعدته خيرا، وفتحت الباب الحديدي الذي لم يبد مقاومة وأسرعت بارتقاء درجات السلم والطرق على الباب الخشبي العريض.
أطلت من ورائه امرأة سبقها صوتها الرفيع الحاد، لم تكد تفتح الشراعة حتى استفسرت عن طلبي، ولم تكد توارب ضلفة الباب حتى بادرتها في لهفة، وأنا أحاول أن أستجمع أنفاسي اللاهثة: أرجوك، أريد الأستاذ علام، أقصد المرصد، أقصد مرصد حلوان، أرجوك أسرعي، ولم يطل ارتباك «سيدة» التي تجمعت أمامي من الذهول، إذ سرعان ما فتح باب جانبي في القاعة الواسعة المتواضعة الأثاث، وخرج المرصد نفسه بجلبابه الأبيض الطويل والطاقية الحريرية المحبوكة على رأسه، وهو يسند جسده الطويل السمين على عصا، ويطرقع بالقباب في قدميه ويقول بصوت ممدود: من يا سيدة ... •••
صفحة غير معروفة